الجنة المتجمدة الجزء الأول

📜 كلمة المترجم

حِينَ وَقَعْتُ عَلَى رِوَايَةِ “ٱلْجَنَّةِ ٱلْمُتَجَمِّدَةِ” لِلْكَاتِبَةِ ٱلْأَلْمَانِيَّةِ يَانَا فْرَاي، لَمْ أَقْرَأْهَا بِوَصْفِهَا “نَصًّا أُورُوبِّيًّا”، بَلْ وَجَدْتُنِي أَمَامَ تَجْرِبَةٍ إِنْسَانِيَّةٍ عَمِيقَةٍ، تُلَامِسُ أَسْئِلَةً وُجُودِيَّةً نَعْرِفُهَا نَحْنُ ٱلْعَرَبُ كَمَا يَعْرِفُهَا غَيْرُنَا:

مَا مَعْنَى ٱلْإِيمَانِ؟ أَيْنَ تَنْتَهِي ٱلطُّمَأْنِينَةُ وَتَبْدَأُ ٱلْعُبُودِيَّةُ؟ وَمَاذَا لَوِ ٱخْتَنَقَ ٱلْحُبُّ فِي حِضْنِ ٱلْمُقَدَّسِ؟

تَنْتَمِي هٰذِهِ ٱلرِّوَايَةُ إِلَى أَدَبِ ٱلْيَافِعِينَ ٱلْأَلْمَانِيِّ ٱلْحَدِيثِ، ٱلَّذِي شَهِدَ مُنْذُ تِسْعِينَاتِ ٱلْقَرْنِ ٱلْمَاضِي تَحَوُّلًا كَبِيرًا نَحْوَ ٱلْمَوْضُوعَاتِ ٱلْحَسَّاسَةِ مِثْلَ: ٱلطَّوَائِفِ ٱلدِّينِيَّةِ، وَٱلْعُنْفِ ٱلْأُسَرِيِّ، وَٱضْطِرَابَاتِ ٱلْهُوِيَّةِ، وَٱلِٱنْتِمَاءِ.

وَقَدْ أُدْرِجَتْ “ٱلْجَنَّةُ ٱلْمُتَجَمِّدَةُ” ضِمْنَ ٱلْكُتُبِ ٱلتَّرْبَوِيَّةِ ٱلَّتِي تُنَاقَشُ فِي ٱلْمَدَارِسِ ٱلْأَلْمَانِيَّةِ، لَيْسَ بِوَصْفِهَا مُجَرَّدَ قِصَّةٍ، بَلْ كَمَدْخَلٍ لِحِوَارٍ عَنْ ٱلسُّلْطَةِ ٱلدِّينِيَّةِ وَٱلْجَمَاعَاتِ ٱلْمُغْلَقَةِ وَتَأْثِيرِهَا فِي ٱلْفَرْدِ وَٱلْأُسْرَةِ.

تَسْرُدُ ٱلرِّوَايَةُ بِلِسَانِ فَتَاةٍ تُدْعَى “هَانَّا”، نَشَأَتْ فِي كَنَفِ جَمَاعَةِ شُهُودِ يَهْوَه، وَهِيَ جَمَاعَةٌ مَسِيحِيَّةٌ لَا تُعَدُّ مِنَ ٱلتَّيَّارَاتِ ٱلْكُبْرَى، وَتَمْتَازُ بِنِظَامِهَا ٱلصَّارِمِ ٱلْمُنْغَلِقِ عَلَى ذَاتِهِ.

تُشَكِّلُ ٱلْجَمَاعَةُ فِي ٱلرِّوَايَةِ صُورَةً رَمْزِيَّةً لِأَيِّ بُنْيَةٍ فِكْرِيَّةٍ تُغَلِّفُ ٱلطَّاعَةَ بِٱلنَّجَاةِ، وَٱلْخُضُوعَ بِٱلْحُبِّ، فَتَخْنُقُ ٱلْأَسْئِلَةَ وَتَمْنَعُ ٱلنَّوَافِذَ.

وَإِنِّي إِذْ أُقَدِّمُ هٰذَا ٱلْعَمَلَ إِلَى ٱلْقَارِئِ ٱلْعَرَبِيِّ، فَإِنَّنِي أَضَعُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ لَيْسَ بِهَدَفِ ٱلْمُقَارَنَةِ ٱلدِّينِيَّةِ أَوِ ٱلِٱنْفِعَالِ ٱلْعَقَائِدِيِّ، بَلْ بِدَافِعٍ إِنْسَانِيٍّ بَحْتٍ، فَـ”هَانَّا” لَيْسَتْ صُورَةً لِلْآخَرِ ٱلْبَعِيدِ، بَلْ هِيَ مِرْآةٌ لِلطِّفْلَةِ فِي بَيْتٍ جُرِّدَتْ فِيهِ مِنْ حَقِّهَا فِي ٱلسُّؤَالِ، أَوْ لِلشَّابِّ ٱلَّذِي وَجَدَ نَفْسَهُ بَيْنَ قَدَاسَةِ ٱلْجَمَاعَةِ وَحُرِّيَّةِ ٱلضَّمِيرِ.

أَمَّا ٱلتَّرْجَمَةُ، فَلَمْ تَكُنْ فِي هٰذَا ٱلسِّيَاقِ نَقْلًا لُغَوِيًّا فَحَسْب، بَلْ كَانَتْ تَجَاوُزًا لِلْحُدُودِ، وَجِسْرًا بَيْنَ قَلَقِ ٱلطِّفْلَةِ ٱلْأَلْمَانِيَّةِ وَهُمُومِ ٱلْقَارِئِ ٱلْعَرَبِيِّ، بَيْنَ طَبَقَاتِ ٱللُّغَةِ ٱلْأَلْمَانِيَّةِ وَأَعْمَاقِ ٱلْعَرَبِيَّةِ ٱلْفُصْحَى. وَلِذَا، كَانَ لَابُدَّ – فِي مَوَاضِعَ بَعْضِهَا دَقِيقٌ وَبَعْضِهَا مُبَاشِرٌ – مِنْ شَيْءٍ مِنَ ٱلتَّصَرُّفِ ٱلْأَدَبِيِّ ٱلْمُتَرَصِّدِ لِرُوحِ ٱلنَّصِّ، دُونَ ٱلْإِخْلَالِ بِجَوْهَرِهِ، وَبِمَا يُلَائِمُ حَسَاسِيَّةَ ٱلْقِرَاءَةِ ٱلْعَرَبِيَّةِ وَأُفُقَهَا ٱلثَّقَافِيَّ.

سَعَيْتُ إِلَى ٱلِٱحْتِفَاظِ بِبَسَاطَةِ ٱلْأُسْلُوبِ حِينَ تَتَكَلَّمُ “هَانَّا” بِصَوْتِهَا، وَبِشَفَافِيَّةِ ٱلسَّرْدِ حِينَ تَتَكَشَّفُ ٱلْحَقَائِقُ.

هٰذِهِ ٱلرِّوَايَةُ، عَلَى بَسَاطَتِهَا ٱلظَّاهِرِيَّةِ، هِيَ جَرَسٌ نَاعِمٌ يَنْقُرُ وُجْدَانَ ٱلْقَارِئِ، لِتَذْكِيرِهِ بِأَنَّ ٱلْحُرِّيَّةَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ شِعَارٍ، بَلْ نَفَسٌ نَقِيٌّ لَا تَسْتَطِيعُ ٱلرُّوحُ أَنْ تَحْيَا مِنْ دُونِهِ.
نعمان البربري
المانيا 2022

أسفل النموذج

Jana Frey

يانا فراي

وُلِدت الكاتبة يانا فراي في السابع عشر من نيسان عام 1969، في مدينة دوسلدورف الألمانية. لم تكد تمضي سبعة أشهر على ولادتها حتى اختطفها الحزن باكرًا، حين فقدت والدها في حادث سيرٍ مأساوي، فبقيت ذكراها الأولى موشّحةً بالسواد.

تولّى رعايتها بعد ذلك زوجُ أمّها، وهو ممثّلٌ سويسريّ يعمل حرًّا، وقد أضفى على طفولتها مسحةً فنيّة مبكّرة.

في سن الخامسة، أمسكت الطفلة يانا بالقلم، وبدأت تخطّ كلماتها الأولى. لم تكن تدري حينها أن ما تكتبه بأناملها الصغيرة سيصبح، ذات يوم، كتابها الأوّل المنشور.

تابعت دراستها في ميادين الأدب، والتاريخ، والفن، متنقّلةً بين فرانكفورت، والولايات المتحدة، ونيوزيلندا. وهناك، وسط الفصول الدراسية، وتنوّع الحيوات، نشأت أسرتها، وتفتّحت رؤيتها، وغرست التزامها العميق بقضايا الشباب، وهو ما ترك أثرًا واضحًا في كتاباتها الإبداعية.

نشرت يانا فراي عددًا كبيرًا من كتب الأطفال واليافعين، تُرجِم الكثير منها إلى لغاتٍ متعدّدة. وفي عام 1994، أصدرت روايتها الشبابية الأولى، لتبدأ مسيرة أدبية عالجت فيها قضايا معقّدة كالإدمان، والعنف، واضطرابات الأكل، بأسلوبٍ يزاوج بين العمق والشفافيّة.

وفي عام 2004، رُشِّحت روايتُها “هُوَّةُ السُّموِّ الهابط” لنيل جائزة الأدب الألماني لليافعين، في حين جرى تحويل رواية “قبلة أُختي” إلى عملٍ تلفزيوني، وتُعَدُّ روايتها “العودة ليست خيارًا” الآن للسينما.

تعيش يانا فراي حاليًّا في جنوب ألمانيا، بعد طلاقها، برفقة اثنين من أبنائها الأربعة. حياتُها، كما كتبُها، مليئةٌ بالتحوّلات، و”لكلّ كلمةٍ فيها جذوةُ حياةٍ تُضاءُ في عتمةِ الصمت.”

قصة هانا

كانت “هَانّا” في الخامسةَ عشرةَ من عمرها، فتاةً يافعةً نشأت في كنف شهود يَهْوَه، حيث بدا لها العالمُ، لسنواتٍ، محميًّا ومُطمئنًا، كحضنٍ دافئ لا يُخترق. كانت الكلماتُ تُقال لها بثقة: “نحن فقط نعرفُ الحقيقة، وخارج هذه الجماعة لا يوجد خلاص.” فآمنت، وخافت، وسارت على الخط المرسوم دونما سؤال.

لكنّ شيئًا ما كان يتبدّل في داخلها.

بدأت تشعر بثقل القيود، بجدرانٍ لا تُرى لكنها تمنعها من التنفّس.

راحت تسأل نفسها بصوتٍ خافت:

“لماذا لا أستطيع أن أكون مثل سائر الفتيات؟ لماذا يبدو لي كلُّ شيءٍ خارج هذه الجماعة طبيعيًّا، فيما يُطلب منّي أن أراه ملوَّثًا أو محرَّمًا؟”

أرادت أن تحطّم تلك الأغلال. أن تضحك بحرّيّة، أن تُحبّ بلا وجل، أن ترتدي ما تشاء، أن تُصغي إلى موسيقى العالم دون أن تلاحقها عيونُ المؤنّبين. أرادت، ببساطة… أن تعيش.

لكنّها ما لبثت أن اكتشفت الحقيقة القاسية:

ذلك العالمُ المحروس، الذي ظنّته فردوسًا، لم يكن في الحقيقة سوى قفصٍ مُحكم الإغلاق، تحرسه أعينُ العقيدة وأسوارُ الطاعة العمياء.

في روايتها “الجَنَّةُ المتجمّدةُ”، تسبر يانا فراي أعماقَ تجربةٍ إنسانيّةٍ شائكة، تطرح فيها قضايا الدين والجماعات المُغلقة بجرأةٍ وتعاطف.

تمضي الكاتبة بخطى واثقة بين هشاشة الروح وقوّة الإرادة، فتُضيء بأسلوبها الشفّاف تساؤلاتٍ عن الحرّيّة، والانتماء، وحقّ الفرد في اختيار مصيره.

إنه ليس مجرّد حكاية فتاة، بل دعوةٌ صامتة للتفكير بصوتٍ عالٍ:

“أين تنتهي الطمأنينة؟ وأين تبدأ العبوديّة؟”

المقدّمة

كَانَ لِقَاؤُنَا الأَوَّلُ فِي عَلِّيَّةٍ صَغِيرَةٍ، تَتَخَفَّفُ فِيهَا رَائِحَةُ الشَّايِ السَّاخِنِ وَالْوَرَقِ الْقَدِيمِ. جَلَسَتْ “هَانَّا” قُبَالَتِي، وَإِلَى جَانِبِهَا كَانَ “بَاوْلُ” يُمْسِكُ بِيَدِهَا فِي صَمْتٍ رَقِيقٍ. وَمُنْذُ اللَّحْظَةِ الأُولَى، كَانَ وَاضِحًا أَنَّ حُضُورَهُ لَمْ يَكُنْ عَارِضًا، بَلْ ضَرُورِيًّا.

قَالَتْ لِي، وَهِيَ تُقَلِّبُ الْمِلْعَقَةَ بِتَوَتُّرٍ فِي فِنْجَانِهَا: “مِنْ دُونِ بَاوْل، مَا كُنْتُ لِأَسْتَطِيعَ أَنْ أَرْوِيَ لَكَ كُلَّ هَذَا.” ثُمَّ تَابَعَتْ، بَعْدَ لَحْظَةٍ مِنَ التَّرَدُّدِ: “وَلَعَلِّي، مِنْ دُونِ بَاوْل، لَمْ أَكُنْ لِأَكُونَ هُنَا أَصْلًا.” كَانَ صَوْتُهَا مَكْسُورًا حِينَ تَمْتَمَتْ: “لِأَنِّي، بِبَسَاطَةٍ… لَوْلَا وُجُودُهُ، لَمَا كُنْتُ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ.”

صِرْنَا نَلْتَقِي أَنَا، وَ”هَانَّا”، وَ”بَاوْل” عَلَى مَدَى أَسَابِيعَ مُتَفَرِّقَةٍ، فِي الزَّاوِيَةِ نَفْسِهَا مِنَ الْغُرْفَةِ، تَحْتَ سَقْفٍ مَائِلٍ، كَأَنَّهُ يَطْوِي الزَّمَنَ عَلَيْنَا بِصَمْتٍ.

فِي بَعْضِ الأَيَّامِ، كَانَتْ “هَانَّا” تَسْتَرْسِلُ فِي الْحِكَايَةِ، كَأَنَّهَا تَسْكُبُ سِنِينَ طَوِيلَةً دُفْعَةً وَاحِدَةً. تُقَلِّبُ صَنَادِيقَ الصُّوَرِ الْقَدِيمَةِ، وَتَقْرَأُ لَنَا فَقَرَاتٍ مِنْ مَذَاكِرَاتِهَا الَّتِي ظَلَّتْ مَطْوِيَّةً فِي الأَدْرَاجِ سِنِينَ، كَأَنَّهَا كَانَتْ تَنْتَظِرُ هَذِهِ اللَّحْظَةَ بِالذَّاتِ.

وَلَكِنْ، فِي أَيَّامٍ أُخْرَى، كَانَتْ تَغِيبُ عَنَّا تَمَامًا. تَصْمُتُ طَوِيلًا، وَيُصْبِحُ الْحُزْنُ ظِلًّا ثَقِيلًا فِي عَيْنَيْهَا. تَهْمِسُ، بِصَوْتٍ خَافِتٍ يَكَادُ لَا يُسْمَعُ: “لَا يَخْطُرُ بِبَالِي شَيْءٌ الْيَوْمَ.” وَتَبْقَى تُحَدِّقُ طَوِيلًا فِي جِهَازِ التَّسْجِيلِ الصَّغِيرِ الَّذِي أَحْضَرْتُهُ مَعِي، وَهُوَ يُصْدِرُ صَرِيرًا خَافِتًا، يُشْبِهُ تَنَهُّدًا عَاجِزًا يُسَجِّلُ صَمْتَهَا الْمُنْهَك.

فِي تِلْكَ الأَيَّامِ، كُنَّا نَهْرُبُ مَعًا مِنَ الْحِكَايَةِ. نَذْهَبُ إِلَى السِّينَمَا، أَوْ نَجْلِسُ فِي مَقْهًى قَرِيبٍ مِنْ مَنْزِلِهَا، نَلْعَبُ “تْرِيفْيَال پِرْسُوتْ” أَوْ “سْكْرَابِلْ”، كَأَنَّ الضَّحِكَ يُمْكِنُ أَنْ يَمْنَحَنَا فُسْحَةً صَغِيرَةً بَيْنَ فُصُولِ الأَلَمِ.

وَكَانَتْ “هَانَّا” تَعْتَذِرُ كُلَّ مَرَّةٍ، بِنَبْرَةٍ مُرْتَبِكَةٍ، وَتَقُولُ: “كِتَابُكَ عَنْ مَاضِيَّ… رُبَّمَا لَنْ يَكْتَمِلَ أَبَدًا.”

وَلَكِنَّنَا، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَصَلْنَا إِلَى النِّهَايَةِ. فَفِي ظُهِيرَةٍ رَمَادِيَّةٍ مِنْ شَهْرِ تِشْرِينَ الثَّانِي، وَالْمَطَرُ يَغْسِلُ النَّوَافِذَ بِصَمْتٍ، جَلَسْتُ أَمَامَهَا، وَقُلْتُ: “فَلْنَبْدَأْ مِنَ الْبِدَايَةِ.”

كُنَّا جَالِسَيْنِ فِي غُرْفَةِ الْمَعِيشَةِ الصَّغِيرَةِ لَدَى “هَانَّا”، مُحَاطَيْنِ بِصُوَرٍ قَدِيمَةٍ، وَمَذَاكِرَاتٍ مُتَهَالِكَةٍ، وَمَنَادِيلَ وَرَقِيَّةٍ مُبَلَّلَةٍ بِالدُّمُوعِ. تَنَفَّسَتْ “هَانَّا” بِعُمْقٍ، ثُمَّ قَالَتْ، وَهِيَ تُلْقِي نَظْرَةً طَوِيلَةً عَلَى مَا حَوْلَهَا: “هَكَذَا إِذًا… هَذِهِ هِيَ الْحِكَايَةُ.”

تَبَادَلْنَا ابْتِسَامَةً خَافِتَةً، وَفِي الْيَوْمِ التَّالِي بَاشَرْتُ فَوْرًا تَدْوِينَ قِصَّتِهَا.

فِي أَحَدِ اللِّقَاءَاتِ، قَالَتْ لِي: “كَانَتْ أُمِّي لَا تَزَالُ شَابَّةً جِدًّا حِينَ وُلِدْتُ. وَأَبِي لَمْ يَكُنْ أَكْبَرَ مِنْهَا بِكَثِيرٍ. تَعَرَّفَا إِلَى بَعْضِهِمَا مُنْذُ أَيَّامِ الْمَدْرَسَةِ. حِينَ أَنْهَى أَبِي امْتِحَانَ الْبَكَالُورْيَا، كَانَتْ أُمِّي فِي الصَّفِّ الثَّانِي عَشَرَ.”

تَعَرَّفَتْ وَالِدَتِي إِلَى وَالِدِي – كَمَا رَوَتْ – فِي الْفِرْقَةِ الْمُوسِيقِيَّةِ الْمَدْرَسِيَّةِ.

قَالَتْ: “وَكَانَ ذَلِكَ، عَلَى الأَرْجَحِ، الْمَكَانَ الْوَحِيدَ الَّذِي أَمْكَنَ لَهُمَا أَنْ يَلْتَقِيَا فِيهِ أَصْلًا، فَهُمَا مُخْتَلِفَانِ تَمَامًا، كَاخْتِلَافِ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ.”

ثُمَّ أَضَافَتْ، وَبِابْتِسَامَةٍ شَارِدَةٍ تُشْبِهُ نَغْمَةً بَعِيدَةً: “أُمِّي كَانَتْ صَاخِبَةً، مَرِحَةً، وَمُمْتَلِئَةً بِالطَّاقَةِ. كَانَتْ تُعْزِفُ عَلَى السَّاكْسُوفُونِ، وَتُتْقِنُ رُكُوبَ الدَّرَّاجَةِ ذَاتِ الْعَجَلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَتُحِيطُ نَفْسَهَا بِالْكَثِيرِ مِنَ الأَصْدِقَاءِ.”

ثُمَّ تَابَعَتْ: “أَمَّا أَبِي، فَكَانَ صَامِتًا، خَجُولًا، يَمْلَؤُهُ التَّأَمُّلُ. كَانَ يُعْزِفُ عَلَى الْكْلَارِينِيتْ، وَيَقْضِي أَوْقَاتَ فَرَاغِهِ هَائِمًا بِمُفْرَدِهِ فِي الشَّوَارِعِ أَوِ الْحَدَائِقِ، يُفَكِّرُ فِي شُؤُونِ الْعَالَمِ، وَفِي حَيَاتِهِ الْهَادِئَةِ الْخَاصَّةِ.”

وَفِي يَوْمٍ مَا، قُدِّرَ لِهَذَيْنِ النَّقِيضَيْنِ أَنْ يَلْتَقِيَا عَلَى خَشَبَةٍ وَاحِدَةٍ.

كَانَتِ الْفِرْقَةُ الْمَدْرَسِيَّةُ تَسْتَعِدُّ لِعَزْفٍ جَمَاعِيٍّ، وَلَكِنَّ أَدْوَارَ الْبِدَايَةِ أُسْنِدَتْ إِلَى أُمِّي وَأَبِي، اللَّذَيْنِ لَمْ يَكُونَا – طَبْعًا – وَالِدَيَّ بَعْدُ. سَارَا مَعًا، جَنْبًا إِلَى جَنْبٍ، عَبْرَ الْمَمَرِّ الضَّيِّقِ فِي الْقَاعَةِ الْمُوسِيقِيَّةِ الْمُعْتِمَةِ، وَكَانَ بَاقِي الطُّلَّابِ قَدِ اتَّخَذُوا أَمَاكِنَهُمْ فِي الْخَلْفِ.

قَالَتْ “هَانَّا”، وَعَلَى شَفَتَيْهَا ابْتِسَامَةٌ شَجِيَّةٌ: “كَانَ الْمَطْلُوبُ أَنْ يَبْدُوَ الْعَزْفُ كَأَنَّهُ حِوَارٌ مُوسِيقِيٌّ، تُحَاوِرُ فِيهِ الْكْلَارِينِيتِ الْحَزِينَةُ السَّاكْسُوفُونَ الْمُبْتَهِجَ. وَقَدْ كَانَا، مِنْ دُونِ أَنْ يَدْرِيَا، قَدْ بَدَآ أُولَى خُطُوَاتِ الْحِكَايَةِ.”

كَانَتِ الأُمْسِيَةُ تَسِيرُ عَلَى نَحْوٍ رَائِقٍ، وَكَانَتِ النَّغَمَاتُ تَنْسَابُ بِهُدُوءٍ مِنَ الآلَاتِ، حَتَّى تَعَثَّرَ وَالِدِي، وَالْكْلَارِينِيتُ مَا تَزَالُ بَيْنَ شَفَتَيْهِ، عَلَى إِحْدَى دَرَجَاتِ الْمَسْرَحِ. سَقَطَ أَرْضًا، وَفِي سُقُوطِهِ ذَاكَ، كُسِرَ مِرْفَقُهُ.

وَلَكِنْ… لَمْ يَلْحَظْ أَحَدٌ مَا حَدَثَ. نَهَضَ بِصَمْتٍ، دُونَ أَنْ يَصْرُخَ، أَوْ يَطْلُبَ عَوْنًا، وَغَادَرَ الْقَاعَةَ الْمُوسِيقِيَّةَ الْمُضْطَرِبَةَ، دُونَ أَنْ يَتْرُكَ خَلْفَهُ سِوَى ظِلِّ سُؤَالٍ مُعَلَّقٍ. وَعَلَى الرُّغْمِ مِنْ أَنَّ الأَلَمَ لَا بُدَّ أَنَّهُ كَانَ فَادِحًا، فَإِنَّهُ لَمْ يُظْهِرْ شَيْئًا… فَقَطْ مَضَى.

وَمَضَتِ الأَيَّامُ…

وَفِي خَرِيفٍ مَاطِرٍ، حِينَ كَانَتِ السَّمَاءُ رَمَادِيَّةً، وَالرِّيحُ تَعْبَثُ بِأَغْصَانِ الأَشْجَارِ، اِلْتَقَتْ أُمِّي بِهِ مَرَّةً أُخْرَى، صُدْفَةً.

كَانَ نَهْرُ الرَّايْنِ قَدْ فَاضَ، وَمَاؤُهُ اجْتَاحَ الضِّفَّتَيْنِ، يَعْلُو بِهُدُوءٍ مُخِيفٍ، وَيَزْحَفُ عَلَى الْيَابِسَةِ كَوَحْشٍ مَائِيٍّ غَاضِبٍ. وَهُنَاكَ، عَلَى حَافَّةِ الْمَوْجِ، كَانَ لِقَاؤُهُمَا الثَّانِي.

لَوَّحَتْ أُمِّي بِيَدِهَا وَهِيَ تَبْتَسِمُ، وَصَاحَتْ بِفَرَحٍ خَفِيفٍ: “مَرْحَبًا، مِيشَائِيلْ!” تَمْتَمَ وَالِدِي: “مَرْحَبًا…” وَقَدْ بَدَا عَلَيْهِ الْحَرَجُ، إِذْ كَانَ قَدْ نَسِيَ، مُنْذُ زَمَنٍ، اسْمَهَا الأَوَّلَ.

مَرَّرَ يَدَهُ الْمُرْتَبِكَةَ بَيْنَ خُصَلَاتِ شَعْرِهِ الْمُبْتَلِّ، وَتَقَدَّمَ نَحْوَهَا بِبُطْءٍ، كَأَنَّهُ يُعِيدُ تَرْتِيبَ خُطُوَاتِهِ الأُولَى. وَحِينَ وَقَفَا أَخِيرًا وَجْهًا لِوَجْهٍ، سَأَلَتْهُ أُمِّي: “كَيْفَ حَالُ ذِرَاعِكَ؟” فَأَجَابَهَا بِصَوْتٍ خَافِتٍ، وَهُوَ يُشِيحُ بِنَظَرِهِ جَانِبًا: “تَعَافَى مُنْذُ زَمَنٍ.” ثُمَّ سَأَلَتْهُ: “وَكَيْفَ كَانَ امْتِحَانُ الْبَكَالُورْيَا؟”

قَالَ بِبَسَاطَةٍ: “جَيِّدٌ جِدًّا، شُكْرًا.”

فَابْتَسَمَتْ، وَقَالَتْ: “وَلَكِنَّكَ لَمْ تَحْضُرْ حَفْلَةَ التَّخَرُّجِ. لَقَدْ كُنْتُ أَبْحَثُ عَنْكَ بَيْنَ الْوُجُوهِ.”

هَزَّ رَأْسَهُ نَفْيًا، فَسَأَلَتْهُ بِاسْتِغْرَابٍ: “لِمَ لَمْ تَأْتِ؟”

فَأَجَابَ بِاقْتِضَابٍ، وَهُوَ مَا يَزَالُ يَنْحَنِي بَيْنَ لَحْظَةٍ وَأُخْرَى لِيَلْتَقِطَ حَجَرًا مِنَ الأَرْضِ: “لَا أُحِبُّ الْحَفَلَاتِ الْكَبِيرَةِ.”

ثُمَّ أَخَذَ يُلْقِي الْحَصَى وَاحِدَةً تِلْوَ الأُخْرَى فِي مِيَاهِ النَّهْرِ الدَّاكِنَةِ، فِي حَرَكَةٍ مُكَرَّرَةٍ، كَأَنَّهُ يُخْفِي بِهَا اضْطِرَابًا، أَوْ يُسَكِّنُ بِهَا شَيْئًا فِي أَعْمَاقِهِ.

فَانْحَنَتْ أُمِّي قَلِيلًا، وَالْتَقَطَتْ حَجَرًا مُسَطَّحًا مِنَ الأَرْضِ، ثُمَّ قَالَتْ، وَفِي عَيْنَيْهَا بَسْمَةُ ثِقَةٍ طُفُولِيَّةٍ: “أَسْتَطِيعُ أَنْ أَجْعَلَهُ يَقْفِزُ.”

ثُمَّ أَرَتْهُ، بِخِفَّةٍ مَاهِرَةٍ، كَيْفَ تُزْلِقُ الْحَجَرَ بِلِينٍ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، فَيَرْتَدُّ عِدَّةَ مَرَّاتٍ قَبْلَ أَنْ يَغُوصَ فِي عُمْقِ النَّهْرِ. كَانَ الْحَجَرُ يَطِيرُ، ثُمَّ يَلْمَسُ الْمَاءَ، وَيَقْفِزُ كَطِفْلٍ يَلْهُو عَلَى أَطْرَافِ الذَّاكِرَةِ.

فَضَحِكَ أَبِي بِخَجَلٍ خَافِتٍ، وَمِنْ هُنَاكَ، بَدَأَتِ الْكَلِمَاتُ تَتَسَلَّلُ بَيْنَهُمَا مُجَدَّدًا.

وَبَعْدَ أَحَادِيثَ قَلِيلَةٍ، وَمَعَ مُرُورِ الْوَقْتِ، أَخْبَرَتْهُ أُمِّي أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تُؤَدِّي وَظَائِفَهَا جَيِّدًا فِي الْمَدْرَسَةِ، وَطَلَبَتْ مِنْهُ، بِنَبْرَةٍ صَادِقَةٍ، أَنْ يُسَاعِدَهَا فِي الدِّرَاسَةِ. وَفِي النِّهَايَةِ… وَافَقَ.

كَانَ أَبِي، فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ، يَعِيشُ مَعَ جَدَّتِهِ الْعَجُوزِ، امْرَأَةٍ هَادِئَةٍ لَا تُكْثِرُ الْكَلَامَ. وَذَاتَ يَوْمٍ، سَأَلَتْهُ أُمِّي: “وَأَيْنَ وَالِدَاكَ؟”

تَرَدَّدَ قَلِيلًا، ثُمَّ قَالَ بِصَوْتٍ خَفِيضٍ: “لَا أَعْرِفُ شَيْئًا عَنْ وَالِدِي. أَمَّا وَالِدَتِي، فَهِيَ تَعِيشُ فِي أَمْسْتِرْدَامْ. تَزَوَّجَتْ هُنَاكَ.”

سَأَلَتْهُ أُمِّي بِدَهْشَةٍ: “وَلِمَ لَا تَعِيشُ مَعَهَا؟” فَأَجَابَ بِجَفَافٍ، كَأَنَّهُ يُغْلِقُ بَابًا لَا يُرِيدُ لَهُ أَنْ يُفْتَحُ مِنْ جَدِيدٍ: “لِأَنَّهَا لَمْ تُرِدْنِي… زَوْجُهَا لَمْ يُرِدْنِي.” وَصَمَتَ. لَمْ يُرِدْ أَنْ يُكْمِلَ. كَانَ الْكَلَامُ عَنْ وَالِدَتِهِ يُشْبِهُ السَّيْرَ عَلَى جُرْحٍ لَمْ يَلْتَئِمْ بَعْدُ.

وَذَاتَ يَوْمٍ، وَعَلَى حِينِ غَفْلَةٍ، رَحَلَتْ جَدَّةُ وَالِدِي فِي هُدُوءٍ لَمْ يُفَاجِئْ أَحَدًا سِوَاهُ. كَانَ حُزْنُهُ صَامِتًا، عَمِيقًا، لَا ضَجِيجَ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ حَمَلَهُ بَعِيدًا عَنْ بَيْتِهَا الْقَدِيمِ، إِلَى سَكَنٍ جَامِعِيٍّ صَغِيرٍ، ضَيِّقٍ، وَبَارِدٍ.

وَفِي عِيدِ مِيلَادِهَا الثَّامِنِ عَشَرَ، طَرَقَتْ أُمِّي بَابَ غُرْفَتِهِ، تَحْمِلُ مَعَهَا أَغْرَاضَهَا الْقَلِيلَةَ، وَبَعْضًا مِنْ عِنَادِهَا، وَانْتَقَلَتْ لِتَسْكُنَ مَعَهُ.

سَأَلَهَا أَبِي بِاسْتِغْرَابٍ، وَهُوَ يُرَاقِبُهَا تَفْرِشُ حَيَاتَهَا فِي الزَّاوِيَةِ الضَّيِّقَةِ: “لِمَاذَا لَا تَبْقَيْنَ مَعَ وَالِدَيْكِ؟ لَمْ تَحْصُلِي بَعْدُ عَلَى شَهَادَةِ الْبَكَالُورْيَا.”

فَهَزَّتْ كَتِفَيْهَا بِلا مُبَالَاةٍ، وَقَالَتْ، وَهِيَ تُوَزِّعُ كُتُبَهَا وَمَلَابِسَهَا فِي الْخِزَانَةِ الصَّغِيرَةِ: “لَا أَتَفَاهَمُ مَعَهُم كَثِيرًا. لَا يُرِيدُونَنِي كَمَا أَنَا. يُرِيدُونَنِي نُسْخَةً مُطِيعَةً، فَأْرَةً رَمَادِيَّةً صَغِيرَةً تُشْبِهُهُم.”

وَهَكَذَا… عَاشَا مَعًا.

كَانَا يُعْزِفَانِ الْمُوسِيقَى، وَيُذَاكِرَانِ اسْتِعْدَادًا لِامْتِحَانَاتِ أُمِّي الْقَادِمَةِ. أَمَّا وَالِدِي، الْحَالِمُ، فَكَانَ يُتَابِعُ دِرَاسَتَهُ فِي الْفَلْسَفَةِ وَعِلْمِ النَّفْسِ، يَغُوصُ فِي الْكُتُبِ أَكْثَرَ مِمَّا يَغُوصُ فِي الْوَاقِعِ.

وَفِي قَلْبِ هَذِهِ الْفَوْضَى الْحَنُونَةِ… وُلِدْتُ أَنَا.

قَالَ وَالِدِي ذَاتَ يَوْمٍ لِأُمِّي: “أُحِبُّكِ لِأَنَّكِ صَاخِبَةٌ وَمَجْنُونَةٌ بِهَذَا الشَّكْلِ. أَشْعُرُ كَأَنَّكِ أَيْقَظْتِ حَيَاتِي مِنْ جَدِيدٍ.”

فَابْتَسَمَتْ أُمِّي، وَرَدَّتْ عَلَيْهِ: “وَأَنَا أُحِبُّكَ، لِأَنَّكَ وَالِدُ الطِّفْلِ الَّذِي يَنْمُو فِي بَطْنِي.”

كَانَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ فِي عَامِ 1970، وَهُنَاكَ كَثِيرٌ مِنَ الصُّوَرِ الَّتِي تُظْهِرُ أُمِّي مُلَوَّنَةً بِرُوحِهَا، بِفَخْرٍ وَفَرَحٍ، وَهِيَ تَعْرِضُ بَطْنَهَا الْمُسْتَدِيرَ كَكُرَةٍ.

أَمَّا وَالِدِي، فَلَا تُوجَدُ إِلَّا صُوَرٌ قَلِيلَةٌ جِدًّا لَهُ، فَهُوَ لَا يُحِبُّ أَنْ يُصَوَّرَ. وَحَتَّى الْيَوْمِ، لَمْ أَجِدْ سِوَى ثَلَاثِ صُوَرٍ تَجْمَعُنِي بِهِ.

وَفِي الْحَقِيقَةِ، الصُّوَرُ “الْحَقِيقِيَّةُ” الَّتِي تَجْمَعُنَا هِيَ اثْنَتَانِ فَقَطْ.

فَفِي الصُّورَةِ الأُولَى، يَجْلِسُ وَالِدِي النَّحِيلُ الْجَادُّ إِلَى جَانِبِ أُمِّي الضَّاحِكَةِ، تَحْتَ شَجَرَةِ صَفْصَافٍ تَمِيلُ بِفِعْلِ الرِّيَاحِ عَلَى ضِفَّةِ نَهْرِ الرَّايْنِ، وَيَدُهُ الْيُسْرَى مَمْدُودَةٌ بِحَنَانٍ وَرِفْقٍ عَلَى بَطْنِهَا الْمُسْتَدِيرِ.

فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، كَانَ وَالِدِي يَحْمِلُنِي بَيْنَ ذِرَاعَيْهِ بَعْدَ وِلَادَتِي بِقَلِيلٍ، وَيَنْظُرُ إِلَيَّ بِدَهْشَةٍ، كَأَنِّي مُعْجِزَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، لَا مُجَرَّدَ مَوْلُودٍ صَغِيرٍ مُتَجَعِّدٍ كَغَيْرِهِ.

أَمَّا فِي الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ، فَيَقِفُ وَرَائِي، وَقَدْ تَزَوَّجَ حَدِيثًا… وَلَكِنْ لَيْسَ مِنْ أُمِّي، بَلْ مِنْ “رُوزْفِيتَا “. وَلَكِنْ… سَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ.

بَعْدَ فَتْرَةٍ قَصِيرَةٍ مِنْ وِلَادَتِي، انْتَقَلَ وَالِدَايَ مِنْ دَارِ الطُّلَّابِ الصَّاخِبَةِ وَالْمُمْتِعَةِ، الَّتِي أَصْبَحَتْ ضَيِّقَةً عَلَيْهِمَا، وَاسْتَأْجَرَا شَقَّةً صَغِيرَةً فِي وَسَطِ الْمَدِينَةِ.

كَانَتْ أُمِّي قَدْ تَرَكَتِ الدِّرَاسَةَ، وَبَدَأَتْ تَعْمَلُ لَيْلًا نَادِلَةً فِي حَانَةٍ لِلطُّلَّابِ. أَمَّا وَالِدِي، فَاسْتَمَرَّ فِي دِرَاسَتِهِ لِبَعْضِ الْوَقْتِ، وَلَكِنْ، لَمَّا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ ضَائِقَةُ الْمَالِ، قَبِلَ وَظِيفَةً مَكْتَبِيَّةً فِي شَرِكَةٍ صَغِيرَةٍ. وَبَقِيَ فِي تِلْكَ الْوَظِيفَةِ قَرَابَةَ عِشْرِينَ عَامًا، رَغْمَ أَنَّهُ لَمْ يُحِبَّ عَمَلَهُ يَوْمًا.

كَانَ وَالِدَايَ لَا يَزَالَانِ يُعَزِفَانِ الْمُوسِيقَى مَعًا، وَفِي ذَاكِرَتِي، كَانَا – فِي الأَغْلَبِ – مُبْتَهِجَيْنِ، وَلَطِيفَيْنِ دَائِمًا مَعَ بَعْضِهِمَا الْبَعْضَ.

الْتَحَقْتُ بِرَوْضَةِ الأَطْفَالِ، وَأَحْيَانًا، حِينَ كَانَ نَهْرُ الرَّايْنِ يَفِيضُ بِمِيَاهِهِ، كُنَّا نَرْكَبُ – نَحْنُ الثَّلَاثَةَ – الْحَافِلَةَ إِلَى النَّهْرِ، وَكَانَ وَالِدَايَ يُقَذِّفَانِ الْحَصَى سَاعَاتٍ طَوِيلَةً فِي مِيَاهِ النَّهْرِ الدَّاكِنَةِ الْجَارِيَةِ بِسُرْعَةٍ.

قَالَتْ أُمِّي، وَهِيَ تَضْحَكُ وَتُصِيحُ لِوَالِدِي: “يَجِبُ أَنْ تَقْذِفَهَا بِزَاوِيَةٍ مَائِلَةٍ قَدْرَ الإِمْكَانِ!” وَأَضَافَتْ، وَهِيَ تُشِيرُ بِيَدِهَا: “هَلْ تَرَى؟ هَكَذَا!”

زِشْ زِشْ زِشْ – كَانَتْ حِجَارَةُ أُمِّي تُصْدِرُ هَذَا الصَّوْتَ وَهِيَ تَقْفِزُ عَلَى الْمَاءِ.

زَمْجَرَ وَالِدِي: “أَنَا أُحَاوِلُ!” وَقَذَفَ حَجَرًا بَعْدَ الآخَرِ.

بْلُبْ بْلُبْ بْلُبْ – كَانَتْ حِجَارَتُهُ تَغُوصُ فِي الْمَاءِ، وَتُصْدِرُ صَوْتًا ثَقِيلًا.

تَمْتَمَ بِغَضَبٍ: “لَنْ أَتَعَلَّمَ أَبَدًا.” فَوَاسَتْهُ أُمِّي، وَقَالَتْ: “يَوْمًا مَا… سَتَنْجَحُ.” ثُمَّ لَفَّتْ ذِرَاعَهَا حَوْلَ عُنُقِهِ بِحَنَانٍ.

حِينَ أَتْمَمْتُ خَامِسَةَ أَعْوَامِي، وَفِي مَرَّةٍ أُخْرَى حِينَ فَاضَ نَهْرُ الرَّايْنِ، وَقَفْتُ قَرِيبًا جِدًّا مِنْ وَالِدَيَّ عَلَى ضِفَّةِ الْمَاءِ الْجَارِي، وَرَمَيْتُ حَجَرِي الأَوَّلَ.

زِشْ زِشْ زِشْ – صَدَحَ صَوْتُ حَجَرِي.

لَا أَنْسَى كَيْفَ فَرِحَ وَالِدَايَ، وَكَيْفَ قَبَّلَ وَالِدِي أَطْرَافَ أَنْفِي الْبَارِدَةِ بِحَنَانٍ.

قَالَ وَالِدِي بِفَخْرٍ: “أَنْتِ حَقًّا شَخْصٌ مُتَعَدِّدُ الْمَوَاهِبِ… وَلَكِنْ لَيْسَ عَجِيبًا، فَأَنْتِ تَمْلِكِينَ أَعْظَمَ أُمٍّ فِي الْعَالَمِ!”

لَا أَزَالُ أَتَذَكَّرُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ حَتَّى الْيَوْمِ. إِنَّهَا رَاسِخَةٌ فِي ذَاكِرَتِي كَالصَّخْرِ. فَقَدْ تَغَيَّرَتْ حَيَاتِي، وَحَيَاةُ وَالِدَيَّ، بَعْدَ بَضْعَةِ أَيَّامٍ فَقَطْ، مِنْ ذَلِكَ الْعَصْرِ عَلَى ضِفَافِ نَهْرِ الرَّايْنِ.

كَانَ ذَلِكَ يَوْمًا خَرِيفِيًّا مَاطِرًا. كَانَ وَالِدَايَ يَعِيشَانِ فِي ضَائِقَةٍ مَالِيَّةٍ، لَا أَتَذَكَّرُ السَّبَبَ بِالدِّقَّةِ، فَفِي الأَصْلِ، لَمْ يَكُنْ لَدَيْنَا كَثِيرٌ مِنَ الْمَالِ. وَلَكِنْ، فِي ذَلِكَ الْخَرِيفِ بِالتَّحْدِيدِ، كَانَا يَتَحَدَّثَانِ بِاسْتِمْرَارٍ عَنِ النُّقُودِ، وَقِلَّتِهَا، وَعَنِ الْفَوَاتِيرِ الَّتِي لَمْ تُدْفَعْ بَعْدُ.

وَفِي يَوْمٍ مَا، قَرَّرَتْ أُمِّي أَنْ تَلْجَأَ إِلَى وَالِدَيْهَا، الَّذَيْنَ كَانَتْ قَدْ قَطَعَتْ صِلَتَهَا بِهِمَا مُنْذُ سِنِينَ طَوِيلَةٍ، لِتَطْلُبَ الْمُسَاعَدَةَ. كَانَ وَالِدَا أُمِّي مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَبْدُونَ صَارِمِينَ، مُتَشَدِّدِينَ، مُهَيْبِينَ. وَلَمْ أَرَهُمَا إِلَّا مَرَّاتٍ قَلِيلَةً حَتَّى ذَلِكَ الْحِينِ.

انْطَلَقَتْ أُمِّي نَحْوَ مَنْزِلِهِمَا، وَأَنَا وَقَفْتُ أُلَوِّحُ لَهَا وَدَاعًا مِنْ نَافِذَةِ غُرْفَةِ الْمَعِيشَةِ فِي الطَّابِقِ الْخَامِسِ. رَدَّتْ عَلَيَّ بِمَوَدَّةٍ، وَابْتَسَمَتْ، وَكَانَتْ شُعَيْرَاتُهَا الشَّقْرَاءُ الطَّوِيلَةُ تَتَطَايَرُ فِي الرِّيحِ. وَمَعَ ذَلِكَ، كُنْتُ أَرَى الْقَلَقَ فِي عَيْنَيْهَا، وَشَعَرْتُ بِحُزْنٍ عَلَيْهَا، لِأَنِّي كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهَا تَكْرَهُ أَنْ تَطْلُبَ الْعَوْنَ، وَخَاصَّةً مِنْ وَالِدَيْهَا الْعَبُوسَيْنِ.

فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَقَدْتُ “أُمِّي الْمُلَوَّنَةَ، الْمُبْتَسِمَةَ”. إِذْ صَدَمَتْهَا حَافِلَةٌ، وَهِيَ فِي طَرِيقِهَا إِلَى مَوْقِفِ الْبَاصِ. كَانَتِ الْحَافِلَةُ رَقْمَ “٤”. هَذَا مَا سَمِعْتُهُ صُدْفَةً فِيمَا بَعْدُ، وَلَمْ أَنْسَهُ قَطُّ. وَحَتَّى الْيَوْمِ، لَمْ أَرْكَبْ فِي أَيِّ بَاصٍ يَحْمِلُ هَذَا الرَّقْمَ. وَلَا حَتَّى فِي مُدُنٍ أُخْرَى أَدْخُلُ حَافِلَةً بِتِلْكَ التَّرْقِيمَةِ. أَنَا أَكْرَهُ كُلَّ حَافِلَاتِ الرَّقْمِ “٤”.

فِي الْمَسَاءِ، جَلَسَ وَالِدِي عَلَى مَائِدَةِ الْمَطْبَخِ، يُرَدِّدُ نَفْسَ الْجُمْلَةِ مَرَّاتٍ وَمَرَّاتٍ: “لَا تَمُوتِي.” قَالَهَا بِصَوْتٍ خَافِتٍ، مُلِحٍّ، فَارِغٍ، كَأَنَّهُ يُنَادِي أُمِّي، وَكَأَنَّهَا مَعَنَا فِي الْمَطْبَخِ. كَانَ ذَلِكَ الْمَشْهَدُ يُرْعِبُنِي، وَأَنَا جَائِعَةٌ أُرِيدُ عَشَاءً.

قُلْتُ بِهَمْسٍ: “أُمِّي لَيْسَتْ هُنَا… أُرِيدُ شَيْئًا آكُلُهُ.”

فَرَدَّ عَلَيَّ وَالِدِي، وَهُوَ يُحَدِّقُ فِيَّ بِنَظْرَةٍ فَارِغَةٍ تَمُرُّ عَبْرِي، كَأَنَّهُ لَيْسَ هُنَا بِجِوَارِي، بَلْ فِي “هَامْبُورْغ”، فِي الْمُسْتَشْفَى الْجَامِعِيِّ، حَيْثُ نُقِلَتْ أُمِّي بِطَائِرَةِ هِلِيكُوبْتَر.

جَلَسْتُ بِصَمْتٍ إِلَى جَانِبِهِ عَلَى الْمَائِدَةِ، وَأَصْغَيْتُ بِحُزْنٍ إِلَى تِرْدَادِهِ العِبَارَةَ نَفْسَهَا: “لَا تَمُوتِي… لَا تَمُوتِي.”

فِي وَقْتٍ مَا، غَفَوْتُ دُونَ أَنْ أَشْعُرَ. لَمْ أَعْلَمْ مَتَى غَلَبَنِي النُّعَاسُ.

وَلَكِنَّنِي اسْتَيْقَظْتُ فَجْأَةً، عَلَى صَوْتِ وَالِدِي وَهُوَ يَصْرُخُ: “لَا تَمُوتِي! أَتَسْمَعِينَ؟!”

كَانَ وَاقِفًا فِي وَسَطِ الْمَطْبَخِ، يُمْسِكُ بِسِمَاعَةِ الْهَاتِفِ، وَوَجْهُهُ مُشَوَّهٌ بِالْأَلَمِ، يَئِنُّ وَيَتَمَايَلُ، وَيَهُزُّ السِّمَاعَةَ الرَّمَادِيَّةَ بِعُنْفٍ.

صَرَخْتُ بِذُعْرٍ: “بَابَا… هَلْ تَبْكِي؟”

وَلَكِنَّ وَالِدِي لَمْ يَكُنْ يَبْكِي، بَلْ تَجَمَّدَ وَجْهُهُ، وَتَحَوَّلَ إِلَى قِنَاعٍ شَاحِبٍ، جَامِدٍ، لَا يَتَحَرَّكُ.

ارْتَعَشَ جَسَدِي كُلُّهُ، تَعَبًا، وَرُعْبًا، وَبُرُودَةً قَارِسَةً. كُنْتُ أَحْتَاجُ أَنْ يَحْتَضِنَنِي أَبِي، أَنْ أَشْعُرَ بِالْعَزَاءِ وَالْحِمَايَةِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَحْتَضِنِّي، بَلْ جَرَى فِي أَرْجَاءِ الشَّقَّةِ كَثَوْرٍ جَامِحٍ، يُخَلِّفُ خَلْفَهُ فَوْضَى عَارِمَةً فِي كُلِّ مَكَانٍ.

صَرَخْتُ بِتَوَسُّلٍ: “لَا، بَابَا، لَا تَفْعَلْ…!” وَرَكَضْتُ خَلْفَهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْنِي.

فِي النِّهَايَةِ، أَمْسَكَ بِآلَتِهِ الْمُوسِيقِيَّةِ — الْكِلَارِينِيت — وَسَاكْسُوفُونِ أُمِّي، وَرَمَى بِهِمَا مِنْ نَافِذَةِ الْمَطْبَخِ.

صَرَخْتُ بِدَهْشَةٍ: “بَابَا!” حِينَ سَمِعْتُ صَوْتَ تَكَسُّرِ الآلَاتِ فِي الْفِنَاءِ.

قَالَ وَالِدِي مُرْتَبِكًا، وَهُوَ يُحَدِّقُ فِيَّ: “هِيَ مَاتَتْ يَا هَانَا.” كَانَ وَجْهُهُ شَاحِبًا مِنَ الرُّعْبِ، وَمُتَوَرِّدًا بِالْغَضَبِ وَالِانْفِعَالِ فِي آنٍ وَاحِدٍ.

“لَا أَفْهَمُ هَذَا الأَمْرَ”، قُلْتُ وَأَنَا أَمْشِي بِبُطْءٍ نَحْوَ غُرْفَتِي.

ثُمَّ أَتَى عَامٌ بَعدَ ذلك وكأَنَّه كانَ عَامَاً مَيِّتاً. لَا صُورَةَ وَاحِدَةً تَبَقَّتْ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ، لَا شَيْءَ، لَا شَيْءَ عَلَى الْإِطْلَاقِ. لَمْ أَكُنْ حَتَّى فِي جَنَازَةِ أُمِّي، فَقَدْ رَفَضَ أَبِي أَنْ يَأْخُذَنِي مَعَهُ.

وَلَكِنَّ وَالِدَي أُمِّي كَانَا يَزُورَانِي كَثِيرًا فِي تِلْكَ الأَيَّامِ الْمَيْتَةِ. كَانَا يُمْسِكَانِ بِيَدِي بِقُوَّةٍ، وَيَضْغَطَانِ عَلَى أَصَابِعِي الصَّغِيرَةِ، وَيَبْكِيَانِ، وَيُحْضِرَانِ مَعَهُمَا كَمِّيَّةً كَبِيرَةً مِنَ الْهَدَايَا.

وَكَانَا يُحَاوِلَانِ إِقْنَاعَ أَبِي أَنْ أَمْكُثَ عِنْدَهُمَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسْمَحْ. وَصَرَاحَةً، كُنْتُ أَشْعُرُ بِالرَّاحَةِ لِذَلِكَ، فَجَدِّي وَجَدَّتِي كَانَا يُخِيفَانِنِي بِتِلْكَ الْوُجُوهِ الْجَامِدَةِ الشَّاحِبَةِ، كَأَنَّهَا مَنْحُوتَةٌ مِنْ حَجَرٍ.

كُنْتُ أَعْلَمُ كَمْ كَانُوا يَتَخَاصَمُونَ مَعَ أُمِّي فِي الْهَاتِفِ. كَانُوا يُؤَنِّبُونَهَا لِأَنَّهَا لَمْ تُكْمِلْ دِرَاسَتَهَا، وَلِأَنَّهَا كَانَتْ تَعْمَلُ فِي مَقْهًى لِلطُّلَّابِ، وَلِأَنَّهَا كَانَتْ تَلْبَسُ مَلَابِسَ زَاهِيَةً، وَتَمْشِي أَحْيَانًا حَافِيَةَ الْقَدَمَيْنِ فِي الصَّيْفِ، وَلِأَنَّهَا لَمْ تَرْغَبْ فِي الْعَمَلِ فِي الْمَغْسَلَةِ الْكِيمْيَائِيَّةِ الصَّغِيرَةِ عَلَى طَرَفِ الْمَدِينَةِ، وَلِأَنَّهَا كَانَتْ تُدَخِّنُ السَّجَائِرَ، وَلِأَنَّهَا… لَمْ تَكُنْ تُؤْمِنُ بِاللهِ.

فَبَقِينَا، أَبِي وَأَنَا، وَحْدَنَا. نَعِيشُ فِي صَمْتٍ، سَاكِنَيْنِ، مَشْلُولَيْنِ، وَمَذْعُورَيْنِ، نَعِيشُ جَنْبًا إِلَى جَنْبٍ كَمَا لَوْ كُنَّا غُرَبَاءَ.

تَحَوَّلَ أَبِي أَمَامَ عَيْنَيَّ إِلَى شَبَحٍ شَاحِبٍ يَزْحَفُ بِبُطْءٍ. كَانَ حَاضِرًا غَائِبًا، وَكَانَتْ خُطَاهُ الْخَافِتَةُ تُرْعِبُنِي، خُصُوصًا حِينَ يَظْهَرُ فَجْأَةً مِنَ الْعَدَمِ خَلْفِي، وَيَدْفَعُنِي بِصَمْتٍ نَحْوَ الْمَطْبَخِ، حَيْثُ طَاوِلَةُ الْعَشَاءِ الْمُهْمَلَةُ، أَوْ إِلَى الْحَمَّامِ لِأُفَرِّشَ أَسْنَانِي.

كَانَ يَذْهَبُ إِلَى عَمَلِهِ فِي الشَّرِكَةِ، وَيُدِيرُ شُؤُونَ الْبَيْتِ بِشَكْلٍ رَدِيءٍ، ثُمَّ يَجْلِسُ فِي غُرْفَةِ الْمَعِيشَةِ لِيَقْرَأَ، وَلَا يُصْغِي إِلَيَّ حِينَ أُحَاوِلُ الْكَلَامَ مَعَهُ.

فِي يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ، ذَهَبْتُ إِلَى الْمَدْرَسَةِ، وَفِي يَوْمٍ آخَرَ، حَصَلْتُ عَلَى مَكَانٍ فِي دَارِ الْحَضَانَةِ، ثُمَّ ظَهَرَتْ فِي فَمِي أُولَى فَرَاغَاتِ الأَسْنَانِ.

وَلَكِنَّ أَبِي… لَمْ يُلَاحِظْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. كَانَ يَقْرَأُ وَيَقْرَأُ، أَوْ يَسْتَمِعُ إِلَى مُوسِيقًى حَزِينَةٍ، وَيَنْظُرُ مِنَ النَّافِذَةِ. وَلَكِنْ لَيْسَتْ نَافِذَةَ غُرْفَةِ الْمَعِيشَةِ، الَّتِي تُطِلُّ عَلَى الشَّارِعِ الصَّاخِبِ، حَيْثُ يَجْرِي نَهْرُ الْحَيَاةِ، بَلْ نَافِذَةَ الْمَطْبَخِ، الْمُطِلَّةِ عَلَى الْفِنَاءِ الْمَهْجُورِ، الدَّائِمِ الظُّلْمَةِ، حَيْثُ دَمَّرَ كِلَارِينِيتَهُ، وَسَاكْسُوفُونَ أُمِّي.

“مَاذَا تَنْظُرُ هُنَاكَ؟” كُنْتُ أَسْأَلُهُ أَحْيَانًا.

فَيُجِيبُ مُشَوَّشًا: “لَا أَعْرِفُ…”

“أَبِي، أَظُنُّ أَنَّ تَحْتَ سَرِيرِي يَعِيشُ وَحْشٌ”، قُلْتُ لَهُ فِي يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ.

“هُرَاءٌ”، قَالَ وَالِدِي.

“وَلَكِنَّنِي مُتَأَكِّدَةٌ جِدًّا”، قُلْتُ لَهُ بِإِلْحَاحٍ.

“هُرَاءٌ يَا هَانَا”، كَرَّرَ وَالِدِي. “لَا تُوجَدُ وُحُوشٌ.”

“وَلَكِنَّهُ يَمْضُغُ وَيُصْدِرُ أَصْوَاتَ مَضْغٍ”، قُلْتُ بِخَوْفٍ. “أَسْمَعُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ.”

“لَا يُوجَدُ شَيْءٌ يَمْضُغُ أَوْ يُصْدِرُ أَصْوَاتًا.” كَانَ وَالِدِي مَا يَزَالُ يُحَدِّقُ فِي الْفِنَاءِ.

“هَلْ يُمْكِنُكَ أَنْ تَتَحَقَّقَ مِنَ الأَمْرِ؟” طَلَبْتُ، وَأَنَا أَلْمَسُ ظَهْرَهُ بِلُطْفٍ.

“حَسَنًا”، تَمْتَمَ وَالِدِي، وَذَهَبْنَا جَنْبًا إِلَى جَنْبٍ إِلَى غُرْفَتِي.

انْحَنَى، وَأَلْقَى نَظْرَةً سَرِيعَةً تَفَحُّصِيَّةً تَحْتَ سَرِيرِي.

“مُجَرَّدُ غُبَارٍ”، قَالَ. “لَا شَيْءَ آخَرَ.”

ثُمَّ مَرَّرَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِي، بِلا حَوْلٍ وَلَا قُوَّةٍ، كَمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُوَاسِيَ وَلَكِنَّهُ نَسِيَ كَيْفَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْغُرْفَةِ.

“مُجَرَّدُ غُبَارٍ”، كَرَّرْتُ. “مُجَرَّدُ غُبَارٍ، وَفِي وَسَطِهِ وَحْشٌ… يَمْضُغُ، وَيُصْدِرُ أَصْوَاتًا.”

مُنْذُ ذَلِكَ الْحِينِ، أَصْبَحَتْ عَادَةً لَا مَفَرَّ مِنْهَا، أَنْ أُلْقِي نَظْرَةً تَحْتَ سَرِيرِي كُلَّ وَقْتٍ.

عِنْدَمَا أَعُودُ مِنَ الْحَضَانَةِ، أَوْ بَعْدَ التَّجْوَالِ فِي الشَّارِعِ، بَعْدَ الْعَشَاءِ، وَبَعْدَ تَنْظِيفِ أَسْنَانِي فِي الْحَمَّامِ، دَائِمًا… أُلْقِي نَظْرَةً سَرِيعَةً، خَائِفَةً، تَحْتَ سَرِيرِي.

فِي لَيْلَةٍ مَا، اسْتَيْقَظْتُ فَجْأَةً، وَوَجَدْتُ رَأْسِي يَتَدَلَّى فَوْقَ حَافَّةِ السَّرِيرِ. بِصُعُوبَةٍ شَدِيدَةٍ، نَهَضْتُ، وَامْتَلَأَتْ رُوحِي بِالْأَسَى. حَتَّى فِي نَوْمِي، كَانَ خَوْفِي مِنْ ذَلِكَ الْوَحْشِ يُمْسِكُ بِي بِقُوَّةٍ لَا تَرْحَمُ. بَدَأْتُ أَكْرَهُ حَيَاتِي.

“أَظُنُّ أَنَّنِي مَرِيضَةٌ بِالنَّوْمِ”، كَتَبْتُ فِي مُذَكَّرَتِي حِينَهَا. كُنْتُ آنَذَاكَ فِي السَّابِعَةِ وَالنِّصْفٍ مِنْ عُمْرِي، وَكُنْتُ طِفْلَةً وَحِيدَةً إِلَى حَدٍّ كَبِيرٍ. بَعْدَ الْمَدْرَسَةِ، كُنْتُ أَذْهَبُ صَامِتَةً إِلَى الْحَضَانَةِ الْقَرِيبَةِ بِنَفْسِي كُلَّ يَوْمٍ، وَهُنَاكَ، عِنْدَمَا أُنْهِي وَاجِبَاتِي الْمَنْزِلِيَّةَ، كُنْتُ أَرْسُمُ طُولَ فَتْرَةِ بَعْدِ الظُّهْرِ: دَوَائِرَ، خُطُوطًا، نُقَاطًا، وَزَخَارِفَ بِلَا نِهَايَةٍ.

كَانَ بَعْضُ الْأَطْفَالِ يَحُثُّونَنِي قَائِلِينَ: “ارْسُمِي شَيْئًا حَقِيقِيًّا!” وَلَكِنِّي كُنْتُ أَكْتَفِي بِهَزِّ رَأْسِي بِحُزْنٍ، وَأُوَاصِلُ رَسْمَ أَنْمَاطِي الْخَالِيَةِ مِنَ النَّاسِ.

“إِنَّهَا مُـمِلَّةٌ جِدًّا…” كَانُوا يَقُولُونَ وَهُمْ يَهُزُّونَ أَكْتَافَهُمْ، ثُمَّ يَتْرُكُونَنِي وَشَأْنِي.

لَمْ أَلْعَبْ مَعَهُمُ الْكُرَةَ، وَلَا لُعْبَةَ الْمَطَّاطِ، وَلَا الْاخْتِبَاءَ فِي حَدِيقَةِ الْحَضَانَةِ، وَلَا حَتَّى أَلْعَابَ الطَّاوِلَةِ فِي غُرْفَةِ اللَّعِبِ.

أَعْتَقِدُ أَنَّ السَّبَبَ كَانَ شُعُورِي الدَّائِمَ بِالنُّعَاسِ.

“أَبِي، أَظُنُّ أَنَّنِي مَرِيضَةٌ بِمَرَضِ النَّوْمِ”، أَخْبَرْتُهُ ذَاتَ مَرَّةٍ أَثْنَاءَ الْعَشَاءِ.

نَظَرَ إِلَيَّ بِنَظْرَةٍ مُشَتَّتَةٍ، وَقَالَ: “عَنْ مِثْلِ هَذَا الْمَرَضِ لَمْ أَسْمَعْ قَطُّ.” ثُمَّ شَرِبَ بِيـرَهُ حَتَّى النِّهَايَةِ.

“وَلَكِنِّي أُعَانِي مِنْهُ”، قُلْتُ بِعِنَادٍ. “مُنْذُ أَنْ غَابَتْ أُمِّي، بَدَأَتْ تِلْكَ الْحَالَةُ، وَلَمْ أَعُدْ أَسْتَطِيعُ الِاسْتِيقَاظَ تَمَامًا.”

أَغْمَضَ وَالِدِي عَيْنَيْهِ عَلَى الْفَوْرِ. رَاقَبْتُهُ، وَأَنَا أَشْعُرُ بِثِقَلٍ أَكْبَرَ فِي جُفُونِي. فَمُهُ الْمَشْدُودُ، وَعَيْنَاهُ الْقَلِقَتَانِ الْحَزِينَتَانِ، وَوَجْهُهُ الشَّاحِبُ مَعَ تِلْكَ التَّجَاعِيدِ الْغَرِيبَةِ الْمُبَعْثَرَةِ عَلَى جَبِينِهِ الْعَالِي… كُلُّ ذَلِكَ جَعَلَنِي أَزْدَادُ نُعَاسًا.

هَرَبْتُ، كَمَا فَعَلْتُ مِرَارًا، إِلَى سَرِيرِي.

وَلَكِنْ… فِي يَوْمٍ مَا، عَادَتْ إِلَيَّ الْحَيَاةُ. أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ، وَتَعَافَيتُ مِنْ مَرَضِ نَوْمِي. فَقَدْ أَتَى يَوْمٌ جَاءَتْ فِيهِ “رُوزْفِيتَا “.

بَدَأَ الْأَمْرُ حِينَ نَسِيَ وَالِدِي، أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، أَنْ يَأْخُذَنِي مِنَ الْحَضَانَةِ. كَانَتْ أَيَّامًا عَصِيبَةً بِحَقٍّ. كَانَتْ مُرَبِّيَةُ الْحَضَانَةِ تَنْظُرُ إِلَى السَّاعَةِ بِنَفَادِ صَبْرٍ بَعْدَمَا غَادَرَ جَمِيعُ الْأَطْفَالِ، ثُمَّ تَرْفُّ بِعَيْنَيْهَا بِغَضَبٍ.

“أَيْنَ وَالِدُكِ هَذِهِ الْمَرَّةَ؟” سَأَلَتْنِي.

هَزَزْتُ كَتِفَيَّ مُتَسَائِلَةً: كَيْفَ لِي أَنْ أَعْرِفَ؟

جَلَسْتُ في مَكَانِي وَأَنَا أَشْعُرُ بِالنُّعَاسِ، أَنْتَظِرُ. وَمَعَ ذَلِكَ، كَانَ يَأْتِي فِي النِّهَايَةِ كُلَّ مَرَّةٍ. رَمَقْتُهُ بِعَيْنَيَّ الْمُتْعَبَتَيْنِ، وَاعْتَذَرَ وَالِدِي بِخَجَلٍ لِمُرَبِّيَةِ الْحَضَانَةِ الَّتِي كَانَتْ تُظْهِرُ نَفَادَ صَبْرِهَا، ثُمَّ خَرَجْنَا سَوِيًّا إِلَى الْبَيْتِ.

“لِمَاذَا تَأْتِي دَائِمًا مُتَأَخِّرًا؟” سَأَلْتُهُ فِي طَرِيقِنَا إِلَى الْمَنْزِلِ. “السَّيِّدَةُ غِلَايْزَر قَدْ وَبَّخَتْني، وَقَالَتْ إِنَّيَ عِبْءٌ وَمَصْدَرُ مُشْكِلَةٍ…” كَانَ صَوْتِي مَلِيئًا بِاللَّوْمِ.

“أَنَا آسِفٌ يَا هَانَا”، قَالَ وَالِدِي، وَمَدَّ يَدَهُ الْكَبِيرَةَ لِيَمْسَحَ عَلَى خَدَّيَّ الصَّغِيرِ الْبَارِدِ لَحْظَةً وَاحِدَةً، وَكَانَ هَذَا شَيْئاً لَمْ يَفْعَلْهُ مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ.

ثُمَّ جَاءَتْ “رُوزْفِيتَا “، وَقَلَبَتْ حَيَاتِي رَأْسًا عَلَى عَقِبٍ.

“مَرْحَبًا يَا هَانَا”، قَالَتِ الْمَرْأَةُ الْغَرِيبَةُ الَّتِي ظَهَرَتْ فَجْأَةً فِي بَيْتِنَا، وَابْتَسَمَتْ لِي. “هَلْ تُرِيدِينَ فَطِيرَةً؟”

أَوْمَأْتُ بِرَأْسِي بِخَجَلٍ.

قَالَ وَالِدِي: “هَذِهِ رُوزْفِيتَا “، وَرَاقَبْتُ بِدَهْشَةٍ كَيْفَ نَظَرَ إِلَيْهَا. كَانَ نَظَرُهُ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ رَاضِيًا، قَرِيبًا مِنْ بَهْجَةٍ خَفِيفَةٍ، نَظْرَةً تُشْبِهُ جِدًّا تِلْكَ الَّتِي كَانَ يُوَجِّهُهَا لِأُمِّي فِي السَّابِقِ.

عَبَسْتُ بِجَبِينِي بِارْتِبَاكٍ، وَرَأَيْتُ يَدَ وَالِدِي تَمْتَدُّ لِتُلَامِسَ يَدَ تِلْكَ الْمَرْأَةِ الْغَرِيبَةِ.

فِيمَا بَعْدُ، خَبَزَتْ “رُوزْفِيتَا ” بُرْجًا عَالِيًا مِنَ الْفَطَائِرِ، وَكَانَ لِي شَرَفُ حَمْلِهِ إِلَى غُرْفَةِ الْمَعِيشَةِ.

تَنَاوَلْنَا أَوَّلَ وَلِيمَةٍ مُشْتَرَكَةٍ لَنَا، وَأَصْغَيْتُ بِارْتِيَاحٍ إِلَى ضَحْكَةِ وَالِدِي الْخَافِتَةِ، تِلْكَ الضَّحِكَةِ الَّتِي كِدْتُ أَنْسَاهَا. بَدَا لِي وَكَأَنَّهُ قَدْ تَغَيَّرَ تَمَامًا.

فِي فَتْرَةِ بَعْدِ الظُّهْرِ، أَقْنَعَتْ “رُوزْفِيتَا ” وَالِدِي بِزِيَارَةِ حَدِيقَةِ “تْسُولُوجِيشَة غَارْتِن”، وَرَكِبْنَا الثَّلَاثَةُ مَعًا فِي سَيَّارَةِ “رُوزْفِيتَا ” الصَّغِيرَةِ الْمُهْتَرِئَةِ، وَانْطَلَقْنَا.

فِي الْحَدِيقَةِ، اشْتَرَى لِي وَالِدِي آيْسْ كْرِيم كَبِيرًا، وَاشْتَرَتْ لِي “رُوزْفِيتَا ” مَجَلَّةً عَنِ الْحَيَوَانَاتِ، وَقَلْبًا مِنْ خُبْزِ الزَّنْجَبِيلِ مَلْفُوفًا بِعِنَايَةٍ. كَانَ مَكْتُوبًا عَلَيْهِ “حَبِيبَةٌ” بِزَخَارِفَ سُكَّرِيَّةٍ وَرْدِيَّةٍ.

قَالَتْ وَهِيَ تُعَلِّقُ الْقَلْبَ حَوْلَ عُنُقِي: “هَاكِ يَا هَانَا، هَذَا لَكِ.”

فَجْأَةً، خَفَقَ قَلْبِي بِقُوَّةٍ، وَلَمْ أَسْتَطِعِ الرَّدَّ. دَاهَمَنِي دُوَارٌ شَدِيدٌ، وَاشْتَقْتُ

إِلَى أَنْ تَحْتَوِينِي “رُوزْفِيتَا ” بَيْنَ ذِرَاعَيْهَا، أَنْ تَلْمَسَ شَعْرِي،

وَتُقَبِّلَنِي،

وَتُهَزَّنِي،

وَتَخْبِزَ لِي فَطَائِرَ جَدِيدَةً،

وَتُغَنِّيَ لِي الْأَغَانِيَّ… أَنْ تَكُونَ أُمِّي.

أُمِّي! شَعَرْتُ بِحَرَارَةٍ وَبُرُودَةٍ فِي آنٍ وَاحِدٍ، وَأَغْمَضْتُ عَيْنَيَّ لِلْحَظَةٍ. كَانَتِ الذِّكْرَى عَنْ أُمِّي تَمْلَأُ ذِهْنِي…

تَقَلَّصَتْ مَعِدَتِي بِأَلَمٍ شَدِيدٍ، حَتَّى اضْطُرِرْتُ أَنْ أَتَلَوَّى مِنَ الْوَجَعِ.

“مَاذَا بِكِ يَا هَانَا؟” سَأَلَتْ “رُوزْفِيتَا ” بِدَهْشَةٍ.

“لِمَاذَا تَتَهَيَّئِينَ هَكَذَا؟ أَلَا يُعْجِبُكِ قَلْبُ خُبْزِ الزَّنْجَبِيلِ؟”

حَدَّقْتُ فِي “رُوزْفِيتَا ” كَأَنَّنِي أَرَاهَا مِنْ خِلَالِ ضَبَابٍ كَثِيفٍ، لَمْ أَتَمَكَّنْ مِنْ تَمْيِيزِ مَلَامِحِهَا بِوُضُوحٍ.

كَانَتْ ذِكْرَيَاتُ أُمِّي تَعْصِفُ بِي كَحَيَوَانٍ صَغِيرٍ جَرِيحٍ بِشِدَّةٍ. تَذَكَّرْتُهَا فَجْأَةً، وَكَأَنَّهَا قَدْ خَرَجَتْ بِالْأَمْسِ فَقَطْ مِنَ الْبَيْتِ، تُلَوِّحُ لِي بِيَدِهَا.

شَعْرُهَا الطَّوِيلُ النَّاعِمُ، رَائِحَتُهَا الدَّافِئَةُ الْمَأْلُوفَةُ، وَجْهُهَا النَّحِيفُ الْمُبْتَسِمُ، الْمُزَيَّنُ بِالنَّمَشِ الذَّهَبِيِّ الْمُنْتَثِرِ كَأَشِعَّةِ الشَّمْسِ فِي الصَّيْفِ…

“مَامَا…” تَمْتَمْتُ وَأَنَا أَئِنُّ يَائِسَةً، وَأَسْقَطْتُ مَجَلَّةَ الْحَيَوَانَاتِ وَالآيْسْ كْرِيم عَلَى الْأَرْضِ.

غَرِقْتُ فِي دَرْبِ الْحَصَى، وَجُرِحَتْ رُكْبَتَايَ حَتَّى نَزَفَ الدَّمُ.

“هَانَا، يَا صَغِيرَتِي…” نَادَتْ “رُوزْفِيتَا ” بِقَلَقٍ وَخَوْفٍ.

بَيْنَمَا كَانَ وَالِدِي يَحْمِلُ قِطْعَةَ “الْوَافِلِ” الْمَكْسُورَةِ إِلَى سَلَّةِ الْمُهْمَلَاتِ، وَيَضَعُ مَجَلَّتِي فِي جَيْبِ سُتْرَتِهِ، احْتَضَنَتْنِي “رُوزْفِيتَا “.

هَزَّتْنِي بَيْنَ ذِرَاعَيْهَا، وَرَبَّتَتْ عَلَى ظَهْرِي بِرِقَّةٍ.

غَنَّتْ لِي لَحْنًا هَادِئًا يُوَاسِي قَلْبِي، وَوَعَدَتْنِي فِي النِّهَايَةِ أَلَّا تَتْرُكَنِي وَحِيدَةً أَبَدًا.

كَانَتْ “رُوزْفِيتَا ” صَغِيرَةً وَمُمْتَلِئَةً، ذَاتَ وَجْهٍ نَاعِمٍ مُسْتَدِيرٍ، وَعُيُونٍ كَبِيرَةٍ دَاكِنَةٍ، تَحْمِلُ جِدِّيَّةً وَعُمْقًا.

شَعْرُهَا أَسْوَدُ، مُمَشَّطٌ بِعِنَايَةٍ وَانْتِظَامٍ.

كَانَتْ رَائِحَتُهَا مُخْتَلِفَةً تَمَامًا عَنْ رَائِحَةِ أُمِّي، وَكَانَتْ أَطْرَافُ أَصَابِعِهَا الْحَانِيَةِ جَدِيدَةً وَغَرِيبَةً عَلَيَّ، وَلَكِنَّنِي لَمْ أَهْتَمَّ لِذَلِكَ.

تَعَلَّقْتُ بِهَا بِشِدَّةٍ، وَبَدَأْتُ أُحِبُّهَا مِنْ كُلِّ قَلْبِي.

فِي عِيدِ مِيلَادِي الثَّامِنِ، تَزَوَّجَ وَالِدِي مِنْ “رُوزْفِيتَا “.

“لَدَيَّ مِنْ جَدِيدٍ أُمٌّ، أُمٌّ، أُمٌّ…” كَتَبْتُ ذَلِكَ فِي مُذَكَّرَتِي الصَّغِيرَةِ، وَرَسَمْتُ حَوْلَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْعَجِيبَةِ مِئَاتِ الْقُلُوبِ الْوَرْدِيَّةِ.

زَارَنَا وَالِدَا “رُوزْفِيتَا ” فِي الصَّبَاحِ الْبَاكِرِ، وَتَفَحَّصَانِي بِعَيْنَيْنِ نَاقِدَتَيْنِ.

ارْتَبَكْتُ تَحْتَ نَظَرَاتِهِمَا الْحَادَّةِ. لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُمَا بَعْدُ، فَكُنْتُ أَشْعُرُ بِبَعْضِ الْخَجَلِ.

قَالَتْ وَالِدَةُ “رُوزْفِيتَا ” أَخِيرًا، وَهِيَ تَبْتَسِمُ وَتُقَبِّلُنِي: “نَحْنُ الْآنَ جَدَّاكِ.” ثُمَّ تَابَعَتْ: “نَادِينِي بِبَسَاطَةٍ يَا حَبِيبَتِي جَدَّةٌ.”

ثُمَّ تَوَجَّهَتْ إِلَى الْمَطْبَخِ لِتَبْدَأَ بِجَمْعِ مَائِدَةِ الْإِفْطَارِ.

الْغَرِيبُ، أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَتَحَدَّثْ عَنْ عِيدِ مِيلَادِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ.

كَانَ وَالِدِي وَحْدَهُ مَنْ وَضَعَ عَلَى مِنْضَدَةِ غُرْفَتِي فِي الصَّبَاحِ الْبَاكِرِ طَرْدًا صَغِيرًا.

قَالَ لِي وَهُوَ يُقَبِّلُ جَبِينِي بِلُطْفٍ: “عِيدُ مِيلَادٍ سَعِيدٌ.”

وَكَانَ هَذَا كُلَّ شَيْءٍ.

“الْيَوْمُ عِيدُ مِيلَادِي، رُوزْفِيتَا “، قُلْتُ وَأَنَا أَلْتَقِي بِأُمِّي الْجَدِيدَةِ فِي الْمَطْبَخِ، وَنَظَرْتُ إِلَيْهَا بِتَوَقُّعٍ.

“أَعْلَمُ”، أَجَابَتْ “رُوزْفِيتَا ” بِهُدُوءٍ، “وَأَتَمَنَّى لَكِ مِنْ قَلْبِي بَرَكَةَ اللهِ.”

صَمَتُّ، وَانْتَظَرْتُ هَدَايَايَ، كَعْكَةَ عِيدِ مِيلَادِي، وَشَمْعَاتِي.

وَلَكِنْ، لَمْ يَحْدُثْ شَيْءٌ.

مَذْهُولَةً، ذَهَبْتُ إِلَى الْحَمَّامِ لِأَغْسِلَ أَسْنَانِي.

فِي وَقْتٍ مُتَأَخِّرٍ مِنَ الصَّبَاحِ، انْطَلَقْنَا نَحْوَ الْكَنِيسَةِ.

كَانَتِ الرِّحْلَةُ طَوِيلَةً قَلِيلًا، وَكُنْتُ أَتَسَاءَلُ فِي خَاطِرِي.

“إِلَى أَيْنَ نَذْهَبُ؟” سَأَلْتُ وَالِدَةَ “رُوزْفِيتَا ” الَّتِي جَلَسَتْ إِلَى جَانِبِي فِي الْمَقْعَدِ الْخَلْفِيِّ مِنَ السَّيَّارَةِ “أُوبِل”، وَكَانَتْ تُمْسِكُ بِيَدِي بِقُوَّةٍ دَافِئَةٍ.

قَالَتْ، وَهِيَ تَضُمُّنِي لِلَحْظَةٍ: “نَذْهَبُ إِلَى كَنِيسَتِنَا، يَا قَلْبِي.”

وَصَلْنَا أَخِيرًا، وَدَخَلْنَا مِنْ بَابِ حَدِيقَةٍ صَغِيرَةٍ مُسَوَّرَةٍ، إِلَى بَيْتٍ صَغِيرٍ غَيْرِ مُبْهِرٍ، لَا يُشْبِهُ الْكَنَائِسَ الَّتِي رَسَمْتُهَا فِي خَيَالِي.

ثُمَّ انْفَتَحَ الْبَابُ عَلَى قَاعَةٍ وَاسِعَةٍ، مُصْطَفَّةٍ بِصُفُوفٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْكَرَاسِي الزَّرْقَاءِ الدَّاكِنَةِ. وَكَانَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ قَدْ سَبَقُونَا بِالْوُصُولِ.

تَلَفَّتُوا نَحْوَنَا عِنْدَمَا دَخَلْنَا.

هَمَسْتُ فِي أُذُنِ وَالِدَةِ “رُوزْفِيتَا “: “كَنِيسَةٌ غَرِيبَةٌ…”

وَبَدَأْتُ أُفَتِّشُ بِعَيْنَيَّ، دُونَ جَدْوَى، عَنْ شُمُوعٍ مُضَاءَةٍ، أَوْ صُوَرٍ لِلَّهِ، أَوْ “مَرْيَم”، أَوْ “يَسُوع”.

قَالَتْ بِهُدُوءٍ، وَهِيَ تَدْفَعُنِي بِلُطْفٍ بَيْنَ الصُّفُوفِ: “هَذِهِ قَاعَةُ مَمْلَكَتِنَا.”

قُلْتُ بِدَهْشَةٍ: “أُفَضِّلُ أَنْ أَجْلِسَ عِنْدَ بَابَا.”

هَمَسَتْ: “شْ شْ شْ، يَا قَلْبِي”، وَضَغَطَتْ عَلَى كَتِفِي لِأَجْلِسَ عَلَى كُرْسِيٍّ فَارِغٍ.

هَمَسْتُ مُسْتَفْسِرَةً: “لِمَاذَا نَجْلِسُ فِي الْخَلْفِ؟”

فَرَدَّتِ امْرَأَةٌ غَرِيبَةٌ فِي الصَّفِّ الَّذِي أَمَامِي، بِصَوْتٍ حَادٍّ وَهَمْسَةٍ صَارِمَةٍ: “شْ شْ شْ!”، وَأَلْقَتْ عَلَيَّ نَظْرَةً حَادَّةً.

ثُمَّ بَدَأَ الْقُدَّاسُ.

هَمَسْتُ بِأَدَبٍ، كَمَنْ يُخْفِي سِرًّا: “الرَّجُلُ لَا يَتَحَدَّثُ عَنِ الْعُرْسِ أَبَدًا.”

ضَغَطَتْ وَالِدَةُ “رُوزْفِيتَا ” بِإِصْبَعِهَا عَلَى شَفَتَيَّ، وَقَالَتْ: “شْ شْ شْ!”

طَالَتْ عَلَيَّ اللَّحَظَاتُ.

فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ، جَلَسَتْ “رُوزْفِيتَا ” وَوَالِدِي مَعًا. كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِمَا مِرَارًا.

وَفِي لَحْظَةٍ، لَوَّحَتْ لِي “رُوزْفِيتَا ” بِخُفْيَةٍ.

فَرَفَعْتُ يَدِي وَأَشَرْتُ لَهَا بِهُدُوءٍ.

“شْ شْ شْ!” هَمَسَتْ وَالِدَةُ “رُوزْفِيتَا “، وَوَضَعَتْ يَدَهَا عَلَى يَدِي بِرِقَّةٍ.

قَالَتْ: “نُرِيدُ أَنْ نَكُونَ هَادِئِينَ، يَا قَلْبِي.”

نَظَرْتُ حَوْلِي. كَانَ هُنَاكَ بَعْضُ الْأَطْفَالِ الْآخَرِينَ فِي هَذِهِ الْقَاعَةِ الْغَرِيبَةِ، جَمِيعُهُمْ جَالِسُونَ سَاكِنِينَ، يُصْغُونَ لِلرَّجُلِ الَّذِي يَقِفُ فِي الْمُقَدِّمَةِ عَلَى مَنْصَّةٍ صَغِيرَةٍ، وَيَتَحَدَّثُ فِي الْمِيكْرُوفُونِ.

كَانَ يَرْتَدِي بَدْلَةً عَادِيَّةً، وَيَتَكَلَّمُ وَيَتَكَلَّمُ وَيَتَكَلَّمُ… بِلَا تَوَقُّفٍ.

اتَّكأتُ بِضِيَاعٍ عَلَى كُرْسِيِّي، أَنْتَظِرُ.

رُبَّمَا هَذَا لَيْسَ حَفْلَ الْعُرْسِ، خَطَرَ فِي بَالِي.

رُبَّمَا كَانَ هَذَا شَيْئًا آخَرَ، وَأَنَّ الْعُرْسَ سَيَأْتِي بَعْدَهُ.

حَرَّكْتُ سَاقِيَ الْيُسْرَى قَلِيلًا، فَقَدْ كَانَتْ تَخَدَّرَتْ.

“شْ شْ شْ!” هَمَسَتْ وَالِدَةُ “رُوزْفِيتَا ” فَوْرًا.

وَلَكِنَّنِي وَاصَلْتُ التَّمَلْمُلَ…

فَجْأَةً، سَمِعْتُ اسْمِي يُنَادَى.

قَفَزْتُ مِنْ مَكَانِي دُونَ تَفْكِير.

ثُمَّ نَادَى الرَّجُلُ نَفْسُهُ عَلَى اسْمِ أَبِي.

اِلْتَفَتَ الحَاضِرُونَ نَحْوِي، وَفِي عُيُونِهِمْ بَسْمَاتٌ دَافِئَةٌ، تُخَفِّفُ مِنْ وَقْعِ اللَّحْظَةِ.

اِحْمَرَّتْ وَجْنَتَايَ، وَوَضَعَتْ “رُوزْفِيتَا ” ذِرَاعَهَا بِلُطْفٍ عَلَى كَتِفِي، كَأَنَّهَا تَحْتَضِنُنِي بِالصَّمْتِ.

كَرَّرَ الرَّجُلُ الَّذِي عَلَى المِنْبَرِ اسْمَ أَبِي، ثُمَّ بَدَأَ يَتَحَدَّثُ عَنْ “رُوزْفِيتَا ” بِكَلِمَاتٍ رَصِينَةٍ.

قَامَا سَوِيًّا مِنْ مَقْعَدَيْهِمَا، وَسَارَا نَحْوَ الأَمَامِ.

وَاصَلَ الرَّجُلُ ذُو البَذْلَةِ الرَّمَادِيَّةِ كَلَامَهُ لِبُرْهَةٍ، ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ وَصَافَحَ أَبِي بِحَرَارَةٍ.

وَأَمَّا “رُوزْفِيتَا “، فَقَدِ احْتَضَنَهَا بِحَنَانٍ لَمْ أَعْهَدْهُ فِي عَيْنَيْ أَبِي.

تَلَتْ ذَلِكَ أَنَاشِيدُ تَرْتِيلٍ رَتَّلَهَا الجَمْعُ.

وَقَفْتُ مُنْهَكَةً إِلَى جَانِبِ “جَدَّتِي الجَدِيدَةِ”.

كَانَ الجَوُّ ثَقِيلًا، وَالتَّعَبُ يُثْقِلُ أَطْرَافِي، وَمَعِدَتِي تُنْذِرُنِي بِجُوعٍ قَاسٍ.

وَفَوْقَ ذَلِكَ كُلِّهِ، كَانَ فِي نَفْسِي وَجَعٌ صَامِتٌ… لِأَنَّهُمْ نَسُوا يَوْمَ مِيلَادِي، ذَلِكَ اليَوْمُ الَّذِي يَخُصُّنِي أَنَا أَيْضًا.

نَظَرْتُ إِلَى أَبِي، وَفِي عَيْنَيَّ حُزْنٌ وَحَيْرَةٌ.

كَانَ يَقِفُ إِلَى جَانِبِ “رُوزْفِيتَا “، يُغَنِّي بِصَوْتٍ خَافِتٍ، وَعَيْنَاهُ مُثَبَّتَتَانِ فِي كِتَابِ الأَنَاشِيدِ الصَّغِيرِ، ذِي الغِلَافِ الرَّمَادِيِّ.

لَمْ يَنْظُرْ نَحْوِي، وَلَا مَرَّةً وَاحِدَةً.

فَجْأَةً، خَطَرَ طَيْفُ أُمِّي فِي خَيَالِي.

أَغْمَضْتُ عَيْنَيَّ، وَرُحْتُ أُقَارِنُهَا بِـ “رُوزْفِيتَا “.

وَفِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، اجْتَاحَنِي إِحْسَاسٌ مُرِيعٌ، كَأَنَّ شَيْئًا سَيِّئًا قَدْ وَقَعَ.

فَتَحْتُ عَيْنَيَّ بِنَفْضَةِ فَزَعٍ، وَانْزَلَقْتُ عَنِ الكُرْسِيِّ.

صَرَخْتُ: “بَابَا!”

صَوْتِي كَانَ عَالِيًا بِقَدْرٍ لا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُه.

هَمَسَتْ وَالِدَةُ “رُوزْفِيتَا ” بِدَهْشَةٍ: “بَسْتْ!”

اِلْتَفَتَ أَبِي وَ”رُوزْفِيتَا ” نَحْوَ صَوْتِي، وَبَيْنَنَا قُرَابَةُ عَشَرَةِ صُفُوفٍ مِنَ الكَرَاسِي.

هَمَسْتُ بِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ يَائِسٍ: “بَابَا، لَقَدْ نَسِيتُ كَيْفَ تَبْدُو.”

أَغْمَضْتُ عَيْنَيَّ بِقُوَّةٍ، وَلَكِنَّ الدُّمُوعَ جَرَتْ، تُبَلِّلُ وَجْهِي خِلَالَ ثَوَانٍ قَلِيلَةٍ.

قَالَتْ وَالِدَةُ “رُوزْفِيتَا ” بِنَبْرَةٍ حَازِمَةٍ: “هَانَا، مَا الَّذِي أَصَابَكِ؟”

ضَغَطْتُ قَبْضَتَيَّ عَلَى عَيْنَيَّ، كَأَنِّي أُرِيدُ مَحْوَ كُلِّ مَا حَوْلِي، وَلَكِنْ… لَمْ يُجْدِ نَفْعًا.

بَقِيتُ أَبْكِي، وَبَدَأَتِ القَاعَةُ تَفْقِدُ سَكِينَتَهَا، وَالْوُجُوهُ حَوْلِي تَتَلَفَّتُ فِي قَلَقٍ.

فَجْأَةً، وَجَدْتُ الرَّجُلَ ذَا البَذْلَةِ الرَّمَادِيَّةِ، الَّذِي كَانَ عَلَى المِنْبَرِ، يَقِفُ إِلَى جَانِبِي.

تَرَكْتُ يَدَيَّ تَهْبِطَانِ بَصَمْتٍ، وَصَغَّرْتُ نَفْسِي كَمَا لَمْ أَفْعَلْ مِنْ قَبْلُ.

قَالَ الرَّجُلُ ذُو البَذْلَةِ الرَّمَادِيَّةِ بِلُطْفٍ: “أَنَا الأَخُ يوخِن.”

ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ الكَبِيرَةَ، وَوَضَعَهَا عَلَى رَأْسِي بِحَنَانٍ، وَقَالَ: “تَعَالَي، يَا فَتَاةَ الحُزْنِ، سَأُوصِلُكِ إِلَى أَبِيكِ.”

وَفِعْلًا… فَعَلَ.

أَخَذَ بِيَدَيَّ الصَّغِيرَتَيْنِ، وَسَارَ بِي نَحْوَ أَبِي وَ”رُوزْفِيتَا”، خُطُوَاتٍ هَادِئَةً، كَأَنَّهُ يَنْتَشِلُنِي مِنْ بُرُودَةِ المَكَانِ.

قَالَ “الأَخُ يوخِن” بِوَدَاعَةٍ: “مِنَ الأَفْضَلِ أَنْ تَجْلِسِي بَيْنَ وَالِدَيْكِ.”

وَجَلَبَ لِي كُرْسِيًّا، فَجَلَسْتُ بَيْنَهُمَا.

هَمَسْتُ بِصَوْتٍ خَفِيفٍ، يَغْمُرُهُ الِارْتِيَاحُ: “شُكْرًا.”

وَرَعْشَةٌ دَافِئَةٌ تَسَلَّلَتْ فِي أَطْرَافِي وَأَنَا أَغُوصُ فِي مَقْعَدِي الجَدِيدِ، كَأَنَّهُ مَلَاذٌ صَغِيرٌ فِي عَالَمٍ كَبِيرٍ.

قَبَضَتْ “رُوزْفِيتَا” عَلَى يَدِي، وَضَغَطَتْهَا بِلُطْفٍ يُوَاسِي وَيُطَمْئِنُ.

اِنْحَنَيْتُ نَحْوَ أُذُنِهَا، وَهَمَسْتُ بِنَبْرَةٍ تَتَخَاتَلُ فِيهَا العَبْرَاتُ: “لَقَدْ نَسِيتُ كَيْفَ كَانَتْ أُمِّي تَبْدُو… لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَتَذَكَّرَهَا الآن.”

وَعَادَ الدَّمْعُ يُسَافِرُ عَلَى خَدَّيَّ.

فَرَدَّتْ “رُوزْفِيتَا” بِهُدُوءٍ، وَفِي صَوْتِهَا نَبْضَةُ حَنَانٍ: “لَا تَحْزَنِي مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ.

فِي أَعْمَاقِ قَلْبِكِ مَصُونَةٌ صُورَتُهَا، وَأَظُنُّ أَنَّ هَذَا هُوَ الأَهَمُّ.”

وَاصَلْتُ البُكَاءَ، وَلَكِنْ كَانَ فِي قَلْبِي بَارِقَةُ سُرُورٍ خَفِيَّة، لِأَنَّ “رُوزْفِيتَا” لَمْ تَقُلْ لِي هَذِهِ المَرَّةَ: “بَسْت!”

ثُمَّ أَضَافَتْ بِنَبْرَةٍ نَاعِمَةٍ، كَأَنَّهَا تَنْسُجُ لِي وَطَنًا مِنْ كَلِمَاتٍ: “مِنَ الآنَ فَصَاعِدًا، سَأَكُونُ أُمَّكِ، هَكَذَا شَاءَ اللهُ.”

أَوْمَأْتُ بِرَأْسِي وَقَلْبِي يَهْدَأُ بَطَاءً، كَمَنْ يَسْتَدِلُّ طَرِيقَهُ إِلَى السَّكِينَةِ بَعْدَ تَائِهٍ طَوِيلٍ.

عَادَ “الأَخُ يوخِن” يُرَتِّلُ الكَلِمَاتِ مِنْ جَدِيد، وَلَكِنَّ عَيْنَيْهِ كَانَتْ تَتَفَقَّدَانِي بَيْنَ الحِينِ وَالآخَرِ، وَكُلَّمَا الْتَقَتْ أَعْيُنُنَا، بَسَمَ لِي بِتَشْجِيعٍ، كَمَنْ يَقُولُ: “أَنْتِ لَسْتِ وَحِيدَة.”

هَمَسْتُ لَهُ بِصَوْتٍ خَافِتٍ، تَتَخَلَّلُهُ مَسْحَةُ خَجَلٍ: “مَتَى سَتَتَزَوَّجَانِ نِهَايَةً؟”

فَسَبَقَتْهَا “رُوزْفِيتَا” بِجَوَابٍ رَقِيقٍ: “لَقَدْ تَزَوَّجْنَا بِالفِعْلِ، فَالأَخُ يوخِن هُوَ مَنْ أَجْرَى لَنَا العُرْسَ. أَلَمْ تَنْتَبِهِي؟”

اِنْفَتَحَ فَمِي دَهْشَةً، كَيْفَ لَمْ أُدْرِكْ ذَلِكَ؟ كَيْفَ مَرَّ كُلُّ ذَاكَ وَأَنَا غَارِقَةٌ فِي زَحَامِ مَشَاعِرِي؟

لَمْ أَكُنْ أَتَخَيَّلُ الحَفْلَ هَكَذَا، وَلَكِنَّهُ -عَلَى كُلِّ حَالٍ- كَانَ أَوَّلَ عُرْسٍ فِي حَيَاتِي.

وَمَعَ مَرِّ الأَيَّامِ، كَانَتْ ذِكْرَى أُمِّي تَتَلاشَى بِهُدُوءٍ، كَمَا تَتَبَخَّرُ قَطْرَاتُ النَّدَى عَلى وَرَقِ الزَّهْرِ.

حَاوَلْتُ أَنْ أُوَقِفَ ذَلِكَ، لَكِنَّ كُلَّ مُحَاوَلَاتِي بَاءَتْ بِالفَشَلِ.

أَوَّلُ مَا نَسِيتُهُ كَانَ صَوْتَهَا، ثُمَّ مَلَامِحَ وَجْهِهَا، وَبِالتَّدْرِيجِ، خَبَا عَنِّي عِطْرُ شَعْرِهَا المُشَوَّشِ، وَلَمْ تَعُدْ أَصَابِعُهَا الدَّافِئَةُ وَضَحِكَتُهَا المُحِبَّةُ تُقِيمُ فِي ذَاكِرَتِي.

أَحْيَانًا، كُنْتُ أَبْكِي فِي اللَّيْلِ، وَأَنَا عَلَى سَرِيرِي، خُفْيَةً، كَيْ لَا يَرَانِي أَحَد.

سَأَلْتُ أَبِي فِي أَحَدِ المَرَّاتِ: “هَلْ يُمْكِنُنِي أَنْ أَحْصَلَ عَلَى صُورَةٍ لِأُمِّي؟”

فَأَجَابَنِي بِنَبْرَةٍ غَامِضَةٍ: “كُلُّ الأَشْيَاءِ القَدِيمَةِ فِي القَاعَةِ التَّحْتِيَّةِ.”

ثُمَّ أَخَذَ يَتَجَهَّزُ لِلذَّهَابِ إِلَى المَطْبَخِ، حَيْثُ كَانَتْ “رُوزْفِيتَا” تُعِدُّ مَائِدَةَ العَشَاءِ.

فَهَمَسْتُ بِخَجَلٍ وَصَوْتٍ يَتَخَلْخَلُهُ الأَمَلُ: “لَعَلِّي أَنْ أَنْزِلَ وَأَتَفَقَّدَ.”

وَكَانَ قَلْبِي يَدُقُّ كَطُبَاوْل مَعْرَكَةٍ خَفِيَّة.

فَقَالَ أَبِي بِشَيءٍ مِنَ التَّوَتُّرِ: “فِي وَقْتٍ آخَرَ، يَا هَانَا.”

وَأَلْقَى نَحْوِي نَظْرَةً سَرِيعَةً، فِيهَا تَحْذِيرٌ، وَشَيءٌ مِنَ الامْتِعَاضِ.

مُنذُ أنْ تَزَوَّجَ أَبي رُوزْفِيتَا، أَصبَحَ يَتَجَنَّبُ الكَلامَ عَن أُمِّي، وكَأنَّ ذَلِكَ يُزعِجهُ.

وَلِذلِكَ، لَم أَحصَلْ على صُورةٍ لَها لِسَنَواتٍ طِوَالٍ.

كذلك، نَسِيتُ تَاريخَ ميلادِها وَتَاريخَ حادِثِها المُرِيع.

ومَضَيتُ أَبعَدُ عن الحُزنِ.

مَنَعتُ نَفسي عَن التَّفكيرِ فيها، وَإذا سَأَلَنِي أَحَدٌ عَن أُمِّي، تَظاهَرْتُ أَنَّها لَم تَكُنْ أَبَدًا، وحَكيتُ عَن رُوزْفِيتَا بَدَلًا مِنْها.

كانَ أَبي يَخرُجُ كُلَّ صَباحٍ مِنَ البَيتِ، ويَعودُ في المُساءِ مُتأخِّرًا مِنَ العَملِ.

أَمّا أَنا، فلم أَعُدْ أَذهبُ إلى دَارِ الأَطفالِ.

فَقَد كَانت رُوزْفِيتَا تُلاعبُنِي، وتَقرَأُ لي، وَعلَّمتني بِالتَّدريجِ الحِياكَةَ، والكَروشيه، والتَّطريز.

خِلالَ ذَلِكَ الوَقتِ، حَبِلَت ثلاثَ مَرّاتٍ، ووُلِدَ لِي ثلاثةُ إِخوةٍ صِغارٍ.

فِي أَحَدِ الأَيَّامِ، كَتَبْتُ فِي مُذَكَّرَتِي: “هَؤُلَاءِ هُمُ النَّاسُ الَّذِينَ أُحِبُّهُمْ: بِنْيَامِين، يَعْقُوب، وَمَارْكُوس (إِخْوَتِي)، أَبِي وَ رُوزْفِيتَا (وَالِدَايَ)، الأَخُ يُوخِن (أَكْبَرُنَا)، جَدِّي وَجَدَّتِي، ريِبيكَة وَإِسْتِير (صَدِيقَتَايَ).”

كَانَ جَدِّي وَجَدَّتِي مِنْ جَانِبِ ” رُوزْفِيتَا”، وَقَدْ أَحْبَبْتُهُمَا بِبَسَاطَةٍ، لِأَنَّهُمَا كَانَا مِنْ عَائِلَتِنَا، وَلِأَنَّنِي كُنْتُ قَدْ شَعَرْتُ بِخَيْبَةِ أَمَلٍ تُجَاهَ أَجْدَادِي الآخَرِينَ الَّذِينَ تَوَقَّفُوا عَن زِيَارَتِنَا كَثِيرًا بَعْدَ زَوَاجِ أَبِي وَ” رُوزْفِيتَا “.

وَمَعَ ذَلِكَ، كَانَ وَالِدَا ” رُوزْفِيتَا ” صَارِمَيْنِ مَعَنَا نَحْنُ الأَطْفَالَ.

كَانُوا يَرَوْنَنِي صَاخِبَةً جِدًّا، وَجَرِيئَةً، وَقَلِقَةً، وَلِذَلِكَ لَمْ يُفَضِّلُوا أَنْ أَذْهَبَ مَعَهُم إِلَى قَاعَةِ المَمْلَكَةِ أَثْنَاءَ الاجْتِمَاعَاتِ، وَلَا عِنْدَ الخُرُوجِ لِلْخِدْمَةِ الوَعْظِيَّةِ.

أَمَّا إِخْوَتِي الصِّغَارُ، فَكَانُوا أَقْرَبَ إِلَيْهِم، خَاصَّةً “بِنْيَامِين”، لِأَنَّهُ كَانَ أَصْغَرَنَا، لَطِيفًا، وَمُطِيعًا.

وَلَكِنَّ ” رُوزْفِيتَا ” كَانَتْ تَأْخُذُنَا جَمِيعًا، وَتَقُودُنَا بِبَهْجَةٍ وَسُرُورٍ، تَتَنَقَّلُ بَيْنَ الْبُيُوتِ بِنَشَاطٍ كَمَنْ يُهْدِي بَذُورَ النُّورِ.

فِي تِلْكَ الفَتْرَةِ، كُنْتُ قَدْ فَهِمْتُ طَبِيعَةَ الكَنِيسَةِ الَّتِي انْضَمَمْنَا إِلَيْهَا مُنْذُ صِغَرِي، بَعْدَ أَنْ أَصْبَحَتْ ” رُوزْفِيتَا ” جُزْءًا مِنْ حَيَاتِنَا.

كُنَّا شُهُودَ يَهْوَه.

وَكُنْتُ أُحِبُّ كَنِيسَتَنَا بِكُلِّ قَلْبِي.

وَكَنَبْرَةِ فَخْرٍ صَادِقَةٍ، دَوَّنْتُ فِي مُذَكَّرَتِي: “نَحْنُ شُهُودُ يَهْوَه، وَلِذَلِكَ نَحْنُ نَاسٌ مُخْتَارُون.”

قَبْلَ وِلَادَةِ “يَعْقُوب”، “مَارْكُوس”، وَ”بِنْيَامِين”، كَانَتْ ” رُوزْفِيتَا ” تَأْخُذُنِي وَحْدِي مَعَهَا فِي الخِدْمَةِ الوَعْظِيَّةِ، نُخْبِرُ النَّاسَ عَنْ “يَهْوَه”.

فِي البِدَايَةِ، كُنْتُ خَجُولَةً جِدًّا، وَلَكِنَّ ” رُوزْفِيتَا ” كَانَتْ تَدْفَعُنِي بِفَخْرٍ أَمَامَهَا كُلَّمَا دُعِيَتْ إِلَى زِيَارَةِ بَيْتٍ غَرِيبٍ، وَتُدْخِلُنَا فِي حِوَارٍ مَعَ سُكَّانِهِ.

وَكَانَتْ تَقُولُ كُلَّ مَرَّةٍ تِلْكَ الجُمْلَةَ الَّتِي كُنْتُ أَعْشَقُهَا: “هَذِهِ ابْنَتِي هَانَّا، أَغْلَى كَنْزٍ أَوْكَلَهُ إِلَيْنَا إِلَهُنَا حَتَّى الآنَ…”

كُنْتُ أُحِبُّ الخِدْمَةَ الوَعْظِيَّةَ لِسَبَبٍ وَاحِدٍ: كَيْ أَسْمَعَ هَذِهِ الكَلِمَاتِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ.

ثُمَّ، فِي نِهَايَةِ كُلِّ شَهْرٍ، كَانَتْ ” رُوزْفِيتَا ” تَصْحَبُنِي إِلَى “الأَخِ يُوخِن”، وَتُخْبِرُهُ بِتَقْرِيرٍ دَقِيقٍ عَنْ عَدَدِ النَّاسِ الَّذِينَ تَحَدَّثَتْ إِلَيْهِمْ خِلَالَ الثَّلَاثِينَ يَوْمًا المَاضِيَةِ عَنْ كَنِيسَتِنَا وَرَبِّنَا “يَهْوَه”.

كُنْتُ أُحِبُّ تِلْكَ الأَمْسِيَاتِ فِي بَيْتِ “الأَخِ يُوخِن”.

فَزَوْجَتُهُ، الَّتِي كُنْتُ أُنَادِيهَا “الأُخْتَ بْرِيجِيتْ”، كَانَتْ تُحْضِرُ لِي عَصِيرَ الكَرَزِ، وَتُهْدِينِي صُوَرًا صَغِيرَةً لِيَسُوع، كُنْتُ أُلْصِقُهَا فِي كِتَابِ الأَطْفَالِ المُقَدَّسِ لِشُهُودِ يَهْوَه.

وَبَيْنَمَا كَانَ “الأَخُ يُوخِن” وَ” رُوزْفِيتَا ” يَتَحَادَثَانِ طَوِيلًا، كُنْتُ أَجْلِسُ إِلَى جَانِبِهِمَا، أُلاَطِفُ قِطَّتَهُ، أَوْ أَعْزِفُ بِلَطَافَةٍ عَلَى البِيَانُو.

وَفِي نِهَايَةِ كُلِّ زِيَارَةٍ، كَانَ “الأَخُ يُوخِن” يَنْظُرُ إِلَيَّ بِابْتِسَامَةٍ دَافِئَةٍ، ثُمَّ يَسْأَلُنِي: “كَيْفَ حَالُكِ يَا هَانَّا؟ كَمْ عَدَدَ صُحُفِنَا الَّتِي وَزَّعْتِهَا فِي الأَسَابِيعِ الأَرْبَعَةِ المَاضِيَةِ؟”

فَأَبْتَسِمُ لَهُ بِفَخْرٍ، وَأُخْرِجُ دَفْتَرِي الصَّغِيرَ، دَفْتَرَ الخِدْمَةِ الوَعْظِيَّةِ، وَأَبْدَأُ العَدَّ سَرِيعًا.

“عَشْرُ صُحُفٍ”، أُجِيبُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الأَمْسِيَاتِ.

فَيَبْتَسِمُ “الأَخُ يُوخِن” بِرِضًا وَهُدُوء.

أَحْيَانًا، كُنْتُ أَقُولُ: “عِشْرِينَ”، أَوْ حَتَّى “ثَلَاثِينَ”، فَأَجِدُ نَفْسِي أَمَامَ هَدِيَّةٍ صَغِيرَةٍ: صُورَةٍ مُقَدَّسَةٍ أُضِيفُهَا إِلَى دَفْتَرِي، أَوْ كُتَيِّبٍ لِلأَطْفَالِ.

وَلَكِن، إِذَا كَانَ مَا وَزَّعْتُهُ قَلِيلًا، تَغْشَى مَلَامِحَ “الأَخِ يُوخِن” خَيْبَةُ أَمَلٍ، وَيَمْتَنِعُ عَنِ الإِهْدَاءِ.

وَيَقُولُ لِي، وَهُوَ يَجْذِبُنِي إِلَيْهِ بِرِقَّةٍ: “أَنْتِ فَتَاةٌ كَبِيرَةٌ الآنَ. وَقَدْ وَعَدْتِ أَنْ تُسَاعِدِي وَالِدَتَكِ فِي إِخْبَارِ النَّاسِ الجَاهِلِينَ عَنْ رَبِّنَا يَهْوَه. هَلْ نَسِيتِ ذَلِكَ؟”

فَأَهُزُّ رَأْسِي نَفْيًا، بِلِينٍ وَتَوَاضُع.

فَيُضِيفُ بِصَوْتٍ وَاثِقٍ: “الخِدْمَةُ الوَعْظِيَّةُ شَرَفٌ كَبِيرٌ لَكِ يَا هَانَّا.”

فَأُوَافِقُهُ بِإِيمَاءَةٍ.

“يَهْوَه أَوْكَلَ إِلَيْكِ مَسْؤُولِيَّةً عَظِيمَةً، وَعَلَيْكِ أَنْ تَفْتَخِرِي بِهَا. هَلْ أَنْتِ فَخُورَةٌ بِذَلِكَ، يَا هَانَّا؟”

فَأُجَدِّدُ الهَزَّةَ بِرَأْسِي.

فَيَقُولُ مُبْتَسِمًا، وَعَيْنَاهُ الزَّرْقَاوَانِ تَسْتَقِرَّانِ عَلَيَّ بِرِقَّةٍ وَرِضًا: “هَذَا هُوَ!”

خَمْسُ سَنَوَاتٍ مَرَّتْ مُنْذُ زِفَافِ وَالِدَيَّ. خَمْسُ سَنَوَاتٍ قَضَيْتُهَا فِي هَنَاءٍ وَسَلَامٍ.

ذَلِكَ الوَحْشُ الَّذِي كَانَ يَخْتَبِئُ تَحْتَ سَرِيرِي اخْتَفَى كَمَا ظَهَرَ يَوْمًا: بِلَا صَوْتٍ، بَعْدَ وَفَاةِ أُمِّي.

صَارَتْ نَوْبَاتُ نَوْمِي ذِكْرَى، وَتَحَوَّلَتْ إِلَى مَاضٍ لَا يَطْرُقُ أَبْوَابَ لَيْلِي.

وُلِدَ “يَعْقُوب”، وَ”مَارْكُوس”، وَ”بِنْيَامِين”، وَانْتَقَلْنَا أَخِيرًا إِلَى شَقَّةٍ أَكْبَرَ.

وَكَانَ مَعَنَا “يَهْوَه”…

الَّذِي يَحْرُسُ حَيَاتَنَا، وَخُصُوصًا: حَيَاةَ وَالِدِي.

تَغَيَّرَ أَبِي كَثِيرًا…

لَمْ يَعُدْ ذَلِكَ الرَّجُلَ الصَّامِتَ، الجَادَّ، الحَزِينَ، المُتَأَمِّلَ كَمَا عَهِدْتُهُ. بَلْ أَصْبَحَ يَقْضِي سَاعَاتٍ طَوِيلَةً فِي “قَاعَةِ مَمْلَكَتِنَا”، يُوَاظِبُ عَلَى حُضُورِ كُلِّ الاِجْتِمَاعَاتِ، وَيُلْقِي أَحْيَانًا كَلِمَةً وَعْظِيَّةً أَمَامَ الجَمَاعَةِ.

صَارَ “الأَخُ يُوخِن”، أَكْبَرُ أَعْضَاءِ جَمَاعَتِنَا، صَدِيقَهُ الأَقْرَبَ، وَمُرْشِدَهُ الرُّوحِيَّ.

وَفِي الأَمْسِيَاتِ، كَانَا يَجْلِسَانِ طَوِيلًا فِي غُرْفَةِ المَعِيشَةِ، يَتَفَكَّرَانِ فِي نُصُوصِ الكِتَابِ المُقَدَّسِ، وَيَتَفَسَّرَانِ مَعًا مَا خَطَّهُ يَهْوَهُ لِعِبَادِهِ.

وَلَمْ يَعُدْ نَظَرُ أَبِي كَئِيبًا، وَلَا مَثْقلًا بِالهُمُومِ، بَلْ أَصْبَحَ مُمْتَلِئًا بِالسَّكِينَةِ، تَشِيعُ فِيهِ رِضًا هَادِئٌ، وَأَحْيَانًا كَانَتْ تَطِلُّ عَلَى وَجْهِهِ ابْتِسَامَةٌ مُفَاجِئَةٌ، كَأَنَّهَا وُلِدَتْ فِي أَعْمَاقِهِ وَانْدَفَعَتْ نَحْوَ الضِّيَاءِ.

وَفِي كُلِّ مَسَاءٍ، كَانَتْ “رُوزْفِيتَا” تَقُولُ بِصَوْتٍ خَافِتٍ: “لَقَدْ بَدَأَ أَبُوكِ يَدْرُسُ الآنَ.”

وَعِنْدَهَا، كُنَّا نَمْشِي عَلَى رُؤُوسِ أَصَابِعِنَا فِي المَمَرِّ، نَتَسَلَّلُ إِلَى غُرَفِنَا الصَّغِيرَةِ بِهُدُوءٍ، كَأَنَّنَا نَخْشَى كَسْرَ نَفَسِ السَّكِينَةِ.

وَإِلَى جَانِبِ وَالِدِي، كَانَ “الأَخُ يُوخن” وَ”الأَخُ بَاوْل” يَدْرُسَانِ أَيْضًا. كَانَا يَزُورَانِنَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي الأُسْبُوعِ، فِي بَعْدِ الظَّهِيرَةِ، وَيَغُوصُونَ سَوِيًّا فِي أَعْمَاقِ كَلِمَاتِ يَهْوَهِ المُقَدَّسَةِ.

كُنْتُ أُحِبُّ تِلْكَ الأَمْسِيَاتِ…

لِأَنَّ “الأَخَ بَاوْل” وَ”الأَخَ يُوخِن” كَانَا يَصْحَبَانِ أَوْلَادَهُمَا مَعَهُمَا كُلَّمَا أَتَيَا.

كَانَتْ “إِسْتِيرْ” ابْنَةَ “الأَخِ بَاوْل”، وَ”رِيبِكَّا” ابْنَةَ “الأَخِ يُوخِن”.

وَبَعْدَ فَتْرَةٍ قَصِيرَةٍ، كَانَ “الأَخُ بَاوْل” يُنَادِينَا بِصَوْتٍ دَافِئٍ: “تَعَالَوْا إِلَى غُرْفَةِ المَعِيشَةِ يَا أَطْفَال، لَدَيْنَا نَصٌّ رَائِعٌ مِنَ الكِتَابِ المُقَدَّسِ نُرِيدُ أَنْ نَدْرُسَهُ مَعًا.”

وَفِي أَحَدِ الأَيَّامِ، عِنْدَمَا وَصَلَنَا النِّدَاءُ، أمَالَتْ “رِيبِكَّا” عَيْنَيْهَا بِغَضَبٍ صَامِتٍ، وَهَمَسَتْ بِنَبْرَةٍ حَادَّةٍ: “أَظُنُّ أَنَّنِي أَكْرَهُ هَذِهِ الدِّرَاسَةَ المُمِلَّةَ وَالغَبِيَّةَ لِلكِتَابِ المُقَدَّسِ.”

اتَّسَعَتْ عَيْنَايَ بِفَزَعٍ، وَهَمَسْتُ بِخَوْفٍ: “هَلْ جَنَنْتِ؟! أَلَا تَعْلَمِينَ أَنَّ يَهْوَهَ يَسْمَعُكِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ؟ سَيَطْرُدُكِ مِنَ الجَنَّةِ إِذَا تَحَدَّثْتِ هَكَذَا! سَيُهْلِكُكِ مِثْلَ سَائِرِ الكُفَّار!”

تَبَادَلْنَا النَّظَرَاتِ فِي صَمْتٍ مَرْتَبِكٍ…

ثُمَّ هَمَسَتْ “رِيبِكَّا” بِحَيْرَةٍ: “أَطْفَالُ صَفِّي يَقُولُونَ إِنَّ كُلَّ شُهُودِ يَهْوَهَ أَغْبِيَاء…”

وَمَا لَبِثَ وَجْهُهَا أَنْ شَحُبَ، كَمَنْ أَدْرَكَهُ خَوْفٌ مُبَاغِت.

فَقُلْتُ لَهَا بِصَوْتٍ خَافِتٍ: “هَذَا كَلَامٌ فَارِغ. سَيَنْتَظِرُونَ حَتَّى يَأْتِي يَسُوعُ مِنَ السَّمَاءِ، وَيَقْسِمَ العَالَمَ إِلَى خَيْرٍ وَشَرٍّ… وَعِنْدَهَا، سَيَمُوتُونَ جَمِيعًا…”

وَأَوْمَأَتْ “إِسْتِيرْ” بِرَأْسِهَا، وَقَالَتْ بِرِضًا هَادِئٍ: “حِينَهَا سَيَمُوتُونَ جَمِيعًا.”

ثُمَّ سَارَتْ خُطَانَا الثَّلَاثَةِ بِهُدُوءٍ نَحْوَ غُرْفَةِ المَعِيشَةِ، حَيْثُ كَانَ وَالِدَانَا يَنْتَظِرُونَنَا…

كَانَ ٱلصَّيْفُ، وَكُنْتُ فِي ٱلثَّالِثَةِ عَشْرَةَ مِنْ عُمْرِي. كَانَتِ ٱلشَّمْسُ تَحْرِقُ ٱلسَّمَاءَ مُنْذُ أَسَابِيعَ، وَكَانَتِ ٱلْمَدِينَةُ حَارَّةً كَفُرْنٍ سَاخِنٍ.

قَالَ يَعْقُوبُ، ٱلَّذِي أَتَمَّ عَامَهُ ٱلرَّابِعَ مُنْذُ أَسَابِيعَ قَلِيلَةٍ، وَهُوَ يُتَأَمَّلُ فِي ٱلْبُعْدِ: “رُبَّمَا ذَهَبَ ٱلرِّيحُ فِي رِحْلَةٍ.”

ٱبْتَسَمْتُ لَهُ وَنَظَرْتُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ. كَانَ يَعْقُوبُ عَلَى حَقٍّ، فَلَمْ تَكُنْ هُنَاكَ أَيُّ نَسْمَةٍ. كَانَتِ ٱلْغُيُومُ ٱلْبَيْضَاءُ ثَابِتَةً سَاكِنَةً فِي سَمَاءِ ٱلصَّيْفِ ٱلصَّافِيَةِ.

كَانَتِ ٱلْعُطْلَةُ، وَكُنْتُ سَعِيدَةً بِذَلِكَ.

تَاهَتْ بَعْضُ طُيُورِ ٱلنَّوْرَسِ حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى هُنَا، وَكَانَتْ تُحَلِّقُ فِي دَوَائِرَ بَهْلَوَانِيَّةٍ فَوْقَ ٱلسَّمَاءِ ٱلْحَارَّةِ، تُصْدِرُ صَرَخَاتٍ مُبْتَهِجَةً، بَيْنَمَا كُنْتُ مُسْتَلْقِيَةً بِلَا حَرَاكٍ فِي ٱلْعُشْبِ ٱلدَّافِئِ ٱلْيَابِسِ، أُفَكِّرُ فِي ٱلْمَدْرَسَةِ.

كُنْتُ مَا زِلْتُ أَشْعُرُ بِٱلْوَحْدَةِ هُنَاكَ، لِأَنِّي كُنْتُ مُخْتَلِفَةً عَنْ زُمَلَائِي فِي ٱلصَّفِّ. فِي ٱلْمَاضِي، كُنْتُ مُخْتَلِفَةً بِسَبَبِ وَفَاةِ أُمِّي، وَلِأَنِّي كُنْتُ هَادِئَةً، وَنَعْسَانَةً، وَخَائِفَةً. وَٱلآنَ، كَانَتْ لِي أُمٌّ أُخْرَى، وَلَمْ أَعُدْ نَعْسَانَةً أَوْ خَائِفَةً أَوْ هَادِئَةً كَمَا كُنْتُ. وَلَٰكِنِّي بَقِيتُ مُخْتَلِفَةً عَلَى أَيِّ حَالٍ.

لَمْ أَرْتَدِ ٱلْبَنْطَالَ قَطُّ، فَرُوزْفِيثَا لَمْ تَكُنْ تُحِبُّ أَنْ تَرْتَدِيَ ٱلْفَتَاةُ ٱلْبَنْطَالَ.

قَالَتْ لِي حِينَ طَلَبْتُ مِنْهَا أَنْ تَشْتَرِيَ لِي وَاحِدًا: “أَنْتِ فَتَاةٌ.” ثُمَّ أَضَافَتْ: “ٱلْفَتَيَاتُ يَرْتَدِينَ ٱلتَّنَانِيرَ.”

قُلْتُ بِإِصْرَارٍ: “لَكِنِّي أُرِيدُ بَنْطَالَ جِينْزٍ.”

ٱبْتَسَمَتْ رُوزْفِيثَا وَهَزَّتْ رَأْسَهَا بِبُطْءٍ، ثُمَّ قَالَتْ بِنُعُومَةٍ وَهِيَ تُعْطِي يَعْقُوبَ، ٱلَّذِي كَانَ لَا يَزَالُ طِفْلًا صَغِيرًا، زُجَاجَةَ ٱلْحَلِيبِ: “يَهْوَه يُرِيدُ لِلْبَنَاتِ أَنْ يَبْدِينَ كَٱلْفَتَيَاتِ.”

أَوْمَأْتُ بِرَأْسِي، وَتَوَقَّفْتُ عَنْ تَمَنِّي ٱرْتِدَاءِ ٱلْبَنْطَالِ. فَفِي ٱلنِّهَايَةِ، كُنْتُ أُحِبُّ يَهْوَه، وَلَمْ أُرِدْ أَنْ أُغْضِبَهُ.

وَلَٰكِنَّ ٱلْأَطْفَالَ ٱلْآخَرِينَ فِي ٱلْمَدْرَسَةِ لَمْ يُحِبُّوا يَهْوَه، وَكَانُوا يُشْعِرُونَنِي بِذَلِكَ بِوُضُوحٍ.

بِٱلطَّبْعِ، لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ شَيْئًا عَنْ إِلَهِي ٱلْحَبِيبِ، وَلَا حَتَّى شَيْئًا بَسِيطًا.

قَالَتْ “سَابْرِينَا”، ٱلَّتِي جَلَسَتْ بِجَانِبِي بَعْدَ ٱلْعُطْلَةِ ٱلصَّيْفِيَّةِ، بِنَظْرَةٍ سَاخِرَةٍ: “أَنْتِ وَأَتْبَاعُ طَائِفَتِكِ ٱلْغَبِيَّةِ… وَوَالِدَايَ يَرَيَانِكُمْ مُجَرَّدَ مَجَانِين مُخْتَلِّين…”

ٱرْتَجَفْتُ، وَلَٰكِنَّنِي لَمْ أَرُدَّ. مَاذَا كُنْتُ سَأَقُولُ؟ هَلْ أُخْبِرُهُمْ أَنَّ “يَهْوَه” سَيُعَاقِبُهُمْ يَوْمًا مَا عَلَى كَلِمَاتِهِمُ ٱلسَّيِّئَةِ؟ أَمْ أَنَّنِي كُنْتُ ٱلْمُخْتَارَةَ، وَأَنَّ “يَهْوَه” سَيَحْفَظُنِي وَيَحْمِيَ عَائِلَتِي حِينَ تُدَمَّرَ ٱلدُّنْيَا فِي مَعْرَكَةِ ٱلنِّهَايَةِ ٱلْوَحْشِيَّةِ؟

لَمْ يَكُنِ ٱلْأَطْفَالُ لِيُصَدِّقُوا كَلِمَةً وَاحِدَةً.

كَانُوا يُنَادُونَنِي بِـ”ٱلْجَرَادَةِ ٱلرَّمَادِيَّةِ”، وَ”ٱلْعَجُوزِ ٱلْغَبِيَّةِ”، وَ”ٱلْعَمَّةِ يَهْوَه”.

لِذٰلِكَ كُنْتُ أَحْتَقِرُهُمْ.

فِي أَوَّلِ يَوْمٍ بَعْدَ ٱلْعُطْلَةِ ٱلصَّيْفِيَّةِ ٱلْكُبْرَى، كَتَبْتُ فِي مُذَكِّرَتِي:

“أَطْفَالُ صَفِّي كُلُّهُمْ أَغْبِيَاءُ. أَكْرَهُهُمْ. أَفْرَحُ حِينَ يُعَاقِبُهُمْ يَهْوَه يَوْمًا مَا.

عَلَيْهِمْ أَنْ يَمُوتُوا.

دَائِمًا، دَائِمًا، دَائِمًا يُزْعِجُونَنِي. يَقُولُونَ إِنَّنَا مَجَانِينُ. يَقُولُونَ إِنَّ يَهْوَه مُجَرَّدُ وَهْمٍ، فِكْرَةٌ سَخِيفَةٌ.”

كُنْتُ أَتَطَلَّعُ إِلَى ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ، ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي يَأْتِي فِيهِ يَسُوعُ بِسَيْفِهِ إِلَى ٱلْأَرْضِ وَيَقْتُلُهُمْ جَمِيعًا.

حِينَهَا، سَأَعِيشُ فِي جَنَّةِ ٱلْأَلْفِ سَنَةٍ ٱلَّتِي وَعَدَ بِهَا، وَسَأَنْتَصِرُ عَلَيْهِمْ أَخِيرًا.

أَكْرَهُ ٱلْمَدْرَسَةَ.

بَعْدَ يَوْمَيْنِ، أَمْسَكْتُ مُذَكِّرَتِي مَرَّةً أُخْرَى. كُنْتُ أَرْتَجِفُ مِنْ رَأْسِ قَدَمَيَّ حَتَّى أَطْرَافِي. أَغْلَقْتُ بَابَ غُرْفَتِي بِإِحْكَامٍ، وَٱخْتَبَأْتُ فِي خِزَانَةِ مَلَابِسِي ٱلْمُظْلِمَةِ، وَكَنَبْتُ:

“حَدَثَ شَيْءٌ سَيِّئٌ! رَأَتْنَا سَابْرِينَا أَمْسِ أَثْنَاءَ قِيَامِنَا بِخِدْمَةِ ٱلتَّبْشِيرِ. رَأَتْنِي عِنْدَمَا طَرَقْتُ بَابًا فِي شَارِعِ بِيسْتَالُوتْسِي. ثُمَّ أَخْبَرَتِ ٱلْجَمِيعَ فِي ٱلْمَدْرَسَةِ. قَالَتْ إِنَّ رُوزْفِيتَا تَبْدُو كَخَادِمَةٍ سَمِينَةٍ وَقَبِيحَةٍ. أَكْرَهُ سَابْرِينَا. أَنَا أُحِبُّ يَهْوَه. هَلِّلُويَا. أَدْعُو ٱللَّهَ أَنْ لَا يَطُولَ ٱلزَّمَنُ حَتَّى يُدَمِّرَ يَهْوَه هٰذِهِ ٱلدُّنْيَا ٱلشِّرِّيرَةَ، وَيَبْقَى نَحْنُ ٱلشُّهُودُ وَحْدَنَا عَلَى قَيْدِ ٱلْحَيَاةِ. حِينَهَا، سَتُصْبِحُ ٱلْأَرْضُ لَنَا وَحْدَنَا.

مُلَاحَظَةٌ: أَشْعُرُ بِأَلَمٍ فِي بَطْنِي كُلَّ يَوْمٍ. هَلْ أَنَا مَرِيضَةٌ؟ أَحْيَانًا يَخَافُ قَلْبِي أَنْ أَمُوتَ فَجْأَةً، كَمَا مَاتَتْ أُمِّي…”

ٱنْقَضَى حَرُّ ٱلصَّيْفِ ٱلشَّدِيدِ فَجْأَةً، بَيْنَ لَيْلَةٍ وَضُحَاهَا. كَانَ ٱلْبَارِحَةَ مَسَاءً لَا يَزَالُ ٱلْجَوُّ حَارًّا، سَاكِنًا، وَقَابِضًا، وَلٰكِنْ فِي ٱللَّيْلِ ٱنْدَلَعَتْ عَاصِفَةٌ رَهِيبَةٌ، وَٱنْهَمَرَ ٱلْمَطَرُ ٱلْمَنْشُودُ بِغَزَارَةٍ مِنْ بَيْنِ سُحُبِ ٱللَّيْلِ ٱلدَّاكِنَةِ.

وَفِي صَبَاحِ ٱلْيَوْمِ ٱلتَّالِي، كَانَ ٱلطَّقْسُ بَارِدًا وَعَاصِفًا، وَتَهَافَتَتْ أَوْرَاقُ ٱلشَّجَرِ ٱلْيَابِسَةُ كَٱلزِّينَةِ ٱلْمُلَوَّنَةِ تَتَسَاقَطُ مِنْ عَلَى ٱلْأَغْصَانِ.

ٱسْتَيْقَظْتُ وَأَنَا مُلْتَصِقَةٌ بِجَانِبِ رُوزْفِيتَا، ٱلَّتِي كُنْتُ قَدْ لَجَأْتُ إِلَيْهَا، كَعَادَتِي كُلَّمَا خِفْتُ مِنْ ٱلْبَرْقِ وَٱلرَّعْدِ فِي لَيْلِ ٱلشِّتَاءِ.

كَانَ ٱلْأَطْفَالُ ٱلصِّغَارُ قَدْ بَقُوا فِي غُرْفَتِهِمْ، وَنَامُوا نَوْمًا هَادِئًا. أَمَّا وَالِدِي، فَقَدْ نَهَضَ مُبَكِّرًا، وَذَهَبَ إِلَى عَمَلِهِ.

سَأَلَتْنِي رُوزْفِيتَا وَهِيَ تَرْتَدِي رِدَاءَهَا ٱلصَّبَاحِيَّ: “هَلْ نِمْتِ جَيِّدًا؟”

ثُمَّ لَمَحَتْ وَجْهِي ٱلشَّاحِبَ، وَقَالَتْ وَهِيَ تَضَعُ يَدَهَا ٱلنَّاعِمَةَ عَلَى جَبِينِي: “وَلَكِنْ لَيْسَ لَدَيْكِ حُمَّى.”

قُلْتُ وَأَنَا أَخْتَبِئُ أَكْثَرَ تَحْتَ غِطَاءِ ٱلسَّرِيرِ: “وَلٰكِنَّنِي أُعَانِي مِنْ أَلَمٍ فِي بَطْنِي.”

“حَقًّا؟” سَأَلَتْ رُوزْفِيتَا، وَقَدْ عَبَّسَتْ جَبِينَهَا.

“دَائِمًا مَا أَشْعُرُ بِأَلَمٍ فِي بَطْنِي” أَضَفْتُ بِخَوْفٍ. “دَائِمًا.”

“سَأُحْضِرُ لَكِ زُجَاجَةَ مَاءٍ سَاخِنٍ.”

ثُمَّ ذَهَبَتْ إِلَى ٱلْحَمَّامِ.

وَهُنَاكَ، حَدَثَ ٱلْأَمْرُ فَجْأَةً.

أَصْبَحَ ٱلسَّرِيرُ مُبْتَلًّا. بَقِيتُ جَامِدَةً كَٱلصَّخْرَةِ، وَأَحْسَسْتُ بِشَيْءٍ سَاخِنٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ سَاقَيَّ. “أَنَا أَمُوتُ…” تَمْتَمْتُ، وَلَمْ أَجْرُؤْ عَلَى ٱلْحَرَكَةِ.

وَلٰكِنَّ يَدَيَّ بَدَأَتْ تَتَلَمَّسُ تِلْكَ ٱلسَّوَائِلَ ٱلْغَرِيبَةَ، ٱلْمُقْزِزَةَ، ٱلَّتِي خَرَجَتْ مِنِّي.

بِحَذَرٍ، سَحَبْتُ يَدِي مِنْ تَحْتِ ٱلْغِطَاءِ، وَنَظَرْتُ إِلَى أَصَابِعِي، فَإِذَا بِهَا مُلَطَّخَةٌ بِٱلدِّمَاءِ.

أَرَدْتُ أَنْ أُنَادِيَ رُوزْفِيتَا، وَلٰكِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ فَمِي أَيُّ صَوْتٍ. بَقِيتُ كَٱلْمَشْلُولَةِ تَحْتَ غِطَاءِ وَيدَايَّ ٱلْمُلَطَّخِةِ بِٱلدَّمِ، وَأَغْلَقْتُ عَيْنَيَّ بِشِدَّةٍ وَيَأْسٍ.

فَجْأَةً، سَمِعْتُ صَوْتَ رُوزْفِيتَا، مُتَعَجِّبَةً: “هانَا، هَلْ أَنْتِ نَائِمَةٌ مَرَّةً أُخْرَى، يَا هاَنَا؟”

أَبْقَيْتُ عَيْنَيَّ مُغْمَضَتَيْنِ، وَحَرَّكْتُ رَأْسِي بِصَمْتٍ نَافِيًة.

“مَا ٱلْأَمْرُ؟”

ظَلِلْتُ صَامِتَةً، وَكَانَتْ أَغْطِيَةُ ٱلسَّرِيرِ مِنْ حَوْلِي تَبْرُدُ بُطْئًا، وَتُصْبِحُ لَزِجَةً. وَلَكِنَّ ٱلْغِطَاءَ ٱلثَّقِيلَ كَانَ يُخْفِي عَنِّي ذٰلِكَ ٱلرُّعْبَ ٱلْكَبِيرَ.

“هَانَّا، لَا تُصْنِعِي هٰذِهِ ٱلدِّرَامَا ٱلْآنَ. لِمَاذَا تَشُدِّينَ ٱلْغِطَاءَ هَكَذَا؟ قَدْ تُمَزِّقِينَ كِيسَ ٱلْوِسَادَةِ…”

“أَنَا…” هَمَسْتُ بِصَوْتٍ خَافِتٍ.

“رَجَاءً، ٱسْحَبِي ٱلْغِطَاءَ إِلَى ٱلْخَلْفِ. لَقَدْ جَهَّزْتُ لَكِ زُجَاجَةَ مَاءٍ سَاخِنٍ، سَتَشْعُرِينَ بِٱلْتَّحَسُّنِ.”

رَفَعْتُ رَأْسِي رَافِضَةً.

فَجْأَةً، سَحَبَتْ رُوزْفِيتَا ٱلْغِطَاءَ إِلَى ٱلْخَلْفِ.

“يَا إِلٰهِي!” صَرَخَتْ بِخَوْفٍ عِنْدَمَا رَأَتْ ٱلدِّمَاءَ ٱلْكَثِيرَةَ.

صَغَّرْتُ نَفْسِي قَدْرَ ٱلْإِمْكَانِ.

“هَلْ عَلَيَّ أَنْ أَمُوتَ، يَا رُوزْفِيتَا؟” هَمَسْتُ بِخَوْفٍ. وَلَكِنْ، بِشَكْلٍ غَرِيبٍ، لَمْ تَبْدُ رُوزْفِيتَا قَلِقَةً كَثِيرًا عَلَى حَيَاتِي. “هُرَاءٌ”، قَالَتْهَا بِلُطْفٍ، وَهِيَ تُمَرِّرُ يَدَهَا عَلَى وَجْهِي الْبَارِدِ الْمُرْتَجِفِ. “مَاذَا بِي؟” تَمْتَمْتُ بِسُؤَالٍ خَافِتٍ. “نَزِيفٌ بَسِيطٌ”، أَجَابَتْ بِهُدُوءٍ، وَكَأَنَّهَا تُشْرِحُ أَمْرًا طَبِيعِيًّا. “إِنَّهَا الدَّوْرَةُ الشَّهْرِيَّةُ، وَهَذَا أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ تَمَامًا لِفَتَاةٍ فِي مِثْلِ سِنِّكِ.”

قَطَّبْتُ حَاجِبَيَّ. “الدَّوْرَةُ الشَّهْرِيَّةُ”… كُنْتُ قَدْ سَمِعْتُ هَذَا التَّعْبِيرَ مِنْ قَبْلُ.

فِي الْحِصَّةِ الَّتِي سَبَقَتْ دَرْسَ السِّبَاحَةِ، تَحَدَّثَتْ فَتَاتَانِ فِي الْمَدْرَسَةِ عَنْ ذَلِكَ. قَالَتَا إِنَّ لَدَيْهِمَا “الدَّوْرَةَ”، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا النُّزُولُ إِلَى الْمَاءِ ذَلِكَ الْيَوْمَ.

اسْتَوْقَفَنِي الْأَمْرُ، فَقَدْ بَدَتَا وَكَأَنَّهُمَا تَتَدَاوَلَانِ سِرًّا، شَيْئًا يَخُصُّ الْكِبَارَ.

وَلَكِنِّي لَمْ أَسْأَلْهُمَا، كُنْتُ أَعْلَمُ فِي قَرَارَةِ نَفْسِي أَنَّهُمَا، عَلَى الْأَرْجَحِ، مَا كَانَتَا لِتُجِيبَا بِصِدْقٍ.

ثُمَّ إِنَّنِي كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ كَلِمَةَ “الدَّوْرَةِ” وَاحِدَةٌ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ الْقَذِرَةِ، الْمُحَرَّمَةِ.

كَانَ يَهْوَهُ لَا يَرْضَى بِأَنْ نَنْطِقَ بِكَلِمَاتٍ دَنِسَةٍ.

“العَلاقَة” كَانَتْ وَاحِدَةً مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ، هَكَذَا يَقُولُهَا الْأَوْلَادُ فِي الْمَدْرَسَةِ.

“عضو ذكري”، “اسْتِمْنَاءٌ”، “الْجِمَاعُ”… كَلِمَاتٌ كُنْتُ أَسْمَعُهَا تَتَرَدَّدُ فِي الصُّفُوفِ الْخَلْفِيَّةِ، وَلَا أَفْقَهُ مَعْنَاهَا.

قَالَ لِي الْأَخُ يُوخَن: “إِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَمَنْ نَطَقَ بِهَا صَارَ نَجِسًا.”

“تَعَالِي مَعِي إِلَى الْحَمَّامِ، لِتَغْسِلِي نَفْسَكِ”، قَالَتْ رُوزْفِيتَا، وَهِيَ تُلْقِي بِرِدَائِهَا الصَّبَاحِيِّ عَلَى كَتِفَيَّ بِرِفْقٍ، لِتُخْفِيَ بِهِ قَمِيصَ نَوْمِي الْمُلَطَّخَ بِالدَّمِ.

خَرَجَ يَعْقُوبُ مِنْ بَابِ غُرْفَتِهِ الصَّغِيرَةِ، وَعَلَى وَجْهِهِ عَلَامَاتُ قَلَقٍ طُفُولِيٍّ. “مَاذَا جَرَى لِهَانَّا؟” سَأَلَ. “هَلْ هِيَ مَرِيضَةٌ؟ إِلَى أَيْنَ تَأْخُذِينَهَا؟ وَلِمَاذَا تَرْتَدِي رِدَاءَكِ يَا مَامَا؟”

“أَسْئِلَةٌ كَثِيرَةٌ عَلَى فَتًى صَغِيرٍ مِثْلِكَ!”، قَاطَعَتْهُ رُوزْفِيتَا بِلُطْفٍ، وَهِيَ تَدْفَعُهُ مِنْ كَتِفَيْهِ بِنُعُومَةٍ إِلَى دَاخِلِ غُرْفَتِهِ، ثُمَّ سَاقَتْنِي نَحْوَ الحَمَّامِ، وَأَدْخَلَتْنِي تَحْتَ دَفَقِ الْمَاءِ.

“نَظِّفِي نَفْسَكِ يَا هَانَّا”، قَالَتْ وَهِيَ تُرَبِّتُ عَلَى كَتِفِي بِحَنَانٍ.

“رُوزْفِيتَا؟”، نَادَيْتُهَا بِصَوْتٍ خَافِتٍ وَأَنَا أَخْلَعُ قَمِيصِي الْمُلَطَّخَ بِبُطْءٍ.

“نَعَم؟”

“مَا مَعْنَى كَلِمَةِ دَوْرَةٍ؟ لِمَاذَا أَنْزِفُ؟”

تَرَدَّدَتْ فِي النَّظَرِ إِلَيَّ، وَعَيْنَاهَا تَفْتِّشَانِ وَجْهِي عَنْ صِيغَةٍ مُبَسَّطَةٍ.

نَظَرْتُ إِلَيْهَا بِقَلَقٍ، أَنْتَظِرُ جَوَابًا.

“هَذَا شَيْءٌ طَبِيعِيٌّ جِدًّا، يَا هَانَّا”، قَالَتْ أَخِيرًا بِتَرَدُّدٍ، “لَا دَاعِيَ لِأَنْ تَقْلَقِي.”

“لَكِن… لِمَاذَا يَحْدُثُ هَذَا أَصْلًا؟” أَصْرَرْتُ.

“سَنَتَحَدَّثُ عَنْ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ لَاحِقٍ”، أَجَابَتْ وَهِيَ تَفْتَحُ بَابَ الْخِزَانَةِ وَتَسْحَبُ مِنْهَا شَيْئًا مَا.

“هَذِهِ فَوْطٌ صِحِّيَّةٌ، يَا هَانَّا”، شَرَحَتْ رُوزْفِيتَا بِصَوْتٍ خَافِتٍ، “خُذِيهَا إِنِ احْتَجْتِ. تُلْصَقُ فِي الْمَلَابِسِ الدَّاخِلِيَّةِ، وَتَمْتَصُّ الدَّمَ. لَكِنْ عَلَيْكِ أَنْ تُبَدِّلِيهَا بِانْتِظَامٍ.”

“حَفَّاضَةٌ؟” تَمْتَمْتُ بِذُعْرٍ لَمْ أَسْتَطِعْ إِخْفَاءَهُ.

“أَجَلْ… شَيْءٌ شَبِيهٌ بِذَلِكَ”، قَالَتْ رُوزْفِيتَا وَهِيَ تَزْفِرُ بِتَنَهُّدَةٍ قَصِيرَةٍ، ثُمَّ وَضَعَتْ وَاحِدَةً مِنْ تِلْكَ الْفُوَطِ السَّمِيكَةِ، النَّاعِمَةِ، فَوْقَ مِقْعَدِ الْحَمَّامِ، وَتَرَكْتَنِي وَحْدِي.

كُنْتُ ضَائِعَةً. أَشْعُرُ بِالْخِزْيِ. أُرِيدُ أَنْ أَخْتَفِي.

فِي الْمَسَاءِ، أَرَادَتْ رُوزْفِيتَا أَنْ نَخْرُجَ سَوِيًّا فِي جَوْلَةِ التَّبْشِيرِ.

وَلَكِنْ صُورَةُ الْفَوْطَةِ السَّمِيكَةِ الْمُذِلَّةِ فِي مَلَابِسِي الدَّاخِلِيَّةِ لَمْ تُفَارِقْنِي، وَلَا وَجْهُ سَابْرِينَا، تِلْكَ الْفَتَاةِ الَّتِي رَأَتْنَا يَوْمًا وَنَحْنُ نَطْرُقُ أَبْوَابَ النَّاسِ.

“لَا أُرِيدُ الْخُرُوجَ الْيَوْمَ مَعَكِ، رُوزْفِيتَا “، تَرَجَّيْتُهَا بِصَوْتٍ خَفِيضٍ.

نَظَرَتْ إِلَيَّ مُطَوَّلًا، بِعَيْنَيْنِ مُشْبَعَتَيْنِ بِالتَّفْكِيرِ.

“لَا يَجِبُ أَنْ تَعْتَقِدِي أَنَّكِ بِهَذِهِ الْأَهَمِّيَّةِ، يَا هَانَّا”، قَالَتْ بِلَهْجَةٍ خَافِتَةٍ، وَلَكِنْ لَا تَخْلُو مِنَ التَّبَرُّمِ.

“وَلَكِنَّ بَطْنِي يُؤْلِمُنِي…” هَمَسْتُ، “وَهَذِهِ… الدَّوْرَةُ…”

“بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَوْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، سَتَنْتَهِي”، قَالَتْ رُوزْفِيتَا بِنَبْرَةٍ هَادِئَةٍ، كَأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَسْتَدْعِي الْقَلَقَ.

تَبَادَلْنَا النَّظَرَاتِ.

“وَمَتَى تَعُودُ؟” سَأَلْتُهَا بِوَجَلٍ.

“فِي الشَّهْرِ القَادِمِ، طَبْعًا”، رَدَّتْ، وَأَمَالَتْ رَأْسَهَا قَلِيلًا، كَمَنْ يُجِيبُ عَنْ سُؤَالٍ بَدِيهِيٍّ. “وَلَكِن… لِمَاذَا تَحْدُثُ لَنَا أَصْلًا؟” سَأَلْتُ، وَأَنَا أَضَعُ يَدِي بِحَذَرٍ فَوْقَ بَطْنِي الَّذِي يُؤَلِّمُنِي. “سَنَتَحَدَّثُ عَنْ ذٰلِكَ فِي وَقْتٍ لَاحِقٍ”، كَرَّرَتْ رُوزْفِيتَا، نَافِضَةً الْكَلِمَاتِ نَفْسَهَا، وَلٰكِنْ هٰذِهِ الْمَرَّةَ بِنَبْرَةٍ أَكْثَرَ قَطْعًا.

ثُمَّ غَادَرَتِ الْغُرْفَةَ نَحْوَ غُرْفَةِ الْأَطْفَالِ، وَعَادَتْ تَحْمِلُ يعقوبَ بَيْنَ ذِرَاعَيْهَا. “هُوَ مَنْ سَيُرَافِقُنِي الْيَوْمَ”، قَالَتْ، وَهِيَ تُقْفِلُ الْبَابَ مِنْ خَلْفِهَا. “أَمَّا الصَّغِيرَانِ… فَسَيَبْقَيَانِ مَعَكِ.”

أَوْمَأْتُ بِرَأْسِي، وَشَعَرْتُ ـ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ مُنْذُ زَمَنٍ ـ بِوَحْدَةٍ ثَقِيلَةٍ تَتَسَلَّلُ إِلَيَّ مِنْ جَدِيدٍ.

وَبَعْدَ بِضْعَةِ أَسَابِيعَ، جَاءَ يَوْمُ مَعْمُودِيَّتِي. كَانَ ذٰلِكَ حَدَثًا كَبِيرًا، إِذْ سَافَرْنَا خُصُوصًا إِلَى شْتُوتْغَارْت، حَيْثُ خُصِّصَ نَهَارٌ كَامِلٌ لِهٰذَا الطَّقْسِ الدِّينِيِّ.

ارْتَدَيْتُ فُسْتَانًا جَدِيدًا أَعْجَبَنِي كَثِيرًا؛ كَانَ بَسِيطًا، وَلٰكِنَّهُ مَنَحَنِي شُعُورًا نَادِرًا بِالرِّضَا عَنْ شَكْلِي.

“تَبْدِينَ جَمِيلَةً الْيَوْمَ يَا هَانَا”، قَالَتْ جَدَّتِي، وَهِيَ تَضْغَطُ عَلَى يَدِي بِرِقَّةٍ وَنَحْنُ نَهُمُّ بِرُكُوبِ السَّيَّارَةِ.

كُنْتُ مُتَوَتِّرَةً، فَصَعِدْتُ إِلَى الْمَقْعَدِ الْخَلْفِيِّ دُونَ أَنْ أَنْبِسَ بِكَلِمَةٍ.

كَانَ أَبِي يُرَاقِبُنِي مِنْ خِلَالِ الْمِرْآةِ بِابْتِسَامَةٍ دَافِئَةٍ، قَبْلَ أَنْ يُشَغِّلَ الْمُحَرِّكَ.

كَانَ يَعْقُوبُ وَمَارْكُوسُ وَبِنْيَامِينُ يُحْدِثُونَ جَلَبَةَ الْأَطْفَالِ الْمُعْتَادَةِ، فِيمَا جَلَسَتْ رُوزْفِيتَا تَقْرَأُ عَلَيْنَا قِصَّةً طَوِيلَةً مِنَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، بِصَوْتٍ رَخِيمٍ فِيهِ وَقَارٌ.

ثُمَّ غَنَّيْنَا بَعْضَ التَّرَانِيمِ، وَاحِدًا تِلْوَ الآخَرِ، حَتَّى غَلَبَ النُّعَاسُ الصِّغَارَ فَاسْتَسْلَمُوا لَهُ بِهُدُوءٍ.

بَقِيتُ صَامِتَةً، أُرَاقِبُ مِنَ النَّافِذَةِ الْحُقُولَ وَالْقُرَى وَهِيَ تَتَوَارَى خَلْفَنَا شَيْئًا فَشَيْئًا.

سَادَ السَّيَّارَةَ صَمْتٌ وَدِيعٌ، صَمْتٌ كَأَنَّهُ صَلَاةٌ، فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْقَدَاسَةِ الْخَفِيَّةِ، لَا يُكْسَرُ وَلَا يُثْقَلُ.

كَانَ أَبِي و رُوزْفِيتَا صَامِتَيْنِ أَيْضًا، وَلٰكِنَّ ذٰلِكَ الصَّمْتَ، الْغَرِيبَ فِي أُلْفَتِهِ، قَرَّبَنَا مِنْ بَعْضِنَا أَكْثَرَ مِنْ أَيِّ حَدِيثٍ.

وَحِينَ اقْتَرَبْنَا مِنْ شْتُوتْغَارْت، تَنَحْنَحَ أَبِي فَجْأَةً، وَبَدَأَ يُصَلِّي: شَكَرَ يَهْوَهْ عَلَى هٰذَا الْيَوْمِ، وَعَلَى حَيَاتِي، وَعَلَى حَيَاةِ إِخْوَتِي.

أَصْغَيْتُ إِلَى كَلِمَاتِهِ بِوَقَارٍ عَمِيقٍ، وَأَغْمَضْتُ عَيْنَيَّ… ثُمَّ مَدَدْتُ ذِرَاعَيَّ مِنْ خَلْفِ الْمَقْعَدِ، وَطَوَّقْتُهُ بِصَمْتٍ، كَأَنِّي أَقُولُ لَهُ: أَنَا هُنَا… وَأَنَا مُسْتَعِدَّةٌ.

فِي شْتُوتْغَارْت، اِلْتَقَيْتُ بِكَثِيرٍ مِنَ الْوُجُوهِ الْمَأْلُوفَةِ.

كَانَ الْأَخُ يُوخنْ هُنَاكَ، شَيْخُ جَمَاعَتِنَا، وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ الْأُخْتُ بْرِيجِيت. كَمَا حَضَرَ الْأَخُ بَاوْل وَالْأَخُ يُوخِن، وَأُسَرُهُمْ جَمِيعًا.

وَحْدَهَا رِيبِيكَا لَمْ أَجِدْ لَهَا أَثَرًا.

“أَيْنَ رِيبِيكَا؟” سَأَلْتُ وَالِدَتَهَا، الْأُخْتَ بْرِيجِيت، بِعَيْنَيْنِ مُتَطَلِّعَتَيْنِ.

نظرتْ إليّ نظرةً غائمة، وجهُها مشدودٌ كوترٍ قديمٍ أوشك أن ينفلت. قالت بتوتُّرٍ ظاهر: ” رِيبِيكَا لم تَسْتَطِعِ المَجِيءَ، هِيَ… مَرِيضَة، أُصِيبَتْ بِنَزْلَةِ بَرْدٍ.”

خَيَّمَتْ عَلَيَّ خَيْبَةُ أَمَلٍ ثَقِيلَةٌ، كَغَيْمَةٍ هَوَتْ عَلَى قَلْبِي. كُنَّا، أَنَا وَ رِيبِيكَا ، نَنْتَظِرُ هٰذَا الْيَوْمَ بِفَارِغِ الصَّبْرِ. حَلُمْنَا أَنْ نُعَمَّدَ سَوِيًّا، فِي نَفْسِ الْمَاءِ، وَفِي نَفْسِ اللَّحْظَةِ. كُنَّا نَقُولُ إِنَّ هٰذَا الْعَهْدَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا، كَأَنَّنَا تَوْأَمٌ فِي الْإِيمَانِ.

إِسْتَر، الَّتِي كَانَتْ أَصْغَرَ مِنَّا قَلِيلًا، لَمْ تَكُنْ مُسْتَعِدَّةً بَعْدُ، وَرُبَّمَا تُعَمَّدُ فِي الْعَامِ الْقَادِمِ. أَمَّا أَنَا وَ رِيبِيكَا ، فَقَدْ قِيلَ فِي الْاجْتِمَاعِ، وَعَلَى لِسَانِ الْأَخِ يُوخِن نَفْسِهِ: “إِنَّهُمَا مُسْتَعِدَّتَانِ.”

أَتَذَكَّرُ كَيْفَ أَمْسَكْتُ يَدَ رِيبِيكَا يَوْمَهَا وَغَمَزْتُهَا هَامِسَةً: “سَمِعْتِ؟ سَنَتَعَمَّدُ!” وَكَانَ وَجْهُهَا يَوْمَهَا مُتَوَهِّجًا بِالْحَمَاسَةِ نَفْسِهَا الَّتِي شَعَرْتُ بِهَا.

وَلٰكِنْ… هَا هُوَ يَوْمُنَا، وَهَا هِيَ رِيبِيكَا… غَائِبَةٌ.

“هِيَ لَيْسَتْ مَرِيضَةً!”، جَاءَ صَوْتُ كُورْنِيلْيُوس، شَقِيقِهَا الصَّغِيرِ، بِنَبْرَتِهِ الطُّفُولِيَّةِ الرَّقِيقَةِ، لٰكِنَّهُ كَانَ صَوْتَ فَضْحٍ، صَوْتَ حَقِيقَةٍ غَيْرِ مَرْغُوبٍ فِيهَا. “كَانَ هُنَاكَ شِجَارٌ، لِأَنَّهَا لَمْ تُرِدْ أَنْ تَتَعَمَّدَ، فَغَضِبَ بَابَا وَضَرَبَهَا بِشِدَّةٍ.”

اسْتَدَارَتِ الْأُخْتُ بْرِيجِيتْ بِسُرْعَةٍ، وَصَفَعَتِ الطِّفْلَ بِصَفْعَةٍ لَطِيفَةٍ حَادَّةٍ، لَا تُبْكِي، وَلٰكِنَّهَا تُخْرِسُ.

“هُرَاءٌ!” هَمَسَتْ بِانْفِعَالٍ، ثُمَّ الْتَفَتَتْ إِلَيَّ وَعَلَى وَجْهِهَا ابْتِسَامَةٌ مُصْطَنَعَةٌ. “الصَّغِيرُ مُشَوَّشٌ الْيَوْمَ، كُلُّ هٰؤُلَاءِ النَّاسِ، كُلُّ هٰذِهِ الضَّجَّةِ، أَنْتِ تَفْهَمِينَ… أَلَيْسَ كَذٰلِك؟”

نَظَرْتُ إِلَيْهَا طَوِيلًا… وَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا.

أَجْهَشَ كُورْنِيلْيُوس بِالْبُكَاءِ، وَقَدْ جُرِحَ كِبْرِيَاؤُهُ الطُّفُولِيُّ، فَمَسَحَتِ الْأُخْتُ بْرِيجِيتْ دُمُوعَهُ بِسُرْعَةٍ مُضْطَرِبَةٍ، ثُمَّ حَمَلَتْهُ إِلَى حِضْنِهَا، كَأَنَّهَا تُطْفِئُ بِذٰلِكَ جُرْحًا فُضِحَ عَلَى حِينِ غِرَّةٍ.

” رِيبِيكَا مُصَابَةٌ بِالْتِهَابِ حَلْقٍ، لَا أَكْثَرَ وَلَا أَقَلَّ”، قَالَتْ وَهِيَ تُتَابِعُ تَمْثِيلَهَا، وَلٰكِنَّ تَنَهُّدَتَهَا التَّالِيَةَ خَانَتْ مَا فِي صَدْرِهَا مِنِ اضْطِرَابٍ لَمْ يُشْفَ.

تَنَهَّدْتُ أَنَا أَيْضًا، تَنَهُّدًا طَوِيلًا، لَا أَدْرِي أَكَانَ حُزْنًا، أَمْ خَيْبَةً، أَمْ مُحَاوَلَةً لِلهُرُوبِ مِنْ شُعُورٍ ثَقِيلٍ.

ثُمَّ بَدَأَ كُلُّ شَيْءٍ.

كُنَّا قُرَابَةَ الْخَمْسِينَ، صَفًّا طَوِيلًا مِنَ التَّائِبِينَ الْمُتَّجِهِينَ إِلَى الْمَاءِ. صَعِدْنَا وَاحِدًا تِلْوَ الآخَرِ إِلَى ذٰلِكَ الْحَوْضِ الصَّغِيرِ الْمَغْمُورِ فِي خَشَبَةِ مَسْرَحِ قَاعَةِ الْمَلَكُوتِ. حَوْضٌ يُخْفَى عَادَةً تَحْتَ سَجَّادَةٍ رَمَادِيَّةٍ فِي الْاجْتِمَاعَاتِ الْعَادِيَّةِ، كَأَنَّهُ سِرٌّ لَا يُكْشَفُ إِلَّا لِلْمُخْتَارِينَ.

كَانَ قَلْبِي يَدُقُّ بِقُوَّةٍ، حَتَّى شَعَرْتُ بِنَبْضِهِ يَصْعَدُ إِلَى عُنُقِي. حَلْقِي كَانَ جَافًّا كَأَرْضٍ عَطْشَى، وَالْخَوْفُ يُهَمْهِمُ فِي أُذُنِي: مَاذَا لَوْ أَخْطَأْتِ؟ مَاذَا لَوْ لَمْ تَكُونِي “مُسْتَحِقَّةً” كَمَا زَعَمُوا؟

وَلٰكِنْ… مَرَّ كُلُّ شَيْءٍ بِسَلَامٍ.

الْأَخُ الَّذِي عَمَّدَنِي لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ، وَلٰكِنَّ الْأَخَ “يُوخِن” كَانَ وَاقِفًا بِجَانِبِ الْحَوْضِ، يَبْتَسِمُ لِي. نَظَرْتُ فِي عَيْنَيْهِ الْفَاتِحَتَيْنِ الْوَدِيعَتَيْنِ، فَرَأَيْتُ فِيهِمَا الْبَرَكَةَ الَّتِي مَنَحَنِي إِيَّاهَا، وَفَخْرًا صَامِتًا مَلَأَ وَجْهَهُ.

أَخِيرًا جَاءَ دَوْرِي. سَادَ الصَّمْتُ الْقَاعَةَ، كَأَنَّ الزَّمَنَ تَوَقَّفَ لِبُرْهَةٍ. مَدَّ الْأَخُ الْغَرِيبُ يَدَهُ إِلَيَّ، وَأَمْسَكَنِي بِرِفْقٍ، وَقَادَنِي إِلَى دَاخِلِ الْمَاءِ الْبَارِدِ، الَّذِي بَلَغَ خَصْرَنَا. كَانَ السَّيْرُ فِيهِ صَعْبًا، يُشْبِهُ الْحُلْمَ الَّذِي تَتَبَاطَأُ فِيهِ الْحَرَكَةُ وَتَثْقُلُ الْخُطَى.

ثُمَّ وَضَعَ ذِرَاعَيْهِ حَوْلِي، وَفَجْأَةً سَحَبَنِي إِلَى الْوَرَاءِ، بِحَرَكَةٍ خَاطِفَةٍ.

فَزِعْتُ. وَفِي اللَّحْظَةِ التَّالِيَةِ، وَجَدْتُ نَفْسِي تَحْتَ الْمَاءِ بِكُلِّيَّتِي.

لَسَعَتْ مِيَاهُ الْمَعْمُودِيَّةِ عَيْنَيَّ بِمُلُوحَتِهَا، وَاخْتَنَقْتُ بِسُعَالٍ مُتَتَالٍ، وَانْسَكَبَ فِي حَلْقِي مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ مَا مَلَأَنِي رُعْبًا. حَتَّى أُذُنَايَ وَأَنْفِي اقْتَحَمَهُمَا الْمَاءُ، وَفِي لَحْظَةٍ جُنُونِيَّةٍ، بَدَا لِي أَنَّنِي أَغْرَقُ.

تَلَوَّيْتُ بين ذِرَاعَيْ ذَلِكَ الْأَخِ الْغَرِيبِ، وَصَدْرِي يَضِجُّ بِالْهَلَعِ…

ثُمَّ، وَبِهُدُوءٍ مُفَاجِئٍ، انْتَهَى كُلُّ شَيْءٍ.

جَذَبَنِي الرَّجُلُ مِنَ الْمَاءِ بِجَذْبَتِهِ الثَّانِيَةِ، فَإِذَا بِي وَاقِفَةٌ أَرْتَجِفُ أَمَامَ الْجَمْعِ.

وُجُوهٌ مُبْتَهِجَةٌ تَتَطَلَّعُ إِلَى مَلاَمِحِي الْمُبَلَّلَةِ، وَقَطَرَاتُ الْمَاءِ تَتَسَاقَطُ مِنْ أُذُنَيَّ، وَشَيْئًا فَشَيْئًا، عَادَ إِلَيَّ السَّمْعُ.

وَفِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ…

غَمَرَنِي شُعُورٌ بِالسَّعَادَةِ، لَمْ أَعْرِفْ لَهُ مَثِيلًا قَطُّ.

وَكُلُّ ذَلِكَ… كَانَ فَضْلًا أَدِينُ بِهِ لِرُوزْفِيتَا.

فَهِيَ الَّتِي أَمْسَكَتْ بِي، وَقَادَتْنِي إِلَى يَهْوَه، وَهِيَ مَنْ جَعَلَتْنِي وَأَبِي نَذُوقُ طَعْمَ النُّورِ بَعْدَ عُمْقِ الْعَتْمَةِ. لَوْلَاهَا، لَبِقيتُ تَائِهَةً، جَاهِلَةً، رُوحًا ضَائِعَةً فِي ظِلَالِ الْهَلَاكِ.

تَخَيَّلُوا ذَلِكَ: لَقَدْ كَانَ عَلَى يَسُوعَ أَنْ يُهْلِكَنِي، وَكَانَ يَهْوَه سَيَحْجُبُ عَنِّي مَحَبَّتَهُ، وَكُنْتُ سَأَمُوتُ فِي مَعْرَكَةِ (هَرْمَجِدُّونَ)، تِلْكَ الْمَعْرَكَةِ الْمُقَدَّسَةِ الْأَخِيرَةِ، بَدَلًا مِنْ أَنْ أَدْخُلَ فِرْدَوْسَ الْأَرْضِ الْمَوْعُودِ.

“يَهْوَه!”، صَرَخْتُ دُونَ أَنْ أُدْرِكَ، فِي اللَّحْظَةِ الْأُولَى، أَنَّ ذَلِكَ الصَّوْتَ الْخَارِجَ مِنْ فَمِي، كَانَ صَوْتِي أَنَا.

نَظَرْتُ إِلَى رُوزْفِيتَا وَأَبِي، وَشَعَرْتُ كَأَنَّنِي طَائِرٌ حُرٌّ، انْكَسَرَتْ قُيُودُهُ، وَارْتَفَعَ فَوْقَ الْأَرْضِ.

“هَيَّا، تَعَالَي، يَا هَانَّا”، قَالَ الْأَخُ يُوخِن، وَهُوَ يُسَاعِدُنِي عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ حَوْضِ الْمَاءِ الْمُقَدَّسِ. وَضَعَ يَدَهُ عَلَى شَعْرِي الْمُبَلَّلِ، يَعْصِرُ مِنْهُ الْمَاءَ بِرِقَّةٍ.

“هَلْ تَشْعُرِينَ بِالْبَرْدِ؟”، سَأَلَنِي.

أَوْمَأْتُ بِرَأْسِي، وَجَسَدِي يَرْتَجِفُ. خَرَجْتُ مِنَ الْقَاعَةِ لِأُبَدِّلَ مَلَابِسِي. كَانَ فُسْتَانِي الْجَدِيدُ الْجَمِيلُ مُلْتَصِقًا بِجَسَدِي الدَّافِئِ، بَارِدًا وَمُبْتَلًّا، كَأَنَّهُ غِلَافٌ مِنْ نَدَى الْوَحْدَةِ.

وَفِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ…

مَرَّ طَيْفُ أُمِّي الْمَيِّتَةِ فِي خَاطِرِي. لَمْ يَكُنْ وَاضِحًا. فَقَطْ ظِلٌّ بَاهِتٌ، مَلَامِحُ مُتَلَاشِيَةٌ عَلَى هَوَامِشِ الذَّاكِرَةِ. وَمَعَ ذَلِكَ…

شَعَرْتُ، بِطَرِيقَةٍ غَرِيبَةٍ وَمُرْبِكَةٍ، بِرَاحَةٍ غَامِضَةٍ لِأَنَّهَا رَحَلَتْ.

“لِأَنَّهُ، لَوْلَا ذَلِكَ، لَمَا أَصْبَحَتْ رُوزْفِيتَا أُمِّي أَبَدًا”، قُلْتُهَا لِجَارَتِي فِي الْإِيمَانِ، الْأُخْتِ بْرِيجِيت، وَهِيَ تَفْتَحُ لِي مِنْشَفَةً دَافِئَةً، وَتُنَاوِلُنِي ثَوْبًا جَافًّا.

كُنْتُ بِحَاجَةٍ إِلَى الْكَلَامِ. فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ الْمَصِيرِيَّةِ، لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَحْتَفِظَ بِكُلِّ مَا فِي دَاخِلِي لِنَفْسِي فَقَطْ.

أَوْمَأَتِ ٱلأُخْتُ بْرِيجِيتْ بِرَأْسِهَا، ثُمَّ ضَمَّتْنِي بِذِرَاعَيْهَا.

“أُمِّي ٱلَّتِي مَاتَتْ لَمْ تَكُنْ مُؤْمِنَةً”، هَمَسْتُ فِي أُذُنِ زَوْجَةِ ٱلْأَخِ يُوخِن، وَأَنَا أَشْعُرُ، فَجْأَةً، بِأَنَّهَا قَرِيبَةٌ، قَرِيبَةٌ بِشَكْلٍ غَيْرِ مَأْلُوفٍ.

“أَعْلَمُ”، قَالَتْ بِهُدُوءٍ.

فُوجِئْتُ، فَحَدَّقْتُ فِي وَجْهِهَا.

“وَالِدُكِ أَخْبَرَ يُوخِن بِذٰلِكَ”، أَضَافَتْ.

تَبَادَلْنَا ٱلنَّظَرَ لَحْظَةً…

“وَلِهٰذَا ٱلسَّبَبِ بِٱلذَّاتِ، يَجِبُ أَنْ تَكُونِي أَكْثَرَ سَعَادَةً، يَا هَانَا. يَهْوَهْ لَمْ يَتْرُكْكِ، رَغْمَ كُلِّ شَيْءٍ.”

هَزَزْتُ رَأْسِي مُؤَيِّدَةً، وَٱمْتَلَأْتُ بِمَحَبَّةٍ صَافِيَةٍ، حَتَّى إِنَّنِي شَعَرْتُ بِرَغْبَةٍ جَمُوحَةٍ فِي أَنْ أَضُمَّ ٱلْعَالَمَ كُلَّهُ بَيْنَ ذِرَاعَيَّ.

وَلٰكِنْ… رِيبِيكَّا لَمْ تُعَمَّدْ.

وَبِٱلتَّدْرِيجِ، بَدَأَتْ تَصِلُنِي بَعْضُ ٱلتَّفَاصِيلِ… مُقْلِقَةٌ.

يَبْدُو أَنَّهَا ٱخْتَلَفَتْ مَعَ وَالِدَيْهَا.

“أَيْنَ رِيبِيكَّا؟” سَأَلْتُ أَبِي، وَقَلْبِي يَمْلَؤُهُ ٱلْقَلَقُ، إِذْ لَمْ تَحْضُرْ صَدِيقَتِي إِلَى ٱجْتِمَاعَاتِنَا فِي قَاعَةِ ٱلْمَلَكُوتِ مُنْذُ أُسْبُوعٍ كَامِلٍ.

أَجَابَنِي أَبِي بِنَظْرَةٍ حَزِينَةٍ: “رِيبِيكَّا تُثِيرُ قَلَقَ وَالِدَيْهَا كَثِيرًا.”

تَذَكَّرْتُ حِينَهَا كَلِمَاتِ أَخِيهَا ٱلصَّغِيرِ بِحَيْرَةٍ: “قَالَ إِنَّ رِيبِيكَّا لَا تُرِيدُ أَنْ تَتَعَمَّدَ…” كَانَ ذٰلِكَ يُرْبِكُنِي.

أَلْقَى أَبِي نَظْرَةً مُتَرَدِّدَةً إِلَى رُوزْفِيتَا، ٱلَّتِي كَانَتْ تَشْغَلُ نَفْسَهَا بِتَغْيِيرِ حَفَّاظَاتِ بِنْيَامِين، ثُمَّ أَوْمَأَ بِرَأْسِهِ بِحُزْنٍ.

“ٱلْأَخُ يُوخِن حَزِينٌ جِدًّا عَلَى رِيبِيكَّا، وَلِذٰلِكَ أَرْسَلَهَا لِفَتْرَةٍ إِلَى أَخِيهِ فِي مِيُونِيخ.”

كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّ عَمَّ رِيبِيكَّا فِي مِيُونِيخ كَانَ يَرْأَسُ جَمْعِيَّةَ يَهْوَه أُخْرَى، وَكَانَ رَجُلًا صَارِمًا وَحَكِيمًا إِلَى أَبْعَدِ ٱلْحُدُودِ.

قَرَّرْتُ أَنْ أَكْتُبَ إِلَى رِيبِيكَّا رِسَالَةً، أُخْبِرُهَا فِيهَا عَنْ تَعْمِيدِي ٱلرَّائِعِ، لَعَلَّهُ يُغَيِّرُ قَلْبَهَا وَتُدْرِكُ مَا فَاتَهَا.

“هَلْ يُمْكِنُنِي ٱلْحُصُولُ عَلَى عُنْوَانِ رِيبِيكَّا، يَا أَبِي؟” طَلَبْتُ مِنْهُ بِرِقَّةٍ.

ٱرْتَسَمَ عَلَى وَجْهِ أَبِي تَعْبِيرُ ٱلتَّرَدُّدِ، وَنَظَرَ مُجَدَّدًا إِلَى زَوْجَتِهِ رُوزْفِيتَا.

تَبِعْتُهُ بِنَظَرَتِي، فَرَأَيْتُهَا بِحَنَانٍ تُلَبِّسُ بِنْيَامِين لِبَاسَهُ ٱلصَّغِيرَ، لَكِنَّهَا هَزَّتْ رَأْسَهَا بِحَزْمٍ.

قَالَتْ لِي بِلُطْفٍ: “لَا يَا هَانَا، هٰذِهِ لَيْسَتْ فِكْرَةً جَيِّدَةً.”

“أُرِيدُ ذٰلِكَ…” بَدَأْتُ بِحَذَرٍ.

قَاطَعَنِي أَبِي عَلَى ٱلْفَوْرِ بِنَفَادِ صَبْرٍ: “هَانَا، أَنْتِ سَمِعْتِ مَا قَالَتْهُ رُوزْفِيتَا. نَحْنُ لَا نَرْغَبُ فِي ذٰلِكَ.”

“وَلٰكِنْ لِمَاذَا لَا؟”

“أَنْتِ لَا تَفْهَمِينَ بَعْدُ.” وَضَعَتْ رُوزْفِيتَا بِنْيَامِين فِي سَرِيرِهِ ٱلصَّغِيرِ.

“إِذًا، ٱشْرَحُوا لِي،” طَلَبْتُ بِإِصْرَارٍ. “فَرِيبِيكَّا هِيَ صَدِيقَتِي ٱلْوَحِيدَةُ.”

وَعَدَتْنِي رُوزْفِيتَا: “سَتَعُودُ رِيبِيكَّا إِلَى حَالَتِهَا قَرِيبًا.” عِنْدَهَا رَضَخْتُ وَوَافَقْتُ.

لَمْ أَكُنْ أَعْلَمُ حِينَئِذٍ أَنَّنِي لَنْ أَرَى رِيبِيكَّا لِفَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ.

فِي ذٰلِكَ ٱلْخَرِيفِ، أَتْمَمْتُ ٱلرَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمْرِي. وَكَٱلْمُعْتَادِ، لَمْ نَحْتَفِلْ بِعِيدِ مِيلَادِي. لَمْ نَحْتَفِلْ أَبَدًا بِٱلْأَعْيَادِ، مِثْلَ عِيدِ ٱلْمِيلَادِ وَعِيدِ ٱلْفِصْحِ.

“هٰذِهِ عَادَاتٌ وَثَنِيَّةٌ”، كَانَتْ رُوزْفِيتَا قَدْ شَرَحَتْ لِي ذٰلِكَ مُنْذُ سَنَوَاتٍ، وَهِيَ تُعَبِّرُ عَنْ ٱسْتِيَائِهَا بِوَجْهٍ مُكْفَهِرٍّ.

مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَطْ، حِينَ كُنْتُ فِي ٱلْمَدْرَسَةِ ٱلِٱبْتِدَائِيَّةِ، تَلَقَّيْتُ دَعْوَةَ عِيدِ مِيلَادٍ مِنْ فَتَاةٍ جَدِيدَةٍ فِي صَفِّنَا، لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُ شَيْئًا عَنْ دِيَانَةِ عَائِلَتِي.

أَخَذَتْ رُوزْفِيتَا بَطَاقَةَ ٱلدَّعْوَةِ ٱلَّتِي كُنْتُ أَحْمِلُهَا بِفَخْرٍ وَحَمَاسٍ إِلَى ٱلْمَنْزِلِ، ثُمَّ أَمَامَ عَيْنَيَّ قَطَعَتْهَا وَأَلْقَتْهَا فِي سَلَّةِ ٱلْمُهْمَلَاتِ.

“لَكِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَذْهَبَ…” تَمْتَمْتُ مُتَوَسِّلَةً يَوْمَهَا، بِصَوْتٍ يَكَادُ يُسْمَعُ مِنْ شِدَّةِ ٱلرَّجَاءِ.

لَكِنَّ رُوزْفِيتَا هَزَّتْ رَأْسَهَا نَافِيَةً، وَقَالَتْ وَهِيَ تَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهَا مُحَاوِلَةً أَنْ تُوَاسِينِي: “أَنْتِ تَعْلَمِينَ جَيِّدًا أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ ٱللَّائِقِ أَنْ تَلْعَبِي مَعَ أَطْفَالِ هٰذَا ٱلْعَالَمِ.”

قُلْتُ بِصَوْتٍ خَافِتٍ، كَمَنْ يُنَاجِي نَفْسَهُ: “وَلٰكِنَّهَا أَوَّلُ دَعْوَةٍ أَتَلَقَّاهَا.”

سَأَلَتْنِي بِقَلَقٍ: “هَانَا، هَلْ نَسِيتِ مَا قَالَهُ ٱلْأَخُ يُوخِن فِي ٱلِٱجْتِمَاعِ ٱلْأَخِيرِ؟”

هَزَزْتُ رَأْسِي نَفْيًا، وَقَدْ تَمَلَّكَنِي ٱلْخَوْفُ، وَتَذَكَّرْتُ تَحْذِيرَهُ لَنَا مِنْ تَمْضِيَةِ ٱلْوَقْتِ مَعَ أُنَاسٍ لَا يُؤْمِنُونَ.

قَالَتْ بِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ، كَأَنَّهَا تُعِيدُ لِي دَرْسًا مَعْرُوفًا: “أَتَدْرِينَ مَا ٱلَّذِي قَدْ يَحْصُلُ إِنْ صَادَقْتِ أَطْفَالَ ٱلْعَالَمِ؟”

أَوْمَأْتُ بِرَأْسِي. “قَدْ يَنْبِذَنِي يَهْوَهْ”، تَمْتَمْتُ.

هَزَّتْ رَأْسَهَا مُوَافِقَةً، وَقَالَتْ بِلُطْفٍ مُرِيبٍ: “بِٱلضَّبْطِ، يَا صَغِيرَتِي. وَيَهْوَهْ يَرَى كُلَّ مَا تَفْعَلِينَهُ. بَلْ إِنَّهُ يَرَى حَتَّى أَفْكَارَكِ. أَلَيْسَ هٰذَا رَائِعًا؟ بِهٰذِهِ ٱلطَّرِيقَةِ، يَبْقَى مَعَكِ دَائِمًا، وَيَحْرُسُكِ فِي كُلِّ حِينٍ.”

ٱبْتَسَمَتْ لِي رُوزْفِيتَا بِرِفْقٍ وَقَالَتْ: “وَهُوَ يَحْرُسُكِ مِنَ ٱلْوُقُوعِ فِي شِبَاكِ ٱلشَّيْطَانِ وَأَعْوَانِهِ مِنَ ٱلشَّيَاطِينِ.”

ٱرْتَعَشَ جَسَدِي، وَتَدَفَّقَ إِلَى ذَاكِرَتِي ذَاكَ ٱلْمَخْلُوقُ ٱلْمُرْعِبُ ٱلَّذِي كُنْتُ أَرَاهُ مُخْتَبِئًا تَحْتَ سَرِيرِي. لَقَدْ كَانَتْ رُوزْفِيتَا هِيَ مَنْ طَمْأَنَنِي ذَاتَ لَيْلَةٍ، وَأَقْنَعَتْنِي أَنَّهُ قَدْ رَحَلَ.

ثُمَّ تابَعَتْ بِنَبْرَةٍ جادَّةٍ، كَأَنَّهَا تُلْقِي نُبُوءَةً لا مَفَرَّ مِنْهَا: “ٱلْأَطْفَالُ فِي صَفِّكِ، أُولَئِكَ ٱلَّذِينَ لَا يَزَالُونَ يَحْتَفِلُونَ وَيَضْحَكُونَ، سَيُفْنَوْنَ قَرِيبًا عَلَى يَدِ ٱللَّهِ.”

وَأَرْدَفَتْ بِنَظْرَةٍ ثَاقِبَةٍ تَخْتَرِقُ ٱلصَّمْتَ: “وَأَنْتِ لَا تُرِيدِينَ أَنْ تَمُوتِي مَعَهُمْ، أَلَيْسَ كَذَٰلِكِ؟”

بِالطَّبْعِ، لَمْ أَكُنْ أُرِيدُ ذَٰلِكَ. وَلِذَٰلِكَ مَرَّ ذَٰلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِي تَلَقَّيْتُ فِيهِ أَوَّلَ دَعْوَةٍ لِحُضُورِ حَفْلِ مِيلَادٍ، دُونَ أَنْ أَذْهَبَ، وَدُونَ أَنْ أَنْدَمَ. بَلْ شَعَرْتُ بِنَوْعٍ غَرِيبٍ مِنَ ٱلرَّاحَةِ، كَأَنَّنِي تَجَنَّبْتُ مَصِيرًا مُظْلِمًا كَانَ يَتَرَصَّدُنِي.

وَلَٰكِنْ تِلْكَ ٱلْحِكَايَةُ أَصْبَحَتِ ٱلْآنَ مِنْ زَمَنٍ مَضَى. كُنْتُ عَلَى أَعْتَابِ عِيدِ مِيلَادِي ٱلرَّابِعَ عَشَرَ، وَكَانَ شُعُورٌ غَرِيبٌ يُرَاوِدُنِي فِي هَذِهِ ٱلْأَيَّامِ.

بَدَأَ كُلُّ شَيْءٍ حِينَ ٱقْتَرَبَ مِنِّي وَالِدِي، وَرُوزْفِيتَا، وَأَخِي فِي ٱلْإِيمَانِ يُوخِن، بَعْدَ ٱنْتِهَاءِ ٱلِٱجْتِمَاعِ فِي قَاعَةِ ٱلْمَلَكُوتِ، وَطَلَبُوا أَنْ يَتَحَدَّثُوا إِلَيَّ عَلَى ٱنْفِرَادٍ.

قُلْتُ بِقَلَقٍ: “هَلْ فَعَلْتُ شَيْئًا خَاطِئًا؟”

فَقَدْ كَانَ مِنَ ٱلْمُعْتَادِ أَنْ يَتَدَخَّلَ ٱلْأَخُ يُوخِن، بِصِفَتِهِ كَبِيرَ ٱلْجَمَاعَةِ، عِنْدَمَا يَكُونُ هُنَاكَ مَا يُثِيرُ ٱلْقَلَقَ مِنْ تَصَرُّفَاتِ ٱلصِّغَارِ أَوِ ٱلْفِتْيَانِ.

هَزَّ وَالِدِي رَأْسَهُ نَافِيًا، وَمَدَّتْ رُوزْفِيتَا يَدَهَا لِتَضَعَهَا بِرِفْقٍ فَوْقَ يَدِي، كَأَنَّهَا تُطَمْئِنُنِي.

قَالَ ٱلْأَخُ يُوخِن مُبْتَسِمًا: “لَا، يَا هَانَّا، أَنْتِ لَمْ تَرْتَكِبِي ذَنْبًا.”

ثُمَّ أَضَافَ بِنَبْرَةٍ هَادِئَةٍ: “وَلَٰكِنْ لَدَيْنَا سَبَبٌ وَجِيهٌ لِنُجْرِيَ هَذَا ٱلْحَدِيثَ مَعَكِ، عَلَى مَهْلٍ.”

جَلَسْتُ صَامِتَةً، أُرَاقِبُهُمْ بِقَلَقٍ لَا أَفْهَمُهُ.

تَابَعَ ٱلْأَخُ يُوخِن: “أَخْبَرَتْنِي ٱلْأُخْتُ رُوزْفِيتَا أَنَّ تَغَيُّرًا كَبِيرًا قَدْ طَرَأَ عَلَى حَيَاتِكِ مُؤَخَّرًا.”

رَفَعْتُ رَأْسِي نَحْوَهُ بِحَيْرَةٍ.

قَالَ وَهُوَ يُثَبِّتُ نَظَرَهُ فِي عَيْنَيَّ: “جَسَدُكِ بَدَأَ يَتَغَيَّرُ، أَلَيْسَ كَذَٰلِكِ، يَا هَانَّا؟”

شَعَرْتُ بِوَجْنَتَيَّ تَشْتَعِلَانِ، وَٱحْمَرَّ وَجْهِي عَلَى ٱلْفَوْرِ.

قَالَتْ رُوزْفِيتَا بِنَبْرَةٍ حَانِيَةٍ: “لَا دَاعِيَ لِلْخَجَلِ.”

ثُمَّ أَرْدَفَ ٱلْأَخُ يُوخِن بِٱبْتِسَامَةٍ خَفِيفَةٍ، كَأَنَّهُ يُلْقِي حَقِيقَةً بِيُولُوجِيَّةً بَسِيطَةً: “صَدْرُكِ بَدَأَ يَنْمُو، وَٱلدَّوْرَةُ ٱلشَّهْرِيَّةُ قَدْ بَدَأَتْ.”

فِي تِلْكَ ٱللَّحْظَةِ، شَعَرْتُ بِدُوَارٍ مُفَاجِئٍ، وَٱخْتَلَطَ ٱلْخَجَلُ فِي دَاخِلِي بِٱلدَّهْشَةِ، وَأَنَا أَسْتَمِعُ إِلَيْهِ يَتَحَدَّثُ عَنِّي بِهَذِهِ ٱلثِّقَةِ وَٱلْهُدُوءِ.

قَالَ ٱلْأَخُ يُوخِن بِنَبْرَةٍ هَادِئَةٍ: “رُوزْفِيتَا أَخْبَرَتْنِي أَنَّ لَدَيْكِ بَعْضَ ٱلْأَسْئِلَةِ حَوْلَ هَذَا ٱلْأَمْرِ، أَهَذَا صَحِيحٌ؟”

كُنْتُ أَحْمِلُ فِي صَدْرِي أَلْفَ سُؤَالٍ… بَلْ أَكْثَرَ، وَلٰكِنِّي هَزَزْتُ رَأْسِي صَامِتَةً. لَمْ أَشَأْ أَنْ أَفْتَحَ لِلْأَخِ يُوخِن بَابًا لِلْكَلَامِ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا يَجُولُ فِي خَاطِرِي.

لَا عَنْ صَدْرِي ٱلصَّغِيرِ، ٱلَّذِي بَدَأَ يَتَكَوَّرُ فِي خَفَرٍ مُرْبِكٍ، وَيُؤْلِمُنِي كَأَنَّهُ يُبْلِغُنِي بِقَسْرٍ مَا لَا أُرِيدُهُ.

وَلَا عَنْ تِلْكَ ٱلنَّزِيفَاتِ ٱلْمُفْزِعَةِ ٱلَّتِي مَا زِلْتُ أَعْجَزُ عَنْ فَهْمِ سَبَبِهَا، أَوْ كُنْهِ مَعْنَاهَا.

كُنْتُ مَذْهُولَةً، بَلْ مُهَانَةً، مِنْ فِكْرَةِ أَنَّ رُوزْفِيتَا قَدْ تَحَدَّثَتْ إِلَى ٱلْأَخِ يُوخِن عَنْ تِلْكَ ٱلتَّغَيُّرَاتِ ٱلْخَفِيَّةِ. شَعَرْتُ بِٱلْخَجَلِ… بَلْ بِٱلْخِزْيِ. لَمْ أَكُنْ أُرِيدُ لِكَبِيرِ جَمَاعَتِنَا أَنْ يَعْرِفَ شَيْئًا عَنْ هَذِهِ ٱلْتَحَوُّلَاتِ ٱلْمُرَوِّعَةِ ٱلَّتِي بَدَأَتْ تَتَسَلَّلُ إِلَى جَسَدِي.

قَالَ بِرِقَّةٍ: “بِإِمْكَانِكِ أَنْ تَتَحَدَّثِي مَعِي عَنْ أَيِّ شَيْءٍ، يَا هَانَّا.”

تَمْتَمْتُ بِٱضْطِرَابٍ: “وَلٰكِنِّي لَا أُرِيدُ ٱلْحَدِيثَ عَنْ هٰذَا.”

سَادَ صَمْتٌ ثَقِيلٌ، ٱمْتَدَّ طَوِيلًا، حَتَّى ظَنَنْتُهُ دَهْرًا.

صَمْتٌ كُنْتُ أَسْمَعُ فِيهِ خَفَقَاتِ قَلْبِي كَطُبَاوْل خَافِتَةٍ فِي رَأْسِي، وَكُلُّ ٱلْعُيُونِ مُثَبَّتَةٌ عَلَيَّ، تَفْتَرِسُنِي، تُفَكِّكُنِي، وَفِي لَحْظَةٍ مُفْزِعَةٍ، خُيِّلَ إِلَيَّ أَنَّنِي أَجْلِسُ أَمَامَهُمْ عَارِيَةً تَمَامًا.

أَخَذْتُ أُحَرِّكُ جَسَدِي عَلَى ٱلْكُرْسِيِّ فِي قَلَقٍ، لَا أَدْرِي كَيْفَ أُخْفِي تَوَتُّرِي، وَلَا أَيْنَ أَضَعُ خَجَلِي.

قَالَ ٱلْأَخُ يُوخِن أَخِيرًا، وَهُوَ يَنْهَضُ مِنْ مَجْلِسِهِ: “إِذَا لَمْ تَكُنْ لَدَيْكِ حَقًّا أَيُّ أَسْئِلَةٍ، فَلَنْ نُلِحَّ عَلَيْكِ أَكْثَرَ ٱلْيَوْمَ.”

تَنَفَّسْتُ ٱلصُّعَدَاءَ، وَنَهَضْتُ عَلَى ٱلْفَوْرِ، عَازِمَةً عَلَى ٱلْخُرُوجِ بِأَسْرَعِ مَا يُمْكِنُ.

وَلٰكِنَّهُ أَوْقَفَنِي بِنَبْرَةٍ هَادِئَةٍ: “لَحْظَةً وَاحِدَةً بَعْدُ، يَا هَانَّا.”

تَوَقَّفْتُ مُتَرَدِّدَةً، وَأَنَا أُقَاوِمُ رَغْبَتِي فِي ٱلْفِرَارِ.

قَالَ، وَهُوَ يُنَاوِلُنِي كُتَيِّبًا رَقِيقًا: “هٰذَا كِتَابٌ صَغِيرٌ لَكِ. سَتَجِدِينَ فِيهِ شَرْحًا لِمَا يَحْدُثُ لِجَسَدِكِ، حِينَ تَنْتَقِلِينَ مِنْ مَرْحَلَةِ ٱلطُّفُولَةِ إِلَى عَالَمِ ٱلنِّسَاءِ. سَيُجِيبُ عَنْ كُلِّ تَسَاؤُلَاتِكِ. لَقَدْ كُتِبَ عَلَى ضَوْءِ تَعَالِيمِ يَهْوَه، وَسَيُعِينُكِ وَيَحْمِيكِ، مِنَ ٱلْآخَرِينَ… وَرُبَّمَا يَوْمًا، مِنْ نَفْسِكِ أَيْضًا.”

تَمْتَمْتُ: “شُكْرًا”، دُونَ أَنْ أَفْهَمَ حَرْفًا مِمَّا قَالَهُ، ثُمَّ ٱنْسَحَبْتُ بِهُدُوءٍ.

وَفِي ٱلْمَنْزِلِ، دَسَسْتُ كِتَابَ ٱلْأَخِ يُوخِن بِعَزْمٍ تَحْتَ فِرَاشِ سَرِيرِي، وَقَرَّرْتُ أَلَّا أَفْتَحَهُ أَبَدًا.

وَفِي ٱلْمَدْرَسَةِ، بَدَأْتُ أَبْتَعِدُ عَنْ زَمِيلَاتِي أَكْثَرَ مِنْ أَيِّ وَقْتٍ مَضَى، حَتَّى صِرْتُ كَأَنِّي ظِلٌّ يَتَجَنَّبُ ٱلضَّوْءَ.

بَدَأَتْ بَعْضُ ٱلْفَتَيَاتِ فِي صَفِّنَا يُزَيِّنَّ وُجُوهَهُنَّ بِٱلْمَكْيَاجِ فِي ٱلْآوِنَةِ ٱلْأَخِيرَةِ. وَكُنْتُ، كُلَّمَا جَلَسْنَا فِي ٱلْحِصَصِ، أُرَاقِبُ تِلْكَ ٱلْوُجُوهَ ٱلْمُتْقَنَةَ ٱلتَّجْمِيلِ، وَأَتَخَيَّلُ، بِخَوْفٍ يَخْتَلِطُ بِشَيْءٍ غَرِيبٍ مِنَ ٱلرِّضَا، كَيْفَ سَتَنْزِفُ هَذِهِ ٱلْمَلاَمِحُ ٱلْجَمِيلَةُ وَتَتَحَطَّمُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ، حِينَ يَهْبِطُ يَسُوعُ إِلَى ٱلْأَرْضِ لِيُفْنِيَ ٱلْكَافِرِينَ جَمِيعًا.

وَلٰكِنَّ ٱلْفَتَيَاتِ لَمْ يَكُنَّ يُظْهِرْنَ خَوْفًا. عَلَى ٱلْعَكْسِ، كُنَّ يَزْدَدْنَ جُرْأَةً يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ. لَمْ يَعُدْ تَزَيُّنُهُنَّ يَقْتَصِرُ عَلَى ٱلصَّبَاحِ، بَلْ كُنَّ يَهْرَعْنَ إِلَى ٱلْمَرَايَا فِي دَوْرَاتِ ٱلْمِيَاهِ خِلَالَ ٱلِٱسْتِرَاحَاتِ، يَضَعْنَ ٱلْأَلْوَانَ عَلَى وُجُوهِهِنَّ، وَيَتَهَامَسْنَ عَنِ ٱلْأَوْلَادِ، وَيَتَضَاحَكْنَ وَهُنَّ يَتَصَفَّحْنَ مَجَلَّةَ “بْرَافُو” ٱلشَّبَابِيَّةَ، تِلْكَ ٱلَّتِي حَذَّرَنَا مِنْهَا ٱلْأَخُ يُوخِن قَائِلًا: “إِنَّهَا تُفْضِي مُبَاشَرَةً إِلَى أَحْضَانِ ٱلشَّيْطَانِ وَأَعْوَانِهِ.”

كُنْتُ أَمُرُّ بَيْنَهُنَّ مُتَرَنِّحَةً، كَمَنْ يَمْشِي فِي ضَبَابٍ كَثِيفٍ، وَٱلْخَوْفُ يَعْصِرُ قَلْبِي مِنْ ٱحْتِمَالِ أَنْ يَنْجَحْنَ يَوْمًا فِي جَرِّي إِلَى هَاوِيَتِهِنَّ ٱلْمُلَوَّثَةِ… إِلَى عَالَمِهِنَّ ٱلْفَاسِدِ.

فِي ٱلْيَوْمِ ٱلسَّابِقِ لِبُلُوغِي ٱلرَّابِعَةَ عَشْرَةَ، وَصَلَتْ فَتَاةٌ جَدِيدَةٌ إِلَى صَفِّنَا.

قَالَتِ ٱلسَّيِّدَةُ هِيرْتْزُوغ، وَهِيَ لَا تُخْفِي نَفَادَ صَبْرِهَا: “هٰذِهِ مَارِي.” كَانَتْ مُعَلِّمَتُنَا ٱمْرَأَةً قَصِيرَةَ ٱلْقَامَةِ، مُسِنَّةً، دَائِمَةَ ٱلْإِرْهَاقِ، وَكَانَ صَفُّنَا مُكْتَظًّا أَصْلًا. كُنَّا سِتَّةً وَثَلَاثِينَ تِلْمِيذًا، وَمَارِي سَتَكُونُ ٱلسَّابِعَةَ وَٱلثَّلَاثِينَ.

تَنَهَّدَتِ ٱلسَّيِّدَةُ هِيرْتْزُوغ وَسَأَلَتْ: “أَيْنَ يُوجَدُ مَقْعَدٌ فَارِغٌ؟” بَدَا أَنَّهَا فَقَدَتْ مُنْذُ زَمَنٍ طَوِيلٍ ٱلْقُدْرَةَ عَلَى تَتَبُّعِ أَمَاكِنِ ٱلْجُلُوسِ.

هَزَّتْ سَابْرِينَا كَتِفَيْهَا وَقَالَتْ بِصَوْتٍ عَالٍ: “مَا فِي غَيْرْ جَنْبْ هَانَّا.”

فَأَشَارَتِ ٱلْمُعَلِّمَةُ إِلَى مَارِي قَائِلَةً: “ٱجْلِسِي إِذًا إِلَى جَانِبِ هَانَّا.” وَدَفَعَتْهَا بِلُطْفٍ فِي ٱتِّجَاهِ مَقْعَدِي.

أَوْمَأَتْ مَارِي بِرَأْسِهَا مُبْتَسِمَةً، وَجَلَسَتْ إِلَى جَانِبِي. حَاوَلْتُ أَنْ أَبْدُوَ صَغِيرَةً… أَنْ أَخْتَفِي فِي جَسَدِي.

قَالَتْ مَارِي بِلُطْفٍ: “مَرْحَبًا.”

فَأَجَبْتُ مُتَرَدِّدَةً: “مَرْحَبًا…”

نَظَرْتُ إِلَيْهَا بِٱحْتِرَاسٍ. عَلَى ٱلْأَقَلِّ، لَمْ تَكُنْ تَضَعُ مَسَاحِيقَ ٱلتَّجْمِيلِ، وَوَجْهُهَا ٱلشَّاحِبُ ٱلضَّيِّقُ لَمْ يَبْدُ فَاسِدًا كَثِيرًا. وَلٰكِنَّهَا كَانَتْ، بِطَبِيعَةِ ٱلْحَالِ، غَيْرَ مُؤْمِنَةٍ، وَلِذٰلِكَ قَرَّرْتُ أَلَّا أُعِيرَهَا أَيَّ ٱهْتِمَامٍ، وَلَا أَفْتَحَ مَعَهَا أَيَّ حَدِيثٍ.

وَلٰكِنَّ ٱلْأُمُورَ لَمْ تَسِرْ كَمَا أَرَدْتُ… فَقَدْ تَغَيَّرَ كُلُّ شَيْءٍ فِي ٱلِٱسْتِرَاحَةِ ٱلتَّالِيَةِ.

بَدَأَ كُلُّ شَيْءٍ حِينَ أَصَرَّتْ مَارِي عَلَى ٱلْبَقَاءِ إِلَى جَانِبِي. خَرَجَتْ مِنَ ٱلصَّفِّ تَمْشِي بِمُحَاذَاتِي، وَوَاصَلَتِ ٱلسَّيْرَ مَعِي فِي مَمَرِّ ٱلْمَدْرَسَةِ.

قَالَتْ، وَهِيَ تَبْدُو فِي مِزَاجٍ حَسَنٍ: “أَنَا مِنْ فْرَانْكْفُورْت. يَا لَلْغَبَاءِ… أَنْ أُضْطَرَّ لِتَغْيِيرِ ٱلْمَدِينَةِ وَٱلْمَدْرَسَةِ وَٱلْأَصْدِقَاءِ فِي مُنْتَصَفِ ٱلسَّنَةِ هٰكَذَا!”

ثُمَّ نَظَرَتْ إلَيَّ وأَضافَتْ: “وَلٰكِنْ، لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَلٌّ آخَر. جَدِّي مَرِضَ بَصُورَةٍ مُفَاجِئَة، وأُمِّي كَانَتْ قَدْ وَعَدَتْهُ دَائِمًا أَنْ تَعْتَنِيَ بِهِ إِذَا أَصَابَهُ مَكْرُوه. هِيَ طَبِيبَة، وَجَدِّي لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَأْتِيَ لِلْعَيْشِ مَعَنَا فِي فْرَانْكْفُورْت، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ هُنَا مَنْزِلًا كَبِيرًا. فَانْتَقَلْنَا لِنُقِيمَ مَعَهُ، أَنَا وَأُمِّي وَأَخِي. أُمِّي تَعْمَلُ الآنَ فِي مُسْتَشْفَى سَانْتْ فِينْتْسِن”.

أَوْمَأْتُ بِرَأْسِي صَامِتَةً، وَفِي نَفْسِي شُعُورٌ بِأَنَّ “مَارِي” تُحَاصِرُنِي بِكَلَامِهَا. لَمْ أَفْهَمْ لِمَاذَا تَتَحَدَّثُ إِلَيَّ بِهٰذِهِ الْحَمِيمِيَّة؟ لِمَاذَا لَمْ تَذْهَبْ إِلَى بَقِيَّةِ الْفَتَيَاتِ لِتُكَوِّنَ صَدَاقَاتٍ مَعَهُنَّ؟ مَا الَّذِي تُرِيدُهُ مِنِّي أَنَا بِالذَّاتِ؟

تَمْتَمْتُ، وَفِي بَطْنِي ذٰلِكَ التَّوَتُّرُ الْمَأْلُوفُ الَّذِي يَزُورُنِي كَثِيرًا فِي هٰذِهِ الْأَيَّام: “أَنَا… أَنَا يَجِبْ أَنْ أذهبَ إلى الْحَمَّام”.

ثُمَّ انْسَحَبْتُ مُسْرِعَةً، أَتَظَاهَرُ بِحَاجَةٍ مُلِحَّة، وَدَخَلْتُ دَوْرَةَ الْمِيَاه.

قَالَتْ “مَارِي”، وَعَلَى وَجْهِهَا ابْتِسَامَةٌ طُفُولِيَّة: “سَآتِي مَعَكِ”، ثُمَّ تَبِعَتْنِي دُونَ تَرَدُّد.

أَسْرَعْتُ إِلَى إِحْدَى الْكَبَائِنِ الضَّيِّقَةِ، أَغْلَقْتُ الْبَابَ بِإِحْكَام، وَهُنَاكَ كَانَتِ الْمُفَاجَأَة: قَدْ بَدَأَتْ دَوْرَتِي الشَّهْرِيَّة!

وَلٰكِنْ… لَمْ يَكُنْ هٰذَا وَقْتَهَا!

كُنْتُ قَدْ حَسِبْتُ فِي مَرَّاتٍ سَابِقَةٍ أَنَّ بَيْنَ كُلِّ نَوْبَتَيْنِ مِنْ تِلْكَ النَّزِيفَاتِ الْمُؤْلِمَةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا تَقْرِيبًا، أَسْتَرِيحُ فِيهَا مِنَ الْخَوْفِ وَالِارْتِبَاك… وَلٰكِنْ هَا هِيَ قَدْ بَاغَتَتْنِي، وَلَمْ يَكُنْ مَعِي حَتَّى فُوطَةٌ وَاحِدَة!

أَسْنَدْتُ ظَهْرِي إِلَى الْبَابِ، مَذْهُولَةً، وَبَدَأْتُ أَبْكِي مِنْ شِدَّةِ الِارْتِبَاك. حَاوَلْتُ أَنْ أَخْنُقَ صَوْتَ بُكَائِي قَدْرَ الْمُسْتَطَاع، وَلٰكِنْ يَبْدُو أَنَّ “مَارِي” سَمِعَتْهُ.

قَالَتْ بِصَوْتٍ خَافِتٍ مِنْ خَلْفِ الْبَاب: “هَانَا؟ كُلُّ شَيْءٍ عَلَى مَا يُرَام؟”

عَضَضْتُ شَفَتَيَّ، أُحَاوِلُ أَنْ أُسَيْطِرَ عَلَى شَهْقَتِي، وَلٰكِنِّي فَشِلْت. وَبِأَصَابِعَ مُرْتَجِفَةٍ، بَدَأْتُ أَلُفُّ شَيْئًا مِنْ وَرَقِ الْحَمَّامِ الرَّمَادِيِّ، مُحَاوِلَةً أَنْ أَضَعَهُ فِي مَلَابِسِي مُؤَقَّتًا… وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يَكْفِي، وَلَنْ يَحْجُبَ الدَّم.

هَمَسْتُ، وَجْهِي قَدِ احْمَرَّ مِنَ الْحَرَجِ: “مَارِي؟”

أَجَابَتْ فَوْرًا: “نَعَم؟”

قُلْتُ بِصَوْتٍ يَكَادُ لَا يُسْمَعُ: “هَلْ… هَلْ مَعَكِ فُوطَةٌ صِحِّيَّة؟ جَاءَتْنِي… فَجْأَةً…”

أَجَابَتْ “مَارِي” بِابْتِسَامَةٍ دَافِئَةٍ، وَضَحِكَتْ بِخِفَّة: “يَا مِسْكِينَة! هٰذَا حَدَثَ لِي أَيْضًا مِنْ قَبْل. انْتَظِرِي، سَأُفَتِّشُ”.

سَمِعْتُ صَوْتَ فَتْحِ سَحَّابَاتِ حَقِيبَتِهَا.

ثُمَّ هَمَسَتْ، وَقَالَتْ وَهِيَ تَدْفَعُ شَيْئًا تَحْتَ الْبَاب: “نَعَمْ، لَدَيَّ شَيْءٌ مَعِي. تَفَضَّلِي”.

أَمْسَكْتُ بِيَدِيَ الْمُرْتَجِفَةِ مَا مَدَّتْهُ لِي، وَلَمْ أُدْرِكْ مَا هُوَ ذٰلِكَ الشَّيْء. كَانَ قِطْعَةً صَغِيرَةً، نَاعِمَةً، بَيْضَاءَ، مَلْفُوفَةً فِي غِلَافٍ بِلَاسْتِيكِيٍّ شَفَّاف.

لَمْ يَكُنْ هٰذَا بِالتَّأْكِيدِ فُوطَةً صِحِّيَّة! هَلْ تُرِيدُ “مَارِي” أَنْ تَسْخَرَ مِنِّي؟

سَأَلْتُهَا بِشَكٍّ، وَقَلْبِي يَخْفِقُ بِالضَّعْفِ وَالْفَضِيحَة: “مَا هٰذَا؟”

فَأَجَابَتْ “مَارِي” بِدَهْشَة: “إِنَّهُ تَمّوس. لِلْأَسَفِ لَيْسَ مَعِي فُوطَة، وَلٰكِنَّ التَّمُّوسَ أَفْضَلُ بِكَثِير”.

وَقَفْتُ حَائِرَةً، لا أَدْرِي مَاذَا أَفْعَلُ. سَأَلْتُهَا أَخِيرًا، وَفِي نَبْرَتِي حَيْرَةٌ وَخَجَلٌ لَمْ أَشْعُرْ بِمِثْلِهِمَا مِنْ قَبْلُ: “وَكَيْفَ يُسْتَعْمَلُ هَذَا؟”

أَجَابَتْ مَارِي: “أَلَا تَعْرِفِينَ التَّمُّوس؟”

قُلْتُ بِنَبْرَةٍ خَافِتَةٍ: “لَا.”

بَدَتْ مَارِي تَبْحَثُ عَنِ الْكَلِمَاتِ، ثُمَّ فَسَّرَتْ: “هُوَ مِثْلُ الْفُوطَةِ، لَكِنَّكِ تُدْخِلِينَهُ…”

فَجْأَةً، سَمِعْتُ صَوْتَ فَتْحِ بَابِ مِرْحَاضِ الْفَتَيَاتِ. صَرَخْتُ مَذْعُورَةً: “اُخْرُسِي!”

فُوجِئَتْ مَارِي، وَصَمَتَتْ.

سَمِعْتُ بَعْضَ فَتَيَاتِ صَفِّي وَهُنَّ يَدْخُلْنَ إِلَى دَوْرَةِ الْمِيَاهِ. قَالَتْ دِيبُورَا لِمَارِي: “أَلَيْسَتْ أَنْتِ الْجَدِيدَةَ؟”

أَجَابَتْ مَارِي: “نَعَمْ، هَذَا أَنَا.”

ضَحِكَتْ دِيبُورَا، وَقَالَتْ مَازِحَةً: “لَا تَكْتَرِثِي لِأَنَّكِ جَالِسَةٌ بِجَانِبِ الْعَجُوزِ الْغَبِيَّةِ، تَعَوَّذْي بِاللَّهِ.”

رَدَّتْ مَارِي بِاسْتِغْرَابٍ: “عَجُوزٌ … أتَعَوَّذْ بِاللَّهِ؟”

قَالَتْ أَمَانْدَا ضَاحِكَةً بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ: “نَعَمْ، هَانَا تِلْكَ الْمَرْأَةُ الْمَجْنُونَةُ الطَّائِفِيَّةُ تَمَامًا. أَلَمْ تَرَيْ كَيْفَ تَرْتَدِي مَلَابِسَ غَرِيبَةً وَتَمْشِي بِتَكَبُّرٍ فِي كُلِّ مَكَانٍ؟”

أَجَابَتْ مَارِي بِبُرُودٍ: “لَا، لَمْ يَلْفِتْ انْتِبَاهِي ذَلِكَ حَقًّا. عَلَى الْعَكْسِ، وَجَدْتُهَا لَطِيفَةً إِلَى حَدٍّ مَا.”

رَدَّتْ دِيبُورَا بِصَدْمَةٍ: “لَطِيفَةٌ؟! هَانَا غَبِيَّةٌ جِدًّا، سَتَرَيْنَ ذَلِكَ بِنَفْسِكِ قَرِيبًا…”

تَابَعَتْ أَمَانْدَا بِسُخْرِيَّةٍ: “هِيَ تَجْرِي تَقْرِيبًا كُلَّ يَوْمٍ مَعَ وَالِدَتِهَا الْمُتَدَيِّنَةِ الثَّقِيلَةِ مِنْ بَيْتٍ إِلَى آخَرَ، وَتُحَدِّثُ النَّاسَ عَنِ اللَّهِ. وَلَا يُسْمَحُ لَهَا بِالذَّهَابِ إِلَى السِّينَمَا، وَلَا السَّهَرِ مَعَنَا، وَلَمْ يُسْمَحْ لَهَا حَتَّى بِالذِّهَابِ مَعَنَا فِي رِحْلَةِ الصَّفِّ…”

وَأَضَافَتْ بِتَهَكُّمٍ: “حَتَّى لَمْ يُسْمَحْ لَهَا وَالِدَاهَا الْغَبِيَّانِ بِالذَّهَابِ إِلَى دُرُوسِ السِّبَاحَةِ مَعَنَا.”

“لَا يُسْمَحُ لَهَا بِالِاحْتِفَالِ بِعِيدِ مِيلَادِهَا، وَلَا يَحْتَفِلُونَ حَتَّى بِعِيدِ الْمِيلَادِ الْمَجِيدِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ خَطِيئَةٌ، خَطِيئَةٌ، خَطِيئَةٌ…” ضَحِكَتْ زِينْيَا بِخِفَّةٍ.

قَالَتْ مَارِي بِدَهْشَةٍ: “أَنْتُنَّ تَتَحَدَّثْنَ عَنْهَا بِقَسْوَةٍ كَبِيرَةٍ.”

رَدَّتْ دِيبُورَا مُدَافِعَةً بِسُرْعَةٍ: “نَعَمْ، وَلَكِنَّهَا غَبِيَّةٌ جِدًّا أَيْضًا.”

هَمَسَتْ مَارِي: “لَا أَدْرِي…”

كُنتُ لا أزالُ واقفًة في صمتٍ وذهولٍ داخلَ كَبِينَةِ المرحاضِ المُغلقة، والدّموعُ تَسيلُ غزيرةً على وَجهي. لم تكُنْ تلك الدّموعُ لأنِّي سمعتُ الفتياتِ يُثرثرن عنِّي بِلُغَةٍ جارحة، بل لأنَّ أمرًا أعمقَ وأشدَّ وطأةً قد حدث.

وبينما هنَّ يُتابعنَ أحاديثَهُنّ عنِّي، كنتُ قد فتحتُ ذلكَ الجسمَ القُطنيَّ الغريبَ من غلافِهِ البلاستيكيِّ. لم أحتجْ إلا إلى لحظةٍ لأفهمَ كيف يُستَخدم. تساءلتُ: “ماذا عليَّ أن أفعل الآن؟” بقيَ من الدّوامِ المدرسيِّ أربعُ ساعات، والنّزيفُ كان شديدًا بما لا تحتملُهُ ورقةُ المرحاضِ الرماديَّةُ القاسيةُ حتّى نهايةِ اليوم.

أمسكتُ التامبونَ بحذرٍ، وأدخلتُه في الموضعِ الذي يخرجُ منه الدم. لم يبدُ الأمرُ مُريحًا في البدءِ، لكنِّي دفعتُهُ بأُصبُعي برفقٍ إلى الأعلى… وفجأةً، وقعَ ما لم أتوقّع! انزلقَ إصبعي خلفَه داخلَ تلك الفتحةِ الضيّقةِ الغريبة، وشعرتُ ببشرةٍ دافئةٍ ناعمةٍ، وبِخَدشٍ غريبٍ مرَّ بي. اختفى التامبونُ داخلَ جسدي، ولم أعدْ أشعُرُ به. والأعجبُ أنَّ قطراتِ الدمِ توقّفتْ كما لو لم تكُنْ أصلًا.

وقفتُ أرتجفُ، أُنصتُ إلى داخلي، إلى جسدي الّذي بدا كأنّهُ يهمِسُ لي. “ما هذا الشّعورُ الغريبُ الّذي اجتاحني حينَ لَمَسْتُ تلكَ البُقعةَ الدّافئةَ بينَ فخذَيّ؟” حاولتُ أن أتجاهَلَه، لكنِّي لم أستطع… اضطررتُ أن أمدَّ يدي مرّةً أُخرى. وعاد الشّعورُ ذاته، يطرقُ قلبي ويُربكُ أنفاسي.

رنينُ الجرسِ أنهى وجودَ الفتياتِ في المرحاض، وغادرنَ واحدةً بعد أُخرى.

نادَت ماري بهدوء: “هانا؟”

همستُ: “سآتي حالًا.”

سألتْ: “هل أنتِ بخير؟”

قلتُ بصوتٍ مُتردّد: “نعم، اذهبي أنتِ… سأصلُ بعد قليل.”

قالت: “حسنًا”، ثمّ سَمِعتُ صوتَ بابِ المرحاضِ يُغلَق خلفها.

بقيتُ واقفةً كأنَّني مشلولة، أُلامِسُ جسدي المُتوتّرَ بِلُطفٍ، مرّةً تِلوَ مرّة. وكانت تلكَ الإحساساتُ الدّافئةُ تُراوِغُني وتعودُ إليّ بلا انقطاع. “ما هذا الإحساسُ حقًّا؟”

تذكّرتُ فجأةً ما كانت تقولُهُ روزفيتا: “من الممنوعِ أن يلمسَ الإنسانُ نفسَه هناك.”

كانت تضربُ أصابعَ إخوتي الصغارِ إذا رأتهم يضعون أيديَهم بلا وعيٍ داخلَ سراويلِهم.

قال يعقوب ذات مرّة: “لكنَّ هذا الشعورَ يُدغدغ بشكلٍ جميل.”

فردّت روزفيتا بوجهٍ جامدٍ: “يا للقرف! هذا أمرٌ قذرٌ وممنوع.” ثم أجبرَته على الذّهابِ لغسلِ يديه.

وتمتم يعقوب وهو يُحدّق في أصابعه بدهشة: “لكنَّ هذا يُدغدغ…”

فقالت روزفيتا بصرامةٍ: “سيُعاقبكَ يهوه إذا لمستَ هناك مرّةً أُخرى.”

ارتَدَيْتُ مَلابِسي بِسُرْعَةٍ وأنا أَشْعُرُ بالخَجَلِ الشَّديدِ، ثُمَّ غَسَلْتُ يَدَيَّ طَوِيلًا وبِعِنَايَةٍ مَعَ الكَثِيرِ مِنَ الصَّابُونِ، وَقَرَّرْتُ بِقُوَّةٍ أَنْ أَنْسَى ذلِكَ الشُّعورَ الغَريبَ الَّذِي اكْتَشَفْتُهُ فِي نَفْسِي بِأَسْرَعِ مَا يُمْكِنُ.

وَقَسَمْتُ أَنَّنِي لَنْ أَرْتَبِطَ بِأَيِّ شَيءٍ مَعَ ماري مَرَّةً أُخْرَى. رُبَّمَا جَاءَتْ إِلَى صَفِّنَا فَقَطْ لِتَخْتَبِرَنِي؟ وَرُبَّمَا كَانَ خَلْفَ وَجْهِهَا الشَّاحِبِ البَرِيءِ شَيْطانٌ يُرِيدُ إِغْرَائِي بِالمَعْصِيَةِ؟

“لِماذا لَمَسْتُ نَفْسِي هُنَاكَ؟”

بِالتَّأْكِيدِ، لَقَدْ رَأَى يَهُوَهُ ذلِكَ. شَعَرْتُ فَجْأَةً بِغَثَيَانٍ مِنَ الخَوْفِ.

فِي فَتْرَةِ العَصْرِ، اعْتَزَلْتُ غُرْفَتِي، وَجَلَسْتُ أَتَطَلَّعُ مِنَ النَّافِذَةِ حَتَّى احْتَرَقَتْ عَيْنَايَ مِن كَثْرَةِ النَّظَرِ. كانَ السَّماءُ رَمادِيَّةً، تَبْدُو كَأَنَّهَا غَيْرُ قَادِرَةٍ عَلَى اتِّخَاذِ قَرَارٍ: هَلْ سَتُمطِرُ قَرِيبًا، أَمْ سَتَنْجَحُ الشَّمْسُ فِي اخْتِرَاقِ السُّحُبِ؟

كانَت أَلْفُ فِكْرَةٍ تَجُولُ فِي ذِهْنِي. “ماذا فَعَلْتُ اليَوْمَ بِحَقٍّ؟ إِلَى أَيْنَ دَفَعَتْنِي تِلْكَ الـ … ماري؟ هَلْ لَعَنَتْنِي؟” شَعَرْتُ بِقَذَارَةٍ وَفَسَادٍ، وَغَمَرَنِي خَوْفٌ رَهِيبٌ. فَكَّرْتُ يَائِسًة فِي “يَهُوَهَ” الَّذِي يُمْكِنُهُ أَنْ يَرَانِي فِي أَيِّ لَحْظَةٍ، وَأَصْبَحْتُ مُتَيَقِّنًة فَجْأَةً بِأَنَّنِي “سَأَمُوتُ قَرِيبًا” إِذَا جَاءَ “هَرْمَجِدُّون” وَقَتَلَ جَمِيعَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ.

انْهَمَرَت دُمُوعِي عَلَى وَجْهِ، وَرَغْمَ أَنِّي كُنْتُ أَمْسَحُهَا بِلَا انْتِهَاءِ، لَمْ تَنْقُصْ قَطُّ.

فَجْأَةً، شَعَرْتُ بِالاِشْمِئْزَازِ مِنْ دُمُوعِي نَفْسِهَا، وَكَأَنَّ جَسَدِي كُلَّهُ مَسْمُومٌ وَفَاسِدٌ. تَسَاءَلْتُ: “كَيْفَ سَيَكُونُ الحَالُ إِذَا أَرْسَلَ يَهُوَهُ يَسُوعَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ لِيُهْلِكَنِي؟” ارْتَعَشْتُ مِن رَأْسِي حَتَّى أَخْمَصِ قَدَمَيَّ، وَضَغَطْتُ جَبِينِي الحَارَّ عَلَى زُجَاجِ النَّافِذَةِ البَارِدِ.

“لا أُرِيدُ هذَا، يَا يَسُوعُ!”، كُنْتُ أُودُّ أَنْ أَصْرُخَ. “إِنَّهُ إِبْلِيسُ الَّذِي لَعَنَنِي…” لَكِنَّ هذَا لَمْ يَكُنْ يَنْفَعُنِي بِشَيْءٍ، لِأَنَّ يَهُوَهَ قَدْ رَآنِي بِالفِعْلِ، بَيْنَمَا كُنْتُ أَلْمِسُ نَفْسِي بِتِلْكَ الطَّرِيقَةِ الفَاسِدَةِ، وَأَسْتَمْتِعُ بِذَلِكَ الشُّعُورِ المَمْنُوعِ، وَكَانَ ذَلِكَ خَطِيئَةً لا تُغْتَفَرُ.

كانَ لا بُدَّ أَنْ يَقْتُلَنِي، كَمَا يَفْعَلُ مَعَ كُلِّ النَّاسِ السَّيِّئِينَ.

انْزَلَقْتُ وَأَنَا أَجْهَشُ بِالبُكَاءِ مِنْ عَلَى حَافَةِ النَّافِذَةِ، وَاخْتَبَأْتُ فِي سَرِيرِي بَاحِثًة عَن الحِمَايَةِ. كانَتْ عَيْنَايَ الخَاوِيَتَانِ تَحْتَرِقَانِ، كَأَنَّ نَارًا جَامِحَةً تَشْتَعِلُ فِي مُنْتَصَفِ رَأْسِي المُتَأَلِّمِ.

تَأَوَّهْتُ وَبَدَأْتُ أَضْرِبُ صُدُوغَيَّ حَتَّى بَدَأَتِ النُّجُومُ اللامِعَةُ تَرْقُصُ أَمَامَ عَيْنَيَّ المَغْلَقَتَيْنِ.

فِي نِهَايةِ الأَمْرِ، غَمَرَنِي التَّعَبُ، وَتَرَكْتُ يَدَيَّ تَسْقُطَانِ بِهُدُوءٍ، وَاسْتَلْقَيْتُ سَاكِنًة أَسْتَمِعُ إِلَى نَبْضِ قَلْبِي اليَائِسِ.

كانَ الهُدُوءُ يَعُمُّ المَنْزِلَ، فَقَدْ خَرَجَتْ “رُوزْفيْتَا” وَالأَطْفَالُ الصِّغَارُ لِلخِدْمَةِ التَّبْشِيرِيَّةِ.

أَنَا بَقِيتُ فِي البَيْتِ، لِأَنَّنِي كُنْتُ أُعَانِي مِنْ آلَامٍ شَدِيدَةٍ فِي أَسْفَلِ بَطْنِي.

“هَلِ ابْتَدَأَت دَوْرَتُكِ الشَّهْرِيَّةُ مِن جَدِيدٍ؟”، سَأَلَتْنِي ” رُوزْفيْتَا ” بِدَهْشَةٍ قَبْلَ أَنْ تَرْحَلَ، وَأَلْقَتْ نَظْرَةً فَاحِصَةً عَلَى التَّقْوِيمِ.

أَوْمَأْتُ بِحُزْنٍ، وَأَرْسَلْتُ نَظَرِي إِلَى الأَرْضِ.أسفل النموذج

“لم يمضِ وقتٌ طويلٌ على نزيفكِ الأخير، أليس كذلك؟” سَأَلَت رُوزْفِيتَا ونَظَرَت إليَّ بشَكٍّ.

هَزَزْتُ كَتِفَيَّ متَجَنِّبًا التَّفْكيرَ في ما حدثَ مَعي اليومَ في حَمّامِ المدرسة.

“هانا؟” قالَت رُوزْفِيتَا، وكانَ لصَوتِها نغمةٌ غريبةٌ فجأةً.

رَفَعْتُ رَأْسِي.

“هانا، أنتِ لا تَفْعَلِينَ أَشْياءَ مُحَرَّمَةً، أَليسَ كَذلِكَ؟”

احْمَرَّ وَجْهِي خَجَلًا.

“هانا؟”

كانَ صَوتُ رُوزْفِيتَا بارِدًا كَنَسِيمِ الشِّتاءِ القارِسِ.

“لا أَعرِفُ ما تَقْصِدينَ”، تَمَتَّمْتُ وأنا أَشْعُرُ كَأَنَّ الأرْضَ تحتَ قَدَمَيَّ بَدَأَتْ تَهْتِزُّ.

“هَل تَخْطُرُ بِبالِكِ أَحيانًا أَفْكارٌ نَجِسَةٌ؟ هَل تَرَاوِدُكِ أَحْلَامٌ خاطِئَةٌ؟” استَمَرَّت رُوزْفِيتَا بِصَوتٍ مُنْخَفِضٍ.

هَزَزْتُ رَأْسِي بِسُرْعَةٍ. “لا، أَبَدًا… بالطَّبْعِ لا.”

“هانا؟” أَمْسَكَت رُوزْفِيتَا وَجْهِي بِيَدَيْهَا وَأَجْبَرَتْنِي عَلَى النَّظَرِ إِلَيْها.

“أنا مُتَأَكِّدَةٌ أَنَّني لَمْ أَفْعَلْ”، هَمَسْتُ مُشَوَّشَةً.

“أنتِ تَعْلَمِينَ أَنَّ يَهُوَه يَرَاكِ في كُلِّ مَكانٍ وَزَمانٍ”، قالَت رُوزْفِيتَا.

“أَوْمَأْتُ بِرَأْسِي.”

“هَل تَلْمِسِينَ جَسَدَكِ، يا هانا؟” تَابَعَت رُوزْفِيتَا بِصَوتٍ حازِمٍ.

هَزَزْتُ رَأْسِي بِسُرْعَةٍ، فَتَنَفَّسَت رُوزْفِيتَا الصَّعْدَاءَ.

“هَذا جَيِّدٌ”، قالَت وَهيَ تَبْتَسِمُ مُجَدَّدًا. “أنتِ يا هانا، فَتاةٌ ذَكِيَّةٌ وَعاقِلَةٌ. لا تَفْعَلِينَ أَشْياءَ غَيرَ مَنطِقِيَّةٍ، أَليسَ كَذلِكَ؟”

تَبادَلْنا النَّظَرَاتِ.

“هَل قَرَأْتِ كِتابَ ‘أَسْئِلَةُ الشَّبابِ’ الَّذي أَهْداكِ إياهُ الأُخْ يُوخِن؟” سَأَلَت رُوزْفِيتَا في النِّهايَةِ.

هَزَزْتُ رَأْسِي مَرَّةً أُخْرَى بالنَّفْيِ.

“يَنْبَغِي أَنْ تَفْعَلِي ذلِكَ”، قالَت رُوزْفِيتَا بِقَلَقٍ.

“لِماذا؟” تَمَتَّمْتُ.

“فِيه أَشْياءٌ يَجِب أَنْ تَعرِفِيها الآنَ. أَشْياءٌ يُمْكِن أَنْ تَحْمِيكِ.”

وَقَفَتْ رُوزْفِيتَا لِلْحظةٍ وَنَظَرَتْ إِلَيَّ بِجِدِّيَّةٍ. “إِذَا تَكَرَّرَ لَدَيْكِ النَّزِيفُ، فَقَدْ يَكُونُ السَّببُ… أَعْتَقِدُ، قَدْ يَكُونُ السَّببُ أَنَّكِ لَمَسْتِ مِنْطَقَةَ أَسْفَلِ بَطْنِكِ وَأَفْكَارُكِ كَانَتْ نَجِسَةً حِينَهَا.”

ابْتَلَعْتُ رِيقِي وَشَعَرْتُ فَجْأَةً بِهَشَاشَةٍ وَضَعْفٍ وَتَعَبٍ شَدِيدٍ.

“لَكِنِّي حَقًّا لَمْ أَفْعَلْ…” هَمَسْتُ مُنْهَكَةً، وَكُنْتُ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ أَكْذِبُ عَلَى رُوزْفِيتَا لِلْمَرَّةِ الأُولَى. هَلْ كَانَ يَهُوَه يَرَى ذَلِكَ أَيْضًا؟

“إِذًا، هَذَا جَيِّدٌ”، كَرَّرَتْ رُوزْفِيتَا بِارْتِيَاحٍ. “إِذَا شَعَرْتِ يَوْمًا، دَعِينَا نُسَمّيهُ، بِذَلِكَ… الشُّعُورِ الْغَرِيبِ أَن تَلْمُسِي جَسَدَكِ بِنَفْسِكِ، فَعَلَيْكِ أَنْ تُخْبِرِينِي فَوْرًا، هَلْ تَسْمَعِينَ يَا هَانَا؟”

تَقَلَّصْتُ حَتَّى صَغُرْتُ قَدْرَ الْمُسْتَطَاعِ.

“لِمَاذَا؟” هَمَسْتُ، وَكَانَ صَوْتِي ضَعِيفًا رَقِيقًا إِلَى دَرَجَةٍ أَنَّنِي تَعَجَّبْتُ كَيْفَ اسْتَطَاعَتْ رُوزْفِيتَا سَمَاعِي.

“لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ حِينَئِذٍ الشَّيْطَانُ يُحَاوِلُ إِغْرَائَكِ، يَا هَانَا…”

ثُمَّ اسْتَدَارَتْ، وَأَخَذَتْ إِخْوَتِي الصِّغَارَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَذَمَّرُونَ مِنْ غُرْفَةِ الأَطْفَالِ، وَمَضَتْ بِهِمْ بَعِيدًا.

وَأَنَا الآنَ كُنْتُ مِلْتَصِقَةً وَمُتَقَلِّبَةً فِي سَرِيرِي، بَيْنَمَا بَدَأَ الْمَطَرُ يَهْطِلُ فِي الْخَارِجِ، مُحَاوِلَةً أَلَّا أُفَكِّرَ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ.

صَلَّيْتُ إِلَى يَهُوَهَ، طَالِبَةً مِنْهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي. وَآمَلُ أَلَّا يَكُونَ الْوَقْتُ قَدْ فَاتَ بَعْدُ.

“لَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً أُخْرَى أَبَدًا، مَا فَعَلْتُهُ صَبَاحَ الْيَوْمِ فِي الْمَدْرَسَةِ”، كَتَبْتُ فِي مِذْكَرتِي وَأَنَا أَشْعُرُ بِالرَّهْبَةِ وَالضَّعْفِ.

ثُمَّ تَسَلَّلْتُ إِلَى الْحَمَّامِ لِأَغْتَسِلَ جَيِّدًا. فَتَحْتُ الدُّشَّ، وَسَمَحْتُ لِلْمَاءِ الْحَارِّ أَنْ يَنْهَمِرَ عَلَى جَسَدِي بِخُطُوطٍ قَوِيَّةٍ وَثَابِتَةٍ.

ظَلَّتْ أَفْكَارِي مَشْدُودَةً إِلَى ذَلِكَ التِّمْبُونِ الرَّهِيبِ الَّذِي لَا يَزَالُ فِي دَاخِلِي، فِي تِلْكَ الْبَقَعَةِ الْمُحَرَّمَةِ النَّقِيَّةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ لِي لَمْسُهَا. لَكِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ، لَمْ أَجِدْ مَفَرًّا مِنْ ذَلِكَ.

بِتَرَدُّدٍ لَمَسْتُ الْخَيْطَ الأَزْرَقَ الْفَاتِحَ الَّذِي وَجَدْتُهُ صَبَاحًا فِي حَمَّامِ الْمَدْرَسَةِ. لَمْ أَجِدْهُ سَرِيعًا، رُبَّمَا كَانَتْ أَصَابِعِي تَرْتَعِشُ كَثِيرًا، لَكِنِّي نَجَحْتُ أَخِيرًا، وَأَلْقَيْتُ ذَلِكَ الشَّيْءَ الْقَذِرَ دُونَ أَنْ أَنْظُرَ إِلَيْهِ فِي الْمِرْحَاضِ.

ضَغَطْتُ عَلَى زِرِّ التَّدْفِيقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، حَتَّى تَأَكَّدْتُ تَمَامًا أَنَّهُ لَنْ يَظْهَرَ ثَانِيَةً.

عدتُ إلى وقوفٍ تحتَ رَذاذِ الماءِ الساخِنِ مرّةً أخرى. خَلَعَتْ رَأْسَ الدُّشّ من موضعِهِ على الحائطِ، وزادَتْ حرارةَ الماءِ شيئًا فشيئًا، حتى غطّى بخارُهُ الكثيفُ غرفةَ الحمّامِ بأكملِها، فأصبحَ كلُّ شيءٍ غيرَ مرئيّ.

وَضَعَتْ رِجْلَيَ برفقٍ على حافّةِ كابينةِ الدُّشّ، وأدرتُ رَأْسَ الدُّشّ المتدفّقَ بينَ ساقيَّ.

الماءُ الحارُّ غَسَلَ وغسَلَ وغسَلَ تلكَ المنطقةَ المحرَّمةَ، حتّى فقدتُ توازني وشعرتُ بأنّي على شَكِّ الإغماءِ.

قلتُ همسًا بلا نفس: “يهوه، اغفر لي… لا أريدُ أن أكونَ نجسةً، لا أريدُ أن أموتَ حينَ تُبنَى الجنةُ على الأرضِ، لا أريدُ أن أكونَ فاسدةً…”

تعثّرتُ مدهوشةً أثناء خروجِي من الحمّام، ثمَّ التفَفتُ تحتَ أغطيةِ سريرِي مجدّدًا. ساقاي اللتان تعرّضتا لفيضٍ كبيرٍ من الماءِ الحارِّ كانتا تحترقانِ وتخدُران، والموضعُ القذرُ بينَ ساقيَّ أَحَسَستُ فيه بحرارةٍ وألمٍ مخدّر.

غلبَني النّومُ وأنا أشعرُ بالرّاحة.

لكنّ ذلك لم يُجْدِ نفعًا، ففي منتصفِ اللَّيلِ استيقظتُ مذعورةً إذْ شعرتُ بأنّ هناكَ من يلمسُني، يداعبُني برفقٍ، ولم يتوقّف عند تلكَ البقعةِ المحرّمةِ التي لم تعدْ مخدّرةً الآن.

بِذُهولٍ أدركتُ أنّ يديَّ هما اللتان تداعبانِها.

بكيتُ بصمتٍ، وأمسكتُ بإحكامٍ يدًا بيدٍ لبرهةٍ، لكنَّ يديَ كانتا أقوى.

وبينما شعرتْ بأنَّ يهوه ينظرُ إليها بنظرةٍ شديدةٍ وقاسية، واصلتُ تدليكَ نفسي، مكتشفةً باهتزازٍ أماكنَ في جسدِي لا أفهمها، لكني كنت أُشعر فيها بوخزٍ دافئٍ وممتع.

ثمّ بكيتُ حتى غلبني النّومُ.

في اليومِ التالي كان عيدُ ميلادِي. هطلتْ أمطارٌ رماديةٌ كئيبةٌ على زجاجِ النافذةِ الضبابيّ، وهبّت رياحٌ خريفيّةٌ عاتيةٌ تثيرُ الأوراقَ الرماديةَ على الرصيفِ أمام المنزل.

قالتْ رُوزْفِيتَا عندما دخلتْ إلى المطبخِ: “كلُّ عامٍ وأنتِ بخيرٍ يا هانا”، وقبّلتْني على جبينِي.

ابتسمَ والدي وقال: “نحنُ فخورونَ بكِ، أنتِ سببُ فرحِنا الكثير”، ثمّ أخذ حقيبتَه بسرعةٍ وتوجهَ إلى عملِه.

جلستُ في رداءِ الصباحِ على طاولةِ المطبخِ، وأصبحت أُقَطِّبُ أسناني لكي لا أبكي مجدّدًا.

قالتْ رُوزْفِيتَا بعد أن أوصلت والدي إلى الباب، ودفعت إليَّ شطيرتي المدرسية: “مع ذلك، تبدين هذا الصباح وكأنك لستِ على ما يُرام، هل نمتِ نومًا سيئًا؟”

هززت كتفي باهتزازٍ خافتٍ، وشعرت بالإحباط.

تابعتْ رُوزْفِيتَا بقلقٍ وهي تضع يدها على يدي: “هل ما زال ألمُ البطن يزعجكِ؟”

حدّقتُ في يديَّ معًا، وتذكرتُ ما فعلته يدايَ في الليلة الماضية. يا لها من رُوزْفِيتَا المسكينة، لم تكن تدري ماذا ألمسُ بيدي: قذارةٌ، وسقوطٌ، وفسادٌ، وخطيئةٌ، والشيطانُ.

فَجْأَةً، ارْتَفَعَتْ فِي دَاخِلِي مَوْجَةٌ مِنَ الاشْمِئْزَازِ الشَّدِيدِ، فَانْدَفَعْتُ نَحْوَ الحَمَّامِ، وَتَقَيَّأْتُ وَأَنَا أَبْكِي.

وَعِنْدَمَا تَعَثَّرْتُ عَائِدَةً إِلَى المَطْبَخِ، قَالَتْ “رُوزفِيتَا”: “الأَفْضَلُ أَنْ تَبْقَيْ فِي المَنْزِلِ اليَوْمَ.”

هَزَزْتُ رَأْسِي صَامِتَةً، وَاخْتَبَأْتُ بِارْتِيَاحٍ تَحْتَ أَغْطِيَةِ سَرِيرِي.

فِي ذَلِكَ الصَّبَاحِ، كَتَبْتُ فِي دَفْتَرِ يَوْمِيَّاتِي لِأَوَّلِ مَرَّةٍ: “أَتَمَنَّى لَوْ كُنْتُ مَيِّتَةً. يَهْوَه سَيَقْتُلُنِي عَلَى أَيَّةِ حَالٍ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فَعَلْتُهُ. لَقَدْ تَلَوَّثْتُ. لِمَاذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ؟ أَكْرَهُ نَفْسِي. وَلَكِنَّنِي أُقْسِمُ أَنْ لَنْ أُقَارِفَ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ مُجَدَّدًا. يَهْوَه، اغْفِرْ لِي. رُوزفِيتَا، اغْفِرِي لِي. يَا أَبِي، اغْفِرْ لِي.”

فِي فَتْرَةِ بَعْدِ الظُّهْرِ، رَنَّ جَرَسُ البَابِ. كُنْتُ مُرْهَقَةً وَنُعَسَانَةً، وَأَنَا أَسْتَلْقِي فِي سَرِيرِي، فَلَمْ أُعِرِ الجَرَسَ اهْتِمَامًا فِي البِدَايَةِ. وَلَكِنَّ صَوْتًا طِفُولِيًّا صَافِيًا وَقَفَ عِنْدَ البَابِ، جَعَلَنِي أَنْتَبِهُ. كَانَ مَأْلُوفًا، وَلَكِنِّي لَمْ أَتَبَيَّنْهُ فِي اللَّحْظَةِ الأُولَى.

ثُمَّ قَالَ الصَّوْتُ، يُؤَكِّدُ شُكُوكِي: “مَرْحَبًا، أَنَا مَارِي.”

الجنة المتجمدة الجزء الثاني