الجنة المتجمدة – الجزء الثاني
سَمِعْتُ “رُوزفِيتَا” تَقُولُ بِدَهْشَةٍ: “مَرْحَبًا…”
فَتَابَعَتْ “مَارِي” بِأَدَبٍ: “أَعْتَذِرُ عَنِ إِزْعَاجِكُمْ فِي هَذَا الوَقْتِ المُتَأَخِّرِ، وَلَكِنَّ اليَوْمَ هُوَ يَوْمُ مِيلَادِي، وَفِي المَدْرَسَةِ عَلِمْتُ مِنَ الآخَرِينَ أَنَّ هَانَا تَحْتَفِلُ أَيْضًا بِيَوْمِ مِيلَادِهَا. فَوَجَدْتُ الأَمْرَ طَرِيفًا، وَلِذَلِكَ أَرَدْتُ…”
قَاطَعَتْهَا “رُوزفِيتَا” بِنَبْرَةٍ وَدُودَةٍ، وَلكِنْ حَازِمَةٍ: “هَانَا مَرِيضَةٌ.”
قَالَتْ “مَارِي”: “لَا أُرِيدُ أَنْ أُطِيلَ فِي الإِزْعَاجِ، وَلَكِنْ لَدَيَّ هَدِيَّةٌ صَغِيرَةٌ لِهَانَا.”
فَاقْتَرَحَتْ “رُوزفِيتَا”، وَكَانَ وَاضِحًا مِنْ صَوْتِهَا أَنَّهَا لَمْ تَسْتَحْسِنِ الزِّيَارَةَ المُفَاجِئَةَ: “يُمْكِنُكِ أَنْ تُعْطِينِي إِيَّاهَا. مَنْ يَدْرِي مَاذَا تُخَطِّطُ ابْنَتِي؟ قَدْ تَكُونُ مُصَابَةً بِالإِنْفْلُونْزَا، وَلَا أُرِيدُ لَكِ أَنْ تُصَابِي.”
فَأَصَرَّتْ “مَارِي” بِحَزْمٍ: “أَنَا فِي الحَقِيقَةِ قَوِيَّةٌ جِدًّا.”
تَنَهَّدَتْ “رُوزفِيتَا” وَقَالَتْ: “حَسَنًا، وَلَكِنْ مِنْ فَضْلِكِ انْهِ الأَمْرَ سَرِيعًا، مَارِي.”
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، سُمِعَ طَرْقٌ خَفِيفٌ عَلَى بَابِ غُرْفَتِي. أَغْمَضْتُ عَيْنَيَّ فِي سُرْعَةٍ، وَاخْتَبَأْتُ تَحْتَ لِحَافِي بِعُمقٍ.
هَمَسَتْ “رُوزفِيتَا” بِصَوْتٍ مُرْتَاحٍ: “هَا هِيَ، تَنَامُ.”
فَقَالَتْ “مَارِي” بِهَمْسٍ: “إِذًا سَأَضَعُهَا هُنَا.” وَسَمِعْتُ شَيْئًا يُوضَعُ بِلُطْفٍ عَلَى مَكْتَبِي.
ثُمَّ أُغْلِقَ بَابُ غُرْفَتِي، وَوَدَّعَتْ “رُوزفِيتَا” الزَّائِرَةَ الصَّغِيرَةَ.
بَقِيتُ طَوِيلًا تَحْتَ بَطَّانِيَتِي السَّاخِنَةِ وَالخَانِقَةِ، أُحَدِّقُ فِي ظُلْمَةِ السَّقْفِ.
“لَا بُدَّ أَنَّ مَارِي كَانَتْ وَسْوَسَةً مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ.”
كَانَ وَجْهُهَا جَمِيلًا، بَرِيئًا، وَصَوْتُهَا نَاعِمًا، مُمْتَلِئًا بِالْبَهْجَةِ، وَهِيَ أَوَّلُ فَتَاةٍ تُبْدِي اهْتِمَامًا حَقِيقِيًّا بِي، تَحَاوَلُ بِإِصْرَارٍ أَنْ تَصِيرَ صَدِيقَتِي.
وَهِيَ الَّتِي دَفَعَتْنِي – بِطَرِيقَةٍ مَا- لِمُلامَسَةِ نَفْسِي، لِأَمُدَّ أَصَابِعِي نَحْوَ ذَلِكَ المَكَانِ المُحَرَّمِ، الَّذِي لَا يَجِبُ مَسُّهُ.
اِقْشَعَرَّ جَسَدِي لِمُجَرَّدِ تَذَكُّرِ كَيْفَ لَمَسَ إِصْبَعِي تِلْكَ البَشَرَةَ النَّاعِمَةَ، الضَّيِّقَةَ، فِي أَعْمَاقِ جَسَدِي. هَاجَتْ مَعِدَتِي فِي الحَالِ، وَتَقَيَّأْتُ بِيَأْسٍ فِي سَرِيرِي الحَارِّ وَالْمُبَعْثَرِ.
وَبَيْنَمَا كَانَتْ “رُوزفِيتَا” تَنْزِعُ الغِطَاءَ وَتُنَظِّفُ الفِرَاشَ، عَقَدْتُ العَزْمَ بِقُوَّةٍ أَنْ أَبْقَى بَعِيدَةً عَنْ “مَارِي” فِي المُسْتَقْبَلِ.
“عَادَ كُلُّ شَيْءٍ كَمَا كَانَ قَبْلًا. كُنْتُ أَذْهَبُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الاجْتِمَاعَاتِ فِي قَاعَةِ مَمْلَكَتِنَا. وَكُنْتُ أُرَافِقُ رُوزفِيتَا فِي خِدْمَةِ التَّبْشِيرِ، وَأُوَزِّعُ بِحَمَاسٍ مَجَلَّتَيْنَا الشَّهْرِيَّتَيْنِ. وَأَحْيَانًا، كُنْتُ أَبْدَأُ الحَدِيثَ بِنَفْسِي عِنْدَ الأَبْوَابِ، وَذَلِكَ كَانَ يُشْعِرُنِي بِفَخْرٍ كَبِيرٍ. كُنَّا نَتَدَرَّبُ كَثِيرًا عَلَى تِلْكَ الحِوَارَاتِ فِي الاجْتِمَاعَاتِ، وَأَكَّدَ لِي الأَخُ “يُوخِن” أَنَّنِي عَلَى طَرِيقِ أَنْ أُصْبِحَ مُبَشِّرَةً مُمَيَّزَةً لِيَهْوَه.”
“فِي المَدْرَسَةِ، كُنْتُ وَحِيدَةً مَرَّةً أُخْرَى. كَانَتْ “مَارِي” تَجْلِسُ بِجَانِبِي كُلَّ صَبَاحٍ، وَلَكِنِّي لَمْ أَكْتَرِثْ.”
“هَا هِيَ، أُرِيدُ أَنْ أُعِيدَ لَكِ هَذَا، فَلَا تَغْضَبِي”، تِلْكَ كَانَتِ الكَلِمَاتُ الوَحِيدَةُ الَّتِي قُلْتُهَا لَهَا، وَأَنَا أُنَاوِلُهَا الهَدِيَّةَ الصَّغِيرَةَ الَّتِي أَحْضَرَتْهَا لِي فِي يَوْمِ مِيلَادِي.
كَانَ قَلَمًا وَرْدِيًّا غَرِيبًا، يَكْتُبُ كَأَيِّ قَلَمٍ عَادِيٍّ، وَلَكِنَّهُ مَصْنُوعٌ مِنْ بِلَاسْتِيكٍ نَاعِمٍ، وَفِي وَسَطِهِ عُقْدَةٌ سَمِيكَةٌ طَرِيفَةٌ.
بَدَتْ “مَارِي” مُتَأَثِّرَةً، وَقَالَتْ بِصَوْتٍ مُتَعَجِّبٍ: “كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّكِ سَتَفْرَحِينَ.”
هَزَزْتُ رَأْسِي. “أَنَا شَاهِدَةُ يَهْوَه، وَأَنْتِ تَعْرِفِينَ ذَلِكَ مِنْ خِلَالِ دِيبُورَا وَزِينْيَا”، قُلْتُ بِهُدُوءٍ، وَلَكِن بِحَزْمٍ. “وَلِذَلِكَ لَا أَحْتَاجُ إِلَى هَدَايَا، فَأَنَا لَا أَحْتَفِلُ أَبَدًا بِيَوْمِ مِيلَادِي، لِأَنَّ ذَلِكَ إِثْمٌ. لَا يَنْبَغِي عِبَادَةُ البَشَرِ، فَهَذَا أَمْرٌ سَخِيفٌ.”
تَبَادَلْنَا النَّظَرَاتِ، وَبَيْنَنَا عَوَالِمُ.
“كُنْتُ أَظُنُّ فَقَط… لِأَنَّنَا نَحْتَفِلُ فِي نَفْسِ اليَوْمِ…”
“هَذَا لَا يُهِمُّ”، قَاطَعْتُهَا بِنَفَادِ صَبْرٍ.
“يَا لِلْأَسَفِ”، قَالَتْ “مَارِي” وَهَزَّتْ كَتِفَيْهَا.
نَظَرْتُ إِلَيْهَا بِبُرُودٍ. هَلْ هِيَ حَقًّا مِنْ عِنْدِ الشَّيْطَانِ؟
“لِمَاذَا لَا تَأْتِينَ مَعَنَا إِلَى قَاعَةِ مَمْلَكَتِنَا؟” اقْتَرَحْتُ عَلَيْهَا أَخِيرًا، بِتَرَدُّدٍ، وَنَظَرْتُ مُبَاشَرَةً فِي عَيْنَيْهَا.
لَمْ تُجِبْ “مَارِي” بِنَعَمٍ وَلَا بِـلَا، وَلَكِنَّهَا لَمْ تَعُدْ إِلَى العَرْضِ، فَقَرَّرْتُ أَلَّا أُبَالِي بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ. كَانَ ذَلِكَ، بِالتَّأْكِيدِ، هُوَ الأَفْضَلُ.
كَذَلِكَ تَوَقَّفْتُ عَنْ لَمْسِ جَسَدِي. عَلَى الأَقَلِّ، لَمْ أَعُدْ أَفْعَلُهُ بِرِقَّةٍ. فَقَدْ وَجَدْتُ، وَلِحُسْنِ حَظِّي، طَرِيقَةً لِمُعَاقَبَةِ جَسَدِي الفَاسِدِ، ذَلِكَ الَّذِي يَتُوقُ إِلَى الحَنَانِ.
سَاعَدَتْنِي دَبَّابِيسُ صَغِيرَةٌ أَخَذْتُهَا مِنْ صُنْدُوقِ أَدَوَاتِ وَالِدِي. أَخْفَيْتُهَا بِعِنَايَةٍ فِي عُلْبَةٍ صَغِيرَةٍ عَلَى طَاوِلَةِ سَرِيرِي. وَعِنْدَمَا كَانَ الشَّيْطَانُ يَزُورُنِي فِي جَسَدِي، وَيُحَاوِلُ إِجْبَارِي عَلَى لَمْسِ نَفْسِي، كُنْتُ أَغْرِزُ تِلْكَ الدَّبَّابِيسَ فِي سَاقِي وَفِي تِلْكَ المِنْطَقَةِ الدَّافِئَةِ بَيْنَهُمَا، حَتَّى أَصِلَ إِلَى حَدِّ الأَلَمِ، وَأَهْزِمَ الشَّيْطَانَ مَرَّةً أُخْرَى.
وَفِي تِلْكَ اللَّحَظَاتِ، كُنْتُ أُصَلِّي.
“أُحِبُّ هَذَا الأَلَمَ”، كَتَبْتُ فِي مُفَكِّرَتِي. “فَهُوَ يُشْعِرُنِي بِأَنَّنِي عَلَى مَا يُرَامُ.”
كَانَتْ نَفْسِي قَدِ اسْتَعَادَتْ شَيْئًا مِنْ سَكِينَتِهَا، وَصِرْتُ أُحَافِظُ عَلَى قَدْرٍ مَعْقُولٍ مِنَ الْحَذَرِ وَالْيَقَظَةِ. وَكَانَ الْكُتَيِّبُ الَّذِي أَهْدَانِيهِ الأَخُ “يُوخِن” عَوْنًا كَبِيرًا لِي فِي ذَلِكَ، فَقَدْ أَكَّدَ لِي أَنَّنِي أَعُودُ إِلَى السَّبِيلِ الْقَوِيمِ مَرَّةً أُخْرَى.
وَبِفَضْلِ قِرَاءَتِي لِذَلِكَ الْكِتَابِ الصَّغِيرِ، فَهِمْتُ أَصْلَ تِلْكَ النَّزِيفَاتِ الْغَرِيبَةِ وَالْمُقْلِقَةِ الَّتِي تُصِيبُ الْفَتَيَاتِ يَوْمًا مَا؛ فَهِيَ – فِي جَوْهَرِهَا – هِبَةٌ مِنَ الرَّبِّ، إِذْ مَنَحَ جَسَدِي فُرْصَةَ الْخَلْقِ وَالْإِنْجَابِ، وَمِنْ خِلَالِهَا أُكَرِّسُ نَفْسِي لِخِدْمَةِ “يَهْوَه”. دَهِشْتُ، بَلْ انْبَهَرْتُ مِنْ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ الْخَفِيَّةِ.
وَأَمَّا تِلْكَ الْإِثَارَةُ الْمُرِيبَةُ الَّتِي اجْتَاحَتْنِي حِينَ لَمَسْتُ نَفْسِي، فَلَهَا اسْمٌ أَيْضًا: “الِاسْتِمْنَاءُ”. كَانَتِ الْكَلِمَةُ تُرْعِبُنِي كُلَّمَا تَلَوْتُهَا، وَقَدْ تَلَوْتُهَا مِرَارًا. وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ، كَانَتْ دُمُوعِي تَسِيلُ صَامِتَةً عَلَى خَدَّيَّ. كَمْ كُنْتُ قَرِيبَةً مِنَ الشَّيْطَانِ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ الْمُفْزِعَةِ حِينَ دَاعَبْتُ نَفْسِي! كُنْتُ مُسْتَلْقِيَةً، مُتَعَرِّقَةً فِي سَرِيرِي، أَقْرَأُ بِوُضُوحٍ أَنَّ ذَاكَ الْوَخْزَ الَّذِي أَفْرَحَنِي لَمْ يَكُنْ سِوَى إِغْرَاءٍ شَيْطَانِيٍّ، إِغْرَاءٍ خَبِيثٍ وَخَطِيرٍ.
صَلَّيْتُ طَوِيلًا لِـ”يَهْوَه”، وَطَلَبْتُ مِنهُ الْغُفْرَانَ، وَصِرْتُ أُوَاظِبُ عَلَى حُضُورِ الدُّرُوسِ وَالِاجْتِمَاعَاتِ أَكْثَرَ مِمَّا كُنْتُ عَلَيْهِ فِي السَّابِقِ.
“مَرَّةً مَدَحَنِي الأَخُ يُوخِنُ أَمَامَ الْجَمِيعِ فِي الِاجْتِمَاعِ، وَقَالَ بِفَرَحٍ: لَا يُوجَدُ فِي الْجَمَاعَةِ مَنْ يُوَاظِبُ عَلَى خِدْمَةِ التَّبْشِيرِ بِهَذَا النَّجَاحِ وَالِاسْتِمْرَارِ مِثْلِي.” وَشَعَرْتُ بِالْفَخْرِ يَمْلَأُ نَفْسِي حِينَ نَظَرَ إِلَيَّ الْجَمِيعُ.
وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ ذَلِكَ، بَدَأْتُ أَخْرُجُ أُسْبُوعِيًّا مَعَ وَالِدَةِ “رُوزْفِيتَا” إِلَى شَوَارِعِ الْحَيِّ لِنُبَشِّرَ الْمَارَّةَ. كُنْتُ أَقِفُ سَاعَاتٍ طَوِيلَةً دُونَ حَرَكَةٍ فِي الزَّاوِيَةِ نَفْسِهَا، أَعْرِضُ الْمَنَشُورَاتِ عَلَى مَنْ يَمُرُّ. وَرَغْمَ أَنَّ قَدَمَيَّ وَظَهْرِي كَانَا يُؤْلِمَانِنِي، وَأَنَّ الْبَرْدَ كَانَ يَسْرِي فِي عِرُوقِي، لَمْ أَكُنْ أَتَضَايَقُ، بَلْ كُنْتُ أَعْتَبِرُ ذَلِكَ نَوْعًا مِنَ التَّطْهِيرِ، كَفَّارَةً لِمَا ارْتَكَبْتُ مِنْ إِثْمٍ. وَكَانَ يُسْعِدُنِي أَنْ أُرَاقِبَ وُجُوهَ الْمَارَّةِ: مِنْهُمْ مَنْ نَظَرَ بِشَفَقَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَاحَ فِي عَيْنَيْهِ الرِّيبَةُ، وَآخَرُونَ بِشَيْءٍ مِنَ الْإِعْجَابِ.
وَكَنَتْ قَدْ كَتَبْتُ فِي مُفَكِّرَتِي:
“خِدْمَةُ التَّبْشِيرِ فِي الشَّارِعِ مُرْهِقَةٌ جِدًّا، وَأَجِدُ صُعُوبَةً فِي الْوُقُوفِ كُلَّ هَذَا الْوَقْتِ، لَكِنَّنِي أُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أَجْلِ يَهْوَه، كُلَّ شَيْءٍ، حَقًّا كُلَّ شَيْءٍ. أَعْتَقِدُ أَنَّهُ قَدْ غَفَرَ لِي. وَأَعْتَقِدُ أَنَّنِي سَأَكُونُ طَاهِرَةً قَرِيبًا مَرَّةً أُخْرَى. لَنْ أَرْتَكِبَ ذَنْبًا بَعْدَ الْيَوْمِ. يَجِبْ أَنْ يَفْتَخِرَ بِي يَهْوَه. فِي خِدْمَةِ التَّبْشِيرِ، يَرَانَا الْجَمِيعُ، وَهَذَا أَمْرٌ جَيِّدٌ، فَلَيْسَ لَدَيَّ مَا أُخْفِيه!”
“رَآنِيَتْ “دِيبُورَا” وَ”زِينِيَا” أَيْضًا، وَبَعْضُ الصِّبْيَةِ مِنْ صَفِّنَا كَانُوا فِي طَرِيقِهِمْ إِلَى حَلْبَةِ التَّزَلُّجِ. لَقَدْ رَأَوْنِي وَضَحِكُوا، وَكَانَتْ أَصْوَاتُهُمْ خَشِنَةً وَوَقِحَةً، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا شَيْئًا.”
“زِينِيَا سَيِّئَةٌ جِدًّا. سَخِرَتْ مِنِّي وَمِنْ جَدَّتِي، لَكِنَّنَا تَجَاهَلْنَاهَا تَمَامًا.”
“قَدْ كَرَّسْتُ حَيَاتِي لِيَهْوَه، وَلَا أُرِيدُ أَنْ أَرْتَكِبَ شَرًّا بَعْدَ الْآنَ. فِي الْآوِنَةِ الأَخِيرَةِ، رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ “يَسُوعَ” وَهُوَ يَقْتُلُ “زِينِيَا” وَ”دِيبُورَا”. كَانَ ذَلِكَ جَمِيلًا، وَلَكِنْ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ مُغَطًّى بِالدَّمِ. أُرِيدُ لِكُلِّ مَنْ كَانَ قَاسِيًا مَعِي أَنْ يَمُوتَ مِيتَةً مُرِيعَةً عِنْدَمَا تَأْتِي “هَرْمَجِدُّون”…”
وَهَكَذَا انْسَابَتِ الأَيَّامُ. وَفِي خَرِيفِ ذَلِكَ الْعَامِ بَلَغْتُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَتَغَيَّرَتْ مَدْرَسَةُ “زِينِيَا”، وَشَعَرْتُ بِالرَّاحَةِ، فَلَمْ أَعُدْ أَحْتَمِلُ سُخْرِيَتَهَا.
وَبِالتَّدْرِيجِ، بَدَأَتْ “مَارِي” تُصَادِقُ “فَابْيَان” وَ”سُوزَان”، وَهُمَا أَيْضًا مَعَنَا فِي الصَّفِّ، وَلَكِنَّهَا مَعَ ذَلِكَ ظَلَّتْ تُدَافِعُ عَنِّي.
وَكَانَتْ “إِسْتِرْ” آخِرَ صَدِيقَةٍ قَرِيبَةٍ لِي بَعْدَ أَنْ رُحِّلَتْ “رِيبِيكَا” إِلَى “مِيُونِيخ”، وَقَدِ انْتَقَلَتْ يَوْمًا مَا مَعَ وَالِدَيْهَا إِلَى جَنُوبِ أَلْمَانِيَا، إِلَى بَلْدَةٍ صَغِيرَةٍ قُرْبَ “شْتُوتْغَارْت”.
“سَأَشْتَاقُ إِلَيْكِ”، قُلْتُ لَهَا فِي لِقَائِنَا الأَخِيرِ فِي “قَاعَةِ الْمَمْلَكَةِ”.
“وَأَنَا أَيْضًا”، أَجَابَتْ “إِسْتِر”. “وَلَكِنَّنِي سَأَكْتُبُ إِلَيْكِ.”
أَوْمَأْتُ بِرَأْسِي، وَظَلَلْنَا نَتَبَادَلُ النَّظَرَ فِي صَمْتٍ طَوِيلٍ كَأَنَّنَا نَبْحَثُ فِي عُيُونِ بَعْضِنَا عَنْ مَا لَا يُقَالُ.
“هَانَّا؟” سَأَلَتْ “إِسْتِر” أَخِيرًا.
“مَمْ؟”
“هَلْ سَمِعْتِ شَيْئًا عَنْ “رِيبِيكَا” مَرَّةً أُخْرَى؟”
تَنَهَّدْتُ وَقُلْتُ: “لَا، وَأَنْتِ؟”
رَفَعَتْ “إِسْتِر” كَتِفَيْهَا، وَأَلْقَتْ نَظْرَةً حَذِرَةً حَوْلَهَا، ثُمَّ قَالَتْ بِخَفَرٍ بَعْدَ أَنْ تَأَكَّدَتْ مِنْ أَنْ لَا أُذُنًا تَسْمَعُنَا: “كُنَّا نَتَبَادَلُ الرَّسَائِلَ قَلِيلًا فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ.”
هَمَسْتُ وَفِي نَبْرَتِي مَسْحَةُ غَيْرَةٍ: “لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ حَتَّى عُنْوَانَهَا.” فَقَدْ كَانَتْ فِي الأَسَاسِ صَدِيقَتِي أَنَا، لَا صَدِيقَتَهَا.
قَالَتْ “إِسْتِر”: “حَصَلْتُ عَلَى عُنْوَانِهَا فِي “مِيُونِيخ” بِالصُّدْفَةِ. وَالِدِي وَوَالِدُ “رِيبِيكَا” صَدِيقَانِ مُقَرَّبَانِ جِدًّا.”
أَوْمَأْتُ، فَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ ذَلِكَ مُنْذُ زَمَنٍ.
أَضَافَتْ “إِسْتِر”، وَكَأَنَّهَا تَجِدُ فِي الْكَلَامِ رَاحَةً: “نَعَمْ… وَهُنَاكَ اسْتَمَعْتُ إِلَى أَحَادِيثَ غَرِيبَةٍ.” ثُمَّ هَمَسَتْ بِسُرْعَةٍ: “قِيلَ إِنَّ “رِيبِيكَا” قَدْ لَا تَكُونُ سَلِيمَةَ الْعَقْلِ تَمَامًا.”
“مَاذَا؟!” صَرَخْتُ، وَارْتَعَشَ صَوْتِي كَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّعِ الرَّعْدَ. أَخَافَنِي صَدَى صَوْتِي أَكْثَرَ مِمَّا أَخَافَ غَيْرِي.
نَظَرَتْ “إِسْتِر” حَوْلَهَا، ثُمَّ قَالَتْ بِقَلَقٍ: “لَا تَغْضَبِي، وَلَا تُصَدِّقِي كُلَّ مَا يُقَالُ. هُنَاكَ… الأَخُ “يُوخِن” خَلْفَنَا.”
ابْتَسَمْتُ وَقُلْتُ: “لَا خَوْفَ عَلَيْنَا مِنَ الأَخِ “يُوخِن”، يَا “إِسْتِر”. أَنَا أَثِقُ بِهِ، فَهُوَ صَدِيقِي.”
وَلَكِنَّ كَلِمَاتِي، لِسَبَبٍ لَا أَعْرِفُهُ، لَمْ تُبْدِدِ الْقَلَقَ فِي عَيْنَيْهَا.
قَالَتْ “إِسْتِر”: “إِذَا فَهِمْتُ صَحِيحًا، فَقَدْ رَفَضَتْ “رِيبِيكَا” بَغْتَةً أَنْ تَحْضُرَ الِاجْتِمَاعَاتِ، وَلَمْ تَعُدْ تُرِيدُ أَنْ تُعَمَّدَ أَيْضًا.”
قَاطَعْتُ هَمْسَهَا وَقُلْتُ: “أَعْلَمُ ذَلِكَ. وَالِدَايَ أَخْبَرَانِي أَنَّ “رِيبِيكَا” تَمُرُّ بِمَشَاكِلَ، وَلَكِنَّ أَحَدَ إِخْوَانِنَا فِي “مِيُونِيخ” تَكَفَّلَ بِهَا، وَ…”
قَاطَعَتْنِي “إِسْتِر” وَفِي صَوْتِهَا نَبْرَةُ أَسًى: “كُنَّا نَتَبَادَلُ الرَّسَائِلَ أَحْيَانًا. كَانَ الأَمْرُ مُعَقَّدًا، لَكِنَّنِي تَلَقَّيْتُ مِنْهَا ثَلَاثَ رَسَائِلَ، كَانَتْ تُرْسِلُهَا إِلَى مُعَلِّمَتِي.”
عَبَسْتُ وَقَلَّبْتُ حَاجِبَيَّ بِشَكٍّ.
فَأَضَافَتْ “إِسْتِر”: “هَانَّا، “رِيبِيكَا” أَخْبَرَتْنِي أَنَّ عَمَّهَا، الأَخَ “يُوسُف”، كَانَ يَضْرِبُهَا، وَيَحْبِسُهَا فِي غُرْفَةِ الضُّيُوفِ الضَّيِّقَةِ.”
وَخَفَضَتْ “إِسْتِر” رَأْسَهَا، وَأَشَارَتْ بِهَزَّةِ كَتِفَيْهَا إِلَى عَجْزِهَا، ثُمَّ قَالَتْ بِصَوْتٍ مَخْنُوقٍ: “ثُمَّ تَوَقَّفَتْ “رِيبِيكَا” عَنْ الْكِتَابَةِ فَجْأَةً.”
كَانَتْ عَيْنَاهَا الدَّاكِنَتَانِ مُثْقَلَتَيْنِ بِالْقَلَقِ، تَتَفَحَّصَانِ وَجْهِي كَأَنَّهُمَا تَبْحَثَانِ عَنْ تَصْدِيقٍ.
نَظَرْتُ إِلَيْهَا بِشَكٍّ خَفِيٍّ. لَمْ تَبْدُ لِي الْقِصَّةُ صَادِقَةً بِالضَّرُورَةِ.
وَفَجْأَةً، هَمَسَتْ “إِسْتِر”: “شْشْشْ… الأَخُ “يُوخِن” وَوَالِدُكِ يَقْتَرِبَانِ.”
قَالَ وَالِدِي وَهُوَ يَبْتَسِمُ: “مَرْحَبًا، أَنْتُمَا الاثْنَتَانِ! مَا الَّذِي تَهْمِسَانِ بِهِ بِكُلِّ هَذِهِ الْحَمَاسَةِ؟ هَلْ تُخْفِيَانِ أَسْرَارًا؟”
هَزَزْتُ رَأْسِي، وَكُنْتُ عَلَى وَشْكِ أَنْ أُخْبِرَ الأَخَ “يُوخن” وَوَالِدِي بِالْقِصَّةِ الْغَرِيبَةِ عَنْ “رِيبِيكَا” وَالأَخِ “يُوسُف” فِي “مِيُونِيخ”، وَلَكِنَّ “إِسْتِر” سَبَقَتْنِي وَقَالَتْ بِسُرْعَةٍ: “لَا، لَا شَيْءَ، نَحْنُ فَقَطْ كُنَّا نُوَدِّعُ بَعْضَنَا.”
ابْتَسَمْتُ وَحَوَّلْتُ نَظَرِي عَنْ “يُوخن”، كَأَنِّي لَمْ أَسْمَعْ شَيْئًا.
حَدَّقْتُ فِي “إِسْتِر” مُفَكِّرَةً… لِمَاذَا تَكْذِبُ عَلَى شُيُوخِ جَمَاعَتِنَا؟ لَمْ تُرِقْ لِي تِلْكَ الْخُدْعَةُ، لَكِنَّنِي لَزِمْتُ الصَّمْتَ. نَظْرَتُهَا الْقَلِقَةُ، الْمُتَرَقِّبَةُ، كَانَتْ كَفِيلَةً بِأَنْ تُنَبِّهَنِي إِلَى أَنَّ كَلِمَةً وَاحِدَةً قَدْ تُوقِعُهَا فِي مَأْزِقٍ خَطِيرٍ.
ثُمَّ اسْتَدَارَتْ “إِسْتِر” وَمَضَتْ مُبْتَعِدَةً. نَظَرْتُ إِلَى ظَهْرِهَا بِتَرَدُّدٍ… هَلْ يَجِبُ أَنْ أَحْزَنَ أَمْ أَفْرَحَ لِأَنَّهَا تَلَاشَتْ مِنْ حَيَاتِي فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ؟
وَبَعْدَ مَا يُقَارِبُ السَّنَةِ، وَقَعَتْ قِصَّةُ “السَّاحِرِ أُوز”.
كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ أَغُسْطُس، وَقَدْ انْقَضَتْ عُطْلَةُ الصَّيْفِ تَوًّا. كُنَّا نَقِفُ فِي رِوَاقِ الْمَدْرَسَةِ، أَمَامَ فَصْلِنَا، نَنْتَظِرُ السَّيِّدَةَ “هِيرْتْسُوغ” لِتَفْتَحَ الْبَابَ وَتَبْدَأَ الْحِصَّةَ الأُولَى.
وَلَكِنَّهَا لَمْ تَأْتِ.
كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا غَرِيبًا، وَسُرْعَانَ مَا انْطَلَقَ ضَجِيجُ “الصَّفِّ 9ب” الْمُعْتَادُ، تِلْكَ الضَّوْضَاءُ الْفَارِغَةُ الَّتِي تَنْفَجِرُ حِينَ يُمْنَحُ طُلَّابُنَا حِصَّةً بِلَا مُعَلِّمٍ.
كَانَتْ “أَمَانْدَا” وَ”دِيبُورَا” تَسْتَمِعَانِ مَعًا إِلَى أُغْنِيَةٍ عَلَى جِهَازِ “وُوكْمَان” “دِيبُورَا”.
وَكَانَتْ “مَارِي” وَ”سُوزَان” وَ”فَابْيَان” قَدِ انْسَحَبُوا إِلَى طَرَفِ النَّافِذَةِ الْعَالِيَةِ، يُنَاقِشُونَ بِصَوْتٍ عَالٍ فِيلْمَ “الْوَرْدَةِ الْبَيْضَاء” الَّذِي شَاهَدُوهُ مَعًا فِي الْيَوْمِ السَّابِقِ.
أَمَّا الْبَاقُونَ، فَكَانُوا يَصْنَعُونَ الضَّجِيجَ الْمُتَقَطِّعَ الْمُرْهِقَ، كَمَا جَرَتِ الْعَادَةُ.
وَقَفْتُ وَحْدِي، أُرَاقِبُ ذَلِكَ الصَّخَبَ عَنْ بُعْدٍ، وَأَشْعُرُ بِاخْتِلَافٍ كَبِيرٍ عَنْهُمْ. لَمْ تَعُدْ لِي رَغْبَةٌ فِي أَنْ أُشْبِهَهُمْ.
رَاوَدَتْنِي الذِّكْرَى عَنْ “رُوزْفِيتَا” وَأَيَّامِ مَوَاعِظِنَا الْهَادِئَةِ مَعَهَا، وَعَنْ جَدَّتِي الَّتِي كَانَتْ تُرَافِقُنِي فِي خِدْمَةِ الْوَعْظِ فِي الشَّوَارِعِ. فَكَّرْتُ فِي الأَخِ “يُوخن” وَالأُخْتِ “بْرِيجِيت”، الَّذَيْنِ بَدَأْنَا مَعَهُمَا دِرَاسَةً جَدِيدَةً لِلكِتَابِ الْمُقَدَّسِ.
اِسْتَحْضَرْتُ جَمْعَاتِنَا الْكَثِيرَةَ، وَأَغَانِينَا الَّتِي كُنَّا نُرَدِّدُهَا، وَخَيَالِي عَنْ “يَهْوَه” وَوُعُودِهِ بِجَنَّتِهِ الأَلْفِيَّةِ، تِلْكَ الَّتِي وَعَدَنَا بِهَا.
كُنْتُ أُحِبُّ جَمَاعَتَنَا الصَّغِيرَةَ الْمُقَدَّسَةَ، وَأَحْتَقِرُ تِلْكَ الدُّنْيَا الْكَبِيرَةَ الْقَاسِيَةَ، ذَلِكَ الْعَالَمَ الشَّيْطَانِيَّ الْوَحْشِيَّ الآخَرَ.
وَقَفْتُ، وَجْهِي مُغْلَقٌ، وَظَهْرِي مُسْتَنِدٌ إِلَى الْجِدَارِ الْبَارِدِ، أَشْعُرُ بِالْحُرِّيَّةِ، مُخْتَارَةً، وَمَحْمِيَّةً.
“صَبَاحُ الْخَيْرِ!” صَاحَتْ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ وصَوْتٌ مُبْتَهِجٌ، غَطَّى لَحْظَةً ضَجِيجَ “الصَّفِّ 9ب”.
فَتَحْتُ عَيْنَيَّ، وَإِذَا بِاِمْرَأَةٍ طَوِيلَةٍ نَحِيلَةٍ، شَابَّةٍ، مُزَيَّنَةٍ بِالْمَكْيَاجِ، وَمَلَابِسِهَا زَاهِيَةُ الأَلْوَانِ، تَقِفُ أَمَامِي.
“أَنَا مُعَلِّمَتُكُمْ الْجَدِيدَةُ”، قَالَتْ وَهِيَ تَجْلِبُ مَفَاتِيحَهَا بَيْنَ يَدَيْهَا.
صَفَّرَ بَعْضُ الأَوْلَادِ بِإِعْجَابٍ، وَبِسُنُونِهِمْ يَصْدُرُونَ صَوْتًا يُشْبِهُ التَّصْفِيرَ.
“حَسَنًا، تَفَضَّلُوا بِالدُّخُولِ”، قَالَتِ الْمُعَلِّمَةُ الْغَرِيبَةُ، وَأَغْلَقَتِ الْبَابَ بَعْدَ أَنْ فَتَحَتْهُ.
سَأَلَتْ “أَمَانْدَا” بِفُضُولٍ: “أَيْنَ اخْتَفَتِ السَّيِّدَةُ “هِيرْتْسُوغ”؟”
هَزَّتِ الْمُعَلِّمَةُ كَتِفَيْهَا وَقَالَتْ: “عَلَى حَدِّ عِلْمِي، هِيَ سَلَّمَتْ صَفَّكُمْ لِشَخْصٍ آخَرَ.”
وَأَضْفَى هَذَا الْخَبَرُ جَوًّا مِنَ الْبَهْجَةِ عَلَى “الصَّفِّ 9ب”.
قَالَتِ الْمُعَلِّمَةُ الْجَدِيدَةُ، وَكَانَتْ تَبْدُو شَابَّةً إِلَى دَرَجَةٍ يَصْعُبُ مَعَهَا تَصْدِيقُ أَنَّهَا مُخَوَّلَةٌ لِتَعْلِيمِنَا: “سَأُدَرِّسُكُمْ مُؤَقَّتًا، لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ أَحَدٌ آخَرُ مُتَاحٌ.”
“اِسْمِي “فِيرَا وَينْتِر”، أَنَا مُتَدَرِّبَةُ تَدْرِيسٍ، وَأُعَلِّمُ اللُّغَاتِ كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ السَّيِّدَةُ “هِيرْتْسُوغ”. وَأَنَا أَيْضًا مُعَلِّمَةُ مُوسِيقَى.”
اِسْتَمَعَ الصَّفُّ ٩ب بِاهْتِمَامٍ فَاتِرٍ، وَلٰكِنَّنِي لَاحَظْتُ، مِنْ طَرَفِ عَيْنِي، أَنَّ رُوبِرْت، الَّذِي كَانَ يَجْلِسُ عَلَى بُعْدِ مَكْتَبٍ وَاحِدٍ مِنِّي، قَدْ شَرَعَ فِي رَسْمِ صُورَةٍ مُفَصَّلَةٍ لِمُعَلِّمَتِنَا الْجَدِيدَةِ عَلَى غِلَافِ دَفْتَرِهِ الدِّرَاسِيِّ، وَقَدْ بَدَتْ فِيهَا عَلَى نَحْوٍ شِبْهِ عَارٍ. فَأَدَرْتُ وَجْهِي عَنْهُ وَفِي نَفْسِي مَسْحَةُ اِشْمِئْزَازٍ.
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، قَالَتْ فِيرَا وِينْتَر بِصَوْتٍ مُتَفَائِلٍ: “لَدَيَّ فِكْرَةٌ قَدْ تُسَاعِدُنَا فِي التَّعَارُفِ أَكْثَر. هَلْ تَعْرِفُونَ جَمِيعًا قِصَّةَ السَّاحِرِ أُوز؟”
هَزَّ الطُّلَّابُ أَكْتَافَهُمْ بِبَلَادَةٍ، وَلَمْ يُجِبْ سِوَى فَابْيَان، الَّذِي قَالَ وَهُوَ يَتَبَسَّمُ: “لَدَيَّ شَرِيطُ الْفِيدْيُو لِتِلْكَ الْمَسْرَحِيَّةِ الْغِنَائِيَّةِ.”
فَهَزَّتِ السَّيِّدَةُ وِينْتَر رَأْسَهَا بِسُرُورٍ، وَقَالَتْ: “بِالضَّبْط! الْمَسْرَحِيَّةُ الْغِنَائِيَّةُ هِيَ مَا سَنَتَنَاوَلُهُ. أُرِيدُ أَنْ أُدَرِّبَكُمْ عَلَيْهَا، وَنُقَدِّمَهَا عَلَى الْمَسْرَحِ أَمَامَ الْجُمْهُورِ.”
اِنْتَظَرَتْ رُدُودَ أَفْعَالِنَا بِفُضُولٍ.
فَصَاحَ رُوبِرْت، مُتَفَاجِئًا، وَهُوَ يُغْلِقُ دَفْتَرَهُ بِغَضَبٍ: “سَنُقَدِّمُ مَسْرَحِيَّةً لِلْأَطْفَالِ وَنُغَنِّي أَيْضًا؟! هٰذَا سَخَافَةٌ! نَحْنُ لَسْنَا جَوْقَةَ مُطْرِبِينَ…”
فَرَدَّتْ أَمَانْدَا بِحَمَاسٍ: “أَنَا أَرَى الْفِكْرَةَ جَيِّدَةً جِدًّا! بِالطَّبْعِ سَأَكُونُ دُورُوثِي.” وَرَفَعَتْ ذِرَاعَيْهَا عَلَى نَحْوٍ دِرَامِيٍّ، ثُمَّ أَخَذَتْ تُغَنِّي: “Somewhere over the rainbow…”
فَابْتَسَمَتِ السَّيِّدَةُ وِينْتَر، وَقَالَتْ: “يَبْدُو أَنَّكِ تَعْرِفِينَ الْمَسْرَحِيَّةَ جَيِّدًا.”
فَهَزَّتْ أَمَانْدَا كَتِفَيْهَا، وَقَالَتْ: “مَنْ لَا يَعْرِفُهَا؟ يُعِيدُونَ عَرْضَهَا كُلَّ سَنَةٍ فِي التِّلْفَازِ عِنْدَ عِيدِ الْمِيلَادِ.” وَأَدَارَتْ عَيْنَيْهَا عَلَى نَحْوٍ سَاخِرٍ.
فَضَحِكَتْ فِيرَا وِينْتَر بِصَوْتِهَا الْمُلَوَّنِ، وَقَالَتْ: “رُبَّمَا فَقَطْ عَمَّتُنَا يَهْوَه لَا تَعْرِفُهَا.” ثُمَّ نَظَرَتْ إِلَيَّ نَظْرَةً سَاخِرَةً.
فَتَسَاءَلَتِ السَّيِّدَةُ وِينْتَر، مُسْتَغْرِبَةً: “مَنْ؟”
فَأَجَابَ فَابْيَان وَهُوَ يَتَنَهَّدُ: “إِنَّهَا تَعْنِي هَانَا.”
فَسَأَلَتِ الْمُعَلِّمَةُ الْجَدِيدَةُ بِفُضُولٍ: “وَكَيْفَ تُسَمُّونَهَا أَنْتُنَّ؟”
فَارْتَبَكَتْ أَمَانْدَا، وَارْتَفَعَتْ قَلِيلًا، ثُمَّ قَالَتْ بِنَفَادِ صَبْرٍ: “عَمَّةُ يَهْوَه.”
وَأَضَافَتْ بِنَبْرَةٍ غَاضِبَةٍ: “إِنَّهَا مِنْ أُولَئِكَ الْغُرَبَاءِ، لَا يُسْمَحُ لَهَا إِلَّا بِقِرَاءَةِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ وَكُتُبِهَا الْغَرِيبَةِ، وَعَائِلَتُهَا لَيْسَ لَدَيْهَا حَتَّى جِهَازُ تِلْفَازٍ…”
فَشَعَرْتُ بِغُصَّةٍ فِي مَعِدَتِي، وَأَدَرْتُ وَجْهِي سَرِيعًا، هَرَبًا مِنَ الْخِزْيِ.
وَلَكِنْ، وَلِحُسْنِ الْحَظِّ، صَاحَتْ فِيرَا وِينْتَر: “كَفَى الآن!”
وَأَحْسَسْتُ بِرَاحَةٍ عَارِمَةٍ، لِأَنَّهَا لَمْ تَسْأَلْنِي عَمَّا إِذَا كُنْتُ أَعْرِفُ قِصَّةَ “السَّاحِرِ أُوز” أَمْ لَا. فَفِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، كُنْتُ سَأُضْطَرُّ لِلِاعْتِرَافِ – وَبِكُلِّ خَجَلٍ – أَنَّ أَمَانْدَا، هٰذِهِ الْمُتَبَجِّحَةَ، عَلَى حَقٍّ… بِشَكْلٍ مُؤْلِمٍ.
لَمْ يَسبِقْ لِي أَنْ سَمِعتُ بِتِلكَ الحِكايَةِ قَطُّ؛ فَأنا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ أَيَّ كُتُبٍ دُنْيَوِيَّةٍ، وَلَا حِكايَاتٍ شَعْبِيَّةٍ عاديَّةٍ، وَلَا قَصَصًا مِنْ هَذَا النَّوْعِ.
وَلَكِنْ فِيرَا وِينْتَر رَوَتْ لَنَا، حَتَّى نِهَايَةِ الحِصَّةِ، قِصَّةَ الفَتَاةِ المَرِحَةِ “دُورُوثِي”، الَّتِي خَطِفَهَا الإِعْصَارُ مَعَ كَلْبِهَا “تُوتُو” إِلَى أَرْضِ “أُوز” السِّحْرِيَّةِ، وَهُنَاكَ خَاضَتْ مَغَامَرَاتٍ عَجِيبَةً قَبْلَ أَنْ تَعُودَ إِلَى “كَانْسَاس”، حَيْثُ يَنْتَظِرُهَا عَمُّهَا “هِنْرِي” وَعَمَّتُهَا “إِيمْ”.
اِسْتَمَعْتُ بِشَيْءٍ مِنَ الرِّيبةِ، وَلَكِنْ بَدَتْ لِي القِصَّةُ بَرِيئَةً.
فِي اليَوْمِ التَّالِي، وَزَّعَتِ السَّيِّدَةُ وِينْتَر نُسَخًا مِنْ رِوَايَةِ “سَاحِرِ أُوز” لِلْكَاتِبِ “لِيمَن فْرَانك بُوم”، وَبَعْدَ أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ، شَاهَدْنَا فِي حِصَّةِ المُوسِيقَى العَرْضَ الغِنَائِيَّ الأَمْرِيكِيَّ الَّذِي يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ.
شَعَرْتُ وَكَأَنِّي مَسْحُورَةٌ؛ فَأَنَا لَمْ أُشَاهِدْ فِيلْمًا عَلَى التِّلْفَازِ قَطُّ، وَأَعْجَبَتْنِي القِصَّةُ وَالمُوسِيقَى، وَالسَّاحِرُ العَظِيمُ “أُوز”، الَّذِي تَبَيَّنَ أَنَّهُ فِي الحَقِيقَةِ صَغِيرٌ وَضَعِيفٌ وَلَا شَأْنَ لَهُ.
عِنْدَمَا دَقَّ جَرَسُ الاِسْتِرَاحَةِ الكُبْرَى، قَالَتِ السَّيِّدَةُ وِينْتَر: “فِي الأُسْبُوعِ القَادِمِ سَنُجْرِي بَعْضَ تَدْرِيبَاتِ الغِنَاءِ، ثُمَّ نُقَرِّرُ مَنْ سَيُؤَدِّي كُلَّ دَوْرٍ.”
اِبْتَسَمَتْ “أَمَانْدَا” وَقَالَتْ بِثِقَةٍ: “أَنَا سَأَكُونُ دُورُوثِي، هَذَا مُؤَكَّد.”
وَلَكِنَّ الأُمُورَ لَمْ تَسِرْ كَمَا تَوَقَّعَتْ.
فِي بَدَايَةِ حِصَّةِ المُوسِيقَى، جَعَلَتْنَا السَّيِّدَةُ وِينْتَر نُغَنِّي أَغَانِيَّ مُخْتَلِفَةً بِصُورَةٍ عَشْوَائِيَّةٍ.
بَدَأَتْ “أَمَانْدَا”، وَكَانَتِ السَّيِّدَةُ وِينْتَر تُرَافِقُهَا بِالعَزْفِ عَلَى البِيَانُو، فَغَنَّتْ “Somewhere over the rainbow” كَمَا وَعَدَتْنَا.
ثُمَّ سَأَلَتْنَا: “هَلْ كُنْتُ جَيِّدَةً؟” وَمَدَّتْ يَدَهَا لِتُرَتِّبَ خُصْلَاتِ شَعْرِهَا الأَشْقَرِ عَلَى جَبِينِهَا بِرِضًا.
اِبْتَسَمَتِ السَّيِّدَةُ وِينْتَر، وَلَكِنَّهَا لَمْ تُجِبْ.
ثُمَّ غَنَّتْ “مَارِي” مَقْطَعًا مِنْ مَسْرَحِيَّةِ “Hair”، وَغَنَّتْ “سُوزَان” ـ لِعَدَمِ وُجُودِ فِكْرَةٍ أُخْرَى ـ أُغْنِيَةً عَنْ عِيدِ المِيلَاد.
ضَحِكَتِ السَّيِّدَةُ وِينْتَر.
قَدَّمَ “بَاوْل” أُغْنِيَةً لِفِرْقَةِ “KISS”، وَغَنَّتْ “دِيبُورَا” مَقْطُوعَةَ “فَرْحَةِ بِيتهُوفِن” الجَمِيلَةَ.
وَقَبْلَ نِهَايَةِ الحِصَّةِ، أَلْقَتِ السَّيِّدَةُ وِينْتَر نَظْرَةً فَاحِصَةً عَلَى مُلَاحَظَاتِهَا.
ثُمَّ قَالَتْ بِاِبْتِسَامَةِ رِضًا: “لَقَدْ شَارَكَ الكَثِيرُونَ بِالفِعْلِ، وَكُنْتُ أَظُنُّ أَنَّهُ لَنْ يَجْرُؤَ أَحَدٌ سِوَى أَمَانْدَا.”
سَأَلَتْ “أَمَانْدَا” بِحَمَاسٍ: “هَلْ سَنَبْدَأُ الآنَ بِتَوْزِيعِ الأَدْوَارِ؟”
أَجَابَتِ السَّيِّدَةُ وِينْتَر: “سَنَصِلُ إِلَى ذَلِكَ بَعْدَ قَلِيلٍ.” ثُمَّ نَظَرَتْ نَحْوِي وَقَالَتْ: “هَا أَنْتِ، هَانَّا، مَاذَا عَنْكِ؟ أَلَا تُرِيدِينَ الغِنَاءَ أَنْتِ أَيْضًا؟”
اِرْتَجَفْتُ وَخَجِلْتُ حَتَّى اِحْمَرَّ وَجْهِي.
ضَحِكَتْ ديبُورَا وقالتْ: “آه، هي؟ هي لا تَعرِفُ سِوى أغانٍ عن يسوعَ وكلامِه فقط…”
فانفجرَ صفُّ التاسعةِ “ب” ضَحِكًا، غيرَ أنّ “ماري” أَلْقَتْ نَحوِي نَظرةً وَدُودةً تُشيعُ الدفءَ في القلبِ، كأنّها تَسندُني صامتةً.
شَعَرْتُ بانزعاجٍ داخليٍّ غامض، وتَلعثَمتُ قائلةً: “أنا… أنا…”
لكنَّ السيّدةَ “وينتر” ابتسمتْ لي بلُطْفٍ مُشجِّعٍ.
جمعتُ شجاعتي في لحظةِ صمتٍ قصيرة، وأومأتُ برأسي، مع أنّني لم أكن أعلمُ بعدُ ما الّذي سأتفوَّهُ به.
قالتْ السيّدةُ “وينتر”: “يُمكنُكِ أن تُغنِّي ما تشائين؛ أغنيةً شعبيّة، أو أغنيةَ أطفال، أو حتى ترنيمةً كنسيّة… فقطِ اختاري شيئًا يُشبهُكِ.”
عبسَ “روبرت”، وسدَّ أذنيه بإصبعيه بسخريةٍ صارخة، ثمّ صاحَ بصوتٍ تمثيليٍّ مُفتعَل: “يا ربُّ، ارحم!”، ونظرَ إليَّ باحتقارٍ مفضوح.
ارتفعتْ كتفايَ بتردُّدٍ، وكلُّ شيءٍ بدا مُضطربًا في رأسي، كأنَّ ضوضاءَ العالمِ تسكنني. لكن فجأةً، ومِن حيثُ لا أدري، انبثقتْ ذِكرى قديمة. أُمِّي، أُمِّي البيولوجيّة، حين كنتُ صغيرةً جدًّا، كانت تُغنِّي لي أغنيةً إنجليزيّة من أغاني “البيتلز”. شيءٌ في داخلي أيقظَ تلك النغمة فجأة.
أخذتُ نفسًا عميقًا، وقُمتُ واقفةً كأنّني أنفصلتُ عن جسدي. ثمّ بدأتُ أُغنِّي، بخجلٍ بادئ الأمر، لكن بثباتٍ ينمو:
“When I get older, losing my hair, many years from now…”
ومع كلّ كلمةٍ، كانت الجرأةُ تزدادُ في نبرتي. يا لغرابةِ هذا القلب! ما زلتُ أتذكَّرُ الكلماتِ كاملة، رغمَ أنّ آخرَ مرّةٍ سمعتُ فيها الأغنية كانت في عُمقِ الطفولةِ المنسيّ.
في بيتِنا، كانت “روزفيتا” تَحرصُ حرصًا شديدًا على ألا أستمعَ إلى الراديو، ولم أمتلك أشرطةً ولا ألبومات.
وحين انتهيتُ وجلستُ، شعرتُ بخفّةٍ لا تُوصَف، وفرحٍ صامتٍ يُضيءُ زوايا القلبِ مثلَ شمعةٍ صغيرةٍ في عتمةٍ كثيفة.
صمتَ الصفُّ، لحظةً واحدةً فقط، لكنها كانت لحظةً كاملةً في معناها.
قالت السيّدة “وينتر” بعدها بنبرةِ إعجابٍ هادئة: “لقد كانت أغنيةً رائعةً حقًّا.” وأومأتْ لي بإكبار.
ثمّ جاءتِ المعجزة.
أعلنتْ السيّدةُ “وينتر” أنّ الصفَّ سيصوّتُ لاختيار من سيلعبُ دور “دوروثي”، وكانت تلك لحظةً مشهودة. ومع أنّي لم أكن أتوقّع شيئًا، فقد اختارَ أكثرُ الطلّابِ – وبأغلبيّةٍ واضحة – أن أكون أنا!
ما عدا “أماندا” و”ديبورا” و”روبرت”، كان الجميعُ مُؤيّدًا لي.
لم أُصدِّق في البداية… ولم تُصدّق “أماندا” أيضًا.
صرختْ بغضبٍ مبحوح: “هل جُنِنْتُم؟” وأَلْقَتْ عليَّ نظرةً باردةً كالثلج. “أتُريدون أن تَدَعوا تِلك العَمَّةَ المجنونة، تانت يَهْوَه، تَلعبُ الدورَ الرئيسيّ؟”
لكنَّ “فابيان” انتفضَ غاضبًا وقالَ: “اصمتي، يا أماندا! لقد غنَّتْ جيّدًا، أفضل مِن الجميع، فلماذا لا تَلعبُ دورَ دوروثي؟”
أومأتِ السيّدةُ “وينتر” بحزمٍ وقالت: “هذا هو الأمر. هانا ستلعبُ دورَ دوروثي.”
وامتلأَ رأسي بدوارٍ لذيذٍ من شِدّة الفخر.
تَنَفَّسَتْ أماندا بِغَضَبٍ، وقالت ساخرةً: “سَخيف! لَنْ يَسمَحَ لَها آباؤُها الأَغْبِياءُ بِذلِكَ على أَيِّ حالٍ، أَمْ هَلْ سَيَلْعَبُ يَسوعُ مَعَهُمْ لِيَحرُسَها بِنَفْسِهِ؟”
فَعَمَّ الصَّمْتُ بِغْتَةً، وكأنَّ الظِّلالَ انْسَحَبَتْ على الوُجوهِ. وَعَرَفْتُ تمامًا ما كان يَدُورُ في أَذهَانِهِم: الرِّحلاتُ الصَّفِّيَّةُ، ودَورةُ السِّباحَةِ في المَسبَحِ البَلَديّ، والحَفَلاتُ العَديدَةُ الَّتِي كُنْتُ أَغِيبُ عَنْها دائِمًا، وخُصوصًا حَفَلاتُ عيدِ الميلادِ السَّنَويَّةُ في قاعَةِ المَدرَسَةِ. دَائِمًا، دَائِمًا، كُنْتُ الغائِبَةَ عَنْ كُلِّ شَيء.
قُلتُ، في ذَلِكَ الصَّمْتِ الَّذِي شَبِهَ التَّأَمُّلِ: “سَأَلعَبُ. سَأُشارِكُ بِالتَّأْكِيدِ. لَنْ يَمنَعَنِي والِدَايَ…”
وأَضْفَيْتُ على صوتي حَزمًا وَثِقَةً لم أَعرِفْ مِنهُما مِثْلَهُما مِنْ قَبل.
صاحَ روبرت مازِحًا: “هَلِّلويّا…”
وَهَمَسَتْ أماندا ساخِرَةً: “مَنْ صَدَّقَ ذَلِكَ، صارَ سَعِيدًا.”
قالتِ السَّيِّدَةُ وينتَر بِصَوْتٍ صارِمٍ: “إذًا، كُلُّ شَيءٍ على ما يُرام.” وَأَلْقَتْ نَظْرَةً صارِمَةً على الاثنَينِ. “وَإِنْ ظَهَرَتْ أَيَّةُ مَشاكِلَ، يُمْكِنُنِي التَّحَدُّثُ مَعَ والِدَيْكِ يا هانا.”
سَخِرَتْ أماندا مُتَكَبِّرَةً: “لَقَدْ حاوَلَ آخَرُونَ قَبْلَكِ، وَلَكِنَّكِ سَتُكَلِّمِينَ جِدارًا. لِلأسَفِ، آباءُ هانا مُتَصَلِّبُونَ جِدًّا…”
فقاطَعَتْها السَّيِّدَةُ وينتَر بِحَزْمٍ: “كَفَى يا أَماندا!”
وَكُنْتُ أَنا، جالِسَةً في مَكاني، صامِتَةً كَجَذْعٍ ذابِلٍ، أَشْعُرُ مِنْ جَديدٍ بِذلِكَ الإِحْساسِ المُرِّ: اخْتَفَتْ كُلُّ فَرَحَتي، كُلُّ كِبْرِيائِي، كَأَنَّهُما لَمْ يَوجَدا أَصْلًا. وَبَقِيَ خَوْفِي. خَوْفِي مِنْ أَنْ أُحْرِجَ نَفْسِي مَرَّةً أُخْرَى، وَأَنْ أُسْتَبعَدَ كَعادَتي، وَأَنْ أَبْقَى وَحِيدَةً مَرَّةً أُخْرَى.
فَما الَّذِي سَيَقُولُهُ والِدَيَّ لو أَخْبَرْتُهُما بِأَنَّنِي سَأُؤَدِّي الدَّوْرَ الرَّئِيسِيَّ في مَسرَحِيَّةِ المَدرَسَة؟
فِي المَساءِ، دَخَلَ والِدِي إلى المَطبَخِ، حَيثُ كُنْتُ أَجلِسُ مَعَ روزفِيتَا. كانَتِ السَّاعَةُ تَقرُبُ مِنَ العاشِرَةِ، وَكانَ الأَخُ بَاوْل وَالأَخُ يُوخن قَد غادَرا تَوًّا بَعدَ أنِ الْتَقَيا بِوالِدِي لِدِراسَةِ الكِتابِ المُقَدَّسِ.
قالَ والِدِي، مُبتَدِئًا الحَديثَ بِنَبْرَةٍ هادِئَةٍ: “الأَخُ يُوخن لَمْ يَكُن راضِيًا عَنْكِ اليَومَ يا هانا.”
ارْتَعَشْتُ، وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ بِحيرَةٍ صامِتَةٍ.
“قالَ إِنَّ هانا يَجِبُ أَنْ تَبدَأَ فَوْرًا بِارْتِداءِ حَمالَةِ صَدرٍ، وَأَنْ تَجدِلَ شَعرَها إِذا خَرَجَتْ مِنَ البَيْتِ، فَالشَّعْرُ المُنْسَدِلُ يَبدُو مُثيرًا قَليلًا، كَما قالَ الأَخُ يُوخن.”
احْمَرَّتْ وَجْنَتايَ خَجَلًا.
وَلَكِنَّنِي تَمْتَمْتُ مُتَلَعْثِمَةً: “وَلَكِن…”
فَهَزَّتْ روزفِيتَا رَأْسَها بِسُرْعَةٍ، وقالَت: “سَنَشتَرِي لَها حَمالَةَ صَدرٍ، وَأَيْضًا يُمكِنُنا قَصُّ شَعرِها، فَهُوَ سَيَكُونُ أَكثَرَ عَمَلِيَّةً.”
نَظَرْتُ مِنْ روزفِيتَا إِلَى والِدِي، وَمِنْهُ إِلَى زَوْجَةِ أَبِي.
وَهَمَسْتُ بِخَجَلٍ: “وَلَكِنِّي لا أُرِيدُ أَنْ يُقَصَّ شَعْرِي.”
فَكَّرَتْ روزفِيتَا لَحْظَةً، ثُمَّ قَالَتْ وَهِيَ تَتَفَحَّصُ شَعْرِي الْمُنْسَدِلَ بِيَدَيْهَا: “إِذَنْ، سَنَرْفَعُهُ إِلَى الْأَعْلَى، هَكَذَا مَثَلًا. مَا رَأْيُكَ يَا مِيشَائِيل؟”
كَانَ فِي نَبْرَتِهَا قَدْرٌ مِنَ الْحِرْصِ، وَلَكِنَّنِي شَعَرْتُ بِالِارْتِبَاكِ، فَهَمَسْتُ مُتَوَتِّرَةً: “لَا تَفْعَلِي، هَذَا يُؤْلِمُ، سَتُجْرَحِينَ شَعْرِي.”
فَقَالَتْ بِنَبْرَةٍ جَافَّةٍ: “هُرَاءٌ.”
ثُمَّ أَخَذَتْ تَلُفُّ شَعْرِي الْأَشْقَرَ الْمُتَفَلْفِلَ إِلَى عُقْدَةٍ صَغِيرَةٍ، وَضَغَطَتْهَا عَلَى مُؤَخِّرَةِ رَأْسِي، كَأَنَّهَا تَخْتَبِرُ شَكْلَهَا.
وَقَالَتْ مُبْتَسِمَةً تُطَمْئِنُنِي: “هَكَذَا تَبْدِين جَمِيلَةً.”
قُلْتُ بِاسْتِغْرَابٍ، وَفِي نَبْرَتِي نُفُورٌ طُفُولِيٌّ: “أَنَا لَسْتُ جَدَّةً!”
وَخَطَرَ فِي ذِهْنِي تِلْكَ الْعُقْدَةُ الْمُشَدَّةُ الَّتِي كَانَتْ تَرْبِطُهَا وَالِدَةُ روزفِيتَا أَمَامَ الْمِرْآةِ كُلَّ صَبَاحٍ.
فَقَالَتْ وَهِيَ تَلْمَعُ فِي عَيْنَيْهَا نِيَّةُ التَّدْبِيرِ: “سَأَجِدُ حَلًّا مُنَاسِبًا.”
وَقَبَّلَتْ جَبِينِي بِرِقَّةٍ، ثُمَّ قَالَتْ: “وَالآن، هَيَّا إِلَى السَّرِيرِ.”
وَدَفَعَتْنِي نَحْوَ غُرْفَتِي، وَفِي آخِرِ اللَّيْلِ، قَبْلَ أَنْ يُغْلَقَ السِّتَارُ عَلَى يَوْمٍ طَوِيلٍ، قَالَتْ:
“وَغَدًا بَعْدَ الظُّهْرِ، سَنَشْتَرِي لَكِ بَعْضَ حَمَّالَاتِ الصَّدْرِ الْعَمَلِيَّةِ، يَا هَانَا.”
كَانَ فِي صَوْتِهَا نَغْمَةٌ مُسْتَتِرَةٌ مِنَ الِاسْتِنْكَارِ، كَأَنَّهَا تُلَوِّمُنِي عَلَى مَا لَا يُلَامُ عَلَيْهِ.
وَشَعَرْتُ بِالْخَجَلِ يَغْمُرُنِي، فَطَوَيْتُ ذِرَاعَيَّ عَلَى صَدْرِي بِحَرَكَةٍ فُجَائِيَّةٍ.
فَأَضَافَتْ روزفِيتَا، بِلَا رَحْمَةٍ، وَهِيَ تُحَدِّقُ فِيَّ وَتَهُزُّ رَأْسَهَا:
“مَعَ أَنَّكِ فَتَاةٌ نَحِيفَةٌ جِدًّا، فَبِهَذَا الصَّدْرِ تَبْدِين غَيْرَ مُتَنَاسِقَةٍ وَقَلِيلَةَ اللُّطْفِ. الْأَخُ يُوخن مُحِقٌّ، وَكَانَ يَجِبُ عَلَيَّ أَنْ أُلَاحِظَ ذَلِكَ مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ…”
وَتَنَهَّدَتْ طَوِيلًا، كَمَنْ يُحَمِّلُ نَفْسَهُ عِبْئًا قَدِيمًا.
كُنْتُ أَتَمَنَّى لَوْ أَسُدُّ أُذُنَيَّ، لِأَتَجَنَّبَ مَا يَزِيدُنِي خِزْيًا، وَلَكِنَّنِي كَتَمْتُ أَنْفَاسِي، حَتَّى لَا أُثِيرَ غَضَبَهَا بِدُونِ سَبَبٍ.
ثُمَّ قَالَتْ فِي نِهَايَةِ الْمَسَاءِ: “تُصْبِحِينَ عَلَى خَيْرٍ يَا هَانَا.”
فَهَمَسْتُ: “نَعَمْ، تُصْبِحِينَ عَلَى خَيْرٍ.”
وَأَغْلَقْتُ بَابَ غُرْفَتِي بِسُرْعَةٍ.
خَلَعْتُ مَلَابِسِي، وَأَجْرَيْتُ غُسْلًا سَرِيعًا فِي الْحَمَّامِ، ثُمَّ انْزَلَقْتُ فِي سَرِيرِي مُثْقَلَةً، كَئِيبَةً، مَخْنُوقَةَ الْقَلْبِ.
“لَمْ يَسِرِ الْيَوْمُ كَمَا كُنْتُ أُرِيدُ، وَلَا كَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ.”
كُنْتُ قَدْ عَزَمْتُ أَنْ أُخْبِرَ وَالِدَيَّ الْيَوْمَ عَنْ دَوْرِي الْجَدِيدِ، غَيْرِ الْمُتَوَقَّعِ، فِي مَسْرَحِيَّةِ “سَاحِرِ أُوز”.
وَلَكِنَّنِي، بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، سَأَذْهَبُ غَدًا إِلَى الْمَدِينَةِ لِأَشْتَرِيَ حَمَّالَةَ صَدْرٍ.
وَبَعْدَهَا، عَلَى الْأَرْجَحِ، سَتُقْنِعُنِي روزفِيتَا بِمَوْعِدٍ فِي صَالُونِ الْحِلَاقَةِ لِتَقُصَّ شَعْرِي كَمَا تُحِبُّ.
هَمَسْتُ فِي الظُّلْمَةِ: “أَنَا لَسْتُ طِفْلَةً صَغِيرَةً…”
“هِيَ لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَفْعَلَ بِي مَا تَشَاءُ…”
وَلَمْ أَسْتَطِعِ النَّوْمَ طَوِيلًا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ؛ كُنْتُ أَشْعُرُ بِالْفَرَاغِ، وَالْحَيْرَةِ، وَالْوَحْدَةِ.
فِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي، خَرَجْتُ مَعَ روزفِيتَا لِلتَّسَوُّقِ.
وَبَيْنَمَا نَسِيرُ عَبْرَ سَاحَةِ الْبَلَدِيَّةِ نَحْوَ وَسَطِ الْمَدِينَةِ، قُلْتُ بِهُدُوءٍ:
“فِي الْحَقِيقَةِ، لَا أُرِيدُ حَمَّالَةَ صَدْرٍ.”
“كُلُّ الْفَتَيَاتِ فِي صَفِّي لَا يَرْتَدِينَهَا.”
رَدَّتْ روزڤيتا، بنبرةٍ غاضبةٍ على غير عادتها: “ٱلبناتُ ٱلأُخرياتُ مُختلفاتٌ عنكِ، يا هانا.
لا يَعلمنَ ما يَفعلنَ.”
ثم تابعت، وقد شدّت على كلماتها: “ألم أُخبركِ مِرارًا ألّا تُقارني نفسَكِ بهنّ؟ أنتِ مميّزةٌ، بالتأكيد.”
لَذتُّ بالصمتِ، وتابعتُ السيرَ بجانبها دون كلمة.
مضينا طويلًا في شوارع المدينة، حتى بلغنا مقصدَنا.
كانَ متجرًا صغيرًا، متواضعًا، يَختبئ في زاوية شارعٍ جانبيٍّ ضيّقٍ، وسطَ منطقة المشاة.
توقّفت روزڤيتا أمامه، ثم أشارت إليه دون تردّد.
سألتُها، وأنا أُحدِّق في واجهة المتجر التي لا تُلفت نظرًا: “مَتجرُ ملابسَ داخليّة؟”
بدا من خلف الزجاج عددٌ من حمالاتِ الصدر الباهتةِ اللون، بيضاء وبيج، على الطرازِ القديم، تُشبهُ تمامًا تلكَ التي ترتديها روزڤيتا دائمًا.
قلتُ بتثاقلٍ وامتعاض: “لِمَ لا نذهبُ ببساطةٍ إلى متجرٍ كبير؟”
أجابت روزڤيتا، وقد ضاق صدرُها: “نحن نبحثُ عن شيءٍ متين، لا عن قطعةٍ رقيقةٍ تُبرِزُ صدرَكِ أكثر فأكثر.”
دخلنا المتجر، وهناك بدأت نصفُ ساعةٍ من الإحراجِ والتوتّر.
تقدّمت نحونا بائعةٌ مسنّةٌ، تولّت مهمّةَ روزڤيتا وكأنها تعرفُها منذ زمن.
قالت لي بابتسامةٍ جامدة: “إذًا، تفضّلي، أزيلي ما على الجزءِ العلويّ من ثيابكِ، يا آنِستي.”
وفي يدها شريطُ قياسٍ قديمٌ، مجعَّدٌ ومُبقَّع.
تمتمتُ بتردّد: “أليسَ هُناكَ غرفةُ تبديل؟”
ضحكتِ البائعة بخفّة، ثم سحبت قطعةً رماديّةً من القماش، كشفتْ بها عن سِتارٍ صغيرٍ مهترئ، يَفصل المتجرَ إلى نصفين.
في تلك الأثناء، كانت روزڤيتا منشغلةً بانتقاءِ ملابسَ داخليّةٍ لإخوتي الصغار، بينما تولّت البائعةُ فحصَ صدري بنظراتٍ دقيقة.
قالت بلطفٍ بارد: “مقاسُ الكأس: C.”
ثم أصدرت تعليماتها: “ٱرفعي ذِراعيكِ، يا عزيزتي.”
رفعتُ ذراعيّ بحَيرةٍ، وكان الخجلُ يُربكني، إذ وقفتُ شبهَ عاريةٍ وسط المتجر، أُظهِرُ صدري الذي لم أُحبّه يومًا، أمام روزڤيتا وتلك المرأة الغريبة.
لفَّت البائعةُ الشريطَ الباردَ المتّسخَ حول صدري العاري، وهي تُقيس بدقّةٍ صامتة.
قالت أخيرًا، بنبرةٍ تقريرية: “محيطُ الصدرِ حوالي سبعينَ سنتيمترًا.”
أسفل النموذج
قالتِ البائعةُ بلُطفٍ، وهي تبتسم: “أنتِ نَحيفةٌ إلى حدٍّ ما، ٱنتهينا. يُمكنكِ الآن أن تَرتدي ثيابكِ مرّةً أُخرى.”
تنهّدتُ براحةٍ، وأنا أُعيدُ ارتداءَ بلوزتي، كأنّي أسترجع شيئًا من كرامتي المسلوبة.
ثمّ التفتتِ البائعةُ نحو روزڤيتا، وقالت، وفي وجهها مسحةُ ودٍّ صادق: “فتاةٌ جميلةٌ، يا آنسة روزڤيتا.”
وضعتْ على المنضدة ثلاثَ حمالاتِ صدرٍ بلونِ البشرة، كبيرةِ المقاس.
أخرجت روزڤيتا محفظتَها، وقالت بابتسامةٍ مقتضبة: “شكرًا جزيلًا.”
تمتمتُ بهدوءٍ وأنا أُحاولُ ضبط نبرتي: “لكنّني لا أُحبُّ هذه الحمالات، يا روزڤيتا.”
أجابتني، وهي تبتسم دون أن تلتفت إليّ تمامًا: “ٱلحمالةُ ليست للذَّوق، بل يجبُ أن تُناسبكِ.”
نظرتُ إلى وجهها الذي ما زال يحملُ نفسَ الابتسامة، وإذا بي أُدرك، فجأةً، أنّ الفراغَ والارتباكَ والوَحدةَ الذين عَصَفوا بي ليلةَ أمس، قد عاودوني دونَ إنذار.
ٱبتسامُها هذه المرّة لم يَبدُ ناعمًا ولا رقيقًا، بل بدا لي باردًا، مدروسًا، خاليًا من أيّ دفء.
حينَ عُدنا إلى الشارعِ التجاريّ العريض، سألتني روزڤيتا، كأنّ شيئًا لم يكن: “هل نذهبُ لِتناوُلِ فنجانِ شاي؟”
أجبتُها بتعبٍ واضح: “نعم.”
دخلنا مقهًى صغيرًا للشاي، يقعُ عندَ حافّةِ الحديقة، يملكهُ زوجان مُسنّان من شهود يهوه. كنّا نلتقي بهما في الاجتماعاتِ الدينيّةِ شبهَ يوميًّا.
طلبت روزڤيتا الشايَ والكعكةَ، وجلسَتْ تستمتعُ بهما بهدوء.
ثمّ مالت ناحيتي، وجذبتْ خُصلةً من شعري بينَ أصابعها، وقالت: “والآن، عن شَعرِكِ يا هانا.”
لم أرغبْ في الرد، فصمتُّ، مصرّةً على الصمت.
قالت، كأنّها تُفكّر بصوتٍ عالٍ: “أظنُّ أنّه يجبُ عليكِ أن تَضفريه من الآن فصاعدًا.”
قلتُ بخجلٍ واضح: “لكنّي لا أريد.”
تابعتُ، وأنا أُحاولُ تبريرَ موقفي: “هذا يبدو طُفوليًّا… ولا تَفعلُ ذلكَ أيُّ فتاةٍ في صَفّي…”
قاطعتني روزڤيتا، بنبرةٍ حادّة: “هانا، لم أعد أُطيقُ سماعَ ذلك.”
تبادلنا النّظراتِ في لحظةِ توتّرٍ ثقيلة، وشعرتُ، للحظة، أنّ عينيها تَخترقانِ أفكاري، أو هكذا خُيّل إليّ.
أحسستُ بدوارٍ خفيف، فحوّلتُ بصري جانبًا اتّقاءً.
ثمّ قالت روزڤيتا، بعدَ أن خاضت في صمتي ما يكفي: “هانا، أنا حقًّا قلقةٌ عليكِ. فجأةً تُبدين عنيدةً وعدائيّة، ما الذي يَجري معكِ؟”
همستُ: “لا شيءَ يَحدث.”
أجابت بنبرةٍ حازمة: “لا أُصدّقكِ.”
ثمّ تابعت، وقد انخفضَ صوتُها شيئًا: “يُزعجُني فقط أنّكِ…”
تردّدتْ، ثمّ استأنفت: “أنّكِ تتحكّمينَ بي هكذا… أنا… لم أعُد طفلةً صغيرة، أنا…”
قاطعتني روزڤيتا، فجأةً، بصيحةٍ غاضبة: “هانا!”
لكنّها ما لبثت أن ابتسمت، ووَضعت يدها على يدي بلُطف، وقالت: “هانا، هل وقعْتِ في صُحبةٍ سيئة؟ ربما في المدرسة؟”
هززتُ رأسي نفيًا، لكنّها لم تَتراجع.
سألتني: “هل تَذكرينَ ما يقولُه الأخُ يوخِن دائمًا؟”
أومأتُ برأسي، وكرّرتُ العبارة التي باتت محفوظةً من فرطِ تكرارها: “يقولُ إنّ الصُّحبةَ السيّئةَ تُفسِدُ العاداتِ الجيّدة.”
قالتْ “روزڤيتا” بوجهٍ جادٍّ وجبينٍ معقودٍ من القلق: “صحيح.”
وفي تلكَ اللحظة، تقدَّمَت النادلةُ إلى طاولتِنا بخطًى هادئة، وسألتنا بلطفٍ وابتسامةٍ مهنية: “هل تُرِدْنَ شيئًا آخر، أيتها الأخوات؟”
هززتُ رأسي نفيًا، بينما رفعت “روزڤيتا” عينيها وقالتْ برقة: “أُريد بعضَ المثلّجات.”
وفجأةً، نطقتُ وكأنَّ شيئًا ما اندفع من أعماقي لا يُمكن كتمانه: “روزڤيتا، سأُشارك في مسرحيةِ الساحر أوز في المدرسة.”
لم أتمالك نفسي. كان سرًّا صغيرًا ومضيئًا أردتُ حفظه، لكنَّه أفلت، كوميض برقٍ لا ينتظرُ توقيتًا أنسب.
تابعتُ بحماسةٍ مرتجفة: “تخيّلي! الصفّ اختارني للدور الرئيسي. سأؤدّي دور دوروثي! في المسرحية، تأخذها عاصفةٌ إلى أرض أوز، وهناك، يسحق منزلُها الساحرةَ الشريرة الشرقية… إنّها مسرحيةٌ غنائية، وسأغنّي وحدي على المسرح! الأغنية الافتتاحية بعنوان Somewhere over the rainbow، وهي تُفتَتح بها المشاهد…”
وما إن رأتني “روزڤيتا” غارقةً في سعادتي، حتّى اتّسعت ابتسامتها اتساعًا مريبًا، فلمحتُ في وجهها شيئًا جعلني أتلعثم، وأصمتُ فجأةً وسط اندفاعي.
قالت وهي تبتسمُ… وتبتسمُ… وتبتسمُ بثباتٍ قاسٍ: “بالطبع لن تمثّلي هذا الهراء، يا هانا.”
تلعثمتُ، وبدأتُ أقول: “لكن…”، غير أنّ الكلمة ارتدّت إلى حلقي، وكأنّها اصطدمت بجدارٍ من الرعب.
“لا يجوز لكم منعي!” أردتُ أن أصرخ، “لقد وافقتُ بالفعل، ووعدتُ أن أُشارك. الأمر ليس خطيرًا، فقط مسرحيةٌ للأطفال تُعرض سنويًّا في التلفاز خلال عيد الميلاد…”
لكنها لم تكن تصغي.
أنهت مثلّجاتِها بهدوء، ولوّحت للأخت “جانيت” صاحبة المقهى، وقالت بنبرةٍ حازمة: “نودّ الدفع الآن.”
جاءت “جانيت” ومعها الفاتورة، ثم نظرت إليّ بعطف وسألت بقلقٍ أموميّ: “ما بكِ، يا قطعةَ الذهب؟ تبدين شاحبةً جدًّا.”
بادرت “روزڤيتا” بالردّ سريعًا، وكأنّها تُغلق الباب: “لا شيء، لا شيء أبدًا.”
لكن في داخلي، كان هناك شيءٌ يصرخ. رغبةٌ في الحرية، في الغناء، في أن أكون دوروثي التي تبحث عن طريق العودة، اجتمعت كلّها في أعماقي، ودفعَتني أن أصرخ، أن أطرق الطاولة وأصرّح أمام الجميع:
“أُريد أن أُمثّل دور دوروثي! وسأُمثّله! أُريد أن أفعل ما أشاء!”
لكنّني لم أصرخ.
لم أنطق.
بقي كلّ شيءٍ محبوسًا في صدري، يتكوّر في بطني ككتلةٍ من الغضب واليأس والضعف، تُشعرني بالهشاشة، بلا عزاء.
خرجنا إلى الشارع، وكانت “روزڤيتا” تمشي بثباتٍ إلى جانبي، ثم قالت: “سنعودُ إلى البيت. أظنُّكِ بحاجةٍ إلى بعض الراحة.”
أومأتُ برأسي بصمتٍ متعبٍ، ثم تجرّأتُ وسألت: “وماذا عن المسرحية؟”
قالت دون أن تلتفت إليّ: “سنرى. سأتحدّث مع والدكِ، ومع الأخ يوخِن.”
هززتُ رأسي، وفي داخلي بعض الأمل. لقد مدح الأخ يوخِن صوتي ذات مرّة، أمام الجماعة كلّها، بعد أن أنشدتُ ترنيمةً. كنتُ واثقةً أنّه سيدعمني…
لكنّ الأمور لم تمضِ كما كنتُ أتوقّع.
في يوم الجمعة، حين ذهبنا إلى الاجتماع، حدث ما غيّر كلّ شيء.
جلستُ بين جدّتي و”روزڤيتا”، شاردةَ الذهن، أتأمّل بلا صوت، إلى أن أنهى الأخ يوخِن عظته، ثمّ نظر إليّ مباشرةً. عيناه الزرقاوان كانتا تحملان مزيجًا من النعومة والقلق، تحدّقان فيَّ كما لو أنّ الهروب منهما مستحيل.
قال بصوته الهادئ، الذي اعتدتُ سماعه بتوقير:
“يا أُختي العزيزة هانا، أُخاطبكِ اليوم لأنني قلقٌ عليكِ.”
شعرتُ برجفةٍ تسري في جسدي، ووجهي يشتعل. احمرّت خدّاي، وكان في رأسي شيءٌ ينبض ويقرع كطبَاوْل مضطربة.
تابع بصوته الرزين:
“أمّكِ، أُختُنا المحترمة روزڤيتا، زارتني أمس بعد الظهر فجأةً، وطلبت منّي النصيحة…”
اِلْتَفَتَتْ نُفُوسٌ كَثِيرَةٌ نَحْوِي، فَانْقَبَضَ قَلْبِي وَأَسْدَلْتُ بَصَرِي مُسْتَاءَةً.
قَالَ الأَخُ يُوخِنَ بِلُطْفٍ: “هَانَا، قِفِي مِنْ فَضْلِكِ، لِنُعَالِجْ هَذِهِ الْمُشْكِلَةَ الصَّغِيرَةَ سَرِيعًا وَنُزِيلَهَا مِنْ طَرِيقِنَا.”
اِرْتَعَشْتُ، وَتَفَصَّدَ الْعَرَقُ مِنْ جَمِيعِ مَسَامِ جَسَدِي، حَتَّى بَلَّلَ ظَهْرَ بُلُوزَتِي. كَانَ مِشْبَكُ حَمَّالَةِ صَدْرِي الْجَدِيدَةِ، وَالْقَبِيحَةِ، يُسَبِّبُ لِي خَدْشًا مُزْعِجًا.
تَابَعَ الأَخُ يُوخِنَ، وَقَدْ بَدَتْ عَلَيْهِ مَسْحَةُ رِضًى: “جَمِيلٌ، الآنَ يُمْكِنُنَا جَمِيعًا أَنْ نَرَاكِ بِوُضُوحٍ. أَنْظُرِي إِلَيَّ أَيْضًا، أَيَّتُهَا الأُخْتُ الصَّغِيرَةُ.”
رَفَعْتُ رَأْسِي، وَرَأَيْتُ نُجُومًا لَامِعَةً تَرْقُصُ فِي عَيْنَيَّ الْمُلْتَهِبَتَيْنِ.
قَالَ: “هَلْ صَحِيحٌ أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْكِ فِي الْمَدْرَسَةِ أَنْ تَلْعَبِيَ الدَّوْرَ الرَّئِيسِيَّ فِي مَسْرَحِيَّةٍ غِنَائِيَّةٍ أَمْرِيكِيَّةٍ؟”
أَوْمَأْتُ بِرَأْسِي.
“وَأَنْتِ تَعْلَمِينَ أَنَّ وَالِدَيْكِ يُعَارِضَانِ هَذِهِ الْفِكْرَةَ، أَلَيْسَ كَذَلِكِ؟”
أَوْمَأْتُ مُجَدَّدًا.
“وَتَعْرِفِينَ أَيْضًا أَنَّ يَهْوَه يُرِيدُ مِنْكِ أَنْ تُطِيعِي وَالِدَيْكِ، صَحِيحٌ؟”
أَوْمَأْتُ مَرَّةً أُخْرَى، وَقَدْ ارْتَجَفَتْ رُكْبَتَايَ بِشِدَّةٍ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّنِي لَنْ أَقْوَى عَلَى الْوُقُوفِ طَوِيلًا. تَمَايَلْتُ بِدُوَارٍ إِلَى الْجَانِبِ، وَتَمَسَّكْتُ بِمَسْنَدِ الْكُرْسِيِّ.
أَضَافَ الأَخُ يُوخِنَ بِنَبْرَةٍ يَغْمُرُهَا اللَّوْمُ: “وَمَعَ ذَلِكَ، أَنْتِ فِي الْبَيْتِ مُتَجَهِّمَةٌ، سَوْدَاءُ الْمِزَاجِ.”
هَزَزْتُ رَأْسِي وَنَفَخْتُ بِصَوْتٍ خَافِتٍ: “نَعَمْ…”
قَالَ الأَخُ يُوخِنَ: “هَلْ تُدْرِكِينَ أَنَّ مَنْ يَعْتَنِقُ تَعَالِيمَ اللهِ، يَجِبُ أَنْ يُقَلِّلَ تَعَامُلَهُ مَعَ أَهْلِ الْعَالَمِ إِلَى أَقْصَى حَدٍّ مُمْكِنٍ؟”
أَجَبْتُ بِهُدُوءٍ: “نَعَمْ…”
فَقَالَ بِثِقَةٍ: “أَتَرَيْنَ؟ لِذَلِكَ، يَا هَانَا، لَنْ تَلْعَبِي فِي الْمَسْرَحِ.”
أَوْمَأْتُ مُجَدَّدًا، ثُمَّ سَأَلْتُهُ بِحَذَرٍ: “هَلْ لِي أَنْ أَجْلِسَ مُجَدَّدًا؟”
وَلِلْمَرَّةِ الأُولَى، لَمْ أَسْتَطِعِ النَّظَرَ فِي عَيْنَيْ الأَخِ يُوخِنَ الزَّرْقَاوَيْنِ الرَّقِيقَتَيْنِ، لِأَنَّنِي شَعَرْتُ أَنَّ دُمُوعِي سَتَفِيضُ إِنْ فَعَلْتُ.
شَعَرْتُ بِالخِيَانَةِ وَالْخُذْلَانِ وَالْخِدَاعِ مِنْ قِبَلِهِ. لِمَاذَا لَمْ يَتَحَدَّثْ إِلَيَّ عَلَى انْفِرَادٍ؟ لِمَاذَا كَانَ ذَلِكَ فِي وَسَطِ الْاِجْتِمَاعِ؟ فَهَذِهِ أُمُورٌ نَادِرَةٌ، وَعَظِيمَةُ الشَّأْنِ.
قَالَ لِي: “نَعَمْ، لَكِ ذَلِكَ، أَيَّتُهَا الأُخْتُ الْعَزِيزَةُ هَانَا.”
ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ وَصَلَّى بِصَوْتٍ وَاضِحٍ قَوِيٍّ، وَكَانَتْ صَلَاتُهُ الْمُمْتَلِئَةُ بِالرَّحْمَةِ وَالْحَنَانِ تَمْلَأُ مِكْبَرَاتِ صَوْتِ قَاعَةِ الْمَلَكُوتِ.
صَلَّى الْجَمِيعُ مَعَهُ، وَوَضَعَتْ رُوزْفِيتَا يَدَهَا عَلَى رُكْبَتِي، وَابْتَسَمَتْ مُجَدَّدًا.
أَمَّا أَنَا، فَشَعَرْتُ بِالْوَحْدَةِ، وَالْفَضْحِ، وَالْجَرْحِ، وَعَدَمِ الْفَهْمِ، وَالْيَأْسِ.
فِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي، كَانَ النُّهُوضُ مِنَ الْفِرَاشِ أَمْرًا شَاقًّا عَلَيَّ.
نِمْتُ نَوْمًا مُضْطَرِبًا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَرَأَيْتُ أَحْلَامًا غَرِيبَةً تَسْتَبْهِمُ مَعَالِمُهَا وَتَتَشَابَكُ كَغُيُومٍ مُتَخَاصِمَةٍ فِي سَمَاءِ نَفْسِي.
فِي أَحَدِ تِلْكَ الرُّؤَى، كَانَتْ أُمِّي الرَّاحِلَةُ تَقِفُ وَحْدَهَا فِي وَسَطِ الْمَدِينَةِ، تُشَدِّدُ قَبْضَتَهَا عَلَى مَجَلَّةِ “الْبُرْجِ الْحَارِسِ”، حَتَّى تَمَزَّقَتْ بَيْنَ أَصَابِعِي وَانْفَلَتَتْ أَوْرَاقُهَا.
وَفَجْأَةً، صَاحَتْ جَدَّتِي بِغَضَبٍ لَاذِعٍ: “يَا لَكِ مِنْ فَتَاةٍ غَبِيَّةٍ وَعَدِيمَةِ الْمَهَارَةِ!” وَأَلْقَتْ نَحْوِي نُسْخَةً جَدِيدَةً مِنَ الْمَجَلَّةِ.
اِعْتَذَرْتُ وَقُلْتُ بِحَذَرٍ: “سَأَحْمِلُهَا بِعِنَايَةٍ هَذِهِ الْمَرَّةَ.”
وَلَكِنَّ الْمَجَلَّةَ تَمَزَّقَتْ ثَانِيَةً بَيْنَ يَدَيَّ، وَتَسَاقَطَتْ أَوْرَاقُهَا الْمُمَزَّقَةُ عَلَى الأَرْضِ، فَوْقَ كُلِّ نِظَامٍ وَتَرْتِيبٍ.
حَذَّرَتْنِي جَدَّتِي وَفِي صَوْتِهَا غَيْظٌ: “أَنْتِ تَعْلَمِينَ أَنَّ يَهْوَه يَرَاكِ.”
هَمْهَمْتُ مَذْهُولَةً: “نَعَمْ…”
ثُمَّ تَابَعَتْ بِنَبْرَةٍ مُمْتَلِئَةٍ بِالصَّرَامَةِ: “لَكِنَّكِ فِي أَصْلِكِ كَاذِبَةٌ وَفَاسِدَةٌ، وَإِذَا جَاءَ هَرْمَجْدُون، فَسَيَقْتُلُكِ يَسُوعُ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ.”
قُلْتُ وَيَدِي تُغَطِّي وَجْهِي: “أَنَا أَعْلَمُ…”
وَبِصَوْتٍ قَاسٍ كَالْقَطْعِ صَرَخَتْ: “وَتَبْدِينَ كَالْعَاهِرَةِ، يَا هَانَا!” وَمَدَّتْ إِلَيَّ صَدْرِيَّةً كَبِيرَةً قَذِرَةً، بَدَتْ كَأَنَّهَا انْتُزِعَتْ مِنْ هَوَاءِ الْكابُوسِ. “ارْتَدِيهَا حَتَّى لَا يَظْهَرَ صَدْرُكِ الْخَاطِئُ.”
هَمَسْتُ وَالرُّعْبُ يَخْنُقُ نَفَسِي: “هُنَا فِي الشَّارِعِ؟”
فَقَالَتْ بِبُرُودٍ مُرْعِبٍ: “بِالطَّبْعِ، هُنَا فِي الشَّارِعِ، خَلْفَ السِّتَارَةِ الرَّمَادِيَّةِ، كَمَا يَجِبُ…”
وَجَذَبَتْ بِلُطْفٍ مَصْطَنَعٍ سِتَارَةً رَقِيقَةً مَهْتَرِئَةً كَأَنَّهَا مُعَلَّقَةٌ فِي السَّمَاءِ. “وَالآنَ، قُومِي بِرَبْطِ صَدْرِكِ قَبْلَ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَكِ الشَّيْطَانُ!”
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، اسْتَيْقَظْتُ، وَوَجْهِي مُبَلَّلٌ بِالدُّمُوعِ.
شَعَرْتُ بِرَاحَةٍ حَذِرَةٍ لِأَنَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ الْمُرْعِبَةَ قَدْ انْتَهَتْ. نَهَضْتُ مُرْتَجِفَةً لِأُهَيِّئَ نَفْسِي لِلمَدْرَسَةِ.
وَقَفَتْ رُوزْفِيتَا عِنْدَ بَابِ الْمَنْزِلِ، وَسَأَلَتْ بِاسْتِغْرَابٍ: “أَلَنْ تَتَنَاوَلِي شَيْئًا مِنَ الْفُطُورِ؟”
هَزَزْتُ رَأْسِي بِحُزْنٍ: “لَا أَشْعُرُ بِالْجُوعِ.”
نَظَرَتْ إِلَيَّ بِتَمَعُّنٍ، ثُمَّ قَالَتْ: “حَسَنًا، أَنْتِ تَعْرِفِينَ أَفْضَلَ.” وَلَكِنَّ فِي صَوْتِهَا شَكًّا وَكآبَةً لَمْ تُخْفِهِمَا.
قُلْتُ بِسُرْعَةٍ: “سَأَذْهَبُ الآنَ.”
“إِلَى مَسَاءِ الْيَوْمِ، يَا هَانَا. تَذَكَّرِي أَنَّكِ سَتَذْهَبِينَ ظُهْرًا مَعَ جَدَّتِكِ إِلَى التَّبْشِيرِ فِي الشَّارِعِ.”
اِرْتَجَفْتُ وَأَنَا أَتَذَكَّرُ حُلْمِي وَتِلْكَ الْمَجَلَّاتِ الْمُمَزَّقَةِ.
“هَلْ تَسْمَعِينَنِي، يَا هَانَا؟”
هَمْهَمْتُ بِصَوْتٍ خَافِتٍ: “نَعَمْ…” وَانْدَفَعْتُ مُسْرِعَةً.
كَانَ الْهَوَاءُ بَارِدًا فِي الصَّبَاحِ، وَقَدْ غَمَرَنِي شُعُورٌ ثَقِيلٌ بِالْيَأْسِ. أَمَلْتُ رَأْسِي إِلَى الْخَلْفِ، وَنَظَرْتُ نَحْوَ السَّمَاءِ، فَإِذَا بِهَا رَمَادِيَّةٌ تُغَطِّي الْمَدِينَةَ بِسُحُبٍ كَثِيفَةٍ ثَقِيلَةٍ، لَا رَيْبَ أَنَّ الْمَطَرَ سَيَهْطِلُ قَرِيبًا.
فِي الْمَدْرَسَةِ، كَانَتِ السَّيِّدَةُ وِينْتَر فِي قَاعَةِ الْمُوسِيقَى، تَنْتَظِرُنَا وَفِي عَيْنَيْهَا بَهْجَةٌ وَاقْبَالٌ.
“هَا هِيَ دَفَاتِرُ النُّصُوصِ!” قَالَتْ مُبْتَهِجَةً، ثُمَّ بَدَأَتْ تُوَزِّعُ الْأَدْوَارَ.
كَانَ باول سَيَلْعَبُ دَوْرَ فَزَّاعَةِ الْطُّيُورِ، تِلْكَ الَّتِي تَتُوقُ إِلَى الذَّكَاءِ.
وَأَمَّا مَارِي، فَكَانَتِ الْأَسَدَ الْخَائِفَ، الَّذِي لَا يَتَمَنَّى إِلَّا أَنْ يَصِيرَ شُجَاعًا فِي نِهَايَةِ الْمَطَافِ.
وَحَصَلَتْ أَمَانْدَا عَلَى دَوْرِ الْحَطَّابِ الْحَدِيدِيِّ، ذَاكَ الَّذِي يَتَمَنَّى قَلْبًا يَنْبِضُ فِي صَدْرِهِ الْفَارِغِ، لِيَشْعُرَ بِمَشَاعِرِهِ أَخِيرًا.
هَمَسَتْ أَمَانْدَا مُسْتَاءَةً: “كُنْتُ حَقًّا أُفَضِّلُ أَنْ أَكُونَ دُورُوثِي.”
ثُمَّ قَالَتِ السَّيِّدَةُ وِينْتَر وَهِيَ تُنَاوِلُنِي كِتَابَ النَّصِّ: “هَانَا هِيَ دُورُوثِي. هَذَا وَاضِحٌ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ هَلْ تَحَدَّثْتِ مَعَ وَالِدَيْكِ؟”
عَضَضْتُ شَفَتَيَّ، ثُمَّ أَوْمَأْتُ بِسُرْعَةٍ.
“رَائِع!” قَالَتْ مَارِي، وَسَرْعَانَ مَا دَارَتْ بِوَجْهِهَا، حَتَّى لَا يَلْحَظَ الآخَرُونَ أَنَّنِي كَذَبْتُ.
بَدَأْنَا قِرَاءَةَ النُّصُوصِ، وَمَرَّتِ اللَّحَظَاتُ كَأَنَّهَا وَمِيضٌ عَابِرٌ.
وَمَا إِنْ دَقَّ جَرَسُ الْمَدْرَسَةِ، قَاطِعًا أَوَّلَ تَمْرِينٍ لَنَا، حَتَّى قَالَتِ السَّيِّدَةُ وِينْتَر: “مَا زَالَ أَمَامَنَا الْكَثِيرُ مِنَ الْعَمَلِ.”
“مَتَى سَنَعْرِضُ الْمَسْرَحِيَّةَ؟” سَأَلَ باول وَهُوَ يُمَيِّزُ نُصُوصَهُ بِقَلَمِ تَحْدِيدٍ أَصْفَرَ.
أَجَابَتِ السَّيِّدَةُ وِينْتَر: “أَعْتَقِدُ قَبْلَ عُطْلَةِ الْخَرِيفِ بِقَلِيلٍ. سَنَتَدَرَّبُ فِي كُلِّ حِصَصِ الْمُوسِيقَى، وَعَلَى الْأَقَلِّ مَرَّةً فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ بَعْدَ الظُّهْرِ سَنَجْتَمِعُ هُنَا.”
شَعَرْتُ بِالرُّعْبِ. كَيْفَ لِي أَنْ أُوَافِقَ عَلَى ذَلِكَ؟ فَفِي سَاعَاتِ الظُّهْرِ لَمْ يَكُنْ لَدَيَّ وَقْتٌ أَبَدًا. إِنْ لَمْ أَذْهَبْ إِلَى الْجَمْعِيَّةِ، ذَهَبْتُ مَعَ رُوزْفِيتَا إِلَى خِدْمَةِ التَّبْشِيرِ، وَإِنْ لَمْ أَذْهَبْ إِلَيْهَا، رَافَقْتُ جَدَّتِي فِي التَّبْشِيرِ فِي الشَّارِعِ. وَثَمَّةَ دَرْسِي فِي دِرَاسَةِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ مَعَ الأَخِ يُوخِن.
قلَت للسَّيِّدَةُ وِينْتَر: “أنا … أَنَا…”
وَلَكِنْ، لَمَّا نَظَرْتُ وَرَأَيْتُ أَمَانْدَا تُحَدِّقُ بِي بِفُضُولٍ، عَجَزْتُ عَنْ إِكْمَالِ الْكَلَامِ.
“نَعَمْ، هَانَا؟” سَأَلَتِ السَّيِّدَةُ وِينْتَر، وَهِيَ تَجْمَعُ حَقِيبَتَهَا.
“لَا شَيْءَ”، قُلْتُ بِسُرْعَةٍ.
“هَلْ لَدَيْكِ مُشْكِلَةٌ، هَانَا؟ أَهِيَ بِسَبَبِ الْمَسْرَحِيَّةِ؟ هَلْ تُرِيدِينَ أَنْ أَتَحَدَّثَ مَعَ وَالِدَيْكِ؟ لَقَدِ اسْتَعْلَمْتُ، وَلَا يُوجَدُ مَا يَمْنَعُكِ مِنْ أَدَاءِ الدَّوْرِ الرَّئِيسِيِّ فِي مَسْرَحِيَّتِنَا.”
“لَقَدِ اسْتَعْلَمْتِ؟” قُلْتُ بِدَهْشَةٍ.
أَوْمَأَتْ السَّيِّدَةُ وِينْتَر: “نَعَمْ، جَارَتِي كَانَتْ سَابِقًا شَاهِدَةَ يَهْوَه، وَقَالَتْ لِي…”
“كَانَتْ سَابِقًا؟” تَلَعْثَمْتُ بِدَهْشَةٍ.
أَوْمَأَتْ مَرَّةً أُخْرَى: “نَعَمْ، وَقَالَتْ إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْخَطِيئَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ إِذَا كُنْتِ…”
“هَلْ تَحَدَّثْتِ مَعَ شَخْصٍ مِنَ الْمُنْشَقِّينَ عَنِّي؟”
عقَدَتِ السَّيِّدَةُ وَينتَر حاجِبَيْها، وقالَتْ: “حَسَنًا، هِيَ…”
“لا يَجوزُ الحَديثُ مَعَ المُنشقِّينَ، وَلا يَجوزُ الِاخْتِلاطُ بِهِم…” تَوَقَّفْتُ فَجأَةً، وَخَنَقَنِي الفَزَعُ حَتّى كادَ أَنْ يَسْلُبَني أَنْفاسي.
نَظَرَتْ إلَيَّ السَّيِّدَةُ وَينتَر بِحَيْرَةٍ صامِتَةٍ.
قالَتْ بِصَوْتٍ حَذِرٍ: “هانَا…” وَلَكِنِّي لَمْ أَعُدْ أُرِيدُ أَنْ أَسْمَعَ شَيْئًا آخَر. خَطَفْتُ حَقِيبَتِي بِعُجالَةٍ وَأَنْطَلَقْتُ مُهَرْوِلَةً.
خَلْفِي، سَمِعْتُ صَوْتَ أمانْدا يَنْطَقُ بِسُخْرِيَّةٍ لاذِعَةٍ: “أَتَرَيْنَ الآن أَنَّ العَمَّةَ يَهْوَه مُخْتَلَّة؟” ثُمَّ لَمْ أَعُدْ أَسْمَعُ سِوَى خَفَقاتِ قَلْبِي المُتَسارِعَةِ.
فِي ذَلِكَ اليَوْمِ، تَغَيَّبْتُ عَنِ المَدْرَسَةِ لأَوَّلِ مَرَّةٍ. تَسَلَّلْتُ خَفِيَّةً نَحْوَ مَحَطَّةِ الحافِلاتِ. وَلِكَي أَتَجَنَّبَ رُكُوبَ الخَطِّ رَقْمَ 4، الَّذِي كَانَ سَيَقُودُنِي أَسْرَعَ طَرِيقٍ إِلَى بَيْتِ وَالِدَي روزفِيتا، مَشَيْتُ تَحْتَ المَطَرِ حَتّى بَلَغْتُ مَحَطَّةً أُخْرَى، وَرَكِبْتُ خَطًّا مُخْتَلِفًا.
اُضْطُرِرْتُ أَنْ أُغَيِّرَ الحافِلَةَ مَرَّتَيْنِ، وَلَكِنِّي وَصَلْتُ أَخِيرًا. نَزَلْتُ مُنْهَكَةً، وَاحْتَضَنْتُ جَدَّتِي الَّتِي كَانَتْ تَعُودُ مِنَ التَّسَوُّقِ.
سَأَلَتْنِي أُمُّ روزفِيتا مُسْتَغْرِبَةً: “لِماذا وَصَلْتِ مُبَكِّرًا؟” وَأَضَافَتْ: “وَلِماذا رَكِبْتِ الحافِلَةَ رَقْمَ 7؟ يُمْكِنُكِ أَنْ تَرْكَبِي الخَطَّ رَقْمَ 4 مُبَاشَرَةً مِنَ المَدْرَسَةِ إِلَى هُنا.”
كَذَبْتُ وَقُلْتُ بِحُزْنٍ مُتَعَمَّدٍ: “لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ حِصَّتانِ فِي آخِرِ اليَوْمِ الدِّراسِيِّ. وَأَنا أَرْكَبُ دائِمًا رَقْمَ 7 عِنْدَما آتِي إلَيْكُمْ.”
نَظَرَتْ جَدَّتِي إلَيَّ بِرِيبَةٍ: “وَلَكِن، لِماذا؟”
رَدَدْتُ بِاقْتِضابٍ: “فَقَط هَكَذا.”
سَأَلَتْ جَدَّتِي وَشَكُّها يَزْدادُ: “هَلْ تَغَيَّبْتِ عَنِ المَدْرَسَةِ؟”
قُلْتُ بِغَضَبٍ مُكْتومٍ: “لا!”
قالَتْ جَدَّتِي بِنَبْرَةٍ قاطِعَةٍ: “حَسَنًا، لِنَصْعَدْ إِلَى الأَعْلَى.” وَمَدَّتْ إلَيَّ حَقِيبَتَيْنِ مِنَ التَّسَوُّقِ. “ساعِدِينِي، مِنْ فَضْلِكِ.”
فِي فَتْرَةِ العَصْرِ، ذَهَبْنَا مَعًا إِلَى التَّبْشِيرِ فِي الشَّارِعِ. حَمَلْتُ حَقِيبَةَ المَجَلَّاتِ، وَحاوَلْتُ أَلَّا أُفَكِّرَ فِي اللَّيْلَةِ الماضيَةِ.
قالَتْ جَدَّتِي أَخِيرًا: “سَنَبْقَى هُنا.” فَأَوْمَأْتُ بِرَأْسِي، وَارْتَكزْتُ بِالحَقِيبَةِ الثَّقِيلَةِ عَلَى جِدارِ المَنْزِلِ، وَسَحَبْتُ بِهُدُوءٍ نُسْخَةً مِن مَجَلَّةِ “البُرْجِ المُراقِبِ”.
أَخَذَتْ جَدَّتِي نُسْخَتَنَا الأُخْرَى مِنَ المَنْشُورَاتِ، الَّتِي كَانَ مَكْتُوبًا عَلَيْهَا بِخَطٍّ عَرِيضٍ: “اسْتَيْقِظُوا!”
وَقَفْنَا صامِتَتَيْنِ، وَعَلِمْتُ أَنَّ جَدَّتِي الآنَ تُخاطِبُ يَهْوَه، وَأَنَّهُ لا يَجِبُ عَلَيَّ أَنْ أُقَاطِعَ صَلَاتَها.
مَعَ مُرورِ الوَقتِ، بَدَأَت ذِراعايَ تُؤلِماني، وَلأوَّلِ مَرَّةٍ أَثناءَ العَمَلِ في الشّارِعِ شَعَرتُ بِبَعضِ الضِّيقِ وَالمَلَل، إذ أزعَجَني أَن أَقِفَ هُناكَ صامِتَةً، غَيرَ مَلحوظَةٍ، عَلى الهامِشِ كَمَن لا يُرى.
وَلَكِن، في تِلكَ اللَّحظَةِ بِعَينِها، حَظيتُ بِقَدرٍ مِنَ الاِنتِباهِ.
قالَ وَلَدٌ صَغيرٌ يُمسِكُ بِيَدِ أُمِّهِ وَهُما يَمُرّانِ بِجانِبي، بِصَوتٍ فُضُوليٍّ: “ماما، ماذا تَفعَلُ تِلكَ الفَتاةُ هُناك؟”
فَرَدَّت والِدَتُهُ بِهُدوءٍ، وَنَظَرَت إلَيَّ بِنَظرةِ رَفضٍ: “هؤلاءِ شُهودُ يَهوه. هُم ناسٌ غَريبون، يَفعَلون…”
لَم أَتمكَّنْ مِن سَماعِ الباقي، إذ لَم يَتَوقَّفا كَما يَفعَلُ مُعظَمُ الناسِ عِندَ رُؤيتِنا، بَل تابَعا سَيرَهُما.
تَردَّدَت في رَأسي تِلكَ العِبارَةُ: “ناسٌ غَريبون”، فَحَرَّكتُ قَدَمَيَّ بِتَوَتُّرٍ. شَعَرتُ فَجأَةً بِوَخزٍ غَريبٍ يَمتَدُّ مِن رَأسي حَتّى أَخمُصِ قَدَميَّ. لَم أَكُن أُريدُ أَن أكونَ غَريبَةً.
كُنتُ أُريدُ أَن أكونَ عاديَّةً، مِثلَ الجَميعِ.
نَظَرتُ إلى السَّماءِ بِخَوفٍ: هَل يَهوه يطَّلِعُ حَقًّا عَلى كُلِّ أَفكاري؟
كانَت غُيومٌ كَثيفَةٌ تَجتاحُ السَّماءَ الرَّماديَّةَ المُتَرشِّشَة، غُيومٌ مُتَداعِيَةٌ، وَطُيورٌ فَرِحَةٌ، تَبدو مِن الأَسفَلِ كَأَنَّها أَوراقٌ تُحرِّكُها الرِّيحُ في الفَضاءِ. نَظَرتُ بِشَوقٍ إلى تِلكَ الطُّيورِ المُحلِّقَةِ بِحُرِّيَّةٍ.
وَفي تِلكَ اللَّحظَةِ بِذاتِها، أَدركتُ أَنَّني أَصبَحتُ مَرَّةً أُخرى مَوضوعَ حَديثٍ هامِسٍ. رَفَعتُ رَأسي، وَرَأيتُ “ماري” واقِفَةً أَمامي بِقَلقٍ.
كانَت “ماري” تَقِفُ إلى جانِبي، وَبِجِوارِها فَتىً نَحيلٌ جِدًّا، طَويلُ القامَةِ، يُحدِّقُ إليَّ بِفُضولٍ لا يَقلُّ عَن فُضولِ ذلِكَ الصَّبيِّ الصَّغيرِ الّذي سَبَقَه.
قالَت “ماري”: “مَرْحَبًا يا هانا”.
حَدَّقتُ فيها صامِتَةً، وَغَمَرَني شُعورٌ بِالخَجَلِ الشَّديدِ، لأَنَّها وَجَدَتني بِذاتِي أَثناءَ التَّبشيرِ في الشّارِعِ.
لكنَّ خَوفي كانَ أَكبَرَ مِن ذلِكَ، فَقد خَشيتُ أَن تَسأَلَني عَن هُروبي مِن المَدرَسَةِ اليومَ، أَو أَن تَتَحَدَّثَ عَن مَسرحيَّتِنا.
بِصَمتٍ وَخَوفٍ، عَبَرتُ مِن خِلالِها بِنَظَري، وَاهتَزَّت يَدايَ، وَكانَ صَوتُ حَفيفِ الصَّحيفَتَينِ اللَّتينِ أُمسِكُهُما أَمامَ صَدري خَفيفًا.
قالَت “ماري” أَخيرًا: “هاتِ لي واحِدَةً مِن هذِهِ… الكُتيِّبات”.
سَأَلتُها مُتَحيِّرَةً: “هَل تُريدينَ نُسخَةً مِن بُرجِ المُراقَبَة؟”
فَأَجابَت: “نَعَم”.
مَدَدتُ لَها كُتيِّبًا بِتَرَدُّدٍ، وَلَكِن يَدي ارْتَجَفَت بِشِدَّةٍ حَتّى سَقَطَ الكُتيِّبُ عَلى الأَرضِ.
اِعتَذَرتُ مُتَلَعْثِمَةً: “عُذرًا”.
فَرَدَّ الفَتى الغَريبُ بِجانِبِ “ماري”، مُبتَسِمًا: “لا بَأسَ”. ثُمَّ اِنحَنى وَالْتَقَطَ الكُتيِّبَ، وَمَسَحَهُ عَلى سَروالِهِ الأَسوَدِ لِيُجَفِّفَهُ.
سألتُها على عَجَلٍ: “هَلْ تُرِيدِينَ وَاحِدًا آخَر؟”
فَهَزَّتْ مَارِي رَأْسَهَا وَابْتَسَمَتْ لِي.
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، عَادَتْ إِلَيَّ الذِّكْرَيَاتُ كَسَيْلٍ دَافِقٍ؛ تَذَكَّرْتُ كَيْفَ كَانَتْ مَارِي تُرِيدُ أَنْ تَصِيرَ صَدِيقَتِي، تَذَكَّرْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ حِينَ دَخَلَتْ صَفَّنَا وَجَلَسَتْ جَانِبِي، وَتَذَكَّرْتُ تِلْكَ الْفَوْطَةَ الصِّحِّيَّةَ الَّتِي أَعْطَتْنِي إِيَّاهَا عِنْدَمَا بَدَأَتْ دَوْرَتِي الشَّهْرِيَّةُ فَجْأَةً، وَذَاكَ الْقَلَمَ الْمَرِحَ الَّذِي أَهْدَتْنِيهِ فِي عِيدِ مِيلَادِي الرَّابِعَ عَشَرَ، وَكَيْفَ أَعَدْتُهُ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ.
تَذَكَّرْتُ خَوْفِي الْقَدِيمَ مِنَ الشَّيْطَانِ.
أَتُرَاهَا كَانَتْ مَارِي تَجْرِبَةً مِنَ الشَّيْطَانِ؟
فَجْأَةً، اجْتَاحَنِي تَعَبٌ لَا حُدُودَ لَهُ. كَانَ ذِرَاعِي يُؤْلِمُنِي طَوَالَ الْوَقْتِ، وَلَكِنَّ لِقَاءَ مَارِي بِذَلِكَ الْفَتَى الْوَسِيمِ الْمُبْتَسِمِ أَرْهَقَنِي تَمَامًا.
هَمَسْتُ: “جَدَّتِي، أُرِيدُ أَنْ أَذْهَبَ إِلَى الْبَيْتِ الآنَ.”
وَلَكِنَّ جَدَّتِي ظَلَّتْ صَامِتَةً، تُحَدِّقُ سَاكِنَةً فِي الْفَرَاغِ.
“يَا رَبَّنَا الْعَزِيزَ الطَّيِّبَ،” صَلَّيْتُ فِي سِرِّي، “أَرِنِي عَلَامَةً عَلَى حُبِّكَ لِي، أَرِنِي عَلَامَةً أَنَّكَ لَمْ تَنْبُذْنِي، أَرِنِي أَنَّكَ لَا تُرِيدُ لِي أَنْ أَلْعَبَ فِي الْمَسْرَحِ، أَرِنِي أَنَّكَ حَقًّا مَوْجُودٌ…”
وَلَكِنَّ شَيْئًا لَمْ يَحْدُثْ، وَغَمَرَنِي الْخَوْفُ كَالرَّصَاصِ.
كَانَ ذَلِكَ الْفَتَى الْغَرِيبُ لَا يَزَالُ يُحْدِّقُ فِيَّ، فَأَدَرْتُ وَجْهِي بِعَصَبِيَّةٍ، حَتَّى لَا أُطِيلَ النَّظَرَ إِلَى مَلَامِحِهِ الرَّقِيقَةِ، الْمُسْتَكْشِفَةِ.
تَسَاءَلْتُ فِي نَفْسِي: مَنْ يَكُونُ؟ هَلْ هُوَ صَدِيقُ مَارِي؟ هَلْ تُحِبُّهُ؟
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، قَالَتْ مَارِي: “وَدَاعًا يَا هَانَا”، وَلَوَّحَتْ لِي مُوَدِّعَةً. “عَلَيْنَا أَنْ نَذْهَبَ الآنَ.”
أَوْمَأْتُ بِرَأْسِي صَامِتَةً، وَرَاقَبْتُهُمَا وَهُمَا يَبْتَعِدَانِ.
وَقَبْلَ أَنْ يَغِيبَا فِي الْأُفُقِ، أَلْقَى ذَلِكَ الْفَتَى نَظْرَتَيْنِ سَرِيعَتَيْنِ نَحْوِي وَنَحْوَ جَدَّتِي، ثُمَّ تَوَارَى.
فِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي، كَانَ الْجَوُّ بَارِدًا، وَالرِّيَاحُ تَعْصِفُ مِنْ جَدِيدٍ.
كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ سَبْتٍ، وَكُنْتُ مُسْتَلْقِيَةً فِي سَرِيرِي مُتَثَاقِلَةً، كَأَنَّنِي عَجُوزٌ قَدِيمَةٌ.
أَيْنَ ذَهَبَتْ كُلُّ طَاقَتِي؟ أَيْنَ فَرَحِي وَقُوَّتِي؟
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، دَخَلَتْ زَوْجَةُ أَبِي عَلَى عَجَلَةٍ، وَأَطَلَّتْ بِرَأْسِهَا مِنْ بَابِ الْغُرْفَةِ قَائِلَةً: “هَانَا، مَاذَا بِكِ؟”
فَهَمَمْتُ أُعْتَذِرُ: “أَشْعُرُ بِالْمَرَضِ.”
فَرَدَّتْ بِنَبْرَةٍ حَازِمَةٍ: “لَا تَتَهَرَّبِي! بَعْدَ الْفُطُورِ سَنَذْهَبُ إِلَى خِدْمَةِ التَّبْشِيرِ. أَسْرِعِي قَلِيلًا، مِنْ فَضْلِكِ.”
أَوْمَأْتُ بِرَأْسِي، وَزَحَفْتُ مِنَ السَّرِيرِ بِبُطْءٍ.
وَبَعْدَ الْفُطُورِ، أَعْلَنَتْ رُوزْفِيتَا: “سَنَذْهَبُ إِلَى شَارِعِ بِيتهُوفِن.”
فَارْتَجَّ شُعُورٌ غَرِيبٌ فِي بَطْنِي، فَمَارِي تَسْكُنُ فِي شَارِعِ بِيتهُوفِن.
فَسَأَلْتُهَا بِحَذَرٍ: “هَلْ سَنَزُورُ أَحَدًا مُعَيَّنًا؟”
فَأَوْمَأَتْ رُوزْفِيتَا بِالْإِيجَابِ.
فَقُلْتُ: “مَنْ هُوَ؟”
فَقَالَتْ زَوْجَةُ أَبِي: “إِنَّهَا امْرَأَةٌ شَابَّةٌ، كَانَ لَهَا طِفْلٌ صَغِيرٌ، وَلَكِنَّهُ مَاتَ.”
قُلْتُ بِوُجُومٍ: “يَا لَهُ مِنْ أَمْرٍ مُرِيعٍ.”
أضافت بهدوءٍ يخالطه أسًى: “نعم، كانَ الطِّفلُ مُصابًا بالسَّرطان، أَورامٌ في عَيْنَيْه الاثنتَيْن، وقد تُوُفِّيَ في الأُسْبوعِ الماضي.”
سألتُ وأنا أُحاولُ أن أستوعبَ ما سمعت: “وكَيْفَ تَعرِفينَ هذِهِ المَرأة؟”
أجابت زوجةُ أبي بنبرةٍ مترددة: “في الحقيقةِ، لم أَتعرَّفْ إليها بعد. الأُختُ بريچيت سَمِعَت القِصَّةَ مِن امرأةٍ عَجوزٍ لها صِلَةُ قَرابةٍ بَعيدةٌ بها. هذه الشابَّةُ تبدو وحيدةً جدًّا، فقد فَقَدَت والِدَيْها، واعتنَت بطِفلِها المريضِ بِمُفردِها.”
أومأتُ برأسي بصمت، وما لبثنا أن وصلْنا إلى المكان.
نظرتُ بتوتُّرٍ على طولِ الشارع، أَتأكَّد من أَنَّ “ماري” لَيْسَتْ بالجوار، ثمَّ دَقَقْنا الباب.
كانت المرأةُ التي فتحتْ لنا الباب شاحبةً نَحيلةً للغاية، وقد ارتَسَمَ على وَجهِها يَأسٌ عَميقٌ وحُزنٌ خانقٌ جَمَّدَ الكلماتِ في حنجرتي، فَصَمَتُّ صمتَ الذُّهول.
لم أستطع أن أقولَ شيئًا.
دفعت روسفيتا كُوعَها إلى جَنْبي في خِفْيةٍ، كأنَّها تُذكِّرُني باللِّباقةِ، وتحثُّني على القيامِ بدوري المعتاد في الترحيبِ والحديثِ القَصير.
لكنِّي لم أستطع. بدا لي فجأةً أنَّ الحديثَ مع هذه المرأةِ المنهكةِ، واستغلالَ بُؤسِها في بدءِ حوارٍ، أمرٌ مُخجلٌ وغيرُ لائق.
قالت المرأةُ بصوتٍ خافتٍ متثاقل: “نعم، مِن فضلِكم؟”
بادرت روزفيتا بالترحيبِ نيابةً عنِّي، وابتسمت قائلةً: “صباحُ الخير، جئْنا لنتحدَّثَ معكِ عن الله…”
قاطعَتها المرأةُ بسرعة، وقالت بعينَيْنِ دامعتَيْنِ جامدتَيْن: “لا، لا أُريد… لا أستطيع، أنا في حالَةٍ نفسيَّةٍ غيرِ مُستقرَّةٍ الآن…”
تدخَّلت روزفيتا بصوتٍ لطيفٍ حانٍ، وقالت: “أحيانًا، تحدثُ في الحياةِ أمورٌ فظيعة، ونَرَى، أَعذِريني على صراحتي، أنَّكِ تَبدينَ حزينةً ومهمومةً جدًّا.”
ابتلعت المرأةُ ريقَها بصعوبة، ثم قالت بنبرةٍ واهنةٍ دفاعية: “هل أنتم… هل تأتونَ بدافعٍ دينيّ؟”
سكتت روزفيتا لبرهةٍ قصيرة، ثمَّ ارتسمت على وجهِها تلكَ الابتسامةُ الأموميَّةُ الرقيقةُ التي جعلتْني أُحبُّها مذْ سنين، وقالت المرأةُ بصوتٍ متردِّد: “أنا… في الحقيقةِ لستُ مُؤمنة… أعني، للأسف، لا أُؤمنُ بوجودِ إله…”
كنتُ أراقبُ أصابعَها الرّفيعةَ المتوتّرة، وهي تُمسك بإطارِ الباب، كأنَّها تخشى أنْ تنهارَ في أيِّ لحظة.
قالت روزفيتا بلطف: “أنا حقًّا أودُّ مساعدتَكِ.”
ردَّت المرأةُ بصوتٍ مَخنوق: “وكيفَ تُريدون مساعدتي؟”
قالت روزفيتا، وقد فاض صوتُها بالشّفقة: “أنتِ تبدينَ وحيدةً، مجروحةً، وتعيسةً.”
همسَت المرأةُ بوهنٍ: “أُفضِّل أن أُغلِقَ البابَ الآن، أعتذرُ منكم…” ولم تكن تعلمُ أنّنا نعرفُ ما حدثَ معها بالفعل.
قالت روزفيتا بسرعةٍ فيها رجاء: “أنا كنتُ أيضًا حزينةً جدًّا في وقتٍ ما.”
همست المرأة: “لا أُريد التحدُّث أكثر، أشعرُ بتَعَب…”، وبدأت تُغلِق الباب، لكنَّ روزفيتا وضعتْ يدَها برفقٍ على الباب، كأنَّها تُطمئنها.
ثم قالت، بما أدهشني وأذهل المرأة: “لقد فَقَدتُ طِفلًا من قبل.”
تنهدت المرأةُ تنهيدةً عميقةً، ووضعتْ يدَها على وجهِها الشاحبِ عند سماعِ تلك الكلمات.
قالت ” روزفيتا ” بنبرةٍ غمرها التأثُّر: “طِفلي كانَ مريضًا جدًّا.”
لم أُصدِّقْها. كانت ” روزفيتا ” تكذب، وقد علمتُ ذلك. لكنْ، لماذا؟ ما الغايةُ من هذا الكذب؟ لقد كان الكذبُ، في قناعتي، خطيئةً لا تُغتفر، ومحرَّمًا لا يُستباح.
سألتِ المرأةُ، وارتعاشةٌ واضحةٌ في صوتها: “هل فقدتِ طفلًا؟”
أومأت ” روزفيتا ” برأسِها صامتةً.
سألتِ المرأةُ على عجل: “بِمَ مات؟”
أجابت ” روزفيتا ” بثقةٍ غريبة: “كان مريضًا بالسَّرطان.”
عندها، انطلقت من المرأةِ صرخةُ بكاءٍ عاليةٍ فجَّرت صمتَ اللحظة.
قالت ” روزفيتا ” بدهشةٍ مصطنعة: “هل فقدتِ طفلًا أيضًا؟”
ومع ذلك، ومع أنّ الألمَ كان لا يزال يقبضُ على الموقف، فتحت المرأةُ الباب ببطءٍ وتردُّد، فتقدَّمنا خُطوةً نحو الداخل.
أومأت برأسها من جديد.
قالت ” روزفيتا ” برفق: “وهل تشعرينَ الآنَ بعجزٍ شديدٍ، وبوِحدةٍ كاملةٍ، وكأنَّ الحياةَ لم تَعُدْ تحملُ أيَّ معنًى؟”
وضعت يدَها على كتف المرأةِ النحيلةِ برِقَّةٍ، وكانت الأخيرةُ تحدِّق في الفراغِ بعينَيْنِ واسعتَيْن، بينما دمعةٌ خفيفةٌ انزلقت على وجنتها الشاحبة.
همسَت أخيرًا، بصوتٍ بالكاد سُمِع: “نعم.”
قالت ” روزفيتا “: “سأساعدكِ. لأنّني أعلمُ تمامًا ما تَمُرِّينَ به.”
قالت المرأةُ الحزينةُ بصوتٍ خافتٍ يخرج من بئرٍ من الظلمة: “أحيانًا أَشعُرُ أنَّني سَأَجنّ…” ثم فتحت البابَ على اتِّساعه وقالت: “أشعرُ بوحدةٍ مُريعة، وأتمنَّى لو أَموتُ أيضًا.”
دخلنا غرفةَ معيشةٍ ضيِّقة. تناثرت فيها المناديلُ الورقيَّة في كلِّ اتجاه، بين عُلبِ المهدِّئات وزجاجات النبيذِ الفارغة. وعلى طاولةٍ صغيرةٍ في منتصف الغرفة، جلس دُبٌّ محشوٌّ صغيرٌ يبتسم، وإلى جانبه صندوقٌ ملوَّنٌ يحوي الكثيرَ من صور الطفلةِ الصغيرةِ، تلك التي بدَت مريضةً وهزيلةً في معظم الصور.
جلسنا. وما إنِ استقرَّ بنا المقام، حتَّى التقطَت المرأةُ الحزينةُ ذلكَ الدُّبَّ المحشوَّ، وضمَّته إلى صدرها كأنَّهُ طِفلٌ حقيقي.
قالت، وصوتُها متهدِّجٌ بالحزن: “هذا الدُّبُّ كان في يدِها حين ماتَت…” ثم انفجرت بالبكاء.
سألتها ” روزفيتا ” بلُطفٍ: “هل تُريدين أن تُحدِّثيني عن طِفلتكِ؟ أحيانًا الحديثُ عن الحزنِ يُخفِّفُ من وَقْعِ الألم.”
هزَّت المرأةُ رأسَها بيأس، وهمست: “لا أستطيع… لا أستطيعُ الحديث عنها، هذا يُجنِّنُني.”
بكت بصمتٍ طويلًا، ثم رفعت فجأةً رأسها، وقالت برجاءٍ متكسِّر: “أرجوكِ، احكي لي عن طِفلكِ الذي مات…”
توقفتُ عن التنفُّس. ماذا ستفعل ” روزفيتا ” الآن؟ ماذا ستقول؟
لكنها لم تتردَّد. في لحظةٍ واحدة، نسجتْ صورةَ طفلٍ لم يُوجَد، ومات.
كانت المرأةُ الحزينةُ تُصغي، وعيناها معلَّقتانِ بالأرض.
قالت ” روزفيتا ” بعد سكونٍ قصير: “إيماني هو ما ساعدني، لأنّني أعلمُ أنَّ طفلي الآنَ عند الله.”
همست المرأةُ الحزينة: “أتمنَّى لو أستطيعُ أن أُؤمنَ بذلك… أتمنَّى أن أُصدِّق أنَّ طِفلتي الصغيرةَ في السَّماء الآن… لقد استحقَّت ذلك… لقد عانَت كثيرًا في حياتها القصيرة…”
انفجرتِ المرأةُ في البكاء من جديد.
مدَّت ” روزفيتا ” يدها نحوها، وقالت بوَعْدٍ ناعمٍ يشوبه الإصرار: “سأُريكِ الطريقَ إلى الإيمان.”
ثم وضعت يدَها برفقٍ على يدِ المرأةِ الباكية، وفي الوقتِ نفسهِ دفعتْني بكوعِها في إشارةٍ مُستعجلةٍ غيرِ صبورة.
همسَت لي بغضبٍ مكتوم: “الكِتابُ عنِ المتوفَّيْن… لا تَكوُني ثقيلةً هكذا، يا “هانا”…”
كنتُ لا أزالُ مشدوهةً، لكنَّني أسرعتُ في البحثِ عن الكُتيِّب، ثم ناولتُه إيّاها، وشعرتُ بالراحةِ حين خرجنا أخيرًا من هناك.
عند الباب، قالت ” روزفيتا ” بصوتٍ لطيفٍ ثابت: “سَنَعودُ غدًا.”
أومأت المرأةُ الحزينة، ثم قالت بصوتٍ خافتٍ كأنَّه يخرج من قاع قلبها: “أنا لِيَا… وسعيدةٌ لأنّكم جئتم.”
ابتسمت ” روزفيتا ” وقالت: “إلى الغدِ، يا “ليَا” العزيزة. سأدعو لابنتِكِ الصغيرة. لا تيأسي، فاللهُ لن يتركَكِ وحيدةً.”
هزَّت “ليَا” رأسَها، ثم نظرت إلينا بعينَيْنِ قَلِقَتَيْن، وقالت وهي تُمسك بالكُتيِّبِ بقوةٍ بين يديها: “هل ستعودانِ حقًّا؟”
قالت ” روزفيتا ” بثقةٍ لا تَتزعزع: “بكلِّ تأكيد.”
ثم غادرنا. وكان المساءُ قد تقدَّم، والسماءُ ينفثُّ رذاذًا خفيفًا فوق المدينة الصامتة.
قالت “روسفيتا” وهِيَ تُسرِعُ الخُطى: “أظنُّ أنَّ ما فعلناه اليوم يكفي. لنعدْ إلى البيت.”
مشينا جنبًا إلى جنب تحت المطرِ الرقيق، وكانت غصَّةٌ ما تشدُّ حنجرتي كما لو أنّها تُخنقني.
سألتُها أخيرًا، وصوتي بالكادَ يسمع: “ما الأمر، يا ” روزفيتا “؟”
همستُ ثانيةً: “لماذا قصصتِ ذلك؟”
قالت وهي تعبرُ الشارع بخفةٍ لا تخلو من التململ: “ماذا؟”
أجبتُ ببطءٍ ومرارة: “أنتِ لم تفقدي طفلًا من قبل…”
اكتفَتْ بالقول: “لكن يا “هانا”…” ثم خيّمَ الصمتُ بيننا، صمتٌ ثقيلٌ كمطرٍ لم يهطل بعد.
تابعنا السيرَ عبرَ الحديقةِ الصغيرةِ المُبللة، خطواتُنا تتناثر على البلاطِ كأنّها تُفتِّشُ عن معنى.
قلتُ أخيرًا، وعينايَ شاخصتان في نقطةٍ بعيدةٍ لا تُرى: “أنتِ لا تعرفينَ كيف يكونُ الأمرُ عندما يموتُ أحدهم…”
وأغمضتُ عينيَّ، فعادت بي الذاكرةُ لأوَّل مرَّة منذ زمنٍ طويلٍ إلى تلكَ الليلة… حين ماتتْ أمي، وكان أبي يتخبَّطُ في الشقةِ مثل طفلٍ تائهٍ في دوَّامة من الرعب.
قالت ” روزفيتا ” بنبرةٍ حادَّة: “كنتُ أُريد مساعدتَها على التعبيرِ عن حزنِها… كانت تحتاج فقط إلى دفعةٍ صغيرةٍ نحو الطريقِ الصحيح.”
تمسّكتُ بحزني، وقلتُ بمرارةٍ لا تخلو من عتب: “لكنّكِ كذبتِ عليها. استغللتِ معرفتَكِ بحزنِها.”
قالت بصرامةٍ قاطعة: “هذا هُراء!”
تبادلنا النَّظر. كانت عينايَ تمتلئان بشيءٍ لا أملكُ تسميتَه، وكانت نظراتها تقول: انتهى النقاش.
قالت أخيرًا، بصوتٍ يدلُّ على أنَّها لم تَعُد تُريد الاستمرار: “لا تُرهقي رأسَكِ الطائشَ بهذا الأمر، يا “هانا”. لا تزالينَ تحتاجينَ إلى الكثيرِ من التعلُّم.”
عضضتُ شفتيَّ أُكابِدُ الغضب، ثم قلتُ بكلماتٍ حادَّةٍ خرجتْ من عمقِ جُرحي: “لكنِّي، على الأقل، لن أعودَ إلى خدمةِ الوعظِ بعدَ الآن.”
اِرْتَسَمَتِ البَسْمَةُ على وَجْهِ روزفيتا، لكنَّ نَظْرَتَها المُرْسَلَةَ نَحوي كانَتْ صارِمَةً لا لِينَ فيها.
قالَتْ بهُدوء: “بِالطَّبْعِ، سَتَعُودينَ مَعَنا.”
سادَ الصَّمْتُ ما بَقِيَ مِنَ الطَّريق.
وفي الأيّامِ التّاليةِ، انْقَطَعَ حديثُنا عن تلكَ المرأةِ الحَزينَة. كانت روزفيتا تزورُها، لا شَكَّ في ذلك، لكنّني لم أُعُد مُلْزَمَةً بمُرافَقَتِها، إذْ حَلَّت الأُخْتُ بريجيت مَكاني.
وفي يَومِ الإثنين، رأيتُ لِيَا، تِلكَ المرأةَ النَّحيلَةَ، الشّاحِبَةَ، المُثقَلَةَ بالحُزْن، جالِسَةً في آخِرِ الصُّفوفِ إلى جانِبِ الأُخْتِ بريجيت. حاولتُ أن أُصَغِّرَ نَفْسي قَدْرَ الإمكان، لِئَلّا تَلْحَظَني.
وحينَ دَعا الأَخُ يوخِن الجَماعَةَ لِلصَّلاةِ مِن أجلِ ابْنَتِها الصَّغيرَةِ الّتي ماتَت، سَمِعْتُ لِيَا تَبْكِي بِهُدوء، نَشيجًا خافتًا يَخترِقُ السُّكون.
وفي الأيّامِ الّتي تَلَت، بدأْنا في المَدرَسَةِ تَدريباتِنا على العَرْضِ المَسْرَحيّ الّذي سَنُقَدِّمُه.
غَنَّيْتُ لأَوَّلِ مرّةٍ في حياتي “في مَكانٍ ما فَوْقَ قَوْسِ قُزَح”، وكانت السَّيّدةُ وينتر تُرافِقُني على آلةِ البيانو. رَسَمَت أماندا تَعبيرًا ساخرًا على وَجْهِها، لكنَّ الآخَرينَ رمَقوني بنَظَراتٍ تَحْمِلُ التَّقْدير، وكانَ ذلِكَ يُفْرِحُني بِصِدْق.
كُنّا نَتَدَرَّبُ في القاعَةِ الكَبيرَة، في حينِ كانتِ الشَّمْسُ في الخارجِ تُشْرِقُ أخيرًا. كنتُ واقِفَةً على خشَبَةِ المَسْرَحِ العالِي، وَبي تَوتُّرٌ واضِح.
صَفَّقَت السَّيّدةُ وينتر بكفَّيْها وقالَت: “حَسَنًا، دُوروثي وَصَلَت الآن إلى أَرْضِ أوز، وتَبْحَثُ عنِ السّاحِرِ العَظيمِ لِيَدُلَّها على طَريقِ العَوْدَةِ إلى كانساس.” ثُمّ أَوْمَأَت إليَّ برأسِها. “والآن جاءَ دَوْرُ الطّائِرِ القَشّيّ، بَاوْل، أنتَ التّالي.”
أومَأَ بَاوْل بِرَأسِه، وقَفَزَ بِخِفّةٍ إلى جانِبي على المَسْرَح. ارْتَعَشْتُ حينَ لَمَسَتْ يدُهُ ذِراعِي.
قالَ مُبْتَسِمًا، بِصَوْتٍ فيهِ اعتِذار: “يا لَلأَسَف!”
صرَخَتِ السَّيّدةُ وينتر من مَكانِها: “مَرْحبًا! أَنْتَ مصنوعٌ مِن قَشٍّ تمامًا! إذًا خفِّف مِن حركتكَ قَليلًا، رَجاءً. وأيضًا، أَنْتَ واقِفٌ مَمْدودُ الذِّراعَيْنِ في وَسَطِ حَقْلِ قَمح، ولا تَسْتَطيعُ الحَرَكَة!”
أومَأَ بَاوْل ضاحِكًا، ثُمّ تَمَشّى بِبُطْءٍ حتّى طَرَفِ المَسْرَحِ الأيسَر. هُناكَ، وقَفَ مُفْتَوِحَ الذِّراعَيْنِ كطائِرٍ قَشّيّ، ثُمّ غَمَزَ لي بِعَيْنِه.
قالَت السَّيّدةُ وينتر: “الآن دَوْرُكِ، يا هانا.”
وقالت بِهُدوء: “حَسَنًا، سَتَلْتَقيانِ هُنا…”
أومَأْتُ برأسي وأكملتُ المشهَد.
غَمَزَ لي بَاوْل مُجَدَّدًا، ثُمّ صاحَ بِصَوْتٍ أَجَشّ: “يَوْمٌ طَيّبٌ لَك!”
قُلتُ وأنا أؤدّي دورَ دوروثي، مُضيفةً إلى صوتي نَبرَةَ دَهْشَةٍ مُتَسائِلَة، وأنا أَقِفُ مُتَوَقِّفَةً أمامَه: “هل تَسْتَطيعُ حَقًّا الكَلام؟”
أجابَني بَاوْل بِابتِسامَةٍ ودودَة: “بالطَّبْعِ أَسْتَطيعُ الكَلام. يَوْمٌ طَيّب، يَوْمٌ طَيّب، كَيْفَ حالُكِ؟”
قُلتُ، وأنا أُخْفِي شيئًا من الارتباك في نَبْرَتي: “أنا بِخَيْرٍ إلى حدٍّ ما، شُكرًا.”
وحين نَظَرْتُ إلى الكُتيِّب في يَدي، أدركتُ أن لا حاجةَ لي به بعدَ الآن.
تابعتُ بسؤالٍ صادق: “وأنتَ، كَيْفَ حالُك؟”
تَذمَّرَ باوْلُ وهو يُطْبِقُ حاجِبَيْه بانزعاجٍ لَطيف: “أنا لَسْتُ بِخَيْرٍ إطلاقًا. إنَّهُ أَمْرٌ مُملٌّ جِدًّا أن تَقِفَ لَيْلَ نَهارٍ على تلكَ العَصا، فقط لِتُخيفَ غِرْبانًا غَبِيَّة…”
سَأَلْتُهُ، وقد لَمَحْتُ بقايا أَمَلٍ في عَيْنَيْه: “أفلا تَسْتَطيعُ النُّزول؟”
هَزَّ باوْلُ رأسَهُ نَفْيًا، ثُمَّ تَمْتَمَ بأسًى: “لا… إنِّي عالِقٌ على تِلكَ العَصا. لو استطعتِ إخراجي منها، لكُنْتُ مُمْتَنًّا لكِ إلى أقصى الحُدود.”
جاءَ صوتُ السَّيّدةِ وينتَر عاليًا مِن أوساطِ القاعة: “عليكِ الآن أن تُنزليه، باوْل. دَعْ نَفْسَكَ تُسْحَب، فأنتَ مُجَرَّدُ طائِرِ قَشٍّ عاجِز!”
رَدَّ باوْلُ مُبْتَسِمًا بِهُدوء: “حَسَنًا… مَفْهوم.”
وَقَفْتُ مُتَردِّدَةً، لا أدري ما العمل، ولا كيفَ أبدأ.
نادت السَّيّدةُ وينتَر مرةً أُخرى: “أنْزِلِيهِ، يا هانا.”
خَلْفَ ظَهري، انْبَثَقَت ضَحِكاتٌ مُنْخَفِضَةٌ من طُلّابِ الصفّ التّاسع “باء”.
تَردَّدتُ، ثمَّ تَقَدَّمْتُ بِبطءٍ وأَمْسَكْتُ بِذِراعِ باوْل.
تَأَرْجَحَ جَسَدُهُ قليلاً،
وقالت ماري، من مكانها: “عليكِ أن تُمسكيه جيدًا، يا هانا.”
هَمَسْتُ مُتَردِّدَةً: “لا أعرِفُ… كيف…”
وبدأَ الارتِجافُ يَسري في جَسَدي خَجَلاً.
تَوقَّفَ الصفُّ بأكمَلِهِ عن الحَديث. سادَ صَمْتٌ ناعِمٌ مَشوبٌ بالترقُّب.
قال باوْل، بِصَوْتٍ مُطمْئنٍ ومُبْتَسِم: “أنا لن أُؤذيكِ، لا تَقْلَقي.”
تشَجَّعْتُ أخيرًا، وأَمْسَكْتُ بِذِراعِه الأيسَرِ بِيَدي، وبالأُخْرى مرَّرْتُها تحْتَ ذِراعِه اليُمنى، ثُمَّ وَضَعْتُها على ظَهْرِه بِحَذَرٍ، وسَحَبْتُه إلى الأَمام.
قال باوْل، وكأنَّهُ طائِرُ قَشٍّ وُلِدَ من جَديد: “شُكرًا جَزيلًا… أَشْعُرُ كأَنَّني إِنْسانٌ جديد.”
لكنَّهُ، وقبل أن يَسْتَعيدَ تَوازُنَه، تأَرْجَحَ فجأة، وسَحَبَني معه وهو يَسْقُط.
سَقَطْنا معًا، وهو يَهوي عَلَيَّ مُباشَرَةً.
قال باوْل، مُعْتَذِرًا بِلَهْجَةٍ مُرتَبِكَة: “أوه… آسِف، يا هانا… تَعَثَّرْتُ بِقَدَمي somehow!”
رَقَدْتُ هناك، مذهولةً، كأنّما شُلَّت حَواسِّي.
جَسَدُ باوْلِ الدّافئ، ولَو لَحْظَةً خاطِفَة، كان فوقَ جَسَدي.
وفي داخلي، تموَّجَ شُعورٌ دافئٌ، عاصِفٌ، لا يُشْبِهُ شيئًا عرفْتُه من قَبْل.
انْتَصَبَ باوْلُ إلى جانبي، ثُمَّ انْحَنى نَحوي وسَأَلَ بِقَلَق: “هل أَنْتِ بِخَيْر؟ هل آذَيْتُكِ؟ لِماذا لا تَنْهَضين؟”
تَلَعْثَمْتُ وأنا أَسْتَجْمِعُ نَفَسي: “أنا… أنا بِخَيْر…”
ثمَّ وَقَفْتُ، مُتَمايِلَةً قليلاً، ولكِنَّني كنتُ على قدَميّ.
تَنَفَّسْتُ الصُّعَداء، وإذا برنينِ الجَرَسِ يَشُقُّ الفضاءَ مُعْلِنًا نهايةَ الحِصَّة.
قالت السيدةُ وينتَر، وهي تُغْلِقُ دفترها: “انتهى الدرسُ لهذا اليوم.”
أسرعتُ إلى ارتداء سترتي، ويدايا لا تكفّان عن الارتعاش. ذاك الشُّعورُ الذي اجتاحَني حين سَقَطَ باوْل فوقي، ما زال يَشُقُّ داخلي بهدوءٍ عارمٍ لا يُوصَف.
كنتُ لا أزالُ أَشْعُرُ به… برائِحَتِه. كانت رائحته طيّبةً، شابّةً، دافئةً وغريبة، تُشبه شيئًا من رائحة بنيامين، لكنّها لم تكن هي. فيها ما يُربكني، ما يُوهِنُني ويَجعلُني أرتجف.
بتعثُّرٍ وتلكُّؤٍ، تَسَلَّلْتُ خارِجَ القاعة. نَزَلْتُ إلى الساحة، وَحيدةً تمامًا، كما كنتُ دومًا. تَمْشَيْتُ بلا وجهةٍ بين شجرةِ الكستناء، والجدارِ الصغيرِ القابعِ في الزاوية، ثم نحو البوابةِ الكُبرى للمدرسة، حيث تصطفُّ الدراجاتُ الهوائيةُ في نظامٍ صامت.
لم أكن أُريدُ أن أَعْتَرِفَ بذلك، لكنَّني كنتُ أعلَمُ تمامًا مَن أبحثُ عنه.
ولم يُخيِّبِ الحَدْسُ ظَنِّي: كان باوْل جالسًا هناك، وَحيدًا على العُشب، بجانبِ دَرّاجتِه، وعيناه مُنْغَمِسَتان في كتاب.
تَقَدَّمْتُ نحوه ببطء، وأنا أُقْسِمُ داخلي أن أترك هذا الجنونَ خلفي. لكنّ قلبي لم يُطِعْني. لم أُرِد الحديث إليه، لم أكن أبحث عن كلام، بل أردتُ فقط أن أَقِفَ قُرْبَهُ للحظةٍ قصيرة، لأَشْعُرَ بالدفء، وأتَنَفَّسَ رائحةَ ذلك الشاب الغريب.
قال باوْل، وقد أدارَ وجهه إليّ – لا بُدَّ أنّه سَمِعَ خُطواتي –: “مرحبًا، يا هانا.”
سَكَتُّ.
سألني بلُطْفٍ فيه شيءٌ من الدعوة: “ما الأمر؟ ألن تجلسي إلى جانبي؟ العُشب جافّ، والدِّفء تحت الشَّمسِ رائع.”
نَظَرْتُ إليه بحيرةٍ، وشَعَرْتُ أنّ البُعدَ بيني وبينه يَكْبُر. كأنّني صِرْتُ غريبةً عن هذا العالم، أكثرَ عُمرًا، وأقلَّ بَساطة.
تمْتَمْتُ أخيرًا: “كنتُ فقط أَمُرُّ من هنا.”
قال باوْل، وهو يُومِئ: “آه، فَهِمْت.”
تَبَادَلْنا نَظَرَةً صامتة.
سألني مُبْتَسِمًا: “إلى أينَ كُنتِ تريدين الذَّهاب؟”
أَجَبْتُ، مُتَلَعْثِمَة: “أنا… لا أعرِفُ تمامًا… كنتُ أُريد الذَّهاب إلى السَّيّد المُخْتَصّ، أقصِدُ إلى مكتبِ المفقودات. لقد فَقَدْتُ مَحفظتي الأسبوع الماضي، و…”
نهضَ باوْل وقال بلُطْف: “بالطبع، مكتبُ المفقودات.”
ثمّ تَأَمَّلَني طويلًا، بعينين فيهما شيءٌ لا يُقال.
تمتمتُ متوترةً: “سأذهبُ الآن… فالرّنّة ستَدُقُّ قريبًا، و…”
قال باوْل عارضًا: “سأُرافِقُكِ إن أردتِ.”
ارْتَجَفْتُ، وشَعَرْتُ بِوَخْزٍ داخليٍّ غريب.
والحقيقة أنّني لم أَكُن أَفْتَقِدُ مَحفظتي أصلاً. كانت، في تلك اللحظة، مُخَبَّأَةً بأمانٍ في جَيبِ مِعْطَفي.
قُلتُ مُتَردِّدة: “حَسَنًا.”
ثمَّ بدأنا نسير…
فَجأةً، قال باوْل وهو يَضْغَطُ جَرَسَ مكتبِ السيِّدِ المُخْتَصّ: “على فكرةٍ، لِعَيْنَيْنا نفسُ اللون.”
“ماذا؟” تَسَاءلْتُ باستغراب.
“رَماديٌّ جَليديٌّ”، شَرَحَ باوْل. “كلانا لونُ عَيْنَيْه رَماديٌّ جَليديٌّ. لا أعرِفُ فتاةً أُخْرى تَحْمِلُ هذا اللون سِواكِ.”
ولَحُسنِ الحظّ، لم يكن السيّدُ المُخْتَصّ في مَكْتَبِه. وأثناءَ عودتِنا معًا، قَرَعَ جَرَسُ الاستراحة. كنتُ أَمْشِي مُتَعَثِّرَةً إلى جانِبِه، والارتباكُ يَأْكُلُني في داخلي. كان يَفُوحُ منه عبيرُ الرّبيع، وتَفيضُ ملامِحُه بحيويّةٍ لا تُوصَف. بدا سعيدًا، جَميلًا، بشَعْرِه الأشقرِ النّاعم، وابتسامته العَريضة، وذِراعَيْه المشدودتين تحت الشّمس.
هَل يُعقَلُ أننِي وَقَعْتُ في الحُبّ؟
خَطَرَتْ في بالي فكرةُ يَهْوَه، كأنّه يُراقبُني في هذه اللّحظةِ بالذّات. شَعَرْتُ بغَثَيانٍ يَتَصاعَدُ في بَطْني، وبِبُرودةٍ تَجْتاحُ أوصالي، وقُشَعْريرةٍ سَرَتْ في ظَهْري.
“هانا، ماذا بِكِ؟” سألني باوْل بقلق. “لقد شَحَبْتِ فجأةً.”
“لا شيء”، تَمْتَمْتُ بيأس، وأنا أتَجَنَّبُ النّظرَ في عَيْنَيْه.
هل كانت تلك وَسوَسةً من الشّيطان مرّةً أُخْرى؟
هَل يُريدُ يَهْوَه أن يَخْتَبِرَني مجدَّدًا؟
لا يَجِبُ أن أقَعَ في حُبِّ باوْل، لا، رغمَ عَيْنَيْه الواسِعَتَيْن الرَّقيقتَيْن، ووَجْهِه المُشْرِق، وذِراعَيْه القَويَّتَيْن المَشْدودَتَيْن.
“دَعْني”، تَوَسَّلْتُ بنَبْرَةٍ مُنْزَعِجَة. “لِماذا تُحَدِّقُ بي هكذا؟ أنا… بخير تمامًا.”
عَبَسَ باوْل قليلًا، وعندما رَفَعَ ذِراعَه كأنَّه على وَشْكِ أن يَفْعَلَ شيئًا، تَراجَعْتُ خُطْوَةً إلى الوَراء.
“مَهْلًا، ما بِكِ؟” سألني بهُدوء. “أنا لا أُريدُ أن أُؤذِيَكِ، يا هانا…”
عندها، اسْتَدَرْتُ فجأةً وركَضْتُ بعيدًا.
“هانا!” ناداني باوْل مذهولًا، لكنَّه لم يُلاحقني.
هَرَبْتُ من المدرسة وكأنَّ الشيطانَ نَفْسَه يُطارِدُني.
ركَضْتُ حتّى وَصَلْتُ إلى الحديقةِ الصّغيرةِ في قلب المدينة، أبحثُ عن هُدوءٍ ألوذُ به، عن سَكينةٍ تُجَمِّدُ الصَّوْتَ والصُّوَرَ داخلي. وَقَفْتُ فجأةً، مُتَجَمِّدَةً، قلبي يَخْفِقُ بِقُوّة، وجَسَدي غارقٌ في العَرق.
بَحَثْتُ بيأسٍ عن مَخبأٍ أختبئُ فيه، وتعَثَّرْتُ خلفَ كُشْكٍ صغيرٍ مهجور، أُغْلِقَ منذُ سنين. ألْقَيْتُ نَظْرةً خَاطِفَةً حَولَ الزّاوية.
وهناك، قُرْبَ البوّابةِ الكُبرى للحديقة، وَقَفَ اثنانِ من شهودِ يَهْوَه. كانت والدةُ ريبيكا، ومعها امرأةٌ أُخْرى، لم تَكن قد انضَمَّتْ حديثًا إلى الاجتماعات.
راقَبْتُهُما لِبُرْهَةٍ. كم كانَتا واقفتَيْنِ جامدَتَيْن، وكم بدَتْ بينَهُما اختلافاتٌ لم أُلاحِظْها مِن قبلُ بِهذا الوضوح.
شَعَرْتُ بغُرْبَةٍ تَفُوحُ منهُما، لكن، في الوقت نفسِه، باغَتَنِي إحساسٌ بقُرْبٍ غريب…
كأنَّ شيئًا في داخلي اشتاقَ إليهما. فَبَعْدَ كُلِّ شيء، كُنّا ذاتَ يومٍ، عائلةً واحدةً في الإيمان.
أصغَيْتُ للحظةٍ إلى داخلي، كأنِّي أُنْصِتُ لصوتٍ خافتٍ يتردَّدُ في أعماقي. ثمَّ انتَزَعْتُ نفسي بلُطْفٍ، وتَسَلَّلْتُ بصمتٍ إلى جوار أخواتي في الإيمان، اللواتي لم يَكُنَّ يُدْرِكْنَ شيئًا ممّا كان يَعتَمِلُ بداخلي.
عَبَرْتُ من مدخلٍ جانبيٍّ صغير، حتى دَخَلْتُ أخيرًا إلى الحديقة.
تَجَوَّلْتُ فوق المروجِ الغَنّاء، أَتَأمَّلُ سُكونَ الطَّبيعة، وأَشْعُرُ بوَحدةٍ خانقةٍ تَلْفُّني كَضبابٍ ثقيل. حَرَّمْتُ على نفسي أن أُفَكِّرَ في باوْل، فبدأتُ أُرَنِّمُ لنفسي أغنية “في مكانٍ ما فوق قوس قُزَح”… لكنَّ هذا أيضًا كان مَمنوعًا.
“ممنوع، ممنوع، ممنوع.”
بقلْبٍ حزينٍ مكسور، تَوَجَّهْتُ نحو بركةِ البطِّ، وجلستُ عند ضِفافِها الضحلة. كنتُ أُراقبُ البطَّ يَسْبَحُ بكسَل، ويُصدرُ أصواتَه العجيبة، ويَتَخاصَمُ أحيانًا بلا سبب. رأيتُ فراخَ البطِّ الصغيرة، تتعثَّر في خُطُواتها وهي تَخرجُ إلى اليابسة، وانزَلَقْتُ في تأمُّلٍ صامتٍ لحياتي.
وعلى الجهةِ الأخرى من البركة، كان بعضُ الشبّانِ مُستلقين في العُشب، ربّما يتغيّبون عن المدرسة كما أفعل. تَسَلَّلْتُ بنظري إلى مجموعتهم. اثنان يَتَقاذفان قُرصًا طائرًا بمرح، واثنان آخَران يجلسان يقرآن، وثلاثةٌ لا يفعلون شيئًا سوى الاستلقاء والنوم.
كانت عينايَ تَحْتَرِقان، وشَعَرْتُ بالفراغِ يَسْحَبُني نحو هاويةٍ داخليّة. لم تكن البركةُ الخضراءُ وحدَها هي ما يَفْصِلُ بيني وبينهم، بل كانت عوالمُ كاملة، لا تُرى.
ظللتُ أُراقبهم بصمتٍ، حتى بدأ صداعٌ نابضٌ يَعْتَصِرُ رأسي. اختفَتِ الشّمس، وبدأ رَذاذٌ خفيفٌ يَتَساقَط من السّماء. اقترب الشبّان من بعضهم، ثمّ، واحدًا تلو الآخر، انصرفوا في صمتٍ عن المكان.
ولم يَبْقَ سوى فتاةٍ كانت تلعب بالقرص، وصبيٍّ مُنْهَمِكٍ في القراءة. تَبادَلَا الابتسامات، وجَلَسَا متلاصقَيْن على العشب، ثُمَّ أمالا رُؤوسَهُما حتى تَلامَسَت. راقبتُهما بِعَيْنَيْنِ دامعتَيْن، وكلّما ازداد المطرُ خِفّةً، ازدادَ اقترابهُما.
وضَعَتِ الفتاةُ ذِراعَها حَوْلَ كَتِفِ الفتى، فمَدَّ يَدَه إلى الخلف، وسَحَبَ سُتْرَتَه الجينز، ناشِرًا إياها فوقهما كأنّها خَيْمة. ضَحِكَتِ الفتاةُ بصوتٍ عالٍ، ثمّ، وبشيءٍ من الوقار، رَفَعَت كَفَّيْها وطَوَّقَت بهما وَجْهَهُ المُبَلَّلَ بالمطر.
ثمّ خَيَّمَ الصّمتُ على الضفّة الأخرى… فقد كان الاثنانِ يتبادلان قُبلةً طويلة.
حَبَسْتُ أنفاسي، والدّموعُ تَنْهَمِرُ من عينيّ. التَفَتُّ بعيدًا، وانكمشتُ على نفسي كقنفذٍ جريحٍ فوق الأرضِ المُبَلَّلَة. ضَغَطْتُ وجهي السّاخنَ في التُّرابِ اللّزِج، وكان العُشْبُ قد تَسَلَّل إلى أنفي، بل وحتّى إلى فَمي، لكنّني لم أُبالِ، وبقيتُ أبكي… وأبكي… وأبكي…
لا أَعلم كم مَضى من الوقت على هذه الحال، لكنّه كان طويلًا بما يكفي لأَشْعُر أنني ميّتة، ميّتة بطريقةٍ ما… منسيّة… وبلا قيمة.
“مرحبًا، هل تسمعينني؟”
جاءتني فجأةً، بعد زمنٍ طويلٍ لا أقدر على قياسه، هَمْسَةٌ خافتةٌ خائفة، تَرافَقَت مع رَجَّةٍ خفيفةٍ على كَتِفي.
اسْتَدَرْتُ مُذْعورة، واعتدلْتُ قليلًا. كان هناك فتى لا أعرفه، جاثيًا إلى جانبي. طويلُ القامة، وَسيمُ الملامحِ بشكلٍ لافت. خُيِّل إليّ أنني رأيتُه من قبل، لكنَّ الخاطرَ بدا باهتًا، كأنّه مَشْهَدٌ من حُلُمٍ لم يكتمل.
قَفَزْتُ واقفةً على عَجَل.
“وَجْهُكِ مليءٌ بالتراب، أنتِ مُلَوَّثَةٌ بالكامل”، قالها الفتى وهو يَهُزُّ رأسه بأسًى.
مسحتُ وجهي المُبَلَّلَ واللزج بيديّ المرتجفتَيْن.
“لم تُجْدِ تلك المحاولة نَفْعًا كثيرًا”، قالها مُبتسمًا بشيءٍ من الشَّفَقَة.
“لا بأس، يجب أن أرحل الآن”، تَمْتَمْتُ.
“على الأقلّ، لستِ ميّتةً أو شيئًا من هذا القبيل”، قال وهو لا يزال يهزُّ رأسه. “حين رأيتُكِ أوّل مرّة، ظننتُ أنكِ… ربّما تعرّضتِ لاعتداء.”
تَبادَلْنا النّظراتِ لثوانٍ، كأنَّ الزمن قد توقّفَ بيننا.
“يبدو أنّكِ بكَيْتِ كثيرًا”، قال الفتى أخيرًا، بصوتٍ خافتٍ يحملُ شيئًا من الحذر. “هل حَدَث شيء؟”
هَزَزْتُ كَتِفَيَّ دون أن أنطق، لكنّ رأسي كان يضجُّ بالأفكار. تَدفَّقَتْ إلى ذهني صورُ والديّ، والأخ يوخن، ويَهْوَه، وبَاوْل… وبالأخصّ، بَاوْل.
“أمّي ماتَت”، قلتُ فجأةً، دون أن أُدرك لِمَ نَطَقْتُ بذلك الآن. يا لَلْغباء… لِمَ أتحدّث عن والدتي المتوفّاة في هذه اللحظة؟ لا شكّ أنّه ظنّ أنَّ أمّي توفّيت الآن، لا قبل أكثر من تسعِ سنوات…
“حقًّا؟ يا له من أمرٍ مُروّع…” قالها بعد لحظةِ صمتٍ قصيرة، وقد بدا على وجهه مَزيجٌ من الصدمة والتّعاطف. “كيف حدث ذلك؟ أعني… إن كان بإمكانكِ الحديث عنه.”
كان صوته حنونًا، يحمل تلك النبرة التي يستعملها النّاس حين يُحادثون شخصًا مكسورًا أو جريحًا.
“دَهَسَها باص… باص الخطّ الرابع”، هَمَسْتُ، كأنّي أُفْشِي سِرًّا.
عَضَّ الفتى على شفتِه السُّفلى، وقال بنبرةٍ واهنة: “يا له من أمرٍ مؤلم… لا بدّ أنّكِ عانَيْتِ كثيرًا… طبيعيٌّ أن تبكي.”
رَفَعْتُ رأسي إليه. شيءٌ ما في عبارته صَدَمَني: طبيعيٌّ أن تبكي.
لكن، لِمَ لم أبكِ من قبل؟
حين حَطَّم أبي أثاث المنزل ذات مساء، لم أبكِ. كنتُ خائفةً فقط، ومشوَّشة، ثمّ غَلَبني النعاس على نحوٍ غريب. بعدها بدأتُ أَخافُ من الوحش الذي يَسكن تحت سريري. ثمّ جاءت روزفيتا، وقدّمت لي قلبًا من خبز الزنجبيل، نُقِشَ عليه: “حبيبتي”.
لكنّني… لم أبكِ قطّ على أمّي الميتة.
“عليَّ أن أعود إلى البيت… فورًا”، تَمْتَمْتُ، واستَدَرْتُ فجأة، ثمّ رَكَضْتُ مبتعدة.
“هيه، انتظري!” نادى الفتى من خلفي.
لكنّني لم أتوقّف.
“أين كنتِ؟! وما هذا المنظر؟ هل تَعَثَّرْتِ؟ هل تَعَرَّضْتِ لحادث؟ هانا!”، صاحت روزفيتا بقلقٍ حين دخلتُ عبر الباب.
هَزَزْتُ رأسي نَفيًا، دون أن أُجيب، ثمّ اندفعتُ إلى غرفتي.
كنتُ أريد أن أندسَّ في سريري وأبكي… أن أبكي حتّى النهاية. لكنّني لم أفعل.
فكّرتُ في الذهاب إلى الحمّام، أن أملأ الحوضَ برغوةٍ دافئة وأغتسل بهدوء، لكنّني لم أفعل ذلك أيضًا.
رغبتُ أن أصرخ، أن أركضَ إلى القبو وأُفَتِّشَ عن أشياء أمّي القديمة، عن أيّ أثرٍ منها… لكنّ شيئًا فيَّ كان مشلولًا.
وَقَفْتُ ساكنة، جامدةً، لا أُحَرِّكُ ساكنًا.
أرهفتُ السّمع لِدَاخِلي… هل عاد ذاك النعاس القديم؟ لا… لم أكن ناعسة.
كنتُ حزينة.
حزينة… حزينة… حزينة.
وَقَفْتُ في غُرْفَتي، وذِرَاعايَ مُتَدَلِّيَتان، وعَيْنَايَ جَافَّتَانِ من الدُّمُوع، بينما كانَتْ غَلَالةٌ من حُزْنٍ لا حُدُودَ له تَزْحَفُ في كُلِّ رُكْنٍ من جَسَدِي المُرْتَجِفِ من البَرْد.
دَخَلَتْ روزفيتا بعدَ حينٍ، وهَزَّتْ ذِرَاعِي بِقُوَّة.
“هانا، هل جُنِنْتِ؟!” صاحَتْ، وكانَ في صوتِها مَزِيجٌ من الغَضَبِ والذُّعْر. “هل آذاكِ أحد؟ هل تَعَرَّضْتِ للأذى؟ هل…؟”
عَضَّتْ شِفَتَها السُّفْلَى، ونَظَرَتْ إليّ بقلقٍ بالغ.
“هانا، اخلَعِي مَلابِسَكِ، أنتِ مُغَطّاةٌ بالوَحلِ والمَطَر، سَتُصابِينَ بشيءٍ إن بَقِيتِ هكذا…”، تَمْتَمَتْ في النِّهَايَة.
ثمّ بَدَأَتْ تُجَرِّدُنِي من ثِيَابِي كما لو كُنْتُ دُمْيَةً مَرِيضَةً في وَاجِهَةِ مَتْجَر.
نَزَعَتْ بُلُوزَتِي، ثُمَّ تَنُّورَتِي، ثُمَّ صَنْدَلِي، وقَادَتْنِي إلى الحَمَّام. فَتَحَتْ صُنْبُورَ الدُّشّ، ودَفَعَتْنِي تَحْتَه.
ثمّ استَدَارَتْ نَحْوَ الباب وقالَت:
“الجَدَّةُ سَتَصِلُ خِلالَ نِصْفِ سَاعَة. سَتَأْخُذُكِ مَعَهَا إلى تَوْزِيعِ المَنْشُورَات. أَسْرِعِي قَلِيلًا، وَلَا تَنْسَي أَنْ تَتَنَاوَلِي شَيْئًا قَبْلَهَا.”
حَدَّقْتُ إليها في صَمْتٍ، دون أن أُحَرِّكَ ساكنًا.
“أَغْلِقِي بابَ الدُّشّ، لقد أَغْرَقْتِ المكان!”، قالَت بِلَهْجَةٍ تَوْبِيخِيَّة.
“قد لا أَرْغَبُ بالذِّهَابِ إلى تَوْزِيعِ المَنْشُورَاتِ في الشَّارِع”، قُلْتُ بِهُدُوء.
“ماذا؟ ماذا قُلْتِ؟” سَأَلَت روزفيتا بدهشةٍ، وقد عَقَدَتْ حاجِبَيْهَا، كما لو أنَّ الكلامَ أفْلَتَ منها.
“لا أُرِيدُ الذِّهَاب. لا أُرِيدُ أن أَبْدُوَ سَخِيفَة. رُبَّمَا لا وُجُودَ للهِ أَصْلًا، ورُبَّمَا كُلُّ حَدِيثِكُمْ عن يَهْوَه وَهْم. ورُبَّمَا… لا أُرِيدُ إِلَهًا أَصْلًا، إِلَهًا ي…”
لم أُكْمِل.
فَجْأَةً، صَفَعَتْنِي روزفيتا على وَجْهِي.
“هانا!”، صَرَخَت، وقد بَدَت مُرَوَّعَةً ممَّا فَعَلَتْ.
تَبَادَلْنَا النَّظَرَ في صَمْتٍ ثَقِيل.
“يا إلهي… أَعْنِي يا إلهي الحقيقيّ، سَاعِدْنِي…”، تَمْتَمَت روزفيتا، بينما كانَ مَاءُ الدُّشّ قد أَغْرَقَهَا تَمَامًا، وجَعَلَ الحَمَّامَ يَطْفُو.
خَرَجْتُ من تَحْتِ الماءِ وأنا أَرْتَجِف، وبدأَتْ روزفيتا تَهْمِهُمُ بِدُعَاءٍ مُرْتَفِعِ الصَّوْت.
سَمِعْتُ صَوْتَ جَرَسِ البابِ بعدَ لحظات.
ذَهَبَتْ زَوْجَةُ أَبِي لِفَتْحِ الباب.
“هانا…”، صاحَتْ بصوتٍ مُضْطَرِب. ثمّ خَفَضَتْهُ وأَتَمَّتِ الجُمْلَة: “… لم تَنْتَهِ بَعْد.”
كُنْتُ وَاقِفَةً بِبَذْلَةِ الاسْتِحْمَام، في الحَمَّامِ الدَّافِئ، أُنْصِتُ.
حَاوَلَتْ روزفيتا أَنْ تَبْدُوَ عَادِيَّةً، عَفَوِيَّةً، كَعَادَتِهَا…
لكِنَّنِي شَعَرْتُ بِشَيْءٍ غَرِيبٍ في صَوْتِهَا…
لِأَوَّلِ مَرَّةٍ، لَمْ تَكُنْ تَبْتَسِمُ وَهِيَ تَتَحَدَّث.
والأَغْرَبُ مِنْ ذَلِكَ… أَنَّكَ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ “تَسْمَعَ” ابْتِسَامَتَهَا.
واليَوْمَ، لَمْ أَسْمَعْ شَيْئًا.
لَمْ أَعُدْ أُصْغِي لِمَا قَالَتْهُ جَدَّتِي، فَقَدْ أُغْلِقَ بَابُ المَطْبَخِ خَلْفَهَا بِصَوْتٍ مَكْتُوم.
فَتَحْتُ بَابَ الحَمَّامِ بِبُطْء، وَسِرْتُ نَحْوَ غُرْفَتِي لأرْتَدِي مَلَابِسِي. البُلُوزَةُ الَّتِي وَضَعَتْهَا روزفيتا لِي لَمْ تَكُنْ بِذَلِكَ السُّوءِ الَّذِي تَوَقَّعْتُهُ، كَانَتْ بَيْضَاءَ، عَادِيَّةً، بَسِيطَةً، لا تُثِيرُ سُخْرِيَةَ أَحَد.
الجَوَارِبُ السَّوْدَاءُ كَانَتْ مَقْبُولَةً أَيْضًا، أَمَّا التَّنُّورَةُ الزَّرْقَاءُ فَكَانَتْ كَرِيهَةً بِحَقٍّ. خَاطُوهَا مِنْ ثَلَاثِ قِطَعٍ غَيْرِ مُتَنَاظِرَة، فَانْسَدَلَتْ عَلَى رُكْبَتَيَّ بِفَوْضَى لا يُحْتَمَلُ مَظْهَرُهَا.
نَظَرْتُ إِلَى نَفْسِي بِيَأْس، وَشَعَرْتُ كَأَنِّي دُمْيَةٌ مُشَوَّهَةٌ فِي حَقْلٍ مَهْجُور. لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَمَل. لَا، لَا، لَا أَمَلَ أَبَدًا، أَنْ يُحِبَّنِي فَتًى مِثْل “بَاوْل”. كَانَ حَظِّي الحَسَنُ فَقَطْ، أَنَّهُ لَمْ يَضْحَكْ عَلَيَّ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ زُمَلَائِي فِي الصَّفّ.
“هانا، هَلِ انْتَهَيْتِ؟ الجَدَّةُ تَنْتَظِر!”، صَاحَتْ روزفيتا مِنَ المَطْبَخ.
هَمَسْتُ لِنَفْسِي، دُونَ صَوْت: “لَا، فَأَنَا لَا أُرِيدُ أَنْ أَذْهَب”.
ثُمَّ صَرَخْتُ عَلَى مَضَض: “نَعَم، سَآتِي حَالًا!”.
وفيما كُنْتُ أَقْتَرِبُ بِبُطْءٍ مِنَ البَاب، وَقَعَتْ عَيْنَايَ عَلَى قَلْبِ الزَّنْجَبِيلِ القَدِيم، ذَاكَ الَّذِي جَفَّ مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ حَتَّى صَارَ كَالحَجَر. كَانَ لا يَزَالُ مُعَلَّقًا عَلَى الحَائِط، الهَدِيَّةُ الَّتِي قَدَّمَتْهَا لِي روزفيتا فِي المَاضِي البَعِيد، تِلْكَ الَّتِي بِهَا كَسِبَتْ مَحَبَّتِي، وَجَعَلَتْنِي أَنْسَى أُمِّي الأُولَى.
“حَبِيبَة”، كَانَتِ الكَلِمَةُ مَكْتُوبَةً عَلَيْهِ بِالسُّكَّرِ الوَرْدِيّ.
حَدَّقْتُ فِيهِ بِحُزْن، ثُمَّ رَفَعْتُ قَبْضَتِي وَضَرَبْتُهُ. ضَرْبَةً خَفِيفَة، خَشِيتُ أَنْ تَسْمَعَهَا روزفيتا مِنَ المَطْبَخِ المُجَاوِر.
تَأَرْجَحَ القَلْبُ قَلِيلًا عَلَى مِسْمَارِهِ دُونَ أَنْ يَتَأَثَّر، وَلَكِنَّ الخَطَّ الوَرْدِيَّ بَدَأَ يَنْهَارُ تَحْتَ قَبْضَتِي. الكَلِمَةُ “حَبِيبَة” تَفَتَّتَتْ بِصَمْت، تَحَوَّلَتْ إِلَى فُتَاتٍ بَاهِتٍ، دَاكِنِ اللَّوْن، وَسَقَطَتْ بِشَكْلٍ قَبِيحٍ إِلَى أَسْفَلِ القَلْبِ المُغَلَّفِ بِالبْلَاسْتِيك.
حَدَّقْتُ فِيهِ، وَقَدِ اعْتَرَانِي الذُّهُول، وَأَحْسَسْتُ بِأَنَّ مِزَاجِي ازْدَادَ سُوءًا.
ثُمَّ خَرَجْنَا.
وَقَفْنَا عَلَى أَطْرَافِ سُوقِ البَلَدِيَّة. ازْدِحَام، صَخَب، خُطًى سَرِيعَةٌ، وَوُجُوهٌ لَا أَعْرِفُهَا.
“لَا تُـمْطِرِي وَجْهَكِ بِهَذَا العُبُوسِ، هانا”، قَالَتْ جَدَّتِي وَهِيَ تُسَلِّمُنِي الحَقِيبَةَ المَلِيئَةَ بِالصُّحُف.
لَمْ أُجِبْ. لُذْتُ بِالصَّمْت، فِيمَا كَانَ عَقْلِي مَشْغُولًا بِـ”بَاوْل”، وَبِذَلِكَ الثُّنَائِيِّ الَّذِي رَأَيْتُهُ يُقَبِّلُ بَعْضَهُ عِنْدَ بُحَيْرَةِ البَطِّ فِي حَدِيقَةِ المَدِينَة، وَبِالمَسْرَحِيَّةِ المَمْنُوعَةِ الَّتِي تَحَدَّثَتْ عَنْهَا السَّيِّدَةُ “فِينْتَر”، وَبِسِلْسِلَةِ الأَكَاذِيبِ الَّتِي نَسَجْتُهَا خِلَالَ الأَيَّامِ المَاضِيَة.
“قِفِي بِاسْتِقَامَةٍ، وَاحْمِلِي صُحُفَكِ كَمَا يَنْبَغِي”، تَمْتَمَتْ جَدَّتِي بِغَضَبٍ، وَرَمَقَتْنِي بِنَظْرَةٍ صَارِمَةٍ.
كَانَ النَّاسُ يَمُرُّونَ أَمَامَنَا، كُثْرًا، غُرَبَاءَ، يَمْلَؤُونَ السَّاحَةَ بِأَصْوَاتِهِمْ وَخُطَاهُمْ… وَأَنَا، فِي وَسْطِ هَذَا كُلِّهِ، كُنْتُ أَشْعُرُ أَنَّنِي لَا أَنْتَمِي إِلَى شَيْءٍ.
حَاوَلْتُ أَنْ أَبْدُوَ كَمَا أَنَا دَائِمًا. أَلْقَيْتُ نَظْرَةً خَاطِفَةً نَحْوَ جَدَّتِي، لَكِنَّهَا كَانَتْ قَدْ غَاصَتْ مُجَدَّدًا فِي أَعْمَاقِ حَدِيثِهَا الصَّامِتِ مَعَ “الرَّبِّ”، مُتَجَاهِلَةً وُجُودِي تَمَامًا.
كَانَتْ سَاقَايَ تُؤْلِمَانِنِي، وَالصُّدَاعُ الحَادُّ الَّذِي هَاجَمَنِي فِي الحَدِيقَةِ عَادَ يَقْرَعُ رَأْسِي بِدُونِ رَحْمَةٍ. وَحَلْقِي كَانَ مُلْتَهِبًا، وَشَعَرْتُ أَنَّنِي مُحَطَّمَةٌ تَمَامًا.
نَسَمَةٌ بَارِدَةٌ مِنْ رِيَاحِ الخَرِيفِ مَرَّتْ بَيْنَ أَطْرَافِي المُرْتَجِفَة. وَرَاحَتِ الصُّحُفُ تَرْفُرِفُ وَتَنْتَفِخُ فِي الْهَوَاءِ.
“كُفِّي عَنِ التَّخَبُّطِ، هَانَا”، تَمْتَمَتْ جَدَّتِي بِنَبْرَةٍ مُنْزَعِجَةٍ.
“أَنَا لَمْ…”، احْتَجَجْتُ بِغَيْظٍ، وَلَكِنَّ صَوْتِي انْكَسَرَ.
“هسّ!”، هَمَسَتْ جَدَّتِي بِصَرَامَةٍ، كَمَا تَفْعَلُ كُلَّمَا رَأَتْنِي أَرْفَعُ صَوْتِي، أَوْ أَبْدُو فُضُولِيَّةً، أَوْ عَنِيدَةً، أَوْ مُفْرِطَةً فِي المَرَحِ.
أَطْبَقْتُ فَمِي، وَأَذْعَنْتُ، وَشَدَدْتُ قَبْضَتِي عَلَى المَجَلَّاتِ. لَمْ يَعُدْ لِلرِّيحِ سُلْطَانٌ عَلَيْهَا.
وَفَجْأَةً، قَرَّرْتُ أَنْ أُصَلِّي.
لَقَدْ كُنْتُ أُحِبُّ “يَهْوَه”، فَمَا الَّذِي حَدَثَ لِي فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ؟
“يَا يَهْوَه، إِنْ كُنْتَ مَوْجُودًا”، تَمْتَمْتُ فِي دَاخِلِي، “فَأَظْهِرْ لِي ذَاتَكَ، دُلَّنِي عَلَى أَنَّكَ هُنَا، مَعِي، قُرْبِي. أَنَا أَشْعُرُ بِوَحْدَةٍ عَمِيقَةٍ، وَأَتُوقُ لِأَنْ أَكُونَ سَعِيدَةً مِنْ جَدِيد. قَلْبِي حَزِينٌ. أَفْتَقِدُ أُمِّي بِشِدَّةٍ، وَتُرْبِكُنِي هَذِهِ المَشَاعِرُ الغَرِيبَةُ تُجَاهَ بَاوْل. أَعْلَمُ أَنَّنِي أُخْطِئُ. أَعْلَمُ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَتَسَلَّلُ إِلَى حَيَاتِي، مِرَارًا وَتِكْرَارًا. سَاعِدْنِي، يَا إِلَهِي، أَرْجُوك…”.
دُوَارٌ خَفِيفٌ لَفَّ رَأْسِي، فَأَسْنَدْتُ ظَهْرِي إِلَى الجِدَارِ القَرِيبِ طَلَبًا لِلثَّبَاتِ.
وَبِدُونِ إِنْذَار، شَقَّ الهَوَاءَ صَوْتٌ سَاخِرٌ، عَالٍ، مُمْتَلِئٌ بِالشَّمَاتَةِ:
“انْظُرُوا مَنْ لَدَيْنَا هُنَا؟”
ارْتَجَفْتُ.
كَانَتْ “أَمَانْدَا”، وَ”دِيبُورَا”، وَ”رُوبِرْت” مِنْ صَفِّي، وَقَدْ وَقَفُوا أَمَامِي بِوُجُوهٍ مُتَشَفِّيَةٍ، يَرْمُقُونَنِي كَأَنَّنِي مَخْلُوقٌ غَرِيبٌ مَحْبُوسٌ خَلْفَ زُجَاجٍ.
تَبَادَلْنَا النَّظَرَاتِ، وَأَنَا أَشْعُرُ بِأَنَّ الأَرْضَ تَمِيدُ تَحْتَ قَدَمَيَّ.
“هَا هِيَ عَمَّتُنَا يَهْوَه مِنْ جَدِيد”، قَالَتْ أَمَانْدَا بِنَبْرَةٍ حَادَّةٍ، “تُوَزِّعُ الإِعْلَانَاتِ عَنْ رَبِّهَا الأَبْلَه؟”
نَظَرْتُ إِلَى جَدَّتِي. لِلَحْظَةٍ، تَمَنَّيْتُ أَنْ تَمُدَّ يَدَهَا، أَنْ تَقُولَ شَيْئًا، أَنْ تَحْمِينِي… وَلَكِنَّهَا لَمْ تَفْعَلْ شَيْئًا. كَانَتْ تَنْظُرُ مِنْ خِلَالِ زُمَلَائِي، كَأَنَّهُمْ غَيْرُ مَرْئِيِّينَ، كَأَنَّهُمْ مُجَرَّدُ هَوَاءٍ.
“أَنَا…”، تَمْتَمْتُ بِكَلِمَاتٍ دِفَاعِيَّةٍ، غَيْرِ مُكْتَمِلَةٍ.
“وَمَا أَخْبَارُ مُخَلِّصِكِ اللَّطِيفِ مِنَ العَالَمِ الآخَرِ؟”، قَالَتْ “دِيبُورَا” بِسُخْرِيَّةٍ، وَخَطَفَتْ وَاحِدَةً مِنَ الصُّحُفِ الَّتِي كُنْتُ أَحْمِلُهَا.
قَهْقَهَتْ وَهِيَ تُقَلِّبُ فِيهَا، ثُمَّ هَزَّتْ كَتِفَيْهَا بِازْدِرَاءٍ.
“أَيُّ تَفَاهَةٍ هَذِهِ؟”، قَالَتْ، وَأَعَادَتِ الصَّحِيفَةَ إِلَيَّ دُونَ أَدْنَى اكْتِرَاثٍ.
حَدَّقْتُ فِيهَا بِصَمْتٍ، وَنُسْخَةٌ مِنْ “بُرْجِ المُرَاقَبَةِ” تَنْفَلِتُ مِنْ يَدِي، تَهْوِي ببطءٍ نَحْوَ الأَرْضِ. لَمْ أُحَاوِلِ الْتِقَاطَهَا. كَانَ الغِلَافُ يُصْدِرُ خَشْخَشَةً خَفِيفَةً وَهُوَ يُعَانِقُ الأَرْضَ البَارِدَةَ.
عِنْدَهَا فَقَطِ انْتَبَهَتْ جَدَّتِي. زَمْجَرَتْ بِصَوْتٍ خَافِتٍ، مُمْتَلِئٍ بِالِاشْمِئْزَازِ:
“أَيَّتُهَا الحَمْقَاءُ… كَمْ أَنْتِ غَيْرُ لَبِقَة!”
نَظَرْتُ إِلَيْهَا، وَبَدَنِي كُلُّهُ يَصْرُخُ بِالأَلَمِ. لَمْ تَعُدْ سَاقَايَ وَرَأْسِي وَبَلْعُومِي وَحْدَهَا تُعَانِي. بَدَا وَكَأَنَّ جَسَدِي كُلَّهُ يَئِنُّ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. أُذُنَايَ كَانَتَا تَحْتَرِقَانِ، وَكَتِفَايَ يَنْغُزَانِ، وَظَهْرِي يَتَشَنَّجُ، وَرُكْبَتَايَ تَتَخَلْخَلَانِ، حَتَّى أَصَابِعُ يَدَيَّ وَقَدَمَيَّ بَدَتْ لِي كَأَنَّهَا تُجْلَدُ.
“أَنَا… أَنَا… أَنَا…”، هَمَسْتُ بِيَأْسٍ، وَصَوْتِي لَا يَكَادُ يُسْمَعُ. ثُمَّ… انْفَجَرَ كُلُّ شَيْءٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً. لَمْ أَعُدْ أَحْتَمِلُ.
أَفْلَتُّ الصُّحُفَ مِنْ يَدَيَّ، وَأَسْقَطْتُ حَقِيبَةَ جَدَّتِي، وَانْدَفَعْتُ هَارِبَةً.
اصْطَدَمْتُ بِـ”دِيبُورَا”، وَتَمَايَلَتْ “أَمَانْدَا” لِتَتَجَنَّبَنِي، ثُمَّ انْطَلَقْتُ.
رَكَضْتُ… وَرَكَضْتُ… وَرَكَضْتُ.
لَمْ يُمْسِكْنِي أَحَدٌ، لَمْ يُنَادِنِي أَحَدٌ، لَمْ يُلْحِقْ بِي أَحَدٌ.
وَمَا تَبَقَّى مِنْ ذَلِكَ النَّهَارِ، كَانَ لَيْلًا طَوِيلًا، بَارِدًا، وَوَحِيدًا.
لَمْ أَعُدْ إِلَى المَنْزِلِ.
بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، مَضَيْتُ أُهِيمُ فِي الحَدِيقَةِ، ثُمَّ إِلَى وَسَطِ المَدِينَةِ، حَتَّى بَلَغْتُ ضِفَّةَ الرَّايْنِ. كُنْتُ أُقْذِفُ الحِجَارَةَ فِي الْمَاءِ بِعَشْوَائِيَّةٍ، كَمَنْ سُلِبَ إِرَادَتَهُ، وَأُحَاوِلُ أَنْ أُجْعِلَهَا تَقْفِزُ، تَمَامًا كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ أُمِّي.
ثُمَّ جَلَسْتُ طَوِيلًا، أُحَدِّقُ فِي الْمَاءِ العَكِرِ المُتَسَارِعِ، غَارِقًة فِي فِكْرَةٍ وَاحِدَةٍ: كَيْفَ يَكُونُ الغَرَقُ؟ كَيْفَ يَبْدُو أَنْ يَمُوتَ شيء؟
تَذَكَّرْتُ أُمِّي الشَّابَّةَ، الضَّاحِكَةَ، ذَاتَ الشَّعْرِ الأَشْقَرِ… وَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَسْتَرْجِعَ مَلَامِحَ وَجْهِهَا. نَسِيتُهَا.
فَبَكَيْتُ، وَبَكَيْتُ، حَتَّى جَفَّتْ دُمُوعِي.
رَفَعْتُ رَأْسِي نَحْوَ السَّمَاءِ، وَهَمَسْتُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، بِصَوْتٍ خَافِتٍ مُرْتَجِفٍ:
“مَامَا”.
مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَطْ.
وَفِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، اجْتَاحَنِي بَرْدٌ عَمِيقٌ.
لَمْ أُنَادِ “رُوزْفِيتَا” بِهَذَا الاِسْمِ قَطُّ، مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ تَغْضَبُ أَحْيَانًا مِنْ ذَلِكَ. وَلَكِنَّ رُوزْفِيتَا كَانَتْ… رُوزْفِيتَا.
نَعَمْ، كُنْتُ أُحِبُّهَا، أَكْثَرَ مِنْ أَيِّ أَحَدٍ فِي عَائِلَتِي. هِيَ وَ”بِنْيَامِين”، ذَلِكَ الطِّفْلُ العَجِيبُ الَّذِي كَانَ أَشْقَرَ مِثْلِي تَمَامًا، عَلَى خِلَافِ أَبِي وَرُوزْفِيتَا وَيَعْقُوب وَمَارْكُوس… كَانُوا جَمِيعًا ذَوِي شَعْرٍ دَاكِنٍ.
أَمَّا “بِنْيَامِين” وَأَنَا، فَكُنَّا أَشْقَرَيْنِ، أَشْقَرَيْنِ كَمَا كَانَتْ أُمِّي.
نَعَمْ… رُوزْفِيتَا كَانَتْ رُوزْفِيتَا.
وَأَمَّا “مَامَا”… فَلَمْ تَعُدْ أَحَدًا.
وَحِينَ غَشِيَ الظَّلَامُ المَدِينَةَ، رَكِبْتُ الحَافِلَةَ، وَسَافَرْتُ عَبْرَ الشَّوَارِعِ، حَتَّى وَصَلْتُ إِلَى المَقْبَرَةِ المَرْكَزِيَّةِ.
وَلَكِنَّ المَقْبَرَةَ كَانَتْ قَدْ أُغْلِقَتْ مُنْذُ زَمَنٍ. وَكَانَ البَابُ الحَدِيدِيُّ الكَبِيرُ مُوصَدًا، وَقَدِ الْتَفَّتْ حَوْلَهُ سِلْسِلَةٌ ثَقِيلَةٌ.
لَبِثْتُ واقِفًة برَهةً أَمامَ البَوّابَةِ، مُتَرَدِّدًة، أَتَساءَلُ: “هَلْ أَجرُؤُ عَلَى تَسلُّقِها وَالبَحْثِ عَن قَبْرِ أُمِّي؟”
لَكِنَّنِي فِي النِّهايَةِ تَراجَعْتُ.
فالمَقْبَرَةُ هائِلَةُ المِساحَةِ، فَكَيْفَ لِي أَنْ أَعثُرَ فِيهَا عَلَى قَبْرٍ صَغِيرٍ مَنسيٍّ، لَمْ أَزُرهُ فِي حَياتِي سِوَى ثَلاثِ مَرّاتٍ، أَو أَقَلَّ، قَبْلَ سِنينَ طَوِيلَةٍ جِدًّا؟
عادَتْ بِي خُطايَا إِلَى المَدِينَةِ، إِلَى شارِعِ “نورد رينغ”.
الشارع الذي كانَت تَسِيرُ عَلَيْهِ الحافِلَةُ رَقْمَ ٤.
هُناكَ، فِي مَكانٍ ما عَلَى هذَا الشَّارِعِ الوَاسِعِ ذِي المَساراتِ السِّتَّةِ، وَقَعَ الحادِثُ.
هُناكَ، صَدَمَتْهَا الحافِلَةُ ذاتُ اليَوْمِ.
مَضَيْتُ أَركُضُ، وَأَركُضُ، وَأَركُضُ…
وَبِرَغْمِ أَنَّ السَّاعَةَ كانت تَقْتَرِبُ مِنَ العاشِرَةِ لَيْلًا، كانَ صَخبُ المُرورِ عَلَى “النورد رينغ” لا يَزالُ هائِلًا.
حافِلاتٌ، وَشاحناتٌ، وَسَيّاراتٌ عاديّةٌ، تَمُرُّ جَانِبِي وَتُصدِرُ صَفيرَها المُخَنَّقَ.
حاوَلْتُ أَنْ أَتَخَيَّلَ كَيفَ جَرَى الأَمْرُ حِينَها، لَحْظَةَ دَهْسِهَا الحافِلَةُ المُسْرِعَةُ.
وَقَفتُ عَلَى الرَّصيفِ العَريضِ، أُحَدِّقُ فِي زَحامِ المُرَكَّباتِ.
مَرَّت أَمامِي الحافِلَةُ “٤”، ثُمَّ “١٢”، وَبَعْدَها بِقَلِيلٍ وَصَلَتْ “٢٤”، وَهِيَ حافِلَةٌ لَيْلِيَّةٌ قادِمَةٌ مِنْ ضاحِيَةٍ بَعِيدَةٍ.
شَعَرْتُ بِشَيْءٍ يَهُزُّني، كَما لَوْ أَنَّ تَيَّارًا كَهْرَبائِيًّا اِخْتَرَقَنِي، أَو مَغْناطِيسًا يَسْحَبُنِي بِقُوَّةٍ.
وَضَعْتُ قَدَمِي عَلَى الإِسفَلْتِ، وَخَطَوْتُ خُطْوَةً واسِعَةً إِلَى الأَمامِ، وَأَنا أَضْحَكُ بِصَوْتٍ خَافِتٍ.
زَمَّرَتِ الحافِلَةُ بِصَوْتٍ عالٍ وَمُذْعِرٍ، وَانْحَرَفَتْ فَجْأَةً مُبْتَعِدَةً عَنِّي، ثُمَّ تابَعَت طَريقَهَا، تَهْدُرُ فِي العَتْمَةِ وَتَبْتَلِعُهَا المَدِينَةُ.
ارْتَجَفْتُ، وَتَهَالَكْتُ جالِسًة عَلَى حافَّةِ الرَّصيفِ، لأَنَّ رُكْبَتَيَّ لَمْ تَعُودَا تَحْمِلانِي.
جَلَسْتُ مُذْهولًة، لَا أَحَدَ اِنْتَبَهَ لِوُجودِي.
السَيّاراتُ كانت تَمُرُّ قُرْبِي، قَرِيبَةً إِلَى حَدٍّ لَوْ مَدَدْتُ ذِراعِي، لَرُبَّمَا لَمَسْتُهَا بِأَطْرافِ أَصابِعِي.
جَلَسْتُ طَوِيلًا.
تَجَمَّدْتُ مِنَ البَرْدِ.
وَكانَ فِي رَأْسِي ضَجِيجٌ عارِمٌ، فَوْضَى لَا تَسْمَحُ لي بِأَنْ أُمْسِكَ فِكْرَةً وَاحِدَةً، فِكْرَةً وَاضِحَةً وَاحِدَةً فَقَطْ.
وَأَخيرًا، نَهَضْتُ وَسِرْتُ عائِدًة إِلَى المَنْزِلِ، بِبُطْءٍ وَتَعَبٍ.
كانَ الطَّريقُ طَوِيلًا، وَعِنْدَما وَصَلْتُ، كانت مُنْتَصَفُ اللَّيلِ قَدْ مَضَتْ مُنْذُ وَقْتٍ طَوِيلٍ.
دَخَلْتُ الشِّقَّةَ عَلَى رُؤوسِ الأَصابِعِ.
أَبِي وَرُوزْفِيتَا كانَا جالِسَيْنِ فِي المَطبَخِ.
جَدَّتِي كانت نائِمَةً عَلَى أَرِيكَةِ غُرْفَةِ الجُلوسِ، وَكانَ صَوْتُ شَخِيرِها خافِتًا، لَكِنَّ وَجْهَها بَدَا مُتَجَهِّمًا حَتَّى فِي نَوْمِها.
أَمَّا جَدِّي، وَالِدُ رُوزْفِيتَا، فكانَ فِي غُرْفَتِي، يُفَتِّشُ فِي مَكْتَبي. لَمْ أُعِرْهُ اِنْتِباهًا.
حينَ رآني أَبِي، ابْتَسَمَ ابْتِسامَةً باهِتَةً، دُونَ أَنْ يَقُولَ شَيْئًا.
رُوزْفِيتَا، عَلَى العَكْسِ، صَفَعَتْنِي.
ثُمَّ مَا لَبِثَتْ أَنْ احْتَضَنَتْنِي، بِقُوَّةٍ صامِتَةٍ.
“لَقَدْ عادتْ، يا أَبِي”، نادَت رُوزْفِيتَا بِصَوْتٍ خَفِيفٍ، مُوَجِّهَةً كَلامَها نَحْوَ غُرْفَتِي.
أَغْلَقَ جَدِّي دُرَجَ مَكْتَبي بِصَوْتٍ مُزْعِجٍ، ثُمَّ نَهَضَ بِبُطْءٍ، وَخَرَجَ مِنَ الغُرْفَةِ دُونَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيَّ، وَوَجْهُهُ مَكْفَهِرٌّ كَعادَتِهِ.
قالَت رُوزْفِيتَا، وَهِيَ تَضَعُ كَفَّهَا الدَّافِئَةَ عَلَى عُنُقِي البارِدِ:
“ما حَدَثَ اليَومَ، هانّا، سَتَكونُ لَهُ عواقِبُ بِالطَّبْعِ”.
ثُمَّ صَمَتَ الجَمِيعُ.
أَوْمَأْتُ بِرَأْسِي، وَكانَتِ المُعانَاةُ تَسْرِي فِي جَسَدِي كُلِّهِ، مِنْ رَأْسِي حَتَّى قَدَمَيَّ.
مُنْهَكَةً، خَافِتَةَ الصَّوْتِ، ذَهَبْتُ إِلَى فِراشي وَنِمْتُ.
مَرَّتْ سَبْعَةُ أَيّامٍ وَأَنَا طَريحَةُ الفِراشِ.
وَكانَتْ خِلالَها مَشاكِلُ كَثِيرَةٌ.
بَدَأَ الأَمْرُ حِينَ زارَتْنا السّيِّدَةُ “فينْتَر”.
“أرَدْتُ فَقَطْ أَنْ أَطْمَئِنَّ عَلَى هانّا”، قالَتْ بِلُطْفٍ، حِينَ فَتَحَ يَعْقوبُ البابَ.
وَضَعَتْ رُوزْفِيتَا كأْسًا مِنْ شايِ البابونجِ عَلَى مِنْضَدَةِ الفِراشِ، ثُمَّ خَرَجَتْ مَعَ السّيِّدَةِ “فينْتَر” إِلَى غُرْفَةِ الجُلوسِ.
لَكِنَّ قَبْلَ ذلِكَ، أَغْلَقَتْ بابَ غُرْفَتِي خَلْفَها بِهُدُوءٍ، وَبَعْدَها أَغْلَقَتْ أَيْضًا بابَ غُرْفَةِ الجُلوسِ.
لَمْ أَسْمَعْ، خِلالَ النِّصْفِ ساعَةٍ التّالِيَةِ، سِوَى ضَحِكاتِ إِخْوَتي الصِّغارِ، وَهُمْ يَرْكُضُونَ وَيَلْعَبُونَ فِي المَمَرِّ.
حِينَ غادَرَتْ السّيِّدَةُ “فينْتَر”، مِنْ دُونِ أَنْ تَسْمَحَ لَهَا رُوزْفِيتَا بِالدُّخولِ إِلَيَّ، كُنْتُ قَدْ بَدَأْتُ أُدْرِكُ أَنَّ زَوْجَةَ أَبِي سَتَعْلَمُ عَمَّا قَرِيبٍ بِحِكايتِي فِي المَسْرَحِيَّةِ المَدْرَسِيَّةِ.
كُنْتُ مُنْهَكَةً، جَسَدِي مُثْقَلٌ كالرَّصاصِ، مُمَدَّدَةً فِي فِراشي، أُحَدِّقُ فِي السَّقْفِ وَأَنْتَظِرُ.
اِنْتَظَرْتُ طَوِيلًا…
رُوزْفِيتَا لَمْ تَأْتِ.
ظَلَلْتُ أُحَدِّقُ فِي البابِ، أُرْهِفُ سَمْعِي لِكُلِّ صَوْتٍ يَتَسَرَّبُ مِنْ بَقِيَّةِ المَنْزِلِ.
يَعْقوبُ، وَماركوس، وَبِنْيامين، غادَرُوا مَعَ جَدِّي وَجَدَّتِي.
ذَهَبُوا إِلَى خِدْمَةِ الوَعْظِ، أَمَّا رُوزْفِيتَا فَبَقِيَتْ فِي البَيْتِ.
سَمِعْتُ صَوْتَ الأَوَانِي فِي المَطْبَخِ، ثُمَّ وَقَعَ خُطواتِها عَلَى التِّيراسِ وَهِيَ تَعْتَنِي بِأَصْصَ الزُّهورِ.
سَمِعْتُ أَزيزَ المِكْنَسَةِ الكَهْرَبائِيَّةِ، وَخَريرَ الغَسّالَةِ فِي الحَمّامِ.
لَكِنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ.
لِماذا لَمْ تَأْتِ رُوزْفِيتَا لِتَطْمَئِنَّ عَلَيَّ؟
مَاذَا قَالَتْ لَهَا السّيِّدَةُ “فينْتَر”؟
فَجْأَةً، اجْتَاحَتْنِي رَغْبَةٌ شَدِيدَةٌ فِي أَنْ أُخْرِجَ مِفْكَرَتِي، أَنْ أَكْتُبَ فِيهَا خَوْفِي، وَتَرَدُّدِي، وَقَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ… ذلِكَ الحُبَّ المَمْنُوعَ لِـ”بَاوْل”.
لَكِنِّي لَمْ أَجْرُؤْ.
لا مَفاتيحَ فِي غُرَفِنَا، قَدْ تَدْخُلُ رُوزْفِيتَا فَجْأَةً فِي أَيَّةِ لَحْظَةٍ.
وَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَقَعَ تِلْكَ المِفْكَرَةُ فِي يَدِهَا.
نَظَرْتُ نَحْوَ خِزانَةِ المَلابِسِ.
هُنَاكَ، فِي الرَّفِّ الأَعْلَى، فِي الزَّاوِيَةِ القَصِيَّةِ، تَحْتَ كَنَزَاتي الشِّتَوِيَّةِ، كانَتْ مَخْبَّأَةً.
مَوْضُوعَةً دَاخِلَ صُنْدوقِ أَحْذِيَةٍ رَمادِيٍّ صَغِيرٍ.
أَرَدْتُ أَنْ أَكْتُبَ:
“كُلَّ لَيْلَةٍ أَحْلُمُ بِأَشْياءِ مُحَرَّمَةٍ.
فِي أَحْلَامي أُقَبِّلُ بَاوْلَ، أُحِيطُ كَتِفَهُ بِذِرَاعَيَّ، وَأَضُمُّ وَجْهَهُ بَيْنَ يَدَيَّ.
نَفْعَلُ أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ بِكَثِيرٍ.
نُدَاعِبُ بَعْضَنَا، نَلْمِسُ أَجْسَادَنَا، بِلا خَوْفٍ، بِلا أَحَدٍ يَرَانَا.”
كُنْتُ مُمَدَّدَةً فِي سَريري، رَأْسِي يُؤْلِمُنِي، وَحَرارَتِي مُرْتَفِعَةٌ مُنْذُ أَيَّامٍ، وَازْدَادَتْ حالَتِي سُوءًا مَعَ زُكامٍ حادٍّ أَرْهَقَنِي طِوالَ الأُسْبوعِ.