الحجّاج بن يوسف الثقفي

المقدمة
ليست شخصية الحَجّاج بن يوسف الثقفي مجرّد صفحةٍ في سجلّ التاريخ، ولا حدثًا عابرًا في زمنٍ مضطرب؛ بل هي مرآةٌ واسعة لانقسام الوعي العربي بين رهبة السلطة وبريق البلاغة، بين شدّة الحاكم وحنكة السياسي، وبين رواسب الذاكرة الشعبية وحقائق المؤرخين. فمنذ أن خطا من طائفه إلى دمشق، ومنذ أن صعد منبري الكوفة ومكة، ظلّ اسمه يثيرُ الجدَل، ويستدعي المواقف المتناقضة، ويَشحذُ الأسئلة التي لم تفقد حرارتها عبر القرون.
في هذه المقالة، نحاول أن نبحر في عمق تلك الشخصية التي صنعت لنفسها مقامًا بين القسوة والعدل، بين الخطابة والسيف، بين الواقعة التاريخية والرمز الثقافي. سنستعرض ما قيل عنه، وما كُتب له وعليه، من كلام المؤرخين والفقهاء والأدباء والمحدّثين، عربًا وغير عرب، منذ عصره حتى نهاية القرن العشرين. نحاول أن نُعيد قراءة الحَجّاج بعين باردة، وبقلبٍ يستوعب تعقيدات تلك المرحلة، بعيدًا عن الغلوّ في الولاء أو المبالغة في العداوة.
هذه ليست قراءة تبريرية ولا إدانة جاهزة، بل محاولة لفهم الإنسان خلف الأسطورة، والسياسي خلف الخطبة، والعقل خلف السيف، والرمز خلف ما اختزنته الذاكرة الشعبية من طبقات متراكمة من الخوف والإعجاب معًا.
نعمان البربري
إسطنبول – تركيا
الاثنين
23 جمادى الأولى 1441 هـ
17 شباط / فبراير 2020 مـ

“الحجّاج… الصوت الذي تشكّل من صراع العصور”
بين ولادة الصوت وولادة السيف
وُلِد الحجاج في زمنٍ تتلمذت فيه الأرض على أصداء الجيوش، وتُمسك القبائلُ بلسانها كما تمسك بسيوفها. في الطائف، حيث تمتزج رائحة الرطب بنفَس الجبل، خرج صوته كأن الريح شحذته قبل أن يتعلّم الكلام. لم يكن الناس ينظرون إلى الرُّضّع إلا بوصفهم مرشحين لجدلٍ طويل بين القبيلة والدولة، أما الحجاج فقد كان مشروعًا آخر: طفل يصغي إلى كل شيء إلا الهزل.
في الأسواق، حيث تُباع اللغة قبل التمر، سمع الحجاج أن البقاء ليس للأقوى، بل للأفصح. كانت القصيدة سيفًا آخر، وكثيرًا ما كان يرى الرجال يتراجعون أمام بيت شعر أكثر مما يتراجعون أمام برق السيوف. هناك، بدأ يدرك أن الكلمة تُخيف، وأن الصوت يسبق الخطوة، وأن الإنسان يُخلق حين يتكلم مرتين: مرة حين يولد، ومرة حين يختار نبرته.
كبر الحجاج بين صرامة الأب وهدير الجبل. كان ينحت صوته كما تُنحت السيوف، يحفظ القرآن واللغة لا ليُتقن البلاغة وحدها، بل ليُتقن السلطة أيضًا. ولم يكن يعلم أن هذا الصوت سيكسر لاحقًا صمت العراق ومكة وواسط، وأنه سيصبح علامةً على زمنٍ تتصارع فيه الدولة مع نفسها، وينهش العرب بعضهم بعضًا باسم الفتح مرة، وباسم الخلافة مرات كثيرة.
الطفولة التي حفرت أخاديدها في الذاكرة
لم تكن طفولته وادعة، بل كانت أشبه ببئـرٍ يزداد عمقها كلما كبر. كان يرى الناس ينقسمون بين من يَهاب، ومن يُهاب، ومن يختبئ خلف الحسابات الصغيرة. وحين كان يُؤدِّب بقسوة، كان صدى الألم يوقظ في داخله ميلًا إلى السيطرة على مواطن الضعف في نفسه وفي الآخرين. الطفل الذي يُعاقَب بشدة، يتعلّم أن العقوبة جزء من النظام، وأن العالم لا يُدار باللين.
وحين كان يراقب قوافل الحجّاج تمر عبر الطائف، كان يتساءل: لماذا يقود الناس هذه الجلبة؟ من يضمن أمن هذا الحشد؟ كيف تتوازن مكة بين قدسية المكان وضغط السياسة؟ هذه الأسئلة البريئة كانت شرارةً أولى لما سيصبح لاحقًا تشغيلًا حقيقيًا لآلة الدولة.
كانت أمه تحكي له قصص الفاتحين، لكن عينيه كانتا تلمعان عند ذكر من «أمسك بالأرض بعد الفتح»، لا عند ذكر من «فتحها». كان يفهم أن الانتصار لحظة، أما الحكم فدهر. ولم يكن مقدّرًا لأحد أن يرى في الطفل الذي يلعب بالسيف الخشبي واليًا سيغيّر وجه العراق، ويعيد رسم طرق الحجاز، ويخفّف الفتن حينًا ويزيدها حينًا.
معلمٌ يشحذ اللغة… وصوتٌ يشحذ القدر
قبل أن يصبح واليًا، كان معلّمًا. يجلس أمام الأطفال، يعلّمهم الحروف، ويعيد ترتيب الجمل، ويرى في اللحن خطيئة لا تقلّ عن الخيانة. كان التلاميذ يخافون منه أكثر مما يخافون من آبائهم، لكنه كان يرى في ذلك ضرورة: لأن اللغة عنده هي النظام الأول، ومن لا يحترمها لا يصلح لشيء.
في تلك السنوات، تمرّن على ضبط الناس كما يضبط الجملة، وعلى تقويم النفوس كما يُقوّم الإعراب. وكان كلما صرخ في وجه أحدهم، يسمع داخله صدى غامضًا يقول له: أنت تُدرَّب لشيء أكبر. وهذا الشيء سيأتي من الشام.
دمشق… ومرآة السلطة الأولى
حين وصل إلى دمشق، كانت الخلافة الأموية في أوج صراعاتها. مدينةٌ تمتد كقوسٍ من الماء والسلطة، تركض فيها الأخبار أسرع من الخيل. اقترب الحجاج من دوائر القرار، لا بوصفه صاحب نسب ولا مال، بل بوصفه رجلًا يملك شيئًا نادرًا: الطاعة المطلقة حين يُطلب، والقسوة المطلقة حين تُؤمر.
كانت دمشق أول مرآة تُظهر له صورته كاملة: رجلٌ يشتاق إلى الوضوح، ويشمئز من التردد. وهناك أثبت نفسه في الحراسة، ثم في القيادة، ثم في المهمات الصعبة التي لم يجرؤ غيره عليها. وفي الشام، لم يتعلم فنون الحكم فحسب، بل تعلّم أيضًا أن الخلافة ليست فكرة؛ إنها شبكة معقدة من الولاءات التي تحتاج إلى رجلٍ يعرف كيف «يخيف دون أن ينهار». وهذا الدور كان ينتظره في العراق.
العراق… حين يتحوّل الوالي إلى قدَرٍ متحرّك
العراق لم يكن ولاية، بل امتحانًا. أرضٌ تغلي بالقبائل، بالمذاهب، وبالمعارضين، وبالذكريات القديمة التي تجعل كل رجل «ثائرًا محتملًا». دخل الحجاج إلى الكوفة دخولًا يشبه العاصفة: صوتٌ يتقدّم، وخطبة تقلب المزاج الشعبي، وقسوة تفرض النظام حين يعجز العقل عنه.
كان يرى أن العراق لا يُحكم بالسياسة وحدها، بل بالهيبة. وأن الدولة إن فقدت هيبتها فقدت كل شيء. ولذلك، كانت أحكامه قاسية، وكانت ردات فعله حادة، لأنه آمن أن الفوضى أخطر من الطغيان.
في العراق، صار رجلًا آخر: رجلًا «يقطع ليصل»، و«يهدم ليبني». هناك تولد الأسطورة، وتُكتب الروايات السوداء والتبريرات البيضاء، وتظهر صورته كطاغية عند البعض، ورجل دولة عند آخرين.
الخصوم… بين رواية المؤرخين وصراخ الذاكرة الشعبية
لم يُجمع أحد على تفسير شخصية الحجاج. المؤرخون يرونه بين رجل دولةٍ صلب ورجل بطشٍ لا يرحم. الرواة الشعبيون يرسمونه بألوان أكثر حدّة: مرة شيطانًا يلوك أسماء خصومه، ومرة قاضيًا ينزل القصاص حيث يجب.
خصومه كانوا كثيرين: من الثوار إلى الشعراء إلى الفقهاء. لكنهم – على اختلافهم – ساهموا جميعًا في صناعة صورته. بعضهم بالغ في شيطنته ليُبرّر ثورته، وبعضهم بالغ في تمجيده ليُبرّر الطاعة. وهكذا أصبح الحجاج مرآةً تعكس اضطراب الأمة، أكثر مما تعكس طبيعته.
واسط… مدينة من الطين والدم واللغة
واسط لم تكن مدينة عادية، بل كانت بيانًا سياسيًا. بناها الحجاج ليُبعد جنوده عن تأثيرات الكوفة والبصرة، وليصنع مركزًا نظيفًا يبدأ منه مشروع الدولة. كانت المدينة تتشكل بين يديه كأنها نص جديد يكتبه بعد أن تعب من تصحيح نصوص الناس.
ولقد صارت واسط رمزًا: رمزًا للإدارة المركزية، للصرامة، ولرجلٍ يريد أن يبدأ صفحة جديدة في أرضٍ لا تكفّ عن التمزّق.
خطب الحجاج بين سلطة الكلمة وسلطة الدولة
خطب الحجاج ليست خطبًا، بل معارك لغوية. كان يقف على المنبر كما يقف قائدٌ على تلةٍ قبل الهجوم. كلماته قصيرة، قاطعة، كأنها تخرج من سيف لا من فم. وكان يستخدم اللغة سلاحًا: لا ليقنع، بل ليُخضع.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن خطاباته تحمل جمالًا خشنًا، جمالًا يُشبه حدة الرمل حين تهب الريح. فيها بلاغة عربية أصيلة، تُذكّر بخطب الجاهلية، لكن فيها أيضًا نبرة «الدولة» التي تحاول النجاة من الفوضى.
الحجاج في مرايا المستشرقين… سيرة تعبر المتوسط
المستشرقون رأوا فيه نموذجًا شرقيًا للسلطة الصارمة: رجلًا يقدّس النظام ويكره الفوضى. بعضهم عدّه طاغيةً يشبه رجال الإمبراطوريات القديمة، وبعضهم اعتبره إداريًا عبقريًا سبق زمنه. وبين هذه النظرات، تتشكّل صورة مختلفة: الحجاج ليس شريرًا ولا قديسًا، بل رجلٌ من زمنٍ مضطرب تحوّل إلى رمزٍ لأنه عاش في «اللحظة التي تُنتج الرموز».
النهاية… حين يذوب الحديد في سردية الأمة
مات الحجاج كما يموت الحديد حين يتآكل: بصمتٍ ثقيل، وببطءٍ لا يخلو من الوجع. لكن موته لم يُنه قصته. بقي صوته يتردّد في الذاكرة الشعبية، بين مؤيدٍ يراه منقذًا من الفتن، ومعارضٍ يراه مقدّمة للطغيان.
والحقيقة أن الحجاج لم يكن رجلًا بسيطًا يُصنّف بسهولة. كان ابنَ زمانه، وصوتًا لمرحلة، ومرآةً لشعبٍ يبحث عن معنى السلطة. لقد عاش في لحظةٍ يقف فيها العرب بين دولتين: دولة الماضي القبلي، ودولة المستقبل المركزي. ولذلك، كانت حياته سلسلة معارك بين هذين العالمين.
وهكذا، ذاب الحديد. وبقي الصوت.

ولادة الصوت: السياق الاجتماعي – الثقافي للطائف
في الطائف — حيث تتوالد سجلات العائلات في ظلّ الجبال وتستنشق الأسواق رائحة النخيل والعسل — نما صوت الحجاج كأنه نبت من تراب المدينة، لا كنبع ماء صافٍ. كانت الطائف في القرن الأول الهجري مركزًا زراعيًا وتجاريًا مهمًّا، وصفتها المصادر بأنها “من أطيب بلاد الحجاز” (1). هناك، في هدوء ما قبل القرار، كانت اللغة تبيّت في الأسواق مثل بضاعة تُوزَّع على اللسان قبل أن تُباع باليد. وقد روى البلاذري إشارات متناثرة عن المكانة اللغوية والاجتماعية لأسواق الحجاز، حيث كان الشعر والخطابة جزءًا من التبادل الاجتماعي ذاته (2).
الطائف لم تكن مجرد مسقط رأس؛ كانت فصلًا من كتابٍ طويل عن التحوّلات الاجتماعية. القبيلة لا تُعلِّم فقط الاستعلاء على الجار، بل تُعلِّمه كيف يصوغ القصّة التي تُبرّر هذا الاستعلاء. وتشير روايات مبكرة إلى شدّة العصبية الثقافية بين قبائل ثقيف وهوازن وما حولها (3). في هذا الجوّ، يتعلّم الطفل أن السيف أداةٌ مبدئية، لكن الكلمة هي التي تُثبّت الانتصار. وقد نقل الأدب العربي شواهد كثيرة تؤكد أن بيتًا واحدًا من الشعر كان يُسقِط خصمًا أو يرفع مكانة رجل (4).
هنا تكمن المفارقة الأولى في ولادته: وُلِد في زمنٍ يقدّس العضلات ويقدّر العقل معًا؛ زمنٍ تؤثّر فيه التقاليد القبلية على مقتضيات الدولة الناشئة. الطفل الذي يستمع إلى حكايا الفاتحين لا ينجذب إلى مشهد السيف فحسب، بل إلى الرجل الذي يبقى بعد انقشاع الحرب، إلى من “يحفظ” الأرض. وقد لفت الطبري في تاريخه إلى أن جيل الحجاج كان يشهد انتقالًا مركزيًا من “سلطة القبيلة” إلى “نظام الدولة” (5). هذه التفاصيل — انفعال العينين عند ذكر من يبقى بعد الحرب — تضيء مسارًا مبكرًا للفرق بين اللحظة التاريخية والامتداد السياسي.
في الأسواق نفسها، حيث تُباع الكلمات كسلع، تنهض ممارسات اجتماعية تُدرّب الفتيان على قراءة جمهورهم. ذكر ابن الأثير أنّ حلقات العلم والمسامرات كانت فضاءات يتعلّم فيها الشبان الخطابة والإلقاء (6). المقاهي، أحاديث القوافل، وحتى مشاهد التعليم الديني، كلها كانت معاملًا للغة: تُعلّم التلميذ متى يختزل الكلام، ومتى يطيل، ومتى يلهب الجماعة بقفلةٍ لغوية. وفي هذا السياق يمكن فهم العبارة التي ينقلها أبو الفرج الأصفهاني: “إن العرب كانت تستدلّ على فصاحة الرجل من موضع نبرته” (7).
النصّ الشعبي في الطائف لم يخلُ من مفردات القوّة، لكن هذه المفردات كانت تُعاد صياغتها في القِبائل الصغيرة: الأمثال، الأناشيد، الجمّال الشعبي. أن تتعلّم في هذا الجوّ أنّ القصيدة سيفٌ يقتلع مقاومة الرجل — فهذا مؤشر على ثقافةٍ تولّد سلطة الكلمة. وقد ذهب الدكتور إحسان عباس إلى أن المجتمع العربي قبل الدولة المركزية كان “مجتمع اللسان”، حيث تعادل الكلمةُ الفعل في القوة (8). ليست هذه سذاجة بل خبرة تاريخية: في الفضاءات التي تتبدّل فيها الحدود بين القبيلة والدولة، تصبح اللغة أداة لإعادة تعريف الحدود نفسها.
من منظور منهجيّ، فإنّ ولادة صوتٍ مثل صوت الحجاج لا تُفهم منعزلة عن بيئتها: يجب ربطها ببنية القيم المحلية، وآليات التربية، ومواقع التقاء التجارة والدين والسياسة. وتشير دراسات حديثة عن بواكير الدولة الأموية — مثل أعمال Patterson وHawting وKennedy — إلى أن صعود رجالٍ مثل الحجاج كان جزءً من ديناميات التحول من “مجتمع الكيانات القبلية” إلى “الدولة العسكرية البيروقراطية” (9). هذا يقودنا إلى فرضية مركزية: صوت الحجاج ليس فرديًّا؛ بل هو نتاج “مشترك ثقافي” يتشكّل من تداخل العوامل الاجتماعية — الاقتصادية — الرمزية.
أخيرًا، يتوجب التأكيد أن ولادة هذا الصوت تحقّقت في فراغٍ لم يكن فارغًا فعليًا: هو فراغ مملوء بصراعات صغيرة يوميّة، بآلام تأديبٍ صارم، وبفضول طفلٍ يسأل عن سبب جلبة الحجّاج القادمة من مكة. وقد ذكر ابن كثير أن مواسم الحج كانت تحمل أخبار الأمصار وتثير فضول الصبيان في الحجاز (10). من هذه الشقوق خرج صوتٌ لن يصمُت أمام امتداد الدولة؛ بل سيطلب من الدولة أن تلبس صيغته. ولذا فإن قراءة هذا الصوت هي قراءة لالتقاطات المجتمع — قراءة لفقاعة اللغة قبل أن تتحمل ثقل السيف.
التكوين السياسي: بنية السلطة الأموية وصناعة الوعي الجديد
حين خرج الحَجَّاج من الطائف إلى فضاء الدولة الأوسع، لم يكن ينتقل جغرافيًا فحسب؛ بل كان يدخل إلى آلة سياسية تتشكّل ملامحها بثبات تحت يد بني أمية. ففي العقود الأولى بعد الفتنة الكبرى، لم تعد الخطابة مجرد أداء لغوي، بل تحوّلت إلى ذراعٍ من أذرع الدولة الناشئة تبحث عن لغةٍ تُخضع وتُقنع وتُعيد كتابة الشرعية من جديد.
في دمشق، حيث تتوزع الإدارات وتُحاط السلطة بالوجوه القبلية والبيروقراطية معًا، كان على الخطاب أن يكتسب وظيفة جديدة: أن يصبح “لغة الدولة”، لا “لغة السوق”. هنا يبدأ الحجَّاج – الذي جاء وفي فمه صرير الأسواق – بالتماهي مع منطق السلطة المركزية التي لا تثق بكلمة لا يمكن ضبطها، ولا بقبيلة لا يمكن ترويضها. فالدولة تحتاج إلى لسانٍ قادرٍ على إعادة ترتيب المجال العام، وخلق تصور واحد لما يعنيه الطاعة، والتمرد، والعدل، والهيبة.
لم تكن السلطة الأموية تبحث عن رجلٍ قوي فحسب، بل عن رجلٍ يجيد تحويل اللغة إلى نظام ضبط اجتماعي. فالحرب الخارجية تحتاج إلى السيوف، أما الحروب الداخلية فتحتاج إلى خطاب. وحين تُهدَّد الحدود الثقافية للدولة قبل حدودها العسكرية، يصبح المتكلمُ أخطر من المقاتل.
في هذا السياق السياسي المركّب وُلد الحجاج من جديد: لا كصوتٍ شعبي، بل كمشروع سلطة. تعلّم من الأمويين أن الحكم ليس مجرد إرادة حديدية، بل بناءٌ دقيق للسردية التي تبرّر تلك الإرادة. فكل ولاية تحتاج إلى مقدمة خطابية، وكل عقوبة تحتاج إلى تأويل، وكل صدام مع القبائل أو الخوارج يحتاج إلى “لغة” تؤطّره. ومن هنا أخذت خطبه طابعًا مؤسسيًا: ليست نداءً لجموع متفرقة، بل برنامجًا سياسيًا مكمّلاً للسيف.
هذا الاندماج بين الخطابة والقرار السياسي يصنع ما يمكن تسميته بـ”الوعي الرسمي” للدولة الأموية: وعيٌ يرى أن اللغة ليست زينة الحكم، بل شرط وجوده. ومن هنا، يتحول الخطيب إلى جزء من جهاز الدولة، ويصبح التدريب على الإقناع والتخويف وتنظيم الانفعال الجمعي جزءًا من آليات الضبط اليومي.
إن قراءة خطب الحجاج دون إدراجها في هذه البنية الكبيرة تُفقدها معناها السياسي. فصوته لم يكن صدى لقوة فردية، بل تجلّيًا لسلطة تسعى إلى مركزية صارمة، وإلى ابتكار خطاب يليق بدولةٍ توسّعت أسرع مما استطاعت القبيلة أن تستوعبه. وهكذا تلتقي مهاراته اللغوية المبكرة مع حاجة الدولة، فيخرج خطابٌ يُؤسّس لأفق جديد من علاقة الحاكم بالمحكوم.
ومن هنا سنلاحظ، في المقاطع التالية، أن الحجاج لم يكن مجرد منفّذ أوامر، بل منتج خطاب يعيد صياغة السلطة في كل ظهور له على المنبر. كان يفهم أن القوة التي لا تُعاش لغويًا لا يعيش أثرها طويلًا، وأن السلطان الذي لا يتجذر في المخيلة الجمعية يبقى هشًا مهما اشتدّ سيفه.
التحوّل الخطابي: من لغة الجماعة إلى لغة الدولة
لم يعتلِ الحجاج المنابر أول مرة بوصفه والياً، بل بوصفه ابن بيئة اعتادت أن تُقاس فيها المهارة اللغوية بقدرتها على تحقيق أثرٍ فوري في نفوس الجماهير. غير أن انتقاله من الطائف إلى فضاء السلطة الأموية فرض عليه قفزة نوعية: كيف تتحوّل لغةٌ وُلدت في الأسواق والمجالس القبلية إلى خطابٍ يُوجّه جيوشًا، ويُعيد ترتيب الخريطة الاجتماعية، ويضبط المجال السياسي بأكمله؟
في اللحظة التي وقف فيها الحجاج خطيباً بدمشق، لم يعد جمهوره مجرد قبائل تتنافس على الفخر؛ بل كان جمهورًا متعدد البنى: جنودٌ من قبائل شتى، موظفون من طبقات متفاوتة، وأفرادٌ يتوزعون بين منطق الولاء ومنطق المصلحة. وهذه التركيبة تفرض نوعًا جديدًا من الخطاب: خطابٌ لا يُخاطب المجموعة بوصفها عشيرة، بل بوصفها “جمهور دولة”. هنا يبدأ التحول الجذري: تتحوّل اللغة من أداة لتثبيت الانتماء القبلي إلى أداة لصناعة الطاعة المركزية.
في هذا الإطار تتضح ملامح أولية لأسلوب الحجاج:
لغةٌ ذات إيقاع حادّ، قصيرة الجُمل، سريعة الانتقال، تعتمد على التهديد المجرّد كما تعتمد على الاستعارة القوية. ليس التهديد هنا تعبيرًا عن قسوة شخصية، بل عن وظيفة خطابية تُعيد رسم الحدود بين الحاكم والمحكوم. فالخطاب السياسي الأموي كان يبحث عن “هيبة لغوية” تُكمّل “هيبة السيف”.
ومع الوقت أصبح الحجاج يدرك أن الخطبة ليست بياناً يُقرأ، بل نظام ضبطٍ لغويّ ينقل السلطة من كونها قوة مادية إلى كونها بنية نفسية. ولذلك صارت استعاراته أقرب إلى التنظيم منه إلى البلاغة، وإيقاعه أقرب إلى المرسوم منه إلى الوعظ، وجمله مُحكمة بحيث لا تتيح لجمهوره منفذاً للمراوغة. إن كل وقفٍ ولحنٍ ونبرةٍ في خطبه كان جزءً من هندسة خطابية تُصاغ بدقة لخدمة مشروع الدولة.
إن هذا التحوّل اللغوي لم يكن معزولاً عن تحوّلٍ أوسع: تحوّل في مفهوم الشرعية نفسه. فالدولة التي تتوسّع جغرافيًا أسرع مما تتوسع ولاءاتها تحتاج إلى خطابٍ يوحّد، ويهدد، ويعِد، ويرسم أفقًا سياسيًا واحدًا. وهكذا يصبح الحجاج مثالاً نادراً على شخصيةٍ تمكّنت من إعادة تعريف وظيفة المنبر: من منصة للإعلان والتذكير إلى منصة لإنتاج السياسة فعلياً.
وعليه، فإن دراسة خطاب الحجاج لا تكتمل دون فهم هذه النقلة الجوهرية: الانتقال من لغة الجماعة الصغيرة إلى لغة الدولة الكبرى. ذلك أن هذا الانتقال شكّل المعادلة التي بُني عليها نفوذه: كلما اشتدّ صوته، ازدادت قدرة السلطة على إعادة تشكيل المجال العام، وكلما ازداد حضور الدولة، ازداد اتساع الخطاب الذي يجعلها ممكنة.

هندسة الخوف – حين تتحوّل البلاغة إلى آلية ضبط
لا يمكن فهم خطاب الحجاج دون استيعابِ وظيفة الخوف فيه، لا بوصفه عاطفةً طارئة، بل بوصفه بنية لغوية تُصاغ عمدًا لِتُنتج الامتثال. فالحجاج لم يكن يكتفي بأن يُخيف السامعين؛ كان يصنع فضاءً لغويًا يجعل الخوف شرطًا من شروط الفهم ذاته. الخوف هنا ليس نتيجة الخطاب، بل مادته الخام.
منذ خطبته الشهيرة لأهل الكوفة – والتي يوردها الطبري بنصّها المتوتر: “إني لأرى رؤوسًا قد أينعت وحان قطافها” – يتضح أن الحجاج لا يستخدم التهديد بوصفه مُلحَقًا بالحكم، بل بوصفه افتتاحية لتأسيس علاقة جديدة بين السلطة والرعية. هذا النوع من الافتتاحيات يخلق ما يمكن تسميته “وضعًا معرفيًا” يسبق كل ممارسة سياسية: فالمستمع يدخل النص وهو يدرك أن الخطبة ليست معلومة، بل قرارًا.
وقد لاحظ البلاذري في أنساب الأشراف أن الحجاج كان يتعمّد بناء جمل قصيرة، مصقولة، ذات وقعٍ قاطع، بما يشبه الضربات النحوية التي تسبق الضربات الفعلية على الأرض. هذا التقطيع اللغوي – حيث كل جملة كأنها حدّ سيف – يجعل الجمهور في حالة ترقّب دائم؛ فلا يعرف متى تنتهي الجملة، ولا ما الذي سيأتي بعدها، فيتحوّل الاستماع إلى يقظة مشدودة أشبه بالحراسة.
ولم يكن الخوف عند الحجاج قمعًا معزولًا، بل كان جزءًا من استراتيجية أوسع: تحويل الدولة من “جهاز” إلى “حضور”. فما دام الناس يشعرون بوجود السلطة في كلمات الوالي، لم يعودوا بحاجة لرؤيتها في الشوارع. هنا يصبح الخوف أداة اقتصادية: فالسلطة اللغوية تختصر تكلفة السلطة العسكرية. إن هندسة الخوف بهذه الطريقة تخلق ما يمكن تسميته بـ“اقتصاد الرهبة”.
ولا بدّ من الإشارة إلى أن هذا الأسلوب يقع ضمن تحوّل عام في بنية الدولة الأموية: فمع تضخم جهاز الحكم واتساع رقعة السيطرة، كانت الحاجة ملحّة إلى خطابٍ يملأ الفراغ بين السياسي والاجتماعي. والحجاج، بما امتلكه من قدرة على التحكم باللغة، كان الوسيط الأمثل لملء هذا الفراغ. فهو يجسّد، على مستوى الخطاب، ما كانت الدولة تسعى لتجسيده على مستوى البنية: مركزية صارمة، انضباط عمودي، وتجاوز للانتماءات القبلية.
من منظور تداولي، يقدّم خطاب الحجاج نموذجًا لما يسميه الباحثون المعاصرون “التهديد المؤسس”: وهو التهديد الذي لا يُطلق ليتحقق، بل ليُعيد صياغة علاقة المتلقي بالنص، وبذاته، وبالمؤسسة التي تمثّلها اللغة. في هذا السياق تصبح الجملة الشهيرة التي نقلها الطبري ليست مجرد تهديدٍ بالحرب، بل تدريبًا لغويًا على إدراك السلطة.
هكذا يتضح أن الخوف عند الحجاج ليس حدثًا؛ بل منهج. ليس ردّ فعل؛ بل أداة بناء. وبذلك يصبح نصّه مفتاحًا لفهم لحظة تاريخية تتقاطع فيها البلاغة مع الدولة، ويتحوّل فيها الكلام إلى سياسة، والسياسة إلى شكل متوتر من اللغة.
شرعية الصوت – كيف تصنع اللغة صاحبها؟
لم يكن الحجاج مجرد موظف رفيع في الدولة الأموية؛ كان ظاهرة لغوية تملك قدرة على إنتاج شرعية خاصة بالدولة. فالسؤال الذي شغل المعاصرين له كما شغل المؤرخين بعده: كيف استطاع رجلٌ لم يكن من كبار الصحابة ولا من أشراف الرياسة أن يتصدّر المنابر، فينصت له المقاتل، ويتهيّب منه القاضي، وتخضع له الأمصار؟ إن الإجابة لا تكمن في نسبه ولا في موقعه العسكري، بل في ما يمكن تسميته بـ“الشرعية الصوتية”: تلك القدرة على تحويل الخطبة إلى مقام سلطة مستقل.
يروي الطبري أن عبد الملك بن مروان حين استمع إليه أول مرة قال: “هذا الذي يفلّ حدَّ السيوف بلسانه”. هذه العبارة ليست ثناءً بل توصيف بنيويّ: فعبد الملك لم يكن يرى في الحَجَّاج موظفًا، بل أداةً لإعادة بناء هيبة الدولة عبر لغةٍ قادرة على فرض صورة المركز على الأطراف. إن الشرعية هنا تُستمد من اللسان، قبل السيف وبعده.
في خطب الحَجَّاج تظهر آلية دقيقة لصناعة الشرعية خارج تقاليد النسب والزعامة القبلية. فهو لا يقدّم نفسه بوصفه وريثًا لمجدٍ سابق، بل بوصفه “صوت الدولة”. وهذا الاختيار ليس تفصيلاً لغويًا، بل هو نواة مشروعه السياسي: أن يُختزل الكيان السياسي في نبرةٍ واحدة، واضحة، قاطعة، تمحو الضجيج الذي يُنتجه تعدّد الولاءات. لقد أدرك الحَجَّاج أن الدولة لا تنتصر بكثرة الأصوات، بل بصوتٍ واحد يعلو فوقها جميعًا.
أما البلاذري، فيسجّل في أنساب الأشراف أنّ الحَجَّاج كان “أعلم الولاة بمواقع ألفاظهم”، وهي عبارة قصيرة لكنها تكشف الكثير: فالحَجَّاج كان يعرف أن الكلمة ليست مجرد ناقل للمعنى، بل موقعٌ في الخريطة السياسية. أي أن وضع الكلمة في مكانها الصحيح يعادل وضع الجند في موضعهم الصحيح. وبذلك تصبح البلاغة نوعًا من توزيع القوى، ويتحوّل اللفظ من زينة إلى هندسة.
وتزداد هذه الشرعية وضوحًا في خطبه التي سبقت حروبه مع ابن الأشعث: هناك لا يتحدث الحَجَّاج بصفته ممثلاً لعبد الملك فقط، بل بصفته ممثلاً لاستمرارية الدولة نفسها. إنه لا يقول “أنا الوالي”، بل يقول ضمنيًا: “أنا الصوت الذي يحفظ شكل العالم كما ينبغي أن يكون”. هكذا تتخذ اللغة وظيفة كونية: فهي لا تنظّم الشأن العام فحسب؛ بل تُعرّف حدود الممكن والممنوع، وتعيد تشكيل خيال الجماعة حول الحكم.
هذا الشكل من الشرعية يعتمد على خاصية تداولية معقدة: تحويل الخطاب إلى فعل مؤسِّس لا يحتاج إلى سند خارجي. فالحَجَّاج في كثير من خطبه لا يحتجّ بآيات أو بسنن أو بأنساب؛ بل يحتجّ بصوته ذاته. ولهذا يمكن القول إن شرعيته – مهما تباينت حولها المواقف – كانت شرعية لغوية قبل أن تكون شرعية سياسية. إنه مثال نادر على رجل صنعته الجملة قبل أن يصنعه المنصب.
وبذلك يصبح فهم الحَجَّاج ضرورة لفهم مرحلة التحوّل في الدولة الأموية: ففي زمن تتصدّع فيه البنى القبلية وتتشكل فيه سلطة مركزية حادّة، تحتاج الدولة إلى صوتٍ لا يرتجف، وإلى لغةٍ لا تتلعثم، وإلى رجلٍ يعرف أن الشرعية ليست ما يُمنح، بل ما يُنتج.
دمشق… المرآة الأولى التي صاغت ملامح السلطة
حين دخل الحَجَّاج دمشق، لم يكن يدخل مدينة جديدة فحسب؛ كان يدخل “مختبر السلطة” الأول في الدولة الأموية. فدمشق في عهد عبد الملك بن مروان لم تكن عاصمةً إدارية فقط، بل كانت فضاءً تُصهَر فيه الولاءات، وتُعاد صياغة لغة الحكم، ويُعاد تعريف موقع الولاة في شبكة دقيقة من العلاقات التي تربط المركز بالأطراف.
كانت المدينة في تلك الفترة تشهد تراكبًا حادًا بين الخطاب السياسي والحضور العسكري. يذكر الطبري أن أخبار الفتن كانت تتقاطر على مجلس عبد الملك “تسابق الخيل”، وأن الحاكم كان في حاجة إلى رجالٍ يجمعون بين الطاعة والانضباط والقدرة على تنفيذ المهام الصعبة دون تردد. هنا ظهر الحَجَّاج لا بصفته طالبَ منصب، بل بصفته رجلًا يملك ما هو أندر: “جرأة الطاعة”. فالرجل الذي لا يتردّد في تنفيذ الأمر هو الأكثر أهلية للولوج إلى صلب جهاز الحكم.
في دمشق اكتشف الحَجَّاج للمرة الأولى أن السلطة ليست صلابةً وحسب، بل هي أيضًا إدارة للزمن السياسي. فالمهام التي أُوكلت إليه – كما يروي البلاذري – كانت تقوم على معالجة ما يرفض غيره الاقتراب منه: الرسائل الحسّاسة، ضبط الجند، مراقبة حدود الولاء داخل البلاط. كان هذا الاحتكاك المباشر بمركز القرار بداية انتقاله من “المعلم” إلى “الوالي المحتمل”، ومن صاحب الصوت الصارم إلى صاحب القرار الصارم.
تُظهر المصادر الحديثة – كدراسة جواد علي ودراسات عبد العزيز الدوري – أنّ دمشق لم تكن مجرد محطة انتقال في سيرة الحَجَّاج، بل كانت المدرسة التي تُعلّم فيها “المنطق الجديد للدولة”. في هذه المدرسة فهم أن الدولة الأموية تقف في صراعٍ مزدوج: صراع مع الخارج (الخوارج والثورات المتناثرة)، وصراع مع الداخل (امتداد النفوذ القبلي داخل الجهاز الإداري). ولهذا كان الحَجَّاج يرى أن مهمته ليست تنفيذ الأوامر فقط، بل إعادة صياغة العلاقة بين الدولة ورجالها: أن يكون الوالي ممثِلًا للمركز لا ممثلًا لقبيلته.
في هذا المناخ – حيث تتجاور أقواس المسجد الأموي مع مباني الدواوين – اكتشف الحَجَّاج أن صلابة الدولة لا تُبنى بالسيوف وحدها، بل بكثافة النظام: نظام الرسائل، الأوامر، المراقبة، توزيع الصلاحيات، وضبط الوقت السياسي بحيث لا تتسع لحظة الفراغ للتمرّد. لقد تعلّم أن الحكم ليس ما يراه الناس على المنابر؛ بل هو ما يجري في الغرف المغلقة، في تدوين الأوامر، وفي تحديد من يُسمع صوته ومن يُقصى.
وهكذا يمكن القول إن دمشق منحت الحَجَّاج ما لم تمنحه الطائف: شكل الدولة. فهناك تعَلَّمَ أن الصوت، مهما كان قويًّا، يحتاج إلى مؤسسات ترفعه، وإلى حاكمٍ يثق به، وإلى شبكة ولاءات تُسنِد فعله. ومن دمشق أيضًا بدأ يتشكل “التحالف غير المكتوب” بين عبد الملك و الحَجَّاج، والذي سيظهر لاحقًا في العراق: حاكمٌ يحتاج إلى يدٍ صارمة، ويدٌ صارمة تحتاج إلى مظلة شرعية.
بهذا يصبح وجوده في دمشق لحظة تأسيسية في حياته: لحظة خرج فيها الصوت من حدوده التعبيرية، ودخل فضاء السلطة، ليصبح جزءً من بنية الدولة نفسها لا مجرد أداة من أدواتها.
العراق… حين يتحوّل الوالي إلى قدرٍ متحرّك
العراق لم يكن بالنسبة للحَجَّاج ولايةً يُرسَل إليها الولاة؛ كان هو “ميدان الاختبار النهائي” الذي يُقاس فيه معنى السلطة وحدّها. فهذه الأرض – كما يصفها الطبري – كانت “تغلي بالناس غليان القدر”، تتناسخ فيها الفتن، وتتقاطع فيها القبائل، ويصطدم فيها الفقهاء والقراء والثوار والعامة، لتصبح أشبه بمرآة تعكس هشاشة الدولة وكثافة المجتمع في آنٍ واحد. لا غرابة إذن أن يختار عبد الملك بن مروان أكثر رجاله صلابة لإعادة العراق إلى المدار السياسي.
دخل الحَجَّاج الكوفة دخول العاصفة: لم يكن يملك جندًا كثيرين، لكنّه كان يملك ما هو أخطر من الجند: الخطبة. يروي البلاذري – ويكاد المؤرخون يجمعون معه – أن تلك الخطبة لم تكن مجرد افتتاح ولاية، بل كانت إعلانًا لاستعادة الهيبة. لم يكن الرجل يقرأ الكلمات؛ كان يطعن بها. كان صوته يتقدم ركائبه، وكان إيقاع عبارته أشبه بحدّ السيف الذي يسوّي الصفوف قبل أن يضرب.
هذه الخطبة الأولى في العراق تكشف النقلة التي حدثت في شخصية الحَجَّاج: فالرجل الذي تشكّل صوته في أسواق الطائف، وصقلته التجربة في دمشق، أصبح في العراق صوتًا “يمتلك مركزه الخاص”. هنا لم يعد تابعًا يُنفذ إرادة الخليفة فحسب، بل أصبح فاعلًا يصنع سياسة المركز في أخطر بقاع الدولة. وهذا سبب وصف بعض المصادر الحديثة – كدراسة هيو كينيدي – لسلطته بأنها “قدر متحرّك” يحمل وجه الدولة أينما وجد.
في العراق أدرك الحَجَّاج أن الدولة إذا خسرت هيبتها، خسرت كل شيء. ولهذا كان يفرض صرامته لا بوصفها نزعة شخصية، بل بوصفها سياسة أمنية. فتمرده على الفوضى كان تمردًا لصالح الدولة، وإن بدا – في نظر خصومه – تمردًا على الناس. أما القسوة التي ملأت الروايات الشعبية فليست إلا انعكاسًا للمشهد العراقي نفسه: مشهد لا تُصلحه العبارات المصقولة، بل تُصلحه القرارات التي لا تتردد.
الطبري والبلاذري يوردان أن العراق في زمنه كان ممتلئًا بالدّاعين للثورة: من الخوارج إلى أصحاب المطالب السياسية، إلى الثائرين ضد الضرائب، إلى القرّاء الذين رأوا في الكوفة مركزًا لمقاومة نفوذ الشام. هذه التركيبة جعلت كل والي قبل الحَجَّاج “مارًّا عابرًا”، لا يتمكن من الإمساك بالخيوط التي تتحرك بين يديه. أما هو، فقد دخل العراق وهو يعرف مسبقًا أن الولاية ليست إدارة مدينة، بل ضبط مجتمعٍ بكامله.
ومع ذلك، من الخطأ – منهجيًا – اختزال تجربة الحَجَّاج في العراق في سطور “القمع فقط”. فالرجل بنى البنى التحتية، وأعاد تنظيم الدواوين، وضبطَ حركة الضرائب، وأعاد الانضباط إلى جند العراق. وكانت نظرته للإدارة متقدمة زمنًا على كثير من ولاته؛ إذ فهم أن الفوضى الاقتصادية تُنتج الفوضى السياسية، وأن إصلاح الجباية شرط لاستقرار الدولة.
وفي هذا المزيج بين السيف والديوان، بين الخطبة والقرار، تشكّلت “أسطورته العراقية” التي جعلته في عيون البعض طاغيةً، وفي عيون البعض الآخر رجل دولة. لكن المؤكد أن العراق لم يغيّر الحَجَّاج وحده؛ بل إن العراق نفسه تغيّر به. فبعده لم يعد الولاة يدخلون الكوفة بالطريقة القديمة؛ صاروا يدخلونها وهم يسألون أنفسهم: هل نملك من الصوت ما يكفي؟ وهل فينا شيء من ذلك القدر الذي تحرك في جسده؟
هكذا تحوّل العراق إلى مسرحٍ تلاقى فيه صوت الرجل وتجربة الدولة، وأصبح الحَجَّاج فيه ليس واليًا فقط، بل “معادلةً سياسية” تُعرَف بوجودها حتى بعد أن يغادر صاحبها المكان.
الخصوم… بين رواية المؤرخين وصراخ الذاكرة الشعبية
لم تكن شخصية الحجاج صورة تُرى من زاوية واحدة؛ بل كانت أشبه بمرآة تتكسّر فيها القراءات والمؤسسات والجماعات. فمنذ لحظة تولّيه العراق، بدأت تتشكل حوله ثلاث دوائر من الخصومة: خصومة سياسية، وخصومة اجتماعية، وخصومة لغوية – فكرية. وكل دائرة أعادت إنتاجه بطريقتها، حتى أصبح الرجل – كما يصفه الطبري – شخصية “يختلف فيها الناس اختلافًا لا يجتمعون بعده على رأي”.
الخصومة السياسية جاءت أولًا. فالثوار الذين رأوا في العراق ساحة لتغيير الحكم، وجدوا في الحَجَّاج خصمًا لا يسمح للتمرّد بأن يُستَغل كسلاح تفاوضي. ويورد البلاذري أن كثيرًا من الثوار صوّروه عمداً بصورة “الوالي المتعطّش للدم” ليمنحوا خطابهم السياسي شرعيةً تستند إلى مظلوميةٍ جمعية. هذا النوع من الخطاب يظهر بوضوح في روايات ثورة ابن الأشعث، حيث تحوّل الحَجَّاج – في الذاكرة الثورية – من والي الدولة إلى “عدوّ الأمة”. لكن القراءة المنهجية تكشف أن كثيرًا من هذا التوصيف كان جزءً من “الاستراتيجية البلاغية للثورة”، أكثر منه وصفًا علميًا للواقع.
أما الخصومة الاجتماعية، فقد جاءت من طبقات أوسع من الخاصة، ومن عامة الناس الذين تضرّروا من سياسات الجباية أو الحزم الإداري. كان العراق، كما يشير “هيو كينيدي”، مجتمعًا مفتوحًا متعدد الطبقات، يختلط فيه العربي بالموالي، والعشيرة بالمدينة، والفقيه بالتاجر. وفي بيئة بهذا الاضطراب، يصبح أي إصلاح مالي أو سياسي صادمًا للجمهور. ولذلك وجد كثير من أفراد المجتمع الشعبي في الحَجَّاج تبريرًا جاهزًا لخيباتهم: رجلٌ قوي يصلح لأن يكون “الوجه الآخر” لكل آلامهم.
أما الخصومة اللغوية – الفكرية، فقد كانت الأكثر حساسية. فالحَجَّاج كان معلّمًا قبل أن يكون واليًا، وكانت اللغة بالنسبة إليه نظامًا مقدّسًا. ولذلك دخل في توترات مباشرة مع طبقة القرّاء والفقهاء، خصوصًا أولئك الذين اعتبروا أنّ “صرامته اللغوية” نوعٌ من الاستعلاء على أهل العلم. ويروي بعض المصادر – كالرواية التي ذكرها الجاحظ – أن بعض القرّاء بالغوا في تصوير قسوته ليثبتوا أن العلماء كانوا دائمًا “أعلى” من السلطة. هنا يتضح كيف أصبح الخلاف الفكري مادة لإنتاج ذاكرة شعبية لا يمكن الوثوق بها بمعزل عن السياق السياسي.
لكن لماذا تعاظمت خصومة الحَجَّاج أكثر من خصومة غيره من الولاة؟ الجواب يكمن – كما تشير الدراسات الحديثة – في أن الحَجَّاج كان يملك سلطة “مضاعفة”: سلطة الدولة المركزية، وسلطة خطابه الشخصي. فهو لم يكن ينفّذ فقط، بل يفسّر، ويؤوّل، ويتحدث بصوتٍ يحمل وزن الدولة. هذه الازدواجية جعلت خصومه ينظرون إليه لا كفرد، بل كـ“فكرة” يجب هدمها كي يتغيّر واقعهم.
ومع ذلك، فإن الروايات التاريخية المحايدة تُظهر أن كثيرًا من خصومه صاغوا صورته بما يناسب دوافعهم. فالثائر يراه طاغية ليبرّر ثورته. والكاتب الشعبي يراه شيطانًا ليبرّر خوف الناس. والوالي المنافس يراه خطرًا على نفوذه. ومن هنا يشير المحقّقون – كالدارسين المعاصرين لتاريخ الأمويين – إلى أن تحليل شخصية الحَجَّاج يجب أن يُفصل عن “صراخ الذاكرة”، وأن تُقرأ نصوصه وخطبه بوصفها وثائق سياسية، لا بوصفها شهادات أخلاقية.
وهكذا، فإن خصوم الحَجَّاج – بقدر ما وقفوا ضده – ساهموا في صناعة صورته؛ لأنه من دونهم ما كانت ستتشكل تلك الثنائيات التي حيكت حوله: الظلم والعدل، الطغيان والنظام، القوة والهيبة. إنهم جزء من الحكاية، وحكايتهم جزء من فهمنا للرجل الذي عرف كيف يمسك بالدولة، وكيف يترك خصومه يتصارعون على صورته بعد رحيله.
واسط… مدينة من الطين والدم واللغة
واسط لم تكن مجرد ولاية إضافية يُرسل إليها والي، بل مشروعًا حضاريًا وسياسيًا قائمًا على تصميم مركز قوة جديد داخل العراق. فقد قرّر الحَجَّاج بن يوسف أن يبني المدينة على ضفاف الفرات لتكون “نقطة التقاء السلطة المركزية مع الأرض”، وفق ما يورد الطبري، الذي يشير إلى أنّ الحجاج “ابتدأ ببناء مدينة لا يختلط فيها نفوذ الكوفة والبصرة”، أي مكانًا يمكن السيطرة عليه مباشرة من قبل الدولة، بعيدًا عن الشبكات القبلية المتشابكة.
المدينة لم تكن مجرد خرائط وأبنية؛ بل كانت تجربة اجتماعية ولغوية في الوقت نفسه. فالحَجَّاج أراد من واسط أن تكون نموذجًا لمفهومه عن السلطة: مركزية صارمة، مراقبة دقيقة، وانضباط لكل الجند والإداريين. من هنا تصبح المدينة نصًا مكتوبًا بالصلابة، أو ما يمكن تسميته “خرائط الحكم”، حيث كل شارع، كل ديوان، وكل سوق يعكس القواعد الجديدة للدولة. وفي هذا المعنى، لا يُنظر إلى واسط كمدينة فقط، بل كـ“ممارسة سياسية مادية”.
إن دراسة واسط تعطي فرصة لفهم كيفية انتقال خطاب الحَجَّاج من مجرد كلام على المنابر إلى فعل ملموس: كل قرار عمراني، كل تقسيم أراضي، وكل نظام إدارة جباية هو جزء من هندسة السلطة. وهكذا تصبح المدينة امتدادًا خطابيًا، أي أن الكلام الذي صاغه على الكوفة أو دمشق يتجسّد في شوارعها وأبنيتها.
البلاذري يلاحظ أن الحَجَّاج وضع في واسط مقرًّا للكتابة والدواوين، ومناطق لإيواء الجند، وأماكن للأسواق، بحيث تعكس كل مؤسسة فيها سلطة متوازنة وقوة ضبط. وهكذا يصبح تصميم المدينة درسًا لغويًا على الأرض: كل نظام مكتوب أو مسموع يعكس القواعد التي تعلمها الناس في الطائف، دمشق، والكوفة، لكنها تُطبَّق هنا على نطاق أوسع وبقوة الدولة المركزية.
الجانب الدموي للمدينة لم يكن غائبًا، بل كان جزءً من أدوات الحاكم. فقد أظهر الحَجَّاج أن السمع والطاعة لا تتحققان بالقوانين وحدها، بل بوجود قدرة على إنفاذها بالقوة عند الحاجة. وهكذا، يلتقي الطين بالدم مع اللغة، حيث يصبح السرد الشعبي الذي يرويه الطبري والبلاذري جزءً من البنية نفسها: المدينة تُحكى قبل أن تُبنى، والخطاب يُسكت قبل أن يُفرض السيف.
من منظور منهجي، تسمح واسط بدراسة ثلاثية الأبعاد: الأولى حضرية / عمرانية، الثانية إدارية / سياسية، والثالثة لغوية / تأثيرية. فالبنية المكانية، التنظيم الإداري، والخطاب المتكامل الذي يصنع الامتثال، جميعها أدوات لإنتاج سلطة مركزية مستدامة. وهكذا تصبح المدينة اختبارًا حيًا لنظرية الحَجَّاج عن الدولة: أن تكون الكلمة، والسيف، والتخطيط العمراني في خدمة نظام واحد، لا من أجل أي قبيلة أو جهة محلية.
في النهاية، واسط ليست مجرد موقع جغرافي؛ إنها نصٌ حيّ يُقرأ بفهم سياق السلطة، ويُفسّر بحساسية الصراع بين المركز والأطراف، بين الهيبة والفوضى، بين القانون والعادة. ومن هنا تبدأ المرحلة التي يتقاطع فيها الكلام، والسيف، والمدينة لتشكيل ما يمكن تسميته بـ“أسطورة الحَجَّاج العملية”.
خطب الحَجَّاج بين سلطة الكلمة وسلطة الدولة
خطب الحَجَّاج لم تكن مجرد كلمات تُلقى على مسامع الجمهور؛ بل كانت أدوات لإعادة تشكيل الواقع السياسي والاجتماعي. فالمنبر، كما يوضح الطبري، لم يكن فقط مكانًا للوعظ، بل موقعًا لإعادة ترتيب الولاءات، وتحويل الانصياع الفردي إلى طاعة مؤسسية. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن خطبه تمثل “قوة فاعلة”، لا مجرد تعبير عن رأي أو شعور.
يستخدم الحَجَّاج اللغة كسلاح مزدوج: أولاً لإخضاع المستمعين، وثانيًا لبناء صورة الدولة المركزية التي لا يمكن الطعن فيها. البلاذري يشير إلى أنّ الحَجَّاج كان يختار ألفاظه بعناية شديدة، بحيث يتحوّل كل سطر من خطابه إلى أداة ضغط نفسي وسياسي. وهكذا، تصبح الكلمات بمثابة الجند غير المرئيين، القادرين على فرض النظام قبل اللجوء إلى القوة المادية.
تتميز خطبه بالصرامة والوضوح، وهو أسلوب يعكس فهمه العميق لطبيعة الجماهير المتنوعة: من الجنود، إلى الفقهاء، إلى العامة. فكل فئة من الجمهور كانت تُقرأ بعناية، ويتم توجيه الرسائل بطريقة تناسب حساسياتها. وهنا تتضح العبقرية الاستراتيجية للحَجَّاج: القدرة على تكييف اللغة بحيث تصبح امتدادًا مباشرًا للسلطة السياسية.
علاوة على ذلك، تكشف المصادر الحديثة، مثل دراسات “هيو كينيدي”، أنّ خطبه لم تقتصر على إخضاع الناس، بل كانت وسيلة لإعادة إنتاج الشرعية: فالدولة حين تتحدث بصوت الحاكم، تتحول الكلمات إلى قوانين وممارسات مقبولة. وبذلك، يصبح الخطاب أداة مؤسسية، تتجاوز الفرد وتؤسس لنمط من الطاعة المنظمة.
البلاغة التي كان الحَجَّاج يمارسها على المنبر تجمع بين فنون الخطابة العربية التقليدية وبين متطلبات السلطة الجديدة. إنه يخلق توازناً بين جمال اللغة وقسوتها، بين الصوت الذي يُلهب الحماس والقرار الذي يفرض الانضباط. وهذه الخاصية تجعل خطبه مواد أولية لفهم “نظرية السلطة الصوتية” التي طورها خلال مسيرته.
من منظور منهجي، يمكن دراسة هذه الخطبة عبر ثلاث مستويات:
أولاً، تحليل نصي للخطاب نفسه، لفهم البناء اللغوي والاستراتيجيات البلاغية.
ثانياً، دراسة تداولية، لفهم تأثير الخطاب على جمهور مختلف ومحدّد السياقات.
ثالثاً، ربط هذه الخطابات بالسياسات الميدانية التي نفذها الحَجَّاج: من الجباية، إلى الإدارة، إلى القمع، لتوضيح أن الخطاب كان جزءً لا يتجزأ من ممارسة الحكم.
وهكذا، تصبح خطب الحَجَّاج نموذجًا متقدّمًا لفهم العلاقة بين الكلمة والدولة، بين الخطاب والسلطة، وبين الفرد والمؤسسة. إنه يثبت أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي أداة لتثبيت النظام وصناعة التاريخ.
الحَجَّاج في مرايا المستشرقين… سيرة تعبر المتوسط
حين نظر المستشرقون الغربيون إلى الحَجَّاج، لم يفحصوه بوصفه شخصًا منفردًا فحسب، بل كرمز للسلطة الشرقية الصارمة في سياق دراسة الإمبراطوريات القديمة. فبعضهم، مثل “باركلي” أو “لوريمر”، صنّفوه طاغيةً يشبه حكّام الإمبراطوريات، بينما اعتبره آخرون إداريًا عبقريًا سبق زمنه، قادرًا على ضبط التوازن بين القسوة والفعالية.
من المنهج التاريخي، يمكن قراءة هذه التصنيفات بوصفها نتاج موقف ثقافي وسياسي: المستشرق يرى الحَجَّاج عبر عدسة “النموذج الشرقي” للسلطة، متأثرًا بمقارنات بين الدولة الحديثة والدولة الأموية. دراسة بلاغته وإدارته للعراق وواسط تُظهر أن الرجل لم يكن شريرًا بحد ذاته، ولا قديسًا، بل ابن عصره: صراع مركزي – قبلي، دولة – قبيلة، قوة – فوضى، كل ذلك يُعبّر عنه في سلوكه وتصرفاته.
الطبري والبلاذري يقدمان قراءة محلية تتكامل مع الملاحظة الغربية: فالمؤرخان يصفان الحَجَّاج كرجل دولة، لا كرمز أسطوري، بينما الذاكرة الشعبية تُضخّم أبعاد القسوة لتوضيح الحدة أو لتأطير القيم الاجتماعية. من هنا نجد أن الحَجَّاج يصبح مثالًا على “التقاطع بين السلطة والرمز”، بين الواقع التاريخي وصورته المتداولة عبر الزمن.
المستشرقون ركّزوا على عناصر القوة الصارمة والهيبة، وعلى تنظيم الدولة المركزية، واعتبروا أن الحَجَّاج قد جسّد نموذج الإدارة العقلانية في قلب بيئة مضطربة. هذا التصور يتيح للمؤرخ الحديث دراسة العلاقة بين القوة والخطاب، بين تطبيق القانون وشرعية الحاكم، وبين مركزية الدولة وخصوصية المجتمع المحلي.
من منظور منهجي، يتيح الربط بين المصادر المحلية (الطبري والبلاذري) والمصادر الغربية دراسة الحَجَّاج كظاهرة مزدوجة: رجل دولة في ممارساته اليومية، ورمز في سياقات فكرية وثقافية تمتد عبر المتوسط. وهكذا، يمكن القول إن الحَجَّاج ، في هذه القراءة، ليس مجرد والي أو قائد، بل حالة تاريخية تحوّلت إلى نموذج لدراسة السلطة والبلاغة والسياسة.
وهكذا يكتمل الطيف: بين المصادر المحلية والمستشرقين، بين التاريخ المكتوب والذاكرة الشعبية، يظهر الحَجَّاج كشخصية مركّبة، تعكس صراع عصره وتعكس بدورها كيف يُصوَّر التاريخ ويُستعمل في تفسير السلطة.
النهاية… حين يذوب الحديد في سردية الأمة
مات الحَجَّاج كما ينتهي مفعول الحديد حين يتآكل: بصمت ثقيل، وببطء لا يخلو من وجع. لكن موته لم يُنهِ قصته، بل أصبح صوته — كما وصفه الطبري — حاضرًا في الخطاب الشعبي والرسمي، في الروايات التاريخية والقصص المتداولة، بين مؤيد يراه منقذًا من الفتن، ومعارض يراه مقدّمة للطغيان. وهكذا، تتشابك الذاكرة الفردية مع الذاكرة الجماعية لتنتج صورة مركّبة عن رجل واحد.
من المنهج التحليلي، يمكن القول إن الحَجَّاج لم يكن رجلًا يُصنَّف بسهولة في فئة “شرير” أو “قديس”، بل كان ابن زمانه، صوتًا لمرحلة فاصلة، مرآة لشعب يبحث عن معنى السلطة. فقد عاش في لحظة تاريخية فاصلة يقف فيها العرب بين دولتين: دولة الماضي القبلي، ودولة المستقبل المركزي، وكانت حياته سلسلة معارك بين هذين العالمين. وهنا تظهر قيمة الخطاب التاريخي المحلي (الطبري والبلاذري) في جمع شتات الأحداث وتحليلها بوصفها عوامل مؤثرة في بناء الصورة.
إن دراسة وفاة الحَجَّاج وما بعدها تُظهر أن القوة الفردية تتحول إلى رمز، وأن كل تصرفاته – من سيفه إلى خطبه، من إدارة العراق إلى بناء واسط – لم تكن محصورة في زمنه، بل امتدت لتؤثر في تشكيل سردية الأمة. فالصوت الذي شُكّل من الطائف إلى دمشق، ومن العراق إلى واسط، لم يختفِ مع رحيله، بل ظلّ مرآة لتقلبات التاريخ، معبّرًا عن الصراع بين الفوضى والنظام، بين السلطة والذاكرة.
وقد أشار بعض الباحثين المعاصرين، مثل “هيو كينيدي” و”جواد علي”، إلى أن تحليل شخصية الحَجَّاج يجب أن يأخذ في الاعتبار كل هذه الأبعاد: القوة الفردية، الممارسة السياسية، الخطاب البلاغي، وتأثير الذاكرة الشعبية والمصادر التاريخية على إعادة إنتاج صورته. فالدراسة التاريخية المنهجية تقرّ بأن الحَجَّاج لم يذوِب الحديد فحسب، بل جعل صوته يذوب في سردية الأمة، ليظل حاضرًا في كل قراءة لاحقة للسلطة والهيبة في العالم الإسلامي المبكر.
وفي النهاية، يبقى الحَجَّاج مثالًا حيًا على كيفية تحول شخصية سياسية إلى رمز، وكيف يصبح الصوت أقوى من السيف، والخطاب أقوى من الفعل، حين يتقاطع الفرد مع لحظة تاريخية عظيمة. وهكذا، ذاب الحديد، وبقي الصوت، متجاوزًا زمنه ومكانه، ومستمرًا في سرد التاريخ، بصوته الخاص.
الحَجَّاج في ذاكرة الشعب من القرون الوسطى إلى عصرنا الحديث
الذاكرة الشعبية لم تتوقف عن نسج صور الحَجَّاج بعد وفاته؛ بل استمرت في تشكيله كشخصية رمزية تتجاوز واقعه التاريخي. فقد خلّفت سيرته أصداء في الأمثال والحكايات الشعبية، حيث يُذكر أحيانًا كرمز للقسوة والحزم، وأحيانًا كرمز للدولة المركزية والعدل الصارم. يقول أحد الأمثال الشعبيّة في العراق: “من لم يره الحَجَّاج لم يعرف معنى الخوف”، في حين يُحكى في طائفة أخرى: ” الحَجَّاج علم الناس أن الدولة أقوى من الفوضى”، ما يوضح التباين بين التأويلات الشعبية.
خلال القرون، وُظّفت شخصية الحَجَّاج في الأدب الشعبي كأداة تعليمية وثقافية، سواء في الشعر، أو في القصص التي تحكي عن العدالة والقسوة، كما يظهر في بعض المخطوطات الكوفية التي توثّق حكاياته في أمثال وتوجيهات للحكام المحليين. ويشير بعض الباحثين مثل “جواد علي” إلى أن هذه الروايات الشعبية لم تكن تهدف فقط إلى تصويره كعدو أو بطل، بل لتعليم الأجيال كيف يتعامل الإنسان مع السلطة والقوة، وكيف يوازن بين الطاعة والخوف.
في العصر الحديث، تعكس الروايات والمسرحيات والكتب التاريخية العربية المعاصرة نفس الاتجاه: الحَجَّاج شخصية مركّبة تحمل في طياتها صرامة الماضي، وفهم الدولة المركزية، وبلاغة الخطاب. فالذاكرة الشعبية لم تختفِ مع الزمن، بل تم توظيفها لتفسير السلطة والعدالة، ولتشكيل خطاب اجتماعي حول العلاقة بين الحاكم والمحكوم، سواء في الأدب أو الدراسات الأكاديمية.
من منظور منهجي، تسمح دراسة هذه الذاكرة الطويلة بفهم كيف تتحوّل الشخصية التاريخية إلى رمز متداخل مع البنية الثقافية للمجتمع، وكيف يمكن للخطاب الشعبي أن يكمل أو يختلف عن الرواية التاريخية المكتوبة. وهكذا، يظل الحَجَّاج حاضرًا في الوعي الجمعي، ليس فقط بوصفه واليًا صارمًا، بل كشخصية تحمل أسئلة العصر حول السلطة، العدالة، والخوف من الفوضى.
شخصية الحَجَّاج المتناقضة بين القسوة والكفاءة
الحَجَّاج بن يوسف شخصية متناقضة بامتياز، فهو في آن واحد رمز للقسوة المطلقة وركيزة للكفاءة الإدارية. “الطبريط يصفه كرجل “صارم في القوانين، لا يلين أمام العصيان، لكنه دقيق في إدارة شؤون الدولة”، بينما “البلاذري” يروي أن الحَجَّاج كان شديد الصرامة مع الجنود والولاة، لكنه كان يقدّر الكفاءة والذكاء في من يخدمون الدولة. هذه الثنائية تجعله شخصية صعبة التصنيف: ليس مجرد طاغية، ولا مجرد إداري، بل خليط من الاثنين معًا.
الجانب القاسي من شخصيته يظهر بوضوح في قمع الثورات، مثل ثورة ابن الأشعث، حيث لم يتردد في استخدام القوة، والرقابة الصارمة على المنافذ السياسية والعسكرية. وقد انعكست هذه القسوة في ذاكرة الناس، فتُحكى عنه قصص عن صرامته في تطبيق العدالة، وعن إصدار الأحكام بسرعة وبدون رحمة، مما جعل البعض يعتبره “رمز الخوف”، بينما يراه آخرون درعًا يحمي النظام من الفوضى.
في المقابل، الكفاءة الإدارية للحَجَّاج تظهر في بناء المدن، وتنظيم الجبايات، وتوزيع الموارد، وإدارة المؤسسات الحكومية، كما هو موثق في دراسة “هيو كينيدي” لتاريخ الدولة الأموية. فالحَجَّاج لم يكن مجرد منفذ للأوامر، بل كان يخطط ويعيد تنظيم الإدارة بحيث تضمن الدولة المركزية استمرارية الحكم، حتى في بيئة مضطربة كالتي كانت في العراق آنذاك.
هذه المتناقضات تجعل شخصية الحَجَّاج قابلة لتأويلات متعددة: فالأدب الشعبي يمجّدها أحيانًا ويشيطنها أحيانًا أخرى، بينما المؤرخون ينظرون إليها من زاوية الأداء السياسي والقدرة على السيطرة. من منظور منهجي، يمكن دراسة هذه الثنائية عبر تحليل ممارساته اليومية، خطبه، القرارات الإدارية، والأمثلة الشعبية، لفهم كيف يُمكن لشخصية واحدة أن تُنتج صورًا متعارضة تبقى حية عبر الزمن.
وهكذا، تظل شخصية الحَجَّاج شاهدة على صراع الإنسان بين القسوة والعدالة، بين السلطة والفعل، بين الخوف والاحترام، وتبرهن على أن الحكم الفعال غالبًا ما يحتاج إلى مزيج من الصرامة والكفاءة، وهو درس يتكرر في التاريخ والسياسة على حد سواء.
أخبار إضافية وحوادث محددة… الحَجَّاج بين الواقع والأسطورة
حياة الحَجَّاج مليئة بالحوادث التي أكسبت شخصيته أبعادًا متعددة، بعضها يوثق في المصادر التاريخية، وبعضها تحول إلى أسطورة في الذاكرة الشعبية. من أبرز هذه الأحداث ثورة ابن الأشعث، التي تُمثل اختبارًا حقيقيًا لقدرة الحَجَّاج على المزج بين القوة والحنكة. فقد أشار “الطبري” إلى أن الحَجَّاج “واجه الثورة بحزم، لكنه نظم القوات وأعاد الولاءات بطريقة دقيقة”، وهو ما يعكس قدرته على إدارة الصراع العسكري والسياسي في الوقت ذاته.
وفي سياق الإدارة المدنية، عمل الحَجَّاج على إعادة تنظيم الجباية في الكوفة والبصرة، وبناء المرافق العامة مثل قنوات المياه والسجون، وفق “البلاذري”. هذه الإجراءات أظهرت الجانب الإداري للكفاءة، بينما كانت ردود الفعل الشعبية تتراوح بين الرضا والخوف، ما يكرّس الصورة المركبة لشخصيته: صارم لكنه فعال، خائفون منه لكنهم يحترمون نظامه.
تظهر بعض الروايات الشعبية حكايات عن طريقة حكمه، مثل المراسيم التي فرضها على الولاة المحليين، وإلقاء القبض على المتهاونين، وحفظ الأمانة في توزيع الموارد. يقول بعض المؤرخين المعاصرين إن هذه القصص الشعبية، رغم المبالغة، تعكس إحساس الناس بموازنة السلطة بين القسوة والعدالة، وتوضح كيف تحول الحَجَّاج إلى رمز لتجربة الدولة المركزية.
أخبار أخرى، مثل استدعاؤه للعلماء وتهديد الشعراء الذين انتقدوه، تظهر جانبه اللغوي والسياسي في آنٍ معًا، إذ كان يستخدم المعرفة والبلاغة أداة للضبط الاجتماعي والسياسي، وهو ما يؤكده تحليل الدراسات الحديثة للخطاب السياسي في الدولة الأموية. هنا تتقاطع الممارسة العملية مع الخطاب، ويصبح الحَجَّاج مثالاً على كيفية توظيف اللغة والسياسة لفرض النظام.
من المنهجية التاريخية، تتيح دراسة هذه الأحداث المترابطة قراءة شخصية الحَجَّاج كوحدة تحليلية: مزيج من الإدارة والسياسة، القسوة والعدل، القوة والهيبة، الخطاب والفعل. كما تسمح بالربط بين الرواية الشعبية والمصادر المكتوبة لفهم كيفية إنتاج التاريخ الرمزي، وكيفية استمرار تأثيره حتى في الوعي الاجتماعي المعاصر.
بهذه الطريقة، تكتمل صورة الحَجَّاج ليس فقط كوالي صارم، بل كرمز متعدد الأبعاد: شخص يمكن أن يُدرس من خلال السياسة، من خلال الإدارة، من خلال البلاغة، ومن خلال الذاكرة الشعبية الممتدة.
الحَجَّاج في الوعي المعاصر… بين التاريخ والسياسة والثقافة الشعبية
حتى اليوم، يظل الحَجَّاج رمزًا معقدًا في الثقافة الشعبية العربية، حيث يمتزج التاريخ بالأسطورة والتفسير السياسي بالتراث الشعبي. في المدارس، تُذكر سيرته كدرس في الصرامة الإدارية، وفي الأدب تُحكى عنه القصص كرمز للسلطة المطلقة، وفي المسرح والسينما تظهر صورته متناقضة: صارم، ذكي، قاسٍ، لكنه لا يخلو من الحكمة.
تشير الدراسات الحديثة، مثل أعمال “هيو كينيدي” و”جواد علي”، إلى أن الحجاج أصبح حالة رمزية لتحليل العلاقة بين الدولة والفرد، بين المركزية والفوضى، بين القانون والتهرب من المسؤولية. فالخطاب الشعبي المعاصر لا يزال يستعيد قصصه وحكمه لإضفاء معنى على السياسة المعاصرة: أمثال مثل “كما فعل الحجاج، يقوّم الزمان من يجرؤ على الفوضى” تظهر كيف تحول التاريخ إلى أداة لتفسير الواقع السياسي.
تُظهر دراسة الصحف والمقالات الأدبية المعاصرة أن صورة الحَجَّاج غالبًا ما تُوظف لتقديم نقد اجتماعي أو سياسي: صارم مع الفوضويين، حكيم مع القادرين على التنظيم، متناقض كما هو التاريخ نفسه. وهنا يظهر بعد المنهج التاريخي: تحليل كيفية استخدام شخصية تاريخية لتقديم دروس في السياسة والإدارة والمجتمع.
علاوة على ذلك، تبيّن المقابلات والبحوث الميدانية في بعض المناطق العربية الحديثة أن الحَجَّاج ما زال حاضرًا في الذاكرة الجمعية: الأطفال يسمعون عنه قصص القسوة والحكمة، المثقفون يناقشون سياساته، والفنانون يصورونه على المسرح والتلفزيون، ما يوضح أن تأثيره يمتد عبر القرون، ويشكل حالة مستمرة لدراسة السلطة والرمزية.
من منظور منهجي، يتيح هذا الربط بين التاريخ، الثقافة الشعبية، والسياسة المعاصرة فهم كيفية إنتاج رموز السلطة، وكيف يمكن لشخصية تاريخية أن تتجاوز عصرها لتصبح مرجعًا ثقافيًا وسياسيًا مستمرًا. الحَجَّاج إذن ليس مجرد شخصية من الماضي، بل حالة زمنية مستمرة، تُدرس وتُناقش وتُعاد قراءتها في ضوء المتغيرات الاجتماعية والسياسية الحديثة.
الحَجَّاج كوحدة تاريخية ورمز ثقافي… تحليل منهجي شامل
بعد استعراض الطفولة، التعليم، الإدارة، الخطاب، الذاكرة الشعبية، والتأثير المعاصر، يصبح الحَجَّاج مثالًا متكاملاً لدراسة الشخصية التاريخية كوحدة تحليلية مزدوجة: فردية ورمزية في آنٍ واحد. من منظور منهجي، يمكن تقسيم التحليل إلى ثلاثة مستويات متداخلة:
1. المستوى التاريخي والسياسي:
يُظهر الحجاج كوالي وصانع قرار في بيئة متوترة، حيث يجمع بين القسوة والكفاءة، ويوازن بين القوة المادية والهيبة الرمزية. يُمكن مقارنة ممارساته بما وثقه الطبري والبلاذري، بما في ذلك إدارة الثورات، الجباية، وإعادة تنظيم المدن، لفهم كيفية تأثير الفرد على مسار الدولة.
2. المستوى البلاغي والثقافي:
تظهر بلاغته على المنابر وكتابة النصوص الإدارية كأداة للسيطرة، حيث تتحول اللغة إلى قوة سياسية. دراسة الخطاب وفق أساليب التحليل النصي والتداولي تُظهر كيف يستخدم الكلمات كوسيلة لفرض النظام، وتربط بين الخطاب والسلطة كما أشار الباحثون المعاصرون مثل “هيو كينيدي”.
3. المستوى الرمزي والذاكرة الشعبية:
تمتد شخصيته إلى ما بعد زمنه عبر الروايات الشعبية، الأمثال، المسرحيات، الأدب المعاصر، والصحافة، ما يجعله رمزًا متواصلًا لدراسة العلاقة بين السلطة، القسوة، العدالة، والنظام الاجتماعي. هذا البعد الرمزي يعكس قدرة الشخصية التاريخية على التفاعل مع الثقافة الجماعية وتحويل الفعل الفردي إلى درس مستمر في السياسة والثقافة.
من خلال الجمع بين هذه المستويات، يصبح الحَجَّاج نموذجًا لدراسة “التقاطع بين التاريخ والفعل، بين الخطاب والسلطة، وبين الفرد والذاكرة”، حيث لا يمكن فهمه إلا في إطار هذه الشبكة المركبة من العوامل الاجتماعية، السياسية، الثقافية، والرمزية. وهكذا، تتشكل صورة الحَجَّاج كوحدة متكاملة: رجل دولة، صوت السلطة، رمز الثقافة الشعبية، وأيقونة التاريخ المتناقض.
هذا التحليل الشامل يؤكد أن دراسة الحَجَّاج تتطلب منهجية متعددة الأبعاد، تجمع بين التاريخ المكتوب، الرواية الشعبية، الدراسات المعاصرة، والتحليل البلاغي والسياسي، ما يجعل الشخصية التاريخية أكثر ثراءً وواقعية، وأبعد من أن تُختزل في صرامة أو قسوة أو طاغية فقط.
الحَجَّاج… صوت التاريخ ورمز السلطة والذاكرة
عند تتبع مسار الحَجَّاج من الطائف إلى دمشق، ومن الكوفة إلى واسط، ثم عبر الذاكرة الشعبية والمعاصرة، تتضح صورة مركبة لشخصية تاريخية متعددة الأبعاد. فقد كان الطفل الذي تكلم بصوت مبكر، الرجل الذي صاغ السلطة بالكلمة والسيف، الوالي الذي أدار الدولة بالقسوة والكفاءة، ورمزًا تتناقض فيه الصرامة مع العدالة، والقوة مع الحكمة.
التحليل المنهجي عبر المستويات الثلاثة — التاريخية والسياسية، البلاغية والثقافية، والرمزية في الذاكرة الشعبية — يُظهر كيف أصبح الحَجَّاج نموذجًا لدراسة العلاقة بين الفرد والدولة، بين الخطاب والسلطة، وبين الماضي والحاضر. فالطبري والبلاذري يقدمان الوقائع التاريخية، أما الرواية الشعبية فتضيف الأبعاد النفسية والثقافية، والدراسات المعاصرة تربط بين هذا الماضي وما يمكن تعلمه في السياسة والإدارة الحديثة.
إذن، الحَجَّاج ليس مجرد والٍ صارم أو طاغية مفروض، بل شخصية تتجاوز حدود زمنها، صوتها مستمر عبر القرون، ورمزها حاضر في الثقافة الشعبية والسياسة والدراسات الأكاديمية. من هذا المنظور، تصبح دراسة الحَجَّاج دراسة لتقاطع الزمان والمكان، الفرد والمجتمع، التاريخ والفعل، حيث يظل الصوت الذي تشكّل من صراع العصور حاضرًا في كل قراءة لاحقة للسلطة والهيبة.
وهكذا، تنتهي هذه المقالة بملاحظة مركزية:
أن الشخصيات التاريخية الكبرى لا تُفهم فقط من خلال أفعالها المباشرة، بل أيضًا من خلال الطريقة التي تتشكل بها في الذاكرة الجماعية، وتستمر في تشكيل الفكر السياسي والثقافي حتى بعد مرور قرون على رحيلها.
فالحَجَّاج، إذن، ليس مجرد رجل من الماضي، بل حالة مستمرة لدراسة السلطة، الثقافة، والخطاب، وصوت يذوب في سردية الأمة لكنه لا يختفي أبدًا.

قائمة الحواشي والمراجع:
(1) البلاذري، فتوح البلدان، تحقيق: صلاح الدين المنجد، ص 258.
(2) البلاذري، أنساب الأشراف، ج 3، ص 112–113.
(3) ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج 5، ص 349.
(4) الأصفهاني، الأغاني، ج 2، ص 127.
(5) الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج 5، ص 238–240.
(6) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 4، ص 30–32.
(7) الأصفهاني، الأغاني، ج 1، ص 55.
(8) إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، ص 44–46.
(9) G. R. Hawting, The First Dynasty of Islam, London: Routledge, 1996.
• Hugh Kennedy, The Early Abbasid Caliphate, London: Longman, 1981.
• F. M. Donner, The Early Islamic Conquests, Princeton University Press, 1981.

(10) ابن كثير، البداية والنهاية، ج 9، ص 12.

(11)  “دمشق  بوابة السلطة”

كان المساء ينساب على القاعة بوقارٍ يشبه تقليب صفحات مخطوطٍ عتيق، كأن الضوء ذاته يستعيد ذاكرة العصور. كانت النوافذ العالية تقذف خطوطًا ذهبية خفيفة فوق الطاولات الطويلة.

دخلتُ القاعة أولًا. وضعتُ حقيبتي قرب المنضدة المستديرة التي اخترناها خصيصًا لهذا “المجلس البحثي” الذي لم نُرِده رسميًا، بل مساحةً حرة تُطلق الأسئلة ولا تخشى التصويب والمراجعة. كانت القاعة تبدو أقرب إلى حلقةٍ فلسفية منها إلى جلسة نقاش معتادة.

ما لبثت رانيا أن دخلت، وهي أستاذة الفلسفة ذات الميل إلى المقاربات البنيوية – الدلالية، تتأمل المكان بعين من تبحث عن بنية نصية حتى في حركة المقاعد. تبعتها مها، المتخصّصة في التاريخ العربي، تحمل في يدها مجلدًا ضخمًا عن العصر الأموي؛ وكنتُ أرى في خطواتها نوعًا من اليقين الذي يمنحه احتضانُ الوثائق. ثم دخل كريم، الذي لا ينفكّ يُلبس التحليل السياسي نظرةً نقدية حادة، ومعه ليث الذي ينهل من الفقه والتراث، وسامر القادم من عالم العلوم الاجتماعية، ونور التي تمثل صوتًا دينيًا منفتحًا في رؤيته وتفسيره، وأخيرًا رامز، الذي بدا وكأنه يحمل على كتفيه إرثًا ثقيلاً من التعصّب التاريخي وفقه التشدد.

جلسنا جميعًا حول المنضدة، وأنا أتأمل الوجوه التي تنتظر الشرارة الأولى. حدّثت نفسي: “كيف يمكن لمجلس كهذا أن ينجو من الاختلاف؟ وكيف يمكن للاختلاف أن يثمر معرفة لا خصومة؟”

ثم تنحنحت ورتّبت أوراقي وقلت:

— ” موضوعنا الليلة شخصية لا تُستَحضَر على سبيل العبور. رجلٌ رأى فيه قومٌ رمز الحزم والصرامة، ورآه آخرون سوط القهر والاستبداد. إنه الحجاج بن يوسف الثقفي… من طفولة تختلط بالبلاغة والنسب، إلى موتٍ يحمل آثار السيوف التي لوّحت في حياته. من المعلّم إلى القائد، ومن بناء الدولة إلى هدم النفوس.”

ساد صمت ثقيل، كأن الحروف تنتظر إذنًا بالانطلاق.

قطعت رانيا الصمت بنبرة واثقة، تحمل في داخلها حوارًا فلسفيًا لا يهدأ: “قبل أن نحمّله وصايا المديح أو التوبيخ… علينا أن نسأل: ما السياق؟ ما البيئة التي أنجبته؟ فالحجاج لم يولد من فراغ، بل من دولة تتشكل، تبحث عن هويتها، وتتعثر في ظلال الفتن.”

ابتسم كريم ابتسامة ساخرة، كأنها امتداد لمنطق داخلي يقول له إن الرجل لا يستحق سوى النقد: “هذا إذا افترضنا أنه كان مهتمًا ببنية الدولة أصلًا، لا ببنية السيف.”

وضعت مها المجلد أمامها، وقالت بحزم المؤرخ الذي يرى أن النصوص تشهد قبل الآراء: “فلنبدأ من الميلاد. وُلد في الطائف سنة أربعين قبل الهجرة… في بيئة تقدّس البلاغة وتعتز بالنسب. وهذا وحده يفسّر شيئًا من ملامح شخصيته: اعتدادٌ بالنفس، صرامة، وإحساس دائم بأنه أكبر من الهشاشة.”

هزّ ليث رأسه موافقًا، وهو يحدّث نفسه عن أثر الكلمة في تشكيل الروح: “ولا ننسى أنه كان معلّمًا قبل أن يكون قائدًا. رجلٌ يعرف قوة اللفظ وحدّه، ولذلك كان صارمًا في ضبط الكلمة. حتى القرآن… كان له دور في ضبطه. وهل يمكن لمن يعرف حدود اللغة أن يتساهل في حدود الناس؟”

تدخّل رامز بنبرة تهكمٍ مكتوم، وكأن داخله يصرخ بما هو أكثر حدّة مما نطق به: “ضبط القرآن؟ أم ضبط رقاب الناس؟ لا يُخفي هذا التجميلُ أنه قتل وشرد واحتكم إلى الجور.”

نظرتُ إليه بهدوء لم يسكن داخلي تمامًا. قلت: “سنصل إلى ذلك كله. لكن دعونا نسير زمنيًا: كيف شكّلت البيئة الأولى هذا الرجل؟ وكيف انقلب المعلّم إلى والٍ تخشاه المدن والقبائل؟”

رفعت نور يدها، وقد بدت عليها رغبة في إعادة التوازن بين العقل والرواية: “ربما لأنه رُمي في قلب ظرف سياسيّ لا يعرف الرأفة. دولة ناشئة، انقسامات، حروب… رجل يُلقى به في النار لن يعود منها محمّلًا بالورود.”

عند تلك اللحظة، بدأ السجال يشتعل. لم تكن الأصوات وحدها ترتفع؛ بل بدا كأن القاعة نفسها تستجيب لوقع الأفكار المتعارضة. وكأننا، دون أن ندري، نعيد بعقولنا وقلوبنا إحياء تلك العصور التي تشكلت فيها لغة العرب ومذاهبهم، وتحوّلت فيها الفصاحة من سلاحٍ بياني إلى معيار سياسي، ومن بلاغةٍ للتواصل إلى بلاغةٍ للهيمنة.

كنتُ أراقبهم وأحدّث نفسي: “هل نحن في مجلس بحثيّ، أم في محكمة للتاريخ؟ وهل يمكن للتاريخ أصلًا أن يُحاكم بمنطقٍ معاصر؟ أم أننا نحاول – ربما – أن نعيد تعريف ذواتنا عبر رجل مات منذ قرون؟”

وهكذا… بدأت الليلة التي أردناها بحثية هادئة، تتحول رويدًا إلى ساحة تتقاطع فيها الأسئلة، وتتشابك فيها طبقات اللغة والفقه والسياسة، كأن الحجاج ذاته يقف خلف الباب، يبتسم لنا ابتسامةً لا نعلم هل هي اعتداد أم تهديد.

كان الهدوء يخيّم على القاعة حين بدأتُ أدوّن الملاحظات الأولى التي شعرتُ أنني سأحتاجها لاحقًا. كان في داخلي صوت يسأل: “هل يمكن لمن وُلد في زمنٍ مضطرب أن يكتبَ تاريخه بالحبر وحده؟ أم أن الدم يتسلّل دائمًا ليشارك في كتابة كل سطر حتى السطر الأخير؟”
تساءلتُ بيني وبين نفسي: أليس التاريخ نفسه يتشكّل من هذين اللونين معًا؛ لونٍ يدوّنه الكُتّاب، ولونٍ تفرغه السيوف؟

ازدادت القاعة دفئًا قليلًا؛ وربما كان هذا الدفء وليد اجتماع الأفكار لا سخونة المكان. ووضعت نور على الطاولة أكواب الشاي، فتصاعد منها بخارٌ خفيف بدا كأنه يعلّق أسئلتنا في الهواء.

فتحت مها كتابها من جديد، وكأنها تستدعي الزمن الغابر إلى هذه الطاولة الصغيرة. ثم قالت بصوتٍ واضح يحمل يقين المؤرخ:

 — “لنبدأ من الجذور. الحجاج بن يوسف الثقفي… ولد في الطائف سنة أربعين قبل الهجرة. والطائف آنذاك لم تكن مجرد مدينة، بل كانت مجتمعًا ذا بنية قبلية قوية، يعتزّ بفصاحته وأنساب قبائله، ويغلّف علاقاته بعصبياتٍ لا تخطئها العين.”

تقدّم كريم قليلًا، قابضًا قلمه بين أصابعه، كأنما يريد أن ينقضّ على الفكرة:

 — “بمعنى آخر… المكان المثالي لولادة شخصٍ يشعر دائمًا أنه صاحب حقٍّ في فرض النظام.”

شعرتُ أن في نبرة كريم خلفيةً نفسية لم يصرّح بها، وكأنه يقول داخل نفسه: “ألا يولد الاستبداد من رحم السلطة المفرطة؟”

ابتسمت مها ابتسامة خفيفة تحمل شيئًا من التروي، ثم قالت:

— ” قد يكون هذا استنتاجًا مبكرًا. البيئة لا تصنع الطغاة وحدها، بل تصنع ملامح النفوس. الطائف كانت مدينة زراعية مستقرة، ذات نظام قبلي واضح، وموطنًا للعلماء والكتّاب. وكانت قبيلة ثقيف ذات حضور سياسي وتجاري ملحوظ، ولها تقاليد صارمة في الانضباط.”

أتى صوت ليث هادئًا، لكنه يخفي وراءه تقديرًا للتراث:

— ” ولا ننسى أنه كان معلّمًا قبل أن يكون قائدًا. ويُقال إنه كان ابنَ معلّم. هذا مهم جدًّا… فالمعلّم يعرف كيف تنشأ النفس البشرية، وكيف يوجّهها نحو النظام حين تلزم الشدة، ونحو اللين حين تحتاج الطمأنينة.”

رنّ في ذهني صوت داخليّ يقول: “هل يمكن لمن يدرِّس الأطفال أن يتحوّل لاحقًا إلى رجلٍ تهتزّ له المدن؟” وكأن شخصية الحجاج تختبر حدود اللغة والتربية معًا.

ضحك كريم ضحكة قصيرة وقال:

— ” إذن تعلّم منذ صغره كيف يُخيف الناس إذا شاء؟ حسنًا… هذا يفسّر الكثير.”

لكن نور قاطعته بلطفٍ مقصود، وفي عينيها رغبة بإعادة التوازن:

— ” الخوف لم يكن غاية. في تلك الحقبة، كانت السلطة تُبنى على ثلاثة أركان أساسية: النسب، والخطاب، والسيف. ولأن الحجاج لم يكن من بيتٍ سياسي كبير، فقد اعتمد على الخطاب والانضباط ليصنع لنفسه مقامًا لم تمنحه إياه الدماء وحدها.”

كانت رانيا تتابع الحوار بعين الباحثة التي ترى في التاريخ طبقات للنصوص، ثم قالت وهي تميل بظهرها إلى الخلف:

 — “السياق الديني والسياسي لا يقل أهمية. فهو وُلد قبل الهجرة، لكن شبابه جاء في زمن الاضطرابات الكبرى بعد وفاة النبي ﷺ: حروب الردة، الصراع السياسي بين الأمويين والهاشميين، مقتل الخلفاء، الفتنة الكبرى…
هذه الأحداث لم تكن مجرد أخبارٍ يسمعها، بل كانت مادة يومية تشكّل الوعي.”

أومأت مها وقد بدت كأنها تستند إلى سطورٍ محفوظة في ذاكرتها:

 — “الحقيقة أن جيل الحجاج كان أول جيلٍ لمسلمين يواجهون اتساع الدولة المخيف. مدن جديدة، قبائل تختلط، أعاجم ينضمون إلى اللغة العربية…
ومع هذا الاختلاط ظهر سؤال: من يمسك زمام الأمور؟ من يضبط هذا الاتساع؟ من يمنع الفوضى؟”

أخذ سامر يرسم دائرة صغيرة في دفتره، ثم قال وهو يحدّق فيها كأنه يستخرج منها خلاصة:

— ” إذن، لا عجب أن ذلك الجيل نشأ باحثًا عن اليد القوية. ربما لم يكن الأمر خيارًا فكريًا، بل شعورًا بأن الدولة لا تستقيم إلا بقائدٍ شديد.”

بدا أن رامز، الذي بقي صامتًا طويلًا، لم يستطع أن يكتم انفعاله. مال للأمام وقال بصوتٍ خشن:

— ” مع ذلك… نشأ في بيتٍ ملتزم دينيًا. كان حافظًا للقرآن، قارئًا فصيحًا، عارفًا بأصول الدين. لكن… هذا كله لا يبرّر ما فعله بعد ذلك من ظلم.”

شعرتُ أن في داخله صوتًا آخر يقول: “كيف يمكن للعلم والدين أن يجتمعا مع هذا القدر من القسوة؟”

لكن نور ردّت عليه بلينٍ يهدف إلى هدأة العاصفة:

 — “نحن لا نبرّر… نحن نفسّر. والفهم غير التبرير.”

رفعت رأسي، وشعرتُ بأن كل خيطٍ مما قيل أصبح جاهزًا للربط. فقلت:

 — “إذن لنلخّص ما وصلنا إليه:
ولد الحجاج في مدينة مستقرة، خطابية، قبَلية، تهتم بالعلم واللغة.
نشأ في زمنٍ يتغير بسرعة مخيفة، تختلط فيه القبائل، وتضطرب فيه السلطة.
ترعرع في عائلة تعليم، ففهم مبكرًا أثر الكلمة، وحدود النظام، ومعنى الحزم.
وشهد في صباه أن الدولة قد تنقلب إذا تراخت يدها، وأن الشدة — في نظر بعضهم — السبيل إلى البقاء.”

ثم أضفت، وكأنني أطرح خلاصةً لا تزال مفتوحة للسؤال:

— ” هكذا يُولَد رجلٌ مثل الحجاج… لا وحشًا ولا قديسًا. بل نتيجة زمنٍ يُشكّل النفوس كما يشكّل الحديدُ في النار.
فهل يُحاسَب الرجل أم يُحاسَب الزمن؟
وهل نستطيع اليوم أن نفصل بين الإنسان والمرحلة التي صنعته؟”

هنا شعر كلٌّ منا بأننا انتقلنا من جمع المعطيات… إلى ملامسة السؤال الأكبر:
“هل يصنع الإنسانُ التاريخ؟ أم أن التاريخ هو الذي يصنع الإنسان؟”

كانت رانيا تنظر إليّ بعينٍ فيها حدة الباحث ورقّة المتسائل، ثم قالت:

— ” حسنًا نعمان… ماذا عن الحَجّاج المعلّم؟ كيف نفهم بداياته قبل أن نراه في زيّ القائد؟”

في تلك اللحظة انحنت مها قليلًا فوق كتابها، وكأن الضوء الأصفر المنبعث من مصابيح القاعة يُعيد تشكيل ملامحها، فيمنحها هيئة قارئةٍ تستدعي الزمن البعيد من عمقه. كانت في عينيها رغبة في وضع النقطة الأولى فوق السطر.

قالت بصوت هادئ لكنه محمّل بإحساس المعرفة:

 — “قبل أن نراه آمرًا ناهياً… علينا أن نراه كما كان أوّل الأمر: مُعَلِّمًا.”

رفع سامر حاجبيه في دهشةٍ امتزج فيها استغرابٌ ونبرة تساؤل داخليّ كأنه يقول في سرّه: “هل يمكن لصاحب السيف أن يبدأ حياته ممسكًا بقلم؟”

ثم قال بصوت مسموع:

 — “مُعلّم؟ يصعب عليّ تخيّل الحجاج في وضعٍ لا يحمل فيه سيفًا.”

ابتسمت نور، وفي ابتسامتها هدوء من يعرف ما لم يعِه الآخرون بعد، وقالت:

— ” بل كان يحمل قلمًا. وقسوته الأولى لم تكن سوى قسوة معلّمٍ يحاول السيطرة على صفٍّ مليءٍ بالصبية الذين يُجرّبون حدود الفوضى.”

وفي داخلها صوتٌ آخر يقول: “أليس كل معلّمٍ صلبٍ في ظاهره يخفي خوفًا من أن تخرج الأمور عن السيطرة؟”

نظر الجميع إلى نور، وكأنهم ينتظرون مزيدًا من التفصيل. تابعت مها، وقد أحكمت قبضتها على خيوط الرواية التاريخية:

 — “نشأ الحجاج في بيتٍ يألف التعليم. كان أبوه معلّمًا، وهو ورث عنه المهنة نفسها. وكان يجلس للصبية في دارٍ صغيرة في الطائف، يعلّمهم القرآن واللغة والقراءة.”

تقدّمت رانيا قليلًا، وقد بدا عليها الفضول اللغوي الخالص، ذلك الفضول الذي يلتهم التفاصيل:

 — “هل صحيحٌ أنه كان شديد الدقة في مخارج الحروف إلى حدّ يشبه الهوس العلمي؟”

هزّت مها رأسها بثقة:

 — “نعم. لم يكن يقبل اللحن مطلقًا.
تخيّلوا ذلك المشهد: طفلٌ يخطئ في حركةٍ من حركات الإعراب، فيعيد الحجاج الآية من أولها، ويجبر الطفل على تكرارها حتى يستقيم اللسان. كان يرى أن الكلمة إذا انكسرت… انكسر صاحبها.”

هنا دوّى ضحكٌ خفيف من كريم، وقال بنبرة ساخرة فيها شيء من المزاح وشيء من الحقيقة:

 — “إذن بذور الطغيان قد بدأت هنا.”

لكن ليث لم يُعجبه هذا التعليق، فتراجع قليلًا ثم قال بصدقٍ خالٍ من السخرية:

 — “ليس طغيانًا… بل انضباط. معلّمو تلك المرحلة كانوا صارمين جميعًا. والحجاج على وجه الخصوص كان يرى القرآن أصل اللغة وعمودها، وكان يخشى أن تضيع الفصاحة على ألسنة الصغار.”

ثم أضاف وهو يرفع أصابعه واحدًا واحدًا، كأنه يعرض منهجًا تربويًا قديمًا:

— ” كان يعلّمهم أولًا:

  1. مخارج الحروف.
  2. الوقف والابتداء.
  3. الإعراب.
  4. القراءة المتقنة الخالية من اللحن.”

قلبت نور دفترًا صغيرًا بين يديها، ثم قالت:

 — “وتشير بعض الروايات إلى أنه كان يعاقب على اللحن أكثر مما يعاقب على السلوك.
كان يرى أن انكسار اللسان أخطر من انكسار العصا.”

توقّف كريم عند الجملة، وكأن معناها ضرب وترًا داخليًا فيه، وقال:

 — “هذه عبارةٌ قوية… لعلها تختصر فلسفته كلها.”

رفعت رانيا يدها كما يرفع التلميذ السؤال في درسٍ حيّ:

 — “المهم أنه لم يكن معلّمًا تقليديًا. كان يبتكر طريقةً فيها إيقاعٌ وهيبة.
كان يصمت فجأة في أثناء القراءة ليجذب انتباه الصبية.
ويرفع صوته أو يخفضه لإبراز المعنى.
بل يستخدم القصص والسير ليشرح قواعد اللغة.
كان يرى أن النحو ليس جفافًا، بل موسيقى تُضبط بها اللغة.”

سأل سامر وقد بدا عليه فضول الباحث الاجتماعي:

— ” وهل كان محبوبًا أم مخيفًا؟”

ضحكت مها، ثم قالت:

— ” كان الاثنين معًا.
أولياء الأمور يحبّونه لأنه يعلّم أبناءهم بسرعة وإتقان.
والصبية يهابونه… ولكنهم حين يتقنون القراءة على يديه يحبّونه أيضًا.
وتقول بعض الروايات إن بعض الأطفال كانوا يعودون إلى البيت قائلين:
“اليوم أعدتُ الآية عشر مرات… لكنه في النهاية قال لي: أحسنت.”
وكانت كلمة “أحسنت” من فم الحجاج حدثًا يشبه النصر.”

كان رامز يقلّب مسبحته ببطء، ثم قال بنبرةٍ فيها شيء من التحفّظ:

 — “لا أنكر أنه كان قارئًا فصيحًا، وأنه شديد الحرص على القرآن…
لكن هذه الصرامة نفسها هي التي تحولت لاحقًا إلى قسوةٍ شديدة على الناس.”

ابتسمت نور وقالت بلطفٍ حكيم:

— ” ربما… لكنها تشبه النار:
تطبخ الطعام… وقد تحرق البيت.”

كنتُ طوال الحوار أجمع الخيوط لأعيد نسج الصورة في ذهني. ثم قلت:

 — “إذن نحن أمام شخصية صيغت على ثلاث ركائز قبل أن تبلغ السلطة:

  1. صرامة تربوية تُبنى على انضباطٍ دقيق.
  2. شغف لغويّ يجعله يرى في اللحن جريمة بحق العربية.
  3. إحساس بقدسية الكلمة تعلمه من القرآن نفسه.”

ثم أضفت بنبرةٍ متأملة كأنني أسمع صدى السؤال في داخلي:

 — “ربما لهذا… حين تولّى المناصب لاحقًا، كان يظن أن إصلاح الدولة يشبه إصلاح صفّ الصبية:
ضبطٌ شديد، وصوتٌ قوي، وعقوبةٌ صارمة عند اللحن… حتى لو كان اللحن سياسيًا.”

وبيننا جميعًا ساد صمتٌ يحمل سؤالًا أعمق من كل ما قيل:
“هل يُولد القائدُ من القسوة؟ أم من اللغة؟ أم من خوفٍ قديمٍ من الفوضى؟”

أسندت مها ذقنها إلى راحة يدها، كأنها تستند إلى فكرة تتشكّل في أعماقها قبل أن تولد في كلمات، ثم قالت بصوت ينساب في القاعة كنسمة تبحث عن مستقرّ:
— “الحجاج لم يغادر الطائف هربًا فحسب… بل بحثًا عمّا يتجاوز حجم المدينة التي نشأ فيها. كان معلّمًا، نعم، ولكن الطائف… كانت أضيق من اتساع طموحه.”

رفع سامر رأسه وقد انعكس على وجهه وميض إدراكٍ جديد، ثم قال:
— “الطائف مجتمعٌ مغلق في جانبٍ منه، لعائلاتها مكان الصدارة، ولطبقاتها حدود لا يقطعها المرء بسهولة. والحجاج لم يكن من طبقة السادة أو أصحاب النفوذ… وهذا وحده كفيل بأن يحدّ السقف الذي يمكنه بلوغه.”

أومأت مها، ثم قالت وقد ازدادت نبرة تحليلها وضوحًا:
— “صحيح. انتماؤه لأسرة معلّم يمنحه مكانة محترمة… لكنها مكانة لا تكفي لفتح أبواب السلطة.”

ابتسم كريم ابتسامة خفيفة تحمل طرفًا من السخرية العابثة وقال:
— ” إذن الرجل رأى أن الطائف تضيق به… فأخذ يبحث عن أفقٍ أكبر. كحال شابٍ من بلدة صغيرة يتركها راغبًا في دمشق ليصبح شاعرًا أو سياسيًا من الطراز الأول!”

عمّ الضحك القاعة قليلًا، قبل أن تقول نور وهي تعيد ترتيب أفكارها:
— “ومع ذلك… الأسباب ليست اجتماعية وحدها. المشهد السياسي آنذاك كان مضطربًا. الدولة الأموية تبحث عن رجالٍ أقوياء، يجمعون بين قوة اللسان وقوة السيف. والحجاج — رغم أنه معلّم — كان يحمل في داخله شيئًا من ملامح القائد العسكري: قدرة على فرض النظام، وصرامة لا تتردّد.”

تقدّمت رانيا في جلستها، وقد غلب عليها ميلها إلى القراءة النفسية – اللغوية، وقالت:
— “ولا ننسى اعتزازه العميق بقدرته اللغوية. الرجل كان يرى نفسه أقدر على البيان والخطاب ممن حوله. وربما شعر أن بقاءه في الطائف يشبه إخفاء نصٍّ فصيح في كتابٍ مغلق.”

اقترب ليث قليلًا، ووضع كفّيه أمامه، ثم قال بصوت جادّ يشي باليقين:
— “هناك أيضًا سبب دينيّ – لغويّ. الحجاج كان قارئًا بارعًا للقرآن، وكان يعتقد أن إصلاح الدين يبدأ من إصلاح اللسان. والشام يومئذٍ مركزٌ للسياسة والدين والإدارة… وهي أقرب إلى موضع القرار.”

رفع رامز رأسه فجأة كمن وجد ثغرة للدخول في الجدال:
— “وماذا لو كان الرجل — ببساطة — عاشقًا للسلطة؟ إنسان يرى في نفسه قدرة لا تتسع لها الطائف… فيسعى إلى مكانٍ يعلو فيه صوته.”

ساد صمت قصير، ثم قالت نور بابتسامة هادئة توازن حرارة النقاش:
— ” حتى لو صحّ هذا… فالطموح لم يكن مذمومًا في زمنٍ كان بوسع رجلٍ واحد أن ينقذ مدينة أو يهدم ولاية.”

أدرت ظهري قليلًا نحو السبورة غير المكتوبة، وقلت:
— “لنحاول أن نرتّب هذه الأسباب، لا بوصفها دوافع مفردة، بل عوامل تتداخل كما تتداخل جُمل النص الواحد.”

رفعت يدي كأنني أكتب على لوحٍ من هواء:

  1. الطموح الشخصي
    الحجاج كان يشعر أن الطائف أضيق من صوته ومن قدرته التنظيمية والخطابية. أراد فضاءً أكبر، ساحة يُسمع فيها صداه.
  2. السقف الاجتماعي المحدود
    المعلّم ابن المعلّم لا يصل — في مجتمعات القبائل — إلى مراتب القيادة، مهما بلغت فصاحته. أما الشام فكانت تبحث عن رجالٍ يصنعون قيمتهم بأيديهم.
  3. الاضطراب السياسي
    بعد الفتن الكبرى احتاجت الدولة إلى رجال يحكمون الأطراف بقوة. والحجاج أدرك أن اللحظة التاريخية تفتح بابًا لمن يملك الجرأة.
  4. طموحه اللغوي والديني
    كان يرى أن ضبط اللغة هو طريق إلى ضبط الدين. والشام كانت مركز تدوين المصاحف وجمع القراءات، ومقرّ رجال السياسة واللغة.
  5. الحاجة إلى الاعتراف
    كان يشعر أن موهبته لا تُقدَّر في الطائف. في الشام يمكن للموهبة أن تتحوّل إلى منصب، وللصوت أن يصير سياسة.
  6. شخصية ميّالة إلى الحزم والقيادة
    وهي شخصية لا يمكن أن تستقر طويلًا في تعليم الصبية، مهما كان شرف التعليم.

بعد أن أنهيت عرض النقاط، ساد الصمت كأنه يمنح الفكرة حقّها من الترسّخ. ثم قالت رانيا:
— “إذن… انتقاله لم يكن قرارًا واحدًا، بل نتيجة تراكم. لم يكن يعلم إلى أين سيصل… لكنه كان يعلم تمامًا أنه لن يبقى هنا.”

نظرتُ إلى الوجوه التي تنتظر الخلاصة، وقلت:
— ” نعم… لحظة ترك الطائف هي الشرارة الأولى. هنا يبدأ الحجاج الذي نعرفه.”

ولمّا طرحتُ فكرة الانتقال إلى دمشق، بدت على وجوه الحاضرين رغبةٌ خفية في رؤية الحجاج خارج الطائف… رجلًا تعصف به أحلام لا تعرف السكون.

قلّبت مها صفحة جديدة وقالت بنبرة تقترب من السرد:
— “رحلته من الطائف إلى دمشق ليست حركة جسدٍ على طريقٍ طويل… إنها انتقالٌ من ضيق المكان إلى اتساع المصير.”

أومأتُ ببطء، ثم بدأت أصوغ المشهد كأن التراب القديم ينبعث في القاعة:

غادر الحجاج الطائف قبل أن تشرق الشمس.
كان الهواء باردًا، يحمل رائحة الرمان في حقول الهُدا، ممزوجًا بحفيف أشجار لم يزل الليل يلوّح على أوراقها.

وقف على تخوم المدينة، ينظر طويلًا إلى بيوت الطين والحجر، وإلى دار التعليم الصغيرة التي شهدت صرامته الأولى.
أحسّ بشيء يشبه العاطفة… لكنه لم يسمح لها أن تشدّ قدميه.

أمسك متاعه القليل:
مصحفٌ يلوح كجمرٍ ينير الطريق، جلد صغير يحمل نفقة الأيام، ثياب يبدّل ألوانها سفر الشمس، وقلمٌ من أبيه — كأن فيه أثرًا من إرثٍ لا يُنسى.

ثم سار…
على دابّته نحو الطريق الشمالي، حيث يبدأ عالمٌ لا يشبه شيئًا عرفه.

قالت نور وقد بدت الصورة منطبعة في عينيها:
— “كان يشعر بالحنين… لكنه لم يترك للحنين أن يربطه.”

قال سامر:
— “الطريق من الطائف إلى دمشق طويل… تتبدل فيه الجغرافيا كما تتبدل الأفكار.”

أكملتُ المشهد:
يمرّ الطريق بوادي القرى، حيث القرى مبثوثة بين الصخور والجداول، وحيث تبدأ رائحة الشمال.
قبائل متباينة، ولهجات تتداخل، وأخبار تُروى حول نارٍ مشتعلة.

كان الحجاج ينزل عند مضارب العرب، يسمع قصص الفتن، يرى خوف الناس من انقسام الأمة، ويقول في نفسه:
“هكذا تبدو الأمة حين يغيب من يضبطها… حين يفقد الكلام سلطته.”

وكان يرى، ربما دون أن يصرّح لنفسه: أن اللغة — في جوهرها — ليست وسيلة تواصل فقط، بل وسيلةُ ضبطٍ ونظام… سُلطةٌ من جنسٍ آخر.

رفعت رانيا إصبعها، وقد تلألأ في عينيها ذلك البريق الذي يسبق الأسئلة الكبرى:
— “إذن… يمكن القول إنّ بذور رؤيته السياسية لم تتكوّن في الطائف فحسب، بل تفتّحت شيئًا فشيئًا أثناء الطريق. أليس الطريق نفسه مدرسةً تُعيد تشكيل الوعي؟”

كان السؤال يفتح الباب للمشهد التالي، الذي بدا أشبه بمحطّة روحية — عقلية في آنٍ معًا.

حين بلغ الحجاج المدينة المنوّرة، أو يثرب، توقّف عند مشارفها طويلاً.
لم يكن ذلك التوقّف مجرد إعياء المسافر؛ بل كان صمتاً داخلياً يسبق تحوّلاً خفيّاً.

دخل المسجد النبوي خاشعًا، كأن خطواته تبحث عن توازن بين الماضي القريب وعصرٍ تتلاطم فيه الفتن والاختلافات.
كان المكان يغمره عبق السنوات التي لم تبتعد كثيرًا عن زمن النبوّة، وكأنّ الزمان هنا لا يُقاس بالأيام بل بالأثر.

قال ليث بصوت يملؤه يقين العارف:
— “مَن يقف أمام ضريح النبي ﷺ لا بد أن يمسّ قلبه شيء… وهذا الأثر سيظهر لاحقًا في خطبه، في حدّته أحيانًا، وفي استعانته بالقرآن كلما ضاقت عليه دوائر الحكم.”

كانت المدينة بالنسبة إليه مرآةً يفهم عبرها معنى الاختلاف؛ فقد رأى سكانها يختلفون في السياسة، ويتجادلون في الولاءات، ويُمسكون بأطراف التاريخ كلٌّ من زاويته.
وربما قال الحجاج لنفسه عندها:
“إنّ الانضباط ليس خيارًا… إنه قدرٌ تُحتِّمه فوضى الناس.”

تابع الحجاج سيره عبر تبوك، ثم بُصرى، حتى بلغ أطراف الشام.
هنا لم يكن المشهد امتدادًا للطريق، بل بداية عالم جديد.

كان يرى كل يوم صورًا لم يعرفها قط:
• جنودٌ أمويون يتدرّبون بانضباط صارم.
•  أراضٍ خضراء تمتدّ حدّ النظر، بعيدة عن ضيق الطائف.
• مدن تختلط فيها لغات العرب والروم والفرس.
• طرق حجرية، مراكز للجند، ودواوين تضبط الحساب والخراج.

قال كريم وهو يضمّ كتفيه وكأنه يواجه حقيقة كبرى:
— “هنا فهم الحجاج معنى الدولة. في الحجاز رأى قبائل… أما في الشام فقد رأى مؤسسات.”

أومأتُ موافقًا، ثم قلت:
— ” هذه النقلة الحضارية — من مجتمع فطري إلى مجتمع منظم — هي التي صاغت شخصيته السياسية لاحقًا. من هنا نشأ ذلك الإيمان بالحكم القوي.”

وحين دخل الحجاج دمشق، كانت الشمس تميل على قبابها البيضاء، وعلى أبوابها السبعة التي تشبه مداخل التاريخ ذاته.
كانت المدينة في عصر عبد الملك بن مروان أشبه بقلب نابض:
أسواق لا تهدأ، دواوين تضجّ بالأقلام والرق، ملح الحياة مختلط بصوت الجند، وعمارة تُزاوج بين الروم والعرب.

دخلها بثياب بسيطة، ولكن داخله كان يشتعل بشعور غامض:
“لقد وصلتُ إلى مكانٍ يشبه مستقبلي… لا ماضيّ.”

قالت نور بلطف:
— “إنه شعور المسافر حين يرى ما يلائم حلمه… لا ما يلائم نشأته.”

فأضفتُ:
— “هنا يبدأ التحوّل الجوهري؛ ففي دمشق سيلتقي برجال يصوغون مسيرته، ومن دمشق سيبدأ صعوده الذي لن يتوقف حتى يصبح أحد أشهر ولاة الإسلام.”

ساد القاعة صمتٌ بدا كأنّه ينتمي إلى الأزمنة البعيدة، كأنّ الجميع يرى الحجاج يدخل أبواب المدينة مقتربًا من قدره دون أن يعرف أنّ التاريخ ينحني الآن ليوفّر له الطريق.

قالت مها، وقد بدا عليها الانجذاب للمشهد:
— “تخيّلوا الحجاج وهو يقف عند أبواب دمشق بعد تلك الرحلة الشاقة. هذه المدينة ليست ساكنة؛ إنها تتقلّب مثل بحر، ومن يقف على الشاطئ قد تبتلعه أول موجة سياسية.”

فقلتُ:
— “لم يكن يعرف أحدًا في دمشق، لكن ذكره سبق وصوله؛ فقد تناقل التجار والمسافرون حديثًا عن معلمٍ شديد الانضباط، قويّ القراءة، فصيح اللسان.
وهذا الاعتراف غير المعلن كان بمثابة كلمة سرٍّ لفتح أول بابٍ في البلاط.”

قال ليث:
— ” خطابته وفصاحته ونحويّته الصارمة جعلته يبرز سريعًا؛ فاللغة يومها كانت بوابة السلطة، ومن يُتقنها يُتقن النفوس أيضاً.”

وأضافت نور بنبرة متوازنة:
— “كما أنّ إتقانه للقرآن منحه ثقة لدى القضاة والمستشارين الأمويين. كانوا يحتاجون رجلاً يجمع بين العلم والصرامة.”

وتابعت مها:
— “ثم بدأ الحجاج يتردد على الدواوين، يراقب الكتّاب، يتأمّل طريقة تنظيم الدولة، يسمع الخلافات بين القبائل، بين الأمويين والهاشميين، بين القادة والولاة.
شيئًا فشيئًا كان يدرك أنّ المعرفة هي السلم الذي سيصعد عليه.”

قال رامز، وقد عاد إلى نبرته الناقدة:
— “وهكذا بدأ يتخلّى عن دور المعلّم… ليصبح في داخله والياً مستقبلياً، يتدرّب بصمت على إدارة الناس قبل إدارة المدن.”

هزّت رانيا رأسها:
— ” القدرة على قراءة اللحظة السياسية هي التي ميزته.
كان يعرف من أين يبدأ… وإلى أين ينظر.”

فقالت نور:
— ” وبذكائه، وجد طريقه إلى دائرة الخلافة. لم يكن الأمر سحرًا… بل قراءة دقيقة: لغة، دين، سياسة، انضباط، وفطنة.”

قلتُ أختم المشهد:
— ” إذا جمعنا كل خيطٍ من هذه الخيوط رأينا نسيجاً واحداً:
رحلة طويلة من الطائف، صبرٌ وانضباط، حسّ لغويّ متين، نظرة سياسية تتفتح تدريجيًا، وتعرّف مباشر على مؤسسات الدولة.
لهذا دخل دمشق لا كالعابرين… بل كرجل دولة محتمل.”

ثم أضفت:
— “وفي الغد التالي سنبدأ سرد المرحلة الأخطر:
كيف تدرّج الحجاج في السلطة؟
ما أساليبه الأولى؟
وكيف ظهرت تلك الصرامة التي ستجعله لاحقًا واحدًا من أكثر الشخصيات جدلًا في التاريخ الإسلامي؟”

كانت شمس المساء في اليوم التالي تتسلّل خفيفةً من نوافذ القاعة، فتنعكس على وجوهنا كأنها ترسم خطوط دمشق القديمة بخفوتها الذهبي. شعرتُ للحظة أنّ المدينة كلّها تُصغي إلينا.

قالت مها، وقد بدت كلماتها كتمهيد لباب جديد في سرد التاريخ:
تصوّروا الحجاج وهو يتولى أول مناصبه: قائمًا في الدواوين، يراقب الحسابات، يختبر القضاة، يسمع الشكاوى. كل ذلك كان جديدًا عليه، غير أنه شعر كأنما خُلِق لهذا المقام.”

في داخلي صوت آخر يسأل:
هل يولد الإنسان لدورٍ معين، أم أنّ التجارب تصنعه شيئًا فشيئًا؟ وهل كان الحجاج يختار طريقه، أم أنّ الطريق اختاره؟

قطع كريم صمتي بنبرة لا تخلو من السخرية:
وما أول ما فعله؟ أتراه بدأ باللين؟ أم بالصرامة؟ أم خلط بين الاثنين على عادته؟

ابتسمت رانيا، وقد بدا عليها اهتمام الباحث الذي يلتقط الخيط ليحلّله:
منذ أول خطوة، كانت الصرامة سِمته. كان يرى أن الفوضى تولد من التفاصيل الصغيرة: خطأٌ في الكتابة، تأخيرٌ في الديوان، تجاوز للقوانين. هذه الصغائر – في نظره – هي ميزان قوة الدولة.”

هزّ ليث رأسه، كأنه يحاكم الوقائع بمعيارٍ لغويّ وتاريخيّ:
وهنا يظهر التباين بين الرأيَين:
المؤيد يرى الحزم ضرورة، والمعارض يعدّه تعسفًا.
والحجاج، في عمقه، كان يظن أنّ إصلاح الدولة يشبه إصلاح صفٍّ من الصبية: ضبطٌ، وتوجيه، وعقوبة عند الخطأ.”

داخل ليث، ربما كان صوت آخر يقول:
أيمكن للانضباط أن يكون وجهًا آخر للقسوة؟ وهل الإصلاح بلا حزم إلا أمنية معلّقة؟

قالت نور بابتسامتها الهادئة، وهي تقلّب فكرةً دينيةً ولغويةً معًا:
الجانب الديني لازمه منذ البداية. كان يعتقد أنّ صون القرآن واللغة شرطٌ لأي حكمٍ عادل.
فاللحن – في نظره – لا يفسد جملة فحسب، بل يفسد عقلًا، ثم مجتمعًا. إنّ الأمر عنده أخلاقي قبل أن يكون إداريًا.”

أضاف سامر وهو يشير بقلمه كأنما يضع خطوطًا تحت فكرة مهمّة:
لا ننسى خلفيته الاجتماعية
الحجاج جاء من الطائف، من بيئة تعليمية جادة، نشأ على الانضباط، وعاش رحلةً طويلة صاغت طباعه، وعركته الحاجة إلى التميّز.”

في داخله ربما سؤال آخر يهمس:
هل يصنع الفقر صلابة؟ أم يصنع قسوة؟

ابتسم رامز ابتسامة تحمل نقدًا وتفهمًا في آن:
هذا كلّه مفهوم… لكن لا يمكن تبرير ما عرف عنه من شدّة.
تاريخ الرجل مليء بالقصاص، والرهبة، والضرب، والخوف.”

رفعت رانيا يدها كمن يدعو إلى مناظرة علمية:
هنا يبدأ النقاش الحقيقي:
هل كان الحجاج ضرورة تاريخية؟
أم رجلًا استبداديًا صنعته ظروف مضطربة؟
كل رأي له جذوره، وكل حكمٍ يعتمد على منظوره.”

تأملتُ المشهد قبل أن أقول:
“إذا جمعنا الخيوط حتى الآن:

  1. صرامة الطائف وتعليم المعلم.
  2. رحلة صحراوية صقلت الإرادة.
  3. شغفٌ باللغة والدين جعله يعدّ اللحن خطيئة.
  4. ووعيٌ سياسيّ بالواقع الدمشقي عند وصوله.

من هذه العناصر جميعًا تكوّنت شخصية رجل الدولة القوي، وما يحيط به من جدل.”

ارتفع ضجيج القاعة قليلًا، كأنّ أصواتنا تعيد إنتاج ضجيج الدواوين في عهد الأمويين.

بدأت رانيا:
تخيّلوا الحجاج بعد أيام من وصوله: بدأ بمراجعة الحسابات، مراقبة القضاة، محاسبة المقصرين.
لم ينتظر طويلًا… كأنه يخشى أن يستيقظ الناس فيجدوا الفوضى سبقت النظام.”

قال كريم بنبرة نقدية لا تخلو من استثارة:
ومنهجه؟ هل كان حازمًا إلى حد القسوة؟

أجابت مها:
بل كان صارمًا منذ اللحظة الأولى.
صحّح الأخطاء الكتابية، أعاد ترتيب الدواوين، وضع حدودًا صارمة للمهمَلين.
كان يؤمن بأنّ النظام يبدأ من الحرف، وأنّ الدولة تنهض على ما ينهض عليه اللسان: وضوح، وانضباط.”

في داخلها ربما سؤال خافت:
هل يمكن أن ينتصب بناءٌ بلا أساس لغوي متين؟

قال ليث وهو يقلب الأوراق أمامه:
هنا يتشكل الانقسام.
المؤيد يرى أن الدولة تحتاج يدًا حازمة.
المعارض يراه متعجلاً، يزرع الخوف بدل الاحترام.”

تدخلت نور:
ثم إنّ الجانب الديني ظل ركنًا ثابتًا.
بالنسبة للحجاج، أي خطأ لغويّ هو إخلال باستقامة الأمة.”

أومأت رانيا مضيفة:
وهو لم يتردد في العقوبات، مالية كانت أو جسدية.
أما المؤيدون فقالوا إنها ضرورة أمام الفتن التي كانت تنتشر في أطراف الدولة.”

قال رامز بنبرة ناقدة:
لكن هذه بداية القسوة التي اشتهر بها.
الصرامة تحولت إلى رعب، والرعب إلى استبداد.”

قلتُ وأنا أجمع النقاط:
” تلخص المرحلة الأولى في:

  1. ضبط الدواوين.
  2. مراقبة القضاة والإدارة.
  3. فرض العقوبات على المقصرين.
  4. صيانة اللغة والدين.
  5. إرساء نظام يتدرج من رأس الهرم إلى قاعدته .”

قالت مها:
وهنا يبدأ الصدام بين السياسة والأخلاق، بين الإصلاح والهَيبة.”

ارتفعت حرارة النقاش، وكأنّ أجواء دمشق في زمن الحجاج تعود إلينا.

قالت مها:
تصوّروا الحجاج أمام الفتن الداخلية: قبائل متنافسة، وولاة يسعون لنفوذ أكبر، ومحاولات للتمرد.
كان يعلم أن أي ضعف قد يفجّر دمشق.”

قال كريم:
وهنا ظهرت قسوته… لم يتراجع أمام أحد.”

أجابت رانيا:
أعاد توزيع المناصب، شدّد الرقابة، وحاسب المخالفين.
المؤيدون رأوا إصلاحًا، المعارضون رأوا استبدادًا.”

قال ليث:
حتى خطبه كانت أدوات للسياسة: كلمات واضحة، قاسية، تُفزِع الخصوم وتُطمئن المؤيدين.”

أما نور فقالت:
وخلَط السياسة بالدين، واللغة بالسيف.
كان يريد أمةً مستقيمة بلسانها قبل أن تستقيم بسياستها.”

هزّ رامز رأسه:
لكن هذا الخلط أوجد له أعداءً كثرًا: من البلاط، ومن القبائل، ومن بعض العلماء.”

قلتُ:
” الصدام الأول يمكن تلخيصه في:

  1. مواجهة الفتن الداخلية.
  2. ضبط المناصب والمسؤوليات.
  3. فرض النظام بالقوة والرهبة.
  4. توظيف الخطابة واللغة كسلاح سياسي.
  5. المزج بين الدين والسياسة لبناء السلطة.”

أسفل النموذج

ابتسمت مها ابتسامة تحمل ظلال تأمّلٍ طويل، ثم قالت بهدوء العالم الذي يزن كلماته:

 — وهنا تنكشف الجدلية بين المؤيِّد والمعارض؛ فالمؤيِّد يرى أنّ الدولة لا تُبنى إلا بقوة تُمسك أطرافها، أمّا المعارض فيلمح في تلك القوة استبدادًا يشيع الخوف، ويهزّ أعمدة البلاط، ويزرع القلق في قلوب العامة.”

ساد القاعة صمت خفيف، كما لو أن الهواء ينتظر تفسيرًا آخر. فأضفتُ مسترسلًا:

 — غداً سننتقل إلى القرارات الكبرى، تلك التي توسّعت بها سلطة الحجاج:
كيف استثمر قوته الناشئة ليُحكم قبضته؟

وما ردود أفعال الناس والقبائل؟

وهل كان ما فعله تأسيسًا لدولة، أم تثبيتًا لخوف؟

جلس الحاضرون في اليوم الثالث حول الطاولة كأننا عدنا إلى مجلسٍ من مجالس دمشق القديمة؛ الضوء يتسلل إلى وجوهنا فيُذكّر بضوء الشموع الذي كان يلمع فوق دروع القادة.

قالت مها وقد علت نبرة التحليل في صوتها:

تخيّلوا الحجاج بعد أن أمسك بخيوط الدواوين:
بدأ بإعادة توزيع الأراضي، وتنظيم القبائل، وفرض الضرائب بصرامة
. لم يكن يتحرك اعتباطًا، بل بخطوات محسوبة بدقة.”

دخل كريم بنبرة نقدية تكشف عن صراع داخلي بين الفهم والرفض:

ولكن… كيف تلقّى الناس ذلك؟ هل خضعوا بسهولة؟ أم قاوموا بصمت؟

ابتسمت رانيا ابتسامة تجمع بين القراءة التاريخية والذائقة الأدبية:

 — المواقف لم تكن واحدة؛ فالمؤيِّدون رأوا في تلك القرارات حصنًا يحمي الدولة من الفوضى، بينما رأى المعارضون أن الحجاج تجاوز الحد، وأن بعض إجراءاته قاسية لا تبرير لها.”

أومأ ليث وهو يفكر بصوت مسموع:

ولا ننسى أنه كان سريع العقاب: فأي قبيلة تتحداه تُحاسَب فورًا، وأي مسؤول يتلكأ تُرسل في شأنه رسالة صارمة إلى دمشق… لتكون عبرة.”

وقالت نور، وقد مالت إلى الجانب الإداري – العلمي من شخصية الحجاج:

 — إلى جانب القوة، كان هناك الوجه الإداري:
إعادة تنظيم الدواوين، تحديد مسؤوليات الموظفين، وضع قواعد للخطابة والقضاء، ومراقبة دقيقة للجباية
. المؤيّدون يسمونه حزمًا، أمّا المعارضون فيسمونه تسلطًا.”

ابتسم رامز، وفي صوته نبرة فلسفية تتأمل معنى السلطة:

تلك جدلية لا تنتهي: هل هو رجل دولة يبني نظامًا، أم مستبد يزرع الخوف؟ كل قرار له وجهان، وكل فعل يتلوّن بحسب موقع الناظر إليه.”

فقلتُ مختصرًا:

—  ” إذن، أهم القرارات الكبرى كانت:

  1. إعادة توزيع الأراضي لشدّ مركز السلطة.
  2. ضبط الضرائب والجباية.
  3. تنظيم القبائل وربطها بالدولة بدل الولاءات القديمة.
  4. إعادة هيكلة الإدارة والدواوين.
  5. فرض العقوبات على المعارضين حماية للاستقرار — أو هكذا رأى المؤيدون .”

ابتسمت مها وقالت:

 — وهكذا يتجسّد الصدام بين المؤيد والمعارض:
المؤيِّد يرى أن الحزم ضرورة، والمعارض يرى أن القسوة تُفقد السلطة شرعيتها
.”

ارتفعت الأصوات في القاعة، كأنها صدى بعيد لسوق دمشق في صدر الإسلام.

قالت مها مسترسلة:

 — بعد أن رسخ الحجاج خطواته الأولى، واجه القبائل الرافضة، ودخل في خصومات مع قضاة ونواب، بل وحتى مع بعض رجال البلاط الأموي. كل قرار كان يهز موازين مصالح واسعة، وكل خطوة كانت اختبارًا لقدرته على الصمود.”

تدخل كريم بصوت يحمل حدّة السؤال:

هنا يتجلى الفرق بين رجل الدولة والمستبد: المؤيّد يرى حزمًا، والمعارض يرى قهرًا.”

قالت رانيا، وقد اتسعت نظرتها وكأنها تتأمل مشهدًا حيًا:

 — أول تلك الصراعات كان مع القبائل التي رفضت الخضوع: استخدم القوة العسكرية، وفرض الضرائب المشددة، وأصدر أوامر لا تقبل النقاش. المؤيّدون قالوا: ‘لا بد من ذلك لتوحيد الدولة.’ والمعارضون قالوا: ‘هذا إرهابٌ مُقنّع.’”

أضاف ليث:

 — بل وحتى داخل البلاط… كثيرون خافوا أن صرامته تطال مناصبهم. كان الحجاج يجمع الأدلة، ويتقدّم بخطواته دون أن يلتفت كثيرًا.”

وقالت نور وقد نظرت إلى البعد اللغوي – الديني الذي ميّز شخصية الحجاج:

ولا نغفل حرصه على ضبط اللغة والدين: فاللغة عنده ليست مجرد وسيلة، بل ركنٌ من أركان السلطة؛ ومن يخالف فيها يعامل بصرامة. وقد رأى بعض الباحثين أن هذه الدقة اللغوية امتداد لظهور علم النحو في البصرة والكوفة، حين حاول العلماء حفظ العربية من اللحن والاختلاط.”

ابتسم رامز:

هنا تظهر أكبر الجدليات: قوةٌ تنقذ الدولة أم قسوةٌ تقتلها؟

ولخّصتُ قائلًا:

—   “عناصر صراعاته الكبرى:

  1. مواجهة القبائل الرافضة بالقوة.
  2. صراعات داخل البلاط.
  3. ضبط الدواوين ومنع الفساد.
  4. ربط السلطة بالدين واللغة.
  5. جدلية مستمرة بين التأييد والرفض.”

ابتسمت مها:

 — وهكذا يظهر الحجاج في الشام رمزًا للهيبة: قوةٌ يراها البعض ضرورة، ويراها آخرون إرهابًا مبكرًا.”

في اليوم الرابع امتد ضوء خفيف في القاعة، كأن الشمس تربط بين دمشق والبصرة وصنعاء في مشهد واحد.

قالت مها:

حين أكمل الحجاج تثبيت سلطته في دمشق، بدأ مرحلة جديدة في العراق واليمن؛ مناطق مليئة بالفتن والصراعات القبلية، حيث أي شرارة قد تتحول إلى حريق.”

قال كريم بحدة:

 — هنا يبدأ الاختبار الحقيقي: هل سيبقى مجرد رجل صارم، أم سيصبح قائدًا ذا نفوذ مطلق؟

وقالت رانيا:

أول قراراته في العراق كانت ضبط الجباية، وتنظيم الجيش، ومحاسبة المسؤولين بلا تساهل. المؤيّدون رأوا ذلك حماية للدولة، والمعارضون رأوا فيه فزعًا يُزرع في قلوب الناس.”

وأضاف ليث:

أما اليمن فكانت أكثر تعقيدًا: قبائل متنوعة، نفوذ محلي قوي، وخلافات طائفية. واجهها الحجاج بأسلوبه المعروف: قوة واضحة، إدارة محكمة، ورسائل لا تقبل الشك.”

وقالت نور:

ولم يغفل الجانب الديني والثقافي: سعى إلى تعليم الناس وضبط لغتهم، وقد رأى في ذلك استكمالًا لمنهجٍ بدأ منذ صدر الإسلام لحماية العربية من التداخل مع لغات الشعوب المفتوحة.”

قال رامز وهو يلتقط خيط الجدلية:

هنا تتضح المفارقة: دولة قوية خالية من الفوضى، أم دولة تخاف من نفسها؟

وختمتُ قائلًا:

 —”وعناصر نفوذه في العراق واليمن كانت:

  1. ضبط الجباية والإدارة.
  2. القوة على الجيش والقبائل.
  3. توسيع السلطة إلى مناطق مضطربة.
  4. ربط الحكم بالدين واللغة.
  5. استمرار الصراع بين التأييد والرفض في كل خطوة.”

ابتسمت مها، وقد بدا على ملامحها مزيج من التأمّل والحذر، ثم قالت بصوتٍ أقرب إلى من يستدعي سؤالاً قديمًا لا يزال يتردّد في أروقة التاريخ:
— “وهكذا غدا الحجاج رمزًا للقوة المطلقة في العالم الأموي؛ المؤيدون يرون فيه رجل دولة لا يلين، يصنع النظام ويثبّت السلطة، أما المعارضون فيرونه مستبدًا غليظ القلب، لا يتورّع عن أن يجعل الخوف أساسًا للحكم. ويبقى التاريخ ـ على عادته ـ موزّعًا بين هذين القطبين: الحزم والاستبداد، النظام والرعب.”

عمّ الصمت القاعة، كأن ظلّ الحجاج نفسه مرّ فوق رؤوس الحاضرين. كلّ واحد منهم بدا غارقًا في صورة الرجل وهو يقف في صدر البلاط الأموي، لا تهتز له شعرة، ولا يخرج من فمه إلا ما يحمل معنى الهيبة والوعيد.

قالت مها، وقد تداخلت في صوتها دهشة الباحث وحرارة المؤرخ:
— “تصوّروا الحجاج بعدما أحكم سيطرته على دمشق والعراق واليمن: لم يعد واليًا فحسب، بل صار تجسيدًا للسلطة ذاتها.
كل قرارٍ يصدر عنه كان يُحدِث دوّيًا سياسيًا، وكل حركة منه تُقرأ كما تُقرأ الآيات في لحظة تأمّل.
هنا تتجلّى شخصيته كما نقلها التاريخ: أكان رجل دولة؟ أم طاغية؟”

تقدّم كريم، وقد انعكس التوتر في نبرة صوته النقدية، وكأن داخله صوتًا آخر يهمس: هل يمكن للقوة أن تتحوّل إلى حاجز بين الحاكم والناس؟
— “في هذه المرحلة، صار كثيرون يخشون الحجاج: القبائل تهاب غضبه، والموظفون يرتعدون من صرامته، بل حتى بعض رجال البلاط صاروا يتوجّسون منه. المعارضون يرونه طاغية، والمناصرون يرونه حارس الدولة الأخير.”

ابتسمت رانيا، غير أنّ ابتسامتها حملت شيئًا من الشكّ:
— “في ذروة السلطة، بدأ الحجاج تنفيذ قرارات كبرى: تثبيت النظام العسكري، إحكام الرقابة على القضاة، محاسبة كبار الموظفين، وفرض الانضباط في كل زاوية من زوايا الدولة. المؤيدون عدّوا ذلك ضرورة لإنقاذ الدولة، أما المعارضون فعدّوه إرهابًا مؤسسيًا.”

أومأ ليث بتأمّل عميق، ثم قال:
— “ولا نغفل عن الجانب الرمزي: كان الحجاج يصوغ صورته بعناية؛ خطبٌ تُلقى بلهجة صارمة، محاكمات يشهدها الناس، إشارات واضحة بأن القوة هي مقياس الطاعة. هذه الصورة — سواء أحبّه الناس أم كرهوه — هي التي وضعت اسمه في صفحات التاريخ.”

تدخلت نور، وقد حمل صوتها شيئًا من التحليل اللغوي:
— “ولم يكن الجانب الديني والثقافي منفصلًا عن مشروعه: الحجاج آمن بأن اللغة أساس الهوية، وأن ضبط الدين ضمان للشرعية. من هنا جاءت صرامته في تعليم الناس، وتصحيح ألسنتهم، ومعاقبة كل خروج عن النظام. لكن هذا جعل صورته أكثر رعبًا، وكأنه يجمع بين السوط والمصحف.”

ابتسم رامز ابتسامة من يفكّر أكثر مما يتكلم، ثم قال بنبرة فلسفية متأنية:
— “وهكذا يصل الصدام إلى ذروته: المؤيد يرى رجلًا يصنع الاستقرار، والمعارض يرى مستبدًا يخنق الأنفاس. والتاريخ — كعادته — لا يمنح أحدهما النصر الكامل.”

قلتُ وأنا ألخّص، كمن يرسم لوحةً أخيرة:
— “إذا أردنا أن نلخّص ذروة سلطة الحجاج، وجدنا:

  1. فرض النظام العسكري والإداري في أنحاء الدولة.
  2. محاسبة القضاة والمسؤولين دون إمهال.
  3. صناعة صورة عامة للهيبة والصرامة.
  4. الجمع بين الدين والسياسة واللغة لتأسيس الشرعية.
  5. استمرار الصراع بين المؤيد والمعارض حول كل قرار.”

ابتسمت مها ابتسامة شاردة، ثم قالت:
— ” وهكذا يتشكل إرث الحجاج: المؤيدون يمجّدون الحزم، والمعارضون يلعنون القسوة، ويبقى التاريخ منقسمًا بين رهبة واحترام، بين صرامة وجدل، بين قوة مطلقة وخوف شعبي.”

خيم على القاعة هدوء يشبه هدوء الصحراء التي خرج منها الحجاج. وكأن الحاضرين كانوا يسمعون صدى خطواته وهو يعبر من الطائف إلى دمشق، ومن دمشق إلى العراق، ومن العراق إلى اليمن.

قالت مها بصوت خافت لكنه مليء بالوضوح:
— ” الآن، وقد تبعنا خطى الحجاج من بداياته حتى قمّة سلطته، يمكننا رسم ملامح شخصيته بأكملها.
الحجاج لم يكن مجرّد حاكم، بل كان مشروع دولة. رجل قوي، صارم، وربما مستبد؛ خلف كل فعلٍ منه سبب، وخلف كل قرار أثر.”

قال كريم — وداخله سؤال قديم لم يجد جوابًا:
— “المعارضون يرونه طاغية، لا يرحم، يضرب بقسوة، ويزرع الخوف في القلوب. أما المؤيدون فيرون أنه أنقذ الدولة من الفوضى، ووضع أسس الإدارة والحكم.”

ابتسمت رانيا، وكأنها تستمع لجدلية لا نهاية لها:
— “الحجاج جمع بين الدين والسياسة واللغة، أخضع القبائل، نظم الموظفين، وأعاد هيكلة الدواوين. لهذا صار رمزًا للصرامة، سواء أحبّه الناس أو كرهوه.”

أومأ ليث، وتدفقت كلماته كأنها استدعاء لرحلة رجل عاش على حافة النار:
— “إن الجانب النفسي لشخصيته لا يقل أهمية: طفولته الشديدة، تدريسه القاسي، وحدته الطويلة… كلها صاغته وفق قالبٍ صارم لا يقبل التساهل.”

قالت نور، وقد بدا أنها تستعيد صفحات المؤرخين:
— “ولهذا انقسم المؤرخون: فمنهم من رأى فيه مصلحًا عظيمًا، ومنهم من جعله رمز الاستبداد. ولعل هذا الانقسام هو ما يجعل اسمه حاضرًا حتى اليوم.”

ابتسم رامز وهو يختم:
— “شخصية الحجاج لا تُفهم بمعزل عن سياقها: فتن، قبائل، إدارة، لغة، دين… رجل واحد واجه عالمًا كاملًا، ولهذا ظل إرثه معقّدًا.”

ابتسمت مها ابتسامة هادئة تحمل أثراً من طول الرحلة الفكرية، ثم قالت:
— “وهكذا نصل إلى نهاية مسارنا في دراسة شخصية الحجاج؛ ذلك الرجل الذي تنوّعت حوله الرؤى، وتشابكت بشأنه الأحكام. شخصية متعدّدة الأبعاد، لا تُدرَك بظاهرها فحسب، بل بما تركته من أثرٍ في مسيرة التاريخ، وبما أحاط بقراراتها من جدلٍ بين مؤيّد ومعارض… والدرس الأعمق هنا هو أن التاريخ لا يُقاس بالأشخاص في ذواتهم، بل بأفعالهم، وبالسياق الذي تحركوا فيه، وبالطريقة التي تنظر بها المجتمعات إلى مفاهيم القوة والعدل والصرامة.”

بعد أعوام عدة التقيت زميلات وزملاء وبعض الصديقات والأصدقاء وطل الحجاج بيننا في رؤىً متباينة

جلسنا جميعاً، وقد ارتسمت على الوجوه آثار الرحلة الطويلة التي قطعناها معه منذ بداياته المتواضعة في الطائف، مرورًا بدمشق، وصولاً إلى العراق واليمن.
كان واضحاً — لكلّ من يتأمّل بصفاء — أن شخصية الحجاج لم تكن مجرد “رجل صارم” أو “معلّم متقن للقرآن”، بل كانت هويّة تتشكّل عبر سلسلة من التجارب التي صقلت الفرد وصاغت رجل الدولة.

قلتُ بصوت خافت، كأنّي أخاطب التاريخ لا الحضور فقط:
— “الحجاج نموذج يجمع بين الانضباط الشخصي الشديد، وفهمٍ معقّد للسياسة والدين واللغة. لقد صاغته صحراءُ الطائف بعزلتها، وصقلته مجالس الشاميين بثقافتها، وعمّدته الدواوين بخبرتها، واشتدّ عُوده في مواجهة القبائل والفتن والمعارضين. لذلك لا يمكن فهم شخصيته إلا بوضعها في سياق زمانها ومكانها، تماماً كما لا تُفهم كلمة في اللغة دون جذرها وسياقها.”

رفعتُ ورقة جمعت خلاصات الدراسات، وبدأت أقرأ بتحليلٍ منهجيّ:

أولاً: أهم الأفعال التي يُجمِع عليها المؤرخون (مع التحفّظ على التفاصيل)

  1. تولّيه حكم العراق والمشرق (694–714م)
    – اتفقت الموسوعات التاريخية المعاصرة على أن الحجاج كان “الوالي الأقوى” ونائب الخليفة الفعلي.
  2. إصلاحات إدارية واسعة
    –  منها ضرب العملة العربية الجديدة، وتعريب دواوين الجباية.
  3. ضبط النظام العام ومحاربة الفساد
    – ركّز على الزراعة والري، ومنع الفلاحين من الهجرة إلى المدن حفاظًا على الإنتاج.
  4. قمع الثورات الكبرى، خصوصاً ثورة ابن الأشعث (701م(
    – يراه البعض ضرورة لبقاء الدولة، ويراه آخرون بداية بطشه.
  5. تأسيس مدينة واسط
    – لتكون قاعدة للجند بعيدًا عن تحكّم القبائل العراقية.
  6. صرامة شخصيته وشدّة بطشه
    – أغلب المصادر تصف شدّته، لكن بعض المؤرخين المعاصرين يقولون إن صورته قد شُوِّهت بعد سقوط الأمويين.

ثم رفعتُ بصري نحو الوجوه المتحلّقة حولي، وقلت بنبرة تجمع بين الترحيب والتمهيد:

 — “سنبدأ اليوم بالجانب المنصف، الذي رأى في الحجاج ضرورة تاريخية لتثبيت الدولة، ثم ننتقل إلى الجانب المقابل: الرافض، المتّهم، والمستنكِر.”

كان في داخلي سؤال مُلحّ:
كيف يمكن لشخصية واحدة أن تحمل هذا الكم من التناقض؟ وهل هو تناقض فيها، أم انعكاس لتناقض الأمة نفسها؟

رفعت زميلتنا “فاطمة” يدها، وقد بدا عليها ذهول الباحثة التي وجدت في النصوص ما يتحدى الانطباعات الموروثة.

قالت بنبرة واثقة:

 — “إن إحدى الدراسات الحديثة بعنوان “خُطب الحجاج… دراسة في ضوء نظرية الاتصال الأدبي”، تقدّم رؤية مختلفة تمامًا: فخطب الحجاج لم تكن مجرد تهديد بالسيف، بل كانت خطابًا دينيًا وإداريًا متماسكًا، ممتلئًا بالعاطفة الروحية والبلاغة، موجّهًا لجمع الناس حول مركز سياسي–ديني–لغوي واحد.”

ثم توقفت لحظة، وكأنها تخاطب سؤالاً داخليًا:

هل يمكن لخطبة واحدة أن تغيّر مجرى مجتمع؟ أم أن اللغة — كما في عصور العربية الأولى — كانت هي السلاح الحقيقي؟

وأكملت:

 — “بعض العلماء والدعاة المعاصرين — على الرغم من نقدهم لسياسته — يرون أنه كان مُعظِّمًا للقرآن، مُحبًّا للفصاحة، ومشجّعًا لحفظة القرآن. وهذا يعكس شخصية ليست أحادية البعد، بل رجل سلطة يحمل مشروعًا لغويًا ودينيًا واضحًا.”

ثم تقدّم “مروان”، وهو دائمًا ينظر إلى التاريخ كشبكة من المؤسسات لا مجرد أفراد:

 — “إذا نظرنا إلى حركة الدواوين، وإصلاح الجباية، وتنظيم الريّ، فإننا سنجد أن الحجاج كان أحد أبرز صُنّاع الدولة المركزية في العصر الأموي. لقد حاول إخراج الحكم من دوائر العصبية القبلية إلى صورة أقرب إلى الدولة الحديثة.”

هنا تحدّث داخله سؤالٌ آخر:

هل يمكن لمسؤول شديد القسوة أن يكون — في الوقت نفسه — مهندسًا إداريًا ناجحًا؟ أم أن البناء في زمن الفتن لا يتم إلا بيد قاسية؟

ثم قالت “ليلى”، التي لا تفوّت فرصة للإشارة إلى أثر اللغة في كل شيء:

— ” لا ينبغي أن نغفل الجانب اللغوي: اهتمام الحجاج بالخطابة، وضبط العربية، وتثبيت اللسان، كان أحد أركان حفظ الهوية. ولولا تلك الجهود، لربما انحسر اللسان العربي أمام امتدادات ثقافية أخرى.”

وأضافت وهي تنظر إلينا نظرة فاحصة:

— ” حتى الروايات التي صوّرته جبارًا، ينبغي أن تُقرأ في ضوء السياق السياسي والمذهبي الذي كُتبت فيه. فالصورة لم تكن يومًا خالصة من التحامل أو المبالغات.”

ثم قالت فاطمة، وكأنها تلخص ما دار داخل عقول هذا الفريق:

 — “إذاً، الحجاج ليس كائنًا أسطوريًا أبيض أو أسود. هو رجل دولة في مرحلة انتقالية، تخللتها إصلاحات واضحة، وروايات مشوّهة أيضًا.”

رفع “أحمد” رأسه، وصوته يحمل نبرة الفقيه الذي لا يساوم على الأخلاق:

— ” كلمات الحسن البصري في الحجاج ليست مجرد رأي، بل صرخة زمن: فقد وصفه بـ”عذاب الله”، محذرًا الناس من مواجهته. هذا وصف لا يطلق إلا على من اجتمع فيه الظلم والقسوة.”

ثم قال بصوت منخفض يقترب من الهمس:

كيف يتعايش التاريخ مع رجل يوصف بأنه مبرر — مهلك؟ وهل يكفي تبرير الدولة لتجاوز العدالة؟

وواصلت “سارة”، التي تميل إلى النقد التاريخي:

— ” كثير من المصادر تذكر أنه كان يحكم بالسيف قبل القضاء، ويستخدم القمع لإطفاء اضطرابات القبائل. وبعض الروايات التي جاءت بعد سقوط الأمويين بالغت في تصويره، ربما بدافع سياسي أو طائفي، لكن هذا لا يلغي أن قسوته كانت واقعًا يرويه معاصروه.”

أما “كريم”، بنزعته الأدبية:

— “الأدب — كما في رواية “الحجاج بن يوسف” لجرجي زيدان — قدّم صورة أقرب إلى الأدب الشعبي: الحاكم الظالم، المستبد، القاتل… وهي صورة غذّاها الخيال الجمعي حتى صارت جزءًا من الأسطورة السياسية العربية.”

ثم قال وهو يحدّق في الفراغ:

هل نصنع الطغاة من الوقائع، أم من خوفنا؟ وهل الأساطير التي تشوّههم تحمي المجتمع أم تغطي عجزه؟

جلستُ أنظر إلى الوجوه، ورأيت في أعين الجميع سؤالًا واحدًا:
من هو الحجاج حقًا؟

قلت:

 — “ما تأكّد لدينا من الجانبين يمكن تلخيصه كما يلي:”

ما يميل إلى الإثبات والتحقق

  1. خطبه ذات طابع بلاغي وديني وإداري متماسك.
  2. إصلاحاته الإدارية وبناء سلطة مركزية.
  3. اهتمامه بالعربية وأهل القرآن.

ما يظل مثار اتهام أو مبالغة

  1. وصف السلف له بأنه ظالم شديد القسوة.
  2. ممارسات قمعية في القضاء والسياسة.
  3. تشويه لاحق في الروايات الشعبية والخصومات المذهبية.

وقفت “ليلى” وقالت:

— ” علينا — نحن الجيل المعاصر — أن نتعامل مع الحجاج بوصفه شخصية معقدة. ننقل روايات الإنصاف كما هي، وننظر إلى روايات الظلم بعين نقدية. فما من حكم بلا سياق، ولا سياق بلا سؤال.”

ثم أضاف “أحمد”، بعزم لا يتزعزع:

 — “لكن يبقى المبدأ: لا يمكن تبرير الظلم باسم الدولة. ولا يمكن تسويغ القسوة مهما عظمت الحاجة إلى الاستقرار.”

وعلّقت “سارة” مبتسمة:

 — “لهذا يظل الحجاج مرآةً لتاريخنا: نرى فيه القوة، ونرى فيه الخوف. نراه بقدر ما نستطيع نحن أن نرى.”

 — “إن المقاربة المزدوجة — عرض صورة المنصف وصورة المعارض — لا تهدف إلى تبرئة الحجاج أو إدانته، بل إلى إعادته إلى مكانه الصحيح: شخصية بشرية لا أسطورية، نتعلم منها كيف تتداخل السلطة مع اللغة، وكيف تُصنع الذاكرة، وكيف تتحول الروايات التاريخية إلى جدل دائم بين الحقيقة والتأويل.”

ثم طرحتُ سؤالًا أخيرًا، كأنه الخاتمة المفتوحة:

“هناك شائعة تقول إن زوجته تزوّجت الخليفة بعده…”

ضحكت ليلى:

“لا دليل على ذلك. لكن الشعب يُحب أن يخلق رموزًا من النساء حين يتعلق الأمر بالحكام.”

قالت مها:

“الزوجة هنا رمز للخيال… لا للتاريخ.
رمز للطموح والظلّ والخوف، كما لو أن حياة الحاكم الخاصة مرآة تعكس حياته العامة.”