كُلَّ لَيْلَةٍ كُنْتُ أَحْلُمُ تِلْكَ الأَحْلَامَ الآثِمَةَ، الَّتي كُنْتُ أَرَى فِيهَا “بَاوْل” وَأَنا نُمَارِسُ الحُبَّ.
كانَتِ الأَحْلَامُ تُثِيرُنِي، وَمَعَ كُلِّ صَبَاحٍ، أَعُودُ لِأُعاقِبَ جَسَدي الفاسِدَ بِدَبَابِيسَ حادَّةٍ أَغْرِزُها فِي جِلْدِي.
… (كُلَّ لَيْلَةٍ كُنْتُ أَحْلُمُ تِلْكَ الأَحْلَامَ الآثِمَةَ، الَّتي كُنْتُ أَرَى فِيهَا “بَاوْل” وَأَنا نُمَارِسُ الحُبَّ.
كانَتِ الأَحْلَامُ تُثِيرُنِي، وَمَعَ كُلِّ صَبَاحٍ، أَعُودُ لِأُعاقِبَ جَسَدي الفاسِدَ بِدَبَابِيسَ حادَّةٍ أَغْرِزُها فِي جِلْدِي.
لكِنَّ، كانَتْ هُناكَ أَيْضًا أَحْلامٌ أُخْرَى…
فِيهَا كُنْتُ أَتَرَنَّحُ عَلَى طَرِيقِ “النورد رينغ”، أُحاوِلُ أَنْ أُفْلِتَ مِنَ السّيّاراتِ وَالحافلاتِ المَسْرِعَةِ.
وَفِي تِلْكَ الأَحْلَامِ، كانَ “النورد رينغ” أُوتوسترادًا بِلا أَرْصِفَةٍ، بِلا أَيِّ مَنْفَذٍ أَوْ مَخْرَجٍ، بِلا مَهْرَبٍ.
كَأَنِّي كُنْتُ مَحْكُومًا عَلَيَّ أَنْ أَعِيشَ فِي مَسْرَحِ جَرِيمَةٍ لا نِهَايةَ لَهَا.
كُنْتُ أَرْكُضُ وَأَنْتَحِبُ، أُطَارِدُنِي السّيّاراتُ الْمَجْنُونَةُ، تَدْفَعُنِي مِنْ جِهَةٍ إِلَى أُخْرَى، ثُمَّ فِي النِّهَايةِ… دَائِمًا فِي النِّهَايةِ، كانَتْ تَصْدِمُنِي إِحْدَاهَا وَتُرْدِينِي قَتِيلَةً.
فِي كُلِّ حُلْمٍ مِنْ تِلْكَ الأَحْلَامِ، كُنْتُ أَمُوتُ.
لَكِنَّ ما كانَ يُثِيرُ دَهْشَتِي فِي تِلْكَ الْكَوَابِيسِ هُوَ ذاكَ التَّنَاقُضُ الْغَرِيبُ:
الخَوْفُ الْهَائِلُ وَأَنَا أَرْكُضُ لِأُنْقِذَ حَيَاتِي، يُقَابِلُهُ شُعُورٌ بِاللَّذَّةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ الْغَرِيبَةِ حِينَ يَبْدَأُ كُلُّ شَيْءٍ بِالاِنْتِهَاءِ.
تَصْدِمُنِي الْحَافِلَةُ، وَأَشْعُرُ بِوُضُوحٍ كَيْفَ تَسْحَقُنِي، كَيْفَ تَتَوَقَّفُ أَنْفَاسِي، وَكَيْفَ يَتَلَاشَى جَسَدِي فِي ضَوْءٍ أَبْيَضٍ سَاخِنٍ…
ضَوْءٍ كُنْتُ أَسْتَمْتِعُ بِهِ.
وَمَعَ ذَلِكَ، كُنْتُ أَرْتَعِدُ مِنْ ذَلِكَ الْحُلْمِ، أَرْتَجِفُ مِنْ مُجَرَّدِ تَخَيُّلِهِ.
وَكُنْتُ أَظُنُّ أَنَّنِي أَعْرِفُ مَنِ الَّذِي يُرْغِمُنِي عَلَى أَنْ أَرَاهُ مِرَارًا وَتِكْرَارًا.
كُنْتُ أَعْتَقِدُ أَنَّهُ الشَّيْطَانُ.
كَانَتْ رُوزْفِيتَا قَدْ أَكَّدَتْ لِي مَا كُنْتُ أَظُنُّهُ سَلَفًا.
بَعْدَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ الَّتِي اخْتَفَيْتُ فِيهَا لِسَاعَاتٍ، أَرَادَتْ أَنْ تَعْرِفَ لِمَاذَا هَرَبْتُ عَصْرًا، أَثْنَاءَ التَّبْشِيرِ فِي الشَّارِعِ، وَأَيْنَ قَضَيْتُ نِصْفَ اللَّيْلِ أَتَجَوَّلُ.
لَكِنَّنِي اِلْتَزَمْتُ الصَّمْتَ.
ثُمَّ أَصَابَتنِي تلكَ الْحُمَّى الْمُرْتَفِعَةُ الَّتِي لَمْ تَنْفَعْ مَعَهَا لَا الْكَمَّادَاتُ وَلَا الأَدْوِيَةُ الْخَافِضَةُ لِلْحَرَارَةِ.
وَفِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ، حِينَ أَفَقْتُ مِنْ نَوْمِي صَارِخَةً، جَاءَتْ رُوزْفِيتَا إِلَى سَرِيرِي، أَمْسَكَتْ يَدِي الْمُحْتَرِقَةَ بِكَفِّهَا الْبَارِدَةِ النَّاعِمَةِ، وَهَمَسَتْ:
“هانّا، لا تَنْسِي الشَّيْطَانَ…”
ثُمَّ تَرَكَتْنِي فِي انْتِظَارِي طُولَ النَّهَارِ.
كَانَ الْمَسَاءُ قَدِ اقْتَرَبَ، حِينَ دَخَلَتْ أَخِيرًا إِلَى غُرْفَتِي.
تَبَادَلْنَا النَّظَرَ، فَابْتَسَمَتْ لِي رُوزْفِيتَا بِصَمْتٍ.
“مَاذَا أَرَادَتِ السّيِّدَةُ فِينْتَر؟” سَأَلْتُهَا أَخِيرًا، بِصَوْتٍ حَذِرٍ، حِينَمَا لَمْ أَعُدْ أَحْتَمِلُ صَمْتَ ابْتِسَامَتِهَا.
اقْتَرَبَتْ بِبُطْءٍ، وَجَلَسَتْ بِهُدُوءٍ عَلَى طَرَفِ الْفِرَاشِ.
قَالَتْ بِنَبْرَةٍ رَقِيقَةٍ:
“هانّا، فَلْنُصَلِّ مَعًا.”
عَقَدْتُ حاجِبَيَّ،
فقالَتْ مُجَدَّدًا، بِصَوْتٍ يَتَسَرَّبُ منهُ الرَّجاء:
“هانّا، أرجوكِ…”
ثُمَّ بَدَأَتْ تُصَلِّي.
فِي البِدَايَةِ، كَانَ دُعَاؤُهَا عَادِيًّا، عَلَى النَّحْوِ الْمَأْلُوفِ.
كُنْتُ مُتَّكِئَةً إِلَى الْوِسَادَةِ، مُنْهَكَةً، أُصْغِي فِي صَمْتٍ.
لَكِنَّ شَيْئًا مَا تَغَيَّرَ فَجْأَةً فِي نَبْرَةِ صَوْتِهَا.
رَفَعَتْ عَيْنَيْهَا نَحْوَ السَّمَاءِ، وَقَالَتْ بِصَوْتٍ مُمْتَلِئٍ بِالشَّجَنِ:
“يَا رَبُّ، أَعِنِ ابْنَتَنَا الضَّالَّةَ.
يَبْدُو أَنَّ رُوحَهَا تَتَعَثَّرُ.
إِنَّهَا تَكْذِبُ عَلَيْنَا، وَتُخَالِفُ وَصَايَاكَ.
تَبْتَعِدُ عَنْكَ، يَا رَبُّ، وَتَبْتَعِدُ عَنَّا، عَنْ أَهْلِهَا.
تَفْعَلُ أَشْيَاءَ مُحَرَّمَةً، وَتُضَيِّعُ نَفْسَهَا فِي الْخَارِجِ.
أَعِنْهَا، يَا يَهْوَه، قَبْلَ فَوَاتِ الأَوَانِ.
أَعِدْهَا إِلَى طَرِيقِكَ، وَلَا تُعَاقِبْهَا بِشِدَّةٍ…”
جَلَسْتُ بُطْئًا، وَقَدِ انْتَفَضَ شَيْءٌ فِي أَعْمَاقِي.
وَهَمَسْتُ بِصَوْتٍ خَافِتٍ، مُتَرَدِّدٍ:
“روزفيتا، أَنا…”
لَكِنَّهَا قَاطَعَتْنِي بِحِدَّةٍ، وَعَيْنَاهَا تَقْدَحَانِ اتِّهَامًا:
“أَنْتِ تُسَبِّبِينَ الْبُؤْسَ لَنَا جَمِيعًا، يَا هانّا.
أَنْتِ كَاذِبَةٌ، تَائِهَةٌ، فَاسِقَةٌ، وَمَنْ يَدْرِي… رُبَّمَا أَصْبَحْتِ مُرْتَدَّةً مُنْذُ زَمَنٍ!”
هَزَزْتُ رَأْسِي بِيَأْسٍ، وَلَكِنَّ نَظْرَتَهَا ظَلَّتْ قَاسِيَةً كَالصَّخْرِ.
“أَنْتِ تُفَكِّرِينَ بِالْجِنْسِ، تَظُنِّينَ أَنَّنِي لَا أَرَى ذَلِكَ؟
أَفْكَارُكِ مَشْغُولَةٌ بِهِ طُولَ الْوَقْتِ.
تَنْسَحِبِينَ إِلَى هَذِهِ الْغُرْفَةِ، شَاحِبَةً، عَلِيلَةً، دَائِمًا تَشْكِينَ مِنْ أَلَمٍ… فِي أَسْفَلِ بَطْنِكِ،
دَوْرَتُكِ غَيْرُ مُنْتَظِمَةٍ، تَحْدُثُ كَثِيرًا…”
وَضَعْتُ يَدَيَّ عَلَى أُذُنَيَّ، لَكِنَّ روزفيتا أَمْسَكَتْ بِذِرَاعَيَّ بِشِدَّةٍ، وَجَذَبَتْنِي نَحْوَهَا.
“مَنْ يَدْرِي إِلَى أَيِّ حَدٍّ وَصَلْتِ، يَا فَتَاة!” تَمْتَمَتْ وَهِيَ تَقْتَرِبُ مِنْ وَجْهِي، تُحَدِّقُ فِيهِ كَمَنْ يُفَتِّشُ عَنْ عَفَنٍ أَوْ عَطَبٍ،
تَمَامًا كَمَا تُفْحَصُ الْخُضَرُ فِي السُّوقِ.
هَمَسْتُ، مُرْتَجِفَةً:
“لَمْ أَفْعَلْ شَيْئًا…”
وَلَكِنَّهَا لَمْ تُفْلِتْ يَدَيَّ.
قُلْتُ بِصَوْتٍ يَرْتَجِفُ:
“أَنْتِ تُؤْلِمِينِي…”
أَجَابَتْ، وَعَيْنَاهَا تَلْتَمِعَانِ بِغُصَّةِ غَضَبٍ قَرِيبَةٍ مِنَ الدَّمْعِ:
“وَأَنْتِ تُؤْلِمِينَنِي أَيْضًا.
أَشْعُرُ بِالْخِزْيِ مِنْكِ، وَلَا أَدْرِي حَقًّا مَاذَا أَفْعَلُ بِكِ بَعْدَ الآن.”
تَلاَقَتْ نَظَرَاتُنَا فِي صَمْتٍ مُرٍّ.
ثُمَّ قَالَتْ بِنَبْرَةٍ خَافِتَةٍ، يُشْبِهُ صَدَاهَا التَّحْذِيرَ:
“هانّا، هَرْمَجِدُّون قَادِمَةٌ.”
“أَعْلَمُ…” تَمْتَمْتُ وَأَنَا أَرْتَجِفُ.
“حِينَ تَقَعُ الْمَعْرَكَةُ الأَخِيرَةُ، سَيَقْتُلُكِ اللهُ.”
“أَعْلَمُ…” هَمَسْتُ، وَذِهْنِي يَسْتَحْضِرُ كَوَابِيسِي اللَّيْلِيَّةَ.
قَالَتْ روزفيتا:
“الْمَوْتُ مُؤْلِمٌ.”
“أَعْلَمُ…”
كُنْتُ أُفَكِّرُ فِي ذَلِكَ الضَّوْءِ الأَبْيَضِ، الَّذِي يَظْهَرُ فِي نِهَايَةِ حُلْمِي.
ثُمَّ سَأَلَتْ، وَصَوْتُهَا يَقْطَعُ السُّكُونَ بِحِدَّةٍ وَشَكٍّ:
“أَلَا تُرِيدِينَ أَنْ تَبْقَي شَاهِدَةً بَعْدَ الْيَوْمِ؟”
وَأَخِيرًا، أَفْلَتَتْ ذِرَاعَيَّ.
أَجَبْتُ عَلَى الْفَوْرِ، وَالدُّمُوعُ تَسِيلُ عَلَى وَجْهِي:
“بَلَى.”
قَالَتْ وَهِيَ تُثَبِّتُ نَظَرَهَا فِي عَيْنَيَّ:
“أَنْتِ تَعْرِفِينَ، يَا هانّا، أَنَّ مَنْ لَا يَكُونُ شَاهِدًا لِيَهْوَه، لَا يَكُونُ مَسِيحِيًّا.”
أَوْمَأْتُ بِرَأْسِي فِي صَمْتٍ.
“وَمَنْ لَا يَكُونُ مَسِيحِيًّا…”
تَابَعَتْ روزفيتا بِانْفِعَالٍ:
“فَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّ الْحَيَاةَ.”
أَغْمَضْتُ عَيْنَيَّ.
“وَمَنْ لَا يَحْيَا، فَهُوَ مَيِّتٌ، يَا هانّا.”
نَهَضَتْ روزفيتا فَجْأَةً، كَمَنْ أَفْرَغَ كُلَّ مَا فِي جُعْبَتِهِ.
سَمِعْتُ وَقْعَ خُطَاهَا تَمْضِي نَحْوَ الْبَابِ.
قَالَتْ بِاقْتِضَابٍ، وَهِيَ تُزِيحُ الهَوَاءَ خَلْفَهَا:
“نَامِي الآن. غَدًا نُتَابِعُ.”
كُنْتُ مُسْتَلْقِيَةً عَلَى السَّرِيرِ، عَاجِزَةً عَنْ تَحْرِيكِ إِصْبَعٍ وَاحِدٍ.
ظَلِلْتُ أُحَدِّقُ فِي السَّقْفِ، بِدُونِ رَمْشَةٍ، كَأَنَّ الزَّمَنَ تَوَقَّفَ دَاخِلِي.
ذُبَابَةٌ كَانَتْ تُطِنُّ فِي الْغُرْفَةِ مُنْذُ الصَّبَاحِ، حَطَّتْ فَوْقَ وَجْهِي،
تَجَوَّلَتْ عَلَيْهِ بِنَشَاطٍ، وَمَعَ ذَلِكَ، لَمْ أَمْلِكِ الْقُدْرَةَ عَلَى إِزَاحَتِهَا.
فِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي، جَاءَ الأَخُ يُوخِن.
لَمْ يُقْرَعْ جَرَسُ الْبَابِ، لَا صَوْتَ، لَا طَرْقٌ.
لَا بُدَّ أَنَّ روزفيتا كَانَتْ تَنْتَظِرُهُ وَاقِفَةً عِندَ النَّافِذَةِ.
دَخَلَ فَجْأَةً، مِنْ دُونِ أَنْ يَطْرُقَ.
تَقَدَّمَ بِخُطًى وَاسِعَةٍ، وَعَبَرَ الْغُرْفَةَ كَمَنْ يَعْرِفُ طَرِيقَهُ،
وَجَلَسَ عَلَى طَرَفِ سَرِيرِي بِثِقَلٍ لَاحِظْتُهُ فِي الْمَجْلِسِ.
تَرَاجَعْتُ عَنْهُ بِخَجَلٍ، وَأَخَذْتُ أُعْتَدِلُ فِي جِلْسَتِي،
وَلَمْ أَجْرُؤْ حَتَّى عَلَى النَّظَرِ إِلَى سَاعَةِ مُنَبِّهِي عَلَى الطَّاوِلَةِ.
قَالَ بِصَوْتِهِ الْهَادِئِ:
“صَبَاحُ الْخَيْرِ، يَا هانّا.”
وَوَضَعَ يَدَهُ الْكَبِيرَةَ عَلَى رَأْسِي، عَلَى شَعْرِي الْمُبَعْثَرِ الْمُتْعَبِ مِنْ نَوْمٍ قَلِقٍ مُضْطَرِبٍ.
اِنْكَمَشْتُ فِي مَكَانِي، وَجَذَبْتُ اللِّحَافَ نَحْوِي، كَأَنِّي أُقِيمُ جِدَارًا بَيْنِي وَبَيْنَهُ.
سَحَبْتُهُ حَتَّى أَسْفَلَ ذَقَنِي، وَاحْتَمَيْتُ بِهِ كَمَا يَفْعَلُ الأَطْفَالُ عِنْدَمَا يَشْعُرُونَ بِالْخَوْفِ.
يَدُ الأَخِ يُوخِن ظَلَّتْ مُسْتَقِرَّةً عَلَى رَأْسِي،
ثَقِيلَةً، دَافِئَةً، كَأَنَّهَا صَخْرَةٌ تَنْزِلُ بِرِفْقٍ عَلَى صَدْرٍ مُنْهَكٍ.
رَفَعْتُ نَظَرِي إِلَيْهِ مِنْ تَحْتِ اللِّحَافِ، وَقَلْبِي يَخْفِقُ بِشِدَّةٍ.
لِمَ جَاءَ الأَخُ يُوخِن؟
يَا إِلَهِي… أَخِي الْعَزِيزُ، صَدِيقِي الأَقْرَبُ،
ذَاكَ الطَّيِّبُ، صَاحِبُ الْعُيُونِ الزَّرْقَاءِ الْهَادِئَةِ، وَالشَّعْرِ الرَّمَادِيِّ الْمُتَمَوِّجِ النَّاعِمِ…
مَا الَّذِي جَرَى لَهُ هَذَا الصَّبَاحَ؟
كُنْتُ أَعْلَمُ دَائِمًا أَنَّهُ طَوِيلُ الْقَامَةِ،
وَلَكِنْ لَمْ أُدْرِكْ كَمْ هُوَ عِمْلَاقٌ،
إِلَّا عِنْدَمَا رَأَيْتُهُ جَالِسًا هَكَذَا، بِثِقْلِهِ الْكَامِلِ عَلَى سَرِيرِي.
كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ كَانَ ضَخْمًا؛
جُمْجُمَتُهُ الْمُسْتَدِيرَةُ الْمَكْسُوَّةُ بِشَعْرٍ رَمَادِيٍّ مُتَمَرِّدٍ،
أَنْفُهُ الْغَرِيبُ الْوَاسِعُ،
أَسْنَانُهُ الْبَيْضَاءُ الْكَبِيرَةُ الَّتِي تُشْبِهُ الْمِجْرَفَاتِ،
وَيَدَاهُ الْحَمْرَاوَانِ، الضَّخْمَتَانِ،
بِأَصَابِعِهِمَا الْغَلِيظَةِ، الْقَوِيَّةِ بِشَكْلٍ مُقْلِقٍ.
قَالَ لِي الأَخُ يُوخِن بِغَضَبٍ وَاضِحٍ:
“هانّا، اِسْتَحْيِي…”
وَظَلَّ يَنْظُرُ إِلَيَّ بِعَيْنَيْنِ لَا تُفَارِقَانِ وَجْهِي.
كَانَ صَوْتُهُ فِي ذَلِكَ الصَّبَاحِ عَمِيقًا، مُزْعِجًا،
كَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ مِنْ دُونِ أَنْ يُحَرِّكَ شَفَتَيْهِ الْعَرِيضَتَيْنِ،
فَيَخْرُجُ صَوْتُهُ كَأَنَّهُ يَنْبُعُ مِنْ بَطْنِهِ الثَّقِيلِ.
رَمَى إِلَيَّ نَظْرَةً طَوِيلَةً، مَمْلُوءَةً بِالْفَحْصِ وَالتَّمْحِيصِ.
ثُمَّ تَابَعَ بِصَوْتٍ جَادٍّ:
“تَحَدَّثْنَا عَنْكِ أَمْسِ فِي الِاجْتِمَاعَاتِ…”
وَضَغَطَ بِيَدِهِ عَلَى رَأْسِي، كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُقَلِّصَنِي.
قَالَ:
“قَلِقُونَ عَلَيْكِ كَثِيرًا، يَا أُخْتَ هانّا.”
ظَلِلْتُ صَامِتَةً، لَمْ أَجِدْ كَلِمَاتٍ أُجِيبُ بِهَا.
قَالَ بِحِدَّةٍ:
“لَقَدْ كَذَبْتِ، هانّا.
خُضْتِ فِي هَذَا التَّمْثِيلِ، رَغْمَ أَنِّي نَهَيْتُكِ.
أَمْ نَسِيتِ ذَلِكَ؟”
هَزَزْتُ رَأْسِي نَفْيًا.
فَأَضَافَ بِتَحَدٍّ:
“هَلْ نَسِيتِ كَيْفَ تَفْتَحِينَ فَمَكِ، أُخْتَ هانّا؟”
هَمَسْتُ بِصَوْتٍ ضَعِيفٍ:
“لَا…”
فَقَالَ بِنَبْرَةٍ قَاسِيَةٍ:
“تَلْعَبِينَ لُعْبَةً خَاطِئَةً، يَا فَتَاةُ.”
بَقِيتُ صَامِتَةً مَرَّةً أُخْرَى.
ثُمَّ سَأَلَنِي، وَهُوَ يُخَفِّفُ ضَغْطَ يَدِهِ عَنْ رَأْسِي أَخِيرًا، وَلَكِنْ بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، رَفَعَ ذَقَنِي بِقُوَّةٍ نَحْوَ الأَعْلَى:
“مَاذَا حَدَثَ أَيْضًا؟”
هَمَسْتُ بِنَفَادِ صَبْرٍ، وَكَأَنِّي أُخْمِدُ صَوْتِي:
“لَمْ يَحْدُثْ شَيْءٌ.”
ضَحِكَ الأَخُ يُوخِن ضَحْكَةً قَصِيرَةً، سَاخِرَةً، ثُمَّ قَالَ:
“لَا شَيْءَ؟ وَمَاذَا عَنْ هُرُبِكِ مِنَ الْمَدْرَسَةِ،
وَتَجَوُّلِكِ فِي أَمَاكِنَ لَا تُحْمَدُ عُقْبَاهَا،
وَعَوْدَتِكِ إِلَى الْبَيْتِ مُلَطَّخَةً بِالْوَحْلِ، عَنِيدَةً،
وَرَفْضِكِ لِلْوَعْظِ، وَهُرُوبِكِ مِنْ خِدْمَةِ التَّبْشِيرِ فِي الشَّوَارِعِ،
وَعَدَمِ عَوْدَتِكِ إِلَى الْمَنْزِلِ لَيْلًا؟
هَلْ هَذَا لَا شَيْءَ؟”
حَدَّقْتُ فِي سَقْفِ غُرْفَتِي بِلَا شُعُورٍ،
وَرَقَصَتْ أَمَامَ عَيْنَيَّ نُجُومٌ صَغِيرَةٌ مُضِيئَةٌ.
بَعْدَ حِينٍ، تَرَكَ الأَخُ يُوخِن ذَقَنِي،
وَأَخْرَجَ مِنْ جَيْبِ سِرْوَالِهِ مِندِيلًا كَبِيرًا مِنَ الْقُمَاشِ،
وَمَسَحَ يَدَيْهِ بِبُطْءٍ.
لَا أَعْلَمُ إِنْ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِسَبَبِي،
أَمْ لِأَمْرٍ آخَرَ.
تَلَاشَى مَا بَقِيَ فِيَّ مِنْ قُوَى،
وَشَعَرْتُ كَمَنْ يُفَتَّتُ قِطْعَةً قِطْعَةً،
حَتَّى تَنْهَارَ أَسَاسَاتِي الضَّعِيفَةُ.
فَانْكَمَشْتُ تَحْتَ الْبِطَّانِيَّةِ، أَخْتَبِئُ، أَبْحَثُ عَنْ مَأْوًى.
“أَنَا لَمْ أَفْعَلْ شَيْئًا سَيِّئًا”،
بَكَيْتُ مِنْ مَكَانِي، بِصَوْتٍ مَخْنُوقٍ، مُمْتَلِئٍ بِالْيَأْسِ.
تَنَهَّدَ الأَخُ يُوخِن بُطْئًا،
وَتَثَاقَلَ وَهُوَ يَتَّجِهُ نَحْوَ الْبَابِ،
وَصَوْتُ خَشَبِ الأَرْضِيَّةِ يَصِرُّ تَحْتَ خُطَاهُ.
قَالَ بِهُدُوءٍ:
“غَدًا سَنَتَحَدَّثُ فِي الِاجْتِمَاعِ مِنْ جَدِيدٍ.
اِحْرِصِي أَنْ تَعُودِي إِلَى قُوَّتِكِ قَبْلَ ذَلِكَ، يَا هانّا.”
كَانَ الِاجْتِمَاعُ فِي الْيَوْمِ التَّالِي كَارِثِيًّا.
بَدَأَ الأَمْرُ مُنْذُ لَحْظَةِ دُخُولِنَا قَاعَةَ الْمَلَكُوتِ.
رُوزفِيتَا، وَرَغْمَ أَنَّ الْحُمَّى لَمْ تَفَارِقْنِي بَعْدُ،
أَجْبَرَتْنِي عَلَى ارْتِدَاءِ أَفْضَلِ ثِيَابِي،
وَجَمَعَتْ شَعْرِي فِي جَدِيلَةٍ مَشْدُودَةٍ حَتَّى شَعَرْتُ بِأَلَمٍ فِي صُدْغَيَّ.
سِرْتُ بَيْنَ رُوزفِيتَا وَجَدَّتِي، عَبْرَ صُفُوفِ الْكَرَاسِي،
وَمِنْ طَرَفِ عَيْنَيَّ، لَاحَظْتُ نَظَرَاتِ الشُّهُودِ الآخَرِينَ نَحْوِي.
كَانَتْ نَظَرَاتُهُمْ صَارِمَةً، مَمْلُوءَةً بِالاِسْتِيَاءِ، وَعَدَمِ الرِّضَا.
خَلْفِي، سَارَ وَالِدِي مَعَ الصِّغَارِ الثَّلَاثَةِ وَجَدِّي.
فِي بَدَايَةِ الِاجْتِمَاعِ، وَبِغَتْةً، نَادَانِي الأَخُ يُوخِن إِلَى الأَمَامِ،
وَكَانَ مِيكْرُوفُونُ خِطَابِهِ مُعَدًّا مُسْبَقًا،
فَارْتَفَعَ صَوْتُهُ مُدَوِّيًا فِي أَرْجَاءِ الْقَاعَةِ:
“هَانَّا!”
قَفَزْتُ مِنْ مَكَانِي كَأَنَّ صَاعِقَةً أَصَابَتْنِي.
دَفَعَتْنِي رُوزفِيتَا بِحَزْمٍ، وَهَمَسَتْ لِي بِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ:
“أَلَا تَسْمَعِينَ؟ أَنْتِ مُنَادَاةٌ.”
صَاحَ الأَخُ يُوخِن:
“هَانَّا، تَعَالَي، عَلَيْكِ أَنْ تَجْلِسِي هُنَا أَمَامِي الْيَوْمَ.”
ثُمَّ سَحَبَ كُرْسِيًّا بِصَوْتٍ صَاخِبٍ إِلَى جَانِبِهِ عَلَى الْمَسْرَحِ.
تَقَدَّمْتُ بِخَوْفٍ وَرَهْبَةٍ، وَجَلَسْتُ فِي الْمَكَانِ الْمُخَصَّصِ لِي دُونَ أَنْ أَرْفَعَ نَظَرِي.
“وَالآنَ، انْظُرِي إِلَى إِخْوَتِكِ وَأَخَوَاتِكِ، يَا هَانَّا”،
وَاصَلَ الأَخُ يُوخِن كَلَامَهُ، ثُمَّ رَفَعَ وَجْهِي فِي اللَّحْظَةِ نَفْسِهَا،
كَمَا فَعَلَ فِي الْيَوْمِ السَّابِقِ، حِينَ أَدْخَلَ يَدَهُ الْكَبِيرَةَ الثَّقِيلَةَ تَحْتَ ذَقَنِي.
“هَذِهِ هَانَّا”، قَالَ،
“كَمَا أَخْبَرْتُكُمْ أَمْسِ، هِيَ مُرْتَبِكَةٌ قَلِيلًا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ. أَلَيْسَ كَذَلِكِ، يَا هَانَّا؟”
صَمَتُّ… وَصَمَتَ الأَخُ يُوخِن… وَصَمَتَ الْجَمِيعُ فِي الِاجْتِمَاعِ،
وَامْتَدَّ ذَلِكَ الصَّمْتُ الْبَارِدُ الْقَارِسُ حَتَّى لَمْ أَعُدْ أُطِيقُهُ،
فَهَزَزْتُ رَأْسِي بِالْمُوَافَقَةِ… وَهَكَذَا اسْتَمَرَّ الأَمْرُ.
“هَلْ سَتَكْذِبِينَ مَرَّةً أُخْرَى، يَا هَانَّا؟”
“لَا”، هَمَسْتُ.
صَمْتٌ عَمِيقٌ.
“هَلْ تَسْتَطِيعِينَ أَنْ تَتَكَلَّمِي بِصَوْتٍ أَعْلَى، يَا فَتَاةُ؟
مَنْ يَقُولُ الْحَقَّ لَا يَشْعُرُ بِالْخَجَلِ.”
كَانَتِ النَّظَرَاتُ الْقَاسِيَةُ، وَالصَّمْتُ الْمَشْحُونُ بِالتَّوَتُّرِ،
يَغْرِزَانِ فِي رَأْسِي الْمُتَأَلِّمِ.
“لَنْ أَكْذِبَ بَعْدَ الآن…” قُلْتُ بِأَعْلَى صَوْتٍ أَسْتَطِيعُ،
وَكَانَ صَوْتِي مَبْحُوحًا، مُثْقَلًا، وَكَأَنَّهُ لَيْسَ لِي.
“هَلْ سَتُشَارِكِينَ فِي الْمَسْرَحِيَّةِ الْغِنَائِيَّةِ فِي مَدْرَسَتِكِ؟”
“لَا.”
“هَلْ سَتَعُودِينَ إِلَى خِدْمَةِ الْوَعْظِ وَالدَّعْوَةِ فِي الشَّوَارِعِ؟”
“نَعَمْ.”
“هَلْ سَتَحْذَرِينَ مُسْتَقْبَلًا مِنَ التَّفْكِيرِ فِي أَشْيَاءَ قَذِرَةٍ؟”
“نَعَمْ.”
“هَلْ سَتُطِيعِينَ وَالِدَيْكِ؟”
“نَعَمْ.”
“هَلْ تُحِبِّينَ يَهْوَه؟”
“نَعَمْ.”
بَعْدَ هَذِهِ الْإِجَابَةِ الْأَخِيرَةِ،
عَمَّ الصَّمْتُ الْقَاعَةَ بِأَكْمَلِهَا.
“هَكَذَا يَكُونُ الْأَمْرُ جَيِّدًا، يَا هَانَّا”، قَالَ الأَخُ يُوخِن أَخِيرًا،
وَبَدَتْ نَظْرَتُهُ الزَّرْقَاءُ الصَّافِيَةُ نَاعِمَةً كَمَا فِي السَّابِقِ.
“وَالآنَ، دَعُونَا نُغَنِّي وَنَفْرَحْ جَمِيعًا بِصَوْتِهَا الْجَمِيلِ،
فَصَوْتُهَا، يَا إِخْوَانِي وَأَخَوَاتِي، هُوَ لَنَا.”
رَفَعْتُ بَصَرِي إِلَى الأَعْلَى.
“هَلْ لِي أَنْ أَعُودَ إِلَى مَكَانِي؟” سَأَلْتُ،
وَكَانَ صَوْتِي خَافِتًا، رَقِيقًا، حَتَّى إِنِّي كِدْتُ لَا أَتَعَرَّفُ عَلَيْهِ.
“بِالطَّبْعِ يَا أُخْتِي”، قَالَ الأَخُ يُوخِن وَابْتَسَمَ لِي.
نَهَضْتُ، وَتَمَايَلْتُ حَتَّى بَلَغْتُ مَكَانِي بِجَانِبِ رُوزفِيتَا.
بَعْدَ سَاعَتَيْنِ، وَفِيمَا كُنَّا نُغَادِرُ قَاعَةَ الْمَلَكُوتِ،
لَاحَظْتُ أَنَّ شُبَّانَ جَمَاعَتِنَا يَتَجَنَّبُونَ الْاقْتِرَابَ مِنِّي بِحَذَرٍ.
هَمَسَتْ لِي رُوزفِيتَا بِنَبْرَةٍ مُمْتَعِضَةٍ، وَهِيَ تَمُدُّ لِي مِعْطَفِي:
“هَذَا مَا جَنَيْتِهِ بِنَفْسِكِ.”
أَوْمَأْتُ بِرَأْسِي، صَامِتَةً.
فِي الْمَنْزِلِ، مَنَعَتْنِي رُوزفِيتَا مِنْ دُخُولِ غُرْفَتِي.
“وَلَكِنَّنِي أَشْعُرُ بِسُوءٍ… عِنْدِي حُمَّى…” تَمْتَمْتُ فِي ارْتِبَاكٍ.
وَضَعَتْ كَفَّهَا عَلَى جَبِينِي، ثُمَّ قَالَتْ بِصَرَامَةٍ:
“أَنْتِ دَافِئَةٌ قَلِيلًا فَقَطْ، يَا هَانَّا.”
ثُمَّ دَفَعَتْنِي نَحْوَ الْمَطْبَخِ، وَأَضَافَتْ:
“وَأَنْتِ تَسْتَطِيعِينَ أَنْ تُسَاعِدِينِي قَلِيلًا فِي الأَعْمَالِ الْمَنْزِلِيَّةِ.
الأَخُ يُوخِن يُرِيدُكِ أَلَّا تَمْكُثِي وَحْدَكِ طَوِيلًا فِي غُرْفَتِكِ.”
صَمَتُّ وَامْتَثَلْتُ عَلَى مَضَضٍ لِمَا أَمَرَتْ بِهِ زَوْجَةُ أَبِي.
بَعْدَ قَلِيلٍ، وَأَنَا أَحْمِلُ سَلَّةَ الْقُمَامَةِ لِأُفْرِغَهَا فِي الْحَاوِيَةِ الْكَبِيرَةِ فِي السَّاحَةِ،
رَأَيْتُ بَيْنَ نُفَايَاتِ الْمَطْبَخِ الْمُنْتِنَةِ قَلْبِي الْمَصْنُوعَ مِنَ الزَّنْجَبِيلِ.
كَانَ مُتَفَتِّتًا، لَا تَكَادُ مَعَالِمُهُ تُعْرَفُ،
قَدْ دُفِنَ عَمْدًا فِي قَعْرِ السَّلَّةِ،
وَلَكِنَّهُ الْآنَ بَارِزٌ فِي الْقِمَّةِ، ظَاهِرٌ لِلْعَيْنِ:
قِطْعَةٌ مَكْسُورَةٌ، قَذِرَةٌ، مَغْطَّاةٌ بِغُبَارٍ مِنَ السُّكَّرِ الرَّمَادِيِّ الْمَائِلِ إِلَى الْوَرْدِيِّ،
وَمَعَ ذَلِكَ، مَا زَالَتْ مُغَلَّفَةً بِنِظَامٍ دَقِيقٍ فِي غِلَافٍ بِلَاسْتِيكِيٍّ شَفَّافٍ.
“حَبِيبِي…” هَمَسْتُ بِخَيْبَةِ أَمَلٍ،
وَشَعَرْتُ وَكَأَنَّ جَسَدِي قَدْ تَجَمَّدَ.
فِي الْمَسَاءِ، ذَهَبَتْ رُوزفِيتَا لِحُضُورِ دِرَاسَةِ خِدْمَةِ الْوَعْظِ،
وَكَانَتْ هَذِهِ الْمَرَّةَ عِنْدَ وَالِدَةِ رِيبِيكَا.
كَانَ إِخْوَتِي الصِّغَارُ قَدْ خَلَدُوا جَمِيعًا إِلَى أَسِرَّتِهِمْ،
وَخَيَّمَ السُّكُونُ عَلَى أَرْجَاءِ الشَّقَّةِ.
تَسَلَّلْتُ إِلَى الْحَمَّامِ، فَقَدْ بَدَأَتْ دَوْرَتِي الشَّهْرِيَّةُ مِنْ جَدِيدٍ،
وَفِي طَرِيقِ عَوْدَتِي، تَوَقَّفْتُ فِي غُرْفَةِ نَوْمِ وَالِدَيَّ،
فَفِي دُرْجِ طَاوِلَةِ اللَّيْلِ لَدَى رُوزفِيتَا، كَانَ هُنَاكَ تَقْوِيمٌ صَغِيرٌ أُدَوِّنُ فِيهِ دَائِمًا أَيَّامَ نَزِيفِي.
وَعِنْدَمَا عُدْتُ نَحْوَ غُرْفَتِي،
رَأَيْتُ وَالِدِي جَالِسًا بِهُدُوءٍ عَلَى الأَرِيكَةِ فِي غُرْفَةِ الْمَعِيشَةِ.
“يَا أَبِي؟” سَأَلْتُ بِتَرَدُّدٍ، وَتَوَقَّفْتُ عَنِ التَّقَدُّمِ.
رَفَعَ وَالِدِي بَصَرَهُ نَحْوِي.
“هَلْ لَدَيْكَ لَحْظَةٌ؟”
“نَعَمْ يَا هَانَّا، مَا الْأَمْرُ؟”
هَمَسْتُ بِسُؤَالٍ مُتَلَعْثِمٍ:
“هَلْ أَنْتَ غَاضِبٌ مِنِّي أَيْضًا؟ مِثْلَ الْآخَرِينَ؟”
هَزَّ وَالِدِي رَأْسَهُ نَافِيًا، ثُمَّ قَالَ مُتَنَهِّدًا:
“لَسْنَا جَمِيعًا غَاضِبِينَ مِنْكِ، نَحْنُ فَقَطْ نَقْلَقُ عَلَيْكِ.”
تَنَفَّسْتُ الصُّعَدَاءَ وَأَطْلَقْتُ أَنَا أَيْضًا تَنَهُّدًا عَطِفًا.
“آه، لَا أَدْرِي مَا الَّذِي بِي…” قُلْتُ بِحَذَرٍ، وَجَلَسْتُ إِلَى جَانِبِ وَالِدِي.
“أَحْيَانًا… أَخَافُ أَنْ أَفْقِدَ عَقْلِي.”
فَأَجَابَنِي:
“مَا دُمْتِ لَا تَفْقِدِينَ إِيمَانَكِ، يَا هَانَّا، فَلَنْ يُصِيبَكِ مَكْرُوهٌ.”
تَلَاقَتْ نَظَرَاتُنَا، وَفِي لَحْظَةٍ، رَفَعَ وَالِدِي يَدَهُ بِبُطْءٍ،
وَمَدَّهَا لِيَمْسَحَ وَجْنَتِي بِرِقَّةٍ لِبِضْعِ ثَوَانٍ.
ارْتَجَفْتُ دَهْشَةً،
فَقَلِيلًا مَا كَانَ يَلْمَسُنِي، أَوْ يُظْهِرُ اعْتِرَافًا بِوُجُودِي،
أَوْ يَمْنَحُنِي وَقْتًا خَاصًّا لِي.
فَجْأَةً هَمَسْتُ:
“يَا أَبِي… احْكِ لِي شَيْئًا عَنْ أُمِّي.”
تَجَهَّمَ وَالِدِي، وَعَبَسَ جَبِينُهُ قَائِلًا:
“هَانَّا، مَا شَأْنُكِ بِهَذَا؟ مَا غَرَضُكِ مِنَ السُّؤَالِ؟”
تَرَاجَعَ قَلِيلًا جَانِبًا،
وَلَكِنِّي أَمْسَكْتُ بِذِرَاعِهِ بِقُوَّةٍ، كَأَنِّي أُصِرُّ أَنْ أَسْمَعَ.
“رَجاءً، يا أَبِي”، هَمَسْتُ مُلِحَّةً، “كَيْفَ كانَت؟ كَيْفَ كانت مَلامِحُها؟ ماذا كانت تَفْعَلُ طِوالَ النَّهار؟ ما الَّذي كانَت تُحِبُّه؟ كَيْفَ كانَت تُعامِلُنِي؟ ماذا أَحْبَبْتَ فيها؟ أَنْتَ أَحْبَبْتَها، أَلَيْسَ كَذلك؟”
حَدَّقَ فِيَّ والِدِي، وعَيناهُ تَشِعّانِ بِغَضَبٍ مَكْبوتٍ.
“بِالطَّبْعِ أَحْبَبْتُها”، انفَجَرَ أَخيرًا بالكَلام، ثُمَّ تَنَهَّدَ ثَانِيَةً، وضَغَطَ بأُطْرافِ أَصابِعِهِ على جَبِينِهِ حتّى شَحَبَتْ يَداهُ.
تَمْتَمَ بِشَوْقٍ: “كانَت جَميلة… ومُضْحِكَة… وذَكِيَّة.”
تَبادَلْنا النَّظَرَات، فَابْتَسَمْتُ، وكانَ وَجْهُ والِدِي يَشْحَبُ أَكْثَرَ.
“نَعَم، كانَت جَميلة، مُضْحِكَة، وذَكِيَّة… ذَكِيَّةٌ جِدًّا، رُغْمَ مُعاناتِها في التَّفْكِيرِ المَنْطِقِيّ. الرِّياضِيّاتُ والعُلومُ الطَّبِيعِيَّة، أَتَفْهَمِين؟ وكانَت أَيْضًا مُحِبَّةً لِلْمُوسِيقَى، عَشِقَتْ سَاكسُفُونَها أَكثرَ مِنْ أيِّ شَيْء.”
ابْتَسَمْتُ مُجَدَّدًا.
وأَضافَ والِدِي وهو يُبادِلُنِي الابْتِسامَ: “لَكِن، أَكْثَرَ مِن كُلِّ شَيْء، كانَتْ تُحِبُّكِ أَنْتِ.”
“أَحَبَّتْنِي وأَحْبَبْتَنِي أَنْتَ”، قُلتُ بِصَوْتٍ خافِتٍ.
عَمَّ الصَّمْتُ قَلِيلًا، وكانَت تِلْكَ اللَّحْظَةُ جَميلةً جِدًّا، كَأَنَّها جَبَرَتْ شُقُوقَ نَفْسِي الَّتِي خَلَّفَها ذَلِكَ العَصْرُ الرَّهِيبُ في قاعَةِ الِاجْتِماعِ.
تَراجَعَ والِدِي قَلِيلًا، وعَبَسَ مُجَدَّدًا: “لَكِنَّها كانَت أَيْضًا مُتَهَوِّرَةً ومُتَهَتِّفَة.”
سَأَلْتُ بِسُرْعَةٍ، وَأَنا أُقاوِمُ نِهايَةَ الحَديثِ: “هَل أُشْبِهُها؟”
نَظَرَ إلَيَّ والِدِي بِوَجْهٍ مُتَفاجِئٍ، وقالَ: “تُشْبِهينها؟ لا أَدْرِي…”
“شَعْرُكِ، نَعَم، بِالطَّبْع، شَعْرُكِ الأَشْقَرُ الفاتِح. كانَت أُمُّكِ تَمْلِكُ شَعْرًا شَبِيهًا بِهِ، دَائِمًا ما يَكونُ مُبَعْثَرًا قَلِيلًا، يَصْعُبُ تَروِيضُه، مُتَشابِكًا وغَيْرَ مُرَتَّبٍ جِدًّا.”
“وماذا بَعْدُ؟” أَلَحَحْتُ.
تَأَمَّلَنِي والِدِي قَلِيلًا، ثُمَّ قالَ: “يَداكِ تُشْبِهانِ يَدَيْها، تِلْكَ الأَصابِعُ النَّحِيفَة، وَظَهْرُ اليَدِ الضَّيِّق.”
كانَت مَلامِحُهُ حَزينَةً لِأَوَّلِ مَرَّةٍ مُنْذُ زَمَنٍ طَوِيلٍ، كَما كانَ دَوْمًا في الماضي.
“لَكِن، بِخِلافِ ذَلِكَ، أَنْتِ لَسْتِ مِثْلَها”، قالَ والِدِي أَخيرًا. “أَنْتِ أَكْثَرُ جِدِّيَّةً وهُدُوءًا وعَقْلَانِيَّةً، لَيْسَت لَدَيْكِ تِلْكَ التَّقَلُّبَاتُ وَالانْفِعالاتُ الَّتِي كانَت تَمْلِكُها.”
ابْتَلَعْتُ رِيقِي… جِدِّيَّة، هُدُوء، عَقْلَانِيَّة… هَكَذا كُنْتُ. وكانَ هَذا يُشْبِهُ أَكْثَر روزفِيتا مِن أُمِّي.
تَبَادَلْنا النَّظَرَاتِ في صَمْتٍ لِفَتْرَةٍ.
“يا أَبِي، احْكِ لِي المَزِيدَ”، أَصْرَرْتُ بِشَوْقٍ. “أُرِيدُ أَنْ أَعْرِفَ كُلَّ شَيْءٍ عَنْها، يَجِبُ أَنْ أَعْرِفَ كُلَّ شَيْء!”
“لِماذا؟” سَأَلَنِي والِدِي بِرِيبَةٍ. “لِماذا تَغُوصِينَ في الماضي؟ كُلُّ ذَلِكَ مَضَى مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيد. أَنا الآنَ مع روزفِيتا…”
“مَتى ماتَت؟ يا أَبِي؟” قاطَعْتُه. “لَقَد نَسِيتُ التَّارِيخ، ولا أَجِدُ قَبْرَها أَيْضًا. وأُرِيدُ صُورَةً لَها، رَجَاءً يا أَبِي!”
هَزَّ والِدِي رَأْسَهُ وقالَ: “لا، لا أُرِيدُ أَنْ أَتَحَدَّثَ عَنْ ذَلِكَ أَكْثَر…” ثُمَّ ضَرَبَ رُكْبَتَيْهِ بِكِلْتا قَبْضَتَيْهِ فَجْأَةً.
“لا أُرِيدُ أَنْ أَتَحَدَّثَ عَن ذَلِكَ الماضي!” صاحَ بِغَضَب. “لا أُرِيد، هَلْ تَسْمَعِينَ يا هانّا؟”
وكانَ حَدِيثُنَا قد انْقَطَعَ فَجْأَةً كَما ابْتَدَأ.
تَسَلَّلَ والِدِي بِهُدُوءٍ مِن غُرْفَةِ الجُلُوسِ، وأَغْلَقَ بابَ مَكْتَبِهِ. وَبَعْدَ قَلِيلٍ، سَمِعْتُه يُصَلِّي.
كَتَبْتُ بِسُرْعَةٍ في مُذَكَّرَتِي:
“لَدَيَّ يَداها وشَعْرُها. قالَ لِي أَبِي إِنَّها كانَت جَميلةً ومُبْهِجَةً وذَكِيَّة. أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَها، لَكِنَّنِي مُمِلَّةٌ، قَبِيحَةٌ، هَادِئَةٌ، وَقَدِيمَةُ الطِّراز. أَنا مِثْلُ روزفِيتا.”
ثُمَّ أَضَفْتُ بِخَطٍّ مُرْتَبِكٍ:
“أَعْتَقِدُ أَنَّنِي أَكْرَهُ روزفِيتا.”
ملاحظة: روزفيتا رمت قلب الزنجبيل.
فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، تَسَلَّلْتُ إِلَى الْقَبْوِ وَحْدِي. كَانَ الْوَقْتُ قَدْ تَجَاوَزَ مُنْتَصَفَ اللَّيْلِ، وَرُوزْفِيتَا قَدْ عَادَتْ إِلَى الْبَيْتِ وَانْسَلَّتْ إِلَى نَوْمِهَا، كَمَا كَانَ وَالِدِي وَإِخْوَتِي الصِّغَارُ غَارِقِينَ فِي سُبَاتٍ هَادِئٍ.
خَرَجْتُ مِنَ الشَّقَّةِ الْمُظْلِمَةِ عَلَى طَرَفِ الْخَوْفِ، وَهَبَطْتُ الدَّرَجَ حَتَّى بَلَغْتُ ذٰلِكَ الْقَبْوَ الرَّطْبَ الْبَارِدَ، الَّذِي كَانَ يُشْبِهُ فِي وَحْشَتِهِ قَلْبًا مُغْلَقًا عَلَى ذِكْرَى.
ارْتَعَشْتُ شَدِيدًا، لا أَدْرِي أَمِنِ التَّوَتُّرِ أَمْ مِنَ الْبَرْدِ، حَتَّى خِلْتُ أَنَّ أَصَابِعِي قَدْ تَجَمَّدَتْ، فَلَمْ أَكَدْ أَقْدِرُ عَلَى فَتْحِ الْبَابِ. لٰكِنَّنِي، بَعْدَ عَنَاءِ، نَجَحْتُ، وَأَشْعَلْتُ مِصْبَاحِي الْيَدَوِيَّ، وَسَلَّطْتُ ضَوْءَهُ عَلَى الزَّاوِيَةِ الْمُعْتِمَةِ.
وَلِحُسْنِ الْحَظِّ، لَمْ يَكُنْ قَبْوُنَا غَارِقًا فِي الْفَوْضَى كَمَا فِي قَبْوَاتِ الْجِيرَانِ، رُبَّمَا لِأَنَّ رُوزْفِيتَا كَانَتْ تُنَظِّفُهُ دَائِمًا، وَتُدِيرُ شُؤُونَهُ بِبُخْلٍ شَدِيدٍ.
لِذٰلِكَ، لَمْ أَحْتَجْ لِبَحْثٍ طَوِيلٍ. فَمَا هِيَ إِلَّا لَحَظَاتٌ حَتَّى وَقَعَ نَظَرِي عَلَى الصَّنَادِيقِ الَّتِي تَحْمِلُ مُتَعَلِّقَاتِ أُمِّي الرَّاحِلَةِ.
وَقَفْتُ أَمَامَهَا دَقَائِقَ طِوَالًا، مُتَرَدِّدًة فِي لَمْسِهَا. فَهِيَ كُلُّ مَا تَبَقَّى مِنْ حَيَاةِ أُمِّي، سِوَايَ طَبْعًا.
بِأُصْبُعٍ بَارِدَةٍ، مَزَّقْتُ شَرِيطَ التَّغْلِيفِ الْبُنِّيَّ عَنْ أَوَّلِ صُنْدُوقٍ، وَارْتَعَدَ جَسَدِي كُلُّهُ وَأَنَا أُزِيحُ الْغِطَاءَ بِبُطْئٍ وَأُلْقِي نَظْرَةً فِي الدَّاخِلِ.
هُنَاكَ كَانَ السَّاكْسُفُونُ… أَوْ مَا تَبَقَّى مِنْهُ. آلَةٌ حَزِينَةٌ، مُهْتَرِئَةٌ، مَخْدُوشَةٌ وَمَكْسُورَةٌ، لَا تَكَادُ تُعْرَفُ.
وَفِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، لَمْ أَقْدِرْ عَلَى احْتِمَالِ مَا فِي قَلْبِي. بَلَلَتِ الدُّمُوعُ عَيْنَيَّ، وَوَقَفْتُ طَوِيلًا، لَا أَفْعَلُ شَيْئًا سِوَى أَنْ أُدَاعِبَ السَّاكْسُفُونَ وَأَبْكِي.
وَلَمْ أَقْتَرِبْ إِلَى بَقِيَّةِ الصَّنَادِيقِ إِلَّا بَعْدَ حِينٍ طَوِيلٍ. كَانَتْ أَصَابِعِي قَدْ تَجَمَّدَتْ، وَأَنَفَاسِي تَتَقَطَّعُ، وَكُنْتُ أَتَنَقَّلُ بِلَا هُدًى بَيْنَ مَا تَرَكَتْهُ أُمِّي خَلْفَهَا.
وَسَأَلْتُ نَفْسِي: “لِمَنْ تَنْتَمِي هٰذِهِ الْأَشْيَاءُ الْآنَ؟ أَلِوَالِدِي؟ أَمْ لِأَهْلِ أُمِّي؟ أَمْ لِي؟”
وَدَارَ بِي الدُّوَارُ عِنْدَ فِكْرَةِ أَنَّهَا، رُبَّمَا، لِي أَنَا فِعْلًا.
قَرَّرْتُ أَنْ أُنْقِذَ بَعْضَهَا، عَلَى الْأَقَلِّ، قَبْلَ أَنْ يَخْطُرَ فِي بَالِ وَالِدِي أَوْ رُوزْفِيتَا نَقْلُهَا إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، لَنْ يَكُونَ لِي سَبِيلٌ إِلَيْهِ.
أَمَّا السَّاكْسُفُونُ، فَلَمْ أَسْتَطِعْ أَخْذَهُ. كَانَ كَبِيرًا جِدًّا، وَلَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ.
وَلٰكِنَّنِي وَجَدْتُ صُنْدُوقًا صَغِيرًا يَتَلَأْلَأُ، يَحْتَوِي عَلَى مُسْتَحْضَرَاتِ تَجْمِيلٍ قَدِيمَةٍ، وَدَفْتَرِ يَوْمِيَّاتٍ مُمَزَّقٍ، وَثِيَابٍ بَالِيَةٍ، وَقُرْطَيْنِ دَاخِلَ كُوبٍ بَنَفْسَجِيٍّ بِلَا مِقْبَضٍ.
جَمَعْتُ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ بِجَانِبِي، ثُمَّ فَتَحْتُ آخِرَ صُنْدُوقٍ.
وَكَانَ فِي أَعْلَاهُ، صُورَةٌ…
تَرَاجَعَ جَسَدِي كُلُّهُ فِي الْحَالِ. كَانَتْ هِيَ… أُمِّي!
انْهَمَرَتْ دُمُوعِي بِلَا إِنْذَارٍ، وَسَقَطْتُ عَلَى أَرْضِيَّةِ الْقَبْوِ الْبَارِدَةِ وَأَنَا أَنْشَجُ بِبُكَاءٍ مَرِيرٍ.
“أُمِّي…”
انْهَالَتْ عَلَيَّ أَلْفُ ذِكْرَى، وَكُنْتُ أَغْرَقُ فِيهَا دُونَ وَعْيٍ…
اِنْكَمَشْتُ فِي نَفْسِي، أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ، حَتَّى ارْتَمَيْتُ عَلَى الْأَرْضِ كَجَنِينٍ فِي رَحِمِ الذِّكْرَى، وَوَضَعْتُ جَبْهَتِي عَلَى الْحَجَرِ الْبَارِدِ.
كَيْفَ لِي أَنْ أَنْسَاهُمْ جَمِيعًا؟!
فَجْأَةً، عَادَ إِلَيَّ كُلُّ، كُلُّ، كُلُّ شَيْءٍ… دَفْعَةً وَاحِدَةً.
“ماما، يَا لَيْتَكِ لَمْ تَمُوتِي…” هَمَسْتُ وَأَنَا أَرْتَجِفُ كَغُصْنٍ فِي الرِّيحِ.
“ماما، يَا لَيْتَنِي أَسْتَطِيعُ أَنْ أَبْقَى مَعَكِ، وَلَوْ لِقَلِيلٍ…” أَنِينٌ دَافِقٌ بِالدُّمُوعِ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ شَفَتَيَّ.
“ماما، سَأَتِيْنُ إِلَيْكِ… أَعِدُكِ بِذٰلِكَ…” هَمَسْتُ بِصَوْتٍ خَافِتٍ، كَمَنْ يُنَاجِي طَيْفًا.
لَا أَدْرِي كَمْ مِنَ الْوَقْتِ مَضَى وَأَنَا عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ؛ فَكَأَنَّ الزَّمَنَ مِنْ حَوْلِي قَدْ خَبَا، وَتَوَقَّفَ عَنِ الْجَرَيَانِ.
وَفِي لَحْظَةٍ مَا، نَهَضْتُ… ضَعِيفَةً، مُتَعَثِّرَةً، أَحْمِلُ بَيْنَ يَدَيَّ مَا بَقِيَ مِنْ أَثَرِ أُمِّي… وَعُدْتُ إِلَى الشَّقَّةِ.
كَانَ الْبَرْدُ قَارِسًا إِلَى حَدٍّ أَلَمَنِي فِي عِظَامِي، وَجَعَلَ قِشْعِرَارَ جَسَدِي يُصَاحِبُنِي حَتَّى أَعْمَاقِي.
وَفِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي، أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ كَأَنَّهَا تُجَاهِدُ لِتُقْنِعَنِي أَنَّ الْحَيَاةَ لَا تَتَوَقَّفُ. كَانَ يَوْمَ الِإثْنَيْنِ، وَقَدْ وَجَبَ عَلَيَّ أَنْ أَعُودَ إِلَى الْمَدْرَسَةِ بَعْدَ أُسْبُوعٍ مِنَ الْغِيَابِ.
أَخْفَيْتُ مُقْتَنَيَاتِ أُمِّي فِي غُرْفَتِي. وَضَعْتُ الْمُجَوْهَرَاتِ، وَدَفْتَرَ الْيَوْمِيَّاتِ الْمُمَزَّقَ، مَعَ مَذَاكِرَاتِي فِي صُنْدُوقٍ صَغِيرٍ مِنَ الْكَرْتُونِ وَخَبَّأْتُهُ فِي الْخِزَانَةِ. أَمَّا الثِّيَابُ الْمُلَوَّنَةُ وَصُنْدُوقُ الْمَكِيَاجِ، فَوَضَعْتُهُمَا فِي حَقِيبَةٍ وَأَدْخَلْتُهَا تَحْتَ سَرِيرِي.
وَالصُّورَةُ؟ أَخْفَيْتُهَا لَيْلًا تَحْتَ وِسَادَتِي، وَالْآنَ وَضَعْتُهَا بِحَذَرٍ دَاخِلَ قَمِيصِي، قَرِيبًا مِنْ قَلْبِي.
ثُمَّ تَوَجَّهْتُ إِلَى الْمَطْبَخِ.
“صَبَاحُ الْخَيْرِ، هَانَا”، قَالَتْ رُوزْفِيتَا.
أَنَا بَقِيتُ صَامِتَةً، أُجَاهِدُ كَيْ لَا تَنْكَسِرَ كَبِرِيَائِي.
كَانَ إِخْوَتِي الصِّغَارُ قَدِ اجْتَمَعُوا حَوْلَ مَائِدَةِ الْفُطُورِ. مَرَرْتُ يَدِي بِرِقَّةٍ عَلَى شَعْرِ بِنْيَامِينَ… نَاعِمٌ، كَثِيفٌ، وَفَاتِحُ اللَّوْنِ.
“مَرْحَبًا، يَا صَغِيرِي”، هَمَسْتُ لَهُ.
كَانَ يُشْعِرُنِي بِالدِّفْءِ وَالطُّمَأْنِينَةِ؛ فَبِلَمْسَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهُ، ارْتَفَعَتْ حَرَارَةُ يَدَيَّ الْمُتَجَمِّدَتَيْنِ.
وَكَذٰلِكَ رَائِحَتُهُ الْعَذْبَةُ… ذَكَّرَتْنِي بِـ “بَاوْل”… “بَاوْل”… فَجْأَةً، بَدَأَ قَلْبِي يَخْفِقُ بِقُوَّةٍ.
وَفِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، قَدَّمَتْ لِي رُوزْفِيتَا شَطِيرَةَ الْمَدْرَسَةِ وَكُوبًا مِنَ الشَّايِ السَّاخِنِ.
“هَانَا، لَقَدْ تَحَدَّثْتُ مَعَ مُعَلِّمَتِكِ وَأَخْبَرْتُهَا بِأَنَّكِ لَنْ تُشَارِكِي فِي الْمَسْرَحِيَّةِ بَعْدَ الْآنِ.”
ارْتَعَشْتُ، لَكِنِّي لَمْ أَقُلْ شَيْئًا.
“وَأَرْجُو حَقًّا أَلَّا تَخْدَعِينَا مَرَّةً أُخْرَى. قَدْ شَرَحْتُ لِلسَّيِّدَةِ وَيْنْتَر أَنَّكِ، وَبِكُلِّ بَسَاطَةٍ، لَا تَمْلِكِينَ الْوَقْتَ لِحُضُورِ تَدْرِيبَاتِ مَا بَعْدَ الظُّهْرِ. بَدَا لِي هٰذَا أَفْضَلَ تَفْسِيرٍ.”
دَفَعْتُ الْكُرْسِيَّ خَلْفِي بِصَوْتٍ وَاضِحٍ، وَكَانَ صَدْرِي يَثْقُلُ بِكَلِمَاتٍ لَا يَسْتَطِيعُ قَوْلَهَا.
“فَلِمَاذَا، إِذَنْ، لَا أَمْلِكُ وَقْتًا فِي فَتْرَةِ مَا بَعْدَ الظُّهْرِ؟” هَمَسْتُ بِصَوْتٍ يَكَادُ لَا يُسْمَعُ، وَجَاهَدْتُ كَيْ أُضْفِي عَلَيْهِ ثَبَاتًا، وَلٰكِنَّهُ ظَلَّ يَرْتَجِفُ ضَعِيفًا.
“لِأَنَّنَا، كَمَا تَعْلَمِينَ، نَذْهَبُ إِلَى الِاجْتِمَاعَاتِ بَعْدَ الظُّهْرِ، يَا هَانَا”، قَالَتْ رُوزْفِيتَا بِخُشُونَةٍ وَاشْمِئْزَازٍ. “وَالْيَوْمَ بَعْدَ الظُّهْرِ، سَنَذْهَبُ مَعًا أَيْضًا إِلَى خِدْمَةِ الْوَعْظِ.”
نَظَرْتُ إِلَيْهَا نَظْرَةً مُتَشَابِكَةً بَيْنَ الْمُوَاجَهَةِ وَالْجَفَافِ. قُلْتُ بِحَذَرٍ: “لَا أَظُنُّكِ تَسْتَطِيعِينَ أَنْ تُجْبِرِينِي.”
“هَانَا!” صَرَخَتْ رُوزْفِيتَا بِغَضَبٍ.
“رُوزْفِيتَا!” رَدَدْتُ عَلَيْهَا بِالنَّبْرَةِ نَفْسِهَا.
سَأَلَ مَارْكُوس بِفُضُولٍ: “هَلْ تَتَشَاجَرَانِ؟”
“اِصْمُتْ!” صَاحَتْ رُوزْفِيتَا.
وَعَمَّ الْمَطْبَخَ صَمْتٌ مُطْبِقٌ… صَمْتٌ خَانِقٌ كَالطِّينِ فِي صَدْرِ مَنْ يَجْهَشُ دُونَ أَنْ يُبْكِي.
“سَتَفْعَلِينَ مَا أَقُولُ لَكِ، يَا هَانَا”، قَالَتْ أَخِيرًا، وَحَدَثَ مَا لَا يُصَدَّقُ: إِنَّهَا… ابْتَسَمَتْ مُجَدَّدًا!
“لَا!” صَرَخْتُ وَأَنَا أَقْفِزُ وَاقِفَةً، تَنْفَجِرُ الدُّنْيَا فِي حَلْقِي. “أَنْتِ لَسْتِ أُمِّي أَصْلًا، وَلَيْسَ لَكِ حَقٌّ فِي أَنْ تَأْمُرِيني!”
بَدَأَ بِنْيَامِين بِالْبُكَاءِ، وَجَلَسَ مَارْكُوس وَيَعْقُوبُ صَامِتَيْنِ، يُحْنُونَ رُؤُوسَهُمَا كَمَنْ يَشْهَدُ مَا لَا يُفْهَمُ.
هَرَبْتُ نَحْوَ الْبَابِ، وَغَادَرْتُ الشَّقَّةَ مُسْرِعَةً، دُونَ أَنْ أَلْتَقِطَ حَتَّى حَقِيبَةَ الْمَدْرَسَةِ فِي ذٰلِكَ الِانْدِفَاعِ الْمُتَفَجِّرِ.
وَمَعَ ذٰلِكَ، أَخَذْتُ طَرِيقِي نَحْوَ الْمَدْرَسَةِ. كُنْتُ أَمْشِي عَلَى الرَّصِيفِ بِخُطًى ثَقِيلَةٍ، يَحْفِلُ كُلُّ قَدَمٍ فِيهَا بِالْإِحْبَاطِ. وَعِنْدَمَا بَلَغْتُ نِهَايَةَ الشَّارِعِ، أَخْرَجْتُ الصُّورَةَ الصَّغِيرَةَ لِوَالِدَتِي.
هَا هِيَ… قَدْ عَادَتْ إِلَيَّ. وَجْهُهَا، فَرِحٌ، مُلَطَّخٌ بِالنَّمَشِ، وَابْتِسَامَتُهَا حَقِيقِيَّةٌ. لَمْ تَكُنِ ابْتِسَامَةً زَائِفَةً، وَلَا خَاضِعَةً، وَلَا تِلْكَ الِابْتِسَامَةُ الْمُتَجَهِّمَةُ الْمُسَيْطِرَةُ الَّتِي تَسْكُنُ وَجْهَ رُوزْفِيتَا، بَلِ ابْتِسَامَةٌ نَقِيَّةٌ، تَتَفَجَّرُ بِالْبَهْجَةِ وَالسُّرُورِ.
وَقُبَيْلَ الْمَدْرَسَةِ، تَوَقَّفْتُ مُتَرَدِّدَةً. مَدَدْتُ يَدِي بِحَذَرٍ إِلَى رَبْطَةِ شَعْرِي، وَخَلَعْتُهَا بِلُطْفٍ، وَأَطْلَقْتُ ضَفَائِرِي الْمُحْكَمَةَ. مَرَّرْتُ أَصَابِعِي مِرَارًا فِي شَعْرِي الْأَشْقَرِ النَّاعِمِ حَتَّى بَدَا مُبَعْثَرًا، كَمَا كَانَ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ.
ثُمَّ، وَبِخَطًى مُتَأَنِّيَةٍ، فَتَحْتُ أَزْرَارَ قَمِيصِي الْأبِيْضِ أَعْلَاهُ، أَمْرٌ لَمْ أَفْعَلْهُ قَطُّ… وَتَنَفَّسْتُ الصُّعَدَاءَ.
“مَرْحَبًا، يا هَانَا”، صاحَ صَوْتٌ مِنْ خَلْفِي فَجْأَةً.
اِسْتَدَرْتُ كَمَنْ لَمْ يَسْمَعِ الصَّوْتَ بَلِ الإِعْصَارَ. عَضَضْتُ شَفَتَيَّ بِلَا وَعْيٍ، وَإِذَا بِي أَمَامَ بَاوْل.
فِي دَهْشَتِي، شَعَرْتُ بِأَنِّي أَخْتَنِقُ، رَغْمَ أَنَّ فَمِي كَانَ فَارِغًا. أَخَذْتُ أَسْعُلُ بِلا تَوَقُّفٍ، كَمَنْ يُقَاتِلُ ظِلًّا فِي حَلْقِهِ.
مَدَّ بَاوْل ذِرَاعَهُ وَرَبَّتَ عَلَى ظَهْرِي بِرِفْقٍ، كَأَنَّهُ يُعِيدُنِي إِلَى أَرْضٍ كُنْتُ سَقَطْتُ مِنْهَا.
هَمَسْتُ: “شُكْرًا… أَنَا بِخَيْرٍ الآن”، وَتَخَلَّصْتُ بِسُرْعَةٍ مِنْ ذَاكَ النِّصْفِ مِنَ الْعِنَاقِ، لَكِنَّ بَقِيَّةً غَرِيبَةً انْغَرَسَتْ فِي جِلْدِي. حَيْثُ لَمَسَ بَاوْل ظَهْرِي، شَعَرْتُ بِبُرُودَةٍ وَوَخْزٍ غَامِضٍ.
وَفَجْأَةً، جُنَّ جَسَدِي. أَرَادَ أَنْ يَلْتَصِقَ بِبَاوْل، أَنْ يَحْتَضِنَهُ، يُدَاعِبَهُ، يَتَمَسَّك بِهِ، بَيْنَمَا كَانَ عَقْلِي يَصْرُخُ: “جُنُونٌ! خَطِيئَة! إِغْوَاءٌ! شَيْطَانٌ! عَارٌ!”
تَعَثَّرْتُ وَأَنَا أُقْبِلُ نَحْوَهُ، يَشُدُّنِي الحَنِين، ثُمَّ تَرَاجَعْتُ كَمَنْ خَانَتْهُ قَدَمَاهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
سَأَلَنِي بَاوْل بِقَلَقٍ: “أَلَسْتِ بِخَيْرٍ؟” وَمَدَّ ذِرَاعَهُ مَرَّةً أُخْرَى، وَضَعَهَا عَلَى كَتِفِي بِرِقَّةٍ.
هَمَسْتُ مُرْتَجِفَةً: “دَعْنِي… أَرْجُوكَ…”
تَجَاهَلْتُ نَظَرَاتِهِ، وَانْسَحَبَ الصَّوْتُ بَيْنَنَا.
قَالَ بِصَوْتٍ هَادِئٍ: “مِمَّ تَخَافِينَ، يَا هَانَا؟”
تَابَعَ مُحَاوِلًا: “هَيَّا، يُمْكِنُكِ أَنْ تُحَدِّثِينِي عَنْ أَيِّ شَيْءٍ.”
هَزَزْتُ رَأْسِي رَفْضًا، فَأَصَرَّ قَائِلًا: “إِذَا أَرَدْتِ، أَنَا هُنَا.”
هَمَسْتُ: “الرَّنِين… هَلْ تَسْمَعُ؟” وَأَعْرَضْتُ بِنَظَرِي، لَكِنَّ عَيْنَيَّ خَانَتَانِي، وَانْزَلَقَتَا نَحْوَ شَفَتَيْهِ… وَتَخَيَّلْتُ لَحْظَةَ لَمْسِهَا.
وَبَيْنَمَا كُنَّا نَمْشِي فِي بَهْوِ الْمَدْرَسَةِ الْوَاسِعِ، قَالَ: “كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَتَّصِلَ بِكِ الْأُسْبُوعَ الْمَاضِي.”
صَرَخْتُ بِدَهْشَةٍ: “لَا تَفْعَلْ!”
قَالَ: “أَعْرِفُ… وَالِدَاكِ…” وَأَضَافَ: “مَارِي أَخْبَرَتْنِي أَنَّهُمَا صَارِمَانِ جِدًّا. بِسَبَبِ أَنَّكُمْ مِنْ شُهُودِ يَهْوَه، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟”
أَوْمَأْتُ رَأْسِي بِفُتُورٍ، وَسِرْنَا فِي صَمْتٍ نَحْوَ بَابِ الصَّفِّ.
وَقَبْلَ أَنْ نَصِلَ، قَالَ بَاوْل بِنَبْرَةٍ خَافِتَةٍ: “لَكِنَّهُم لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَفْرِضُوا عَلَيْكِ حَيَاتَكِ كَامِلَةً… أَعْتَقِدُ ذَلِكَ.”
ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى مِقْبَضِ الْبَابِ، وَقَالَ مُبْتَسِمًا: “لَدَيْكِ شَعْرٌ جَمِيلٌ جِدًّا، وَأَجْمَلُ عُيُونٍ رَأَيْتُهَا فِي حَيَاتِي…”
بَدَأَتِ الْحِصَّةُ الْأُولَى، وَفِي دَاخِلِي عَاصِفَةٌ، هَائِجَةٌ، تَضْرِبُ مَا بَيْنَ خَوْفٍ عَمِيقٍ وَيَأْسٍ مُطْبِقٍ.
أَمَانْدَا صَارَتِ الآن دُورُوثِي، تُغَنِّي: “فِي مَكَانٍ مَا فَوْقَ قَوْسِ قُزَح”، كَمَا كَانَتْ تَحْلُمُ.
كُنْتُ أُعِدُّ كُتَيِّبَ الْبَرْنَامَجِ، وَأَرْسُمُ مِلَفَّ الْمَسْرَحِيَّةِ، بِرِفْقَةِ يُوكْسِل، الَّتِي لَمْ تُشَارِكْ فِي التَّمْثِيلِ أَيْضًا.
هَمَسَتْ لِي يُوكْسِل مُوَاسِيَةً: “أَنَا أَيْضًا لَا أَمْلِكُ وَقْتًا بَعْدَ الظُّهْرِ.”
كُنْتُ أَعْلَمُ سَبَبَ انْشِغَالِهَا. فَأُمُّهَا كَانَتْ مَرِيضَةً جِدًّا، وَيُوكْسِل تَعْتَنِي بِإِخْوَتِهَا الصِّغَارِ، وَتُعِدُّ لِوَالِدِهَا عَشَاءً دَافِئًا عِنْدَمَا يَعُودُ مِنَ الْعَمَلِ.
لَكِنَّ يُوكْسِل لَمْ تَكُنْ مَحْبُوسَةً كَمَا كُنْتُ أَنَا.
رَسَمْتُ بِصَمْتٍ عَلَى مَلَفِّنَا، الَّذِي اِخْتَرْنَا لَهُ صُورَةَ بَيْتٍ صَغِيرٍ يَطِيرُ فِي الْفَضَاءِ، وَفِي نَافِذَةٍ صَغِيرَةٍ بَدَتْ دُورُوثِي وَكَلْبُهَا الأَسْوَدُ كَقِطْعَةِ وَرَقٍ.
وَكَتَبَتْ يُوكْسِل بِحُرُوفٍ كَبِيرَةٍ: “السَّاحِرُ مِنْ أُوز، صَفُّ 9ب”.
فَجْأَةً، اِنْحَنَى أَحَدُهُمْ مِنْ خَلْفِي. أَغْلَقْتُ عَيْنَيَّ، وَسَقَطَ قَلَمِي الأَسْوَدُ مِنْ يَدِي، مِنْ شِدَّةِ الصَّدْمَةِ.
كُنْتُ بَيْنَ ذِرَاعَي بَاوْل، الدَّافِئَتَيْنِ، الْمُسَمَّرَتَيْنِ.
هَمَسَ في أُذُني: “طَبْعًا أَنْتِ دُورُوثِي الأَفْضَلُ.”
ولَمَسَ فَمُهُ شَحْمَةَ أُذُني لِحَظَةً قَصِيرَةً.
اِشْتَعَلَ وَجْهي، واِضْطَرَبَ نَفَسِي، وَدَاخَلتْنِي إِثَارَةٌ لَا أَسْتَطِيعُ لَهَا وَصْفًا.
اِلْتَفَتُّ إِلَيْهِ بِغَضَبٍ وَقُلْتُ: “كَفَّ عَنْ ذَلِكَ!”
وَهَمَمْتُ بِدَفْعِهِ جَانِبًا.
تَرَاجَعَ بَاوْل خُطْوَةً صَغِيرَةً، وَظَلَّ صَامِتًا يُحَدِّقُ فِيَّ.
تَوَسَّلْتُ بدَاخِلِي: “لَا تَذْهَبْ، أَرْجُوكَ، لَا تَذْهَبْ…”
“أَنَا أُحِبُّكَ، بَاوْل، وَلَكِنْ هَذَا مُحَرَّمٌ… هَذِهِ خَطِيئَةٌ… اللهُ سَيُعَاقِبُنِي.”
“سَيَقْتُلُنِي يَوْمَ الهَرْمَجِيدُون… سَيُدَمِّرُنِي بِسَيْفِهِ… سَأَلْتَوِي تَحْتَ نَصْلِهِ… وَأَذُوبُ فِي دِمَائِي…”
كُنْتُ أَرَى هَذَا المَصِيرَ بَوَضُوحٍ تَامٍّ؛ فَالأَخُ يُوخِن كَانَ يُحَدِّثُنِي دَوْمًا عَنْ يَوْمِ الهَرْمَجِيدُون.
وَقَفَ بَاوْل أَمَامِي صَامِتًا، هُنَاكَ، لَمْ يَتَحَرَّكْ، يُحَدِّقُ وَيَتَأَمَّلُ، حَتَّى نَادَتْهُ السَّيِّدَةُ وَينْتَر بِضِيقٍ وَنَفَادِ صَبْرٍ، إِذْ كَانَتْ تَحْتَاجُ إِلَى “الفَزَّاعَةِ” المَمْلُوءَةِ بِالقَشِّ عَلَى المَسْرَحِ فِي الحَالِ.
بَعْدَ الظُّهْرِ، عِنْدَمَا عُدْتُ إِلَى البَيْتِ، لَمْ أَجِدْ سِوَى رُوزْفِيتَا وَإِخْوَتِي الصِّغَارِ، وَكَانَ وَالِدَاهَا مَوْجُودَيْنِ أَيْضًا.
ضَفَّرْتُ شَعْرِي فِي الحَمَّامِ ضَفِيرَةً جَدِيدَةً، وَأَزْرَرْتُ قَمِيصِي الأَبْيَضَ بِإِحْكَامٍ.
قَالَتْ لِي جَدَّتِي: “سَوْفَ نَتَنَاوَلُ الطَّعَامَ جَمِيعًا مَعًا اليَوْمَ.”
وَأَلْقَتْ إِلَيَّ نَظْرَةً غَرِيبَةً.
صَمَتُّ، وَلَمْ أُشَارِكْ فِي الصَّلَاةِ عَلَى المَائِدَةِ.
نَادَتْ رُوزْفِيتَا بَعْدَ الغَدَاءِ: “هَيَّا، ارْتَدِي مَلَابِسَكِ، سَنَذْهَبُ الآنَ.”
كَرَّرْتُ بِحَذَرٍ: “لَنْ أَذْهَبَ إِلَى خِدْمَةِ التَّبْشِيرِ.”
وَجَلَسْتُ عَلَى الأَرِيكَةِ.
أَجَابَتْنِي جَدَّتِي بِنَبْرَةٍ حَادَّةٍ: “بِالطَّبْعِ سَتَذْهَبِينَ مَعَ أُمِّكِ إِلَى خِدْمَةِ التَّبْشِيرِ.”
هَمَسْتُ بِخَوْفٍ: “هِيَ لَيْسَتْ أُمِّي…”
وَلَكِنَّنِي لَمْ أُتِمَّ كَلَامِي، إِذْ صَفَعَنِي جَدِّي بِقُوَّةٍ، فَارْتَطَمَ فَمِي وَرَأْسِي إِلَى ظَهْرِ الأَرِيكَةِ.
لَمْ أَشْعُرْ بِالأَلَمِ، وَلَكِنْ شَيْئًا دَافِئًا بَدَأَ يَنْسَابُ عَلَى ذَقَنِي.
قَالَ بِنْيَامِين بِرُعْبٍ: “إِنَّهَا تَنْزِفُ! جَدِّي، لَقَدْ جَعَلْتَ هَانَا تَنْزِفُ!”
كَانَتْ رُوزْفِيتَا قَدْ ارْتَدَتْ مِعْطَفَهَا، فَأَخْرَجَتْ بِنْيَامِين مِنَ الغُرْفَةِ وَقَالَتْ بِصَرَامَةٍ: “اِذْهَبْ إِلَى الفِنَاءِ حَيْثُ إِخْوَتُكَ، سَأُوصِلُكُمْ قَرِيبًا إِلَى الأُخْتِ إِينِس، سَتَعْتَنِي بِكُمْ اليَوْمَ.”
وَقَفَ وَالِدَا رُوزْفِيتَا إِلَى جَانِبِ الأَرِيكَةِ، فَقَالَتْ جَدَّتِي مُشَجِّعَةً: “اِضْرِبْهَا مَرَّةً أُخْرَى إِنْ شِئْتَ.”
وَنَظَرَتْ إِلَيَّ بِلَا رَحْمَةٍ.
أَوْمَأَ جَدِّي بِرَأْسِهِ، وَسَحَبَنِي مِنْ ذِرَاعَيَّ وَقَالَ بِهُدُوءٍ: “اِنْهَضِي يَا فَتَاةُ.”
تَلَعْثَمْتُ: “لَا، أَنَا…”
وَأَحْنَيْتُ رَأْسِي، لَكِنَّهُ ضَرَبَنِي مُجَدَّدًا.
رَفَعَ يَدَهُ اليُمْنَى وَضَرَبَنِي بِهَا، بَيْنَمَا كَانَ يُمْسِكُنِي بِالأُخْرَى.
كَانَتِ الضَّرْبَةُ عَلَى وَجْهِي، ثُمَّ ضَرْبَةً أُخْرَى بِظَهْرِ يَدِهِ، ثُمَّ كَفٌّ جَافٌّ، ثُمَّ بَاطِنٌ آخَرُ مِنْ يَدٍ عِظَامِيَّةٍ.
كَانَ يَتَنَفَّسُ بِصُعُوبَةٍ، كَمَنْ يُؤَدِّي عَمَلًا شَاقًّا.
تَطَايَرَ رَأْسِي يَمِينًا وَيَسَارًا، وَالغَرِيبُ أَنَّنِي شَعَرْتُ، فَجْأَةً، كَأَنَّ الإِحْسَاسَ قَدْ غَادَرَنِي.
لَمْ أَعُدْ أَشْعُرُ بِضَرَبَاتِهِ، بَلْ بِالْهَوَاءِ الَّذِي تَخْلُقُهُ يَدُهُ، وَبِحَرَكَةِ رَأْسِي المُتَشَظِّيَةِ.
بَدَأَ الدُّوَارُ يَنْسَابُ فِي دِمَاغِي، وَسَمِعْتُ نَفْسِي أَتَنَفَّسُ بِصَوْتٍ يُشْبِهُ الصَّفِيرَ…
قالت روزڤيتا فجأةً، بصوتٍ حازم: “أظنُّ أنّ هذا يكفي الآن.” ثم أضافت، وهي تُوجِّه الكلام إلى والدها: “شُكرًا لكَ يا أبي، لقد قدَّمتَ لها خدمةً عظيمة.”
تراجعتُ ببطءٍ إلى الوراء، وأسندتُ جسدي المُنهك على الأريكة. وفي تلك اللحظة بالذات، وقع ما لم أكن أتوقّعه: انزلقت صورةُ أمي من داخل قميصي، كانت قد أفلتت من تنّورتي أثناء العراك والتشبّث.
سقطت الصورة على سجّادة غرفة الجلوس، فثبّتَت روزڤيتا عينيها عليها بقلقٍ صامت، وتوقّفَت ابتسامتها للحظة.
وفي اللحظة التالية، ارتفعت قدمُ جدّتي، وداسَت وجهَ أمي.
صرختُ مرتجفةً: “لا! لا تفعلوا ذلك!” وما إن لفظتُ الكلمات، حتّى عادت إلى وجهي آلامُ الصفعات المتلاحقة، وكأنّها نُقِشت عليه من جديد.
لكن لم يُعرني أحدٌ أدنى اهتمام. انحنت جدّتي، والتقطت الصورة بأصابعها اليابسة، ثم ناولتْها بهدوء إلى روزڤيتا.
أخذت روزڤيتا الصورة ومشت خارج الغرفة.
صرختُ كالملسوعة: “أعيدوها إليّ! أرجوكم، أرجوكم… إنّها لي! أحتاجها!”
نظر إليّ جدّي وجدّتي بازدراءٍ بارد، ثم مدّ جدّي يده إلى ظهري، ودفعني بصمتٍ حازم نحو غرفتي.
أغلقوا الباب من خلفي قبل أن ألتفت، وأحاول أن أفهم.
اندفعتُ نحو المقبض، حاولتُ فتحه، لكنّ جدّي كان يُمسكه من الخارج بقوة، فلم أستطع حتى تحريكه.
ثم سمعت صوتَ جدّتي تنادي: “روزي، أين المفتاح؟”
فأجابتها روزڤيتا بابتسامةٍ ناعمة: “ها أنا آتي.”
حبستُ أنفاسي. مفتاح؟! هل يوجد مفتاحٌ لغرفتي؟! كم من مرّةٍ سألتهم عنه، وكانوا يُقسمون أنّه لا وجود له! بل إنّهم كانوا يُؤكّدون دائمًا أنّ شقّتنا لا تحتوي على مفاتيح أصلًا!
وفيما هم يُقفلون الباب، بدأتْ برودةٌ قاسيةٌ تسري في جسدي، واحتدم في صدري شعورٌ جليديّ، غريب، وجامد.
مددتُ يدي بتثاقلٍ نحو خزانتي، أخرجتُ صندوقَ الحذاء الصغير، واستللتُ منه دفترَ يوميّاتي، وكتبتُ بقلمٍ يرتجف:
“هم يكذبون. يكذبون دائمًا. يكذبون هنا، ويكذبون على المنبر. يكذبون حتى في قاعة الملكوت. أحتقرهم. أكرههم… أكرههم… أكرههم… لقد ضربوني حتّى نزفتُ. لقد حبَسوني. أنا أسيرةٌ لديهم.”
ثمّ كتبتُ بصوتٍ خافتٍ، تغمره لهفةٌ شديدة:
“بَاوْل… بَاوْل… بَاوْل… أُحبّك… حرّرني.”
في صباح اليوم التالي، بقيتُ في البيت مرّةً أخرى. كان وجهي ملطّخًا ببقعٍ حمراء ومتورّمة قليلًا، وشفتاي السفليّتان منتفختين.
دخلت روزڤيتا الغرفة، ووضعت فنجانًا من الشاي على الطاولة الصغيرة قرب السرير، وقالت: “لا يمكنك الذهاب إلى المدرسة بهذا الشكل.”
صمتُّ، وعيناي معلّقتان بالفراغ، وقلبي مغمورٌ بيأسٍ ثقيل. تذكّرتُ الصورة… صورة أمي التي سُلِبتْ منّي.
ابتسمت روزڤيتا وقالت: “بنيامين مريضٌ أيضًا. يمكنكِ الاعتناء به. سأصطحب الكبيرين إلى الروضة، ثم أزور الأخ يوخِن والأخت بريچيت.”
لم أُحرّك ساكنًا.
قالت زوجةُ أبي بنفادِ صبرٍ: “هَيّا، قِفي يا هَانّا.”
نَهَضتُ ببطءٍ، وكانت أَشِعّةُ شمسِ الصّيفِ الدّافئةِ تُعميني، فأغمَضتُ عينيَّ بتعبٍ، وتجنّبتُ النّظرَ إلى روزڤيتا.
وفجأةً، تردّدَ صوتُ أبي في الممرّ:
“ماركوس ويَعقوب، خفِّفا صوتَكما قليلًا، من فضلكما. هَانّا وبِنْيامين مريضان، ويحتاجانِ إلى الهدوء.”
” هَانّا نَزَفَت، يا أبي…” صاح ماركوس بخشوعٍ.
“بِنْيامين قال إنّ جدّي…” لم يُتِمّ جملتَه، إذ اندفعتُ من جانبه وألقيتُ نفسي في حِضنِ أبي المذهول.
“يا أبي، أَأَنتَ ما زِلتَ هنا…” تمتمتُ والدموعُ تَخْنق صوتي.
قال أبي بصوتٍ منخفضٍ: ” هَانّا…” ثم دفعني قليلًا عنه، ونظر إلى وجهي المتورّم، وكان في عينيه دَهشةٌ وقلقٌ، أحسستُ معهما بقُوّةٍ تشُدّني وتدفعني للبوح.
“يا أبي، إنّهم قُساةٌ جدًّا”، بكيتُ وأنا أتشبّثُ بذراعه الضّعيف. “يَمنعونني من كُلِّ شيء، وسمحوا لجَدّي أن يَضربَني، وأخذوا منّي صورةَ أُمّي! يا أبي، صورةُ أُمّي… لا يجوزُ لهم فعلُ ذلك…”
قال من جديد، متردّدًا بصوتٍ باهِتٍ: ” هَانّا…”
كان في ملامحه حيرةٌ وضعف، ولم أحتملْ أن أراه هكذا. لففتُ ذراعيّ حول عنقه مرّةً أُخرى، وأسندتُ وجهي المُبلّل إلى صدره.
وفجأةً، أحسستُ به يشُدُّ نفسَه محاولًا أن يُبعِدني.
تجمّدتُ في مكاني حين أدركتُ أنّ رُوزڤيتا تقفُ الآن في الممرّ.
سمعتُ صوتَها، ودودًا لكن حازمًا: “ميشيل، أنتَ مُتأخّر.”
تمتمَ أبي: “أنتِ على حقّ، يا رُوزڤيتا.” ثم دفعني بلُطفٍ جانبًا.
قال لي بصوتٍ مُرتبك: ” هَانّا ، أنا آسِف…”
“يا أبي!” تمتمتُ بتوسُّلٍ ورجاء.
تابعَ قائلاً: “رُوزڤيتا ستَعتني بكِ، واللهُ لا يزالُ معكِ، تذكّري ذلك، يا فَتاتي… ولا تُضيّعي هذه الفُرصة عبثًا.”
ثم تركني واقفةً في الممرّ، وسمعتُ خطواتِه تُبتَعَد شيئًا فشيئًا في السُّلم الحجري.
لا أذكرُ الكثيرَ عن صباحِ ذلك اليوم، سوى أنّني ناديتُ أخي الصّغير، المريضَ بالسُّعال، إلى سريري، بعدما غادرتْ رُوزڤيتا المنزلَ برفقة الكبيرين.
تمدّد بِنْيامين إلى جواري، وتدفّأ بجانبي، ثمّ مدَّ يده الصغيرة، الحارّة والمبلّلة بالعرق، وأمسك بها يدي.
شَمَمتُ خُصلاتِه الذّهبيّة النّاعمة، وشعرتُ بعمقِ حُبّي له.
عندها، تسلّلتْ إلى رأسي أفكارٌ عن بَاوْل، الذي كان في المدرسة الآن، حيثُ كان ينبغي أن أكونَ أنا أيضًا.
نظرتُ من النّافذة إلى الشّمسِ المُشرقة، وتخيّلتُ كيف لو كان بَاوْل يُطلُّ من نافذته في هذه اللحظة، ويُفكّرُ بي.
هل يُمكنُ أن يكونَ ذلك حقًّا؟ كنتُ أرجو من كلّ قلبي… حتى ارتجفَ قلبي في داخلي.
قال بَاوْل إنّ عينيَّ وشعري يُعجبانه، فهل كان ذلك حقًّا؟ لم أجد في عينيَّ الرماديتين ولا في شعري الأشقر ما يستحق الإعجاب.
“هانا.. لماذا ضربكِ الجدّ؟” سأل بِنْيَامِين، أخي الصغير الذي لم يُتمَّ بعدُ عامه الثالث، فجأةً.
همستُ بحزن: “لا أعرف…”
“ربما لأنكِ لا تطيعينه دائمًا؟” قالها مُتردّدًا، وفي صوته ظلٌّ من الحزن.
“أأنا كذلك؟” سألتُه بلا حماس.
مدّ يده الصغيرة وربّت بأصابعه السميكة على وجهي قائلًا: “الجدة وأمي تقولان هذا، لكنني لا أظنّه صحيحًا. أنتِ طيبة… أطيب من الجميع.”
لم أتمالك دموعي.
“لا، لا…” تذمّر بِنْيَامِين وهو يمسح دموعي براحته الصغيرة.
لا أذكر الكثير مما جرى في ذلك اليوم.
انقضى الأسبوع كلّه وكأنّني أعيش وسط ضبابٍ كثيفٍ يحجب الأشياء من حولي.
في يوم الأربعاء، اقتربتْ منّي السيدة وِينْتَر وقالت بقلق: “هل أنتِ بخير يا هانا؟”
صمتُّ ولم أُجب.
تابعت: “وجهكِ شاحب… هل حدث شيء؟”
هززتُ رأسي نفيًا، وفي آخر حصة جلستُ أراقب زملائي وهم يتدرّبون على العرض المسرحيّ المنتظر.
كان يُوكْسِل قد انتهى من رسم الملصق.
قال معتذرًا: “لم نكن نعلم كم سيطول غيابكِ، وكان علينا إرسال الملصق إلى الطباعة بسرعة.”
أومأتُ برأسي مُتفهمة.
“هانا، لماذا تتهرّبين مني دائمًا؟” كان بَاوْل يسألني السؤال نفسه مرارًا، حتى خُيّل إليّ أنّه قاله ألف مرة كلّما التقت أعيننا في الممرّات.
وكنت أجيبه دائمًا: “اتركني.”
كنتُ أتحاشى نظراته المُحملة بالاهتمام، وأختبئ في أوقات الاستراحة خلف صناديق القمامة، حيث الهواء ثقيلٌ، ولا أحد يجرؤ على المكوث هناك سواي.
كنت أجلس على الأرض الدافئة، وأشعر أنّني قمامة مثلها.
وفي يوم الجمعة، حين عدتُ إلى المنزل للغداء، قالت رُوزْفِيتَا وهي تشمّ الهواء من حولي، وقد ارتسم الاشمئزاز على وجهها: “لماذا رائحتكِ غريبة هذه الأيام؟”
لم أجبها.
بعد الظهر قالت: “استعدّي، سنذهب إلى الاجتماع.”
دخلتُ الحمام صامتة، ارتديتُ تنّورة نظيفة، لكنّني أبقيت على البلوزة نفسها التي لم أخلعها منذ أيام. لم يكن شيء يعنيني بعد الآن. حتى شعري كففتُ عن غسله، وكنتُ حين تُصرّ رُوزْفِيتَا على أن أستحم، أفتح الماء فقط، وأقف خلف باب الحمام المغلق حتى لا يُكشف أمري.
في الاجتماع، ناداني الأخ يُوخِن إلى الأمام وأوقفني أمام الجميع.
قال بصوتٍ واضح: “كما تعلمون جميعًا، أختُنا هانا ترفض الطاعة في الآونة الأخيرة. تكذب، وتتصرف بجرأة وقلة احترام، وتتبنّى أفكارًا خاطئة، وتهمل مظهرها. فما رأيكم، يا إخوتي وأخواتي؟”
وقفتُ صامتة، مذهولة، وإذ بي فجأةً أشعر وكأنني أنسلّ من جسدي، وأطفو في الهواء بلا وزن.
رأيتُني هناك أسفل، شاحبةً، متشنّجةً، بائسةً، مثيرةً للسخرية.
أما أنا الحقيقية، فقد كنتُ أعلو هادئةً، بلا مشاعر، ساميةً فوق كلّ ما هو مهين.
فجأةً صرخ بِنْيَامِين قبل أن يتمكَّن أحدٌ من منعه: “هانا حزينةٌ جدًّا، بكت حتى ابتلَّت يداي تمامًا…”
رأيتُ رُوزْفِيتَا تدفعه بغضبٍ مكتوم.
قال الأخ بَرْنَارْد ببرود: “إنّها تبدو كالفاجرة.”
وأضافت الأخت جَانِيت بامتعاض: “نعم، تحوّلها يُثير القلق حقًّا.”
قال الأخ بَاوْل بصوتٍ حزين: “لقد كانت يومًا فتاةً محترمة.”
صرخ الأخ رُولَانْد بغِلظة: “إنّها تحتاج إلى ضربٍ مبرّح، ولا شيء آخر.”
أجاب جدّي بلهجةٍ مُبْطَنةٍ بالاهتمام، وهو يهزُّ كتفيه: “أنا أضربها بانتظامٍ بالفعل.”
قالت جدّتي بوجهٍ مُشمئزّ: “يجب ألّا تنسوا، يا إخوةُ وأخواتُ، أنّ أمّ هانا الحقيقية كانت امرأةً سيّئة السُّمعة، سهلة الانقياد…”
انكمشَ جسدي الفارغُ هناك، أمام المنصّة، وكأنّ الحياةَ قد انسحبت منه فجأةً. أمّا أنا، فقد كنتُ في الأعلى، في قاعة عبادتنا، عائمةً بلا أثرٍ للحزن، وذراعايَ مفتوحتان في الهواء، أضحكُ في داخلي ببرودٍ غامض.
ظللتُ مُقيَّدةً في سريري طوال عطلة نهاية الأسبوع، ورُوزْفِيتَا تراقبني بصرامةٍ لا تلين. لم يدخلْ أحدٌ غرفتي؛ لا والدي، ولا إخوتي الصغار.
في إحدى المرّات، سمعتُ رنين الهاتف في الصالة من بعيد، ثم جاء صوت رُوزْفِيتَا البارد الحاسم يقول: “إنها ليست في حالةٍ تسمح لها بالكلام مع أحد. إنّها تعاني من التهاب قصباتٍ شديد، وتحتاج إلى راحةٍ تامة.”
وبعد قليل، دخلتْ غرفتي وهي تحمل طعام العشاء، ثم سألتني بحدّة: “من هو بَاوْل كُونِيغ؟”
ارتجفتُ في مكاني، وشعرتُ بموجةٍ سرّيةٍ ساخنةٍ من الفرح تتفجّر داخلي. لقد اتّصل بي! إذن، أنا أُهمّه… رغم أنّ تصديق ذلك كان صعبًا. كنتُ فقط فتاةً غير ناضجة، مُهملة المظهر، عديمة التهذيب، كما وصفتني الأخت بْرِيجِيت حين زارتني بالأمس.
قالت رُوزْفِيتَا وهي تُمعن النظر في وجهي: “لقد احمرَّ وجهكِ يا هانا. إذن هذا هو بَاوْل كُونِيغ الذي جعلكِ تدورين في فلكه واقترب بكِ إلى إبليس!”
هززتُ رأسي نفيًا، مذعورة.
همستْ رُوزْفِيتَا بغضبٍ لاذع: “أرى أنّكِ تكذبين يا هانا. بالطبع هذا الشاب هو من أفسدكِ ودنّسكِ. هل سلّمتِ له قلبكِ وجسدكِ؟ هل مارستِ الجنس معه؟”
أغمضتُ عينيّ، وغرقتُ في ذكرياتي المليئة بأحلامي الكثيرة، أحلامٍ كانت تُشبه في شيءٍ ما أفكارَ رُوزْفِيتَا، لكنّها كانت مختلفة: أشياءٌ حنونة، مثيرة، وجميلة…
همست رُوزْفِيتَا مُتنهدةً: “لا جوابٌ هو أيضًا جواب”، ثم نهضت من مكاني وقالت بحزم: “سوف نحسم هذا الأمر، لأنّي أحبكِ يا هانا. أنتِ ابنتي، ابنتي الوحيدة، وسأفعل كل ما في وسعي لأقف إلى جانبكِ.”
ثم غادرت غرفتي، وأغلقت الباب خلفها بإحكامٍ مسموع.
اقْتَرَبَ مَوْعِدُ العَرْضِ المَدْرَسِيِّ، وَكَانَ صَفُّ التَّاسِعِ “ب” فِي حَالَةٍ مِنَ الحَمَاسِ المَسْرَحِيِّ. كُنَّا نُعِدُّ دِيكُورَ المَسْرَحِ، وَيَبْحَثُ زُمَلَائِي فِي خَزَائِنِ مَلَابِسِهِمْ عَنْ أَزْيَاءٍ مُنَاسِبَةٍ، تَتَكَفَّلُ الأُمَّهَاتُ اللَّوَاتِي يَمْلِكْنَ الوَقْتَ وَالرَّغْبَةَ بِتَعْدِيلِهَا.
كَانَ الجَمِيعُ مُبْتَهِجِينَ وَمُتَحَمِّسِينَ، إِلَّا أَنَا. كُنْتُ أَتَجَوَّلُ وَحِيدَةً، أَتَجَنَّبُ مَارِي وَبَاوْل، وَأَقْضِي بَعْدَ الظُّهْرِ فِي البَيْتِ.
شَعَرْتُ بِوُضُوحٍ أَنَّ لَدَيْهِمْ خُطَّةً مَا، فَكُتِبْتُ بِقَلَقٍ فِي مُذَكِّرَتِي اليَوْمِيَّةِ: “رُوزْفِيتَا لَمْ تَتَحَدَّثْ مَعِي فِي هٰذِهِ الأَيَّامِ، تَتَجَاهَلُنِي وَلا تَعْتَنِي بِي. بَعْدَ المَدْرَسَةِ، تَضَعُ طَعَامِي فِي غُرْفَتِي دُونَ كَلِمَةٍ، وَلا يُسْمَحُ لِبِنْيَامِين أَنْ يَدْخُلَ إِلَيَّ طِوَالَ بَعْدَ الظُّهْرِ. يَذْهَبُونَ إِلَى الاجْتِمَاعِ بَدُونِي، وَلا أَحَدَ يَدْعُونِي لِلْخِدْمَةِ الوَعْظِيَّةِ. أَشْعُرُ بِالخَوْفِ وَالوَحْدَةِ. غَدًا أُتِمُّ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ.”
قَرَأْتُ أَيْضًا فِي دَفْتَرِ مُلاحَظَاتِ أُمِّي المُتَهَالِكِ، رَغْمَ صُعُوبَةِ ذٰلِكَ، لِأَنَّهَا كَتَبَتْ مَذَاكِرَاتِهَا بِقَلَمِ رَصَاصٍ، وَقَدْ تَلَاشَتِ الكِتَابَةُ كَثِيرًا. بَعْضُ الفَقَرَاتِ كَانَ غَيْرَ مَقْرُوءٍ بِالْمَرَّةِ.
وَلَكِنِّي، مَعَ ذٰلِكَ، اجْتَزْتُ الكِتَابَ كُلَّهُ. يَا لَهَا مِنْ حَيَاةٍ مُخْتَلِفَةٍ كَانَتْ لأُمِّي! كَانَتْ تَذْهَبُ إِلَى الحَفَلَاتِ وَالمَسَارِحِ، وَيَبْدُو أَنَّ لَهَا أَصْدِقَاءَ كُثُرًا، وَكَانَتْ تَسْتَمْتِعُ بِالحَيَاةِ. أَحْيَانًا، كَانَتْ تُدَخِّنُ الحَشِيشَ، وَمَرَّةً ذَهَبَتْ مَعَ وَالِدِي فِي رِحْلَةٍ قَصِيرَةٍ إِلَى أَمْسْتِرْدَام، حَيْثُ قَضَيَا لَيْلَتَيْنِ فِي حَدِيقَةٍ.
أَمَّا الجُزْءُ الأَخِيرُ مِنَ الدَّفْتَرِ فَكَانَ عَنْ ضِيقِ المَالِ، وَهُنَا بَدَأَتْ تَكْتُبُ أَفْكَارَهَا بِقَلَمِ حِبْرٍ:
كَتَبَتْ مَرَّةً: “أَشْعُرُ بِالقَلَقِ لِأَنَّنَا دَائِمًا مَا نَكُونُ مُقَيَّدِينَ مَالِيًّا.”
“هانا أَحْلَى فَأْرَةٍ فِي العَالَمِ، وَلَكِنَّ هٰذَا الطِّفْلَ مَتْعَةٌ غَالِيَةٌ جِدًّا. أُنْفِقُ النُّقُودَ دَائِمًا. مِيشَائِيل لَيْسَ عَوْنًا كَبِيرًا. هُوَ سَاذَجٌ جِدًّا. أَحْيَانًا يُزْعِجُنِي حَقًّا. دَائِمًا أَكُونُ مَسْؤُولَةً عَنْ كُلِّ شَيْءٍ. دُونِي، لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُدِيرَ شَيْئًا. حَتَّى مِزَاجِي الجَيِّدُ يَحْتَاجُ إِلَيَّ. إِذَا كُنْتُ مُتَكَدِّرَةً، يَصْبَحُ كَسَحَابَةٍ خَفِيفَةٍ عَلَى القَلْبِ.”
وَكَتَبَتْ أُمِّي آخِرَ دُخُولٍ فِي مَذَاكِرَاتِهَا يَوْمَ جُمُعَةٍ مِنْ شَهْرِ سِبْتَمْبَر:
“اليَوْمُ يَوْمٌ مُرِيبٌ. وَلَكِنَّ مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ، فَلَا بُدَّ مِنْهُ. سَأَذْهَبُ بَعْدَ الظُّهْرِ إِلَى وَالِدَيَّ وَأَطْلُبُ مِنْهُم أَنْ يُسَاعِدُونَا مَالِيًّا عَلَى الأَقَلِّ. يَا لَلْخُبْثِ! كُنْتُ قَدْ نَذَرْتُ أَلَّا أَفْعَلَ ذٰلِكَ أَبَدًا! سَيَسْتَمْتِعُونَ بِذٰلِكَ وَيَفْرِضُونَ شُرُوطَهُمْ. يَا لَعْنَةَ…”
تَجَمَّدَ نَظَرِي عَلَى تِلْكَ الكَلِمَاتِ الأَخِيرَةِ، الَّتِي كَتَبَتْهَا أُمِّي غَاضِبَةً فِي ذٰلِكَ اليَوْمِ الخَرِيفِيِّ مِنْ سِبْتَمْبَرَ قَبْلَ سِنِينَ طَوِيلَةٍ.
كَانَ يَوْمَ 22 سِبْتَمْبَر! وَقَفْتُ وَأَنَا أَرْتَعِدُ، وَتَوَجَّهْتُ إِلَى النَّافِذَةِ. نَظَرْتُ بِدُوَارٍ إِلَى خَارِجِهَا فِي ذٰلِكَ اليَوْمِ الشَّمْسِيِّ البَارِدِ، وَتَذَكَّرْتُ أُمِّي الَّتِي مَاتَتْ فِي يَوْمِ 22 سِبْتَمْبَر، مُنْذُ قَرِيبِ عَشْرِ سِنِينَ، عِنْدَمَا عَبَرَتْ دَوَّارَةَ النُّورْدْرِينْغ الوَحْشِيَّةَ فِي طَرِيقِهَا إِلَى وَالِدَيْهَا.
كَانَ الْيَوْمُ 16 سَبْتَمْبَر، وَغَدًا عِيدُ مِيلادِي، فَكَانَتْ قَدْ مَاتَتْ فَقَطْ أُسْبُوعًا بَعْدَ سِنِّ تَوْلِدِي السَّادِسَةِ.
وَكُنْتُ عَائِدَةً أَلْتَمِسُ دُمُوعِي، حِينَمَا فُتِحَتِ الْبَابُ وَرَاءَ ظَهْرِي.
“هانا، تَعَالَي لِتَلْبَسِي، لَدَيْنَا مَوْعِدٌ”، قَالَتْ رُوزْفِيتَا بِوَجْهٍ جَادٍّ دُونَ أَنْ تَضْحَكَ.”
“لا أُرِيدُ أَنْ أَذْهَبَ إِلَى أَيِّ مَكَانٍ”، تَمْتَمْتُ بِحُزْنٍ وَنَظَرْتُ إِلَى خَارِجِ النَّافِذَةِ. كَانَتْ عَيْنَايَ تَحْتَرِقَانِ مِنَ الدُّمُوعِ.
“هانا، لا تُلْعِبِي أَلْعَابَ المَسْرَحِ الآنَ”، هَمَسَتْ رُوزْفِيتَا بِصَوْتٍ بَارِدٍ وَتَقَدَّمَتْ نَحْوِي. قَبَضَتْ عَلَى ذِرَاعِي. “لَدَيْنَا مَوْعِدٌ مَعَ طَبِيبَتِي.”
“مَوْعِدُ طَبِيبٍ؟” سَأَلْتُهَا بِرُهْبَةٍ وَشَكٍّ.
“نَعَم، مَعَ الأُخْتِ وَالْبُورْغَا.” كَانَ صَوْتُ رُوزْفِيتَا بَارِدًا كَالْجَلِيدِ.
اِنْتَهَضْتُ بِانْفِعَالٍ. كَانَتْ الأُخْتُ وَالْبُورْغَا شَاهِدَةً كَمَا نَحْنُ، وَبِالإِضَافَةِ إِلَى ذٰلِكَ كَانَتْ طَبِيبَةَ نِسَاءِ رُوزْفِيتَا .
“يَا لَيْتِكِ تَأْتِينِي، هانا”، حَثَّتْنِي رُوزْفِيتَا بِعُنْفٍ.
“لا أُرِيدُ”، تَمْتَمْتُ بِيأْسٍ.
“نُرِيدُ فَقَطْ أَنْ نَتَأَكَّدَ مِنَ الأَمْرِ”، شَرَحَتْ رُوزْفِيتَا .
وَفَعَلَتْ ذٰلِكَ. جَرَّتْنِي بِوَجْهٍ صَلْبٍ إِلَى مَحَطَّةِ الْحَافِلَاتِ، وَسَافَرْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ.
كَانَ مَكْتَبُ الانتظارِ مُزْدَحِمًا، وَلَكِنَّ اسْمِي طُلِبَ سَرِيعًا. قَامَتْ رُوزْفِيتَا أَوَّلًا.
“أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ وَحْدِي…” تَطَلَّبْتُ بِتَسَاوُلٍ.
“وَهٰذَا لَوْ كَانَ أَجْمَلَ!” رَدَّتْ رُوزْفِيتَا . “أَنْتِ الآنَ لَا تَمْلِكِينَ أَيَّةَ إرَادَةٍ، يَا هانا.”
تَعَثَّرْتُ وَرَاءَ رُوزْفِيتَا إِلَى غُرْفَةِ الفَحْصِ. تَحَاوَرَتْ الأُخْتُ وَالْبُورْغَا وَرُوزْفِيتَا بِنَظَرَةٍ مَلِيئَةٍ بِالفَهْمِ.
“قَدْ تَحَدَّثْنَا هَاتِفِيًّا أَمْسِ”، هَمَسَتْ طَبِيبَةُ النِّسَاءِ، وَكَانَ صَمْتٌ مُحْرِجٌ، مَا أَكَّدَ لِي أَنَّ هٰذَا الْمَوْعِدَ لَيْسَ بِبَسِيطٍ.
نَظَرْتُ حَزِينَةً إِلَى الْحَائِطِ الْمَبْلُوطِ بِاللَّوْحِ الأَبْيَضِ. شَعَرْتُ بِبَرْدٍ قَارِصٍ يَسْتَوْدِعُ جَوْفِي.
“اِسْتَعِدِّي، يَا هانا”، طَلَبَتْ مِنِّي الأُخْتُ وَالْبُورْغَا.
فَعَلْتُ مَا طُلِبَ بَرَعْشَةٍ، وَصَعِدْتُ بَرَعْشَةٍ أَيْضًا عَلَى كُرْسِيِّ الطِّبِّ النِّسَائِيِّ الْعَالِيِّ، الَّذِي كَانَ يُرْهِبُنِي.
قالت طبيبة النساء وهي تُربّت على ركبتيَّ اليُسرى بلطف: “اِفْرِشِي رِجْلَيْكِ جَيِّدًا وَاسْتَرْخِي، يَا هانا.” لَعَلَّهَا كَانَتْ تُرِيدُ تَشْجِيعِي. سَمِعْتُ تَنَفُّسَ رُوزْفِيتَا جَانِبِي، وَلَكِنِّي لَمْ أَكُنْ أَبَدًا أَشْعُرُ بِالشَّجَاعَةِ.
أَمَرَتِ الطَّبِيبَةُ: “ارْخِي عَضَلَاتِكِ.” فَفَجْأَةً أَدْخَلَتْ أَدَاةً بَارِدَةً وَكَبِيرَةً بَيْنَ رِجْلَيَّ. أَلَمٌ خَفِيفٌ غَمَرَنِي، وَشَعَرْتُ بِخَوْفٍ عَظِيمٍ. خَطَرَ بَالِي فَوْرًا أَنَّهُ سَيُكْتَشَفُ أَمْرِي، أَنَّ أَحَدًا سَيَتَعَرَّفُ عَلَى أَنِّي قَدْ لَمَسْتُ نَفْسِي مُجَدَّدًا، وَخَاصَّةً تِلْكَ الْمَنطِقَةَ الَّتِي كَانَتْ تِلْكَ الآلَةُ الْبَارِدَةُ تُفَحِّصُهَا، وَالَّتِي كُنْتُ أَدَاعِبُهَا لَيَالِي كَثِيرَةً بِرِقَّةٍ، وَأَنَا أُفَكِّرُ فِي “بَاوْل” وَمَشَاعِرِي نَحْوَهُ.
تَمْتَمَتْ الأُخْتُ وَالْبُورْغَا فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ: “كُلُّ شَيْءٍ سَلِيمٌ.” سَمِعْتُ تَنَفُّسَ رُوزْفِيتَا يَتَرَخَّى. وَفِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، فَهِمْتُ مَا كَانُوا يَفْحَصُونَهُ بِنَفْسِهِمْ.
كَانُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَعْرِفُوا هَلْ نَمَتْ فِيّ تَجْرِبَةُ الْجِنَسِ مَعَ “بَاوْل” أَمْ لَا. لَمْ أَعُدْ بَرِيئَةً كَمَا كُنْتُ مِنْ قَبْلُ. كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ فِي جَوْفِي النَّقِيِّ هُنَاكَ غِشَاءٌ رَقِيقٌ يَتَمَزَّقُ عِنْدَ الْعَمَلِ الْجِنْسِيِّ.
قَالَتْ الأُخْتُ وَالْبُورْغَا وَهِي تُرَافِقُ مَسَحَ وَجْهِي: “تَقْدَرِينَ أَنْ تَرْتَدِي مَلَابِسَكِ، يَا هانا.”
أَشْرَفْتُ بِخَجَلٍ وَتَسَلَّلْتُ إِلَى غُرْفَةِ اللِّبَاسِ.
سَمِعْتُ رُوزْفِيتَا تَقُولُ بِصَوْتٍ مُخَفَّفٍ: “فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَمَلٌ جِنْسِيٌّ، عَلَى الأَقَلِّ.”
أَجَابَتْ الأُخْتُ وَالْبُورْغَا بِلُطْفٍ وَتَأَمُّلٍ: “نَعَمْ، وَلَكِنَّ الصَّغِيرَةَ نَحِيفَةٌ جِدًّا، وَشَاحِبَةٌ أَيْضًا.”
رَدَّتْ رُوزْفِيتَا وَصَوْتُهَا مَلِيءٌ بِالِابْتِسَامَةِ: “الأَهَمُّ أَنْ تَكُونَ حَالَتُهَا الصِّحِّيَّةُ فِي مَنْطِقَةِ الْحَشْرَةِ.”
في اليوم التالي، أتممتُ السادسةَ عَشْرَةَ من عُمري.
وَفِي سَحَرِ اللَّيْلِ، كَتَبْتُ فِي دَفْتَرِي الشَّخْصِيِّ وَأَنَا وَحْدِي فِي الشِّقَّةِ، وَلاَ زَالَتِ الصَّمْتُ يَسْتَحْكِمُ:
مُرَّةً أُخْرَى، مِتُّ فِي حُلْمِي.
رُبَّمَا كَانَ مِنَ الْأَفْضَلِ لَوْ كُنْتُ أَحْيَا حَقًّا لِكَيْ أَمُوتَ.
وَالْيَوْمَ هُوَ عِيدُ مِيلَادِي…
هَابِي بَرْذْيْ، يَا هانا!
أُرِيدُ أَنْ أَعِيشَ حَيَاةً طَبِيعِيَّةً، أَوْ أُرِيدُ أَنْ أَمُوتَ.
أُرِيدُ أَنْ أُحِبَّ، أُرِيدُ أَنْ يُؤْخَذَ كَلَامِي بِجِدِّيَّةٍ،
أُرِيدُ شَمْعَاتٍ وَوَرَدًا وَهَدَايَا،
أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ مَعَ “بَاوْل”.
حَيَاتِي بَلاَ مَعْنَى.
كُنْتُ أَتَمَنَّى لَوْ كُنْتُ مَيِّتَةً.
وَقَفْتُ وَتَجَهَّزْتُ لِلْبَسِّ. فَالْيَوْمَ يَوْمٌ مُمَيَّزٌ،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِعَائِلَتِي، فَهوَ لِي.
نَظَرْتُ إِلَى مَلَابِسِي الْبَاهِتَةِ وَالْمُمِلَّةِ.
بَعْضُ التَنَانِيرِ الْمُظْلِمَةِ، بَعْضُ الْقُمْصَانِ الْبَيْضَاءِ وَالزَّرْقَاءِ وَاللَّوْنِ الْبُرْدِيِّ،
قَلِيلٌ مِنَ الْكَنَزَاتِ الْكَسْلَانَةِ،
وَسْتِرَةٌ مَحْتَقَرَةٌ،
وَفُسْتَانُ قُطْنِيٌّ مَمْوَّهٌ بِالْخُطُوطِ، مِنَ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، غَيْرُ مُلَائِمٍ لِي.
تَنَفَّسْتُ بِاِشْمَاقٍ، وَتَمَطَّيْتُ:
“أَكْرَهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْبَائِسَةَ…”
فَجْأَةً، طَفَقَتْ فِكْرَةٌ تَسْرِي فِي رَأْسِي، فِكْرَةٌ جُنُونِيَّةٌ، وَمِنْ كُلِّ مَا فِيهَا مُحَرَّمَةٌ.
رَكْضْتُ إِلَى فِرَاشِي، وَبِصَوْتٍ هَادِئٍ سَحَبْتُ الحَقِيبَةَ الْمَلِيئَةَ تَحْتَ السَّرِيرِ، وَفَتَحْتُهَا.
هُنَاكَ، بَيْنَ مَا فِيهَا، وَجَدْتُ مَلابِسَ أُمِّي.
بِقَلْبٍ يَخْفُقُ بِشِدَّةٍ، وَعَجَلَةٍ، أَخَذْتُهَا مِنْ دَاخِلِ الحَقِيبَةِ، لأَنَّهُ مَا بَقِيَ وَقْتٌ قَبْلَ أَنْ يَسْتَيْقِظَ الْآخَرُونَ.
فَرَشْتُ عَلَى جَسَدِي بِنْطَالًا مِنَ الْوَلْدِزِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْبَنْطَالِ السَّمِيدِيِّ، مُخَطَّطٌ بِاللَّوْنِ الْوَرْدِيِّ.
وَرَفَعْتُ عَلَى رَأْسِي كَنْزَةً طَوِيلَةً، حَمْرَاءَ لَوْنَ خُشُوخِ الْخُشْخَاشِ.
وَوَجَدْتُ بَعْضَ الْحِذَاءِ فِي الْحَقِيبَةِ، حِذَاءً بُنِّيًّا ظَرِيفًا، بِرُبَاطٍ لَامِعٍ بِلَوْنِ اللَّيْلَكِ.
وَسَرِيعًا، دَفَعْتُ قَدَمَيَّ فِيهِ، وَجَرَيْتُ إِلَى خِزَانَتِي، وَأَخَذْتُ مِنَ الصُّنْدُوقِ الْمُخْتَفِيِّ كَأْسَ الْمُجَوْهَرَاتِ لِأُمِّي.
فَرَشْتُ يَدَيَّ فِيهِ وَبَحَثْتُ، وَأَخِيرًا أَمْسَكْتُ بِقِلَادَةٍ شَرْقِيَّةٍ، وَقُرْطٍ ظَرِيفٍ عَلَى شَكْلِ فِرِيدْ فَوِيرْشْتَاين المبتسم،
وَلَوْلَا أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ ذَلِكَ آنَذَاكَ، لَكُنْتُ قَدْ عَرَفْتُهُ.
قَطَفْتُ القُرْطَ الْمُتَأَرْجِحَ مِنَ الْحَقِيبَةِ، وَأَثْبَتُّهُ عَلَى شَحْنَةِ أُذُنِي الْيُسْرَى.
ثُمَّ تَسَلَّلْتُ بِهُدُوءٍ، كَأَنْنِي ظِلٌّ، إِلَى حَمَّامِ الْمَنْزِلِ.
فَرَشْتُ أَسْنَانِي بِعِنَايَةٍ، وَغَسَلْتُ وَجْهِي الْحَارَّ الْمُتَوَتِّرَ بِكَثْرَةِ الْمَاءِ الْبَارِدِ.
مَشَّطْتُ شَعْرِي، ثُمَّ رَمَيْتُهُ وَرَاءَ ظَهْرِي بِهَوَانٍ.
بَعْدَ ذَلِكَ، جَرَأْتُ عَلَى لَمْحَةٍ سَرِيعَةٍ فِي مِرْآةِ الْحَمَّامِ.
شَعَرْتُ بِغَثَيَانٍ يَقْرُبُ مِنِّي مِنْ شِدَّةِ التَّوَتُّرِ، فَأَسْرَعْتُ لِأَنْ أَنْزِلَ إِلَى الشَّارِعِ.
وَهُنَاكَ، مَشَتْ سَاقَانِ طَوِيلَتَانِ مَخَطَّطَتَانِ بِاللَّوْنِ الْوَرْدِيِّ عَلَى الرَّصِيفِ، سَاقَانِ غَرِيبَتَانِ لا أَعْرِفُهُمَا، وَهُمَا مَسْؤُولَتَانِ عَنْ كُلِّ ذَلِكَ الْخَوْفِ الَّذِي يَخْيِلُ إِلَيَّ أَنِّي أَنْهَارُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ أَرَاهُمَا.
شَعْرِي الْمُنْفَلِتُ يَتَلَفَّحُ بِرِيحِ الْخَرِيفِ الْبَارِدِ، يَدْغَدِغُنِي بِاللَّطْفِ عِنْدَ مَنْخَرِي.
وَذِرَاعَايَ النَّحِيفَتَانِ مَغْطَّتَانِ بِاللَّوْنِ الْحَمْرِيِّ لَوْنِ الْخُشُوخِ،
وَقَدَمَايَ الْغَرِيبَتَانِ فِي حِذَاءَاتٍ بَرَّاقَةٍ لَوْنُهَا لَيْلَكِيٌّ تَرْقُصُ عَلَى رَصِيفِ الْبِيتُونِ.
وَكُلَّمَا اقْتَرَبْتُ مِنَ الْمَدْرَسَةِ، تَصَاعَدَتْ خُطَايَا، وَأَصْبَحَتْ بَطِيئَةً.
بَدَأَ الْفَتَيَةُ وَالْفَتَيَاتُ يَتَدَافَعُونَ مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ،
يَتَحَدَّثُونَ، يَضْحَكُونَ، يَهْتِزُّونَ مِنَ الْقَهْقَهَةِ، يَهْمِسُونَ، يَسْتَكْتِمُونَ، يَقْرَؤُونَ، يُرَنِّمُونَ، أَوْ يَسْمَعُونَ الْمُوسِيقَى،
وَهُمْ يَتَجَمَّعُونَ حَوْلِي فِي طَرِيقِهِمْ نَحْوَ بَابِ الْمَدْرَسَةِ الْكَبِيرِ.
فَجْأَةً، وَقَفَتْ أَمَامِي أَمَانْدَا وَدِيبُورَاه مِنَ الْجَانِبِ الْيَمِينِ.
اِرْتَجَفْتُ، وَرَغِبْتُ فِي الِانْسِحَابِ وَالاِخْتِفَاءِ،
وَلَكِنِّي وَاصَلْتُ الْمَسِيرَ بِبُطْءٍ.
فَعَلَتْ أَمَانْدَا وَدِيبُورَاه مَا كُنَّ يَفْعَلْنَهُ دَائِمًا،
وَضَعْنَ رُؤُوسَهُنَّ مَعًا وَهَمَسْنَ بِصَوْتٍ خَفِيٍّ،
وَحَدَثَ الْعَجِيبُ: لَمْ يَتَعَرَّفَا عَلَيَّ بَعْدُ، عَلَى الْأَقَلِّ فِي الْوَقْتِ الْحَالِيِّ.
تَنَفَّسْتُ بَعْدَ هَذَا بَسَطَةً.
فَجْأَةً، شَدَّني شَخْصٌ مَا مِنْ كُمَّيَّ، فَاسْتَدِرْتُ بِخَوْفٍ وَرَهْبَةٍ.
“بَاوْل…”، تَلْقَطَتْ كَلِمَةُ اسْمِهِ مِنْ شَفَتَيَّ بِلَا تَوَقُّفٍ، وَحَاوَلْتُ أَنْ أَرْسُمَ عَلَى وَجْهِي اِبْتِسَامَةً.
قالَ بَاوْل مُنْدَهِشًا وَمُرتَبِكًا، وَهُوَ يمسْحْني بعينيه مِنْ رَأْسِي إِلَى قَدَمَيَّ:
“هَانَّا! كُلُّ عَامٍ وَأَنْتِ بِخَيْرٍ…”
تَمَهَّلَ فِي الْكَلِمَاتِ، وَاسْتَمَرَّ يَنْظُرُ إِلَيَّ بِدَهْشَةٍ مُتَزَايِدَةٍ.
سَأَلْتُهُ بِهُدُوءٍ، وَفَرَحٌ يَتَلَأْلأُ فِي عَيْنَيَّ:
“كَيْفَ عَلِمْتَ أَنَّ الْيَوْمَ هُوَ عِيدُ مِيلادِي؟”
أَجَابَ بِلُطْفٍ وَحَذَرٍ:
“لِأَنِّي أُحِبُّكِ، هَانَّا”
فَفَجْأَةً، وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى وَجْهِي الْمُحْمُومِ، وَقَبَّلَنِي قُبْلَةً خَفِيفَةً وَسَرِيعَةً عَلَى الشَّفَةِ.
ثُمَّ تَفَوَّهَ بِكَلِمَاتٍ سَرِيعَةٍ، كَمَا قَبَّلَنِي:
“لا أَعْرِفُ كَيْفَ أُخْبِرُكِ أَنَّكِ أَجْمَلُ فَتَاةٍ فِي الْمَدْرَسَةِ كُلِّهَا.”
صَمَتُّ خَجَلًا، وَعَادَتْ ذِهْنِي إِلَى أَمْسِ، حِينَ أَصْرَتْ عَلَيَّ رُوزْفِيتَا أَنْ أَذْهَبَ إِلَى طَبِيبَةِ النِّسَاءِ، لِكَي تَتَأَكَّدَ مِنْ أَنَّ بَاوْل وَأَنَا…
رَفَضْتُ أَنْ أُفَكِّرَ فِي ذَلِكَ وَرَفَعْتُ رَأْسِي.
سَأَلْتُهُ مُتَسَارِعَةً:
“هَلْ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَكُونَ وَحْدَنَا لِوَقْتٍ قَصِيرٍ؟”
أجاب بُحماس: “بالطَّبع!”
وأخذ يدي بيده.
سِرْنَا معًا إلى خلف البافيلون الصغير، حيث تقعُ فصول الكيمياء والفيزياء،
وعبرنا جدارًا منخفضًا لم أكن أعرف بوجوده من قبل.
هناك، في زاويةٍ خفيّة، سأل بَاوْل بصوتٍ متهدّج: “ماذا تَنْوِينَ، هانّا؟”
ففاجأتُه بأن ألقيتُ ذراعيَّ حول عنقه، وأطبقتُ شَفَتَيَّ على شَفَتَيْه.
وقف بَاوْل صامتًا،
وشعرتُ بدفء شَفَتَيْه وجفافها الحنون،
ثم تبادلنا قُبلةً قصيرةً، رقيقةً، وحذرة.
وعندما دوّى جرسُ المدرسة،
عدنا صامتَيْن إلى الفصل، نمشي جنبًا إلى جنب.
وعند باب الفصل، قال بَاوْل بصوتٍ خافتٍ مرتين: “أظنّ أنّي أحبكِ حقًّا، هانّا.”
ثم أضاف: “بِشَكلٍ ما، سنتغلّب على كلِّ شيء.”
همستُ مضطربة: “ولكنني لا أعرف كيف…”
وكان ذلك كلَّ ما استطعتُ قوله.
مرّت بقيّةُ الصباح كعاصفةٍ هوجاء تلتهمني من كل جانب.
عاصفةُ نظراتٍ حين دخلتُ الفصل مرتديةً ثيابَ أمي الغريبة،
وعاصفةُ مشاعرٍ حين انشغل الجميع بتهنئة ماري بعيد ميلادها.
وفجأة، التفتت ماري إليّ، نظرت نحوي بحيرةٍ ممزوجةٍ بالتشجيع،
فوجدتُ نفسي أومئ بخجل،
ثم قالت بصوتٍ واضح: “لماذا تباركون ماري فقط؟ هانّا أيضًا عيد ميلادها اليوم!”
رمقني طلابُ الصف التاسع “باء” بنظراتٍ حائرة،
لكن سرعان ما اندلعت عاصفةٌ أخرى، عاصفةٌ من اللطف المُربك.
صافحوني واحدًا تلو الآخر، وأمطرتني الأسئلة من كل اتجاه.
أما أماندا فقالت بسخريةٍ مُرَّة: “ما الذي حلّ بعمَّتنا المملة ‘يهوه’ فجأة؟ هل طردوكِ من جماعتكم، أم ماذا؟”
شَعَرْتُ بِقَشْعَرِيرَةٍ تَسْرِي فِي بَطْنِي حِينَ سَمِعْتُ كَلَامَهَا، وَانْسَاقَتْ عَيْنَايَ تَبْحَثَانِ عَنْ نَظْرَةِ بَاوْلِ الْمُطْمَئِنَةِ.
بَاوْل… هُوَ مَنْ أَثَارَ أَعْظَمَ العَوَاصِفِ فِي دَاخِلِي، لا شَكَّ فِي ذٰلِكَ. تَذَكَّرْتُ قُبْلَتَنَا فِي المَرْجِ الصَّغِيرِ خَلْفَ المَدْرَسَةِ، وَكَانَ قَلْبِي يَشْعُرُ كَأَنَّنِي أَسْتَطِيعُ عِنَاقَ العَالَمِ كُلِّهِ.
فِي الاسْتِرَاحَةِ الكُبْرَى الأُولَى، لَمْ تَتِحِ الفُرْصَةُ لِبَاوْل وَلِي أَنْ نَلْتَقِيَ وَحْدَنَا. كَانَتْ مَارِي وَبَقِيَّةُ الفَتَيَاتِ يُحِطْنَ بِي، وَحَتَّى دِيبُورَا بَدَتْ وَدُودَةً مَعِي الْيَوْمَ.
“هَيَّا يَا هَانَّا، قُولِي لَنَا، مَا الَّذِي أَصَابَكِ فَجْأَةً؟” سَأَلَتْنِي وَهِيَ تَبْتَسِمُ، تُمْعِنُ النَّظَرَ فِي مَلَابِسِي الْمُلَوَّنَةِ بِتَأَمُّلٍ. “تَبْدِينَ حَقًّا رَائِعَةً! مِنْ أَيْنَ جِئْتِ بِهٰذِهِ المَلَابِسِ الغَرِيبَةِ؟”
“مَرْحَبًا يَا هَانَّا، كَيْفَ هُوَ وَضْعُ عِيدِ مِيلَادِكِ الآن؟” سَأَلَتْنِي سَابْرِينَا قَبْلَ أَنْ أُرَتِّبَ جَوَابًا لِدِيبُورَا.
“مِنْ قَبْلُ، لَمْ نَكُنْ نَسْمَحُ حَتَّى أَنْ نُبَارِكَ لَكِ…”
“هَلْ سَمَحَ لَكِ وَالِدَاكِ فَجْأَةً بِارْتِدَاءِ هٰذَا الزِّيِّ الجُنُونِيِّ؟” صَاحَتْ آنا، وَهِيَ تَلْتَقِطُ بِفُضُولٍ طَرَفَ كُمِّي مِنَ السُّتْرَةِ. “كُنْتُ أَظُنُّهُم صَارِمِينَ مَعَكِ!”
وَقَفْتُ عَاجِزَةً، لا أَدْرِي مَاذَا أَقُولُ.
“دَعُوا هَانَّا وَشَأْنَهَا الآن”، قَالَتْ مَارِي بِلُطْفٍ، وَوَضَعَتْ ذِرَاعَهَا حَوْلَ كَتِفِي.
“هَيَّا بِنَا نَذْهَبْ بَعِيدًا”، هَمَسَتْ لِي.
أَوْمَأْتُ بِارْتِيَاحٍ، وَيَدًا بِيَدٍ مَعَ مَارِي وَسُوزَان، هَرَبْنَا مِنْ وَسَطِ الآخَرِينَ.
التَفَتُّ مَرَّاتٍ عِدَّةً أَبْحَثُ عَنْ بَاوْل، لَكِنَّنِي لَمْ أَرَهُ فِي أَيِّ مَكَانٍ.
تَذَكَّرْتُ قُبْلَتَنَا السِّرِّيَّةَ فِي ذٰلِكَ المَرْجِ الخَفِيِّ بِالْمَدْرَسَةِ، وَشَعَرْتُ بِحَنِينٍ جَارِفٍ إِلَيْهِ.
كَانَتْ مَارِي وَسُوزَان تُعَامِلَانِنِي بِلُطْفٍ وَحِرْصٍ. وَقَالَتْ مَارِي بَعْدَ صَمْتٍ قَصِيرٍ، وَفِي عَيْنَيْهَا لَمْحَةُ فَهْمٍ: “طَبْعًا، الجَمِيعُ مُرْتَبِكُونَ بِسَبَبِكِ.”
أَوْمَأْتُ بِرِقَّةٍ.
“هَلْ نَسْأَلُكَ كَيْفَ حَدَثَ كُلُّ هٰذَا؟” سَأَلَتْ سوزان بِحَذَرٍ.
هَزَزْتُ رَأْسِي نَافِيًة.
قالت ماري على الفور: “حَسَنًا.”
جَلَسْنَا نَحْنُ الثَّلَاثَةَ عَلَى ٱلْجِدَارِ ٱلصَّغِيرِ فِي ٱلْمَدْرَسَةِ، تَمَامًا عِنْدَ ٱلنُّقْطَةِ ٱلَّتِي يَنْحَنِي فِيهَا ٱلْجِدَارُ قَلِيلًا إِلَى ٱلْخَلْفِ. كَانَ ٱلْمَكَانُ هُنَاكَ أَكْثَرَ هُدُوءًا بِكَثِيرٍ مِنْ بَقِيَّةِ سَاحَاتِ ٱلْمَدْرَسَةِ.
أَلْقَيْتُ نَظْرَةً مُتَأَمِّلَةً إِلَى رُكْنِي ٱلسِّرِّيِّ عِنْدَ حَاوِيَاتِ ٱلْقُمَامَةِ. كَمْ مَرَّةً جَلَسْتُ هُنَاكَ فِي ٱلْآوِنَةِ ٱلْأَخِيرَةِ!
فَجْأَةً، لَاحَظْتُ أَنَّ مَارِي وَسوزان قَدْ تَبِعَتَا نَظْرَتِي.
قالت ماري بهدوء: “أَفْضَلُ أَنْ تَكُونِي مَعَنَا ٱلْيَوْمَ، بَدَلًا مِنْ أَنْ تَبْقَيْ وَحِيدَةً فِي زَاوِيَةِ ٱلرَّائِحَةِ ٱلْكَرِيهَةِ دَائِمًا.”
ٱرْتَعَشْتُ قَلِيلًا. “هَلْ رَأَيْتُمَانِي هُنَاكَ؟” سَأَلْتُ بِخَجَلٍ.
أَجَابَتْ سوزان: “نَعَمْ.”
أَضَافَتْ مَارِي: “فِي ٱلْحَقِيقَةِ، كَانَ بَاوْل هُوَ ٱلَّذِي ٱكْتَشَفَكِ هُنَاكَ أَوَّلَ مَرَّةٍ.”
كَرَّرْتُ بِذُهُولٍ: “بَاوْل رَآنِي هُنَاكَ؟”
هَزَّتْ مَارِي وَسوزان رَأْسَيْهِمَا.
فَسَّرَتْ مَارِي بِنَظْرَةٍ غَرِيبَةٍ: “كَانَ مُكْتَئِبًا تَمَامًا حِينَ ٱكْتَشَفَ أَخِيرًا إِلَى أَيْنَ تَذْهَبِينَ كُلَّ ٱسْتِرَاحَةٍ لِتَخْتَبِئِي. وَبِٱلْمُنَاسَبَةِ، نَحْنُ مُتَأَكِّدُونَ أَنَّ بَاوْل… يُحِبُّكِ كَثِيرًا.”
قالت سوزان: “عَلَى ٱلْأَقَلِّ هُوَ يُفَكِّرُ بِكِ دَائِمًا.”
شَعَرْتُ بِدِفْءٍ يَسْرِي فِي صَدْرِي عِنْدَمَا سَمِعْتُ ذٰلِكَ.
قالت ماري، بَيْنَمَا كَانَ جَرَسُ ٱلِٱسْتِرَاحَةِ يَرِنُّ: “عَلَى فِكْرَةٍ، هَانَّا، بَعْدَ أَنْ عَرَفْنَا أَنَّكِ تَجْلِسِينَ حَزِينَةً بَيْنَ حَاوِيَاتِ ٱلْقُمَامَةِ كُلَّ ٱسْتِرَاحَةٍ، أَرَدْنَا بِٱلْطَّبْعِ أَنْ نَأْتِيَ إِلَيْكِ وَنُسَاعِدَكِ، وَلٰكِنَّ بَاوْل قَالَ لَنَا أَنْ نُعْطِيَكِ بَعْضَ ٱلْوَقْتِ.”
تَبَادَلْنَا ٱلنَّظَرَاتِ ٱلثَّلَاثَةَ، ثُمَّ بَدَأْنَا بِبُطْءٍ ٱلْعَوْدَةَ إِلَى صَفِّنَا.
فِي ٱلِٱسْتِرَاحَةِ ٱلثَّانِيَةِ، لَمْ أَسْتَطِعْ ٱلْحَدِيثَ مَعَ بَاوْل أَيْضًا. فَقَدْ أَخَذَتْهُ ٱلسَّيِّدَةُ وينتر إِلَى ٱلْقَاعَةِ ٱلْكُبْرَى بِسَبَبِ مَشْكِلَةٍ فِي تَثْبِيتِ دِيكُورِ ٱلْمَسْرَحِ.
ٱلْتَقَيْنَا مُجَدَّدًا بَعْدَ ٱلْحِصَّةِ ٱلْأَخِيرَةِ. كَانَ ذٰلِكَ فِي ٱلْمَرْجِ ٱلصَّغِيرِ خَلْفَ ٱلْمَدْرَسَةِ. تَسَلَّلْتُ إِلَى هُنَاكَ بَعْدَ أَنْ لَمْ أَجِدْ بَاوْل فِي أَيِّ مَكَانٍ آخَرَ.
تَسَلَّلْتُ بِقَلَقٍ بَيْنَ ٱلشُّجَيْرَاتِ، وَقَفَزَ قَلْبِي عِنْدَمَا رَأَيْتُ بَاوْل جَالِسًا فِي وَسَطِ ٱلْمَرْجِ، يَنْظُرُ إِلَيَّ وَيَبْتَسِمُ.
قال مُبْتَهِجًا: “كُنْتُ أَأْمَلُ طِوَالَ ٱلْوَقْتِ أَنْ تَأْتِي.”
رَكَعْتُ بِجَانِبِهِ عَلَى ٱلْعُشْبِ. سَأَلْتُ بِهُدُوءٍ: “هَلْ كُنْتَ تَعْرِفُ حَقًّا أَنَّنِي كُنْتُ أَخْتَبِئُ عِنْدَ حَاوِيَاتِ ٱلْقُمَامَةِ كُلَّ ٱسْتِرَاحَةٍ؟”
أَوْمَأَ بَاوْل بِرَأْسِهِ. “هَلْ تَحَدَّثْتِ مَعَ مَارِي؟”
هَزَزْتُ رَأْسِي هٰذِهِ ٱلْمَرَّةَ بِٱلْإِيجَابِ.
قال بَاوْل بَعْدَ صَمْتٍ قَصِيرٍ، وَهُوَ يُدَاعِبُ وَجْهِي ٱلْحَارَّ: “مَارِي تُحِبُّكِ كَثِيرًا، يَا هَانَّا.”
أَغْمَضْتُ عَيْنَيَّ، وَأَسْنَدْتُ جَبْهَتِي إِلَى جَبِينِهِ.
كَانَا يَقُولَانِ نَفْسَ ٱلْجُمْلَةِ مَرَّتَيْنِ.
“بَاوْل يُحِبُّكِ كَثِيرًا، يَا هَانَّا.”
“مَارِي تُحِبُّكِ كَثِيرًا، يَا هَانَّا.”
لَمْ أَعُدْ وَحِيدَةً. بَدَا أَنَّ هُنَاكَ مَنْ يُحِبُّنِي حَقًّا، مَنْ يَهْتَمُّ بِي، مَنْ يَرَانِي ذَاتَ قِيمَةٍ.
فِي تِلْكَ ٱللَّحْظَةِ، وَضَعَ بَاوْل ذِرَاعَيْهِ حَوْلِي. لَمْ أَفْتَحْ عَيْنَيَّ، وَلٰكِنَّ فَمِي وَجَدَ شَفَتَيْهِ، وَقَبَّلْنَا بَعْضَنَا مَرَّةً أُخْرَى. كَانَتْ قُبْلَةً مُخْتَلِفَةً عَنْ تِلْكَ ٱلَّتِي فِي ٱلصَّبَاحِ؛ فَهٰذِهِ ٱلْمَرَّةَ كَانَتْ شَفَتَا بَاوْل سَاخِنَتَيْنِ، وَبِهُمَا فَتَحَ شَفَتَيَّ. تَلَامَسَتْ أَلْسِنَتُنَا، وَٱجْتَاحَنِي شُعُورٌ غَامِرٌ بِٱلشَّهْوَةِ وَٱلِٱثَارَةِ.
ٱرْتَجَفْتُ وَأَنَا أَلْمَسُ وَجْهَ بَاوْل، وَعُنُقَهُ، وَرَقَبَتَهُ، وَشَعْرَهُ ٱلنَّاعِمَ.
هَمَسَ بَاوْل قَائِلًا: “يَا هَانَّا، أَنَا مَجْنُونٌ بِكِ.” ثُمَّ مَرَّرَ يَدَيْهِ تَحْتَ ٱلْبُلُوفَرِ ٱلْأَحْمَرِ ٱلْقَانِي ٱلَّذِي وَرِثْتُهُ مِنْ أُمِّي، يُدَاعِبُ كَتِفَيَّ، وَلَوْحَ كَتِفَيَّ، وَذِرَاعَيَّ.
“بَاوْل… بَاوْل… بَاوْل…” هَمَسْتُ وَأَنَا غَارِقَةٌ فِي حُبٍّ عَمِيقٍ جَعَلَنِي أَبْكِي بِدُونِ قُدْرَةٍ عَلَى ٱلضَّبْطِ.
قال بَاوْل، وَفَتَحْنَا أَعْيُنَنَا مَعًا: “هَانَّا.”
جَلَسْتُ وَٱلدُّمُوعُ تَغْمُرُ وَجْهِي، فَمَدَّ إِلَيَّ يَدَهُ، وَبِرَأسِ أَصَابِعِهِ ٱلْأُخْرَى مَسَحَ دُمُوعِي.
هَمَسْتُ لَهُ بِخَوْفٍ: “أَنَا خَائِفَةٌ، يَا بَاوْل… خَائِفَةٌ جِدًّا…”
وَقَفْنَا مَعًا. سَأَلَنِي بَاوْل: “مِنْ أَهْلِكِ؟”
أَوْمَأْتُ بِرَأْسِي، ثُمَّ ٱسْتَدَرْتُ وَرَكَضْتُ مُبْتَعِدَةً.
فِي ٱلْمَنْزِلِ، ٱسْتَقْبَلَتْنِي رُوزْفِيتَا. فَتَحَتْ لِي بَابَ ٱلشَّقَّةِ قَبْلَ أَنْ أُخْرِجَ ٱلْمِفْتَاحَ. وَقَفْتُ هُنَاكَ، مُرْتَدِيَةً مَلَابِسَ أُمِّي ٱلْمُلَوَّنَةَ ٱلْفَوْضَوِيَّةَ، وَشَعْرِي مُنْسَدِلٌ وَمُبَعْثَرٌ، وَفِي قَلْبِي شُعُورٌ يَصْعُبُ وَصْفُهُ. شَعَرْتُ وَكَأَنَّ فَمِي لَا يَزَالُ يَلَامِسُ شَفَتَيْ بَاوْل، وَأَحْسَسْتُ بِثِقَلِ قُبْلَةٍ لَا تُفَارِقُنِي. وَخِفْتُ أَنْ تُلَاحِظَ رُوزْفِيتَا ذٰلِكَ. نَسِيتُ عِنْدَهَا مَظْهَرِي تَمَامًا.
نَظَرَتْ إِلَيَّ رُوزْفِيتَا بِوَجْهٍ جَامِدٍ، فَفَتَحْتُ أَصَابِعِي بِحَذَرٍ لِأُغَطِّيَ شَفَتَيَّ ٱلْمُبَلَّلَتَيْنِ بِٱلْقُبْلَةِ.
“مَا هٰذِهِ ٱلتَّنَكُّرَاتُ ٱلسَّخِيفَةُ؟” سَأَلَتْنِي وَهِيَ تَجْذِبُنِي إِلَى دَاخِلِ ٱلشَّقَّةِ.
تَبِعْتُهَا بِتَوَتُّرٍ.
مَاذَا قَالَ بَاوْل هٰذَا ٱلصَّبَاحَ؟ “لَا أَعْرِفُ كَيْفَ أَقُولُ لَكِ إِنَّكِ أَجْمَلُ فَتَاةٍ فِي ٱلْمَدْرَسَةِ كُلِّهَا…”
“مِنْ أَيْنَ لَكِ هٰذِهِ ٱلْخِرَقُ ٱلْبَشِعَةُ؟” سَأَلَتْ زَوْجَةُ أَبِي بَعْدَمَا أَغْلَقَتِ ٱلْبَابَ بِإِحْكَامٍ.
صَمَتُّ، وَلَمْ أُجِبْ.
“ٱخْلَعِي مَلَابِسَكِ، يَا هَانَّا.”
هَزَزْتُ رَأْسِي رَافِضَةً.
حِينَهَا، صَفَعَتْنِي زَوْجَةُ أَبِي. كَانَتْ صَفْعَةً خَفِيفَةً، غَيْرَ مُحْكَمَةٍ، إِذْ أَدَرْتُ رَأْسِي فَوْرًا جَانِبًا بِحَرَكَةٍ دِفَاعِيَّةٍ.
صَرَخَتْ رُوزْفِيتَا فَجْأَةً: “يَا لَكِ مِنْ كَائِنٍ عَنِيدٍ وَكَاذِبٍ!”
لَمْ أَسْمَعْهَا تَصْرُخُ مِنْ قَبْلُ، وَظَلِلْتُ أُحَدِّقُ فِيهَا مُذْهُولَةً. ثُمَّ صَفَعَتْنِي مَرَّةً أُخْرَى.
وَبَدَأَتْ تَشُدُّنِي وَتُمَزِّقُنِي بِعُنْفٍ، حَتَّى تَمَزَّقَ بُلُوفَرِي ٱلْأَحْمَرُ ٱلْقَانِي بِصَوْتٍ عَالٍ.
صَرَخْتُ بِيَأْسٍ: “لَا!”
هَمَسَتْ رُوزْفِيتَا بِصَوْتٍ مُهَدِّدٍ: “هل سَيُسَامِحُكِ يَسُوعُ ؟ يَا وَحْشًا لَا دِينَ لَهُ.”
بَكَيْتُ قَائِلَةً: “لَا…” وَرَكَضْتُ إِلَى غُرْفَتِي.
سَمِعْتُ بَابَ ٱلْغُرْفَةِ يُغْلَقُ خَلْفِي بِصَوْتِ رُوزْفِيتَا، ثُمَّ أَحَاطَ ٱلظَّلَامُ بِعَيْنَيَّ.
هَلْ كَانَ هٰذَا يَسُوعَ؟ هَلْ جَاءَ لِيُحَاكِمَنِي؟ هَلْ أَنَا أَمُوتُ؟
أَمْ أُغْمِيَ عَلَيَّ فَقَطْ؟
أَمْ هِيَ تِلْكَ ٱلنَّعَاسُ ٱلْقَدِيمَةُ ٱلَّتِي كَانَتْ تَأْتِينِي كُلَّمَا ضِعْتُ وَلَا أَدْرِي مَاذَا أَفْعَلُ؟
لَمْ يَكُنْ يُهِمُّنِي شَيْءٌ فِي تِلْكَ ٱللَّحْظَةِ. تَنَهَّدْتُ بِعُمْقٍ، ثُمَّ عَمَّ ٱلسُّكُونُ.
سُكُونٌ رَائِعٌ.
عِنْدَمَا ٱسْتَفَقْتُ مِنْ جَدِيدٍ، عَمَّرَتْنِي ٱلْحِيرَةُ. كَيْفَ كُنْتُ فِي غُرْفَةِ نَوْمِ وَالِدَيَّ؟ وَلِمَاذَا كُنْتُ مُغَطَّاةً بِبِطَّانِيَّةٍ صُوفِيَّةٍ رَقِيقَةٍ، وَأَنَا أَرْتَدِي بِلُوزَتِي ٱلْبَيْضَاءَ ٱلْمُطَرَّزَةَ وَتَنُّورَتِي ٱلْقَبِيحَةَ؟ مَاذَا حَدَثَ لِبَنْطَالِ وَالِدَتِي ٱلْقُطْنِيِّ ٱلْمُلَوَّنِ؟ وَلِمَاذَا كَانَ ٱلْغُرُوبُ قَدْ نَزَلَ خَلْفَ ٱلنَّافِذَةِ؟ أَلَمْ أَكُنْ قَدْ وَصَلْتُ تَوًّا إِلَى ٱلْمَنْزِلِ؟ مَاذَا جَرَى؟
نَهَضْتُ بِسُرْعَةٍ، وَحَاوَلْتُ فَتْحَ بَابِ ٱلْغُرْفَةِ، لَكِنَّهُ كَانَ مُغْلَقًا بِإِحْكَامٍ، فَٱرْتَفَعَ فِي صَدْرِي شُعُورٌ مُفَاجِئٌ بِٱلذُّعْرِ. مَا ٱلَّذِي يَجْرِي هُنَا؟
“بَابَا!” نَادَيْتُ بِصَوْتٍ خَافِتٍ، وَطَرَقْتُ ٱلْبَابَ بِتَرَدُّدٍ، وَلٰكِنْ لَمْ يَأْتِنِي جَوَابٌ.
ٱنْتَظَرْتُ، وَأَصْبَحْتُ أَتَعَرَّقُ وَأَرْتَعِشُ فِي ٱلْوَقْتِ نَفْسِهِ. سَمِعْتُ أَصْوَاتَ خُطُوَاتٍ كَثِيرَةٍ تَتَجَوَّلُ فِي ٱلْمَنْزِلِ، وَلٰكِنْ لَمْ أَسْمَعْ كَلِمَاتٍ أَوْ أَصْوَاتَ أَطْفَالٍ. كَانَتِ ٱلْأَجْوَاءُ خَارِجَ ٱلْغُرْفَةِ غَرِيبَةً، تَسُودُهَا سَكِينَةٌ شِبْهُ مُخِيفَةٍ، سِوَى تِلْكَ ٱلْخُطُوَاتِ ٱلْمُتَكَرِّرَةِ ٱلَّتِي لَمْ تَتَوَقَّفْ. لَا بُدَّ أَنَّ عِدَّةَ أَشْخَاصٍ كَانُوا هُنَاكَ، وَلٰكِنْ مَنْ هُمْ؟ وَمَاذَا يَفْعَلُونَ؟
ثُمَّ تَوَقَّفَتِ ٱلْخُطُوَاتُ فَجْأَةً، وَسَادَ ٱلصَّمْتُ ٱلْقَاتِلُ. سَمِعْتُ هَمْسًا خَافِتًا، وَفَجْأَةً، فُتِحَ بَابُ غُرْفَةِ ٱلنَّوْمِ ٱلْمُغْلَقِ.
ٱرْتَعَشَ جَسَدِي كُلُّهُ، وَتَرَاجَعْتُ حَتَّى وَقَفْتُ عِنْدَ ٱلنَّافِذَةِ.
كان والدي وزوجةُ أبي هما مَن فتحا لي بابَ سجني.
قال والدي بصوتٍ متهدِّجٍ كأنَّه كان يبكي: “هانّا…”
سألتُه مرتجفةً: “ما الأمر؟”
ابتسمتْ “رُوزْفِيتَا” ابتسامةً هادئةً وقالت: “لقد وجدنا كلَّ شيء.”
تمتم والدي بأسى: “آه، يا هانّا…”
وقفتُ في مكاني، جامدةً كتمثال، وفي قلبي يقينٌ لا أعرف مصدره… لقد علموا.
صرختُ بحرقة: “لا! لا يجوز لكم ذلك!”
تشبَّثتُ بإطار الباب وقلتُ برجاءٍ مرتعش: “أرجوكِ، يا روزويثا… هذه الأشياء لي…” لكن صوتي خرج ضعيفًا، بالكاد يُسمَع.
جمعتُ ما تبقّى من قوتي، وتخطَّيتُ والديَّ بخطى متعثِّرة، واندفعتُ في الممرّ، متجاوزةً جدّي وجدّتي اللذين وقفا كظلالٍ من زمنٍ قديم، يرمقانني بصمتٍ كئيب، ومررتُ ب يُوخِن ، أخي “يُوخِن”، بملامحه الجامدة كالصخر، واقفًا كحارسٍ لا يُزاح، أمام باب غرفتي.
أغلقتُ الباب خلفي بعنف، والتفتُّ حولي بذُعرٍ ويأس.
في النظرة الأولى بدا كلُّ شيءٍ في موضعه؛ لا أدراجَ مفتوحة، ولا خزائنَ مقلوبة. كلُّ شيءٍ في مكانه… لكن الهواء كان مشبعًا بآثارهم.
رائحةُ البنفسج الحلوة التي تضعها جدتي، ورائحةُ العرق المتوتِّر التي أعرفها من “رُوزْفِيتَا”، وحتى عبيرُ غليون ” يُوخِن ” الذي يلازمه كظلٍّ دائم.
كم أحببتُ تلك الروائح يومًا… لكنّني الآن أكاد أختنق بها.
صعدتُ فوق سريري، أبحث عن الصندوق الكرتوني المخفي في أعماق خزانتي. كان قد اختفى.
واختفى معه دفترُ مذكّراتِ والدتي، ودفتري اليوميّ، وكوبُ المجوهراتِ الخاصّ بها.
كنتُ أتنفّس بصوتٍ خافت، ثم نظرتُ مرتجفةً تحت السرير، وقلبُـي ينكمش… الحقيبةُ التي تحوي ملابسَ أمي وصندوقَ مكياجها القديم… لم تَعُد هناك.
بل الصورةُ الوحيدةُ لأمي، الصورةُ التي خبّأتُها بعُمق، كانت قد اختفت أيضًا.
صرختُ بأعلى صوتي، حتى جفَّ حلقي من شدّة الألم: “أكرَهُكُم! أكرَهُكُم! أكرَهُكُم!”
لكن لم يُجِبني أحد. ظلَّ الصمتُ جاثمًا أمام باب غرفتي، كثيفًا كضبابٍ لا ينقشع.
وفجأةً اجتاحني الخوف. ربّما لأن ما جرى كان أقرب إلى الكابوس، وربّما لأنّني دائمًا ما أسقط بسرعةٍ في دوامة الرعب… لا أدري.
ناديْتُ بذُعرٍ: “أين أنتم جميعًا؟ بابا؟ رُوزْفِيتَا؟ أرجوكُم! أخي يُوخِن ؟ أنا خائفة… ساعدوني… لم أعد أحتمل…”
وفي النهاية، فُتح الباب.
كان ” يُوخِن ” هناك، واقفًا بهيئته القويّة، عينيه تلمعان بلطفٍ غريب، ومدَّ ذراعيه نحوي كمن يحتضن طفلةً ضائعة.
تقدّمتُ نحوه بارتجاف، لكنّي، في اللحظة الأخيرة، تراجعتُ خطوةً إلى الوراء.
قال بصوتٍ هادئٍ دافئ: “ما الأمر، أختي هانّا؟”
ثم أضاف: “جئتُ لأُنقذكِ… لأحميكِ.”
هَزَزْتُ رَأْسِي بِرِفْقٍ فِي البِدَايَةِ، ثُمَّ تَزَايَدَتِ الهَزَّةُ، وَقَبْلَ أَنْ أُدْرِكَ مَا أَفْعَلُ، كُنْتُ قَدِ انْدَفَعْتُ جَانِبَهُ وَخَرَجْتُ مُسْرِعَةً مِنَ المَنْزِلِ.
سَمِعْتُ صَوْتَ وَالِدِي المَذْعُورِ يَقُولُ: “هَانَّا…”، وَلَكِنِّي لَمْ أَتَوَقَّفْ وَلَمْ أَلْتَفِتْ، لِأَنَّنِي كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يَسْتَطِيعَ مُسَاعَدَتِي.
لَمْ يُسَاعِدْنِي حِينَ خِفْتُ مِنَ الوَحْشِ تَحْتَ سَرِيرِي، وَلَنْ يُسَاعِدَنِي الآنَ، خَاصَّةً مَعَ خَوْفِي مِنْ “رُوزْفِيتَا” وَأَخِي ” يُوخِن ” وَ”يَهْوَه” الحَبِيبِ لَدَيْهِ!
رَكَضْتُ مُبْتَعِدَةً، وَلَمْ يُلَاحِقْنِي أَحَدٌ.
لِلْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ فِي المَسَاءِ، كُنْتُ وَحْدِي أَتَجَوَّلُ. كُنْتُ مُتَصَلِّبَةً كَالعَصَا، أَتَعَثَّرُ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
أَضْفَى الغَسَقُ القَارِسُ لِفَصْلِ الخَرِيفِ ظِلَالًا مُخِيفَةً فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ. كُنْتُ أَرْتَعِشُ مِنَ البَرْدِ، وَأَخَافُ مِنْ كُلِّ إِنْسَانٍ أُلَاقِيهِ.
قَدْ حَذَّرَنَا أَخِي ” يُوخِن ” كَثِيرًا: “هُنَاكَ القَتَلَةُ، وَالمُغْتَصِبُونَ، وَالمُنْحَرِفُونَ… جَمِيعُهُمْ يَتَرَصَّدُونَ فَرِيسَتَهُمْ فِي هَذَا العَالَمِ الكَبِيرِ بَيْنَ النَّاسِ.”
كَانَتْ أَسْنَانِي تَرْقُصُ مِنَ البَرْدِ، وَكُنْتُ أَشْعُرُ بِفَرَاغٍ عَمِيقٍ فِي دَاخِلِي.
لَمْ أَكُنْ أُدْرِكُ وَجْهَتِي، وَلَكِنَّنِي مَشَيْتُ عَبْرَ نِصْفِ المَدِينَةِ، وَحِينَ دَقَّتِ السَّاعَةُ الثَّامِنَةُ مِنْ إِحْدَى الكَنَائِسِ القَرِيبَةِ، وَصَلْتُ إِلَى قَاعَةِ مَمْلَكَةِ جَمَاعَتِنَا.
فِي تِلْكَ السَّاعَةِ المُتَأَخِّرَةِ، كَانَ المَكَانُ هَادِئًا تَمَامًا.
تَسَلَّلْتُ بِهُدُوءٍ إِلَى الحَدِيقَةِ الصَّغِيرَةِ المَأْلُوفَةِ أَمَامَ البَيْتِ، وَحَاوَلْتُ أَنْ أُهَدِّئَ نَفْسِي.
كَانَ عَبَقُ الخَرِيفِ وَعُشْبُ الأَرْضِ المُبَلَّلِ يَمْلَآنِ الجَوَّ مِنْ حَوْلِي.
جَلَسْتُ بِحَذَرٍ فِي رُكْنٍ مُظْلِمٍ عِنْدَ جِدَارِ البَيْتِ الخَشِنِ، وَشَعَرْتُ بِبُرُودَةِ الأَرْضِ تَحْتَ جَسَدِي، وَلَمْ أُبَالِ بِهَا.
هَمَسْتُ بِحُزْنٍ: “يَا يَهْوَه، هَلْ تَسْمَعُنِي؟ هَلْ أَنْتَ مَوْجُودٌ؟ هَلْ تَكْرَهُنِي الآنَ؟ هَلْ سَتُدَمِّرُنِي؟ هَلْ أَنَا فَاسِدَةٌ وَخَاطِئَةٌ؟ هَلِ اسْتَعْبَدَنِي الشَّيْطَانُ؟ هَلْ مَا زَالَتْ لِي فُرْصَةٌ؟ هَلْ يُؤْلِمُ المَوْتُ؟”
لَمْ يُجِبْنِي أَحَدٌ، وَمَلَأَنِي فَرَاغٌ هَائِلٌ.
فَجْأَةً، سَمِعْتُ صَوْتَ فَتْحِ بَابِ قَاعَةِ جَمَاعَتِنَا، وَخَرَجَ ضَوْءٌ خَافِتٌ مِنَ المَدْخَلِ الصَّغِيرِ إِلَى الْخَارِجِ.
انْكَمَشْتُ مَذْعُورَةً وَأَغْمَضْتُ عَيْنَيَّ بِحَذَرٍ، ثُمَّ أَمْعَنْتُ النَّظَرَ حَوْلَ الزَّاوِيَةِ.
خَرَجَ بَعْضُ شَبَابِ جَمَاعَتِنَا مِنَ الْبَابِ.
تَسَاءَلْتُ فِي نَفْسِي: “مَاذَا يَفْعَلُونَ هُنَا؟ هَلْ كَانُوا فِي دِرَاسَةٍ لِلْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ مَعَ الْأُخْتِ بْرِيجِيت فِي وَقْتٍ مُتَأَخِّرٍ؟”
سَمِعْتُ صَوْتَ الْأُخْتِ بْرِيجِيت، زَوْجَةَ شَيْخِ جَمَاعَتِنَا تَقُولُ: “اذْهَبُوا إِلَى بُيُوتِكُمْ الآنَ، شُكْرًا لَكُمْ.”
لَوَّحَ الثَّلَاثَةُ بِيَدِهِمْ وَمَضَوْا فِي طَرِيقِهِمْ، وَكَانَتْ خُطُواتُهُمْ تَصْطَكُّ عَلَى الْحَصَى تَحْتَ أَقْدَامِهِمْ.
فَجْأَةً، قَرَّرْتُ أَنْ أَتْبَعَهُمْ لِأَتَحَدَّثَ مَعَهُمْ. تَسَلَّلْتُ خَلْفَهُمْ بِهُدُوءٍ حَتَّى تَوَقَّفُوا عِنْدَ مَحَطَّةِ الْحَافِلَاتِ.
قُلْتُ بِحَذَرٍ: “مَرْحَبًا…”، وَكَانَ صَوْتِي مَبْحُوحًا وَمُرْتَجِفًا.
كَانُوا رُوفِين، رَافَائِل، وَكَاثَارِينَا، جَمِيعُهُمْ فِي سِنِّي. ذَهَبْتُ مَعَ كَاثَارِينَا لِفَتْرَةٍ إِلَى دِرَاسَةِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، وَحَضَرْتُ مَعَ رُوفِين مَرَّةً دَوْرَةَ الْخِدْمَةِ الْوَعْظِيَّةِ.
الْتَفَتَ رُوفِين وَكَاثَارِينَا إِلَيَّ بِدَهْشَةٍ، فَقَدْ بَدَا أَنَّهُم لَمْ يُلَاحِظُونَنِي مِنْ قَبْلُ. رَفَعَ رُوفِين حَاجِبَهُ عِنْدَمَا رَآنِي، وَصَمَتَ، ثُمَّ أَلْقَى نَظْرَةً تَحْذِيرِيَّةً إِلَى الْآخَرِينَ.
أَصْبَحَ الصَّمْتُ بَيْنَهُمْ لا يُحْتَمَلُ، فَسَأَلْتُ أَخِيرًا: “مَاذَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ عِنْدَ الأُخْتِ بْرِيجِيت؟”
نَظَرَ رُوفِين إِلَيَّ بِازْدِرَاءٍ وَقَالَ بَعْدَ تَرَدُّدٍ قَصِيرٍ: “اِخْتَفِي، هَانَّا.”
صَمَتُّ، وَرَأَيْتُ كَاثَارِينَا تَحْدِقُ بِي مُمَزِّقَةً جَبِينَهَا.
كَانَ رَافَائِل هُوَ الَّذِي جَمَعَ شَجَاعَتَهُ فِي النِّهَايَةِ، وَقَالَ وهو يهُزَّ الرَّأْسِ: “يَا هَانَّا، مَا الأَمْرُ مَعَكِ؟”
هَمَسْتُ: “مَاذَا تَعْنِي؟”
قَالَ رَافَائِل بِصَوْتٍ خَافِتٍ مُحْبِطٍ: “لَقَدِ اسْتَدْعَوْنَا إِلَى قَاعَةِ الْمَلَكُوتِ بِسَبَبِكِ. حَذَّرُونَا مِنْكِ، وَقَالُوا لَنَا أَنْ نَفْتَحَ أَعْيُنَنَا.”
شَعَرْتُ بِالدُّمُوعِ تَغْمُرُ عَيْنَيَّ فَجْأَةً.
تَابَعَ رَافَائِل، بَيْنَمَا كَانَتِ الْحَافِلَةُ تَقْتَرِبُ: “هَانَّا، قَدْ يُطْرِدُونَكِ مِنَ الْجَمَاعَةِ، وَعِنْدَهَا سَتَكُونِينَ مُرْتَدَّةً، وَهذَا أَقَلُّ مِنْ قِطْعَةٍ مِنَ التُّرَابِ…”
غَمَضْتُ عَيْنَيَّ بِقُوَّةٍ، كَأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أَخْتَفِي، لِئَلَّا أَسْمَعَ كَلَامَ رَافَائِل الْمُؤْلِمَ. تَسَرَّبَتِ الدُّمُوعُ مِنْ عَيْنَيَّ بِشَكْلٍ عَشْوَائِيٍّ وَسَقَطَتْ فِي الْفَرَاغِ.
قَالَ رَافَائِل بِسُرْعَةٍ: “يَجِبُ أَنْ نَذْهَبَ الآنَ. تَذَكَّرِي، هَانَّا، مَاذَا سَيَحْدُثُ عِنْدَمَا يَأْتِي هَرْمَجِدُون!”
ثُمَّ وُجِدْتُ نَفْسِي وَحِيدَةً مَرَّةً أُخْرَى. كُنْتُ أَتَعَثَّرُ كَمَا فِي الضَّبَابِ، أَسِيرُ فِي الشَّارِعِ ذِهَابًا وَإِيَابًا، دُونَ أَنْ أَشْعُرَ.
قَابَلْتُ ثَمْلًا، وَتَجَاوَزْتُهُ بِلَا مُبَالَاةٍ.
قَالَ لِي مُتَلَعْثِمًا وَهُوَ يَلُوحُ بِإِصْبَعِهِ تَحْذِيرًا: “يَا فَتَاةً جَمِيلَةً، لا يَنْبَغِي لَكِ أَنْ تَكُونِي هَكَذَا…”
لَكِنِّي لَمْ أَتَوَقَّفْ، وَلَمْ يَتَوَقَّفْ هُوَ، فَلَمْ تَصِلْ إِلَيَّ كَلِمَاتُهُ الْمُشَوَّشَةُ.
بَدَأَ الْمَطَرُ يَهْطِلُ رَذَاذًا، وَوَاصَلْتُ السَّيْرَ بِلَا هَدَفٍ.
مَرَّتْ سَيَّارَةٌ بِجَانِبِي فَجْأَةً، فَرَمَلَّتْ بِحِدَّةٍ ثُمَّ اِنْزَلَقَتْ بِقُرْبِي.
صَاحَ شَابٌّ يَضْحَكُ: “هَيْه، يَا جَمِيلَةُ، نُوصِّلُكِ مَعَنَا؟”
وَأَطَلَّ مِنَ النَّافِذَةِ شَخْصَانِ آخَرَانِ، يَضْحَكُونَ أَيْضًا. قَالَ أَحَدُهُمْ: “تَعَالِي، ارْكَبِي مَعَنَا، سَنَأْخُذُكِ إِلَى مَكَانٍ هَادِئٍ وَ…”
غَطَّيْتُ أُذُنَيَّ لِئَلَّا أَسْمَعَ كَلِمَاتِهِمْ الْقَذِرَةَ، ثُمَّ انْطَلَقَتِ السَّيَّارَةُ وَمُحَرِّكُهَا يَزْأَرُ مُبْتَعِدَةً.
فَكَّرْتُ بِيَأْسٍ: “كَانَ الْأَخُ يُوخِن عَلَى حَقٍّ، هَذِهِ الدُّنْيَا شِرِّيرَةٌ، شِرِّيرَةٌ، شِرِّيرَةٌ…”
مَاذَا فَعَلْتُ بِنَفْسِي؟ أَصْبَحْتُ وَحِيدَةً تَمَامًا، مُعَرَّضَةً لِكُلِّ هذَا الرُّعْبِ.
حِينَئِذٍ لَمَحْتُ كَابِينَةَ هَاتِفٍ مُضَاءَةً. تَوَجَّهْتُ نَحْوَهَا بِارْتِيَاحٍ، وَقَرَّرْتُ الْاِتِّصَالَ بِمَارِي، لَعَلِّي أَجِدُ فِيهَا مَن يُنْقِذُنِي.
لَكِنَّ عِنْدَمَا أَمْسَكْتُ سَمَّاعَةَ الْهَاتِفِ، أَدْرَكْتُ أَنِّي لَا أَمْلِكُ مَالًا. فَانْهَرَتْ بِالْبُكَاءِ دَاخِلِيًّا.
فَجْأَةً، سَمِعْتُ طَرْقًا عَلَى زُجَاجِ الْكَابِينَةِ. رَفَعْتُ نَظَرِي بِذُهُولٍ، فَإِذَا بِرَجُلٍ صَغِيرٍ ضَعِيفٍ يَقِفُ مُبْتَسِمًا أَمَامِي.
سَأَلَنِي بِصَوْتٍ مَكْسُورٍ مِنَ الْأَلَمِ: “هَلْ تَحْتَاجِينَ إِلَى مُسَاعَدَةٍ؟”
هَزَزْتُ كَتِفَيَّ، ثُمَّ أَوْمَأْتُ.
هَمَسْتُ بِخَجَلٍ: “أَحْتَاجُ بَعْضَ الْمَالِ لِأَتَّصِلَ.”
كَرَّرَ الرَّجُلُ بِدَهْشَةٍ: “مَالٌ؟ لِلِاتِّصَالِ؟”
أَوْمَأْتُ مَجَدَّدًا، فَفَتَحَ مِحْفَظَتَهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَأَفْرَغَ يَدَيْهِ مِنَ الْقِطَعِ الْمَعْدِنِيَّةِ فِي كَفِّي.
ابْتَسَمَ وَقَالَ: “تَفَضَّلِي…”
أَجَبْتُهُ، مُشْدُوهَةً: “شُكْرًا.”
قَالَ مُبْتَسِمًا: “حَسَنًا، الْفَتَاةُ الْحَزِينَةُ يَجِبُ أَنْ تَضْحَكَ مَرَّةً أُخْرَى.”
وَمَشَى رَاجِعًا يُلَوِّحُ لِي، بَيْنَمَا أَلْقَيْتُ بِيَدٍ مُرْتَجِفَةٍ بَعْضَ الْقِطَعِ فِي الْهَاتِفِ، وَطَلَبْتُ مِنْ خِدْمَةِ الدَّلِيلِ رَقْمَ مَارِي.
قُلْتُ بِاللَّهْفَةِ، عِنْدَمَا رَدَّ صَوْتٌ مِنَ الطَّرَفِ الْآخَرِ: “هَلْ مَارِي مَوْجُودَةٌ؟”
لَكِنَّهَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ، بَلْ كَانَتْ فِي السِّينِمَا.
فَأَعَدْتُ الْاِتِّصَالَ بِرَقْمِ الدَّلِيلِ، وَطَلَبْتُ رَقْمَ بَاوْل هَذِهِ الْمَرَّةَ، وَقَلْبِي يَنْبُضُ بِسُرْعَةٍ.
هَمَسْتُ فِي السَّمَّاعَةِ بِسُرْعَةٍ وَقَلَقٍ: “عُذْرًا عَلَى الإِزْعَاجِ فِي هذَا الْوَقْتِ الْمُتَأَخِّرِ، لَكِنِّي أُودُّ التَّحَدُّثَ مَعَ بَاوْل…”
رَدَّتِ الْمَرْأَةُ الَّتِي رَفَعَتِ السَّمَّاعَةَ بِصَوْتٍ هَادِئٍ: “لِلْأَسَفِ بَاوْلُ غَيْرُ مَوْجُودٍ. هَذِهِ أُمُّهُ. هُوَ مَعَ أَخِيهِ فِي الْخَارِجِ. هَلِ الْأَمْرُ مُهِمٌّ؟”
أَجَبْتُ هَامِسَةً وَقَدْ تَكْسَّرَ صَوْتِي: “نَعَمْ…” ثُمَّ ابْتَلَعْتُ دُمُوعِي بِصُعُوبَةٍ.
طَمْأَنَتْنِي بِصَوْتٍ هَادِئٍ: “يُمْكِنُهُ أَنْ يُعِيدَ الِاتِّصَالَ بِكِ. هُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْعَوْدَةِ، فَالْسَّاعَةُ تَقْتَرِبُ مِنَ الْعَاشِرَةِ مَسَاءً…”
تَنَفَّسْتُ بِعُمْقٍ، وَأَجْهَشْتُ بِالْبُكَاءِ قَائِلَةً: “لَا، هَذَا مُسْتَحِيلٌ… أَنَا لَسْتُ فِي الْمَنْزِلِ أَصْلًا، أَنَا…” رَفَعْتُ رَأْسِي بِنَظْرَةٍ تَائِهَةٍ، وَأَنْظُرُ حَوْلِي بَاحِثَةً.
“أَيْنَ أَنَا بِالضَّبْطِ؟” تَمْتَمْتُ مُرْتَبِكَةً. لَقَدْ تَجَوَّلْتُ فِي الْمَدِينَةِ بِلَا اتِّجَاهٍ، بِلَا هَدَفٍ وَاضِحٍ.
بَعْدَ لَحْظَةٍ، تَرَدَّدْتُ فِي الْهَاتِفِ بِصَوْتٍ مُتَلَثِّمٍ: “أَنَا عِنْدَ الْحَلْقَةِ الشَّمَالِيَّةِ…”
كَرَّرَتْ وَالِدَةُ بَاوْلَ بِدَهْشَةٍ: “فِي الْحَلْقَةِ الشَّمَالِيَّةِ؟ مَاذَا تَفْعَلِينَ هُنَاكَ فِي هذَا الْوَقْتِ الْمُتَأَخِّرِ؟”
هَمَسْتُ بِلَا حَوْلٍ وَلَا قُوَّةٍ: “لَا أَدْرِي أَيْضًا…”
سَأَلَتْنِي وَالِدَةُ بَاوْلَ، وَصَوْتُهَا تَعْتَرِيهِ فَجْأَةً نَبْرَةُ قَلَقٍ: “كَيْفَ؟ مَا اسْمُكِ، قُلْتِ؟”
سَرِيعًا مَا وَضَعْتُ السَّمَّاعَةَ جَانِبًا.
تَحْتَ قَدَمَيَّ كَانَتِ السَّيَّارَاتُ تَتَسَابَقُ بِلَا تَوْقُفٍ.
سَيَّارَاتٌ، سَيَّارَاتٌ، سَيَّارَاتٌ. صَخَبٌ هَائِلٌ. ضَوْضَاءٌ، أَضْوَاءٌ، سُرْعَةٌ لَا تَنْتَهِي. طَرْقَةٌ، سَيَّارَةٌ. طَرْقَةٌ، سَيَّارَةٌ أُخْرَى. طَرْقَةٌ، طَرْقَةٌ، طَرْقَةٌ.
كَانَ كُلُّ شَيْءٍ يَدُورُ أَمَامَ عَيْنَيَّ، وَوَجْهِي مُبَلَّلٌ بِالْمَطَرِ. مَطَرٌ وَدُمُوعٌ، رِيحٌ وَظَلَامٌ. ضَجِيجٌ وَسَيَّارَاتٌ. بَاصٌ. شَاحِنَةٌ. وَسَيَّارَاتٌ، سَيَّارَاتٌ، سَيَّارَاتٌ.
لَمْ أَعُدْ عِنْدَ الْحَلْقَةِ الشَّمَالِيَّةِ، بَلْ كُنْتُ فِي مَكَانٍ أَفْضَلَ بِكَثِيرٍ، مَكَانٍ رَائِعٍ.
كُنْتُ عَلَى جِسْرِ الطَّرِيقِ السَّرِيعِ فَوْقَ الْحَلْقَةِ الشَّمَالِيَّةِ.
كَيْفَ لَمْ أَكُنْ أَعْلَمُ مِنْ قَبْلُ أَنَّ الْحَلْقَةَ الشَّمَالِيَّةَ تَعْلُوهَا هذَا الْجِسْرُ الْخَرْسَانِيُّ الرَّمَادِيُّ؟
كَانَ هُنَاكَ أَعْلَاهُ مِثْلَ مَنْصَّةِ مُرَاقَبَةٍ، مَنْصَّةٍ بَرِّيَّةٍ، عَاصِفَةٍ، مُبَلَّلَةٍ بِالْمَطَرِ وَالرِّيحِ.
حَدَّقْتُ إِلَى أَسْفَلَ نَحْوَ الْحَلْقَةِ الشَّمَالِيَّةِ الصَّاخِبَةِ، وَشَعَرْتُ بِخِفَّةٍ غَرِيبَةٍ، خِفَّةٍ وَانْطِلَاقٍ لَا يُفَسَّرُ.
وضَعْتُ يَدِي عَلَى الدِّرَابْزِينِ وَأَسْنَدْتُ رَأْسِي عَلَيْهِ. تَحْتَ قَدَمَيَّ كَانَتِ السَّيَّارَاتُ تَنْدَفِعُ بِسُرْعَةٍ، وَفَوْقِي كَانَ نَسِيمُ اللَّيْلِ الْبَارِدِ يَعْصِفُ.
قَطَرَاتُ الدُّمُوعِ تَسَاقَطَتْ مِنْ عَيْنَيَّ، تَنْزِلُ عَمِيقًا، عَمِيقًا إِلَى اللَّا مَكَانِ.
لَمْ أَعُدْ أُفَكِّرُ فِي شَيْءٍ، كَانَ كُلُّ مَا بَقِيَ فِي ذِهْنِي هُوَ حُلْمِي بِضِيَاءِ الْمَوْتِ الْأَبْيَضِ عَلَى الْحَلْقَةِ الشَّمَالِيَّةِ.
فَجْأَةً، لَمَسَنِي أَحَدُهُمْ، وَذِرَاعٌ دَافِئٌ احْتَضَنَ جَسَدِي الْمُتَجَمِّدَ.
الْتَفَتُّ لِأَجِدَ بَاوْلَ وَاقِفًا أَمَامِي.
قَالَ مُنْتَهِكًا أَنْفَاسَهُ: “هَانَا”، وَارْتَطَمْتُ بِهِ مِتْمَايِلًا.
وَقَفْتُ مُشَدُّودَةً، مُتَحَيِّرَةً، مُتَسَائِلَةً: “لِمَاذَا كَانَ بَاوْلُ هُنَا فَجْأَةً؟ كَيْفَ حَدَثَ ذَلِكَ؟ وَكَيْفَ وَجَدَنِي؟”
هَمَسْتُ وَاضِعَةً نَفْسِي بَيْنَ يَدَيْهِ: “بَاوْل…”
سَأَلَنِي بِقَلَقٍ: “هَلْ أَرَدْتِ… الْقَفْزَ مِنْ هُنَا يَا هَانَا؟” وَكَانَ يَحْتَضِنُنِي بِشِدَّةٍ تَكَادُ تُؤْلِمُ.
تَلَعْثَمْتُ قَائِلَةً: “لا…” ثُمَّ “نَعَم…” ثُمَّ أَخِيرًا هَمَسْتُ: “لا أَدْرِي.”
قَالَ بَاوْل: “تَعَالِي مَعِي.”
ثُمَّ غَادَرْنَا الْجِسْرَ الْعَاصِفَ مَعًا، صَامِتَيْنِ.
مَشَيْنَا… وَمَشَيْنَا… وَصَمَتْنَا… وَصَمَتْنَا.
هَمَسْتُ ذَاتَ مَرَّةٍ، حِينَ كُنَّا عَلَى وَشْكِ أَنْ نَتْرُكَ الْحَلْقَةَ الشَّمَالِيَّةَ خَلْفَنَا: “هُنَا مَاتَتْ أُمِّي.”
لَمَسَ بَاوْلُ وَجْهِي الْبَارِدَ وَالْمَبْلَلَ بِلُطْفٍ، وَقَلت:
“لا أَعْرِفُ حَتَّى أَيْنَ قَبْرُهَا.”
هَمَسْتُ مُسْتَسْلِمَةً بَعْدَ لَحَظَاتٍ: “لا أَعْلَمُ مَكَانَهُ.”
أَجَابَنِي بَاوْل وَاثِقًا: “سَنَجِدُهُ، هذَا وَعْدٌ.”
عَادَ الصَّمْتُ لِيَخِيمَ مِنْ جَدِيدٍ.
عِنْدَمَا دَخَلْنَا الْبَيْتَ الَّذِي يَعِيشُ فِيهِ بَاوْل، هَمَسْتُ: “هُمْ يُسَيْطِرُونَ عَلَى حَيَاتِي كُلِّهَا.”
رَدَّ بَاوْلُ بِصَوْتٍ خَافِتٍ: “أَنَا أَعْلَمُ.”
أَرْدَفْتُ بِحُبٍّ وَخَوْفٍ: “وَلَكِنِّي أُحِبُّهُمْ رَغْمَ ذَلِكَ، أَبِي وَزَوْجَةِ أَبِي وَأَشْقَائِي الصِّغَارِ، وَأَخَافُ أَنْ أَكُونَ بِدُونِهِمْ…”
فَجْأَةً، انْفَتَحَ بَابُ شَقَّةٍ.
قَالَ بَاوْلُ لِامْرَأَةٍ قَوِيَّةِ الْمَلَامِحِ، تَبْدُو قَلِقَةً جِدًّا، بِصَوْتٍ يَمْلَؤُهُ الِارْتِيَاحُ: “لَقَدْ وَجَدْتُهَا، أُمِّي.”
تَمْتَمَتِ الْمَرْأَةُ شَاكِرَةً: “الْحَمْدُ لِلَّهِ.” وَأَغْلَقَتِ الْبَابَ خَلْفَنَا.
ثُمَّ تَابَعَتْ وَهِيَ تَمْسَحُ رُطُوبَةَ شَعْرِي بِيَدِهَا بِلُطْفٍ: “هَلْ تُرِيدُونَ شَيْئًا دَافِئًا لِلشُّرْبِ؟”
هَزَزْتُ رَأْسِي نَافِيَةً: “لَا، أُرِيدُ فَقَطْ أَنْ أَنَامَ.”
تَوَسَّلْتُ بِهُدُوءٍ: “أَنَا مُتْعَبَةٌ جِدًّا، وَبَارِدَةٌ حَتَّى الْعَظْمِ.”
أَوْمَأَتْ وَالِدَةُ بَاوْلَ، وَأَعَدَّتْ لِي سَرِيرَ ضُيُوفٍ فِي غُرْفَةِ بَاوْلَ، وَبَيْنَ الْحِينِ وَالْآخَرِ كَانَتْ تُجْلِبُ لِي ثِيَابًا جَافَّةً وَزُجَاجَةَ مَاءٍ سَاخِنَةً.
ثُمَّ قَالَتْ بِتَرَدُّدٍ: “يَجِبُ أَنْ أَتَّصِلَ بِوَالِدَيْكِ.”
صَرَخْتُ مُذْعُورَةً: “لَا تَفْعَلِي!”
“سَيَأْتُونَ لِيَأْخُذُونِي فَوْرًا…”
رَأَيْتُ بَاوْلَ يُحَدِّثُ وَالِدَتَهُ بِهُدُوءٍ، وَبَعْدَ قَلِيلٍ أَوْمَأَ لِيُسْعِدَنِي ذَلِكَ، ثُمَّ تَرَكَنَا وَحْدَنَا وَأَغْلَقَ بَابَ الْغُرْفَةِ.
جَلَسَ بَاوْلُ عَلَى حَافَةِ سَرِيرِي وَسَأَلَنِي مُبْتَسِمًا: “هَلْ تُودِّينَ الْحَدِيثَ، يَا مَوْلُودَةَ الْيَوْمِ؟”
مَرَّرَ إِصْبَعَهُ بِرِقَّةٍ عَلَى جَبْهَتِي.
هَزَزْتُ رَأْسِي.
“هَلْ تُفَضِّلِينَ أَنْ تَبْقَيَ وَحْدَكِ لِبَعْضِ الْوَقْتِ؟”
هَزَزْتُ رَأْسِي مَرَّةً أُخْرَى، وَمَرَّتْ فِي خَاطِرِي لَحْظَةٌ خَاطِفَةٌ مِنْ تِلْكَ الْأَحْلَامِ اللَّيْلِيَّةِ الَّتِي كُنْتُ فِيهَا مَعَ بَاوْلٍ وَحْدَنَا، تَمَامًا كَمَا نَحْنُ الْآنَ.
هَمَسَ بَاوْلُ فَجْأَةً فِي أُذُنِي: “هَلْ أَسْتَلْقِي إِلَى جَانِبِكِ؟”
فَتَحْتُ عَيْنَيَّ، وَتَلَاقَيْنَا النَّظَرَ طَوِيلًا. ثُمَّ أَوْمَأْتُ بِرَأْسِي، فَزَحَفَ بَاوْلُ كَمَا هُوَ، تَحْتَ الْغِطَاءِ إِلَى جَانِبِي.
تَمْتَمْتُ: “مَا زِلْتَ مَبْلَلًا تَمَامًا.”
في تِلْكَ اللَّحْظَةِ، اِسْتَيْقَظْتُ فَجْأَةً وَشَعَرْتُ بِإرْهَاقٍ شَدِيدٍ، كَأَنَّنِي مُنْهَكَةٌ وَمُتَيَقِّظَةٌ فِي آنٍ وَاحِدٍ.
قَالَ بَاوْلُ مُعْتَذِرًا بِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ: “لَمْ تَتَحْ لِي الْفُرْصَةُ لِتَغْيِيرِ مَلَابِسِي بَعْدُ.”
شَجَّعْتُهُ وَقُلْتُ: “لَا بَأْسَ، يُمْكِنُكَ خَلْعُهَا.”
تَرَدَّدَ قَلِيلًا: “هَلْ أَنْتِ مُتَأَكِّدَةٌ؟”
أَجَبْتُ بِثِقَةٍ: “بِالتَّأْكِيدِ.”
فَهَمَسَ: “حَسَنًا.”
بَدَأَ بَاوْلُ يَخْلَعُ مَلَابِسَهُ الْمُبَلَّلَةَ بِحَذَرٍ، مُتَلَاصِقًا بِي تَحْتَ الْبِطَّانِيَّةِ الدَّافِئَةِ.
وَبَعْدَ حِينٍ، شَعَرْتُ بِدِفْءِ جِلْدِهِ الْعَارِي، ثُمَّ أَحَاطَتْنِي ذِرَاعَاهُ الْعَضَلِيَّتَانِ الدَّافِئَتَانِ بِحَنَانٍ حَوْلَ صَدْرِي الْمُرْتَجِفِ.
كُنَّا مُلْتَصِقَيْنِ كَمِلْعَقَتَيْنِ مُتَدَاخِلَتَيْنِ فِي عُلْبَةٍ صَغِيرَةٍ، كُلَّانَا يَرْتَدِي قَمِيصًا دَاخِلِيًّا وَمَلَابِسَ تَحْتِيَّةً، وَكِلَانَا مَشْدُودَا النَّفَسِ وَمُتَحَمِّسَانِ.
مَدَّ بَاوْلُ يَدَهُ لِيَمْسَحَ ذِرَاعِي وَبَطْنِي، وَامْتَدَدْتُ أَنَا بِيَدِي إِلَى ظَهْرِهِ أُدَاعِبُهُ.
قَبَّلَ بَاوْلُ عُنُقِي بِرِقَّةٍ، وَمَرَرْتُ يَدِي بَيْنَ خُصَلَاتِ شَعْرِهِ النَّاعِمَةِ.
فِي لَحْظَةٍ مَا، اسْتَدَرْتُ مُتَرَدِّدَةً وَقَبَّلْتُ عَيْنَي بَاوْلَ الْمَغْلَقَتَيْنِ.
كَانَ بَاوْلُ سَاكِنًا تَمَامًا، حِينَئِذٍ قَبَّلْتُ جَبْهَتَهُ وَحَاجِبَيْهِ بِعِنَايَةٍ، ثُمَّ أُذُنَيْهِ، وَشَفَتَيْهِ، وَرَقَبَتَهُ.
قَالَ بَاوْلُ أَخِيرًا بِصَوْتٍ خَافِتٍ: “أُحِبُّكِ يَا مُولُودَةَ عِيدِ الْمِيلَادِ.”
وَأَخَذَنِي بَيْنَ ذِرَاعَيْهِ بِقُوَّةٍ تَكَادُ تُضَاهِي مَا فَعَلَهُ فَوْقَ جِسْرِ الطَّرِيقِ السَّرِيعِ فِي النُّورْد رِينْغ، لَكِنَّ هَذِهِ الْمَرَّةَ لَمْ يُؤْلِمْنِي ذَلِكَ، بَلْ كَانَ شُعُورًا جَمِيلًا جِدًّا.
فَضَمَمْتُهُ أَيْضًا بَيْنَ ذِرَاعَيَّ، ثُمَّ غَفَوْنَا مَعًا. هَكَذَا اِنْتَهَى عِيدُ مِيلَادِي السَّادِسَ عَشَرَ.
فِي صَبَاحِ الْيَوْمِ الْتَالِي، خَرَجْنَا مِنَ الْبَيْتِ مُبَكِّرًا.
بَدَلًا مِنْ مَلَابِسِي الْمُبَلَّلَةِ الَّتِي ارْتَدَيْتُهَا أَمْسِ، لَبِسْتُ سْوِيت شِيرْتَ لِبَاوْلَ وَجِينْزًا لِأُخْتِهِ كَاتِرِينَا.
سَأَلَ بَاوْلُ بَقَلَقٍ: “لِمَاذَا أَنْتِ صَامِتَةٌ هَكَذَا هَذَا الصَّبَاحَ؟”
هَمَسْتُ: “أَنَا خَائِفَةٌ جِدًّا يَا بَاوْل.”
كَانَ الْخَوْفُ يَتَسَلَّطُ عَلَيَّ، يَكَادُ يَقْتُلُنِي، وَيَخْنُقُنِي كَوَحْشٍ مُفْتَرِسٍ.
“كَيْفَ سَتَسِيرُ الْأُمُورُ بَعْدَ الآنَ؟”
سِرْنَا فِي الطَّرِيقِ نَحْوَ الْمَدْرَسَةِ، وَكَانَتِ الشَّمْسُ سَاطِعَةً، وَأَوْرَاقُ الشَّجَرِ تَزَيَّنَتْ بِأَلْوَانٍ خَضْرَاءَ وَحَمْرَاءَ وَبُنِّيَّةٍ.
السَّمَاءُ زَرْقَاءُ دَاكِنَةٌ، كَأَنَّ الصَّيْفَ لَا يَزَالُ بَاقِيًا.
قَالَ بَاوْلُ مُحَاوِلًا أَنْ يَرْفَعَ مِنْ مَعْنَوِيَّاتِي: “كَأَنَّنَا فِي الْجَنَّةِ. وَنَحْنُ آدَمُ وَحَوَّاءُ، وَكُلُّ الْحَيَاةِ أَمَامَنَا…”
هَزَزْتُ رَأْسِي بِنِفَادِ صَبْرٍ: “لَا يَا بَاوْلُ،” خَرَجَ الصَّوْتُ مِنِّي بِعُنْفٍ، “الْجَنَّةُ سَتَأْتِي فَقَطْ بَعْدَ هَرْمَجِدُون. الرَّبُّ سَيَحْكُمُ عَلَى الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَسَيَقْضِي عَلَى الأَشْرَارِ أَوَّلًا، ثُمَّ يَنْشِئُ جَنَّةً جَدِيدَةً. وَمَن نَجَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْأَخِيرِ هُوَ فَقَطْ مَنْ سَيَنَالُ الْخَلَاصَ وَيَعِيشُ فِي الْجَنَّةِ…”
تَوَقَّفْنَا عَنْ السَّيْرِ.
سَأَلَ بَاوْلُ بِرِفْقٍ: “وَمَاذَا عَنْ هَذَا الْعَالَمِ إِذًا؟ مَاذَا عَنْ هَذِهِ الشَّمْسِ، وَهَذِهِ الْحَيَاةِ؟”
ابْتَسَمَ لِي.
أَجَبْتُ مُحْبِطَةً: “كُلُّهَا خَطَايَا.”
تَسَاءَلَ: “وَمَاذَا عَنْ حُبِّنَا، يَا هَانَا؟”
أَجَبْتُهُ: “هُوَ أَسْوَأُهَا…”
سَأَلَ: “لِمَاذَا؟”
قُلْتُ بِصَوْتٍ مُتَقَطِّعٍ: “لِأَنَّهُ… لِأَنِّي… لِأَنَّنَا… لِأَنَّ الرَّبَّ…”
سَكَتُّ.
كَسَرَ بَاوْلُ الصَّمْتَ وَقَالَ: “رُبَّمَا مُخْطِئُونَ شُهُودُ يَهُوَهَ، وَرُبَّمَا الْعَالَمُ لَيْسَ بِهَذَا السُّوءِ الَّذِي تَظُنِّينهِ، رُبَّمَا…”
غَضِبْتُ وَغَطَّيْتُ أُذُنَيَّ، لَا أُرِيدُ سَمَاعَ المَزِيدِ مِمَّا يَقُولُ.
قَالَ بَاوْلُ: “هَلْ تَعْتَقِدِينَ حَقًّا أَنَّ مَشَاعِرَنَا تُجَاهَ بَعْضِنَا خَطِيئَةٌ؟”
نَظَرْتُ إِلَيْهِ، وَأَسْقَطْتُ يَدَيَّ عَنْ أُذُنَيَّ، فَقَدْ وَصَلَتْنِي كَلِمَاتُهُ رُغْمًا عَنِّي.
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، تَوَقَّفَتْ سَيَّارَةٌ جَانِبِي. كَانَتْ سَيَّارَةَ الأَخِ يُوخِنَ، عَرَفْتُهَا عَلَى الْفَوْرِ.
قَبْلَ أَنْ أَتَمَكَّنَ مِنَ النُّطْقِ، نَزَلَ الأَخُّ يُوخِنُ مِنَ السَّيَّارَةِ وَأَمْسَكَ بِذِرَاعِي.
قال لي بلهجةٍ صارمةٍ: “تعالي معنا. كُنَّا قَلِقِينَ عَلَيْكِ، يا فَتَاةً ! يالك من غَبِيَّة.”
صَرَخَ بَاوْلُ بِدَهْشَةٍ: “هَانَا، انْتَظِرِي…”
لكنَّ الْأَوَانَ قَدْ فَاتَ. جَلَسْتُ فِي السَّيَّارَةِ، مَمْسُوكَةً مِنْ قِبَلِ وَالِدِ رُوزْوِيثَا، وَشَغَّلَ الأَخُّ يُوخِنُ الْمُحَرِّكَ.
حَتَّى نِهَايَةِ الْأُسْبُوعِ، تَغَيَّبْتُ عَنِ الْمَدْرَسَةِ. كَانَتْ رُوزْفِيتَا تُرَاقِبُنِي فِي غُرْفَتِي. كَانَ الأَخُّ يُوخِنُ يُثْقِلُ عَلَيَّ بِالْكَلاَمِ، وَأُخْتِي فَالْبِرْغَا تُعَاوِدُ فَحْصَ بَطْنِي.
كَانَ وَالِدِي شَاحِبًا، صَامِتًا، مُنكَسِرَ الْقَلْبِ. لَمْ يُسْمَحْ لِإِخْوَتِي الصِّغَارِ بِالدُّخُولِ إِلَى غُرْفَتِي. فَسَّرَتْ رُوزْفِيتَا لَهُمْ أَنِّي “مَمْسُوسَةٌ مِنْ شَيْطَانٍ شِرِّيرٍ”، وَصَفَعَتْ بِنْيَامِين صَفَعَاتٍ مُدَوِيَّةً لِأَنَّهُ اسْتَمَرَّ فِي طَلَبِ رُؤْيَتِي.
جَدَّتِي جَرَّتْ شَعْرِي بِعُنْفٍ، وَأَلْقَى جَدِّي خِطَابًا مُرْتَجَلًا فِي الْجَمْعِيَّةِ تَحَدَّثَ فِيهِ عَنْ “كُلِّ زَلَّاتِي وَأَخْطَائِي”.
كَانَ عَلَيَّ أَنْ أَقِفَ طُولَ الْخِطَابِ جَانِبَهُ. شَعَرْتُ بِضَعْفٍ وَمَرَضٍ شَدِيدَيْنِ، حَتَّى اسْتَغْرَقَ الأَمْرُ مِنِّي وَقْتًا لِأَتَمَكَّنَ مِنَ الانْفِصَالِ عَنْ جَسَدِي، فَأَصْبَحْتُ بِإِمْكَانِي التَّحَلُّقِ فِي الْهَوَاءِ غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ كمَن لَا يُمْكِنُ لَمْسُهَا.
وَفِي النِّهَايَةِ، نَجَحْتُ… وَإِذْ بِي أَسْبَحُ فِي هُدُوءٍ رَائِقٍ، فَوْقَ وَسَادَةٍ نَاعِمَةٍ مِنَ الْهَوَاءِ، مُرِيحَةٍ وَمُسَلِّيَةٍ، كَأَنَّهَا ذِرَاعَانِ خَفِيَّتَانِ تَحْمِلَانِي إِلَى بُعْدٍ آخَرَ.
صَاحَ جَدِّي بِغَضَبٍ هَائِجٍ، كَزَئِيرِ دَبُّورٍ جُرِحَ:
“إِنَّهَا غَيْرُ مُتَأَثِّرَةٍ إِطْلَاقًا!”
وَهَسَّتْ رُوزْوِيثَا بِصَوْتٍ كَظِلِّ إِبْرِيقٍ فِي الْمَطَرِ:
“إِنَّهَا لَا تَسْتَجْدِي الْمَغْفِرَةَ، لِأَنَّهَا تَرَكَتنَا فِعْلًا.”
وَقَالَتِ الْأُخْتُ بْرِيجِيتْ بِبُرُودٍ يُشْبِهُ زُجَاجًا مُغْبَّرًا:
“هِيَ لَا تُبْصِرُ قَلَقَنَا، فَخَلْقَتُهَا فَاسِدَةٌ حَتَّى الْعَظْمِ.”
ثُمَّ هَزَّتْ ذِرَاعَيَّ وَقَالَتْ بِلَجَاجَةٍ مُلِحَّةٍ:
“هَانَا، قُولِي شَيْئًا!”
وَلَكِنْ… كُنْتُ هُنَاكَ، عَالِقَةً فِي الْهَوَاءِ، بِلَا ظِلٍّ، وَلَا جَسَدٍ يُمْسَكُ، فَكَيْفَ يُرْتَجَى مِنْ شَبَحٍ أَنْ يُجِيبَ؟
“إِنَّهَا مُتَمَرِّدَةٌ… وَسَيَكُونُ لِذٰلِكَ عَوَاقِبُ وَخِيمَةٌ عَلَيْهَا.”
ذٰلِكَ كَانَ آخِرَ مَا نَطَقَ بِهِ جَدِّي، بِنَبْرَةٍ حَاسِمَةٍ، فِي تِلْكَ الْجَمْعِيَّةِ الْكَئِيبَةِ.
ثُمَّ اقْتَادُونِي، بِدُونِ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، إِلَى لَجْنَةِ الشُّؤُونِ الْقَانُونِيَّةِ،
حَيْثُ تُعْقَدُ الْجَلَسَاتُ فِي غُرْفَةٍ مَكْتَبِيَّةٍ ضَيِّقَةٍ، تَقَعُ فَوْقَ مَا يُسَمَّى بِقَاعَةِ الْمَلَكُوتِ.
وقفتُ هناك، مذهولةً، مرهقةً،
أحدّق في وجوه الشيوخ الجالسين، أعضاء اللجنة جميعًا،
كأنّني في مشهدٍ معلّقٍ بين يقظةٍ وكابوس،
أحاول عبثًا أن أستوعب ما يدور من حولي،
وكلّ ما فيّ يهمس: ما الذي فعلتُه، وما الذي ينتظرني؟
“هَلْ تَكْذِبِينَ؟”
“هَلْ تَهْرُبِينَ؟”
“هَلْ تَتَسَكَّعِينَ؟”
“هَلْ تَقْضِينَ اللَّيْلَ بَعِيدًا عَنِ الْمَنْزِلِ؟”
“هَلْ تَنَامِينَ مَعَ فَتًى مِنْ صَفِّكِ؟”
اِرْتَجَفَتْ سَاقَايَ، وَتَوَقَفَ نَفَسِي لِبُرْهَةٍ. كُنْتُ أَشْتَهِي مَقْعَدًا أَجْلِسُ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا، عَلَى الْأَقَلِّ لَيْسَ لِي.
كَانُوا هُمْ – الأَخُ يُوخِن، وَجَدِّي، وَالأَخُ رُولَانْد – يَجْلِسُونَ فِي كَرَاسِيِّهِمُ الْمُرِيحَةِ، يُحْدِقُونَ فِيَّ بِنَظَرَاتٍ خَالِيَةٍ مِنْ الرَّحْمَةِ.
سَأَلَنِي الأَخُ رُولَانْد، وَفِي صَوْتِهِ شَيْءٌ مِنَ التَّوَتُّرِ وَالْحُمَّى:
“هَلْ قَضَيْتِ اللَّيْلَةَ مَعَ هَذَا… بَاوْل كَايْزَر؟”
كَانَ رُولَانْد رَجُلًا طَوِيلًا، نَحِيفًا، يَنْبُضُ كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ بِالضِّيقِ وَنَفَادِ الصَّبْرِ.
شَعْرُهُ، الرَّمَادِيُّ الْمَائِلُ إِلَى السَّوَادِ، يَبْدُو دَائِمًا كَأَنَّهُ يَرْفُضُ أَنْ يُمَشَّطَ، وَعَيْنَاهُ تَقْلَقَانِ كَطَيْرٍ مَحْبُوسٍ.
لَمْ يَكُنْ يَقْدِرُ عَلَى الْجُلُوسِ طَوِيلًا؛ يَتَمَلْمَلُ، يَنْهَضُ، يَتَجَوَّلُ فِي الْغُرْفَةِ ذَهَابًا وَإِيَابًا، وَفِي أَحْيَانٍ أُخْرَى… كَانَ يَدُوسُنِي وَيَصْفِعُنِي.
صَاحَ فِيَّ وَهُوَ يَنْقُرُ بِإِصْبَعِهِ عَلَى صُدْغِي:
“أَجِيبِي، يَا فَتَاةُ!”
هَمَسْتُ، وَصَوْتِي أَقْرَبُ إِلَى الْخَوْرِ مِنَ الْكَلاَمِ:
“نَعَمْ.”
قَالَ الأَخُ يُوخِن بِبُرُودٍ وَهُوَ يُحْدِقُ فِيَّ:
“لَمْ يَحْدُثِ اتِّصَالٌ جِنْسِيٌّ، وَلَكِنَّ هٰذَا قَدْ لَا يَكُونُ مُهِمًّا…”
صَمَتُّ، وَغَمَرَتْنِي مَوْجَةٌ حَادَّةٌ مِنَ الْغَثَيَانِ، كَأَنَّمَا جَسَدِي يُصَابُ بِدُوَارٍ خَفِيٍّ.
سَأَلَنِي جَدِّي بِامْتِعَاضٍ:
“مَاذَا فَعَلْتُمَا؟”
لَمْ أُجِبْ. بَقِيتُ صَامِتَةً، وَكَأَنَّ الصَّمْتَ أَوْسَعُ مِنْ أَيِّ جَوَابٍ.
قَالَ بِنَبْرَةٍ ثَابِتَةٍ:
“هَانَا، الآنَ السَّاعَةُ الْخَامِسَةُ مَسَاءً، أَمَامَنَا وَقْتٌ طَوِيلٌ. نَنْتَظِرُ مِنْكِ اعْتِرَافًا صَادِقًا، وَسَتَعْتَرِفِينَ.”
سَادَ صَمْتٌ طَوِيلٌ، ثَقِيلٌ، كَأَنَّهُ يَتَسَرَّبُ إِلَى الْعِظَامِ. تَشَدَّدَتْ سَاقَايَ، وَبَدَأَ الأَلَمُ يَدُبُّ فِيهِمَا.
قَالَ الأَخُ يُوخِن أَخِيرًا:
“السَّاعَةُ الآنَ الْخَامِسَةُ وَالنِّصْفُ، أَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ حَانَ وَقْتُ الْبِدَايَةِ.”
عَادَ الأَخُ رُولَانْد يُجَوِّلُ نَظَرَهُ، ثُمَّ خَطَا نَحْوِي، وَدَفَعَنِي فِي ظَهْرِي، ثُمَّ أَمْسَكَنِي بِيَدِهِ الْبَارِدَةِ الْمُتَجَعِّدَةِ مِنْ عُنُقِي.
تَمْتَمْتُ بِهُدُوءٍ:
“أَحْتَاجُ أَنْ أَجْلِسَ.”
وَهَمَسْتُ، وَصَوْتِي مَبْحُوحٌ كَأَنَّهُ آتٍ مِنْ بُعْدٍ:
“لَا أَعْرِفُ مَاذَا أَقُولُ.”
أَصَرَّ وَالِدُ رُوزْفيثَا:
“أَنْتِ سَتَتَكَلَّمِينَ أَوَّلًا.”
ثُمَّ سَأَلَنِي، وَفِي عَيْنَيْهِ بَرْقُ اتِّهَامٍ:
“هَلْ لَمَسْتُمْ بَعْضَكُمْ؟ هَلْ فَعَلْتُمْ أَشْيَاءَ غَيْرَ لَائِقَةٍ؟”
أَوْمَأْتُ بِرَأْسِي، كَأَنَّهُ الْجَوَابُ الْوَحِيدُ الَّذِي يَجِدُ طَرِيقَهُ إِلَيَّ.
صَاحَ الأَخُ يُوخِن بِحِدَّةٍ:
“أَجِيبِي!”
فَهَمَسْتُ:
“نَعَمْ.”
وَفَجْأَةً، صَاحَ الأَخُ رُولَانْد، وَصَفَعَنِي عَلَى وَجْهِي:
“هٰذَا غَيْرُ كَافٍ! نُرِيدُ سَمَاعَ التَّفَاصِيلِ، عَلَيْكِ أَنْ تَرْوِيَهَا…”
تَمْتَمْتُ، وَعَيْنَايَ تُحَاوِلَانِ الْفِرَارَ:
“لَا أَسْتَطِيعُ.”
قَالَ شَيْخُ الْجَمْعِيَّةِ بِنَبْرَةٍ حَازِمَةٍ:
“لَا مَفَرَّ مِنْ ذٰلِكَ.”
وَبِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ يَتَسَرَّبُ مِنِّي مَعَ التَّعَبِ، هَمَسْتُ:
“لَقَدْ… لَقَدْ قَبَّلْتُ بَاوْلَ، وَلَكِنْ…”
اِنْقَطَعَ كَلَامِي، لِأَنَّ الْأَلَمَ فَاقَ طَاقَتِي،
لَمْ يَكُنْ فِي سَاقَيَّ الْمُرْهَقَتَيْنِ فَقَط، بَلْ فِي رَأْسِي، وَعَيْنَيَّ، وَبَطْنِي.
كَانَ عُنُقِي يَنْشَدُّ، وَيَدَايَ تَرْتَجِفَانِ، وَأَصَابِعِي بَارِدَةً، خَامِلَةً كَأَنَّهَا لَا تَنْتَمِي إِلَيَّ.
فَجْأَةً، صَرَخْتُ، وَانْفَجَرَ صَوْتِي بِغَضَبٍ مُرٍّ:
“لَمْ أَعُدْ أَسْتَطِيعُ!”
“اتْرُكُونِي وَشَأْنِي! هٰذِهِ حَيَاتِي! لَيْسَ لَكُمْ الْحَقُّ فِي التَّحَكُّمِ بِهَا! أَكْرَهُكُمْ!”
ثُمَّ شَدَدْتُ كُلَّ عَضَلَةٍ فِي جَسَدِي الْمُتَأَلِّمِ، وَاِنْطَلَقْتُ، كَسَهْمٍ فَارٍّ، مِنَ الْغُرْفَةِ الْمُظْلِمَةِ إِلَى الْخَارِجِ.
نَجَحْتُ فِي الْهُرُوبِ. رَكَضْتُ وَرَكَضْتُ، كَأَنَّنِي أُطَارِدُ نَفْسِي، حَتَّى تَيَقَّنْتُ أَنَّهُمْ لَمْ يَعُودُوا يُلَاحِقُونَنِي.
ثُمَّ تَوَجَّهْتُ إِلَى بَاوْلَ.
وَعِنْدَمَا أَحَاطَنِي بِيَدَيْهِ، هَمَسَ وَهُوَ يَضُمُّنِي:
“لَمْ نَرَ بَعْضَنَا مُنْذُ أُسْبُوعٍ.”
ثُمَّ أَضَافَ بِحُزْنٍ يَخْتَلِطُ بِالْوَجْدِ:
“كُنْتُ أَتَّصِلُ بِكُمْ بِاسْتِمْرَارٍ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَقْطَعُونَ الْخَطَّ فَوْرَ سَمَاعِ صَوْتِي. مَارِي حَاوَلَتْ أَيْضًا مِرَارًا، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ كَانَ نَفْسَهُ مَعَهَا.”
وَبِصَوْتٍ مُرْتَعِشٍ، أَقْرَبَ إِلَى التَّوَسُّلِ، هَمَسْتُ:
“أَرْجُوكَ، قَبِّلْنِي يَا بَاوْلُ…”
وَفِي خَاطِرِي تَرَنَّحَتْ رَجْفَةٌ، كَيْفَ كُنْتُ أُحَاوِلُ أَمَامَ الشُّيُوخِ أَنْ أَصِفَ قُبَلَاتِنَا الرَّقِيقَةَ، الْمُمْتَلِئَةَ بِالْوَلَهِ وَالشَّغَفِ، وَكَيْفَ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ فِيهَا حَيًّا وَحَقِيقِيًّا، بَعِيدًا عَنْ أَنْيَابِ الْحُكْمِ.
أَوْمَأَ بَاوْلُ، وَوَضَعَ شَفَتَيْهِ الدَّافِئَتَيْنِ، الْجَافَّتَيْنِ، بِلُطْفٍ عَلَى شَفَتَيَّ.
اِرْتَجَفْتُ، وَبَكَيْتُ، وَتَمَسَّكْتُ بِهِ، وَفَتَحْتُ شَفَتَيَّ لِشَفَتَيْهِ، فَتَبَادَلْنَا الْقُبَلَ طَوِيلًا، بِعُنْفٍ وَشَغَفٍ.
وَمَعَ ذٰلِكَ، كَانَتِ الْقُبَلُ نَاقِصَةً، غَيْرَ مُوَفَّقَةٍ، لِأَنَّ دُمُوعِي لَمْ تَكُفَّ. كُنْتُ أَبْكِي، وَأَبْكِي، وَلَا أَزَالُ أَبْكِي.
هَمَسْتُ أَخِيرًا:
“وَكَيْفَ سَيَكُونُ الْأَمْرُ بَعْدَ ذٰلِكَ؟”
فَأَجَابَ بَاوْلُ، وَهُوَ يَضَعُ يَدَهُ فِي يَدِي:
“أُرِيدُ أَوَّلًا أَنْ أُرِيَكِ شَيْئًا.”
ثُمَّ سَحَبَنِي خَارِجَ الْغُرْفَةِ.
سَأَلْتُهُ بِحَيْرَةٍ:
“إِلَى أَيْنَ نَحْنُ ذَاهِبَانِ؟”
فَقَالَ بَاوْلُ:
“سَتَرَيْنَ ذٰلِكَ قَرِيبًا.”
رَكِبْنَا التِّرَامَ، وَقَطَعْنَا عِدَّةَ مَحَطَّاتٍ فِي الْمَدِينَةِ.
وَعِنْدَمَا أَدْرَكْتُ إِلَى أَيْنَ يَقُودُنَا بَاوْلُ، سَأَلْتُهُ بِذُعْرٍ:
“إِلَى الْمَقْبَرَةِ؟”
وَخَفَقَ قَلْبِي بِشِدَّةٍ.
أَوْمَأَ بَاوْلُ بِهُدُوءٍ:
“إِلَى قَبْرِ وَالِدَتِكِ.”
قُلْتُ لَهُ بِدَهْشَةٍ:
“أَتَعْرِفُ مَكَانَهُ؟”
فَأَجَابَ:
“بِالطَّبْعِ.”
قُلْتُ لَهُ مُتَحَيِّرَةً:
“وَلٰكِنَّكَ لَا تَعْرِفُ حَتَّى اسْمَ عَائِلَتِهَا!”
فَاحْتَضَنَنِي بَاوْلُ، وَدَخَلْنَا مَعًا مِنَ الْبَوَّابَةِ الْكَبِيرَةِ لِلْمَقْبَرَةِ. وَقَالَ لِي بِهُدُوءٍ:
“اِطَّلَعْتُ لِلتَّوِّ عَلَى جَمِيعِ الْقُبُورِ. أَنْتِ قُلْتِ لِي إِنَّ اسْمَهَا الأَوَّلَ سُوزَانَا، وَأَنَّهَا تُوُفِّيَتْ فِي سِبْتَمْبَرَ قَبْلَ عَشْرِ سَنَوَاتٍ…”
تَوَقَّفْتُ فَجْأَةً، وَقَالَتْ عَيْنَايَ وَحْدَهُمَا:
“هَلْ بَحَثْتَ عَنْ قَبْرِهَا فِي كُلِّ هٰذِهِ الْمَقْبَرَةِ؟”
فَأَوْمَأَ بَاوْلُ:
“سَاعَدَتْنِي وَالِدَتِي وَإِخْوَتِي فِي ذٰلِكَ.”
وَضَغَطَ عَلَى يَدِي بِرِقَّةٍ، ثُمَّ قَالَ:
“هَيَّا، عَلَيْنَا أَنْ نَسِيرَ فِي هٰذَا الِاتِّجَاهِ…”
وَبَعْدَ دَقَائِقَ، كُنَّا قَدْ وَصَلْنَا إِلَى هُنَاكَ.
كَانَ الْحَجَرُ الْأَبْيَضُ يَحْمِلُ نَقْشًا وَاضِحًا:
“سُوزَانَا مَايْنْشِن — سَنَفْتَقِدُكِ. 1951 – 1976”.
هَمَسْتُ وَالدُّمُوعُ تَنْهَمِرُ عَلَى خَدِّي:
“كَانَ يُفْتَرَضُ أَنْ تَكُونَ الْيَوْمَ فِي الْخَامِسَةِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ عُمْرِهَا.”
وَقَفْنَا طَوِيلًا، يَدًا بِيَدٍ، أَمَامَ قَبْرِ وَالِدَتِي، وَكَانَ الصَّمْتُ يُغَلِّفُ الْمَكَانَ،
إِلَّا مِنْ صَوْتِ أَنِينِي الْخَافِتِ الَّذِي كَانَ يَتَسَلَّلُ فِي الْهَوَاءِ كَهَمْسَةِ نَدَمٍ.
وَلِبِضْعَةِ أَيَّامٍ، مَكَثْتُ عِنْدَ بَاوْلَ، فِي عَالَمٍ صَغِيرٍ نَسَجْنَاهُ لَنَا بَعِيدًا عَنِ الْكُلِّ.
وَلَكِنْ، فِي أَحَدِ الْأَيَّامِ، وَأَثْنَاءَ وُجُودِنَا فِي الْمَدْرَسَةِ،
فُوجِئَتْ وَالِدَةُ بَاوْلَ بِزِيَارَةٍ مُفَاجِئَةٍ، جَاءَ فِيهَا الأَخُ يُوخِن وَجَدِّي…
ظَلَّا هُنَاكَ طَوَالَ الصَّبَاحِ، وَضَغَطَا عَلَيْهَا بِشِدَّةٍ، حَتَّى وَعَدَتْ وَالِدَةُ بَاوْلَ بِإِعَادَتِي إِلَى الْبَيْتِ.
وَفِي وَقْتِ الْغَدَاءِ، قَالَتْ وَالِدَةُ بَاوْلَ بِنَبْرَةٍ يَغْشَاهَا الْأَسَى:
“قَالَا إِنَّهُمَا قَدْ يُقَدِّمَانِ بَلَاغًا ضِدِّي، وَأَشَارَا إِلَى إِمْكَانِيَّةِ إِشْرَاكِ دَائِرَةِ شُؤُونِ الأَحْدَاثِ، لِأَنَّنِي أَسْمَحُ لَكُمَا بِالنَّوْمِ مَعًا فِي غُرْفَةِ بَاوْلَ…”
فَاحْتَدَّتْ كَاتِرِينَا، الأُخْتُ الْكُبْرَى لِبَاوْلَ، وَقَالَتْ بِغَضَبٍ:
“هٰذَا كَلَامٌ فَارِغ! بَاوْلُ وَهَانَا لَمْ يَرْتَكِبَا أَيَّ شَيْءٍ مَمْنُوعٍ. هٰؤُلَاءِ يُرِيدُونَ فَقَطْ أَنْ يُمَارِسُوا الضَّغْطَ عَلَيْكِ…”
وَتَمْتَمَ بَاوْلُ بِغَيْظٍ:
“وَيَبْدُو أَنَّهُمْ نَجَحُوا فِي ذٰلِكَ بِشَكْلٍ مُمْتَازٍ.”
عَضَّتْ وَالِدَتُهُ شَفَتَهَا السُّفْلَى بِتَوَتُّرٍ، ثُمَّ قَالَتْ:
“قَالُوا إِنَّنِي أُخَاطِرُ كَثِيرًا. لَوْ حَمَلَتْ هَانَا، فَسَوْفَ يُحَمِّلُونَنِي الْمَسْؤُولِيَّةَ، وَ…”
وَقَاطَعَهَا بَاوْلُ بِنَفَادِ صَبْرٍ:
“أَيُّ هُرَاءٍ هٰذَا!”
فَقَالَتْ وَالِدَتُهُ:
“قَالُوا إِنَّهُمْ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَجْعَلُوا فِيُونَا تُؤْخَذُ مِنِّي.”
كَانَتْ فِيُونَا، شَقِيقَةَ بَاوْلَ الصَّغِيرَةَ، تَبْلُغُ مِنَ الْعُمْرِ خَمْسَ سَنَوَاتٍ.
فَسَأَلْتُ، وَالْقَلَقُ يَتَسَلَّلُ إِلَى نَبْضِي:
“هَلْ يَعْنِي ذٰلِكَ أَنَّنِي لَا أَسْتَطِيعُ الْبَقَاءَ هُنَا؟”
فَأَجَابَتْ أُمُّ بَاوْلَ بِصَوْتٍ خَافِتٍ:
“لَا مَفَرَّ مِنْ ذٰلِكَ، يَا هَانَا.”
وَخَيَّمَ الصَّمْتُ عَلَى الْمَائِدَةِ.
ثُمَّ سَأَلَتْ كَاتِرِينَا فِي النِّهَايَةِ:
“وَلٰكِنْ… إِلَى أَيْنَ تَذْهَبِينَ إِذَنْ؟ أَنْتِ أَخْبَرْتِنَا كَيْفَ كُنْتِ تُضْرَبِينَ وَتُرَاقَبِينَ فِي بَيْتِكُمْ.”
فَصَمَتُّ مُجَدَّدًا، وَشَعَرْتُ بِتَعَبٍ يَفُوقُ وَصْفَ اللُّغَةِ، كَأَنَّمَا الْعَالَمُ كُلَّهُ يُسْنِدُ ثِقْلَهُ عَلَى كَتِفَيَّ.
أَخْفَوْنِي طِوَالَ أُسْبُوعٍ كَامِلٍ.
قَضَيْتُ لَيْلَتَيْنِ عِنْدَ مَارِي، فِي غُرْفَةِ أَخِيهَا الْأَكْبَرِ الَّذِي كَانَ فِي سَفَرٍ لِبَعْضِ الْأَيَّامِ، وَلَمْ يَكْتَشِفْ أَحَدٌ أَمْرِي.
وَلِمُدَّةِ يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ، بَقِيتُ فِي بَيْتِ “آنِّه”.
ثُمَّ نِمْتُ فِي بُسْتَانِ وَالِدَي “سُوزَانَا”، وَقَضَيْتُ يَوْمًا آخَرَ عِنْدَ “سَابْرِينَا”.
بِالطَّبْعِ، لَمْ أَذْهَبْ إِلَى الْمَدْرَسَةِ طِوَالَ تِلْكَ الْفَتْرَةِ.
قَالَتْ لِي “مَارِي”، وَقَدْ تَغَضَّنَ جَبِينُهَا بِقَلَقٍ:
“هُمْ يَقِفُونَ أَمَامَ بَابِ الْمَدْرَسَةِ كُلَّ يَوْمٍ. أُمُّكِ وَجَدَّتُكِ، وَمَرَّةً وَاحِدَةً ذَاكَ الْغُولْيَاثُ الْغَرِيبُ، الضَّخْمُ، ذُو الْعُيُونِ الْحَادَّةِ… كَانَ يُدَخِّنُ غَلْيُونَهُ بِلَا تَوَقُّفٍ.”
سَأَلْتُهَا وَالْقَلَقُ يَخْتَلِطُ فِي نَبْرَتِي:
“وَمَاذَا يَفْعَلُونَ هُنَاكَ؟”
فَكَّرَ “بَاوْلْ” قَلِيلًا، ثُمَّ قَالَ مُتَرَدِّدًا:
“فِي الْحَقِيقَةِ… لَا يَفْعَلُونَ شَيْئًا. يُرَاقِبُونَكِ، وَيُحَاوِلُونَ أَلَّا يَلْفِتُوا الْأَنْظَارَ.”
دَفَعَتْ “مَارِي” “بَاوْلْ” بِلُطْفٍ، ثُمَّ قَالَتْ بِجِدِّيَّةٍ:
“أَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تُخْبِرَ هَانَا بِمَا يَجْرِي.”
اِسْتَفْسَرْتُ وَالخَوْفُ يَنْخُرُ صَوْتِي:
“مَاذَا تَقْصِدُ؟”
أَغْمَضَ “بَاوْلْ” عَيْنَيْهِ، وَقَالَ بِسُرْعَةٍ:
“لَا شَيْءَ جَدِّيٌّ.”
قَالَتْ “مَارِي” بِحُزْنٍ خَفِيٍّ:
“حَسَنًا، أَبُو زَوْجَةِ وَالِدَتِكِ أَمْسَكَ بِـ’بَاوْلْ’ صَبَاحَ أَمْسِ، وَهَدَّدَهُ… وَضَرَبَهُ أَيْضًا…”
فَقَاطَعَهَا “بَاوْلْ” مُسْرِعًا، وَفِي صَوْتِهِ مَسْحَةُ تَهَوِّنٍ:
“أُوه، لَمْ تَكُنْ سِوَى دَفْعَةٍ صَغِيرَةٍ، لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ دِرَامِيًّا.”
تَنَهَّدْتُ، وَفِي نَفْسِي مَزِيجٌ مِنَ الذَّنْبِ وَالإِرْهَاقِ وَالْحَيْرَةِ، ثُمَّ قُلْتُ:
“أُفَضِّلُ أَنْ أَسْتَسْلِمَ.”
فَرَدَّ “بَاوْلْ” وَ”مَارِي” فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، بِنَبْرَةٍ قَاطِعَةٍ:
“هَذَا هُرَاءٌ!”
ثُمَّ لَفَّ “بَاوْلْ” ذِرَاعَيْهِ بِلُطْفٍ حَوْلِي.
قُلْتُ بِحُزْنٍ خَافِتٍ:
“بَاوْلْ، أَظُنُّ أَنَّنِي لَمْ أَعُدْ أَسْتَطِيعُ.”
فَطَمْأَنَنِي، وَقَبَّلَ كُلَّ وَجْهِي وَهُوَ يَهْمِسُ:
“سَنَتَمَكَّنُ مِنْ تَجَاوُزِ الْأَمْرِ.”
“وَلَكِنَّنَا مَا زِلْنَا نَجْهَلُ كَيْفَ. لَا يُمْكِنُنِي الْاِخْتِبَاءُ إِلَى الْأَبَدِ.”
وَفِي بَيْتِ الْحَدِيقَةِ عِنْدَ وَالِدَي “سَابْرِينَا”، سَأَلَتْنِي:
“مَاذَا لَوْ عُدْتِ؟”
فَهَزَزْتُ كَتِفَيَّ وَقُلْتُ:
“طَبْعًا، يَجِبُ أَنْ أَعْتَذِرَ… لِلْجَمِيعِ. لِأَهْلِي، وَلِلشُّيُوخِ، وَلِلْجَمْعِيَّةِ…”
فَقَاطَعَتْنِي “مَارِي” بِغَضَبٍ يَخْتَلِطُ بِالْخَوْفِ:
“ثُمَّ سَيَحْبِسُونَكِ، وَيَضْرِبُونَكِ، وَيُرَاقِبُونَكِ، وَيُقَرِّرُونَ حَيَاتَكِ مِنْ جَدِيدٍ، أَلَيْسَ كَذَلِكِ؟”
فَهَزَزْتُ رَأْسِي، وَقُلْتُ بِصَوْتٍ خَافِتٍ:
“لَا… عَلَى الْأَرْجَحِ سَيُعْطُونَنِي فُرْصَةً أُخْرَى. لَدَيْهِمْ طُرُقُهُمْ لِيَتَحَقَّقُوا إِذَا كَانَ الشَّخْصُ جَادًّا فِي اعْتِرَافِهِ بِالذَّنْبِ. يُسَمُّونَهَا… يُسَمِّيهَا…”
فَتَسَاءَلَتْ “سَابْرِينَا” بِحَيْرَةٍ:
“يُسَمِّيهَا مَاذَا؟”
فَأَجَبْتُ:
“شُهُودٌ تَمَّ اسْتِبْعَادُهُمْ، يُمْكِنُهُمْ طَلَبُ الْعَوْدَةِ إِلَى الْجَمَاعَةِ. فَإِذَا وَافَقَ الشُّيُوخُ، يُسْمَحُ لَهُمْ بِحُضُورِ الِاجْتِمَاعَاتِ… لَكِنْ تَحْتَ شُرُوطٍ.”
سَأَلَتْ “مَارِي” بَارْتِيَابٍ: “مَا هِيَ الشُّرُوطُ؟”
فَأَوْضَحَتْ: “لَا يُسْمَحُ بِدُخُولِ قَاعَةِ الْمَلَكُوتِ إِلَّا بَعْدَ جُلُوسِ جَمِيعِ شُهُودِ يَهُوَهَ الآخَرِينَ. وَيَجِبُ أَنْ تَجْلِسِي وَحْدَكِ فِي آخِرِ الصَّفِّ، وَبَعْدَ الِاجْتِمَاعِ عَلَيْكِ مُغَادَرَةُ الْقَاعَةِ أَوَّلًا، وَحْدَكِ تَمَامًا، وَلَا أَحَدَ، لَا أَحَدَ، لَا أَحَدَ يَتَحَدَّثُ إِلَيْكِ، أَوْ يُحَيِّيكِ، أَوْ يَنْظُرُ إِلَيْكِ…”
هَزَّ “بَاوْلْ” رَأْسَهُ وَنَظَرَ إِلَيَّ بِقَلَقٍ: “هَذَا مِثْلُ الْعُصُورِ الْوُسْطَى!” هَمَسَ بِصَدْمَةٍ.
سَكَتُّ مَتَلَعْثِمَةً.
صَرَخَتْ “مَارِي”: “لَا يُمْكِنُكِ أَنْ تُفَكِّرِي فِي هَذَا حَقًّا! هَذَا لَا إِنْسَانِيٌّ!”
هَمَسْتُ: “أَنْتُمْ تَتَحَدَّثُونَ بِسُهُولَةٍ… لَدَيْكُمْ أَهَالٍ وَأَجْدَادٌ وَأَشِقَّاءٌ وَأَصْدِقَاءٌ. لَسْتُمْ وَحْدَكُمْ. أَمَّا أَنَا، فَسَأَظَلُّ وَحِيدَةً إِذَا لَمْ أَسْتَسْلِمْ.”
حَلَّ الصَّمْتُ بَيْنَنَا.
ثُمَّ قَالَتْ “مَارِي” مُتَنَهِّدَةً: “بِالْأَمْسِ تَحَدَّثْتُ مَعَ السَّيِّدَةِ ‘وِينْتَر’. لَقَدْ حَاوَلَتِ التَّحَدُّثَ إِلَى وَالِدَيْكِ مَرَّاتٍ عِدَّةً، لَكِنَّهُمَا مَنَعُوهَا بِشِدَّةٍ مِنَ التَّدَخُّلِ. قَالُوا إِنَّهُمْ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى مُسَاعَدَةٍ. فَاضْطُرَّتْ لِلسَّيْرِ إِلَى إِدَارَةِ الْمَدْرَسَةِ، لأَنَّكِ تَغَيَّبْتِ لِفَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ. وَسَتَتَوَاصَلُ إِدَارَةُ الْمَدْرَسَةِ مَعَ مَكْتَبِ التَّعْلِيمِ. سَيَكُونُ هُنَاكَ ضَجَّةٌ كَبِيرَةٌ، يَا هَانَا!”
قَالَ “بَاوْلْ” بِحَزْمٍ: “سَنَجِدُ حَلًّا بِالتَّأْكِيدِ!”
ثُمَّ اقْتَرَحَتْ “سَابْرِينَا” وَهِيَ تَعْبَثُ بِعَصَبِيَّةٍ بِشَظَايَا مِنْ مِندِيلٍ: “رُبَّمَا يُمْكِنُكِ أَنْ تَعِيشِي لِفَتْرَةٍ عِنْدَ السَّيِّدَةِ ‘وِينْتَر’…”
قَالَتْ “مَارِي” وَهِيَ تَرْفَعُ كَتِفَيْهَا مُتَثَاقِلَةً: “حِينَئِذٍ، لَنْ تَضْطَرِّي بَعْدَ إِلَى التَّنَقُّلِ الدَّائِمِ.”
أَجَابَتْ: “لَكِنْ إِذَا عَرَفَ وَالِدَاهَا مَكَانَهَا، سَيَأْخُذَانَهَا بِلَا شَكٍّ. وَالسَّيِّدَةُ ‘وِينْتَر’ لَيْسَ لَهَا حَقٌّ أَنْ تُبْقِيَ ‘هَانَا’ بَعِيدًا عَنْهُمَا لِمُجَرَّدِ أَنَّ وَالِدَيْهَا شُهُودُ يَهُوَهَ وَلَدَيْهِمْ نَظْرَةٌ غَرِيبَةٌ لِلْحَيَاةِ. فِي النِّهَايَةِ، هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ دِينِيَّةٌ فِي هَذَا الْبَلَدِ، وَقَد ذَكَّرَنَا السَّيِّدَةُ ‘وِينْتَر’ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ.”
زَجَرَ “بَاوْلْ” بِغَضَبٍ: “لَكِنْ إِذَا ضَرَبُوهَا وَحَبَسُوهَا لأَسْبَابٍ دِينِيَّةٍ، أَظُنُّ أَنَّ حُرِّيَّةَ الدِّينِ عِنْدَهَا تَنْتَهِي.”
قَالَتْ “مَارِي” بِنَبْرَةٍ حَادَّةٍ: “لَقَدْ أَخْبَرُوا السَّيِّدَةَ ‘وِينْتَر’ أَنَّهُمْ يَرْفُضُونَ هَذِهِ الْاِتِّهَامَاتِ، وَسَأَلُوا عَمَّا إِذَا كَانَ هُنَاكَ أَيُّ دَلِيلٍ يَثْبُتُ هَذِهِ الْاِدِّعَاءَاتِ.”
كُنْتُ قَد تَوَقَّفْتُ عَنْ الاِسْتِمَاعِ، وَجَلَسْتُ مُتَثَاقِلَةً أَشْعُرُ بِثِقْلِ التَّعَبِ، وَأَدْرَكْتُ كَيْفَ بَدَأَ مَقَاوِمِي الْجَدِيدُ يَتَهَاوَى مَرَّةً أُخْرَى. كَانَ كُلُّ شَيْءٍ يَبْدُو بِلَا جَدْوَى، فَتَسَلَّلَ النَّعَاسُ إِلَيَّ بِقُوَّةٍ.
ثُمَّ حَدَثَ كُلُّ شَيْءٍ بِسُرْعَةٍ. كُنْتُ أَمْشِي مُتْعَبَةً عَلَى الطَّرِيقِ الْمُؤَدِّي إِلَى بَيْتِنَا، حِينَ أَمْسَكَ بِيَ الأَخُّ “رُولَانْد”.
قَالَ الأَخُّ “رُولَانْد” بِبُرُودَةٍ وَهُوَ يَمْسِكُ بِذِرَاعِي: “هَا أَنْتِ يَا هَانَا.”
تَمْتَمْتُ بِهُدُوءٍ: “يُمْكِنُكَ أَنْ تَتْرُكَنِي، سَأَذْهَبُ مَعَكَ.” بَلْ حَتَّى اسْتَطَعْتُ أَنْ أَرْسُمَ ابْتِسَامَةً خَافِتَةً عَلَى شَفَتَيَّ.
قَالَ الأَخُّ “رُولَانْد”: “حَسَنًا.” وَسِرْنَا جَنْبًا إِلَى جَنْبٍ نَحْوَ الْمَنْزِلِ الَّذِي قَضَيْتُ فِيهِ طُفُولَتِي.
فَجْأَةً، رَأَيْتُ “مَارِي” تَقِفُ عَلَى الجَانِبِ الآخَرِ مِنَ الشَّارِعِ، تَكَادُ تَخْتَفِي خَلْفَ عَمُودِ إِعْلَانَاتٍ مُغَطَّى بِالْمُلْصَقَاتِ، وَكَانَتْ تُحَدِّقُ إِلَيَّ بِعَيْنَيْنِ ضَيَّقَتَيْنِ. بِجَانِبِهَا كَانَ هُنَاكَ شَخْصٌ آخَرُ. وَذَاكَ الشَّخْصُ عَرَفْتُهُ.
كَانَ هُوَ الْفَتَى النَّحِيلُ الطَّوِيلُ الَّذِي قَابَلَنِي ذَاتَ مَرَّةٍ مَعَ “مَارِي” عِنْدَ دَعْوَةِ النَّاسِ فِي الشَّارِعِ، ذَلِكَ الْفَتَى الْوَسِيمُ الَّذِي رَفَعَ لِي نُسْخَةً مِنْ “بُرْجِ الْمُرَاقَبَةِ” الَّتِي سَقَطَتْ، وَكَانَ يَنْظُرُ إِلَيَّ بِلُطْفٍ. وَهُوَ ذَاتُهُ الْفَتَى الَّذِي هَزَّ كَتِفَيَّ فِي الْحَدِيقَةِ الْعَامَّةِ حِينَ كُنْتُ مَلْقَاةً عَلَى الْعُشْبِ الْمُبَلَّلِ، نِصْفَ مُتَجَمِّدَةٍ مِنَ الْبَرْدِ وَمُنْكَسِرَةً مِنَ الْأَلَمِ.
ابْتَسَمْتُ ابْتِسَامَةً خَافِتَةً فِي دَاخِلِي، وَلَمْ أُبْدِ أَيَّ نِيَّةٍ لِلنَّظَرِ إِلَيْهِمَا مَرَّةً أُخْرَى، بَلِ وَاصَلْتُ طَرِيقِي وَاخْتَفَيْتُ دَاخِلَ مَنْزِلِ وَالِدَيَّ.
تَسَاءَلْتُ فِي نَفْسِي: “لِمَاذَا جَاءَا إِلَى هُنَا؟” لَكِنَّ فِي النِّهَايَةِ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ مُهِمًّا. لَقَدْ عُدْتُ إِلَى عَالَمِي الصَّغِيرِ، وَالْعَالَمُ الْكَبِيرُ هُنَاكَ لَمْ يَعُدْ يَخُصُّنِي.
كَانَ شَقَّتُنَا فِي الطَّابِقِ الْأَرْضِيِّ، فَسَرِيعًا مَا وَصَلْتُ إِلَى مَكَانِي، حَيْثُ كَانُوا جَمِيعًا فِي انْتِظَارِي: وَالِدَايَ، جَدِّي وَجَدَّتِي، وَأَخِي “يُوخِنْ”.
صَاحَ الأَخُّ “رُولَانْد” بِمُجَرَّدِ أَنْ أَغْلَقْنَا بَابَ الشَّقَّةِ وَرَاءَنَا: “لَقَدْ وَجَدْتُهَا!”
ثُمَّ اِنْهَارَ الْعَالَمُ مِنْ حَوْلِي.
بَدَأُوا بِالصِّرَاخِ وَالتَّهْدِيدِ، بِالْبُكَاءِ وَالصَّلاَةِ، نَادَوْا “يَهُوَهَ”، وَضَرَبُونِي. وَمَعَ ذَلِكَ، لَا أَتَذَكَّرُ إِلَّا ضَرَبَاتِ وَالِدِ “رُوزْفِيتَا” فَقَطْ. كَانَ يَضْرِبُ وَيَضْرِبُ حَتَّى بَدَأَتِ النُّجُومُ تَتَرَاقَصُ أَمَامَ عَيْنَيَّ.
فَجْأَةً، صَرَخَ صَوْتٌ عَالٍ يَمْلَؤُهُ الْيَأْسُ. ارْتَعْشْتُ، مِنْ ذَلِكَ؟ بَعْدَ لَحْظَةٍ أَدْرَكْتُ أَنَّ الصَّرَاخَ صَادِرٌ مِنِّي.
صَرَخْتُ وَصَرَخْتُ، ثُمَّ اِنْهَرَتْ عَلَى أَرِيكَتِنَا، وَلَمْ يَكُنْ فِي بَالِي سِوَى فِكْرَةٍ وَاحِدَةٍ: “أَنْ أَمُوتَ، فَقَطْ أَنْ أَمُوتَ بِسُرْعَةٍ.”
أَغْلَقْتُ عَيْنَيَّ وَشَعَرْتُ بِأَنَّنِي مَحْطَمَةٌ تَمَامًا، بِلَا حَرَكَةٍ، كَأَنَّ كُلَّ الْحَيَاةِ قَدِ انْتُزِعَتْ مِنِّي.
انْتَشَرَ ضَوْءٌ سَاطِعٌ، ضَوْءٌ مَأْلُوفٌ، أَمَامَ عَيْنَيَّ الْمَغْمُضَتَيْنِ. وَعِنْدَمَا اخْتَرَقَنِي بُكَاءُ وَالِدِي، فَتَحْتُ عَيْنَيَّ بِصُعُوبَةٍ وَأَنَا أَتَأَلَّمُ.
هَمَسْتُ لَهُ: “لَا تَبْكِ يَا أَبِي، سَأَكُونُ مَعَ أُمِّي قَرِيبًا…”
لَكِنَّ فَجْأَةً صَرَخَ وَالِدِي بِعُنْفٍ: “لَا يَجِبُ أَنْ تَمُوتِي!”
كَانَ الأَمْرُ كَأَنَّ الزَّمَنَ عَادَ إِلَى الْوَرَاءِ. ضَحِكْتُ بِخِفَّةٍ.
صَرَخَ وَالِدِي بِجُنُونٍ: “مَاذَا فَعَلْتُمْ بِهَا؟ إِنَّهَا طِفْلَتِي، أُحِبُّهَا، وَيَجِبُ أَنْ أَحْمِيهَا…”
صَاحَتْ “رُوزْفِيتَا” مُحَذِّرَةً: “ميْشائيل، تَذَكَّرِ الشَّيْطَانَ!”
صَرَخَ وَالِدِي بِغَضَبٍ: “رُوزِي، اصْمُتِي!” ثُمَّ قَالَ بِصَوْتٍ جَادٍ: “سَأُصْحِبُ هَانَا الآنَ إِلَى وَالِدِي “سُوزَانَا”…”
وَفِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، وَقَعَ صَوْتٌ مُدَوٍّ. كَانَ حِينَ اقْتَلَعَ “بَاوْل” وَأَخُو “مَارِي” قُفْلَ بَابِ الشَّقَّةِ وَدَخَلَا إِلَى الدَّاخِلِ.
هَمَسْتُ بِضَعْفٍ: “بَاوْل…”
صَاحَ “بَاوْل” مُظْهِرًا عَلَيْهِ الْفَزَعَ: “هَانَا، هَلْ أَنْتِ بِخَيْرٍ؟ لَقَدْ صَرَخْتِ كَثِيرًا!”
تَمْتَمْتُ بِحَيْرَةٍ: “سَمِعْتَ ذَلِكَ؟”
أَوْمَأَ “بَاوْل” وَأَخَذَنِي بَيْنَ ذِرَاعَيْهِ. قَالَ: “كُنَّا بِالخَارِجِ، “مَارِي” وَ”دَانِيَال” وَأَنَا.”
نَظَرْتُ إِلَيْهِ شَاكِرَةً، ثُمَّ إِلَى “مَارِي” وَ”دَانِيَال”، ذَاكَ الشَّابِّ النَّحِيلِ الطَّوِيلِ مِنَ الْحَدِيقَةِ، وَاشْتَعَلَ فِي دَاخِلِي فَجْأَةً شُعُورٌ بِالأَمَلِ، شَعَرْتُ أَنَّهُ قَدْ لَا أَكُونُ وَحِيدَةً بَعْدَ الآنَ.
عَمَّ الصَّمْتُ فَجْأَةً فِي الشَّقَّةِ، حَيْثُ كَانَ بَابُهَا مَكْسُورًا. بَدَا “بَاوْل” وَ”مَارِي” وَ”دَانِيَال” شَاحِبَيْنِ وَمُذْعُورَيْنِ.
لَكِنَّ وَالِدِي كَانَ شَاحِبًا أَيْضًا، وَ”رُوزْفِيتَا” بَدَتْ هِيَ الأُخْرَى مَهَيَّجَةً وَقَلِقَةً.
أَمَّا وَالِدَا “رُوزْفَيْتَا”، وَالأَخُ “يُوخِن”، وَالأَخُ “رُولَانْد”، فَبَدَوْا غَيْرَ مُتَأَثِّرِينَ. تَوَجَّهُوا بِتَجَهُّمٍ إِلَى الْخِزَانَةِ فِي الرَّوَاقِ، ارْتَدَوْا مَعَاطِفَهُمْ وَجَاكِيَاتِهِمْ، ثُمَّ رَحَلُوا دُونَ كَلِمَةِ وَدَاعٍ.
قَالَ وَالِدِي أَخِيرًا بِصَوْتٍ هَادِئٍ: “سَأُصْحِبُكِ إِلَى وَالِدِي “سُوزَانَا”. لَا يَجِبُ أَنْ تَبْقِي هُنَا فِي الْوَقْتِ الْحَالِي، يَا هَانَا. عَلَيْنَا جَمِيعًا أَنْ نَهْدَأَ وَنَسْتَعِيدَ تَوَازُنَنَا أَوَّلًا.”
أَوْمَأْتُ بِرَأْسِي مُوَافِقَةً.
سَأَلَنِي وَالِدِي بِقَلَقٍ: “هَلْ يُمْكِنُكِ الْمَشْيُ؟”
أَوْمَأْتُ لَهُ مَرَّةً أُخْرَى.
وَفِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ قَالَ “بَاوْل”: “تَعَالَيْ يَا هَانَا، سَأَدْعَمُكِ.”
تَمْتَمَ وَالِدِي بِارْتِبَاكٍ: “أَفْتَرِضُ أَنَّكَ ذَلِكَ الشَّابَّ الَّذِي…”
قَاطَعَهُ “بَاوْل” بِثِقَةٍ وَجَاذِبِيَّةٍ: “نَعَمْ، أَنَا صَدِيقُ هَانَا.” وَمَعَ مَرُورِ الْوَقْتِ اسْتَعادَ لَوْنُ وَجْهِهِ حَيَوِيَّتَهُ.
وَفِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ وَصَلَتِ الشُّرْطَةُ، رُبَّمَا أَبْلَغَ جَارٌّ قَلِقٌ عَنِ الْحَادِثِ احْتِرَازًا.
تَبَادَلْتُ مَعَ “رُوزْفِيتَا” نَظْرَةً أَخِيرَةً طَوِيلَةً، قَبْلَ أَنْ أُغَادِرَ شَقَّتَنَا إِلَى الأَبَدِ.
هَمَسَتْ “رُوزْفِيتَا” بِهُدُوءٍ: “كُنْتُ أُرِيدُ لَكِ الْخَيْرَ.”
لَكِنَّنِي لَمْ أَجِدْ كَلِمَاتٍ لِأَرُدَّ عَلَيْهَا. فَكَّرْتُ لِلْحَظَةٍ بِحَنِينٍ فِي قَلْبِي الْمَصْنُوعِ مِنْ بَسْكُوِيتِ الزَّنْجَبِيلِ الَّذِي أَعْطَتْنِي إِيَّاهُ مِنَ الْحَدِيقَةِ. يَا حَبِيبَةَ الْقَلْبِ…
قَادَنِي وَالِدِي مَعَ “بَاوْل” إِلَى مَنْزِلِ وَالِدَيَّ أُمِّي، وَسَلَّمَنِي هُنَاكَ بِشُعُورٍ مِنَ الْعَجْزِ.
قَالَ وَهُوَ يَتَرَجَّى: “يَجِبُ أَنْ تَقْبَلُوهَا، وَلَوْ لِفَتْرَةٍ قَصِيرَةٍ. عَلَيَّ أَنْ أُرَتِّبَ حَيَاتِي مِنْ جَدِيدٍ.”
اسْتَقْبَلَنِي أَجْدَادِي الْجُدُدُ، وَالِدَا أُمِّي، مُسْتَغْرِبِينَ لَكِنْ بِلُطْفٍ.
سَأَلَتْنِي جَدَّتِي الْجَدِيدَةُ بِقَلَقٍ: “مَن فَعَلَ هَذَا بِكِ؟”
أَجَابَ “بَاوْل” نِيَابَةً عَنِّي: “إِنَّهَا قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ.”
ثُمَّ سَأَلَنِي جَدِّي الْجَدِيدُ: “هَلْ أَنْتَ صَدِيقُ هَانَا؟”
قَالَ “بَاوْل” بِثِقَةٍ: “أَنَا أُحِبُّ هَانَا.”
ثُمَّ دَخَلْنَا جَمِيعًا إِلَى الْبَيْتِ.
بَعْدَ بُضْعَةِ أَسَابِيعَ، كَتَبْتُ فِي يَوْمِيَّاتِي الْجَدِيدَةِ: “الوَضْعُ ضَيِّقٌ بَعْضَ الشَّيْءِ عِنْدَ أَجْدَادِي الْجُدُدِ. رَغْمَ أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ بَيْتًا كَبِيرًا، إِلَّا أَنَّهُ مَلِيءٌ بِالأَثَاثِ الْعَتِيقِ الْكَبِيرِ وَالْفَاخِرِ مِنَ الأَرْضِ إِلَى السَّقْفِ. أَحْيَانًا أَشْعُرُ أَنَّنِي أَخْتَنِقُ هُنَاكَ.
لَكِنَّنِي لَدَيَّ “بَاوْل”. نَقْضِي مَعًا كُلَّ لَحْظَةِ فَرَاغٍ. أَنَا أُحِبُّهُ كَثِيرًا!
أَحْيَانًا يَزُورُنِي وَالِدِي. لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْ “رُوزْفَيْتَا”. يَقُولُ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ إِخْوَتِي الصِّغَارِ. لَكِنِّي لَا أُصَدِّقُهُ. لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَخَيَّلَ حَيَاتَهُ بِدُونِ “رُوزْفَيْتَا”. هُوَ ضَعِيفٌ وَخَائِفٌ. أَمَّا أَنَا، فَلَسْتُ كَذَلِكَ!
أَمْسِ جَاءَ وَمَعَهُ أَشْيَاءُ وَالِدَتِي. لَقَدِ احْتَفَظَ بِكُلِّ شَيْءٍ لِي. وَجَلَبَ مَعَهُ أَيْضًا “بِنْيَامِين”، وَذَلِكَ بِمُوَافَقَةِ “رُوزْفَيْتَا”.”
الْحَيَاةُ جَمِيلَةٌ.
لَكِنَّ أَجْدَادِي مُرْهِقُونَ بَعْضَ الشَّيْءِ، وَمَعَ ذَلِكَ سَأَتَمَكَّنُ مِنَ التَّعَامُلِ مَعَهُمْ. أَحْيَانًا نَزُورُ مَعًا قَبْرَ أُمِّي. عَلَى الْأَقَلِّ هُمْ لُطَفَاءُ مَعَ “بَاوْل”، وَيُحَاوِلُونَ أَنْ يُمْنَحُونِي الْكَثِيرَ مِنَ الْحُرِّيَّةِ—رُبَّمَا فَهِمُوا شَيْئًا مَا بَعْدَ كُلِّ هَذِهِ السِّنِينَ.
بَعْدَ نِصْفِ عَامٍ، كَتَبْتُ فِي يَوْمِيَّاتِي:
“أَصْدَرَ مَكْتَبُ رِعَايةِ الشَّبَابِ قَرَارًا حَاسِمًا بِالسَّمَاحِ لِي بِالْبَقَاءِ مَعَ أَجْدَادِي.”
________________________________________
خَاتِمَةُ الكاتبة
فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ هَانَا تَحْكِي لِي قِصَّتَهَا، مَرِضَ وَالِدُهَا. كَانَ عُمُرُهُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ سَنَةً.
لَمْ تَسْتَطِعْ هَانَا مَعْرِفَةَ طَبِيعَةِ مَرَضِهِ بِالضَّبْطِ، فَقَدْ تَضَاءَلَ التَّوَاصُلُ بَيْنَهُمَا عَبْرَ السِّنِينَ.
عَلِمَتْ فَقَطْ أَنَّ وَالِدَهَا رَفَضَ، مِنْ مَنْطَلَقٍ دِينِيٍّ، الْخُضُوعَ لِعَمَلِيَّةٍ جِرَاحِيَّةٍ تَطْلُبُ نَقْلَ دَمٍ، كَمَا رَفَضَتْ زَوْجَتُهُ رُوزْفِيتَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُوَافَقَةَ عَلَى هَذِهِ الْخُطْوَةِ الطِّبِّيَّةِ الضَّرُورِيَّةِ.
وَكَانَ السَّبَبُ، كَمَا قَالَ وَالِدُ هَانَا بِنَفْسِهِ سَابِقًا، هُوَ الْمَوْقِفُ الرَّافِضُ لِشُهُودِ يَهُوَهَ نَحْوَ نَقْلِ الدَّمِ، الْمَأْخُوذُ مِنْ تَفْسِيرِ نَصٍّ فِي كِتَابِهِمْ الْمُقَدَّسِ يَدْعُو إِلَى “الِامْتِنَاعِ عَنِ الدَّمِّ”، وَقَدْ فُسِّرَ هَذَا النَّصُّ عَلَى أَنَّهُ تَحْرِيمٌ مُطْلَقٌ لِنَقْلِ الدَّمِ.
تَوَفَّى وَالِدُ هَانَا فِي شِتَاءِ عَامِ 1998.
هَانَا وَرِيبْكَا، صَدِيقَتُهَا الْوَحِيدَةُ مُنْذُ أَيَّامِ الطُّفُولَةِ، اسْتَأْنَفَتَا التَّوَاصُلَ الْيَوْمَ.
كَانَتْ رِيبْكَا قَدْ تَعَرَّضَتْ لِضُغُوطٍ شَدِيدَةٍ مِنْ جَانِبِ عَمِّهَا “يُوزِف ك.” لِمَا يَزِيدُ عَنِ السَّنَةِ، فِي سَعْيِهَا لِلِانْفِصَالِ عَنْ “شُهُودِ يَهُوَه”.
وَبِسَبَبِ مُشْكِلَاتٍ نَفْسِيَّةٍ حَادَّةٍ، أُدْخِلَتْ إِلَى مُسْتَشْفَى الطِّبِّ النَّفْسِيِّ لِلشَّبَابِ.
وَبَعْدَ سَنَوَاتٍ، اسْتَعَادَتْ صِحَّتَهَا، وَأَكْمَلَتْ دِرَاسَتَهَا الثَّانَوِيَّةَ.
تَعِيشُ الْيَوْمَ وَتَعْمَلُ فِي “إِنْجِلْتِرَا”.
أَمَّا أَخُو هَانَا، “بِنْيَامِين”، الَّذِي بَلَغَ الْآنَ خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا، فَيُوَاجِهُ هُوَ الآخَرُ مُشْكِلَاتٍ كَبِيرَةً مَعَ “شُهُودِ يَهُوَه”.
وَتَدْعَمُهُ أُخْتُهُ بِكُلِّ مَا تَسْتَطِيعُ.
عَنْ “شُهُودِ يَهُوَهْ”
كَيْفَ يَقَعُ ٱلنَّاسُ تَحْتَ تَأْثِيرِ ٱلطَّوَائِفِ؟ وَلِمَاذَا يَصْعُبُ عَلَيْهِمُ ٱلتَّحَرُّرُ مِنْهَا؟ هَانَا تَعْرِفُ ٱلْإِجَابَاتِ. فَقَدْ نَشَأَتْ فِي وَسَطِ “شُهُودِ يَهُوَهْ”، وَعَاشَتْ تَجْرِبَةَ ٱلسُّلْطَةِ وَٱلنُّفُوذِ لِهَذِهِ ٱلْجَمَاعَةِ ٱلدِّينِيَّةِ عَنْ قُرْبٍ. وَلَمْ تَسْتَطِعِ ٱلْخُرُوجَ إِلَّا بِمُسَاعَدَةِ أَصْدِقَاءَ جَيِّدِينَ.
تَنْتَمِي جَمَاعَةُ “شُهُودِ يَهُوَهْ” إِلَى طَوَائِفِ نِهَايَةِ ٱلزَّمَانِ، فَقَدْ أَسَّسَهَا ٱلْأَمْرِيكِيُّ “تْشَارْلْزْ تِي. رَسِلْ” فِي أَوَاخِرِ ٱلْقَرْنِ ٱلتَّاسِعِ عَشَرَ. فِي مَجَلَّتِهِ “ٱلْبُرْجُ ٱلْمُرَاقِبُ” وَغَيْرِهَا مِنَ ٱلْمَنْشُورَاتِ، كَانَ يُعْلِنُ عَنْ ٱقْتِرَابِ عَوْدَةِ ٱلْمَسِيحِ قَرِيبًا.
وَكَانَ أَتْبَاعُ هَذِهِ ٱلْجَمَاعَةِ يَتَوَقَّعُونَ نِهَايَةَ ٱلْعَالَمِ “ٱلشِّرِّيرِ” آخِرَ مَرَّةٍ فِي عَامِ ١٩٧٥. وَحَتَّى ٱلْيَوْمِ، تَعِيشُ ٱلْجَمَاعَةُ عَلَى إِيمَانٍ رَاسِخٍ بِأَنَّ حَرْبَ ٱللَّهِ “هَرْمَجِدُّونْ” وَشِيكَةُ ٱلْحُدُوثِ.
فِي هَذِهِ ٱلْحَرْبِ، سَتُبَادُ كُلُّ أَنْصَارِ ٱلشَّيْطَانِ – ٱلَّذِينَ تَشْمَلُهُم كُلُّ ٱلْدِّيَانَاتِ ٱلْأُخْرَى – بِأَبْشَعِ ٱلطُّرُقِ.
وَيَأْمُلُ “شُهُودُ يَهُوَهْ”، وَفْقَ تَعَالِيمِهِم، أَنْ يَنْجُوا مِنْ هَذِهِ ٱلْحَرْبِ، لِيَعِيشُوا بَعْدَهَا فِي “عَالَمٍ جَدِيدٍ” يَسُودُهُ ٱلسَّلَامُ وَٱلْأَمَانُ.
يَرَى “شُهُودُ يَهُوَهْ” أَنْفُسَهُمْ كَمُنَظَّمَةٍ ثِيُوقْرَاطِيَّةٍ، أَيْ “ٱلْمُنَظَّمَةُ ٱلْوَحِيدَةُ ٱلظَّاهِرَةُ […] ٱلَّتِي يَسْتَخْدِمُهَا يَهُوَهْ ٱلْيَوْمَ لِتَنْفِيذِ مَشِيئَتِهِ”.
تَنْظِيمُهُمْ دَقِيقٌ وَصَارِمٌ، يَسِيرُ عَلَى دَرَجَاتٍ هَرَمِيَّةٍ وَاضِحَةٍ. وَتُعْقَدُ ٱجْتِمَاعَاتُهُمْ فِي مَكَانٍ يُعْرَفُ بِـ”قَاعَاتِ ٱلْمَلَكُوتِ”، حَيْثُ يَتَوَلَّى “ٱلشُّيُوخُ” قِيَادَةَ ٱلْجَلَسَاتِ.
يَقُولُونَ: “كُلُّ شَيْخٍ فِي ٱلِاجْتِمَاعِ يَعْمَلُ كَأَمِيرٍ يُدِيرُ شُؤُونَ ٱلْأَرْضِ نِيَابَةً عَنْ حُكُومَةِ ٱللَّهِ ٱلسَّمَاوِيَّةِ”.
يُكَلَّفُ “شُهُودُ يَهُوَهْ” بِدَوْرِ ٱلْمُبَشِّرِينَ، فَيَسْعَوْنَ لِنَقْلِ عَقِيدَتِهِمْ إِلَى ٱلنَّاسِ فِي كَافَّةِ أَرْجَاءِ ٱلْعَالَمِ. وَفَضْلًا عَنْ عَمَلِهِمُ ٱلتَّبْشِيرِيِّ، يُكَرِّسُونَ جُزْءًا كَبِيرًا مِنْ أَوْقَاتِ فَرَاغِهِمْ لِلْأَنْشِطَةِ ٱلدِّينِيَّةِ.
تَشْمَلُ ٱجْتِمَاعَاتُ ٱلْأُسْبُوعِ دِرَاسَاتٍ لِـ”ٱلْبُرْجِ ٱلْمُرَاقِبِ”، وَدِرَاسَةَ كُتُبٍ، وَٱجْتِمَاعَاتِ ٱلْخِدْمَةِ، وَٱجْتِمَاعَاتِ ٱلتَّبْشِيرِ ٱلثِيُوقْرَاطِيِّ، ٱلَّتِي يَتَدَرَّبُونَ فِيهَا عَلَى طُرُقِ ٱلْوَعْظِ ٱلْفَعَّالَةِ.
وَيُعْتَبَرُ ٱلْخِطَابُ ٱلْعَامُّ لِأَحَدِ ٱلشُّيُوخِ ذِرْوَةَ ٱلْأُسْبُوعِ عِنْدَ كَثِيرِينَ. وَإِلَى جَانِبِ هَذَا كُلِّهِ، يُزَاوِلُونَ وَظَائِفَ عَادِيَّةً لِكَسْبِ قُوتِهم
ٱلْوَصَايَا وَٱلنَّوَاهِي فِي تَعَالِيمِهِمْ مُحَدَّدَةٌ بِدِقَّةٍ، وَفِي ٱلِاجْتِمَاعَاتِ تُزْرَعُ فِي ٱلْأَفْئِدَةِ بُذُورُ ٱلْوَلَاءِ لِلْجَمَاعَةِ، وَيُغْرَسُ ٱلِاعْتِقَادُ ٱلرَّاسِخُ بِمُعْتَقَدَاتِهَا ٱلدِّينِيَّةِ.
وَقَلَّمَا تُتَاحُ لِلْمُنْتَسِبِينَ فُرَصٌ لِلتَّعَرُّفِ عَلَى وَجْهَاتِ نَظَرٍ أُخْرَى، أَوْ لِدَمْجِهَا فِي رُؤْيَتِهِمْ لِلْعَالَمِ.
وَبِمَا أَنَّ أَنْشِطَتَهُمْ تَنْحَصِرُ فِي ٱلْغَالِبِ عَلَى ٱلتَّوَاصُلِ مَعَ “إِخْوَانِهِمْ وَأَخَوَاتِهِمْ فِي ٱلْإِيمَانِ”، فَإِنَّهُمْ يَرْزَحُونَ تَحْتَ ضَغْطٍ نَفْسِيٍّ وَٱجْتِمَاعِيٍّ شَدِيدٍ.
وَيُنَمَّى فِيهِمْ شُعُورُ “ٱلنُّخْبَوِيَّةِ” أَمَامَ “ٱلْعَالَمِ ٱلْخَارِجِيِّ ٱلشِّرِّيرِ”.
يَقُولُونَ: “لَنْ تَوْجَدَ إِلَّا مُنَظَّمَةٌ وَاحِدَةٌ، هِيَ ٱلْمُنَظَّمَةُ ٱلظَّاهِرَةُ لِلَّهِ، ٱلَّتِي سَتَنْجُو مِنَ ٱلضِّيقِ ٱلْعَظِيمِ ٱلْقَادِمِ بِسُرْعَةٍ […] إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تُبَارَكَ بِٱلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ، عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَنْظِيمِ يَهُوَهْ وَتُنَفِّذَ مَشِيئَتَهُ”.
تُعَدُّ ٱلْأَعْيَادُ كَـعِيدِ ٱلْفِصْحِ، وَٱلْكِرِيسْمَاسِ، وَأَعْيَادِ ٱلْمِيلَادِ مِمَّا هُوَ مَمْنُوعٌ عَلَى شُهُودِ يَهُوَهْ، وَهٰذَا مَا يُؤَدِّي إِلَى عَزْلِ أَطْفَالِهِمْ ٱجْتِمَاعِيًّا مُنْذُ أَعْوَامِهِمُ ٱلْأُولَى.
وَلَا يُسْتَحْسَنُ لَدَيْهِمْ أَنْ يُشَارِكَ ٱلشَّبَابُ فِي ٱلْحَفَلَاتِ ٱلمَدْرَسِيَّةِ أَوِ ٱلرِّحْلَاتِ ٱلصَّفِّيَّةِ، وَحَتَّى ٱلصَّدَاقَاتُ مَعَ زُمَلَاءِ ٱلدِّرَاسَةِ مِنْ غَيْرِ ٱلشُّهُودِ تُنْظَرُ إِلَيْهَا بِعَيْنِ ٱلرِّيبةِ وَٱلْحَذَرِ.
وَهُمْ يَقُولُونَ: “إِذَا كُنْتَ شَابًّا مَسِيحِيًّا لَا تَزَالُ فِي ٱلْمَدْرَسَةِ، تَحْتَاجُ إِلَى إِيمَانٍ قَوِيٍّ لِتُحَافِظَ عَلَى نَقَائِكَ. أَنْتَ مُعَرَّضٌ لِمُجْتَمَعٍ سَيِّئٍ وَتُوَاجِهُ مَوَاقِفَ تَخْتَبِرُ إِيمَانَكَ.”
تَنْضَبِطُ حَيَاةُ شَبَابِهِمْ بِمَعَايِيرَ أَخْلَاقِيَّةٍ صَارِمَةٍ، وَبِرُوزْنَامَةٍ يَوْمِيَّةٍ مُحَدَّدَةٍ.
وَيُعْتَبَرُ ٱلْعِقَابُ ٱلْجَسَدِيُّ وَسِيلَةً “فَعَّالَةً” فِي ٱلتَّرْبِيَةِ. وَفَوْقَ ذٰلِكَ، يُسَلَّطُ عَلَيْهِمْ ضَغْطٌ نَفْسِيٌّ شَدِيدٌ، مِنْ خِلَالِ تَحْذِيرَاتٍ مِثْلَ: “ٱلشَّيْطَانُ يَخْتَبِرُ إِيمَانَكَ بِٱسْتِمْرَارٍ”، وَ”تَذَكَّرْ دَائِمًا أَنَّكَ سَتُحَاسَبُ عَلَى سُلُوكِكَ.”
وَعَلَى ٱلرَّغْمِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، يُوجَدُ دَائِمًا شُهُودٌ مِثْلَ “هَاناَ”، أُولَئِكَ ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ قَرَارَ ٱلْخُرُوجِ مِنَ ٱلطَّائِفَةِ.
وَلِلْمُنْشَقِّينَ، أَوْ مَنْ يُسَمَّوْنَ “ٱلْمُرْتَدِّينَ”، تَنْطَبِقُ ٱلْقَاعِدَةُ ٱلتَّالِيَةُ: “ٱلْكِتَابُ ٱلْمُقَدَّسُ يَأْمُرُ ٱلْمَسِيحِيِّينَ بِعَدَمِ مُصَاحَبَةِ أَوِ ٱلتَّوَاصُلِ مَعَ شَخْصٍ تَمَّ فَصْلُهُ مِنَ ٱلْجَمَاعَةِ.”
فَبَعْدَ ٱخْتِيَارِهَا، أَصْبَحَتْ ” هَاناَ ” فِي نَظَرِ ٱلْجَمَاعَةِ، وَحَتَّى فِي عُيُونِ أُسْرَتِهَا، كَأَنَّهَا “مَيِّتَةٌ”.
وَمَعَ ذٰلِكَ، فَقَدِ ٱخْتَارَتْ ٱلسَّيْرَ فِي ذٰلِكَ ٱلطَّرِيقِ ٱلْمُوْحِشِ، ٱلَّذِي كَانَ هَدَفُهُ ٱلْأَسْمَى هُوَ ٱلْحُرِّيَّةُ ٱلشَّخْصِيَّةُ.
أَمَّا تَعَالِيمُ شُهُودِ يَهُوَهْ، فَلَمْ أَتَمَكَّنْ فِي هٰذَا ٱلْمَقَامِ إِلَّا مِنَ ٱلْإِشَارَةِ إِلَيْهَا بِٱلْإِيجَازِ.
وَلَكِنْ، رُبَّمَا تَسْتَطِيعُ قِصَّةُ ” هَاناَ ” أَنْ تُؤَدِّيَ مَا لَا يَتَّسِعُ لَهُ ٱلْمَجَالُ هُنَا: أَنْ تَرْفَعَ ٱلْوَعْيَ بِآلِيَّاتِ ٱلطَّائِفَةِ، وَٱلْخَطَرِ ٱلَّذِي قَدْ يَخْتَبِئُ خَلْفَ جَمَاعَةٍ تَبْدُو “بَرِيئَةً” لِلوَهْلَةِ ٱلْأُولَى.
غُودُولا فْرِيتْس
مِنْ مَجْمُوعَةِ ٱلْعَمَلِ ٱلْمُخْتَصَّةِ بِٱلشُّؤُونِ ٱلدِّينِيَّةِ وَٱلِٱعْتِقَادِيَّةِ –
أَبْرَشِيَّةُ آخِن
________________________________________
العناوين والمعلومات:
المنظمات المذكورة أدناه تقدّم الدعم والمعلومات للمتأثرين، بما في ذلك عناوين مراكز الاستشارة في مختلف البلدان والمدن. كما يمكن الحصول على عناوين المسؤولين عن الشؤون الدينية والاعتقادية في كل أبرشية من مكاتب الكنائس المحلية.
ألمانيا
وزارة الأسرة وكبار السن والنساء والشباب
شارع روشوس 8-10
53123 بون
هاتف: (0228) 930 2864
جمعية KIDS e.V.
شارع بوغن 11
51375 ليفركوزن
هاتف: (0214) 55760
البريد الإلكتروني: KIDS_e.V.@t-online.de
الموقع الإلكتروني: http://www.leverkusen.com/kids
مجموعة العمل للشؤون الدينية والاعتقادية، أبرشية آخن
السيدة غودولا فريتس
شارع إرلن 20
52382 نيدرزيير
هاتف: (02428) 3038
الخدمات المسيحية e.V.
صندوق بريد 1410
74003 هايلبرون
هاتف: (07131) 393144
مركز المعلومات والتوثيق حول الطوائف / الجماعات النفسية، التابع للجنة حماية الأطفال والشباب في شمال الراين-وستفاليا
شارع بوست 15-23
50676 كولونيا
هاتف: (0221) 9213920
البريد الإلكتروني: Schlagang@mail.ajs.nrw.de
مؤسسة “المساعدة الأولى المؤقتة للأشخاص في أزمات دينية”
c/o Matthias Krase
شارع جرون ترِفت 23
12557 برلين
هاتف: (030) 6514599
مبادرة الأهالي والمتضررين ضد الاعتماد النفسي، ساكسونيا e.V.
شارع هاينريش 11
04317 لايبزيغ
هاتف: (0341) 6891590
________________________________________
سويسرا
صندوق بريد
شارع بيرمينسدورفر 421
8055 زيورخ
هاتف: (01) 4548080
الموقع الإلكتروني: http://www.infosekta.ch
________________________________________
النمسا
المكتب الإقليمي لشؤون الطوائف، النمسا السفلى
ساحة لاندهاوس 1
3109 سانت بَاوْلتن
هاتف: (02742) 2006560
البريد الإلكتروني: post.f3sektenstelle.at
الموقع الإلكتروني: http://www.sektenstelle.at
________________________________________
عن المؤلفة:
“يانا فراي” وُلدت في أبريل 1969 في دوسلدورف، بدأت الكتابة منذ كانت في الخامسة من عمرها. احتفظت بعدد لا يحصى من أعمالها الأولى، ومنذ ذلك الحين واصلت الكتابة بلا انقطاع. كتبت في ألمانيا وأمريكا ونيوزيلندا، على الجانب الآخر من الكرة الأرضية. درست الأدب وأسست عائلة. تصدر كتبًا للأطفال والشباب وتعمل أيضًا في مجال التلفزيون.
من أعمالها الحقيقية:
• “قبلة أختي”
• “طريق مسدود الحرية”
• “قصة نورا…”
)