وُلِدَ بَرنْهَارْدُ شلِينك عامَ ١٩٤٤ في أَلمانيا، في زمنٍ تَكادُ فيهِ البلادُ تَلملِمُ جِراحَها وتَخْرُجُ من ظِلِّ واحدةٍ من أعتى الحُروبِ الّتي عصَفَتْ بالعالَمِ: الحربِ العالميّةِ الثّانية.
نشأَ وتَشَكَّلَ وِجدانُهُ في بيئةٍ تُكافِحُ لِفَهمِ ذاتِها، وتَسعى لِتجاوُزِ ثِقَلِ الماضي، حيثُ كانَت قِيَمُ العدلِ والمُساءَلةِ تُعادُ صياغتُها في نُفوسِ الجِيلِ الجَديدِ.
شخصيّةُ شلِينك لا تُؤطَّرُ في قَالبِ الأديبِ فحسب، وإنّما تتّسعُ لتشمَلَ القاضي والمُفكِّرَ وأستاذَ القانونِ، إذ يُزاوِجُ في كتابتِه بينَ دِقَّةِ رجلِ القانونِ وشفافيّةِ الأديبِ.
هذا التلاقي بين العَقلِ والعاطفةِ، بين الحُكمِ والمنفَذِ الإنسانيِّ، هو ما يجعلُ أَعمالَهُ الأدبيّةَ ذاتَ أَبعادٍ فلسفيّةٍ وأخلاقيّةٍ عميقةٍ.
تتمحوَرُ موضوعاتُهُ حولَ أسئلَةٍ وجوديّةٍ كبرى: الذَّنبُ الفرديُّ والجماعيُّ، الحَقُّ، الحِسابُ، والتّاريخُ بما فيهِ من ظلالٍ وآثارٍ على الذّاتِ الإنسانيّةِ.
إنّهُ لا يَكتفي بتوثيقِ الجرحِ، بل يَنقُبُ في سُؤالِ كيفَ نعيشُ بعدَ الكارثةِ؟ وكيفَ نُحاوِلُ أن نَغفِرَ أو نَفهمَ؟
روايتُهُ الأبرزُ “القارئ ” (Der Vorleser)، التي نُشِرَت عامَ ١٩٩٥، تُجسِّدُ هذا التوتُّرَ بين الماضي والحاضر، بين الحُبِّ والذَّنبِ، وتُظهِرُ براعتَهُ في بناءِ العالَمِ الروائيِّ بلُغةٍ تتدفّقُ بسلاسةٍ وعمقٍ في آنٍ معًا. لقد لامست الروايةُ وِجدانَ القُرّاءِ في شتّى أنحاءِ العالَم، فَتُرجِمَت إلى عِدّةِ لُغاتٍ، وتحولت إلى فِيلمٍ سينمائيٍّ شهيرٍ عامَ ٢٠٠٨.
وما زالَ شلِينك حتى اليومِ يُتابِعُ عملَهُ الأكاديميَّ ويُنتِجُ بحوثًا قانونيّةً تُغذِّي أعمالَهُ الأدبيّةَ بدقّةٍ وموثوقيّةٍ نادرتَين. إنَّهُ في جوهرِه كاتبٌ يسعى إلى الكشفِ عن مكنوناتِ النفسِ الإنسانيّةِ، ويَطرحُ الأسئِلةَ الّتي نخشى مواجهتَها، بأسلوبٍ يُحرِّكُ الذّاتَ ويدعو إلى التّأمُّلِ والشَّجاعةِ والصِّدقِ في آنٍ واحدٍ.
قُمتُ بِتَرجَمةِ هذِهِ الرِّوايَةِ بِأُسلُوبِ “المُجَدِّدِ”، لا تَهوِينًا مِن أَحداثِها، ولا تَصرُّفًا فِي مَعناهَا الإِنسَانِيِّ العَميقِ، بَلْ لِكَيْ تَظلَّ أَمينَةً لِر
كَانَ هَمِّي فِي هذِهِ التَّرجَمَةِ أَن أَجعَلَ نَصَّ “القارِئ” يَنبِضُ فِي لُغَتِنا، كَمَا نَبَضَ فِي أَصلِه، بِذاتِ القُدرَةِ عَلَى التَّأثِيرِ وَالإِثَارَةِ وَالسُّؤَالِ.
نُعمانُ البربريّ
Numan Albarbari
(القارئ)
عِندَما بَلَغْتُ الخامِسَةَ عَشْرَةَ مِن عُمْرِي، أَصابَنِي داءُ اليرقانِ.
بَدَأَتْ تِلكَ العِلَّةُ فِي خَرِيفٍ بَاكِرٍ، وَمَا أَنْفَكَ يُثْقِلُنِي التَعَبُ والإرهَاقُ حَتَّى أَنْ انْقَضَى الشِّتَاءُ.
وَكُلَّمَا ازْدَادَتِ الأَيَّامُ بُرُودَةً وَظَلامًا، ازْدَادَ جَسَدِي وَهَنًا وَخُمُولًا، حَتَّى بَدَأْتُ، فِي مَطْلَعِ العَامِ الجَدِيدِ، أَسْتَرِدُّ شَيْئًا مِن نَفَسِي.
كَانَ كَانُونُ الثَّانِي دَافِئًا عَلَى غَيْرِ العَادَةِ، فَفَرَشَتْ لِي أُمِّي سَرِيرًا فِي الشُّرْفَةِ.
كُنْتُ أُحَدِّقُ فِي السَّمَاءِ، وَأُتَابِعُ رَقْصَ الغُيُومِ فِي فَضَائِهَا، وَأُنْصِتُ لِضَحِكَاتِ الأَطْفَالِ وَهُمْ يَلْهُونَ فِي سَاحَةِ الدَّارِ.
وَفِي مَسَاءٍ مُبَكِّرٍ مِن شُبَاط، سَمِعْتُ زَقْزَقَةَ طَائِرِ السُّمَّانَى لأَوَّلِ مَرَّةٍ، وَكَأَنَّهَا بُشْرَى مِن فَصْلٍ آخَرَ.
وَكَانَ خُرُوجِي الأَوَّلُ مِن “شارِعِ الزُّهُورِ” ـ حَيْثُ كُنَّا نُقِيمُ فِي الطَّابِقِ الثَّانِي مِن بِناءٍ قَدِيمٍ، شُيِّدَ قُبَيْلَ مَطْلَعِ القَرْنِ ـ إِلَى “شارِعِ المَحَطَّةِ”.
فِي أَحَدِ أَيَّامِ الإِثْنَيْنِ مِن شَهْرِ تِشْرِينَ الأَوَّلِ، وَأَثْنَاءَ عَوْدَتِي مِن المَدْرَسَةِ، فَاجَأَنِي قَيْءٌ عَنِيفٌ.
كُنْتُ، مُنْذُ أَيَّامٍ، أَشْعُرُ بِوَهَنٍ غَامِضٍ، وَهَنٍ لَمْ أَعْرِفْ لَهُ مِثَالًا فِي حَيَاتِي.
كُلُّ خُطْوَةٍ كَانَتْ تَتَطَلَّبُ مِنِّي مَجْهُودًا يُشْبِهُ تَسَلُّقَ جَبَلٍ.
وَفِي كُلِّ دَرَجَةٍ أَصْعَدُهَا، سَوَاءٌ فِي البَيْتِ أَو المَدْرَسَةِ، كَانَتْ سَاقَايَ تَرْتَجِفَانِ، وَتَتَمَاسَكُ بِالعَافِيَةِ.
وَكَانَ الطَّعَامُ يُنْفِرُنِي. أَجْلِسُ إِلَى المَائِدَةِ وَالجُوعُ يَأْكُلُنِي، فَإِذَا أَنَا بِأَعْرَاضٍ مُبَاغِتَةٍ تَجْرَحُ نَهَمِي.
أَصْحُو صَبَاحًا وَفَمِي يَابِسٌ، وَفِي جَوْفِي ثِقَلٌ مُرِيبٌ، كَأَنَّ أَعْضَائِي قَدْ أُعِيدَ تَرْتِيبُهَا خَطَأً.
كُنْتُ أَخْجَلُ مِن ضَعْفِي، وَأَشَدُّ مَا أَخْجَلَنِي تَقَيُّؤِي ذَاكَ اليَوْمِ. إِذْ لَمْ يَسْبِقْ لِي ذَلِكَ قَطُّ.
“امْتَلَأَ فَمِي، فَحَاوَلْتُ ابْتِلَاعَ مَا فَاضَ فِيهِ، وَضَغَطْتُ شَفَتَيَّ بِقُوَّةٍ، وَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى فَمِي… وَلَكِنَّهُ تَفَجَّرَ بَيْنَ الشَّفَتَيْنِ، وَانْسَكَبَ مِن بَيْنِ أَصَابِعِي.”
اِسْتَنَدْتُ إِلَى جِدَارِ أَحَدِ البُيُوتِ، وَأَطْرَقْتُ، أُحَدِّقُ فِي مَا تَقَيَّأْتُهُ عِندَ قَدَمَيَّ، وَفِي حَلْقِي زَبَدٌ شَفَّافٌ يُلَازِمُنِي.
أَخَذَتْ بِيَدِي امَرْأَةٌ بِشَيْءٍ مِن الخُشُونَةِ.
أمْسَكَتْ بِذِرَاعِي، وَسَحَبَتْنِي عَبْرَ مَمَرٍّ مُعْتِمٍ، حَتَّى وَصَلْنَا إِلَى فِنَاءِ الدَّارِ.
كَانَتِ الحِبَالُ مَمْدُودَةً بَيْنَ النَّوَافِذِ، وَالثِّيَابُ المُبَلَّلَةُ تَتَأَرجَحُ عَلَيْهَا كَأَنَّهَا أَجْنِحَةٌ يَابِسَةٌ.
فِي أَحَدِ الزَّوَايَا، أَكْوَامُ خَشَبٍ، وَفِي العُمْقِ وَرْشَةٌ كانَ مِنشَارُهَا الكَهْرَبَائِيُّ يَعْوِي، وَيُطْلِقُ شَرَرًا مِن نُشَارَةِ الخَشَبِ، كَأَنَّهُ ضَوْءٌ مُبَعْثَرٌ.
وَإِلَى جَانِبِ بَابِ الفِنَاءِ، كَانَ صُنْبُورٌ يَقْطِرُ بصَمْت.
فَتَحَتِ المَرْأَةُ الصُّنْبُورَ، وَغَسَلَتْ يَدَيَّ أَوَّلًا، ثُمَّ غَرَفَتْ مِن المَاءِ بِرَاحَتَيْهَا، وَرَشَّتْ وَجْهِي بِلُطْفٍ، فَانْسَابَ البَرْدُ عَلَى جِلْدِي كَنَفَسٍ نَاعِمٍ.
جَفَّفتُ وجهي بمنديلِي، فسمعتُها تقول: “خُذِ الآخَرَ!”
كانَ إلى جوارِ الصنبورِ دَلوَان، فتناولتْ أحدَهما وملأَتْهُ، وأخذتُ الثّاني وملأتُه بدوري، وتَبِعْتُها عبرَ الممرِّ المُعتمِ.
“رَفَعَتِ الدَّلْوَ عالِيًا، ثمَّ أفرَغَتْهُ على أَرضِ المَمشى، فَاندَفَعَ المَاءُ مَصحوبًا برَجْعِ صَوْتٍ، واجتاحَ القَيْءَ حتى قَذَفَهُ إلى المَجرى.
انْتَزَعَتِ الدَّلْوَ مِنْ يَدَيَّ، وَسَكَبَتْ دَفْعَةً أُخْرَى مِنَ المَاءِ فوقَ المَمشى، ثمَّ اعْتَدَلَت واقِفَةً، وَنَظَرَتْ إِلَيَّ…
فَرَأَتْنِي أَبْكِي.
“يا صَغيرِي”، قالَتْها بِدَهْشَةٍ، “يا صَغيرِي…”
ثُمَّ ضَمَّتْنِي إلى صَدْرِهَا.
كُنْتُ بِالكادِ أَطْوَلَ مِنْهَا قَامَةً، وَشَعَرْتُ بِثَدْيَيْهَا يَضْغَطَانِ عَلَى صَدْرِي، وَشَمَمْتُ فِي ضِيقِ العِناقِ رَائحَةَ أَنفاسي العَفِنَةِ، وَعَرَقَها الطّازَجَ.
لَمْ أَدْرِ ما أَصْنَعُ بِذِراعَيَّ.
وَتَوَقَّفْتُ عَنِ البُكَاءِ.
سَأَلَتْنِي عَنْ مَكانِ سَكَنِي، وَوَضَعَتِ الدَّلْوَيْنِ فِي المَمَرِّ، وَمَضَتْ بِي إِلَى البَيْتِ.
كَانَتْ تَسِيرُ إلى جانِبِي، حَقِيبَةُ مَدْرَسَتِي فِي يَدٍ، وَالأُخْرَى مُمسِكَةٌ بِذِراعِي.
لَيْسَتِ المَسَافَةُ بَعِيدَةً بَيْنَ “شارِعِ المَحَطَّةِ” وَ”شارِعِ الزُّهُورِ”.
كَانَتْ تَخْطُو بِسُرْعَةٍ وَعَزْمٍ جَعَلَانِي أَسْتَطِيعُ مُجَارَاتَهَا بِسُهولَةٍ.
وَحِينَ بَلَغْنَا بَابَ دارِنَا، وَدَّعَتْنِي وَمَضَتْ.
فِي اليَوْمِ نَفْسِهِ، اسْتَدْعَتْ أُمِّي الطَّبِيبَ، فَشَخَّصَ حالَتِي وَقالَ إِنَّهُ اليَرَقَانُ.
وَمَعَ مرورِ الأَيّامِ، رَوَيْتُ لِأُمِّي ما جَرَى مَعَ تِلْكَ المَرْأَةِ.
وَلَا أَظُنُّ أَنِّي، لولَاها، كُنْتُ سَأَذْهَبُ لِزِيَارَتِهَا يَوْمًا.
لَكِنْ كانَ مِنَ البَدِيهِيِّ عِنْدَ أُمِّي أَنْ أَشْتَرِي لَهَا، مَا إِنْ أَسْتَعِيدَ عافِيَتِي، بَاقَةَ زُهُورٍ مِن مَصْرُوفِي، وَأَذْهَبَ لِأُعَرِّفَ بِنَفْسِي وَأَشْكُرَهَا.
وَهَكَذَا، وَفِي أَوَاخِرِ شُباطَ، تَوَجَّهْتُ إِلَى “شارِعِ المَحَطَّةِ”.
لَم يَعُدِ المَنْزِلُ القَائِمُ فِي “شارِعِ المَحَطَّةِ” مَوْجُودًا اليَوْمَ.
لَا أَدْرِي مَتَى وَلِمَ تَمَّ هَدْمُهُ.
كَأَنَّمَا قَد غِبْتُ عَنْ مَدِينَتِي لِسَنَوَاتٍ طَوِيلَةٍ.
أَمَّا البِنَاءُ الجَدِيدُ، الَّذِي أُقِيمَ فِي سَبْعِينِيَّاتِ القَرْنِ المَاضِي أَو ثَمانِينِيَّاتِهِ، فَيَرْتَفِعُ خَمْسَةَ طَوَابِقَ تَعْلُوهَا عِلِّيَّةٌ مُعَدَّةٌ لِلَّسَكَنِ.”
لا شُرُفاتَ تَتَطَلَّعُ إليه، ولا بروزاتٌ تَسْتَلْهِمُ الجمالَ، بل واجِهَةٌ ملساءُ، ناصِعَةُ الطِّلاءِ، خاليةٌ مِن كُلِّ زَخْرَفَةٍ أو تَبَاهٍ.
“عدَدُ الأَجراسِ عندَ المَدخَلِ يُشيرُ إلى شُقَقٍ صَغيرةٍ تَكثُرُ؛ شُقَقٍ يَسكنُها النّاسُ كأنَّهم يستأجرونَ سَيَّارةً، ثم يعيدونَها بِبساطةٍ إلى المَكانِ ذاته.”
في الطابقِ الأرضيِّ، يُوجَدُ الآنَ متجرٌ للحواسيبِ، بعدَ أن كانَ قبلهُ مَحلًّا للعُطورِ، ثُمّ دكّانًا للمَوادِّ الغذائيّةِ، وَمِن بعدِه مَركَزًا لتأجيرِ أفلامِ الفيديو.
كانَ البِناءُ القديمُ، يَحتوي أربعةَ طوابقَ فقط. الطابقُ الأرضيُّ كانَ مُشيَّدًا من أحجارِ الرّملِ المصقولةِ كالألماسِ، والطوابقُ الثلاثةُ العُليا بُنيَت من قوالبِ الطّوبِ التي تَتشَابَك فيها شُرُفاتٌ، ونوافذُ، وإطاراتٌ من حجرِ الرمَلِ أيضًا.
كانتْ بضعُ دَرَجاتٍ تقودُ إلى الطابقِ الأرضيِّ ومَدخلِ السُّلَّمِ؛ عريضٌ في الأسفلَ، يَضيقُ تدريجيًّا كلّما صَعدتَ، يَحتضِنُها من الجانبين جُدرانٌ تَعلوها درابزيناتٌ من الحديدِ، تَلتفُّ عند القاعدةِ كقوقعةٍ منحنيةٍ.
كانَ البابُ محاطًا بعمودَين، وعلى زاوِيَتي العَتَبَتَينِ العُلويَّتَينِ، يَقِفُ “أسدانِ” من الحَجَرِ؛ أحدُهما يُطِلُّ على شارعِ المحطّةِ صعودًا، والآخرُ ينظرُ إليه نزولًا.
كانَ المدخلُ الذي ساقَتني منهِ المرأةُ إلى الفِناءِ وصُنبورِ الماءِ هو المَدخَلُ الجانبيُّ للمنزلِ.
وكنتُ، وأنا طفلٌ صغيرٌ، قد لاحظتُ ذاكَ البِناءَ، إِذْ كَانَ يَفرضُ نفسهُ على صفِّ البيوتِ المُحيطةِ كأنه يَرتقي لثِقله واتِّساعِهِ، فيُجبرُ الأبنيةَ المجاورةَ على الانزياحِ وتَفسيحِ المَكانِ له.
كنتُ أتصوَّرُ في داخلي سلَّمًا داخليًّا مَزدانًا بالجِصِّ المُزخَّرِ والمرايا، يَمتدُّ عليهِ بساطٌ شرقيُّ النَّقوشِ، تُثبِّتُهُ عصيٌّ من النّحاسِ المصقولِ على الدّرجاتِ.
وكانَ في ظنّي أنَّ بيتًا مَهيبًا كهذا لا بدَّ أن يَسكُنَه “قومٌ ذوو مهابةٍ أيضًا”.
لكن، مع غُبارِ السنينِ ودُخانِ القِطاراتِ الذي أَكسى البناءَ سوادًا كئيبًا، جَعَلَنِي أتصَوَّرُ في خيالي أنَّ سكّانَهُ المَهيبينَ الذِينَ لا بدَّ أَنْ يَكُونُوا غُرَباءَ الأطوارِ، مُعتِمِي الأرواحِ، ربّما صُمًّا أو بُكمًا، مُحدَّبِي الظُّهورِ أو عُرْجانًا يتعثَّرون.
وَكَانَ ذلكَ المنزلُ يُراوِدُنِي فِي أَحلامِي عَبرَ السِّنِينِ، تَتكرّرُ رؤاهُ كأنّها تَنوِيعَاتٌ عَلَى لَحنٍ لَا يَفْنَى.
كُنتُ كُلَّمَا مَشَيْتُ في المَدِينَةِ أَتَخَيَّلُهَا مَدِينَةً غَرِيبةً، وَألمحُ المنزلَ من بعيدٍ، يقفُ هُناكَ، ضِمْنَ صَفٍّ من الأبنيةِ في حيٍّ لا أَعرِفُهُ. أتابعُ السَّيرَ، مشوَّشَ الذهنِ، لأنّي أعرفُ هَذَا المَنزِلَ، لَكِنّي لا أَعرِفُ الحيَّ الذي يحيطُ به. ثمّ يخطرُ لِي فَجأةً أَنَّنِي قَد رَأيْتُ هَذا البَيتَ مِنْ قَبلُ.”
وَحِينَ أَرَى ذَاكَ المَنْزلَ فِي الحُلُمِ، لا يَخْطرُ بِبَالِي “شَارِعُ المَحَطّةِ” فِي مَدِينَتِي الأُمّ، بَلْ فِي مَدِينَةٍ أُخرَى، أَوْ رُبّمَا فِي بِلادٍ بَعِيدةٍ لَمْ أَزُرهَا.
أَجِدُنِي، مَثَلًا، فِي “رُوما”، فَأَلْمَحُ هُنَاكَ نَفْسَ المَنزِلِ، وَأَقُولُ فِي نَفْسِي: “لَقَدْ رَأَيْتُهُ مِنْ قَبْلُ فِي بَرْن!”
وَمَعَ هذِهِ الذِّكْرَى الحُلُمِيَّةِ، يَسْكُنُ قَلْبِي شَيْءٌ مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ.
أَنْ أُبْصِرَ المَنزِلَ ذَاتَهُ فِي محِيطٍ آخَرَ، لَا يَبْدُو لِي أَكْثَرَ غَرَابَةً مِنْ أَنْ أُصَادِفَ صَدِيقًا قَدِيمًا، صُدْفَةً، فِي مَدِينَةٍ لَا أَعْرِفُهَا.
أَعُودُ أَدْرَاجِي، أَمْشِي نَحْوَ المَنزِلِ، وَأَصْعَدُ الدَّرَجَاتِ.
أَرْغَبُ فِي الدُّخُولِ.
“أَمُدُّ يَدِي إِلَى المِقْبَضِ… وَأَضْغَطُ عَلَيْهِ.”
“إِذَا رَأَيْتُ المَنزِلَ فِي الرِّيفِ، يَطُولُ الحُلُمُ أَكْثَرَ، أَوْ أَحْتَفِظُ بَعْدَئِذٍ بِذِكْرَيَاتٍ أَدَقَّ لِتَفَاصِيلِهِ.
أَكُونُ فِي السَّيَّارَةِ، أَرَى المَنزِلَ عَلَى يَمِينِي، وَأُتَابِعُ السَّيْرَ، مُرْتَبِكًا فِي البِدَايَةِ، لِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الوَاضِحِ أَنَّهُ مَنزِلٌ لا يَنْتَمِي إِلَى شَارِعٍ فِي المَدِينَةِ، بَلْ هُوَ مَوْجُودٌ وَسْطَ حَقْلٍ فَارِغٍ.
ثُمَّ أَتَذَكَّرُ أَنَّنِي رَأَيْتُهُ مِنْ قَبْلُ، فَتَزْدَادُ حَيْرَتِي ضِعْفًا.
وَعِنْدَمَا أَتَذَكَّرُ أَيْنَ قَابَلْتُهُ سَابِقًا، أُقَلِبُ عَصَا التَّوْجِيهِ فِي السَّيَّارَةِ وَأَعُودُ إِلَى الوَرَاءِ.
فِي الحُلُمِ، كَانَ الطَّرِيقُ دَائِمًا يَبدُو خَالياً، فَيُمْكِنُنِي أَنْ أُدِيرَ السَّيَّارَةَ بِعَجَلَاتٍ تُصْدِرُ صَرِيرًا، وَأَرْجِعَ بِسُرْعَةٍ كَبِيرَةٍ.”
“أَشْعُرُ بِالخَوْفِ مِنَ التَّأَخُّرِ، فَأُسْرِعُ فِي القِيَادَةِ.
ثُمَّ أَرَاهُ، مُحَاطًا بِحُقُولٍ مِنَ الرَّبِيعِ، أَوِ القَمْحِ، أَوِ الكُرُومِ فِي مَنَاطِقِ بَالَاتِينَات، أَوْ حُقُولِ الخُزَامَى فِي “بْرُوفَانْس”.
الأَرْضُ مُنْبَسِطَةٌ، أَوْ بِهَا بَعْضُ التِّلَالِ الطَّفِيفَةِ فَقَطْ، وَلَا تُوجَدُ أَشْجَارٌ تُحِيطُ بِهَا.
اليَوْمُ مُشْرِقٌ تَمَامًا، وَالشَّمْسُ سَاطِعَةٌ، وَالهَوَاءُ يَتَرَنَّحُ، وَالطَّرِيقُ يَتَلَأْلَأُ مِنْ شِدَّةِ الحَرَارَةِ.
تَبْدُو الجُدْرَانُ النَّارِيَّةُ وَكَأَنَّهَا تَقْطَعُ المَنزِلَ عَنْ مُحِيطِهِ، وَتَجْعَلُهُ ضَعِيفًا غَيْرَ مُكْتَمِلٍ.
قَدْ تَكُونُ هذِهِ الجُدْرَانُ النَّارِيَّةُ لِأَيِّ مَنزِلٍ آخَرَ.
المَنزِلُ لَيْسَ أَكْثَرَ عَتْمَةً مِمَّا كَانَ فِي شَارِعِ المَحَطَّةِ، لَكِنْ نَوَافِذُهُ مُتَّسِخَةٌ تَمَامًا، فَلَا تُتِيحُ رُؤْيَةَ شَيْءٍ مِنَ الدَّاخِلِ، وَلَا حَتَّى السَّتَائِرَ.
المَنزِلُ مُظْلِمٌ.
تَوَقَّفْتُ عَلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ، وَعَبَرْتُ الشَّارِعَ نَحْوَ المَدْخَلِ.
لَمْ أَرَ أَحَدًا، وَلَمْ أَسْمَعْ شَيْئًا، لَا صَوْتَ مُحَرِّكٍ بَعِيدٍ، وَلَا نَسِيمَ هَوَاءٍ، وَلَا زَقْزَقَةَ طَائِرٍ.
كَأَنَّمَا كَانَتِ الدُّنْيَا مَيِّتَةً.
صَعِدْتُ الدَّرَجَاتِ، وَضَغَطْتُ عَلَى مِقْبَضِ البَابِ.
وَلَكِنَّنِي لَمْ أَفْتَحِ البَابَ.
اِسْتَيْقَظْتُ، وَلَمْ يَكُنْ يَسْكُنْنِي إِلَّا تِلْكَ اللَّحْظَةُ الَّتِي أَمْسَكْتُ فِيهَا بِالْمِقْبَضِ وَضَغَطْتُ عَلَيْهِ.
ثُمَّ تَرَسَّخَ الْحُلُمُ فِي ذَاكِرَتِي كَامِلًا، وَعُدْتُ أَسْتَحْضِرُ أَنَّنِي قَدْ حَلِمْتُ بِهِ مِنْ قَبْلُ.
لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ ٱسْمَ الْمَرْأَةِ.
وَقَفْتُ أَمَامَ الْبَابِ وَٱلْجَرَسِ، وَبِيَدِي بُرْوْزَةُ ٱلْأَزْهَارِ، مُتَرَدِّدًا، تَسُوقُنِي رَغْبَةٌ غَامِضَةٌ فِي ٱلرُّجُوعِ.
وَلَكِنَّ رَجُلًا خَرَجَ مِنَ ٱلْمَنْزِلِ، وَسَأَلَنِي: “لِمَنْ أَتَيْتَ؟”، ثُمَّ قَالَ: “ٱصْعَدْ إِلَى ٱلطَّابِقِ ٱلثَّالِثِ، هُنَاكَ تَسْكُنُ ٱلسَّيِّدَةُ شميتس.”
“لَا جُصَّ، وَلَا مَرَايَا، وَلَا سَجَّادَةٌ.”
ٱلْبَهْوُ الَّذِي كَانَ يَتَمَتَّعُ، فِيمَا مَضَى، بِجَمَالٍ مُتَوَاضِعٍ، لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَا يُنَافِسُ وجْهَةَ ٱلْمَبْنَى فِي بَهَائِهَا، فَقَدْ زَالَ ذَلِكَ مُنْذُ أَمَدٍ.
ٱلطِّلَاءُ ٱلْأَحْمَرُ عَلَى ٱلدَّرَجِ قَدْ بَلِيَ فِي ٱلْوَسَطِ، وَٱللِّينُولْيُومُ ٱلْأَخْضَرُ ٱلْمُطَبَّعُ، ٱلَّذِي يَجْرِي عَلَى ٱلْحَائِطِ إِلَى جَانِبِ ٱلسُّلَّمِ عَلَى ٱرْتِفَاعِ ٱلْكَتِفِ، قَدْ تَآكَلَ.
وَحَيْثُمَا ٱنْفَصَلَتِ ٱلْقُضْبَانُ فِي ٱلسُّورِ، نُسِجَتْ حِبَالٌ فِي مَوْضِعِهَا.
كَانَ عبقُ مَوَادِّ ٱلتَّنْظِيفِ يَمْلَأُ ٱلْهَوَاءَ.
رُبَّمَا لَمْ أُدْرِكْ كُلَّ هَذَا إِلَّا فِيمَا بَعْدُ، فَٱلْمَكَانُ كَانَ دَوْمًا عَلَى دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ ٱلْقِدَمِ وَٱلنَّظَافَةِ، وَكَانَتْ رَائِحَةُ ٱلتَّنْظِيفِ تُصَاحِبُنِي، أَحْيَانًا مَمْزُوجَةً بِرَائِحَةِ ٱلْفَحْمِ، أَوِ ٱلْفُولِ، أَوِ ٱلطَّعَامِ ٱلْمَقْلِيِّ، أَوِ ٱلْغَسِيلِ ٱلْمَغْلِيِّ.”
“لَمْ أَتَعَرَّفْ إِلَى سُكَّانِ ٱلْمَبْنَى مِنْ غَيْرِ تِلْكَ ٱلرَّوَائِحِ، وَآثَارِ ٱلْأَقْدَامِ أَمَامَ أَبْوَابِ ٱلشُّقَقِ، وَأَلْوَاحِ ٱلْأَسْمَاءِ تَحْتَ أَزْرَارِ ٱلْجَرَسِ.
لَا أَذْكُرُ أَنَّنِي صَادَفْتُ فِي ٱلْمَدْخَلِ أَحَدًا.
وَلَا أَتَذَكَّرُ كَيْفَ ٱسْتَقْبَلْتُ ٱلسَّيِّدَةَ شميتس.
رُبَّمَا كُنْتُ قَدْ عَدَدْتُ لِنَفْسِي بَعْضَ ٱلْعِبَارَاتِ عَنْ مَرَضِي، وَعَنْ مَعْرُوفِهَا، وَشُكْرِي لَهَا، وَنَطَقْتُهَا كَمَا أَعْدَدْتُهَا.”
“أَخَذَتْنِي إِلَى ٱلْمَطْبَخِ، ٱلَّذِي كَانَ أَوْسَعَ غُرْفَةٍ فِي ٱلشَّقَّةِ.
فِيهِ مَوْقِدٌ وَحَوْضٌ، وَحَوْضُ ٱلِٱسْتِحْمَامِ وَمَوْقِدٌ صَغِيرٌ خَاصٌّ بِٱلْحَمَّامِ، وَطَاوِلَةٌ وَكُرْسِيَّانِ، وَخِزَانَةُ مَطْبَخٍ، وَخِزَانَةُ مَلَابِسَ، وَأَرِيكَةٌ.
كَانَتِ ٱلْأَرِيكَةُ مُغَطَّاةً بِبِطَّانِيَّةٍ حَمْرَاءَ مِنَ ٱلْمخْمَلِ.”
لَمْ تَكُنْ فِي المَطبَخِ نَافِذَةٌ. كَانَ النُّورُ يَتَسَلَّلُ نَاعِمًا عَبْرَ زُجَاجِ البَابِ الَّذِي يُفْضِي إِلَى الشُّرْفَةِ، لَكِنَّهُ كَانَ ضَئِيلًا، فَالمَطبَخُ لا يَتَهَيَّأُ لِلنُّورِ إِلَّا إِذَا تُرِكَ البَابُ مفْتوحًا. عِنْدَهَا، يَنْفُذُ صَرِيرُ المِنْشَارِ مِنْ وَرْشَةِ النِّجَارَةِ فِي السَّاحَةِ الخَلْفِيَّةِ، وَتَتَصَاعَدُ رَائِحَةُ الخَشَبِ الطَّازَجِ، تُلَامِسُ أَنْفَكَ كَمَا يَلَامِسُ صَوْتُ المِنْشَارِ خَيَالَكَ.
فِي الشَّقَّةِ غُرْفَةُ جُلُوسٍ ضَيِّقَةٌ، تَنْطَوِي عَلَى خِزَانَةٍ صَغِيرَةٍ، وَطَاوِلَةٍ، وَأَرْبَعَةِ كَرَاسٍ، وَكُرْسِيٍّ ذِي ذِرَاعَيْنِ، وَمَوْقِدٍ. غُرْفَةٌ بَارِدَةٌ فِي الشِّتَاءِ، مُهْمَلَةٌ فِي الصَّيْفِ. تَفْتَحُ نَافِذَتُهَا عَلَى شَارِعِ المَحَطَّةِ، حَيْثُ تمْتَدُّ أَرْضُ المَحَطَّةِ القَدِيمَةِ فِي الأُفُقِ، تَخْتَبِرُهَا أَيَادِي العُمَّالِ، تُقَلِّبُ تُرْبَتَهَا، وَتُرَكِّبُ أُسُسَ بِنَايَاتٍ جَدِيدَةٍ لِمَجَامِيعَ الحُكْمِ وَالْإِدَارَةِ.
وَكَانَ هُنَاكَ، فِي آخِرِ الشَّقَّةِ، مِرْحَاضٌ صَامِتٌ، خَالٍ مِنَ النَّوَافِذِ، غَاصٌّ بِرَائِحَةٍ نَفَّاذَةٍ تَتَسَلَّلُ بِبُطْءٍ إِلَى رِوَاقِ البَيْتِ، كَأَنَّهَا تَشِي بِمَا يَجْرِي دَاخِلَهُ، ثُمَّ تَنْصَهِرُ فِي جُدْرَانِهَا البَاهِتَةِ.
لَا أَذْكُرُ مَا الَّذِي كُنَّا نَتَحَادَثُ عَنْهُ فِي ذَاكَ المَطبَخِ. هَكَذَا كُنتُ أَسْتَرْجِعُ فِي سُكُونِ تِلْكَ السَّاعَةِ، وَالسَّيِّدَةُ شْمِيتْس تَكْوِي. كَانَتْ قَدْ فَرَشَتْ بَطَّانِيَّةً صُوفِيَّةً وَمِلَاءَةً فَوْقَ الطَّاوِلَةِ، ثُمَّ بَدَأَتْ تَسْتَلُّ قِطَعَ الغَسِيلِ وَاحِدَةً فَوَاحِدَةً مِنَ السَّلَّةِ، تَكْوِيهَا، ثُمَّ تَطْوِيهَا، وَتَضَعُهَا بِعِنَايَةٍ عَلَى أَحَدِ الكُرْسِيَّيْنِ.
وَكُنتُ جَالِسًا عَلَى الكُرْسِيِّ الآخَرِ، أُرَاقِبُهَا. كَانَتْ تَكْوِي حَتَّى مَلَابِسَهَا الدَّاخِلِيَّةَ. لَمْ أُرِدْ أَنْ أُطِيلَ النَّظَرَ، وَلَكِنَّ عَيْنَيَّ لَمْ تَسْتَطِيعَا الْفِرَارَ.
كَانَتْ تَرْتَدِي مِئْزَرًا أَزْرَقَ ذَا أَكْمَامٍ مَقْصُوصَةٍ، مُزَيَّنًا بِزَهَرَاتٍ حَمْرَاءَ بَاهِتَةٍ، وَشَعْرُهَا الأَشْقَرُ المُشْرَبُ بِالشَّيْبِ يَنْسَابُ حَتَّى كَتِفَيْهَا، مَرْفُوعًا وَمثَبَّتًا فِي مُؤَخِّرَةِ رَأْسِهَا بِمِشْبَكٍ.
كَانَتْ ذِرَاعَاهَا العَارِيَتَانِ شَاحِبَتَيْنِ، وَحِينَ تَأْخُذُ المِكْوَاةَ، وَتُحَرِّكُهَا، وَتَضَعُهَا، ثُمَّ تَجْمَعُ قِطَعَ القِمَاشِ وَتَنْقُلُهَا، كَانَ كُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِبُطْءٍ، وَبِتَرْكِيزٍ غَامِضٍ، كَأَنَّهُ طَقْسٌ مَكْتُومٌ. وَحِينَ تَنْحَنِي وَتَقُومُ، كَانَ ذَاتُ التَّرَنُّحِ الهَادِئِ يُسَافِرُ مَعَهَا.
وَعَلَى وَجْهِهَا، كَمَا أَتَذَكَّرُهُ، تَرَاكَبَتْ صُوَرٌ مُتَعَدِّدَةٌ لِوُجُوهِهَا فِي السَّنَوَاتِ اللَّاحِقَةِ، تَدَاخَلَتْ وَتَدَافَعَتْ، حَتَّى غَابَ مَعَالِمُ ذَلِكَ الوَجْهِ الَّذِي رَأيتُهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ.
عِنْدَمَا أَسْتَحْضِرُهَا أَمَامَ عَيْنَيَّ كَمَا كَانَتْ آنَذَاكَ، تَظْهَرُ لِي بِلَا وَجْهٍ مُحَدَّدٍ. يَجِبُ أَنْ أُعِيدَ تَرْكِيبَهُ فِي ذَاكِرَتِي.
ثُمَّ أَسْتَعِيدُ: “جَبْهَةٌ عَالِيَةٌ، وَعِظَامُ خَدٍّ بَارِزَةٌ، وَعَيْنَانِ زرْقَاوَانِ شَاحِبَتَانِ، وَشَفَتَانِ مُمْتَلِئَتَانِ، مُتَسَاوِيَتَا الاِنْحِنَاءِ بِلَا غُرُوبٍ، وَذَقْنٌ قَوِيٌّ.”
وَجهٌ عَريضُ المَساحَةِ، جامِدُ المَلامِحِ، وفيهِ مَسْحةٌ أُنثَوِيَّةٌ لا تُنْكَرُ.
أَعلَمُ أَنَّنِي وَجَدْتُ فيهِ جَمالًا، وَلَكِنِّي لا أَراهُ الآنَ.
“اِنْتَظِرْ قَلِيلًا”، قالَتْ حينَ نَهَضْتُ لأُغادِرَ، “يَجِبُ أَنْ أَذْهَبَ أَيْضًا، وَسَأُرافِقُكَ لِبِضعِ خُطىً”.
وَقَفْتُ في الرِّواقِ المُعْتِمِ، أُصْغِي لِصَمْتِ المكْرهِ الَّذي يَسْبِقُ المُفاجَآتِ.
كَانَ بابُ المَطْبَخِ مُوارَبًا، وَفِيهِ تَتَحَرَّكُ سُكُوناتٌ تُلْبِسُ الهَواءَ بَيَانَها.
أَلْقَتْ مِئْزَرَها عَن كَتِفَيْها، وَظَهَرَتْ بثَوبٍ خَفِيفٍ يَكادُ يَلْثِمُ الجِسْمَ أَكْثَرَ مِمَّا يُغَطِّيهِ.
وَعَلى كُرْسِيٍّ بِالقُرْبِ، تَدَلَّتْ جَوارِبُ بِاِنْتِظامٍ صَامِتٍ كَما لَو كَانَتْ تَنْتَظِرُ طَقْسًا مَهيبًا.
تَناوَلَتْ أَحَدَ الجَوارِبِ، وَرَفَعَتْهُ بِيَدَيْها، ثُمَّ أَخَذَتْ تَتَوازَنُ كَمَنْ تَرْقُصُ على خَيْطٍ مِن ضَوْءِ الخَيالِ.
وَبِحَرَكَةٍ هادِئَةٍ، وَضَعَتْ قَدَمَهَا على الكُرْسِيِّ، ثُمَّ انْحَنَتْ لِتَسْتَقْبِلَ خُطُواتِ الجَورَبِ على ساقِها، تَصْعَدُ بِه رُوَيدًا رُوَيدًا، حَتَّى استَوَتْ بِهِ إلى أَعْلى.
ثُمَّ مالَتْ بِنَفْسِ الرَّوِيَّةِ لِتُثَبِّتَهُ بِالحَمالَةِ.
كانَتِ اللَّحْظَةُ ثَقيلَةً، صامِتَةً، مُشْبَعَةً بِما لا يُقالُ.
تَحَرَّكَتْ عَيْنايَ خِلْسَةً، تُلاحِقانِ انْسِدالَ خُيُوطِ الضَّوءِ على عُنُقِها وَكَتِفَيْها، وعلى انْسِيابِ جِسْمِها الَّذي كانَ الثَّوبُ يَضُمُّهُ بِكِتمانٍ فَضّاحٍ.
شَعَرَتْ بِنَظَرِي.
تَوَقَّفَتْ، وَدارَتْ نَحْوَ البابِ، وَنَظَرَتْ نَظْرَةً صَريحةً، نَفَذَتْ إِلى عَيْنَيّ.
لا أَعلَمُ كَيْفَ كَانَ نَظَرُها – أَكانَ تَساؤُلًا؟ أَمْ عِلْمًا؟ أَمْ مَلامَةً؟
اِحْمَرَّ وَجْهِي.
وَلَحْظَةً وَاحِدَةً، وَقَفْتُ، وَجْهِي يَلْتَهِبُ كَمَنْ لَمْ يَسْتَعِدْ لِمَا انْكَشَفَ.
ثُمَّ انْدَفَعْتُ إِلَى الخَارِجِ، وَنَزَلْتُ الدَّرَجَ مُسْرِعًا، وَخَرَجْتُ مِنَ البَيْتِ.
وَفِي الشَّارِعِ، خَفَّتْ خُطُواتِي كَمَنْ يُريدُ أَنْ يَسْتَرْجِعَ نَفَسَهُ، أَوْ يَنْسَى.
شارِعُ المَحَطَّةِ، شارِعُ البُيُوتِ، شارِعُ الزُّهُورِ – كَانَ هَذَا طَرِيقَ مَدْرَسَتِي السَّنَوِيَّةِ عَلى مَدارِ سَنَوَاتٍ طَوِيلَةٍ.
كُنْتُ أَعْرِفُ كُلَّ بَيْتٍ، وَكُلَّ حَدِيقَةٍ، وَكُلَّ سِياجٍ؛ ذاكَ الَّذِي يُعادُ دَهْنُهُ سَنَوِيًّا، وَذَاكَ الَّذِي أَكَلَ العَفَنُ خَشَبَهُ حَتَّى تَفَتَّتَ بِيَدِي، وَالأَسْوِرَةُ الحَدِيدِيَّةُ الَّتِي كُنْتُ أَجْرِي عَلَيْهَا وَأَنَا طِفْلٌ، أَضْرِبُ العِصِيَّ عَلَيْهَا بِنَغْمَةٍ مُرَنِّمَةٍ، وَذَاكَ الجِدَارُ الحَجَرِيُّ الَّذِي يَرْتَفِعُ كَصَمْتٍ قَدِيمٍ لا يُجِيبُ.
خَلْفَ الجِدارِ الَّذِي نَسَجْتُ فِي خَيَالِي عَنْهُ أَسَاطِيرَ العَجَائِبِ وَالرُّعْبِ، تَسَلَّقْتُ عَالِيًا حَتَّى رَأَيْتُ حَقِيقَتَهُ: صُفُوفًا مُمِلَّةً مِنْ أَحْدَاقِ الزُّهُورِ المَتْرُوكَةِ، وَثِمَارِ التُّوتِ، وَأَسِرَّةِ الخُضَارِ المُهْمَلَةِ.
كُنْتُ أَعْرِفُ كُلَّ شَيْءٍ؛ أَرْضِيَّةَ الرَّصِيفِ المَرْصُوفَةَ بِالحَصَى، وَسَفْحَ الشَّارِعِ المَطْلِيِّ بِالرَّمْلِ، وَتَقَلُّبَاتِ الصّفَحَاتِ، وَأَكْوَابِ البَازَلْتِ المُمَوَّجَةِ، وَالرَّمْلِ، وَالحَصَى عَلَى الرَّصِيفِ.
كُلُّ ذَلِكَ كَانَ مَأْلُوفًا لِي.
وَعِنْدَمَا تَوَقَّفَ قَلْبِي عَنْ خَفَقَانِهِ السَّرِيعِ، وَتَلَاشَتِ الحُمرةُ مِنْ وَجْهِي، بَدَا اللِّقَاءُ بَيْنَ المَطْبَخِ وَالمَمَرِّ بَعِيدًا، كَأَنَّهُ حَدَثٌ غَابَ فِي ضَبَابِ الزَّمَنِ.
غَضِبْتُ مِنْ نَفْسِي.
هَرَبْتُ كَطِفْلٍ، بَدَلًا مِنْ أَنْ أُوَاجِهَ بِوُثُوقٍ، كَمَا كُنْتُ أَنْتَظِرُ مِنْ نَفْسِي.
لَمْ أَعُدْ فِي التَّاسِعَةِ، كُنْتُ قَدْ صِرْتُ فِي الخَامِسَةِ عَشْرَةَ.
وَمَعَ ذَلِكَ، بَقِيَ السُّؤَالُ يُؤَرِّقُنِي: مَا هُوَ ذَاكَ التَّصَرُّفُ الوَاثِقُ الَّذِي كَانَ يَجِبُ عَلَيَّ أَنْ أَتَبَنَّاهُ؟
وَكَانَ هُنَاكَ لُغْزٌ آخَرُ: لِمَاذَا كَانَ ذَلِكَ اللِّقَاءُ بَيْنَ المَمَرِّ وَالمَطْبَخِ مُحَيِّرًا إِلَى هذِهِ الدَّرَجَةِ؟
لِمَاذَا لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُزِيلَ نَظَرِي عَنْهَا؟
كَانَ جِسْمُهَا قَوِيًّا، وَأُنْثَوِيًّا بِصُورَةٍ لَمْ أَلْفِهَا فِي فَتَيَاتٍ أُخْرَيَاتٍ كُنْتُ أُحِبُّهُنَّ أَوْ أُرَاقِبُهُنَّ.
كُنْتُ أُوقِنُ أَنَّهَا، لَوْ كُنَّا فِي المَسْبَحِ، لَمَا لَفَتَتِ انْتِبَاهِي.
وَهِيَ لَمْ تَكُنْ تُبْدِي مِنْ نَفْسِهَا عُرْيًا أَكْثَرَ مِمَّا رَأَيْتُهُ مِرَارًا فِي المَسَابِحِ، لَا فِي الجَسَدِ وَلَا فِي اللَّبَاسِ.
فَوْقَ ذَلِكَ، كَانَتْ أَكْبَرَ سِنًّا مِنْ جَمِيعِ الفَتَيَاتِ الَّلَوَاتِي سَكَنَّ أَحْلَامِي.
ثَلَاثُونَ؟ أَرْبَعُونَ؟ لَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ تَقْدِيرَ العُمْرِ، إِذَا لَمْ أَكُنْ قَدْ بَلَغْتُهُ بَعْدُ، أَوْ لَمْ أَرَهُ بِعَيْنِي قَبْلًا.
وَبَعْدَ سِنِينَ، أَدْرَكْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ مَسْحُورًا بِهَيْئَتِهَا فَحَسْبْ، بَلْ بِهَيْبَتِهَا وَحَرَكَاتِهَا أَيْضًا.
طَلَبْتُ مِنْ صَدِيقَاتِي أَنْ يَرْتَدِينَ الجَوَارِبَ، وَلَمْ أُفَسِّرْ طَلَبِي، وَلَا بُحْتُ لَهُنَّ بِلُغْزِ اللِّقَاءِ ذَاكَ بَيْنَ المَمَرِّ وَالمَطْبَخِ.
فَتَأَوَّلْنَ الطَّلَبَ حَسَبَ مَا أَرَدْتُ: كَمَيْلٍ نَحْوَ الأَحْذِيَةِ المُزَخْرَفَةِ، أَوِ القِطَعِ الدَّقِيقَةِ، أَوْ نَزْعَةٍ إِلَى الإِيرُوتِيكَا المَحْجُوبَةِ.
وَعِنْدَمَا لَبَّيْنَ ذَلِكَ، كَانَ ذَاكَ فِي هَيْئَةٍ مُتَدَلِّيَةٍ وَمُتَفَنِّنَةٍ، تُضَاهِي مَا كَانَ عَالِقًا فِي الذِّهْنِ، أَكْثَرَ مِمَّا يُجَسِّدُهُ الوَاقِعُ.
لَمْ يَكُنْ هُوَ السَّبَبُ الَّذِي مَنَعَنِي عَنْ إِزَالَةِ نَظَرِي.
لَمْ تَكُنْ تَتَصَنَّعُ وَلَا تَتَدَلَّلُ.
وَلَا أَتَذَكَّرُ أَنَّهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ فِي أَيِّ مَرَّةٍ أُخْرَى.
أَتَذَكَّرُ أَنَّ جِسْمَهَا، وَقَفَافَهَا، وَحَرَكَاتِهَا كَانَتْ تَبْدُو أَحْيَانًا بَطِيئَةً وَمُثْقَلَةً.
لَيْسَ أَنَّهَا كَانَتْ ثَقِيلَةً، بَلْ كَأَنَّهَا انْسَحَبَتْ إِلَى دَاخِلِ جِسْمِهَا، وَتَرَكَتْهُ لِنَفْسِهِ، لِإِيقَاعِهِ الرَّاقِدِ الَّذِي لَمْ يُزْعْجِهِ أَيُّ أَمْرٍ مِنَ العَقْلِ، وَنَسِيَتِ العَالَمَ الخارِجِيَّ.
نَفْسُ نِسْيَانِ العَالَمِ كَانَ يَتَجَلَّى فِي وَقفَتِهَا وَحَرَكَاتِهَا عِنْدَ لِبَاسِ الجَوَارِبِ.
وَلَكِنْ هُنَا لَمْ تَكُنْ بَطِيئَةً، بَلْ كَانَتْ سَلِسَةً، رَاقِيَةً، وَغَامِرَةً بِالجَذْبِ.
جَذْبٌ لَيْسَ فِي الصَّدْرِ وَالأَرْجُلِ وَالمُؤَخّرَةِ، بَلْ دَعْوَةٌ لِنِسْيَانِ العَالَمِ دَاخِلَ الجِسْمِ.
كُنْتُ لا أَعْرِفُ ذَلِكَ آنَذَاك — وَلَوْ عَرَفْتُهُ الآنَ، فَهُوَ لَيْسَ إِلَّا تَخْمِينٌ.
وَأَثْنَاءَ تَأَمُّلِي فِي مَا أَثَارَنِي، عَادَتِ الإِثَارَةُ تكْرَارًا.
لِحَلِّ اللُّغْزِ، اسْتَدْعَيْتُ ذِكْرَى اللِّقَاءِ، وَانْحَلَّتِ الفَجْوَةُ الَّتِي صَنَعْتُهَا بَيْنِي وَبَيْنَهَا بِجَعْلِهَا لُغْزًا.
رَأَيْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ جَدِيدٍ، وَلَمْ أَسْتَطِعْ إِزَالَةَ نَظَرِي عَنْهَا.
بَعْدَ أُسْبُوعٍ وَقَفْتُ أَمَامَ بَابِهَا مَرَّةً أُخْرَى.
طِيلَةَ أُسْبُوعٍ حَاوَلْتُ أَلَّا أَفكِّرَ فِيهَا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَا يَمْلَأُ نَفْسِي أَوْ يَلْهِيَ ذِهْنِي.
الطَّبِيبُ لَمْ يَسْمَحْ بَعْدُ لِي بِالذَّهَابِ إِلَى المَدْرَسَةِ، وَكُنْتُ قَدْ سَئِمْتُ مِنَ الكُتُبِ بَعْدَ أَشْهُرٍ مِنَ القِرَاءَةِ.
وَكَانَ الأَصْدِقَاءُ يَزُورُونَنِي، لَكِنَّ مَرَضِي طَالَ حَتَّى أَضْحَتْ زِيَارَاتُهُمْ جِسْرًا لا يَقْدِرُ عَلَى رَبْطِ يَوْمِهِمْ بِيَوْمِي، فَتَقَلَّصَتْ زِيَارَاتُهُمْ.
كُنْتُ أَحبَبْتُ أَنْ أَتَنَزَّهَ كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلًا أَكْثَرَ مِنَ اليَوْمِ السَّابِقِ، دُونَ جُهْدٍ.
وَكَانَ الجُهْدُ هُوَ مَا كُنْتُ بِحَاجَتِهِ.
ما خَسِرتُهُ أَيَّامُ المَرَضِ فِي الطُّفُولَةِ وَالشَّبَابِ!
فَالعَالَمُ الخارِجِيُّ، وَعَالَمُ الوَقْتِ الَّذِي أَقْضِيهِ فِي فَراغِي فِي السَّاحَةِ أَوِ الحَدِيقَةِ أَوِ الشَّارِعِ، يَدْخُلُ غُرْفَةَ المَرِيضِ بِأَصْوَاتٍ مُخَفَّفَةٍ.
وَدَاخِلَ الغُرْفَةِ، يَنْتَشِرُ عَالَمُ القِصَصِ وَالشَّخْصِيَّاتِ الَّتِي يَقْرَأُهَا المَرِيضُ.
الحُمَّى، الَّتِي تُوهِّنُ الإِدْرَاكَ وَتُشَحِّذُ الخَيَالَ، تُحَوِّلُ غُرْفَةَ المَرِيضِ إِلَى مَكَانٍ جَدِيدٍ، مُزْدَوِجٍ بَيْنَ الأُلْفَةِ وَالغُرْبَةِ.
تَظْهَرُ الوحُوشُ فِي أنَمَاطِ السِّتَائِرِ وَالْوَرَقِ، وَتَتَكَوَّمُ الكَراَسِيُّ وَالطَّاوِلَاتُ وَالأَرْفُفُ وَالأَخْزَانُ كَجِبَالٍ وَمَبَانٍ وَسُفُنٍ، قَرِيبَةٍ مَمْسُوكَةٍ وَبَعِيدَةٍ عَنِ النَّظَرِ.
تُصَاحِبُ المَرِيضَ طِيلَةُ اللَّيَالِي ضَرَبَاتُ سَاعَةِ جَرْسِ الْكَنِيسَةِ، وَدُوِيُّ سَيَّارَاتٍ تَمُرُّ أَحْيَانًا، وَتَأَلُّقُ أَضْوَائِهَا الَّذِي يَمْتَدُّ عَلَى الْحِيطَانِ وَالسَّقْفِ.
هِيَ سَاعَاتٌ بِدُونِ نَوْمٍ، لَكِنَّها لَيْسَتْ سَاعَاتِ أَرَقٍ، لَيْسَتْ سَاعَاتِ عَدَمٍ، بَلْ سَاعَاتُ فَضْلٍ وَإِشْرَاقٍ.
تُرَتِّبُ الشَّوْقَ وَالذِّكْرَيَاتِ وَالْخَوْفَ وَالشَّهَوَاتِ كَألغَازٍ يَفْقِدُ فِيهَا المَرِيضُ نَفْسَهُ وَيَجِدُهَا مَرَّةً أُخْرَى.
هِيَ سَاعَاتٌ يصْبِحُ فِيهَا كُلُّ شَيْءٍ مُمْكِنًا، الخَيْرُ وَالشَّرُّ.
وَيَنْتَهِي ذَلِكَ عِنْدَمَا يَتَحَسَّنُ وَضْعُ المَرِيضِ.
وَلَكِنْ إِذَا طَالَ أَمَدُ المَرَضِ، تُغَلَّفُ الغُرْفَةُ بِآثَارِه، وَيَبْقَى الشّفاء، الَّذِي لَمْ تَعُدْ تَلْهُبُهُ الحُمَّى، ضَالًّا فِي ألُغَازهَا.
كنتُ أَصْحُو كُلَّ صَبَاحٍ وَشَعورِي يَثْقُلُ بِذَنْبٍ، وَأَحْيَانًا أَجِدُ بِنْطَالَ نَوْمِي مَبْلُولًا أَوْ مُلَطَّخًا.
الصُّوَرُ وَالمَشَاهِدُ الَّتِي كُنْتُ أَحْلُمُ بِهَا لَمْ تَكُنْ صَالِحَةً، وَكُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّ الأُمَّ، وَالْقِسَّ الَّذِي عَلَّمَنِي وَكُنْتُ أُكَرمُهُ، وَالأُخْتَ الكُبْرَى الَّتِي أَوْثِقتُ لَدَيْهَا أَسْرَارَ طُفُولَتِي، لَنْ تَلُمَّنِي.
لَكِنَّهُمْ سَيُنْذِرُونَنِي بِطَرِيقَةٍ مُحَبَبَّةٍ، وَقَلِقَةٍ، أَشَدُّ مِنَ التَّوْبِيخِ.
وَالأَخْطَر خُصُوصًا كَانَ أَنَّنِي إِذَا لَمْ أَكُنْ أَحْلُمُ بِهَا بِسبب ما، فَإِنِّي كنت أَتَخَيَّلُهَا بِالفَعلِ.
لا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ اسْتَمْلَكْتُ الشَّجَاعَةَ لِلذَّهَابِ إِلَى السَّيِّدَةِ شميتس.
هَلْ كَانَتْ التَّرْبِيَةُ الأَخْلَاقِيَّةُ تَنْقَلِبُ عَلَى نَفْسِهَا؟
إِذَا كَانَ النَّظَرُ الرَّاغِبُ سَيِّئًا كَشَرَهِ الشَّهْوَةِ، وَالتَّخَيُّلُ النَّشِطُ سَيِّئًا كَالْفِعْلِ الْمُتَخَيَّلِ، فَلِمَاذَا لَا يَكُونُ الشَّرَهُ كَالفِعْل؟
يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، عَلمْتُ أَنِّي لا أَسْتَطِيعُ التَّخَلِّيَ عَنْ أَفْكَارِي الْخَاطِئَةِ.
ثُمَّ رَغِبْتُ أَيْضًا فِي الفِعْلِ الْخَاطِئِ.
وَكَانَ هُنَاكَ نَظْرَةٌ أُخْرَى: الذَّهَابُ قَدْ يَكُونُ خَطِيرًا.
لكِنَّ الوَاقِعَ كَانَ يُؤَكِّدُ أَنَّ تَحَقُّقَ الخَطَرِ كَانَ غَيْرَ مُمْكِنٍ.
السَّيِّدَةُ شميتس سَتَسْتَقْبِلُنِي بِدَهْشَةٍ، وَتَسْتَمِعُ إِلَى عُذْرِي عَنْ تَصَرُّفِي الغَرِيبِ، ثُمَّ تُوَدِّعُنِي بِلُطْفٍ.
الأَخْطَرُ كَانَ أَلَّا أَذْهَبَ، فَأَبْقَى أَسِيرَ تَخَيُّلَاتِي، لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُفْلِتَ مِنْهَا.
إِذًا، كُنْتُ أَفْعَلُ الشَّيءَ الصَّحِيحَ بِذَهَابِي إِلَيْهَا؛ فهِيَ سَتَتَصَرَّفُ بِطَبِيعَةٍ، وَأَنَا سَأَتَصَرَّفُ بِطَبِيعَةٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ سَيَعُودُ إِلَى مَجْرَاهُ الطَّبِيعِيِّ.
هَكَذَا كُنْتُ أُفَكِّرُ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ، حَتَّى حَوَّلْتُ رَغْبَتِي إِلَى مَا يُشْبِهُ حِسَابًا أَخْلَاقِيًّا غَرِيبًا، وَأَسْكَتُّ صَوْتَ الضَّمِيرِ فِي صَدْرِي.
وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَمْنَحْنِي الشَّجَاعَةَ لِأَذْهَبَ إِلَى السَّيِّدَةِ شميتس.
أَنْ أُقْنِعَ نَفْسِي بِأَنَّ أُمِّي، وَالقِسَّ الَّذِي كُنْتُ أُجِلُّهُ، وَأُخْتِي الكُبْرَى، لَوْ تَأَمَّلُوا بِعُمْقٍ، لَمَا مَنَعُونِي، بَلْ لَدَعَوْنِي لِلذَّهَابِ، تِلْكَ كَانَتْ مَسْأَلَةً.
أَمَّا أَنْ أَذْهَبَ فِعْلًا، فَذَلِكَ كَانَ أَمْرًا آخَرَ تَمَامًا.
وَلا أَعْلَمُ حَتَّى اليَوْمِ لِمَاذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ.
وَلٰكِنِّي أُبْصِرُ الْيَوْمَ فِي مَا جَرَى أَيَّامَئِذٍ نَمَطًا خَفِيًّا، صَارَ لَاحِقًا خَيْطًا نَاظِمًا بَيْنَ فِكْرِي وَفِعْلِي، تَلَاءَمَا أَحْيَانًا، وَتَنَاكَفَا فِي أُخْرَيَاتٍ كَثِيرَةٍ.
كُنْتُ أُفَكِّرُ، فَأَخْلُصُ إِلَى نَتِيجَةٍ، ثُمَّ أَجْعَلُهَا قَرَارًا، وَلٰكِنَّ الفِعْلَ كَانَ شَيْئًا آخَرَ، قَدْ يَسِيرُ وَفْقَ القَرَارِ، وَقَدْ يَخْرُجُ عَلَيْهِ.
كَمْ مَرَّةٍ فِي حَيَاتِي فَعَلْتُ مَا لَمْ أَكُنْ قَدْ قَرَّرْتُهُ، وَتَرَكْتُ مَا قَرَّرْتُ أَنْ أَفْعَلَهُ.
هُنَاكَ شَيْءٌ مَا يَتَصَرَّفُ بِي – لَا أَعْرِفُ مَا هُوَ –.
يَذْهَبُ إِلَى امْرَأَةٍ قَرَّرْتُ أَنْ لَا أَرَاهَا مَرَّةً أُخْرَى، وَيَتَفَوَّهُ أَمَامَ المُدِيرِ بِكَلِمَةٍ تَجْلِبُ لِي الْمَتَاعِبَ، وَيُوَاصِلُ التَّدْخِينَ بَعْدَ أَنْ عَزَمْتُ عَلَى الإِقْلَاعِ، ثُمَّ أُقْلِعُ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ أَقْنَعْتُ نَفْسِي بِأَنِّي مُدَخِّنٌ, وسَأَبْقَى كَذٰلِكَ.
لَا أَقُولُ إِنَّ التَّفْكِيرَ وَالقَرَارَ لَا أَثَرَ لَهُمَا عَلَى الفِعْلِ.
وَلٰكِنَّ الفِعْلَ لَا يُنَفّذُ بِسَلاَسَةٍ مَا فَكَّرْتَ فِيهِ وَقَرَّرْتَهُ.
لَهُ مَنْبَعُهُ الخَفِيُّ، وَيَجْرِي بِاسْتِقْلَالٍ، كَمَا أَنَّ فِكْرِي هُوَ فِكْرِي، وَقَرَارِي هُوَ قَرَارِي، وَكَذٰلِكَ فِعْلِي، وَإِنْ تَصَرَّفَ بِطَرِيقَةٍ غَامِضَةٍ.
لَمْ تَكُنْ فِي البَيْتِ.
كَانَ بَابُ البِنَايَةِ مُوَاربًا، فَصَعِدْتُ الدَّرَجَ، وَقَرَعْتُ الجَرَسَ، ثُمَّ انْتَظَرْتُ.
قَرَعْتُهُ مَرَّةً أُخْرَى.
كَانَتْ أَبْوَابُ الشِّقَّةِ مَفْتُوحَةً، وَمِنْ خِلَالِ زُجَاجِ بَابِ الدُّخُولِ رَأَيْتُ فِي الرِّوَاقِ المِرْآةَ، وَمِعْطَفَهَا المُعَلَّقَ، وَالسَّاعَةَ.
كُنْتُ أَسْمَعُ نَبْضَ تَكَاتِهَا.
جَلَسْتُ عَلَى الدَّرَجِ وَانْتَظَرْتُ.
لَمْ أَشْعُرْ بِالرَّاحَةِ، كَمَنْ يَتَّخِذُ قَرَارًا وَيَخْشَى عَوَاقِبَهُ، ثُمَّ يُفَاجَأُ أَنَّ الأَقْدَارَ جَنَّبَتْهُ هَذِهِ العَوَاقِبَ.
وَلَمْ أَشْعُرْ بِالْخَيْبَةِ.
كُنْتُ عَازِمًا عَلَى رُؤْيَتِهَا، وَأَنْ أَنْتَظِرَهَا حَتَّى تَعُودَ.
وَكَانَتِ السَّاعَةُ فِي الرِّوَاقِ تدقُّ عِنْدَ كُلِّ رُبْعِ سَاعَةٍ، وَنِصْفِهَا، وَمُنْتَصَفِهَا.
حاوَلْتُ أَنْ أُتابِعَ رَنينَ عَقارِبِ السّاعَةِ وَهَمْسَ دَقّاتِها، أُحْصي تِسْعَمِائَةِ ثانِيَةٍ بَيْنَ كُلِّ دَقَّتَيْنِ، وَلَكِنَّني ما كُنْتُ أَلْبَثُ أَنْ أُشَتَّتَ مرارًا.
فِي السّاحَةِ الْخَلْفِيَّةِ تَعالَى صِراخُ مَنْشارِ النَّجّارِ الْحادِّ، وَمِنْ إِحْدى الشُّقَقِ فِي الْمَبْنَى تَسَلَّلَتْ أَصْواتٌ مُتَشابِكَةٌ، مُوسيقى أَوْ حَديثٌ مُتَقَطِّعٌ، وَتَناوَبَتِ الأَبْوابُ عَلَى الْفَتْحِ وَالإِنْغِلاقِ.
ثُمَّ سَمِعْتُ وَقْعَ خُطُواتٍ مُنْتَظِمَةٍ، بَطِيئَةٍ وَثَقِيلَةٍ، تَصْعَدُ السُّلَّمَ نَحْوي. تَمَنَّيْتُ لَوْ أَنَّ الْقادِمَ يَسْكُنُ فِي الطّابِقِ الثّانِي، فَما كُنْتُ لِأُحْسِنَ تَفْسِيرَ وُجُودِي هُنا إِنْ رَآني. غَيْرَ أَنَّ الْخُطُواتِ لَمْ تَتَوَقَّفْ هُناكَ، بَلْ واصَلَتِ الصُّعُودَ. نَهَضْتُ واقِفًا. كانَتْ هِيَ، السَّيِّدَةُ شْمِيتْس.
كانَتْ تَحْمِلُ فِي يَدٍ سَلَّةَ فَحْمِ الكوكِ، وَفِي الْأُخْرَى وِعاءَ الْفَحْمِ الْمَضْغُوطِ. كانَتْ تَرْتَدِي زِيًّا رَسْمِيًّا، جاكِيتْ وَتَنُّورَةً، وَأَدْرَكْتُ أَنَّها تَعْمَلُ مُحَصِّلَةً فِي التِّرام. لَمْ تَنْتَبِهْ لِوُجُودِي إِلّا حِينَ وَصَلَتْ إِلَى بَسْطَةِ السُّلَّمِ، وَلَمْ تَرْتَسِمْ عَلَى مَلامِحِها أَيُّ دَهْشَةٍ أَوْ ضِيقٍ أَوْ سُخْرِيَّةٍ – لا شَيْءَ مِنْ كُلِّ ما كُنْتُ أَخْشاهُ. كانَتْ فَقَطْ مُتْعَبَةً.
وَما إِنْ وَضَعَتِ الْفَحْمَ جانِبًا وَراحَتْ تُفَتِّشُ عَنِ الْمِفْتاحِ فِي جَيْبِ سُتْرَتِها، حَتّى سَقَطَتْ بَعْضُ النُّقُودِ الْمَعْدِنِيَّةِ عَلَى الأَرْضِ فَأَصْدَرَتْ رَنَّةً خَفِيفَةً. الْتَقَطْتُها وَأَعَدْتُها إِلَيْها. فَقالَتْ لِي بِهُدُوءٍ:
فِي الْقَبْوِ، هُناكَ سَلَّتانِ بَعْدُ. هَلْ تَمْلَؤُهُما وَتُحْضِرُهُما إِلَى الأَعْلَى؟ الْبابُ مَفْتُوحٌ.
ثُمَّ انْطَلَقْتُ مُهَرْوِلًا أَهْبِطُ الدَّرَجَ.
كانَ بابُ الْقَبْوِ مُشْرَعًا، وَالنُّورُ فِيهِ مُشْتَعِلًا، وَفِي أَسْفَلِ الدَّرَجِ الطَّوِيلِ وَجَدْتُ حُجْرَةً خَشَبِيَّةً بابُها نِصْفُ مُغْلَقٍ، وَالْقُفْلُ الْحَلَقِيُّ مُعَلَّقٌ فِي الْمِزْلاجِ دُونَ أَنْ يُغْلَقَ. كانَتِ الْغُرْفَةُ واسِعَةً، يَتَراكَمُ فِيهَا فَحْمُ الكوكِ حَتّى يَصِلَ إِلَى الْفَتْحَةِ فِي السَّقْفِ الَّتِي يُدْفَعُ مِنْها الْفَحْمُ مِنَ الشّارِعِ إِلَى الدَّاخِلِ.
إِلَى يَسارِ الْبابِ، كانَتْ قَوالِبُ الْفَحْمِ الْمَضْغُوطِ مَرْصُوصَةً بِانْتِظامٍ، وَعَلَى الْيَمِينِ انْتَصَبَتْ سَلّاتُ الْفَحْمِ. لا أَدْرِي ما الْخَطَأُ الَّذِي اقْتَرَفْتُهُ. فَقَدْ كُنْتُ فِي بَيْتِنا أُحْضِرُ الْفَحْمَ مِنَ الْقَبْوِ أَيْضًا، وَلَمْ أُواجِهْ أَيَّ صُعُوبَةٍ قَطُّ. وَلَكِنَّ فَحْمَ الكوكِ هُناكَ لَمْ يَكُنْ مُكَدَّسًا بِهذَا الاِرْتِفاعِ.
كَانَ مَلْءُ السَّلَّةِ الأُولَى يَسِيرًا. وَلَكِنْ عِنْدَمَا أَمْسَكْتُ بِالْمِقْبَضَيْنِ لِمَلْءِ السَّلَّةِ الثَّانِيَةِ وَبَدَأْتُ أَلْتَقِطُ الْفَحْمَ مِنْ أَسْفَلِ الْكَوْمَةِ، تَحَرَّكَ الْجَبَلُ. رَاحَتْ قِطَعٌ صَغِيرَةٌ تَقْفِزُ مِنْ أَعْلَى، تَتَدَحْرَجُ بِخِفَّةٍ، ثُمَّ تَبِعَتْهَا كُتَلٌ أَكْبَرُ بِحَرَكَاتٍ غَيْرِ مُنْتَظَمَةٍ. فِي الْأَسْفَلِ، صَارَ الأَمْرُ اِنْزِلَاقًا، ثُمَّ تَدَحْرُجًا وَدَفْعًا. اِنْتَشَرَتْ سَحَابَةٌ سَوْدَاءُ مِنَ الْغُبَارِ فِي الْهَوَاءِ. تَجَمَّدْتُ فِي مَكَانِي مَذْهُولًا، أَصَابَتْنِي بَعْضُ الْكُتَلِ الْمُتَنَاثِرَةِ، وَسُرْعَانَ مَا وَجَدْتُ قَدَمَيَّ غَارِقَتَيْنِ حَتَّى الْكَاحِلَيْنِ فِي الْفَحْمِ.
حِينَ هَدَأَ الْجَبَلُ أَخِيرًا، خَرَجْتُ بِحَذَرٍ مِنْ كَوْمَةِ الْفَحْمِ، وَمَلَأْتُ السَّلَّةَ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ بَحَثْتُ عَنْ مِكْنَسَةٍ فَوَجَدْتُهَا، فَبَدَأْتُ أَكْنُسُ مَا تَدَحْرَجَ مِنْ قِطَعٍ إِلَى مَمَرِّ الْقَبْوِ وَأُعِيدُهَا إِلَى دَاخِلِ الْحُجْرَةِ الْخَشَبِيَّةِ.
أَغْلَقْتُ الْبَابَ بِإِحْكَامٍ، وَحَمَلْتُ السَّلَّتَيْنِ إِلَى الأَعْلَى.
كَانَتْ قَدْ خَلَعَتْ سُتْرَتَهَا، وَأَرْخَتِ الرَّبْطَةَ حَوْلَ عُنُقِهَا، وَفَكَّتِ الزِّرَّ الأَعْلَى مِنْ قَمِيصِهَا، وَجَلَسَتْ عِنْدَ مَائِدَةِ الْمَطْبَخِ وَفِي يَدِهَا كَأْسُ حَلِيبٍ.
نَظَرَتْ إِلَيَّ، ثُمَّ ضَحِكَتْ أَوَّلًا بِخُفُوتٍ مَكْتُومٍ، قَبْلَ أَنْ تَنْفَجِرَ ضَاحِكَةً مِنْ أَعْمَاقِهَا. أَشَارَتْ إِلَيَّ بِإِصْبَعِهَا، وَبِالْيَدِ الأُخْرَى صَفَعَتِ الطَّاوِلَةَ.
مَا هَذَا الشَّكْلُ يَا صَبِيُّ؟! مَا هَذَا الشَّكْلُ؟!
نَظَرْتُ إِلَى المِرْآةِ المُعَلَّقَةِ فَوْقَ المَغْسَلَةِ، فَرَأَيْتُ وَجْهِي مُغَطًّى بِالسَّوَادِ، فَضَحِكْتُ بِدَوْرِي. قَالَتْ وَهِيَ تَنْهَضُ:
لَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَعُودَ إِلَى البَيْتِ هَكَذَا. سَأَمْلَأُ لَكَ حَوْضَ الِاسْتِحْمَامِ وَأُنَفِّضُ مَلَابِسَكَ.
اِتَّجَهَتْ إِلَى الحَمَّامِ، وَفَتَحَتْ صُنْبُورَ المَاءِ. أَخَذَ المَاءُ يَتَدَفَّقُ فِي الحَوْضِ هَادِرًا بِالبُخَارِ. قَالَتْ وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَيَّ:
اِخْلَعْ مَلَابِسَكَ بِحَذَرٍ، لَا أُرِيدُ الغُبَارَ الأَسْوَدَ فِي المَطْبَخِ.
تَرَدَّدْتُ، ثُمَّ خَلَعْتُ السِّتْرَةَ وَالقَمِيصَ، ثُمَّ تَوَقَّفْتُ ثَانِيَةً. اِرْتَفَعَ مَنْسُوبُ المَاءِ بِسُرْعَةٍ، وَشَارَفَ الحَوْضُ عَلَى الاِمْتِلَاءِ.
“هَلْ تَنْوِي الِاسْتِحْمَامَ بِالحِذَاءِ وَالسِّرْوَالِ؟ لَنْ أَنْظُرَ أَيُّهَا الصَّبِيُّ!”
وَلَكِنَّهَا، حِينَ أَغْلَقْتُ الصُّنْبُورَ وَخَلَعْتُ حَتَّى السِّرْوَالَ الدَّاخِلِيَّ، نَظَرَتْ إِلَيَّ بِهُدُوءٍ وَثَبَاتٍ. اِحْمَرَّ وَجْهِي خَجَلًا، وَنَزَلْتُ إِلَى الحَوْضِ وَغُصْتُ تَحْتَ المَاءِ.
وَحِينَ خَرَجْتُ مِنَ المَاءِ، كَانَتْ قَدْ خَرَجَتْ إِلَى الشُّرْفَةِ بِمَلَابِسِي. سَمِعْتُهَا وَهِيَ تَضْرِبُ الحِذَاءَ بِبَعْضِهِ، وَتَنْفُضُ السِّرْوَالَ وَالسِّتْرَةَ، ثُمَّ تُنَادِي إِلَى الأَسْفَلِ بِشَيْءٍ لَمْ أَفْهَمْهُ، فَرَدَّ عَلَيْهَا صَوْتٌ مِنْ تَحْتُ، فَضَحِكَتْ مِنْ جَدِيدٍ.
وَعِنْدَمَا عَادَتْ إِلَى المَطْبَخِ، وَضَعَتْ مَلَابِسِي عَلَى الكُرْسِيِّ بِهُدُوءٍ.
رَمَقَتْنِي بِنَظْرَةٍ سَرِيعَةٍ خَاطِفَةٍ، ثُمَّ قَالَتْ:
“خُذِ الشَّامْبُو، وَاغْسِلْ شَعْرَكَ أَيْضًا. سَأُحْضِرُ لَكَ المِنْشَفَةَ حَالًا.”
أَخَذَتْ شَيْئًا مِنْ خِزَانَةِ المَلَابِسِ، وَغَادَرَتِ المَطْبَخَ.
غَسَلْتُ جَسَدِي. كَانَ المَاءُ فِي الحَوْضِ قَدْ تَلَوَّثَ، فَفَتَحْتُ الصُّنْبُورَ لِيَتَدَفَّقَ مَاءٌ جَدِيدٌ، وَغَسَلْتُ وَجْهِي وَرَأْسِي تَحْتَ الشَّلَّالِ المُتَدَفِّقِ. ثُمَّ اِسْتَلْقَيْتُ هُنَاكَ، أُنْصِتُ لِصَوْتِ المِدْفَأَةِ يَتَأَجَّجُ، وَأَشْعُرُ بِنَسِيمٍ بَارِدٍ يَنْسَابُ عَبْرَ فَتْحَةِ البَابِ نِصْفِ المُغْلَقِ، بَيْنَمَا يَلُفُّنِي المَاءُ الدَّافِئُ. كَانَ فِي صَدْرِي شُعُورٌ بِالدِّفْءِ وَالسَّكِينَةِ.
سَكِينَةٌ مُثِيرَةٌ، تَنَامَتْ فِي دَاخِلِي، حَتَّى اشْتَدَّتْ لَدَيَّ رَغْبَةٌ جَامِحَةٌ إِلَيْهَا. لَمْ أَرْفَعْ رَأْسِي حِينَ عَادَتْ إِلَى المَطْبَخِ، بَلْ فَقَطْ حِينَ وَقَفَتْ أَمَامَ الحَوْضِ.
كَانَتْ تَحْمِلُ مُنْشَفَةً كَبِيرَةً، بَاسِطَةً ذِرَاعَيْهَا، وَقَالَتْ:
“هَيَّا!”
استدرتُ بظهري إليها، واعتدلتُ خارِجًا من الماء. فلفَّتْني من الخلفِ بالمنشفةِ من رأسي حتى قدميّ، وبدأتْ تجفّفني. ثمّ تركتِ المنشفةَ تنزلقُ إلى الأرض.
لَمْ أَجْرُؤْ عَلَى الحَرَكَةِ.
اقْتَرَبَتْ مِنِّي، حَتَّى أحْسَسْتُ بِنَفَسِهَا يُلَامِسُ عُنُقِي، وَدِفْءِ جَسَدِهَا يَنْسَابُ نَحْوَ ظَهْرِي. كَانَ فِي قُرْبِهَا شَيْءٌ جَارِفٌ، يَجْتَاحُنِي دُونَ إِذْنٍ، كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَكْشِفَ لِي وَجْهًا آخَرَ لِلْحَيَاةِ.
وَضَعَتْ ذِرَاعَيْهَا حَوْلِي فِي صَمْتٍ، كَمَا لَوْ أَنَّهَا تلفُّ قَلْبِي قَبْلَ جَسَدِي.
ثُمَّ هَمَسَتْ، وَكُلُّ كَلِمَةٍ فِي صَوْتِهَا كَانَتْ تَنْقُرُ نَبْضِي:
“لِهٰذَا جِئْتَ، أَلَيْسَ كَذٰلِكَ؟”
تَلَعْثَمْتُ، وَخَرَجَ صَوْتِي مُنْقَطِعًا، مَا بَيْنَ إِقْرَارٍ وَإِنْكَارٍ:
“أَنَا…”
لَمْ أَعْرِفْ مَاذَا أَقُولُ، لَا “نَعَمْ” وَلَا “لَا”، كَأَنَّ اللُّغَةَ أَخْذَلَتْنِي فِي اللَّحْظَةِ الَّتِي كُنْتُ فِيهَا أَحْوَجَ مَا أَكُونُ إِلَيْهَا.
اسْتَدَرْتُ نَحْوَهَا. لَمْ أَرَ سِوَى مَعَالِمٍ قَرِيبَةٍ، لَكِنَّ حُضُورَهَا كَانَ طَاغِيًا، يَمْلَأُ الْمَكَانَ وَيَخْتَرِقُنِي.
قُلْتُ بِصَوْتٍ خَافِتٍ:
“مَا أَبْهَى جَمَالَكِ!”
ضَحِكَتْ، ثُمَّ قَالَتْ بِخِفَّةٍ دَاخِلَهَا مَسْحَةُ دَهْشَةٍ:
آه، يَا صَبِيِّي، مَا هٰذَا الَّذِي تَقُولُه!
شَبَكَتْ ذِرَاعَيْهَا حَوْلَ عُنُقِي، وَضَمَمْتُهَا أَنَا أَيْضًا، كَمَنْ يَبْتَغِي الْوُصُولَ إِلَى مَلَاذٍ مَفْقُودٍ.
كُنْتُ خَائِفًا.
مِنَ اللَّحْظَةِ، مِنَ الْقُرْبِ، مِنَ الْمَسَافَاتِ الَّتِي تَقْصُرُ فَتُكْشَفُ فِيهَا النُّقَطُ الضَّعِيفَةُ. خِفْتُ أَنْ لَا أُعْجِبَهَا، أَنْ أَكُونَ أَقَلَّ مِمَّا تَتَوَقَّعُ.
وَلَكِنْ، بَعْدَ أَنْ تَلَامَسْنَا، وَأَحْسَسْتُ بِنَفَسِهَا عَلَى وَجْهِي، وَسَكَنَتْ يَدَايَ عَلَى كَتِفَيْهَا،
شَعَرْتُ بِكُلِّ شَيْءٍ يَأْخُذُ مَكَانَهُ الطَّبِيعِيَّ، كَأَنَّ هٰذَا المَوْعِدَ كَانَ مَكْتُوبًا مُنْذُ الْبِدَايَةِ.
كَانَ الاكْتِشَافُ أَشْبَهَ بِرِحْلَةٍ صَامِتَةٍ، لَا يَتَحَدَّثُ فِيهَا اللِّسَانُ، بَلِ القَلْبُ وَالْحِسُّ وَالرِّعْشَةُ الْخَفِيَّةُ.
وَعِنْدَمَا التَقَتْ أَنْظَارُنَا، كَانَ فِي الْعَيْنَيْنِ حِوَارٌ عَمِيقٌ، يَفُوقُ مَا يُقَالُ.
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، أَغْمَضْتُ عَيْنَيَّ، كَأَنَّنِي أُرِيدُ أَنْ أَحْفَظَ هٰذِهِ اللَّحْظَةَ فِي جوفِ الذَّاكِرَةِ. صَرَخْتُ صَرْخَةً صَامِتَةً، قَطَعَتْهَا كَفٌّ رَفِيقَةٌ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا صَدَى الشُّعُورِ يَتَرَدَّدُ فِي أَعْمَاقِي.
في اللَّيلةِ التّالية، وَقعتُ في حُبِّها.
لم أُغمِضْ جَفنًا، وبقيتُ أتقلّبُ في فِراشي، أشتاقُ إليها، وأتخيّلُها بقُربي، أراها في حُلمٍ ليسَ بالنّومِ ولا باليَقظةِ، حتى إذا أفقتُ، وجدتُني أضمُّ وسادةً أو أقبضُ على طرفِ الغطاء.
كانَ فَمي يُؤلِمُني من فَيْضِ القُبَل، وكانَ جَسدي يَنتفِضُ مرارًا، لكنّني أبيتُ أن ألمسَ نفسي. لم أعُد أرغَبُ في الاكتفاءِ بذاتي. أردتُ أن أكونَ معها، فقط معها.
أكنتُ أحبُّها لأردَّ بذلكَ ما منحَتني إيّاه؟
لا أدري، ولكنّني – حتّى اليوم – بعدَ كلِّ لَيلةٍ أقضيها معَ امرأة، أشعرُ وكأنّني نِلتُ نعمةً لا أستحقُّها، فيتملّكني وجْدانٌ يُلِحُّ عليَّ أن أردَّ الدَّين: إمّا بأن أُحِبَّها بِقَدْرِ ما أستطيع، أو بأن أُقِرَّ لهذا العالمِ بما وهبَني، وأعترفَ له بسرّ النعمة.
إِحْدَى ذِكْرَيَاتِي القَلِيلَةِ الوَاضِحَةِ مِنْ طُفُولَتِي البَاكِرَةِ تَعُودُ إِلَى صَبَاحِ شِتَاءٍ حِينَ كُنْتُ فِي الرَّابِعَةِ.
كَانَتِ الغُرْفَةُ الَّتِي أَنَامُ فِيهَا بِلَا تَدْفِئَةٍ، وَالبَرْدُ شَدِيدًا فِي اللَّيْلِ وَالصَّبَاحِ.
أَتَذَكَّرُ دِفءَ المَطْبَخِ، وَلَهِيبَ الموقِدِ الحَدِيدِيِّ الثَّقِيلِ، حَيْثُ كُنْتُ أُبْصِرُ اشْتِعَالَ النَّارِ فِيهِ إِذَا رَفَعَتْ أُمِّي الغِطَاءَ المَعْدَنِيَّ الثَّقِيلَ بِخطَّافِهَا. وَكَانَ هُنَاكَ حَوْضٌ صَغِيرٌ دَافِئٌ أَبَدًا.
وَضَعَتْ أُمِّي كُرْسِيًّا أَمَامَ الموقِدِ، وَوَقَفْتُ عَلَيْهِ، وَبَدَأَتْ تَغْسِلُنِي وَتُلْبِسُنِي.
أَتَذَكَّرُ دِفءَ تِلْكَ اللَّحْظَةِ، وَنَعِيمَ أَنْ يُغْسَلَ جَسَدِي وَيُلْبَسَ فِي حِضْنِ النَّارِ.
وَأَتَذَكَّرُ أَيْضًا أَنَّنِي، كُلَّمَا عَادَتْ هَذِهِ الذِّكْرَى إِلَى ذَاكِرَتِي، تَسَاءَلْتُ: لِمَاذَا دَلَّلَتْنِي أُمِّي إِلَى هَذَا الحَدِّ؟
أَكُنْتُ مَرِيضًا؟ أَمْ كَانَ هُنَاكَ مَا نَالَهُ إِخْوَتِي وَلَمْ أَنَلْهُ أَنَا؟ أَمْ كَانَ فِي اليَوْمِ التَّالِي مَا يُنْذِرُ بِالصُّعُوبَةِ أَوِ الفَقْدِ أَوِ الأَلَمِ، مَا يَتَطَلَّبُ مِنِّي أَنْ أُوَاجِهَهُ بِقُوَّةٍ؟
وَلَعَلَّ مَا زَادَ مِنْ رَغْبَتِي فِي العَوْدَةِ إِلَى المَدْرَسَةِ فِي اليَوْمِ التَّالِي، تِلْكَ المَرْأَةُ الَّتِي دَلَّلَتْنِي فِي الأَمْسِ بِمَا جَعَلَنِي أَسْتَحِي أَنْ أَتَغَيَّبَ.
اِمْرَأَةٌ بِلَا اسْمٍ فِي خَاطِرِي، وَلَكِنَّ حُضُورَهَا فِي نَفْسِي، كَانَ أَقْوَى مِنْ أَيِّ اسْمٍ.
ثُمَّ إِنَّنِي، مِنْ أَعْمَاقِ قَلْبِي، كُنْتُ أَشْتَاقُ لِأَنْ أُظْهِرَ تِلْكَ الرُّجُولَةَ الَّتِي شَعَرْتُ – لِلْمَرَّةِ الأُولَى – أَنَّنِي اكْتَسَبْتُهَا.
لَا، لَمْ يَكُنِ الأَمْرُ اسْتِعْرَاضًا أَجْوَفَ وَلَا تَبَاهِيًا أَجْوَفَ، بَلْ كَانَ شُعُورًا دَاخِلِيًّا غَامِرًا بِالقُوَّةِ وَالتَّفَرُّدِ، رَغْبَةً فِي أَنْ أُوَاجِهَ بِهَا أَقْرَانِي وَمُعَلِّمِيَّ، لَا لِشَيْءٍ إِلَّا لِأَتَلَصَّصَ عَلَى اِنْعِكَاسِهَا فِي أَعْيُنِهِمْ، وَأَقِيسَ صَدَاهَا فِي نَبَرَاتِهِمْ، فِي نَظَرَاتِهِمْ، فِي ذُهُولِهِمُ المُوَاربِ.
كُنتُ – وَإِنْ لَمْ أُحَدِّثْهَا فِي ذَلِكَ – أَتَوَهَّمُهَا تَعْمَلُ حَتَّى المَسَاءِ، وَرُبَّمَا اللَّيْلِ، عَلَى خُطُوطِ التِّرَامِ القَدِيمَةِ، تَتَرَنَّحُ بَيْنَ المَحَطَّاتِ وَالوُجُوهِ، تُوَزِّعُ مَا بِهَا مِنْ صَمْتٍ وَسِرٍّ دُونَ أَنْ تُبَالِيَ.
وَكَيْفَ لِي أَنْ أَرَاهَا، أَنْ أَقْتَنِصَ مِنْهَا لَمْحَةً أَوْ لِقَاءً، إِنْ أَنَا بَقِيتُ حَبِيسَ المَنْزِلِ، لَا أُغَادِرُهُ إِلَّا لِنُزْهَاتِ الاسْتِشْفَاءِ القَصِيرَةِ، المُخَطَّطِ لَهَا سَلَفًا؟
حِينَ عُدْتُ إِلَى البَيْتِ مِنْ عِنْدِهَا، كَانَ أَهْلِي مُلْتَفِّينَ حَوْلَ مَائِدَةِ العَشَاءِ، كَمَا لَوْ أَنَّ شَيْئًا لَمْ يَتَغَيَّرْ، إِلَّا أَنَا.
قَالَ أَبِي، بِصَوْتٍ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الانْزِعَاجُ أَكْثَرَ مِنَ القَلَقِ:
“لِمَ تَأَخَّرْتَ؟ لَقَدْ أَقْلَقْتَ أُمَّكَ كَثِيرًا.”
فَأَجَبْتُهُ، بِصَوْتٍ بَدَا لِي مَأْلُوفًا كَأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنِّي:
“ضِعْتُ فِي الطَّرِيقِ. كُنْتُ أَنْوِي الذَّهَابَ فِي نُزْهَةٍ عَبْرَ مَقْبَرَةِ الشُّهَدَاءِ حَتَّى مُولْكَنْكُور، فَإِذَا بِي أَجِدُ نَفْسِي تَائِهًا، وَوَصَلْتُ أَخِيرًا إِلَى نُوسْلُوخ. وَلَمْ يَكُنْ مَعِي مَالٌ، فَاضْطُرِرْتُ أَنْ أَعُودَ مَاشِيًا.”
رَفَعَ أَبِي حَاجِبَهُ، وَقَالَ سَاخِرًا، وَفِي صَوْتِهِ نَبْرَةُ شَكٍّ مَمْزُوجَةٌ بِبُرُودَةِ المَسَاءِ:
“كَانَ يُمْكِنُكَ أَنْ تَسْتَوْقِفَ أَحَدًا وَتَأْخُذَ تَوْصِيلَةً.”
أُخْتِي الصُّغْرَى كَانَتْ تَفْعَلُ ذَلِكَ أَحْيَانًا، رَغْمَ امْتِعَاضِ وَالِدَيَّ.
أَمَّا أَخِي الأَكْبَرُ، فَقَدْ زَمْجَرَ ضَاحِكًا، لَا يُخْفِي اسْتِهْزَاءَهُ:
“مُولْكَنْكُور وَنُوسْلُوخ؟! هَاتَانِ فِي اتِّجَاهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ تَمَامًا!”
فِيمَا اكْتَفَتْ أُخْتِي الكُبْرَى بِنَظْرَةٍ فَاحِصَةٍ اخْتَرَقَتْنِي، ثُمَّ سَأَلَتْ، بِنَبْرَةٍ حِيَادِيَّةٍ تُخْفِي سُخْرِيَتَهَا تَحْتَ قِنَاعٍ مِنَ الاهْتِمَامِ:
“هَلْ سَتَعُودُ إِلَى المَدْرَسَةِ غَدًا؟”
فَقُلْتُ، وَفِي قَلْبِي قَرَارٌ لَا رَجْعَةَ فِيهِ:
“نَعَمْ، سَأَعُودُ.”
قالتْ، وهي ترفعُ حاجبًا في مَكْرٍ لا تُخطِئُهُ العَيْنُ:
إذًا، انتبِهْ جيِّدًا في حِصَّةِ الجُغْرافيا. هناكَ شَمالٌ وجَنوبٌ، والشَّمسُ تَشرُقُ…
لكنَّ أُمِّي قاطَعَتْها، وقد بدا على وجهِها امتعاضٌ عَميقٌ، وتنهيدةٌ مَحبوسةٌ:
الطَّبيبُ قالَ: لا مَدْرَسَةَ قبلَ ثَلاثةِ أسابيعَ.
رَدَّ أَبي بصوتِه الحازِمِ، دونَ أن يَلتَفِتَ إِلَيَّ:
إِذا كانَ يَستَطيعُ أن يَقطَعَ الطَّريقَ منَ المَقبَرَةِ إلى نُوسلُوخ ذَهابًا وإيَّابًا، فَهُوَ يَستَطيعُ أن يَذهَبَ إلى المَدرَسَةِ. ليسَ العَيبُ في قُوَّتِه، بل في عَقلِه! .
كُنَّا، أَنا وأَخي الأَكبَرَ، كثيرًا ما نَدخُلُ في نِزاعاتٍ مُنذُ الطُّفولةِ؛ جَسَدِيَّةً ولفظيَّةً. وكانَ، بِبِضعِ سِنينَ تَفصِلُ بينَنا، يَسبِقُني دائمًا بِخُطوَةٍ، ويَفوقُني وَزنًا، في كفَّةِ اليَدِ وكفَّةِ الكَلِمَةِ.
ثُمَّ، في وَقتٍ ما، أدرَكتُ عَبَثَ الرَّدِّ عليه، فَاكْتَفَيْتُ بِالصَّمتِ وتَركتُهُ يَصطَدِمُ بِحَماستِه في فَراغٍ لا صَدَى فيه. ومُذْ ذاكَ الحينِ، اقتَصَرَتْ مَعَارِكُهُ على التَّذمُّرِ والتَّأفُّفِ.
سأَلَتْ أُمِّي أَبي وهي تُديرُ وَجهَها نَحوَهُ:
ما رَأْيُكَ؟
وضَعَ السِّكِّينَ والشَّوكَةَ على حافَّةِ الصَّحنِ، مالَ بِجَسَدِه إلى الوَراءِ قَليلًا، وشَبَكَ يَدَيْهِ في حِجرِه. خَيَّمَ الصَّمْتُ، ثُمَّ غاصَ في تَأمُّلٍ طالَ.
كَانَ هَذَا طَقْسَهُ الْمُعْتَادَ، كُلَّمَا وَجَّهَتْ إِلَيْهِ أُمِّي سُؤَالًا يَتَعَلَّقُ بِأَوْلَادِهِ أَوْ بِشُؤُونِ الْبَيْتِ.
وَكُنْتُ، فِي كُلِّ مَرَّةٍ، أَتَسَاءَلُ:
أَحَقًّا يُفَكِّرُ فِيمَا سَأَلَتْهُ؟ أَمْ أَنَّهُ، مَا إِنْ يَدْخُلَ بَوَّابَةَ التَّأَمُّلِ، لَا يَعُودُ قَادِرًا إِلَّا عَلَى الِانْحِدَارِ إِلَى عَالَمِهِ الْخَاصِّ؟ رُبَّمَا حَاوَلَ أَنْ يُجِيبَ، لَكِنَّهُ، بِمُجَرَّدِ أَنْ اِنْزَلَقَ إِلَى حَقْلِ التَّفْكِيرِ، لَمْ يَعْرِفْ كَيْفَ يَعُود مِنْهُ.
كَانَ أُسْتَاذًا لِلْفَلْسَفَةِ؛ وَالتَّفْكِيرُ، بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، لَيْسَ سُلُوكًا، بَلْ نَمَطُ حَيَاةٍ بِأَكْمَلِهَا: تَفْكِيرٌ وَقِرَاءَةٌ وَكِتَابَةٌ وَتَعْلِيمٌ.
كَثِيرًا مَا رَاوَدَنِي شُعُورٌ بِأَنَّنَا، نَحْنُ أَفْرَادَ عَائِلَتِهِ، لَمْ نَكُنْ فِي نَظَرِهِ إِلَّا كَائِنَاتٍ أَلِيفَةً يَأْنَسُ بِهَا.
الْكَلْبُ الَّذِي يُسَرُّ بِإِخْرَاجِهِ لِلنُّزْهَةِ، وَالْقِطَّةُ الَّتِي يُدَلِّلُهَا فِي الْمَسَاءِ لِتُخْرِجَ خَرِيرًا نَاعِمًا. شَيْءٌ جَمِيلٌ، بَلْ ضَرُورِيٌّ أَحْيَانًا. وَلَكِنَّ الْمَهَامَّ الْأُخْرَى – كَشِرَاءِ طَعَامٍ لَهَا، أَوْ تَنْظِيفِ صُنْدُوقِ الرَّمْلِ، أَوِ الذَّهَابِ بِهَا إِلَى الطَّبِيبِ – فَذَاكَ عِبْءٌ ثَقِيلٌ، لَا يَرَاهُ مِنْ عَالَمِهِ، وَلَا يَرُوقُ لَهُ أَنْ يَحْيَاهُ.
كَمْ تَمَنَّيْتُ، لَوْ كُنَّا نَحْنُ حَيَاتَهُ الْحَقِيقِيَّةَ، لَا حَاشِيَةً هَامِشِيَّةً فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ.
كَمْ تَمَنَّيْتُ – لَا سِيَّمَا فِي لَحَظَاتِ الْمَرَضِ وَالِانْكِسَارِ – لَوْ كَانَ أَخِي الْمُتَذَمِّرُ، وَأُخْتِي الصَّغِيرَةُ الْمُشَاغِبَةُ، عَلَى هَيْئَةٍ أُخْرَى. هَيْئَةٍ تَسَعُ الْحُبَّ دُونَ أَنْ تَخْتَبِرَنِي أَوْ تُشْعِرَنِي بِالْعُزْلَةِ.
وَلَكِنْ، فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، جَرَفَنِي شُعُورٌ عَارِمٌ بِحُبِّهِمْ جَمِيعًا.
أُخْتِي الصَّغِيرَةُ… لَا شَكَّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَسِيرًا أَنْ تَكُونَ الْأَصْغَرَ بَيْنَ أَرْبَعَةِ إِخْوَةٍ. لَعَلَّهَا وَجَدَتْ فِي الْوَقَاحَةِ سَبِيلًا لِإِثْبَاتِ وُجُودِهَا، وَالصَّوْتِ الَّذِي لَا يُهْمَلُ.
وَأَخِي الْأَكْبَرُ… لَقَدْ كُنَّا نَتَقَاسَمُ الْغُرْفَةَ ذَاتَهَا، وَذَاكَ كَانَ أَثْقَلَ عَلَيْهِ مِنِّي. خَاصَّةً بَعْدَ أَنْ مَرِضْتُ، وَأُجْبِرَ عَلَى تَرْكِ السَّرِيرِ لِي، لِيَنَامَ عَلَى الْأَرِيكَةِ فِي غُرْفَةِ الْجُلُوسِ.
فَكَيْفَ لَا يَتَذَمَّرُ؟
وَأَبِي…
لِمَ كَانَ يَنْبَغِي لَنَا، نَحْنُ الْأَبْنَاءَ، أَنْ نَكُونَ حَيَاتَهُ؟
كُنَّا نَنْمُو فِي صَمْتٍ لَا يَلْبَثُ أَنْ يُصْبِحَ خُطًى تُفَارِقُ الْعَتَبَةَ، وَتَبْتَعِدُ عَنِ الْمَائِدَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا، كَأَنَّنَا نُهَيِّئُ أَنْفُسَنَا لِلْفَقْدِ الْمُنْتَظَرِ.
في تِلْكَ اللَّحْظَةِ العَابِرَةِ، خُيِّلَ إِلَيَّ أَنَّنَا نَجْلِسُ لِلْمَرَّةِ الأَخِيرَةِ حَوْلَ الْمَائِدَةِ الْمُسْتَدِيرَةِ، تَحْتَ ثرِيَّا النُّحَاسِ ذَاتِ الْأَذْرُعِ الْخَمْسِ وَالشُّموعِ الْخَمْسِ، نَأْكُلُ مِنَ الأَطْبَاقِ الْقَدِيمَةِ الْمُحَاطَةِ بِخُضْرَةٍ مُتَشَابِكَةٍ تُشْبِهُ غُصُونَ حَنِينٍ لاَ يَذْبُلُ.
تَسَرَّبَتْ إِلَى دَاخِلِي فِكْرَةٌ لَاذِعَةٌ: كَأَنَّهَا آخِرُ جَلْسَةٍ لَنَا، وَآخِرُ مَرَّةٍ تَتَشَابَكُ فِيهَا الْكَلِمَاتُ فَوْقَ هَذَا الْخَشَبِ الْمُعَتَّقِ بِالْمَحَبَّةِ.
كَانَ دَاخِلِي يَتَهَيَّأُ لِودَاعٍ لاَ يُعْلَنُ، وَفِي وَجْهِ ي ظِلُّ الْبَقَاءِ. كُنْتُ حَاضِرًا بِالْجَسَدِ، لَكِنَّ رُوحِي كَانَتْ قَدْ خَطَتْ خُطَاهَا الْأُولَى خَارِجَ الْبَابِ.
اشْتَقْتُ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَبِي، وَأُمِّي، وَإِخْوَتِي، وَتَاقَ قَلْبِي فِي اللَّحْظَةِ ذَاتِهَا لِرُؤْيَةِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ.
أَدَارَ أَبِي نَظَرَهُ نَاحِيَّ، وَقَالَ:
“أَنْتَ سَتَعُودُ إِلَى الْمَدْرَسَةِ غَدًا، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ هَكَذَا قُلْتَ؟”
أَجَبْتُ بِبَسَاطَةٍ: “نَعَمْ.”
أَدْرَكَ حِينَئِذٍ أَنَّنِي وَجَّهْتُ حَدِيثِي إِلَيْهِ، لَا إِلَى أُمِّي، وَأَنِّي لَمْ أَطْلُبْ، بَلْ قَرَّرْتُ.
هَزَّ رَأْسَهُ بِتَأَنٍّ، وَقَالَ:
“فَلْيَكُنْ، دَعْنَا نُرْسِلْكَ إِلَى الْمَدْرَسَةِ. وَإِذَا وَجَدْتَ الْأَمْرَ شَاقًّا، فَلْتَبْقَ فِي الْبَيْتِ مِنْ جَدِيدٍ.”
فِي تِلْكَ الْكَلِمَةِ الْمُوجَزَةِ، تَسَلَّلَ إِلَى صَدْرِي شُعُورٌ بِالرِّضَا، وَتَأَلَّقَ فِي دَاخِلِي ذَلِكَ الْإِحْسَاسُ الْمُبْهَمُ بِأَنَّ لَحْظَةَ الْوَدَاعِ قَدِ اكْتَمَلَتْ.
ثُمَّ جَاءَتِ الْأَيَّامُ الْلَاحِقَةُ خَفِيفَةَ الظِّلِّ، مُتَوَثِّبَةَ الْحَوَاسِّ.
كَانَتْ نَوْبَتُهَا صَبَاحِيَّةً، تَعُودُ إِلَى شَقَّتِهَا عِنْدَ الثَّانِيَةِ عَشْرَةَ تَمَامًا. وَكُنْتُ، فِي كُلِّ يَوْمٍ، أَفُرُّ مِنْ حِصَّتِي الأخِيرَةِ، وَأَنْتَظِرُهَا عِنْدَ مَدْرَجِ السُّلَّمِ، أَمَامَ الْبَابِ الَّذِي يَحْفَظُ صَمْتَهُ لأَجْلِ ابْتِسَامَتِهَا.
نَدْخُلُ سَوِيًّا. نَغْتَسِلُ سَرِيعًا، وَنُمَارِسُ الْحُبَّ كَمَا لَوْ أَنَّنَا نَسْرِقُ لَحْظَةً مِنْ زَمَنٍ لَا يُسَامِحُ.
وَقَبْلَ أَنْ تُشِيرَ السَّاعَةُ إِلَى الْوَاحِدَةِ وَالنِّصْفِ، أَرْتَدِي مَلَابِسِي عَلَى عَجَلٍ، وَأَجْرِي عَائِدًا إِلَى الْبَيْتِ.
عِنْدَ الْوَاحِدَةِ وَالنِّصْفِ بِالضَّبْطِ، كَانَ الْغَدَاءُ يُقَدَّمُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ، يَتَقَدَّمُ الْغَدَاءُ إِلَى الثَّانِيَةِ عَشْرَةَ، أَمَّا نَوْبَتُهَا فَتَتَأَخَّرُ قَلِيلًا، وَتَطُولُ قَلِيلًا.
فِي الْوَاقِعِ، لَمْ أَكُنْ أُحِبُّ أَنْ نَسْتَحِمَّ.
كَانَتْ حَرِيصَةً عَلَى النَّظَافَةِ إِلَى حَدٍّ يَقْتَرِبُ مِنَ الْهَوْسِ، تَسْتَحِمُّ صَبَاحًا قَبْلَ خُرُوجِهَا، وَتَعُودُ بِرَائِحَةٍ لَا تُقَاوَمُ.
كُنْتُ أُحِبُّ أَنْفَاسَهَا حِينَ تَعُودُ: عَبَقًا خَافِتًا مِنْ عِطْرٍ بَدَأَ يَخْبُو، وَعَرَقًا طَازَجًا لَا يَزَالُ يَنْبُضُ بِالْحَرَكَةِ، وَرَائِحَةَ التِّرَامِ الَّتِي تُشْبِهُ الْمَدِينَةَ فِي ذُرُوتِهَا، حِينَ تُعَانِقُكَ بِأَحْضَانٍ مَحْمُومَةٍ وَلَا تُبَرِّرُ شَيْئًا.
وَكُنْتُ، إِلَى جَانِبِ مَا أَحْبَبْتُ فِي لِقَائِنَا مِنْ حَدِيثٍ وَقُرْبٍ وَسَكِينَةٍ، أُحِبُّ جَسَدَهَا حِينَ يَبْتَلُّ بِالْمَاءِ وَيَغْمُرُهُ الصَّابُونُ، كَأَنَّهُ لَوْحَةٌ رَطْبَةٌ مُشِعَّةٌ بِالْحَيَاةِ.
كُنْتُ أَتْرُكُ لَهَا أَنْ تُدَلِّكَ كَتِفَيَّ وَظَهْرِي، فَأَشْعُرُ بِأَنَامِلِهَا تُذِيبُ مَا عَلِقَ فِي دَاخِلِي مِنْ تَوَتُّرٍ، ثُمَّ أُبَادِلُهَا ذَلِكَ، كَمَا عَلَّمَتْنِي: دُونَ خَجَلٍ، بَلْ بِيَقِينٍ هَادِئٍ، وَبِعِنَايَةٍ لَا تَعْتَذِرُ عَنْ رَغْبَتِهَا، بَلْ تَمْضِي بِهَا كَأَنَّهَا حَقًّا مِنْ حُقُوقِ الْقَلْبِ وَالْجَسَدِ.
وَحِينَ كُنَّا نَتَمَاهَى فِي لَحَظَاتِ الشَّوْقِ الصَّافِي، كَانَتْ تَأْخُذُنِي كَأَنَّ مَا بَيْنَنَا بَدِيهَةٌ مِنْ بَدِيهِيَّاتِ الْحُبِّ، لَا تَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ أَوْ اِتِّفَاقٍ.
كَانَ فَمُهَا يَلْتَقِي فَمِي، بِشَغَفٍ لَا يَعْرِفُ التَّرَدُّدَ، وَلِسَانُهَا يَطُوفُ بِلُطْفٍ، تُرْشِدُنِي بِوُضُوحٍ كَأَنَّهَا تَقُولُ: “هُنَا… وَبِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ.”
وَحِينَ تَعْلُو، وَتَسْتَرْسِلُ حَتَّى تَبْلُغَ شَهْوَتَهَا، كُنْتُ أَشْعُرُ أَنَّ وُجُودِي كُلَّهُ قَدْ تَحَوَّلَ إِلَى طَاقَةٍ خَالِصَةٍ تَفِيضُ بِهَا وَمِنْ أَجْلِهَا، وَكَأَنِّي صِرْتُ لَهَا وَحْدَهَا.
لَمْ تَكُنْ تَفْتَقِرُ إِلَى الرِّقَّةِ، وَلَا بَخَلَتْ عَلَيَّ بِلَذَّةٍ نَاعِمَةٍ، لَكِنَّهَا فِي الْبَدْءِ، بَدَتْ كَأَنَّهَا تَخُوضُ لَعْبَتَهَا، تَعْرِفُ قَوَانِينَهَا، وَتَتَحَكَّمُ بِمَسَارِهَا دُونَ شَرِيكٍ.
وَلَمْ يَكُنْ أَمَامِي إِلَّا أَنْ أَتَعَلَّمَ، عَلَى مَهْلٍ، كَيْفَ أُقَابِلُ التَّمَلُّكَ بِالتَّمَلُّكِ، وَأَنْ أَسْتَعِيدَ شَيْئًا مِنَ الْمُبَادَرَةِ، وَنَصِيبِي مِنَ السَّيْطَرَةِ. غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ، إِنْ حَدَثَ، فَلَمْ يَحْدُثْ كَامِلًا، وَرُبَّمَا لَمْ أُتْقِنْهُ يَوْمًا، وَلَمْ أَكُنْ أَبْحَثُ عَنْهُ أَصْلًا.
كُنْتُ فِي عُمْرٍ تَأْتِي فِيهِ الْأَشْيَاءُ سَرِيعًا، وَتَزُولُ سَرِيعًا.
وَحِينَ أَسْتَعِيدُ أَنْفَاسِي شَيْئًا فَشَيْئًا، كُنْتُ أَتْرُكُ لَهَا جَسَدِي، طَواعِيَةً وَرِضًا، لِتَفْعَلَ بِهِ مَا تَشَاءُ.
كُنْتُ أَتَأَمَّلُهَا، وَهِيَ تَعْلُو عَلَى صَدْرِي، فَأَرَى فِي بَطْنِهَا طَيَّةً صَغِيرَةً فَوْقَ السُّرَّةِ، وَفِي ثَدْيَيْهَا فَرْقًا طَفِيفًا فِي التَّكْوِينِ، وَفِي وَجْهِهَا اِنْفِتَاحًا عَجِيبًا كَأَنَّ الْحَيَاةَ كُلَّهَا تَخْرُجُ مِنْ فَمِهَا مَعَ أَنْفَاسِهَا.
كَانَتْ تَضَعُ كَفَّيْهَا عَلَى صَدْرِي، وَفِي اللَّحْظَةِ الْأَخِيرَةِ، تَرْفَعُهُمَا فَجْأَةً، وَتَنْتَزِعُ شَهْقَتَهَا بِصَوْتٍ مَكْتُومٍ، مُتَقَطِّعٍ، كَأَنَّهُ صَدَرَ مِنْ كَهْفٍ دَاخِلِيٍّ لَا يُرَى.
فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، أَرْعَبَنِي ذَاكَ الصَّوْتُ. أَمَّا لَاحِقًا، فَصَارَ الْعَلاَمَةَ الَّتِي أَنْتَظِرُهَا بِشَوْقٍ يَكَادُ يَخْنُقُنِي.
ثُمَّ نُنْهَكُ. تَنَامُ فَوْقِي فِي أَغْلَبِ الْأَحْيَانِ، بَيْنَمَا أَسْمَعُ، كَأَنِّي فِي بُعْدٍ آخَرَ، مِنْشَارَ النَّجَّارِينَ فِي الْفِنَاءِ، وَصِيَاحَهُمْ وَهُمْ يَدْفَعُونَ أَجْسَادَهُمْ فِي صِرَاعٍ مَعَ صَخْبِ الْآلَاتِ.
وَحِينَ يَهْدَأُ الْمِنْشَارُ، تَتَسَلَّلُ ضَوْضَاءُ الشَّارِعِ الْمُمْتَدِّ أَمَامَ مَحَطَّةِ الْقِطَارِ إِلَى الْمَطْبَخِ، خَافِتَةً أَوَّلَ الْأَمْرِ، ثُمَّ تَزْدَادُ اتِّسَاعًا، كَأَنَّ الْعَالَمَ يُذَكِّرُنَا بِوُجُودِهِ.
وَكَانَ إِذَا تَسَلَّلَ إِلَى سَمْعِي صِيَاحُ ٱلصِّبْيَةِ فِي ٱلزُّقَاقِ، وَهُمْ يَجْرُونَ وَيَضْحَكُونَ وَيَتَدَافَعُونَ، عَلِمْتُ أَنَّ ٱلدَّرْسَ قَدِ ٱنْقَضَى، وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ قَدْ بَلَغَتِ ٱلْوَاحِدَةَ.
وَكَانَ ٱلْجَارُ، ٱلَّذِي يَعُودُ إِلَى بَيْتِهِ فِي ٱسْتِرَاحَةِ ٱلْغَدَاءِ، ينثِرُ الحَبَّ للطَّيُورِ عَلَى شُرْفَتِهِ، فَتَأْتِي ٱلْحَمَائِمُ، وَتُهَدْهِدُ بِتَرَنُّمِهَا ٱلْمُتَرَاخِي، كَأَنَّهَا تُغَافِلُ ٱلضَّوْضَاءَ بِنَغْمَةِ ٱلْحَنِينِ.
فِي ٱلْيَوْمِ ٱلسَّادِسِ، أَوِ ٱلسَّابِعِ، وَبِلَا تَقْدِيمٍ، سَأَلْتُهَا:
“مَا ٱسْمُكِ؟”
كَانَتْ مَا زَالَتْ نَائِمَةً فَوْقَ صَدْرِي، ثُمَّ اِنْتَبَهَتْ فَجْأَةً، كَأَنَّهَا سُمِعَتْ نِدَاءً غَامِضًا مِنَ الْأَعْمَاقِ.
كُنْتُ، حَتَّى ذَلِكَ الْحِينِ، أَتَحَاشَى أَنْ أُنَادِيهَا بِشَيْءٍ، لَا “أَنْتِ”، وَلَا “حَضْرَتِكِ”، كَمَا لَوْ أَنَّ النِّدَاءَ نَفْسَهُ كَانَ يُرْبِكُنِي، أَوْ كَأَنَّ الْمَسَافَةَ بَيْنَنَا تُقَاسُ بِالصَّمْتِ، لَا بِالْكَلِمَاتِ.
اِنْتَفَضَتْ فَجْأَةً، وَاسْتَقَامَتْ بِجَسَدِهَا، وَقَالَتْ، بِنَبْرَةٍ مَشُوبَةٍ بِالْحَذَرِ:
“مَاذَا؟”
قُلْتُ وَأَنَا أَنْظُرُ فِي عَيْنَيْهَا:
“مَا اسْمُكِ؟”
رَمَقَتْنِي بِنَظْرَةٍ مُتَوَجِّسَةٍ، سَرِيعَةٍ كَالسَّهْمِ، ثُمَّ قَالَتْ، كَمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَوْثِقَ:
“وَلِمَ تُرِيدُ أَنْ تَعْرِفَ؟”
أَجَبْتُهَا، بِصَوْتٍ خَفِيضٍ، وَكَأَنِّي أُفَتِّشُ فِي الْهَوَاءِ عَنْ حُجَّةٍ بَرِيئَةٍ:
“نَحْنُ… أَنْتِ وَأَنَا… أَنَا أَعْرِفُ كُنْيَتَكِ، لَكِنْ لَا أَعْرِفُ اسْمَكِ الْأَوَّلَ. أُرِيدُ أَنْ أَعْرِفَهُ، أَلَيْسَ فِي ذَلِكَ بِأَسٍ؟”
ضَحِكَتْ، ضَحِكَةً خَفِيفَةً، لَكِنَّهَا لَمْ تَكُنْ عَابِرَةً، بَلْ كَانَتْ تَمْتَدُّ، وَتَجُرُّنِي مَعَهَا. ثُمَّ قَالَتْ:
“لَا شَيْءَ، صَغِيرِي، لَا شَيْءَ خَاطِئٌ فِي ذَلِكَ. اِسْمِي هَانَا.”
ثُمَّ تَابَعَتِ الضَّحِكَ، وَشَيْءٌ مَا فِي ضَحِكِهَا بَدَا أَكْبَرَ مِنَ اللَّحْظَةِ. عَدَانِي ضَحِكُهَا، فَابْتَسَمْتُ.
قَالَتْ وَهِيَ تُرَاقِبُنِي:
“لَقَدْ كُنْتَ تَنْظُرُ إِلَيَّ بِنَظَرَةٍ غَرِيبَةٍ.”
قُلْتُ، وَأَنَا أَسْتَرْجِعُ مَا كُنْتُ فِيهِ:
“كُنْتُ مَا زِلْتُ نِصْفَ نَائِمٍ… وَمَا اسْمُكِ؟”
ظَنَنْتُ، فِي لَحْظَةٍ عَابِرَةٍ، أَنَّهَا تُدْرِكُ مَا أَعْنِيهِ، أَوْ أَنَّهَا تَعْرِفُ.
فِي تِلْكَ الأَيَّامِ، كانَ مِنَ الشَّائِعِ أَنْ نَحْمِلَ كُتُبَ الْمَدْرَسَةِ تَحْتَ الذِّرَاعِ، لا فِي الْحَقِيبَةِ، وَكُنْتُ، حِينَ أَدْخُلُ مَطْبَخَهَا، أَضَعُ دَفَاتِرِي عَلَى الطَّاوِلَةِ، وَاسْمِي مَكْتُوبٌ بِوُضُوحٍ عَلَى الْغِلَافِ، بِخَطٍّ وَاضِحٍ، تَحْتَ وَرَقَةٍ سَمِيكَةٍ تُغَلِّفُ الْكِتَابَ، وَفَوْقَهَا بطَاقَةٌ صَغِيرَةٌ تَشِيرُ إِلَى عُنْوَانِ الدَّفْتَرِ وَاسْمِي الْكَامِلِ.
لَكِنَّهَا، كَمَا بَدَا، لَمْ تُلْقِ بَالًا لِذَلِكَ، أَوْ تَجَاهَلَتْهُ عَمْدًا.
قُلْتُ لَهَا، هَذِهِ الْمَرَّةَ بِوُضُوحٍ:
“أَنَا اسْمِي مِيشَائيِل بِيرْغ.”
رَدَّدَتِ الاسْمَ عَلَى لِسَانِهَا، كَأَنَّهَا تُجَرِّبُهُ، تُقَلِّبُهُ، تَتَذَوَّقُهُ بِبُطْءٍ:
” مِيشَائيِل… مِيشَائيِل… مِيشَائيِل…”
ثُمَّ ابْتَسَمَتْ، وَقَالَتْ وَهِيَ تُلْقِي بِجِسْمِهَا إِلَى الْوَرَاءِ فِي ارْتِيَاحٍ لا يَخْلُو مِنْ عَبَثٍ:
“صَغِيرِي اسْمُهُ مِيشَائيِل… طَالِبٌ فِي الْجَامِعَةِ…”
قَاطَعْتُهَا مُصَحِّحًا، وَابْتِسَامَةٌ خَجُولَةٌ تَرْتَسِمُ عَلَى وَجْهِ:
“تِلْمِيذ.”
“تِلْمِيذٌ فِي الْمَدْرَسَةِ، عُمْرُهُ، مَا أَظُنُّهُ، سَبْعَةَ عَشَرَ؟”
كَانَ فِي صَوْتِهَا مَسْحَةُ تَسَاؤُلٍ مشوبٍ بِخِفَّةٍ مَاكِرَةٍ، لَكِنِّي، وَقَدْ أَغَرَّتْنِي السَّنَتَانِ الإِضَافِيَّتَانِ الَّتَانِ مَنَحَتْنِي إِيَّاهُمَا، أَوْمَأْتُ بِرَأْسِي مُوَافِقًا، وَكَأَنَّ الزَّمَنَ بِيدِهَا يُعْطَى أَوْ يُؤْخَذُ.
“سَبْعَةَ عَشَرَ، وَيُرِيدُ أَنْ يُصْبِحَ يَوْمًا مَا…”
تَوقَّفت، وَبَدَتْ كَأَنَّهَا تَبْحَثُ عَنِّي فِي الْمَجْهُولِ الَّذِي أَحْمِلُهُ.
قُلْتُ، بِصَوْتٍ خَفِيفٍ يَشْبِهُ الْحَرَجَ:
“لَا أَعْرِفُ بَعْدُ مَا أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ.”
ابْتَسَمَتْ، ثُمَّ قَالَتْ بِنَبْرَةٍ تُخْفِي دَهْشَةً حَنُونَةً:
“لَكِنَّكَ تَدْرُسُ بِجِدٍّ.”
“نَوْعًا مَا.”
ثُمَّ، فَجْأَةً، انْسَابَتِ الْكَلِمَاتُ مِنِّي كَمَا لَوْ كُنْتُ أَكْشِفُ عَنْ سِرٍّ صَغِيرٍ كُنْتُ أَخْفِيهِ حَتَّى عَنْ نَفْسِي. قُلْتُ لَهَا إِنَّهَا أَهَمُّ مِنَ الْمَدْرَسَةِ وَالدُّرُوسِ، وَإِنِّي أُفَضِّلُ أَنْ أَقْضِي الْوَقْتَ مَعَهَا بَدَلًا مِنَ الْجُلُوسِ فِي قَاعَةِ الصَّفِّ.
أَضَفْتُ، كَمَنْ يَحْسِمُ أَمْرًا:
“أَنَا سَأَرْسُبُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.”
رَفَعَتْ حَاجبَيْهَا، وَقَالَتْ، وَقَدْ بَدَا فِي صَوْتِهَا اسْتِنْكَارٌ جَادٌّ:
“سَتَرْسُبُ؟ فِي مَاذَا سَتَرْسُبُ؟”
جَلَسَتْ مُعْتَدِلَةً، كَأَنَّ الْحِوَارَ قَدِ اسْتَوَى الآنَ عَلَى جَمْرِهِ، وَأَصْبَحَ لِلْمَرَّةِ الْأُولَى بَيْنَنَا حَقِيقِيًّا، لا مُجَرَّدَ دفْءِ جَسَدِيٍّ أَوْ لُعْبَةِ عُيُونٍ.
قُلْتُ لَهَا:
“فِي الصَّفِّ الْعَاشِرِ. فَاتَتْنِي دُرُوسٌ كَثِيرَةٌ فِي الْأَشْهُرِ الْمَاضِيَةِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ. وَلَوْ أَرَدْتُ أَنْ أُنْجَحَ، لَكَانَ عَلَيَّ أَنْ أَدْرُسَ كَالْمَجْنُونِ. بَلْ، كَانَ عَلَيَّ أَنْ أَكُونَ الآنَ، هَذِهِ اللَّحْظَةَ، فِي الْمَدْرَسَةِ.”
ثُمَّ اعْتَرَفْتُ – وَكَأَنِّي أُقَدِّمُ ذَرِيعَةً مُحَبَّبَةً – بِأَنِّي كُنْتُ أَتَغَيَّبُ عَنْهَا، لِأَكُونَ مَعَهَا.
لَكِنَّهَا، عَلَى غَيْرِ مَا تَوَقَّعْتُ، شَدَّتْ قَامَتَهَا فَجْأَةً، وَقَالَتْ بِصَوْتٍ حَادٍّ فِيهِ نَبْرَةُ أَمْرٍ لا جِدَالَ فِيهِ:
“اِخْرُجْ.”
ثُمَّ أَزَاحَتِ الْغِطَاءَ عَنْ جِسْمِهَا دُونَ تَرَدُّدٍ، وَنَهَضَتْ مِنَ السَّرِيرِ عَارِيَةً، وَقَالَتْ، وَهِيَ تُشِيرُ بِيَدِهَا:
“اِخْرُجْ مِنْ سَرِيرِي. وَلَا تَعُدْ، مَا لَمْ تُنْجِزْ عَمَلَكَ.”
ثُمَّ التَفَتَتْ إِلَيَّ، وَعَيْنَاهَا تَلْمَعَانِ بِحَرَارَةٍ لا تُشْبِهُ الْغَضَبَ تَمَامًا، وَقَالَتْ، مُسْتَهْزِئَةً بِمَا سَمِعَتْهُ لِلْتَوِّ:
“عَمَلُكَ غَبِيٌّ؟ غَبِيٌّ؟ أَتَدْرِي مَا مَعْنَى أَنْ تَبِيعَ بطَاقَاتِ التِّرَامِ وَتَثْقُبَهَا؟”
سَارَتْ نَحْوَ الْمَطْبَخِ بِخُطَى وَاثِقَةٍ، وَمَا زَالَتْ عَارِيَةً، ثُمَّ وَقَفَتْ هُنَاكَ تُمَثِّلُ دَوْرَ الْمُحَصِّلَةِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ تُلَقِّنُنِي دَرْسًا أَخِيرًا لا يُنْسَى.
فَتَحَتْ بِكَفِّهَا الْيُسْرَى حَقِيبَةً صَغِيرَةً، تَحْوِي دَفَاتِرَ الْبِطَاقَاتِ مُرَتَّبَةً بِدِقَّةٍ، مَرَّرَتْ بِإِبْهَامِهَا، الَّذِي غَطَّاهُ وَاقٍ مَطَّاطِيٌّ، عَلَى صَفْحَةِ الدَّفْتَرِ بِلُطْفٍ، ثُمَّ انْتَزَعَتْ تَذْكَرَتَيْنِ كَأَنَّهَا تَخْتَارَانِ قَدَرًا، لَوَّحَتْ بِيَدِهَا الْيُسْرَى، فَمَسَكَتْ بِمَقْبَضِ الْكَلَّابَةِ الْمُعَلَّقَةِ عَلَى مَعْصِمِهَا، وَثَقَبَتِ التَّذْكَرَتَيْنِ، وَاحِدَةً تِلْوَ الأُخْرَى، بِدِقَّةٍ مُتَأَنِّيَةٍ.
“تَذْكَرَتَانِ إِلَى رُورْبَاخ.”
أَفْلَتَتِ الزِّرَّ بِهُدُوءٍ، مَدَّتْ يَدَهَا لِأَخْذِ وَرَقَةٍ نَقْدِيَّةٍ، فَتَحَتْ حَقِيبَةَ النُّقُودِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ بَطْنِهَا، وَضَعَتِ الْوَرَقَةَ بِرِفْقٍ دَاخِلَهَا، ثُمَّ أَغْلَقَتْهَا بِعِنَايَةٍ، وَضَغَطَتْ بِأَصَابِعِهَا عَلَى خَزَائِنِ النُّقُودِ الصَّغِيرَةِ الْمُثَبَّتَةِ مِنَ الْخَارِجِ، فَخَرَجَتِ الْفِكَّةُ بَيْنَ أَنَامِلِهَا.
“مَنْ الَّذِي لَمْ يَحْصُلْ بَعْدُ عَلَى تَذْكَرَتِهِ؟”
نَظَرَتْ إِلَيَّ مُبَاشَرَةً، فِي عَيْنَيْهَا لَمْعَةٌ تَفْضَحُ مَا وَرَاءَ الْكَلِمَاتِ، ثُمَّ قَالَتْ بِنَبْرَةٍ قَاسِيَةٍ، يَخْتَلِطُ فِيهَا التَّحَدِّي وَالْلَوْمُ:
“غَبِيٌّ أَنْتَ؟ … بَلْ لا تَعْرِفُ مَا مَعْنَى الْغَبَاءِ.”
كُنْتُ جَالِسًا عَلَى طَرَفِ السَّرِيرِ، ذِهْنِي مُشَوَّشٌ، وَكَأَنَّ صَفْعَةً فَجَائِيَّةً أَيْقَظَتْنِي مِنْ وَهْمٍ عَمِيقٍ.
قُلْتُ بِخَفُوتٍ، كَمَنْ يَخْشَى أَنْ يَخْسَرَ شَيْئًا ثَمِينًا:
“أَنَا آسِفٌ. سَأُنْجِزُ عَمَلِي.”
أَضَفْتُ، غَيْرَ وَاثِقٍ مِنَ النَّتِيجَةِ:
“لا أَدْرِي إِنْ كُنْتُ سَأَنْجَحُ. بَعْدَ سِتَّةِ أَسَابِيعَ يَنْتَهِي الْعَامُ الدِّرَاسِيُّ.”
“سَأُحَاوِلُ.”
ثُمَّ هَمَسْتُ بِصَوْتٍ يَكَادُ لا يُسْمَعُ:
“لَكِنِّي لَنْ أَسْتَطِيعَ إِنْ لَمْ أَعُدْ أَرَاك. أَنَا…”
كُنْتُ عَلَى وَشْكِ أَنْ أَقُولَ:
“أَنَا أُحِبُّك.”
لَكِنِّي تَرَاجَعْتُ، فَالاعْتِرَافُ كَانَ ثَقِيلًا عَلَى ثِقَلِ اللَّحْظَةِ.
رُبَّمَا كَانَتْ مُحِقَّةً، بَلْ لا شَكَّ أَنَّهَا مُحِقَّةٌ.
لَكِنَّ لَمْ يَكُنْ مِنْ حَقِّهَا أَنْ تُعَلِّقَ لِقَاءَنَا بِشَرْطِ أَنْ أَدْرُسَ أَكْثَرَ.
“لا أَسْتَطِيعُ أَلَّا أَرَاك.”
رَنَّ جَرَسُ السَّاعَةِ فِي الرَّدْهَةِ، مُعْلِنًا الثَّانِيَةَ وَالنِّصْفَ.
قَالَتْ، بِنَبْرَةٍ تَزِنُ الْوَقْتَ وَالتَزَمَتْهُ:
“عَلَيْكَ أَنْ تَذْهَبَ.”
بِتَرَدُّدٍ خَفِيفٍ، قَالَتْ بِصَوْتٍ يَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهِ صَدَى قَرَارٍ:
“ابْتِدَاءً مِنَ الْغَدِ أَعْمَلُ فِي النُّوبَةِ الصَّبَاحِيَّةِ. الْخَامِسَةِ وَالنِّصْفِ – عِنْدَهَا أَعُودُ إِلَى الْبَيْتِ، وَيُمْكِنُكَ أَنْ تَأْتِي أَنْتَ أَيْضًا… إِنْ كُنْتَ قَدْ أَنْجَزْتَ عَمَلَكَ قَبْلَهَا.”
وَقَفْنَا عَارِيَيْنِ، وَجْهًا لِوَجْهٍ، لَكِنَّهَا بَدَتْ كَمَا لَوْ أَنَّهَا تَرْتَدِي زِيًّا رَسْمِيًّا صَارِمًا، قَاسِيَةً بَارِدَةً، كَأَنَّهَا بَعِيدَةٌ كُلَّ الْبُعْدِ عَنِ الْحَنَانِ وَالْوُدِّ.
لَمْ أُدْرِكْ مَا الَّذِي يَدُورُ فِي دَاخِلِهَا، هَلْ كَانَتْ تَهْتَمُّ لِأَمْرِي حَقًّا؟ أَمْ أَنَّهَا تَنْظُرُ فَقَطْ إِلَى ذَاتِهَا؟
وَإِنْ كَانَتْ تَرَى عَمَلِي تَافِهًا، فَمَا الْوَصْفُ الَّذِي يَلِيقُ بِعَمَلِهَا إِذَنْ؟
هَلْ جَرَحْتَهَا بِكَلِمَاتِي؟ لَكِنِّي لَمْ أَقُلْ إِنَّ عَمَلِي أَوْ عَمَلَهَا تَافِهٌ!
أَمْ أَنَّهَا لَمْ تَرْغَبْ بِرَجُلٍ فَاشِلٍ بِجَانِبِهَا؟
وَلَكِنْ، هَلْ كُنْتُ حَقًّا عَشِيقَهَا؟
مَا كُنْتُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا؟
بَدَأْتُ أَرْتَدِي ثِيَابِي بِبُطْءٍ، فِي انْتِظَارِ أَنْ تَقُولَ شَيْئًا، أَيَّ شَيْءٍ، لَكِنَّهَا اخْتَارَتِ الصَّمْتَ الْمُتَجَمِّدَ.
وَعِنْدَمَا أَنْهَيْتُ ارْتِدَاءَ مَلَابِسِي، كَانَتْ لَا تَزَالُ وَاقِفَةً هُنَاكَ، عَارِيَةً، جَامِدَةً كَتِمْثَالٍ بِلَا حَيَاةٍ.
وَعِنْدَمَا عَانَقْتُهَا مُودِّعًا، لَمْ تُبَادِلْنِي أَيَّ رَدَّةِ فِعْلٍ.
لِمَاذَا يُغْرِقُنِي هَذَا الْمَشْهَدُ فِي غَيَابِةِ الْحُزْنِ كُلَّمَا اسْتَدْعَيْتُهُ؟
هَلْ هُوَ حَنِينٌ إِلَى لَحْظَةِ سَعَادَةٍ مَضَتْ، مُضَاءَةً بِأَشِعَّةِ الضَّوْءِ الَّتِي لَمْ تَعُدْ؟
كُنْتُ حَقًّا سَعِيدًا فِي الْأَسَابِيعِ الَّتِي تَلَتْ، حِينَ شَرَعْتُ أَدْرُسُ بِجِدٍّ، كَالْمَجْنُونِ، نَجَحْتُ فِي الصَّفِّ، وَأَحْبَبْنَا بَعْضَنَا، كَأَنَّ الْعَالَمَ بِأَسْرِهِ لَا يَعْنِي شَيْئًا غَيْرَنَا.
هَلْ كَانَ الْعِلْمُ وَحْدَهُ سَبَبَ مَا جَاءَ لَاحِقًا؟ أَمْ أَنَّ مَا ظَهَرَ كَانَ كَامِنًا فِي الْأَصْلِ؟ وَلِمَاذَا؟
لِمَاذَا يَتَصَدَّعُ الْجَمِيلُ فِي أَعْيُنِنَا حِينَ نُعَاوِدُ النَّظَرَ إِلَيْهِ، فَقَطْ لِأَنَّهُ خَبَّأَ وَرَاءَهُ حَقَائِقَ قَبِيحَةً؟
وَلِمَاذَا تُفْسِدُ الْحَقِيقَةُ الذِّكْرَى الطَّيِّبَةَ لِسَنَوَاتِ زَوَاجٍ سَعِيدَةٍ، حِينَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْآخَرَ كَانَ، طِيلَةَ تِلْكَ السِّنِينِ، يَخْفِي عَشِيقًا؟
هَلْ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكُونَ سَعِيدًا فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ؟
لَكِنَّهُ كَانَ سَعِيدًا!
أَحْيَانًا، لَا تُخْلِصُ الذِّكْرَى لِلْسَّعَادَةِ، فَقَطْ لِأَنَّ النِّهَايَةَ كَانَتْ مُؤْلِمَةً.
هَلْ سَعَادَةُ الْإِنْسَانِ لَا تَكُونُ صَادِقَةً إِلَّا إِذَا دَامَتْ إِلَى الأَبَدِ؟
وَهَلْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ بِأَلَمٍ إِلَّا إِذَا كَانَ فِي الْأَصْلِ مُؤْلِمًا، وَإِنْ لَمْ نَشْعُرْ بِهِ؟
وَلَكِنْ، مَا هُوَ الْأَلَمُ الَّذِي لَا نَعِيهِ وَلَا نُدْرِكُهُ؟
أَعُودُ بِفِكْرِي إِلَى تِلْكَ الْأَيَّامِ، فَأَرَانِي أَمَامِي…
أَرْتَدِي بَدْلَةً أَنِيقَةً وَرِثْتُهَا عَنْ عَمٍّ ثَرِيٍّ رَاحِلٍ، وَصَلَتْنِي مَعَ عِدَّةِ أَزْوَاجٍ مِنَ الْأَحْذِيَةِ ذَاتِ اللَّوْنَيْنِ: الْأَسْوَدِ وَالْبُنِّيِّ، الْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ، مِنْ جِلْدِ الظِّبَاءِ أَوِ الْجِلْدِ الْأَمْلَسِ.
كَانَتْ ذِرَاعَاَيَّ وَسَاقَايَ أَطْوَلَ مِمَّا يَنْبَغِي، لَا عَلَى الْبدَلِ الَّتِي وَسَّعَتْهَا أُمِّي، بَلْ عَلَى حَرَكَاتِي الَّتِي لَمْ أَعْرِفْ كَيْفَ أُنَسِّقَهَا.
نَظَّارَتِي كَانَتْ نَمُوذَجًا رَخِيصًا مِنْ تَأْمِينِ الصِّحَّةِ، وَشَعْرُ رَأْسِي كُتْلَةٌ فَوْضَوِيَّةٌ لَا يُصْلِحُهَا شَيْءٌ، مَهْمَا حَاوَلْتُ.
لَمْ أَكُنْ مُمَيَّزًا فِي الْمَدْرَسَةِ، لَا بِالضَّعْفِ وَلَا بِالْقُوَّةِ، وَلَا أَظُنُّ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُعَلِّمِينَ كَانُوا يُلَاحِظُونَنِي، وَلَا حَتَّى أُولَئِكَ التَّلَامِيذِ الَّذِينَ يُدِيرُونَ دَفَّةَ الْجَوِّ الْعَامِّ فِي الصَّفِّ.
لَمْ أُحِبَّ شَكْلِي، وَلَا طَرِيقَتِي فِي ارْتِدَاءِ الْمَلَابِسِ أَوِ الْحَرَكَةِ، وَلَا مَا أَنْجَزْتُ، وَلَا الْمَكَانَةَ الَّتِي كُنْتُ أَحْتَلُّهَا.
لَكِنْ، كَمْ مِنَ الطَّاقَةِ كَانَتْ فِي دَاخِلِي!
كَمْ مِنَ الثِّقَةِ بِأَنِّي سَأَكُونُ يَوْمًا جَمِيلًا وَذَكِيًّا، مُتَفَوِّقًا وَمَحَلَّ إِعْجَابٍ!
كَمْ مِنَ التَّوْقِ كَانَ فِي قَلْبِي، وَأَنَا أُقَابِلُ النَّاسَ الْجُدُدَ وَالْمَوَاقِفَ الْجَدِيدَةَ!
هَلْ هَذَا مَا يحْزِنُنِي الآن؟
ذَاكَ الْحَمَاسُ وَالْإِيمَانُ الَّذِي مَلَأَنِي، وَالَّذِي اسْتَخْلَصْتُهُ مِنَ الْحَيَاةِ وَعْدًا لَمْ تَكُنِ الْحَيَاةُ قَادِرَةً عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ، لَا آنَذَاكَ، وَلَا فِي أَيِّ يَوْمٍ؟
أَحْيَانًا، أَرَى فِي وُجُوهِ الْأَطْفَالِ وَالْمُرَاهِقِينَ ذَلِكَ الْحَمَاسَ نَفْسَهُ، ذَلِكَ الْإِيمَانَ نَفْسَهُ، فَأَرَاهُ بِعَيْنِ الْحُزْنِ الَّذِي يَكْسُو نَظْرَتِي إِلَى نَفْسِي فِي الْمَاضِي.
هَلْ هَذَا الْحُزْنُ هُوَ الْحُزْنُ الْحَقِيقِيُّ بِعَيْنِهِ؟
هَلْ هُوَ مَا يُصِيبُنَا حِينَ تَتَصَدَّعُ الذِّكْرَيَاتُ الْجَمِيلَةُ فِي عَوْدَتِهَا، لَيس لأَنَّ الْمَوْقِفَ لَمْ يَكُنْ سَعِيدًا، بَلْ لأَنَّ السَّعَادَةَ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْمَوْقِفِ وَحْدَهُ، بَلْ مِنْ وَعْدٍ ضِمْنِيٍّ لَمْ يُوفَ بِهِ؟
هِيَ – وَيَجِبُ أَنْ أَبْدَأَ بِتَسْمِيَتِهَا “هَانَّا”، كَمَا كُنْتُ أَفْعَلُ آنَذَاكَ – لَمْ تَكُنْ تَعِيشُ مِنْ وَعْدٍ، بَلْ مِنَ اللَّحْظَةِ وَحْدَهَا، وَمِنَ الْوَقْعِ كَمَا هُوَ.
سَأَلْتُهَا عَنْ مَاضِيهَا، فَكَانَ جَوَابُهَا كَأَنَّهَا تُخْرِجُ كَلِمَاتِهَا مِنْ صُنْدُوقٍ قَدِيمٍ مُغبَّرٍ.
نَشَأَتْ فِي “تْرَانْسْلِفَانْيَا”، ثُمَّ جَاءَتْ إِلَى بَرْلِينَ وَهِيَ فِي السَّابِعَةِ عَشَرَةَ، عَمِلَتْ فِي “سِيمِنْز”، وَفِي الْحَادِيَةِ وَالْعِشْرِينَ الْتَحَقَتْ بِالتَّجْنِيدِ.
وَمُنْذُ أَنْ انْتَهَتِ الْحَرْبُ، رَاحَتْ تَتَنَقَّلُ مِنْ عَمَلٍ إِلَى عَمَلٍ، تُقَاتِلُ لِتَعِيشَ.
كَانَ عَمَلُهَا الْحَالِيُّ كَمُحَصِّلَةٍ فِي التِّرَامِ، قَدْ لَاقَى فِي نَفْسِهَا شَيْئًا مِنَ الرِّضَا، لَا لِذَاتِهِ، بَلْ لِزِيِّهِ الْمُوَحَّدِ، وَلِلْحَرَكَةِ الدَّائِمَةِ، وَلِتَبَدُّلِ الْمَشَاهِدِ، وَلِهَدِيرِ الْعَجَلَاتِ تَحْتَ قَدَمَيْهَا. أَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ، فَلَمْ يَكُنْ يُعْجِبُهَا فِيهِ شَيْءٌ.
لَمْ تَكُنْ تَمْلِكُ عَائِلَةً. كَانَتْ فِي السَّادِسَةِ وَالثَّلَاثِينَ.
وَحِينَ حَدَّثَتْنِي بِكُلِّ هَذَا، بَدَا كَأَنَّهَا تَسْرُدُ حَيَاةَ شَخْصٍ آخَرَ، لَا تَعْرِفُهُ جَيِّدًا، وَلَا تَعْنِيهَا تَفَاصِيلُهُ.
وَحِينَ رَغِبْتُ فِي التَّعَمُّقِ أَكْثَرَ، لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُ مَا أُرِيدُ، وَلَمْ تَفْهَمْ لِمَاذَا يُهِمُّنِي أَنْ أَعْرِفَ مَا آلَى إِلَيْهِ وَالِدَاهَا، أَوْ إِنْ كَانَتْ قَدْ عَرَفَتْ إِخْوَةً، أَوْ كَيْفَ عَاشَتْ فِي بَرْلِينَ، وَمَاذَا فَعَلَتْ حِينَ كَانَتْ بَيْنَ الْجُنُودِ.
قَالَتْ لِي، وَهِيَ تَضْحَكُ بِنَبْرَةٍ سَاخِرَةٍ:
“مَا أَكْثَرَ مَا تُرِيدُ أَنْ تَعْرِفَهُ، يَا فَتَى!”
وَكَذَلِكَ كَانَتْ نَظْرَتُهَا إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ.
بِالطَّبْعِ، لَمْ أَكُنْ قَدْ شَرَعْتُ بَعْدُ فِي وَضْعِ خُطَطٍ لِلزَّوَاجِ أَوِ الْأُسْرَةِ…
لَكِنَّنِي كُنْتُ أَجِدُ فِي عِلَاقَةِ “جُولِيَانْ سُورِيلْ” بِـ “مَدَامْ دُو رِينَالْ” مَا يُحَرِّكُنِي أَعْمَقَ مِمَّا كُنْتُ أَجِدُهُ فِي عِلَاقَتِهِ بِـ “مَاتِيلْدْ دُو لا مُولْ”.
وَكُنْتُ، فِي نِهَايَةِ الْمَطَافِ، أُفَضِّلُ أَنْ أَرَى “فِيلِيكْسْ كْرُولْ” بَيْنَ ذِرَاعَيْ الْأُمِّ لَا الْابْنَةِ.
وَكَانَتْ أُخْتِي، الَّتِي كَانَتْ تَدْرُسُ الْأَدَبَ الْأَلْمَانِيَّ، تُحَدِّثُنَا عَلَى مَائِدَةِ الطَّعَامِ عَنْ الْجَدَلِ الْقَائِمِ حَوْلَ مَا إِنْ كَانَ “غُوتِهْ” وَ”فْرَاوْ فُونْ شْتَاينْ” عَلَى عِلَاقَةِ حُبٍّ أَمْ لَا، وَكُنْتُ، وَسَطَ دَهْشَةِ الْعَائِلَةِ، أدَافِعُ عَنْ ذَلِكَ بِشِدَّةٍ.
كُنْتُ أَتَخَيَّلُ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ عِلَاقَتُنَا بَعْدَ خَمْسِ سَنَوَاتٍ أَوْ عَشَرٍ.
وَسَأَلْتُ “هَانَّا” كَيْفَ تَتَخَيَّلُهَا هِيَ.
لَكِنَّهَا لَمْ تَكُنْ تُحِبُّ حَتَّى أَنْ تُفَكِّرَ فِي عِيدِ الْفِصْحِ الْقَرِيبِ، حَيْثُ كُنْتُ أُخَطِّطُ لِرِحْلَةٍ بِالدَّرَّاجَةِ مَعَهَا خِلَالَ الْعُطْلَةِ.
قُلْتُ إِنَّهُ يُمْكِنُنَا أَنْ نَأْخُذَ غُرْفَةً وَاحِدَةً وَنَقْضِيَ اللَّيْلَ كُلَّهُ مَعًا كَأُمٍّ وَابْنِهَا.
الْغَرِيبُ فِي الْأَمْرِ أَنَّ هَذِهِ الْفِكْرَةَ لَمْ تَكُنْ تُحْرِجُنِي، وَلَمْ يَكُنِ اقْتِرَاحِي مُخْجِلًا لِي.
لَوْ أَنِّي كُنْتُ فِي رِحْلَةٍ مَعَ وَالِدَتِي، لَقَاتَلْتُ لِأَجْلِ غُرْفَةٍ خَاصَّةٍ بِي.
أَنْ تُرَافِقَنِي أُمِّي إِلَى الطَّبِيبِ أَوْ إِلَى مَحَلِّ بَيْعِ الْمَعَاطِفِ، أَوْ أَنْ تَأْتِيَ لِتُقِلَّنِي مِنْ مَحَطَّةِ الْقِطَارِ، كَانَ يُزْعِجُنِي وَيَجْعَلُنِي أَشْعُرُ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَعُدْ يَلِيقُ بِعُمُرِي.
وَحِينَ كَانَتْ تَسِيرُ بِجَانِبِي فِي الطَّرِيقِ وَنُصَادِفُ زُمَلاءَ مِنَ الْمَدْرَسَةِ، كَانَ الْخَوْفُ يَنْتَابُنِي مِنْ أَنْ أَبْدُو فِي نَظَرِهِمْ “طِفْلًا مُدَلَّلًا”.
لَكِنَّنِي لَمْ أَكُنْ أَجِدُ فِي الظُّهُورِ بِرِفْقَةِ “هَانا” مَا يُثِيرُ فِيَّ ذَلِكَ الإِحْرَاجَ، رَغْمَ أَنَّهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَصْغَرَ مِنْ أُمِّي بِعَشَرِ سَنَوَاتٍ، كَانَ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ أُمِّي أَيْضًا.
بَلْ كُنْتُ أَشْعُرُ بِالْفَخْرِ.
وَالْيَوْمَ، حِينَ أَرَى امْرَأَةً فِي السَّادِسَةِ وَالثَّلَاثِينَ، أَرَاهَا شَابَّةً.
لَكِنَّنِي، حِينَ أُبْصِرُ فَتًى فِي الْخَامِسَةِ عَشَرَةَ، لَا أَرَاهُ إِلَّا طِفْلًا.
وَأُعْجَبُ الْآنَ، كَمْ مِنَ الثِّقَةِ مَنَحْتْنِي “هَانا”.
لَقَدْ بَدَأَ أَدَائِي الْمَدْرَسِيُّ يَتَحَسَّنُ عَلَى نَحْوٍ لَافِتٍ، حَتَّى إِنَّ الْمُعَلِّمِينَ أَخَذُوا يُلَاحِظُونِي، وَمَنَحَنِي تِلْكَ النَّتِيجَةُ شُعُورًا عَمِيقًا بِأَنَّ احْتِرَامَهُمْ لِي قَدْ بَدَأَ.
وَالْفَتَيَاتُ اللَّوَاتِي كُنْتُ أُصَادِفُهُنَّ، كُنَّ يُدْرِكْنَ أَنَّنِي لَا أَهَابُهُنَّ، وَكَانَ ذَلِكَ يُعْجِبُهُنَّ.
كُنْتُ أَشْعُرُ بِالارْتِيَاحِ فِي جَسَدِي.
وَالذِّكْرَى الَّتِي تُضِيءُ أَوَّلَ لِقَاءَاتِنَا وَتُثَبِّتُهَا فِي الْذَاكِرَةِ بِحَذَافِيرِهَا، هِيَ نَفْسُهَا الَّتِي تَجْعَلُ الْأَسَابِيعَ الْفَاصِلَةَ بَيْنَ حَدِيثِنَا الْأَوَّلِ وَنِهَايَةِ الْعَامِ الدِّرَاسِيِّ تَتَدَاخَلُ وَتَتَمَاهَى.
وَأَحَدُ أَسْبَابِ ذَلِكَ هُوَ الِانْتِظَامُ الصَّارِمُ الَّذِي كُنَّا نَلْتَقِي بِهِ، وَالنَّسَقُ الْوَاحِدُ الَّذِي كَانَتْ تَجْرِي فِيهِ لِقَاءاتُنَا.
وَكَانَ ثَمَّةَ سَبَبٌ آخَرُ لِكُلِّ ذَلِكَ: لَمْ تَكُنْ أَيَّامُ حَيَاتِي مِنْ قَبْلُ بِتِلْكَ الْكَثَافَةِ، وَلَمْ يَكُنْ وَقْتِي يَوْمًا بِذَلِكَ الْاِمْتِلَاءِ وَالسُّرْعَةِ وَالتَّلَاحُمِ.
حِينَ أَسْتَرْجِعُ تِلْكَ الْأَسَابِيعَ الَّتِي قَضَيْتُهَا فِي الدِّرَاسَةِ، أَشْعُرُ كَأَنَّنِي جَلَسْتُ إِلَى مَكْتَبِي وَلَمْ أَنْهَضْ مِنْهُ إِلَّا بَعْدَمَا أَنْهَيْتُ كُلَّ مَا فَاتَنِي أَيَّامَ الْمَرَضِ، كُلَّ الْمُفْرَدَاتِ الَّتِي كَانَ يَجِبُ حِفْظُهَا، وَكُلَّ النُّصُوصِ الَّتِي وجبَ قِرَاءَتُهَا، وَكُلَّ الْبرْهَانَاتِ الرِّيَاضِيَّةِ وَالتَّفَاعُلَاتِ الْكِيمِيَائِيَّةِ الَّتِي تَوَجَّبَ فَهْمُهَا.
أَمَّا عَنْ “جُمُهُورِيَّةِ فَايمَر” وَ”الرَّايْخِ الثَّالِثِ”، فَقَدْ كُنْتُ قَدْ قَرَأْتُ عَنْهُمَا وَأَنَا بَعْدُ فِي الْفِرَاشِ.
وَحَتَّى لِقَاءاتُنَا، حِينَ أُفَكِّرُ بِهَا الْيَوْمَ، تَبْدُو لِي كَأَنَّهَا لِقَاءٌ وَاحِدٌ طَوِيلٌ لَمْ يَنْقَطِعْ.
مُنْذُ حَدِيثِنَا ذَاكَ، بَاتَتْ لِقَاءاتُنَا تَتِمُّ كُلَّ مَسَاءٍ:
إِنْ كَانَتْ نَوْبَتُهَا الْمَسَائِيَّةُ تَبْدَأُ مُتَأَخِّرَةً، التَقَيْنَا مِنَ الثَّالِثَةِ حَتَّى الرَّابِعَةِ وَالنِّصْفِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ، فَعِنْدَ الْخَامِسَةِ وَالنِّصْفِ.
كَانَ الْعَشَاءُ يُقَدَّمُ عِنْدَ السَّابِعَةِ، وَفِي الْبِدَايَةِ كَانَتْ “هَانا” تُصِرُّ أَنْ أَكُونَ فِي الْمَنْزِلِ فِي الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ.
لَكِنْ، بَعْدَ حِينٍ، لَمْ تَعُدِ السَّاعَةُ وَالنِّصْفُ كَافِيَةً، فَبَدَأْتُ أَخْتَلِقُ الْأَعْذَارَ وَأَتَخَلَّى عَنِ الْعَشَاءِ.
وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ، فِي الْبَدْءِ، هُوَ الْقِرَاءَةُ.
فِي الْيَوْمِ التَّالِي لِحَدِيثِنَا الْأَوَّلِ، سَأَلَتْنِي “هَانا” عَمَّا أَدْرُسُهُ فِي الْمَدْرَسَةِ.
حَدَّثْتُهَا عَنْ مَلَاحِمِ “هُومِيرُوس”، وَخُطَبِ “شِيشَرُون”، وَقِصَّةِ “هِمْنْغْوَاي” عَنِ الشَّيْخِ وَالْبَحْرِ وَالسَّمَكَةِ الْكُبْرَى.
أَرَادَتْ أَنْ تَسْمَعَ كَيْفَ تَبْدُو اللُغَتَان الْيُونَانِيَّةِ وَالْلَاتِينِيَّةِ، فَقَرَأْتُ لَهَا مِنْ “الأُودِيسَّا” وَمِنَ الْخُطَبِ ضِدَّ “كَاتِلِينَا”.
قَالَتْ لِي: “أَتَتَعَلَّمُ الْأَلْمَانِيَّةَ أَيْضًا؟”
فَقُلْتُ، مُسْتَغْرِبًا: “مَاذَا تَقْصِدِينَ؟”
قَالَتْ: “هَلْ تَتَعَلَّمُ فَقَطْ اللُّغَاتِ الْأَجْنَبِيَّةَ، أَمْ أَنَّ لُغَتَكَ الْأُمَّ مَا يَسْتَحِقُّ التَّعَلُّمَ أَيْضًا؟”
أَجَبْتُهَا: “نَحْنُ نَقْرَأُ نُصُوصًا.”
كُنْتُ خِلَالَ فَتْرَةِ الْمَرَضِ قَدْ فَوَّتُّ عَلَى صَفِّي قِرَاءَةَ “إِمِيلِيَا غَالُوتِي” وَ”الْمُؤَامَرَةِ وَالْحُبِّ”، وَكَانَ مِنَ الْمُفْتَرَضِ أَنْ نَكْتُبَ عَنْهُمَا قَرِيبًا، فَكَانَ لَا بُدَّ لِي مِنْ قِرَائَتِهِمَا.
كُنْتُ أَفْعَلُ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أَنْتَهِي مِنْ كُلِّ شَيْءٍ آخَرَ، لَكِنْ، حِينَ أَصِلُ إِلَى الْقِرَاءَةِ، يَكُونُ الْوَقْتُ قَدْ تَأَخَّرَ، وَيَكُونُ جَسَدِي قَدْ تَعِبَ، فَأَقْرَأُ ثُمَّ أَنْسَى، وَأَعُودُ فِي الْيَوْمِ التَّالِي لِأَبْدَأَ مِنْ جَدِيدٍ.
قَالَتْ لِي: “اقْرَأْهُ لِي!”
فَقُلْتُ: “اقْرَئِيهِ أَنْتِ، سَأَجْلِبُهُ لَكِ.”
قالَتْ وَهِيَ تَبْتَسِمُ:
لَدَيْكَ صَوْتٌ جَمِيلٌ يَا فَتَى، أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَكَ أَكْثَرَ مِمَّا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِنَفْسِي.
قُلْتُ مُتَرَدِّدًا: آه، لا أَدْرِي…
لَكِنَّ، حِينَ عُدْتُ فِي الْيَوْمِ التَّالِي، وَهَمَمْتُ بِتَقْبِيلِهَا، تَمَلَّصَتْ.
قَالَتْ: يَجِبُ أَنْ تَقْرَأَ لِي أَوَّلًا.
وَكَانَتْ تَعْنِي مَا تَقُولُ.
اضْطُرِرْتُ أَنْ أَقْرَأَ لَهَا مِنْ “إِمِيلِيَا غَالُوتِي” لِنِصْفِ سَاعَةٍ كَامِلَةٍ، قَبْلَ أَنْ تَسْمَحَ لِي بِالدُّخُولِ إِلَى الْحَمَّامِ، ثُمَّ إِلَى الْفِرَاشِ.
وَلَمْ أَكُنْ وَحْدِي منْ بَاتَ سَعِيدًا بَعْدَ ذَلِكَ بِحَمَّامِ الْمَاءِ السَّاخِنِ…
كَانَتِ الرَّغْبَةُ الَّتِي جِئْتُ بِهَا قَدْ تَلَاشَتْ أَثْنَاءَ الْقِرَاءَةِ.
فَأَنْ تَقْرَأَ مَشْهَدًا مَسْرَحِيًّا بِحَيْثُ تُصْبِحُ الشَّخْصِيَّاتُ مُمَيَّزَةً حَيَّةً، يَتَطَلَّبُ قَدْرًا مِنَ التَّرْكِيزِ.
لَكِنْ، مَا إِنْ دَخَلْتُ تَحْتَ دَفْقِ الْمَاءِ فِي الْحَمَّامِ، حَتَّى عَادَتِ الرَّغْبَةُ تَنْمُو فِي دَاخِلِي مِنْ جَدِيدٍ.
الْقِرَاءَةُ، ثُمَّ الْاِسْتِحْمَامُ، فَالْحُبُّ، فَبَعْضُ الْوَقْتِ نَسْتَلْقِي فِيهِ مَعًا…
أَصْبَحَ ذَلِكَ هُوَ الطَّقْسُ الثَّابِتُ لِلِقَاءَتِنَا.
كَانَتْ “هَانا” مُنْصِتَةً مَاهِرَةً.
ضَحِكَتُهَا، شَهْقَتُهَا السَّاخِطَةُ، تَعْلِيقَاتُهَا الْمُدْهِشَةُ أَوِ الْمُوَافِقَةُ، لَمْ تَدَعْ مَجَالًا لِلشَّكِّ,
كَانَتْ تُتَابِعُ الْأَحْدَاثَ بِكُلِّ جَوَارِحِهَا، وَكَانَتْ تَعْتَبِرُ “إِمِيلِيَا” و”لُويْزِه” فَتَاتَيْنِ غَبِيَّتَيْنِ.
وَكَانَتِ النَّفَادَةُ الَّتِي تُقَاطِعُنِي بِهَا أَحْيَانًا وَتَقُولُ: “تَابِعِ الْقِرَاءَةَ!”، تَنْبَعُ مِنْ أَمَلٍ دَاخِلِيٍّ بِأَنَّ الْحَمَاقَةَ سَتَنْتَهِي فِي النِّهَايةِ.
قَالَتْ مَرَّةً، وَهِيَ تَصْرُخُ بِغَيْظٍ: هَذَا لَا يُعْقَلُ!
وَأَنَا نَفْسِي، فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، كُنْتُ أَنْدَفِعُ بِشَغَفٍ إِلَى مُتَابَعَةِ الْقِرَاءَةِ.
وَحِينَ بَدَأَتِ الْأَيَّامُ تُطِيلُ خُطَاهَا، بَدَأْتُ أَقْرَأُ لِوَقْتٍ أَطْوَلَ، لِأَظَلَّ مَعَهَا فِي السَّرِيرِ حَتَّى يَهْبِطَ الْغَسَقُ.
وَعِنْدَمَا كَانَتْ تَغْفُو فَوْقَ صَدْرِي، وَالْمِنْشَارُ فِي الْفَنَاءِ قَدْ سَكَنَ، وَ”السّمنَةُ” تُغَرِّدُ، وَتَتَحَوَّلُ أَلْوَانُ الْمَطْبَخِ إِلَى تَدَرُّجَاتٍ مِنَ الرَّمَادِيِّ، كُنْتُ أَشْعُرُ بِسَعَادَةٍ تَامَّةٍ.
فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْ عُطْلَةِ الْفِصْحِ، اسْتَيْقَظْتُ فِي الرَّابِعَةِ صَبَاحًا.
كَانَتْ “هَانا” تَعْمَلُ فِي الْوَرْدِيَّةِ الصَّبَاحِيَّةِ.
غَادَرَتْ مَنْزِلَهَا فِي الرَّابِعَةِ وَالرُّبْعِ بِدَرَّاجَتِهَا إِلَى مَوْقِفِ التِّرَامِ، ثُمَّ فِي الرَّابِعَةِ وَالنِّصْفِ انْطَلَقَتْ بِهِ نَحْوَ شْفِتْسِينْغِن.
كَانَتْ قَدْ قَالَتْ لِي:
فِي الطَّرِيقِ إِلَى هُنَاكَ، يَكُونُ التِّرَامُ شِبْهَ فَارِغٍ. لَكِنْ فِي طَرِيقِ الْعَوْدَةِ، يَمْتَلِئُ.
رَكِبْتُ فِي الْمَحَطَّةِ الثَّانِيَةِ.
الْعَرَبَةُ الثَّانِيَةُ كَانَتْ خَالِيَةً، بَيْنَمَا كَانَتْ “هَانَّا” وَاقِفَةً فِي الْعَرَبَةِ الْأُولَى قُرْبَ السَّائِقِ.
تردّدتُ: أأجلسُ في العربةِ الأماميّة، أم أختارُ الخلفيّة؟
ثمّ قرّرتُ أن أذهبَ إلى الخلفيّة؛ إذ كانت تُوحي بالخصوصيّة، بعناقٍ مُرتقَب، بقبلةٍ صامتة.
لَكِنَّ “هَانا” لَمْ تَأْتِ.
لَا شَكَّ أَنَّهَا رَأَتْنِي وَأَنَا أَنْتَظِرُ فِي الْمَحَطَّةِ، وَرَأَتْنِي أَصْعَدُ إِلَى الْعَرَبَةِ.
فَالْتِّرَامُ تَوَقَّفَ لِأَجْلِي.
لَكِنَّهَا ظَلَّتْ وَاقِفَةً عِنْدَ السَّائِقِ، تَتَحَدَّثُ وَتَضْحَكُ مَعَهُ.
كُنْتُ أَرَاهَا بِوُضُوحٍ.
مَحَطَّةٌ تِلْوَ الأُخْرَى، مَرَّ بِهَا التِّرَامُ دُونَ تَوَقُّفٍ.
لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَنْتَظِرُ.
وَكَانَتِ الشَّوَارِعُ خَالِيَةً مِنَ النَّاسِ…
لم تَشْرِقِ الشَّمْسُ بَعْدُ، وتحتَ سماءٍ بَيْضاءَ، كانَ كلُّ شيءٍ يَبدُو شاحِبًا في ضوءٍ شاحِبٍ: البيوتُ، السَّياراتُ المتوقِّفة، الأشجارُ الخضراءُ النَّضِرةُ، والشُّجيراتُ المُزهِرةُ، وقرب مَخْزَنُ الغازِ، وفي البُعْدِ الجِبالُ.
كانَ القِطارُ يَسيرُ بِبُطْءٍ؛ وربَّما كانَ جدولُ الرِّحلاتِ مُصمَّمًا على وَقْتِ السَّيرِ والتَّوقُّفِ، فاضطُرَّ إلى تَطْويلِ فَتْراتِ السَّيرِ بسببِ إلغاءِ بعضِ التَّوقُّفاتِ.
كنتُ مَحْبوسًا في القِطارِ البَطِيءِ السَّيرِ.
في البِدايةِ جلَسْتُ، ثمَّ وقَفتُ على المِنصّةِ الأمامِيّةِ، وحاوَلتُ أنْ أثبّتَ نَظري على “هانّا”، كانَ يجبُ أنْ تَشعُرَ بِعَيْنيَّ اللتان تنظران إلى أسفل ظَهْرِها.
بعدَ فترةٍ، استدارتْ ونَظَرَتْ إليَّ من حينٍ لآخر. ثمَّ عادتْ تُحادِثُ السَّائقَ.
واصَلَ القِطارُ رِحلَتَهُ.
خَلْفَ “إبّلهيم”، لم تَكُنِ السِّكَكُ حَديثةً على الطَّريقِ، بَلْ إلى جانِبِه على خَصيبٍ مَشوَّى.
سارَ القِطارُ بِسُرعةٍ أكبرَ، مع طَقْطَقَةٍ مُنتظمةٍ كَصوتِ القِطارِ الحَقِيقِيِّ.
كنت أَعرِفُ أنَّ المَسارَ يَمُرُّ بِأماكِنَ أُخْرَى وينتهي في “شفِتسينغِن”.
لكنَّني كنتُ أشعُرُ بِأنِّي مَطرودٌ، ومُنْفِيٌّ مِنَ العالَمِ الطَّبيعيِّ، الذي يَسْكُنهُ الناسُ ويَعمَلونَ ويُحبُّون.
كأنَّني مَلعونٌ برِحلةٍ بلا هدفٍ ولا نهايةٍ في عربةٍ فارغةٍ.
ثمَّ رأيتُ مَحطّةً، كوخَ انتظارٍ في حقلٍ مفتوح.
سحبتُ الحَبْلَ الذي يُبلّغُ السَّائقَ بالتَّوقُّف أو الانطلاق.
توقَّفَ القِطارُ.
لم تُلقِ “هانّا” أو السَّائقُ نَظرةً إليَّ بعدَ رَنَّةِ الجَرَسِ.
وَعِنْدَمَا نَزَلْتُ، كَانَ لِي شُعُورٌ بِأَنَّهُم يَشَاهِدُونَنِي ضَاحِكِينَ.
لَكِنَّنِي لَمْ أَكُنْ مُتَأَكِّدًا.
ثُمَّ انْطَلَقَ الْقِطَارُ، وَرَصَدْتُه حَتَّى اخْتَفَى أَوَّلًا فِي وَادٍ، ثُمَّ خَلْفَ تَلٍّ.
وَقَفْتُ بَيْنَ السِّكَّةِ وَالطَّرِيقِ، وَحَوْلِي حُقُولٌ وَأَشْجَارُ فَوَاكِهَ، وَعَلَى بُعْدٍ كَانَ هُنَاكَ مَشْتَلُ نَبَاتَاتٍ مُغَطَّى بِزُجَاجٍ.
كَانَ الْهَوَاءُ نَقِيًّا، مَمْلُوءًا بِتَغْرِيدِ الطُّيُورِ.
فَوْقَ الْجِبَالِ كَانَتِ السَّمَاءُ الْبَيْضَاءُ تَتَلَأْلَأُ بِاللَّوْنِ الْوَرْدِيِّ.
كَانَتِ الرِّحْلَةُ فِي الْقِطَارِ كَأَنَّهَا كَابُوسٌ شرِيرٌ.
لَوْ لَمْ أَحْتَفِظْ فِي ذَاكِرَتِي بِتَفَاصِيلِ مَا بَعْدَهُ بِوُضُوحٍ، لَكُنْتُ ظَنَنْتُهَا حُلْمًا سَيِّئًا حَقًّا.
الْوُقُوفُ عِنْدَ الْمَحَطَّةِ، الْاِسْتِمَاعُ إِلَى الطُّيُورِ، وَمُشَاهَدَةُ الشَّمْسِ تشْرقُ كَانَ كَالْصُّحْوِ مِنْ نَوْمٍ عَمِيقٍ.
“لَكِنَّ الْاِسْتِيقَاظَ مِنْ كَابُوسٍ شَرِيرٍ لَا يَجْعَلُ الْمَرْءَ يَشْعُرُ بِالرَّاحَةِ بِالضَّرُورَةِ.
فَقَدْ يُدْرِكُ الْإِنْسَانُ حِينَهَا حَقًّا مَدَى الْفَظَاعَةِ الَّتِي حَلِمَ بِهَا، وَرُبَّمَا الْحَقِيقَةَ الرَّهِيبَةَ الَّتِي صَادَفَهَا فِي مِنَامِهِ.
انْطَلَقْتُ فِي طَرِيقِي إِلَى الْبَيْتِ، وَدُمُوعِي تَسِيلُ عَلَى خَدِّي، وَلَمْ أَتَمَكَّنْ مِنَ التَّوَقُّفِ عَنِ الْبُكَاءِ إِلَّا حِينَمَا وَصَلْتُ إِلَى إِبِّلْهَايْم .
مَشَيْتُ إِلَى الْبَيْتِ سَيْرًا عَلَى الْأَقْدَامِ.
حَاوَلْتُ مَرَّاتٍ عِدَّةً أَنْ أَسْتَوْقِفَ سَيَّارَةً تُوَصِّلُنِي دُونَ فَائِدَةٍ.
حِينَ قَطَعْتُ نِصْفَ الطَّرِيقِ، مَرَّتْ بِجَانِبِي التِّرَامْوَايُ.
كَانَ مَمْلُوءًا.
لَمْ أَرَ هَانا .
كُنْتُ أَنْتَظِرُهَا فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةَ عَشَرَةَ عَلَى مَدْخَلِ دَرَجِ شَقَّتِهَا، حَزِينًا، خَائِفًا، وَغَاضِبًا.
“هَلْ تَتَغَيَّبُ عَنِ الْمَدْرَسَةِ مَرَّةً أُخْرَى؟”
“لَدَيَّ عُطْلَةٌ. مَاذَا حَدَثَ هَذَا الصَّبَاحَ؟”
فَتَحَتِ الْبَابَ، وَتَبِعْتُهَا إِلَى الشَّقَّةِ وَإِلَى الْمَطْبَخِ.
“مَاذَا كَانَ يَجِبُ أَنْ يَحْدُثَ هَذَا الصَّبَاحَ؟”
“لِمَ تَتَصَنَّعِينَ أَنَّكِ لَا تَعْرِفِينَنِي؟ كُنْتُ أُرِيدُ…”
“هَلْ تَتَصَنَّعُ أَنَّكَ لَا تَعْرِفُنِي؟”
اسْتَدَارَتْ وَنَظَرَتْ إِلَى وَجْهِي بِبُرُودٍ قَاتِلٍ.
“أَنْتَ لَمْ تُرِدْ أَنْ تَعْرِفَنِي. رَكِبْتَ الْعَرَبَةَ الثَّانِيَةَ رَغْمَ أَنَّكَ رَأَيْتَنِي فِي الْأُولَى.”
“لِمَ إِذًا أَرْكَبُ إِلَى شْفِتْسِينْغِنَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ عُطْلَتِي السَّاعَةَ الرَّابِعَةَ وَالنِّصْف؟ فَقَطْ لأَنِّي أَرَدْتُ مُفَاجَأَتَكِ، لِأَنِّي ظَنَنْتُ أَنَّكِ سَتَفْرَحِينَ. كُنْتُ أَنْتَظِرُكِ فِي الْعَرَبَةِ الثَّانِيَةِ…”
“يَا لَكَ مِنْ طِفْلٍ مَسْكِينٍ. كُنْتَ قَدِ اسْتَيْقَظْتَ قَبْلَ الْخَامِسَةِ وَالنِّصْفِ، وَهَذَا وَأَنْتَ فِي عُطْلَتِكَ.”
لَمْ أَرَهَا يَوْمًا تَسْخَرُ بِهَذَا الْأَسْلُوبِ.
هَزَّتْ رَأْسَهَا.
“لَا أَدْرِي لِمَاذَا تَذْهَبُ إِلَى شْفِتْسِينْغِنَ. وَلَا لِمَاذَا لَا تُرِيدُ أَنْ تَعْرِفَنِي. هَذَا شَأْنُكَ، لَا شَأْنِي. هَلْ تَذْهَبُ الآنَ؟”
لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَصِفَ مَدَى اسْتِيَائِي وَغَضَبِي.
“هَذَا لَيْسَ عَدْلًا، يَا “هَانا”. كُنْتِ تَعْلَمِينَ، يَجِبُ أَنْ تَعْلَمِي أَنِّي رَكِبْتُ الْقِطَارَ فَقَطْ مِنْ أَجْلِكِ. كَيْفَ تصدِّقِينَ أَنِّي لَمْ أَرْغَبْ فِي مَعْرِفَتِكِ؟ لَوْ لَمْ أَكُنْ أُرِيدُ مَعْرِفَتَكِ، لَمَا رَكِبْتُ الْقِطَارَ أَصْلًا.”
“دَعْنِي وَشَأْنِي. لَقَدْ قُلْتُ لَكَ مِنْ قَبْلُ إِنَّ مَا تَفْعَلُهُ شَأْنُكَ أَنْتَ، وَلَيْسَ لِي.”
وَضَعَتْ نَفْسَهَا بِحَيْثُ صَارَتْ طَاوِلَةُ الْمَطْبَخِ بَيْنَنَا، وَكَانَ نَظَرُهَا، وَصَوْتُهَا، وَإِيمَاءَاتُهَا تُعَامِلُنِي كَغَرِيبٍ دَخَلَ دُونَ إِذْنٍ، وَتَطَالِبُنِي بِالْمَغَادَرَةِ.
جَلَسْتُ عَلَى الأَرِيكَةِ.
عَامَلَتْنِي بِقَسْوَةٍ، وَرَغِبْتُ أَنْ أُوَاجِهَهَا، لَكِنِّي لَمْ أَسْتَطِعِ الاقْتِرَابَ مِنْهَا.
بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، هَاجَمَتْنِي.
وَبَدَأْتُ أَشْعُرُ بِالِارْتِبَاكِ.
هَلْ كَانَتْ عَلَى حَقٍّ، لَيْسَ مِنْ وُجْهَةِ نَظَرٍ مَوْضُوعِيَّةٍ، لَكِنْ مِنْ وُجْهَةِ نَظَرِهَا الشَّخْصِيَّةِ؟
هَلْ كَانَ مِنْ حَقِّهَا أَنْ تَفْهَمَنِي خَطَأً؟
هَلْ جَرَحْتُهَا دُونَ قَصْدٍ، عَلَى غَيْرِ نِيَّتِي، لَكِنِّي جَرَحْتُهَا فِي النِّهَايةِ؟
“أَعْتَذِرُ يَا هَانا. كُلُّ شَيْءٍ سَارَ عَلَى عَكْسِ مَا تَوَقَّعْتُ. لَمْ أَكُنْ أُرِيدُ أَنْ أُؤْذِيَكِ، لَكِنْ يَبْدُو…”
“يَبْدُو؟ تَعْنِي، يَبْدُو أَنِّي جَرَحْتُكِ؟ لَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَجْرَحَنِي، أَنْتَ لَا تَسْتَطِيعُ. هَلْ سَتَذْهَبُ أَخِيرًا؟ لَقَدْ تَعِبْتُ فِي الْعَمَلِ، وَأُرِيدُ الْاِسْتِحْمَامَ، وَأُرِيدُ أَنْ أَحْظَى بِالْهُدُوءِ.”
نَظَرَتْ إِلَيَّ بِتَحَدٍّ.
وَعِنْدَمَا لَمْ أَنْهَضْ، هَزَّتْ كَتفَيْهَا، وَاسْتَدَارَتْ، وَمَلَأَتِ الْحَمَّامَ بِالْمَاءِ، وَخَلَعَتْ ثِيَابَهَا.
وَقْتَهَا نَهَضْتُ وَمَضَيْتُ.
ظَنَنْتُ أَنِّي أَرْحَلُ إِلَى الأَبَدِ.
لَكِن بَعْدَ نِصْفِ سَاعَةٍ، وَجَدْتُ نَفْسِي أَمَامَ الشّقَّةِ مَرَّةً أُخْرَى.
سَمَحَتْ لِي بِالدُّخُولِ، وَتَحَمَّلْتُ كُلَّ شَيْءٍ.
كُنْتُ قَدْ تَصَرَّفْتُ بِلَا تَفْكِيرٍ، بِلَا مُرَاعَاةٍ، وَبِلَا حُبٍّ.
فَهِمْتُ أَنَّهَا كَانَتْ مَجْرُوحَةً.
وَفَهِمْتُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَجْرُوحَةً لِأَنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَجْرَحَهَا.
فَهِمْتُ أَنَّنِي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَجْرَحَهَا، لَكِنَّ سُلُوكِي كَانَ أَمْرًا عَلَيْهَا أَلَّا تَتَحَمَّلَهُ.
وَفِي النِّهَايةِ، كُنْتُ سَعِيدًا لِأَنَّهَا اعْتَرَفَتْ بِأَنِّي جَرَحْتُهَا.
“هَلْ تَغْفِرِينَ لِي؟”
أَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا.
“هَلْ تُحِبُّنِي؟”
أَوْمَأَتْ مجدَدًا بِرَأْسِهَا.
“الْحَوْضُ لَا يَزَالُ مُمتَلِئًا. هَيَّا، سَأُغْسِلُك.”
فِيْمَا بَعْدُ، تَسَاءَلْتُ إِنْ كَانَتْ قَدْ تَرَكَتِ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَعْلَمُ أَنِّي سَأَعُودُ.
هَلْ خَلَعَتْ مَلَابِسَهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ لَنْ يُفَارِقَ ذِهْنِي، وَأَنَّهُ سَيَجْذِبُنِي إِلَيْهَا مجَدَّدًا؟
هَلْ كَانَ الْأَمْرُ مُجَرَّدَ لُعْبَةِ قُوَّةٍ أَرَادَتْ أَنْ تَكْسِبَهَا؟
حِينَ أَحْبَبْنَا بَعْضَنَا وَاسْتَلَقَيْنَا مَعًا، وَرَحَلْتُ إِلَيْهَا بِأَسْبَابِ دُخُولِي الْعَرَبَةَ الثَّانِيَةَ بَدَلَ الْأُولَى، كَانَتْ تُمَازِحُنِي قَائِلَةً:
“حَتَّى فِي الْقِطَارِ تُرِيدُ أَنْ تَلْعَبَ مَعِي؟ يَا فَتَى، يَا فَتَى!”
كَانَ الْأَمْرُ كَأَنَّ سَبَبَ شِجَارِنَا لَمْ يَكُنْ مُهِمًّا فِي الْأَصْلِ.
وَلَكِنَّ نَتِيجَةَ الشِّجَارِ كَانَتْ ذَاتَ مَعْنًى.
لَمْ أَخْسَرْ ذَلِكَ الشِّجَارَ فَقَطْ، بَلِ اسْتَسْلَمْتُ بَعْدَ قِتَالٍ قَصِيرٍ، حِينَ هَدَّدَتْنِي بِالِابْتِعَادِ وَالِانْسِحَابِ مِنِّي.
فِي الْأَسَابِيعِ التَّالِيَةِ، لَمْ أُقَاتِلْ حَتَّى لَمْحَةً بَسِيطَةً.
حِينَ هَدَّدَتْ، اسْتَسْلَمْتُ فَوْرًا بِلَا شُرُوطٍ.
تَحَمَّلْتُ كُلَّ شَيْءٍ.
اعْتَرَفْتُ بِأَخْطَاءِ لَمْ أَرْتَكِبْهَا، وَأَقَرَرْتُ بِنَوَايَا لَمْ تَكُنْ لِي قَطُّ.
حِينَ كَانَتْ بَارِدَةً وَقَاسِيَةً، تَوَسَّلْتُ أَنْ تَعُودَ إِلَيَّ، أَنْ تَغْفِرَ لِي، أَنْ تُحِبَّنِي.
أَحْيَانًا شَعَرْتُ بِأَنَّهَا تُعَانِي هِيَ أَيْضًا مِنْ بُرُودَتِهَا وَجُمُودِهَا.
وَكَأَنَّهَا تَتَوَقُّ إِلَى دَفْءِ اعْتِذَارَاتِي، وَتَأْكِيدَاتِي، وَنِدَائِي الْمُسْتَمِرِّ.
وَأَحْيَانًا ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحْتَفِلُ بِنَصْرِهَا عَلَيَّ فَقَطْ.
لَكِنْ مَهْمَا كَانَ، لَمْ يَكُنْ لِي خيَارٌ.
لَمْ أَكُنْ أَسْتَطِيعُ التَّحَدُّثَ مَعَهَا عَنْ ذَلِكَ.
فَالْحَدِيثُ عَنْ شِجَارِنَا كَانَ يُؤَدِّي دَوْمًا إِلَى مَزِيدٍ مِنَ الشِّجَارِ.
مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ كَتَبْتُ لَهَا رَسَائِلَ طَوِيلَةً، لَكِنَّهَا لَمْ تَرُدْ.
وَعِنْدَمَا اسْتَفْسَرْتُ، رَدَّتْ عَلَيَّ قَائِلَةً: “هَلْ تَبْدَأُ مِنْ جَدِيدٍ؟”
“لَيْسَ صَحِيحًا أَنَّنَا، بَعْدَ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ عُطْلَةِ الرَّبِيعِ، لَمْ نَعُدْ سُعَدَاءَ.”
“لَمْ نَكُنْ أَبَدًا أَكْثَرَ سَعَادَةً مِنْ تِلْكَ الأَسَابِيعِ فِي أَبْرِيلَ.”
رَغْمَ كُلِّ الْمُرَاوَغَاتِ، كَانَ شِجَارُنَا الأَوَّلُ، وَكُلُّ شِجَارِنَا عُمُومًا، مُجَرَّدَ بَابٍ فَتَحَ لَنَا طُقُوسَ الْقِرَاءَةِ، وَالِاسْتِحْمَامِ، وَالْحُبِّ، وَالِاحْتِضَانِ، وَكَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَنَا.
وَأَيْضًا، قَدَّمَتْ هَانَا ادِّعَاءَهَا بِأَنِّي لَمْ أَرْغَبْ بِمَعْرِفَتِهَا.
وَهَذَا التَّحَدِّي جَعَلَهَا مُلْزَمَةً، فَلَوْ أَرَدْتُ الْظُّهُورَ مَعَهَا، لَمْ يَكُنْ بِإِمْكَانِهَا أَنْ تَرْفُضَ مبْدَئِيًّا.
“إِذًا، لَمْ تردْ أَنْ يُرَاكَ النَّاسُ مَعِي” — لَمْ تَرْغَبْ أَنْ تَسْمَعَ هَذَا الْقَوْلَ.
فَانْطَلَقْنَا فِي الْأُسْبُوعِ التَّالِي لِعُطْلَةِ الْفِصْحِ، عَلَى دَرَّاجَاتِنَا، لِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فِي وِيمْفِنَ، وَأَمُورْبَاخَ، وَمِيلْتِنْبِرْغ.
لَا أَتَذَكَّرُ تَمَامًا مَاذَا قُلْتُ لِوَالِدَيَّ.
هَلْ أَخْبَرْتُهُمَا أَنِّي أَذْهَبُ فِي الرِّحْلَةِ مَعَ صَدِيقِي مَاتْثِيَاس؟
أَمْ مَعَ مَجْمُوعَةٍ؟
أَمْ أَنَّنِي سَأَزُورُ زَمِيلًا سَابِقًا فِي الصَّفِّ؟
رُبَّمَا كَانَتْ أُمِّي قَلِقَةً، كَمَا هِيَ الْحَالُ دَوْمًا، وَوَالِدِي، كَمَا هُوَ دَائِمًا، طَمَّأَهَا أَلَّا تَقْلَقَ.
“أَلَمْ أَجْتَزِ الصَّفَّ لِلْتَوِّ، رَغْمَ أَنَّ لَا أَحَدَ كَانَ يَظُنُّ أَنِّي سَأَفْعَلُ؟”
أَثْنَاءَ مَرَضِي، لَمْ أَصْرِفْ مَصْرُوفِي الْأُسْبُوعِيَّ.
وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَنْ يَكْفِي إِذَا أَرَدْتُ أَنْ أَتَحَمَّلَ نَفَقَةَ هَانَا أَيْضًا.
فَقَرَّرْتُ أَنْ أَبِيعَ مَجْمُوعَةَ طَوَابِعِي الْبَرِيدِيَّةِ فِي مَحَلِّ الطَّوَابِعِ قُرْبَ كَنِيسَةِ الرُّوحِ الْقُدُسِ.
كَانَ ذَلِكَ الْمَتْجَرُ الْوَحِيدُ الَّذِي يُعْلِنُ عَلَى بَابِهِ عَنْ شِرَاءِ الْمَجْمُوعَاتِ.
تَفَقَّدَ الْبَائِعُ أَلْبُومَاتِي وَعَرَضَ عَلَيَّ سِتِّينَ مَارْكًا.
أَشَرْتُ إِلَى جَوْهَرَتِي النَّادِرَةِ، طَابِعٍ مِصْرِيٍّ ذُو حَوَافٍ مَقْصُوصَةٍ، عَلَيْهِ هَرَمٌ، مُسَجَّلٌ فِي الْكِتَالُوجِ بِأَرْبَعِمِائَةِ مَارْكٍ.
هَزَّ كَتْفَيْهِ وَقَالَ: “إِذَا كُنْتَ متَمَسِّكًا بِمَجْمُوعَتِكَ هَكَذَا، رُبَّمَا مِنَ الْأَفْضَلِ أَنْ تَحْتَفِظَ بِهَا.”
هَلْ لِي أَنْ أَبِيعَهَا أَصْلًا؟
مَاذَا سَيَكُونُ رَدُّ وَالِدَيَّ؟
حاوَلْتُ التَّفَاوُضَ.
قُلْتُ لَهُ: “إِذَا لَمْ يَكُنْ طَابِعُ الْهَرَمِ ثَمِينًا، فَسَأَحْتَفِظُ بِهِ.”
فَرَدَّ: “فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، يُمْكِنُنِي فَقَطْ أَنْ أُعْطِيَكَ ثَلَاثِينَ مَارْكًا.”
هَلْ يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّ طَابِعَ الْهَرَمِ ثَمِينٌ؟
وَفِي النِّهَايَةِ، حَصَلْتُ عَلَى سَبْعِينَ مَارْكًا.
شَعَرْتُ بِأَنَّنِي خُدِعْتُ، وَلَكِن لَمْ يَكُنْ يَهُمُّنِي كَثِيرًا.
لَمْ أَكُنِ الْوَحِيدَ الْمُتَوَتِّرَ قَبْلَ الرِّحْلَةِ.
لِدَهْشَتِي، كَانَتْ هَانَا أَيْضًا قَلِقَةً قَبْلَ الرِّحْلَةِ بِأَيَّامٍ.
كَانَتْ تُفَكِّرُ كَثِيرًا فِيمَا تَأْخُذُ مَعَهَا، وَأَعَادَتْ تَرْتِيبَ حَقَائِبِ السَّرْجِ وَحَقِيبَةِ الظَّهْرِ الَّتِي جَهَّزَتهَا لَهَا مِرَارًا وَتَكْرَارًا.
وَعِنْدَمَا حَاوَلْتُ أَنْ أُرِيهَا عَلَى الْخَرِيطَةِ الْمَسَارَ الَّذِي خَطَّطْتُ لَهُ، رَفَضَتْ أَنْ تَسْمَعَ أَوْ تَرَى شَيْئًا.
قَالَتْ لِي: “أَنَا مُتَوَتِّرَةٌ الآنَ جِدًّا. أَنْتَ تَعْرِفُ كَيْفَ تَفْعَلُ الْأَمْرَ، يَا فَتَى.”
انْطَلَقْنَا فِي صَبَاحِ يَوْمِ الْإِثْنَيْنِ الَّذِي يَلِي عِيدَ الْفِصْحِ. كَانَتِ الشَّمْسُ تُشِعُّ دِفْءَهَا، وَظَلَّتْ تَشْرُقُ لِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةٍ.
فِي الصَّبَاحِ كَانَ الْجَوُّ نَدِيًّا بَارِدًا، وَفِي النَّهَارِ كَانَ دَافِئًا، لَيْسَ حَارًّا جِدًّا عَلَى دَرَّاجَتِنَا، وَلَكِنْ دَافِئًا بِمَا يَكْفِي لِلْنُّزُولِ إِلَى النُّزهَاتِ.
كَانَتِ الْغَابَاتُ تُشْبِهُ سَجَّادًا خَضْرَاءَ، مِنْ كُلِّ دَرَجَاتِ الْأَخْضَرِ: الْأَصْفَرِ الْمُخَضَّرِ، وَالْأَخْضَرِ الْفَاتِحِ، وَالْأَخْضَرِ الْقَانِي، وَمُرَقَّطَةً بِاللَّوْنِ الْأَزْرَقِ وَالْأَخْضَرِ الدَّاكِنِ، تَتَخَلَّلُهَا بُقَعٌ وَمَنَاطِقُ مُخْتَلِفَةٌ.
فِي سَهْلِ نَهْرِ الرَّايْنِ بَدَأَتْ أَشْجَارُ الْفَاكِهَةِ الأُولَى تَتَفَتَّحُ، وَفِي غَابَاتِ أُودِينْوَالْدِ بَزَغَتْ أَزْهَارُ الْفُورْسِيثِيَا.
كَثِيرًا مَا كُنَّا نسِيرُ جَنْبًا إِلَى جَنْبٍ عَلَى الطَّرِيقِ، نَتَبَادَلُ مَا نَرَاهُ: الْقَلْعَةَ، الصَّيَّادَ، السَّفِينَةَ عَلَى النَّهْرِ، الْخَيْمَةَ، الْعَائِلَةَ الَّتِي تَمْشِي عَلَى شَكْلِ صَفٍّ عِنْدَ الضَّفَّةِ، وَالسَّيَّارَةَ الأَمْرِيكِيَّةَ الْمَكْشُوفَةَ.
حِينَ نَخْتَارُ مَسَارًا أَوْ طَرِيقًا جَدِيدًا، كُنْتُ أَتَقَدَّمُ، فَهِيَ لَمْ تَكُنْ تُرِيدُ أَنْ تُقلِقَ نَفْسَهَا بِالِاتِّجَاهَاتِ أَوِ الطُّرُقِ.
وَكَانَتْ، حِينَ يُصْبِحُ الْمُرُورُ كَثِيفًا، تَتَنَاوَبُ مَعِي فِي الْقِيَادَةِ، أَحْيَانًا خَلْفَهَا، وَأَحْيَانًا هِيَ خَلْفِي.
كَانَتْ دَرَّاجَتُهَا ذَاتَ الْعَجَلَاتِ الْمَغْلُوقَةِ وَالدَّوَاسَاتِ وَالْمُسَنِّنَاتِ الْمَحْمِيَّةِ، وَكَانَتْ تَرْتَدِي ثَوْبًا أَزْرَقَ ذُو تَنُّورَةٍ وَاسِعَةٍ ترفرِفُ فِي نَسِيمِ الطَّرِيقِ.
اِحْتَاجَتْ بَعْضَ الْوَقْتِ حَتَّى تَوَقَّفَتْ عَنِ الْخَوْفِ مِنْ أَنْ تَلْتَصِقَ التَّنُّورَةُ فِي الْعَجَلَاتِ أَوِ الْمُسَنَّنِ، فَتَسْقُطَ.
ثُمَّ أَصْبَحْتُ أُحِبُّ أَنْ أَرَاهَا تَسِيرُ أَمَامِي.
كَمْ كُنْتُ مُتَحَمِّسًا لِمُشَاهَدَتِهَا مِنَ الْخَلْفِ.
تَخَيَّلْتُ أَنَّنَا نُحِبُّ بَعْضَنَا، نَغْفُو، نَسْتَيْقِظُ، نُحِبُّ مِنْ جَدِيدٍ، نَغْفُو، نَسْتَيْقِظُ، هَكَذَا، لَيْلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ.
لَكِنْ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى فَقَطْ، اسْتَيْقَظْتُ مُجَدَّدًا.
كَانَتْ مُسْتَلْقِيَةً عَلَى بَطْنِهَا، فَأَمَلْتُ نَفْسِي فَوْقَهَا وَقَبَّلْتُهَا.
فَاسْتَدَارَتْ عَلَى ظَهْرِهَا، احْتَوَتْنِي بَيْنَ ذِرَاعَيْهَا، وَحَضَنَتْنِي.
قَالَتْ لِي: “يَا فَتَى، يَا فَتَى.” ثُمَّ غَفَوْتُ أَنَا فِي حضْنِهَا.
أَمَّا اللَّيَالِي الْأُخْرَى، فَكُنَّا نَنَامُ عَمِيقًا، تَعَبًا مِنَ السَّيْرِ، مِنَ الشَّمْسِ، وَمِنَ الرِّيحِ.
وَكَانَتْ مَحَبَّتُنَا فِي الصَّبَاحِ.
لَمْ تَكُنْ هَانَا تَتْرُكُ لِي أَنْ أُقَرِّرَ فَقَطِ الْاِتِّجَاهَاتِ وَالطُّرُقَ، بَلْ كُنْتُ أَخْتَارُ دوْرَ الضِّيَافَةِ الَّتِي نَبِيتُ فِيهَا، وَأَسَجِّلُنَا فِي بِطَاقَاتِ التَّسْجِيلِ كَأَنَّنَا أُمٌّ وَابْنٌ، وَكَانَتْ تُوقِّعُهَا فَقَطْ.
كَمَا كُنْتُ أَخْتَارُ الطَّعَامَ لَنَا عَلَى قَوَائِمِ الطَّعَامِ، لَهَا وَلِي.
وَأُحِبُّ أَحْيَانًا أَلَّا أَهْتَمَّ بِشَيْءٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
كَانَ نِزَاعُنَا الْوَحِيدُ فِي أَمُورْبَاخْ.
اسْتَيْقَظْتُ مُبَكِّرًا، وَارْتَدَيْتُ ثِيَابِي بِهُدُوءٍ، وَانْسَلَلْتُ مِنَ الْغُرْفَةِ.
أَرَدْتُ أَنْ أحْضُرَ الْإِفْطَارَ، وَأُلْقِيَ نَظْرَةً عَلَى الْمَتَاجِرِ، لَعَلِّي أَجِدُ مَحَلًّا لِبَيْعِ الزُّهُورِ مَفْتُوحًا، وَأَهْدِي هَانَا وَرْدَةً.
تَرَكْتُ لَهَا وَرَقَةً عَلَى مَنْضَدَةِ السَّرِيرِ كَتَبْتُ فِيهَا:
“صَبَاحُ الْخَيْرِ! ذَاهِبٌ لِجَلْبِ الْإِفْطَارِ، سَأَعُودُ قَرِيبًا” — أَوْ شَيْءٌ مِنْ هذَا الْقَبِيلِ.
عِنْدَمَا عُدْتُ، كَانَتْ وَاقِفَةً فِي الْغُرْفَةِ، نِصْفَ مُرْتَدِيَةٍ، تَرْتَجِفُ مِنَ الْغَضَبِ، وَشُحُوبٌ يَكْسُو وَجْهَهَا.
“كَيْفَ تَجْرُؤُ عَلَى الرَّحِيلِ بِهَذِهِ السُّهُولَةِ؟!”
وَضَعْتُ الصَّحْنِيَّةَ الَّتِي تَحْمِلُ الْإِفْطَارَ وَالْوَرْدَةَ، وَأَرَدْتُ أَنْ أَضُمَّهَا إِلَى صَدْرِي.
“هَانَا…”
قَالَتْ: “لَا تَلْمِسْنِي.”
كَانَتْ تَمْسِكُ بِحِزَامٍ جِلْدِيٍّ نَحِيفٍ، رَبَطَتْهُ حَوْلَ ثَوْبِهَا، ثُمَّ تَرَاجَعَتْ خُطْوَةً وَسَحَبَتِ الْحِزَامَ عَلَى وَجْهِي.
انْفَجَرَتْ شَفَتَيَّ، وَذَقْتُ طَعْمَ الدَّمِ. لَمْ يُؤْلِمْنِي ذَلِكَ، لَكِنَّنِي صُدِمْتُ بِشِدَّةٍ.
أَرَادَتْ أَنْ تَضْرِبَنِي مَرَّةً أُخْرَى، لَكِنَّهَا لَمْ تَفْعَلْ. تَرَكَتْ ذِرَاعَهَا وَالْحِزَامَ يَسْقُطَانِ، وَبَدَأَتْ تَبْكِي.
لَمْ أَرَهَا تَبْكِي قَطُّ.
تَلَاشَتْ مَلَامِحُ وَجْهِهَا، اتَّسَعَتْ عَيْنَاهَا وَفَمُهَا، وَبَدَأَتْ جُفُونُهَا تَتَوَرَّمُ بَعْدَ أُولَى الدُّمُوعِ، وَظَهَرَتْ بُقَعٌ حَمْرَاءُ عَلَى خَدَّيْهَا وَرَقَبَتِهَا.
خَرَجَتْ مِنْ فَمِهَا أَصْوَاتٌ مُتَقَطِّعَةٌ، مَبْحُوحَةٌ، تُشْبِهُ الصّرَاخَ الصَّامِتَ حِينَ نُحِبُّ بَعْضَنَا.
وَقَفَتْ تَنْظُرُ إِلَيَّ مِنْ خَلْفِ دُمُوعِهَا.
كَانَ يَنْبَغِي أَنْ أَحْتَضِنَهَا.
لَكِنِّي لَمْ أَسْتَطِعْ.
لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ مَاذَا أَفْعَلُ.
فِي بَيْتِنَا، لَمْ يَكُنِ النَّاسُ يَبْكُونَ هَكَذَا.
وَلَا كَانَ أَحَدٌ يَضْرِبُ، لَا بِالْيَدِ، وَلَا بِالْحِزَامِ الْجِلْدِيِّ.
كَانُوا يَتَحَدَّثُونَ.
وَلَكِنْ مَاذَا أَقُولُ؟
خَطَتْ نَحْوِي خُطْوَتَيْنِ، وَأَلْقَتْ بِجَسَدِهَا عَلَى صَدْرِي، وَبَدَأَتْ تَضْرِبُنِي بِقَبْضَتَيْهَا، وَتَمَسَّكَتْ بِي بِإِحْكَامٍ.
الآنَ اسْتَطَعْتُ أَنْ أَحْتَوِيَهَا.
ارْتَجَفَتْ كَتِفَاهَا، وَاصْطَدَمَ جَبِينُهَا بِصَدْرِي.
ثُمَّ تَنَفَّسَتْ بِعُمْقٍ، وَتَدَفَّأَتْ بَيْنَ ذِرَاعَيَّ.
“هَلْ نَتَنَاوَلُ الْإِفْطَارَ؟”
فَكَّتْ نَفْسَهَا عَنِّي وَقَالَتْ: “يَا إِلَهِي، يَا فَتَى، كَيْفَ تَبْدُو!”
أَحْضَرْتُ مَنشَفَةً مُبَلَّلَةً وَنَظَّفْتُ فَمِي وَذَقَنِي.
“وَقَمِيصُكَ مَلَوَّثٌ بِالدَّمِ.”
خَلَعْتُ الْقَمِيصَ، ثُمَّ الْبِنْطَالَ، ثُمَّ خَلَعَتْ هِيَ مَلَابِسَهَا، وَارْتَمَيْنَا حُبًّا.
“مَا الَّذِي حَدَثَ؟ لِمَاذَا كُنْتِ غَاضِبَةً هَكَذَا؟”
كُنَّا مُسْتَلْقِينَ مَعًا، رَاضِينَ تَمَامًا، وَكُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْأُمُورَ سَتَتَّضِحُ الآنَ.
“مَا الَّذِي حَدَثَ؟ مَا الَّذِي حَدَثَ؟ كَمْ أَنْتَ غَبِيٌّ حِينَ تَسْأَل!”
“لَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَذْهَبَ هَكَذَا بِبسَاطَةٍ.”
قُلْتُ: “لَكِنَّنِي تَرَكْتُ لَكِ وَرَقَةً…”
“وَرَقَة؟”
جَلَسْتُ مَكَانَ وَضْعِي لَهَا الْوَرَقَةَ عَلَى مِنْضَدَةِ السَّرِيرِ، فَلَمْ أَجِدْهَا.
نَهَضْتُ، وَبَدَأْتُ أَبْحَثُ بِجَانِبِ الْمِنْضَدَةِ وَتَحْتَهَا، وَتَحْتَ السَّرِيرِ، وَفِي الْفِرَاشِ نَفْسِهِ. لَمْ أَعْثُرْ عَلَيْهَا.
“لَا أَفْهَمُ. لَقَدْ كَتَبْتُ لَكِ وَرَقَةً أُخْبِرُكِ فِيهَا أَنِّي سَأَجْلِبُ الْإِفْطَارَ وَسَأَعُودُ سَرِيعًا.”
قَالَتْ: “هَلْ فَعَلْتَ؟ لَا أَرَى وَرَقَةً.”
سَأَلْتُهَا: “أَلَا تصدِقِينِي؟”
أَجَابَتْ: “أُرِيدُ أَنْ أصَدِّقَكَ، لَكِنَّنِي لَا أَرَى الْوَرَقَةَ.”
لَمْ نَسْتَمِرَّ فِي الْجِدَالِ.
هَلْ يَكُونُ هَبَّتْ رِيحٌ فَأَخَذَتِ الْوَرَقَةَ، وَحَمَلَتْهَا إِلَى مَكَانٍ مَا لَا أَعْرِفُهُ؟
هَلْ كَانَ كُلُّ ذَلِكَ سُوءَ تَفَاهُمٍ؟ غَضَبُهَا، شَفَتَيَّ الْمَقْطُوعَةُ، وَجْهُهَا الْمُؤْلِمُ، عَجْزِي؟
هَلْ كَانَ يَنْبَغِي عَلَيَّ أَنْ أَبْحَثَ أَكْثَرَ، عَنِ الْوَرَقَةِ، عَنْ سَبَبِ غَضَبِ هَانَا، عَنْ سَبَبِ عَجْزِي؟
قَالَتْ مُتَمَسِّكَةً بِي: “اقْرَأْ لِي الْمَزِيدَ، يَا فَتَى!”
احْتَضَنَتْنِي، وَأَخَذْتُ كِتَابَ إِيشْنْدُورْف “الْكَسُولَ”، وَأَكْمَلْتُ مِنْ حَيْثُ تَوَقَّفْتُ.
كَانَ “الْكَسُولُ” أَسْهَلَ فِي الْقِرَاءَةِ مِنْ “إِمِيلِيَا جَالُوتِي” وَ”الْمُؤَامَرَةِ وَالْحُبِّ”.
كَانَتْ هَانَا تُتَابِعُ بِشَغَفٍ، تُحِبُّ الْأَبْيَاتَ الشِّعْرِيَّةَ الْمُتَنَاثِرَةَ فِيهِ.
أَحَبَّتِ التَّنَكُّرَاتِ، التَّبْدِيلَاتِ، التَّعْقِيدَاتِ وَالْمُطَارَدَاتِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الْبَطَلُ فِي إِيطَالِيَا.
وَلَكِنَّهَا فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ كَانَتْ تَغْضَبُ مِنْهُ لِأَنَّهُ كَسُولٌ، لَا يَفْعَلُ شَيْئًا، لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى شَيْءٍ.
كَانَتْ مُتَرَدِّدَةً بَيْنَ الْمَشَاعِرِ، وَظَلَّتْ لِسَاعَاتٍ بَعْدَ أَنْ تَوَقَّفْتُ عَنِ الْقِرَاءَةِ تَسْأَلُنِي:
“هَلْ كَانَ جَابِي الضَّرَائِبِ مِهْنَةً جَيِّدَةً؟”
هَا هُوَ سَرْدُ مُشَاجَرَتِنَا مَرَّ سَرِيعًا، لَكِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُخْبِرَهَا أَيْضًا عَنْ سَعَادَتِنَا.
لَقَدْ جَعَلَ الْخِلَافُ علَاقَتَنَا أَكْثَرَ قُرْبًا وَدِفْئًا.
رَأَيْتُهَا تَبْكِي، هَانَا الَّتِي تَبْكِي كَانَتْ أَقْرَبَ إِلَيَّ مِنْ هَانَا الْقَوِيَّةِ فَقَطْ.
بَدَأَتْ تظْهَرُ جَانِبًا نَاعِمًا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ مِنْهَا.
كَانَتْ تَنْظُرُ إِلَى شَفَتَيَّ الْمَقْطُوعَتَيْنِ، تُلْمِسُهَا بَرِقَّةٍ حَتَّى شُفِيَتْ.
أَحْبَبْنَا بَعْضَنَا بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ.
لِفَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ، كُنْتُ مُسْتَسْلِمًا تَمَامًا لِقِيَادَتِهَا، وَلِتَصَرُّفَاتِهَا الَّتِي كَانَتْ تَمْلِكُنِي.
“ثُمَّ تَعَلَّمْتُ أَنَا أَيْضًا كَيْفَ أَمْتَلِكُهَا.
مُنْذُ رِحْلَتِنَا لَمْ نَعُدْ نَمْتَلِكُ بَعْضَنَا فَقَطْ، بَلْ أَصْبَحْنَا نَمْتَلِكُ أَنْفُسَنَا مَعًا.
لَدَيَّ قَصِيدَةٌ كَتَبْتُهَا آنَذَاكَ. كَقَصِيدَةٍ، لَا تسَاوِي شَيْئًا. كُنْتُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُفْتُونًا بِرِيلْكِهْ وَبِنْ، وَأُدْرِكُ أَنَّنِي كُنْتُ أُحَاوِلُ أَنْ أَقْتَفِي أَثَرَ كِلَاهُمَا مَعًا.
لَكِنَّنِي أُدْرِكُ أَيْضًا مَدَى قُرْبِنَا مِنْ بَعْضِنَا حِينَئِذٍ.
هَذِهِ هِيَ الْقَصِيدَةُ:
“إِذَا انْفَتَحْنَا أَنْتَ لِي، وَأَنَا لَكَ،…
إِذَا غصَنَا فِيَّ أَنْتَ وَأَنَا فِيكَ،
إِذَا ذُبْنَا أَنْتَ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ،
حِينَئِذٍ أَكُونُ أَنَا أَنَا، وَتَكُونُ أَنْتَ أَنْتَ.”
بَيْنَمَا لَا أَتَذَكَّرُ الْأَكَاذِيبَ الَّتِي قَدَّمْتُهَا لِوَالِدَيَّ بِشَأْنِ الرِّحْلَةِ مَعَ هَانَا، أَتَذَكَّرُ الثَّمَنَ الَّذِي اضْطُرِرْتُ لِدَفْعِهِ لِكَيْ أَبْقَى وَحِيدًا فِي الْمَنزِلِ خِلَالَ الأُسْبُوعِ الْآخِرِ مِنَ الْعُطْلَةِ.
لَا أَعْرِفُ إِلَى أَيْنَ سَافَرَ وَالِدَيَّ، أُخْتِي الْكُبْرَى، وَأَخِي الْكَبِيرُ. الْمُشْكِلَةُ كَانَتْ فِي أُخْتِي الصَّغِيرَةِ، كَانَ مِنَ الْمُقَرَّرِ أَنْ تَذْهَبَ إِلَى عَائِلَةِ صَدِيقَةٍ، لَكِنَّ إِذَا بَقِيتُ أَنَا فِي الْمَنزِلِ، أَرَادَتْ هِيَ أَيْضًا أَنْ تَبْقَى.
لَمْ يَكُنْ هذَا مَا ترِيدُهُ وَالِدَتِي وَوَالِدِي، لِذَا كَانَ مِنَ الْمُفْرَضِ أَنْ أَذْهَبَ أَنَا أَيْضًا إِلَى عَائِلَةِ صَدِيقٍ.
فِي نَظَرِي الآنَ، مِنَ اللَّافِتِ أَنَّ وَالِدَيَّ كَانَا مُسْتَعِدَّيْنِ أَنْ يَتْرُكَانِي، وَأَنَا فِي الْخَامِسَةِ عَشَرَةَ مِنْ عُمْرِي، وَحِيدًا فِي الْمَنزِلِ لِمُدَّةِ أُسْبُوعٍ.
هَلْ لَاحَظُوا الاسْتِقْلَالِيَّةَ الَّتِي نَمَتْ فِي دَاخِلِي بِفَضْلِ لِقَائِي مَعَ هَانَا؟ أَمْ أَنَّهُمْ بِبَسَاطَةٍ سَجَّلُوا أَنِّي، رَغْمَ شُهُورِ الْمَرَضِ، تَمَكَّنْتُ مِنَ النَّجَاحِ فِي الصَّفِّ، وَاسْتَنْتَجُوا أَنِّي أَصْبَحْتُ أَكْثَرَ مَسْؤُولِيَّةً وَجَدِيرَاً بِالثِّقَةِ مِمَّا كُنْتُ أُظْهِرُ سَابِقًا؟
لَا أَذْكُرُ أَنَّ وَالِدَيَّ قَدْ سَاءَلَانِي بِسَبَبِ السَّاعَاتِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي قَضَيْتُهَا مَعَ هَانَا.
يَبْدُو أَنَّهُمْ قَبِلُوا أَنِّي، بَعْدَ أَنْ تَعَافَيْتُ، أَرَدْتُ أَنْ أَقْضِي وَقْتًا أَكْثَرَ مَعَ الْأَصْدِقَاءِ، نَتَعَلَّمُ مَعًا وَنَمْرَحُ مَعًا.
فَضْلًا عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ وُجُودَ أَرْبَعَةِ أَطْفَالٍ يَعْنِي أَنَّ انْتِبَاهَ الْوَالِدَيْنِ لَا يَمْكِنُ أَنْ يَتَرَكَّزَ عَلَى الْجَمِيعِ فِي آنٍ وَاحِدٍ، بَلْ يَتَّجِهُ إِلَى مَنْ يُوَاجِهُ مُشْكِلَاتٍ خَاصَّةً فِي الْوَقْتِ الرَّاهِنِ.
لَقَدْ تَسَبَّبْتُ فِي مُشْكِلَاتٍ لِفَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ، لِذَا شَعَرَ وَالِدَيَّ بِالارْتِيَاحِ لأَنِّي أَصْبَحْتُ بِصِحَّةٍ جَيِّدَةٍ وَانْتَقَلْتُ إِلَى الصَّفِّ التَّالِي.
عِنْدَمَا سَأَلْتُ أُخْتِي الصَّغِيرَةَ مَاذَا تُرِيدُ أَنْ تَمْلِكَ لِكَيْ تَذْهَبَ إِلَى صَدِيقَتِهَا بَيْنَمَا أَبْقَى فِي الْبَيْتِ، طَلَبَتْ جِينْزًا، كُنَّا نُسَمّيهِ آنَذَاكَ “بلُو جِينْز” أَوْ “بَنْطَلُونَ بِالْمَسَامِيرِ”، وَكِنْزَةً مِنَ الْقُطْنِ الْمُخَمَّلِيِّ.
كَانَ ذَلِكَ مَفْهُومًا بِالنِّسْبَةِ لِي، فَقَدْ كَانَتِ الْجِينْز فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ شَيْئًا مُمَيَّزًا وَأَنِيقًا، وَكَانَتْ تُمَثِّلُ وَعْدًا بِالْتَّحَرُّرِ مِنْ بَذَلَاتِ الْعِظَامِ وَأَنْوَاعِ الْفَسَاتِينِ الْمُزَخْرَفَةِ الْكَبِيرَةِ.
كَمَا كُنْتُ أَرْتَدِي مَلَابِسَ عَمِّي، كَانَ عَلَى أُخْتِي الصَّغِيرَةِ أَنْ تَرْتَدِي مَلَابِسَ أُخْتِهَا الْكُبْرَى.
لَكِن لَمْ يَكُنْ لَدَيَّ مَالٌ.
قَالَتْ لِي أُخْتِي الصَّغِيرَةُ بِهُدُوءٍ: “إِذًا اِسْرِقْهَا!”
كَانَ الْأَمْرُ مُدْهِشًا فِي بَسَاطَتِهِ.
جَرَّبْتُ عِدَّةَ جِينْزَاتٍ، وَأَخَذْتُ زَوْجًا يُنَاسِبُ حَجْمَهَا إِلَى غُرْفَةِ الْقِيَاسِ، ثُمَّ خَرَجْتُ بِهِ مُخْبِئًا تَحْتَ بَنْطَلُونِ الْبَدْلَةِ الْفَضْفَاضِ عِنْدَ بَطْنِي.
أَمَّا الْكِنْزَةُ فَسَرَقْتُهَا مِنْ مَحَلِّ “كَاوْفْهُوف”.
فِي أَحَدِ الْأَيَّامِ، كُنْتُ وَأُخْتِي الصَّغِيرَةُ نَتَجَوَّلُ فِي قِسْمِ الأَزْيَاءِ مِنْ كُشْكٍ إِلَى كُشْكٍ حَتَّى وَجَدْنَا الْكُشْكَ الْمُنَاسِبَ وَالْكِنْزَةَ الْمُنَاسِبَةَ.
فِي الْيَوْمِ التَّالِي، مَشَيْتُ بِخُطَى حَازِمَةٍ وَمُصَمِّمَةٍ خِلَالَ الْقِسْمِ، أَمْسَكْتُ الْكِنْزَةَ، خَبَّأْتُهَا تَحْتَ سِتْرَةِ الْبَدْلَةِ، وَخَرَجْتُ بِسُرْعَةٍ.
وَفِي الْيَوْمِ التَّالِي، سَرَقْتُ لِهَانَا قَمِيصَ نَوْمٍ حَرِيرِيٍّ، رَآنِي حَارِسُ الْمَتْجَرِ، فَرَكَضْتُ كَأَنَّ حَيَاتِي فِي خَطَرٍ، وَنَجَوْتُ بِالْكَادِ.
لَمْ أَدْخُلْ مَحَلَّ “كَاوْفْهُوف” لِسَنَوَاتٍ عَدِيدَةٍ بَعْدَ ذَلِكَ.
مُنْذُ اللَّيَالِي الَّتِي قَضَيْنَاهَا مَعًا فِي رِحْلَتِنَا، كُنْتُ أَشْتَاقُ إِلَيْهَا كُلَّ لَيْلَةٍ، أَشْتَهِي أَنْ أَشْعُرَ بِهَا إِلَى جَانِبِي، أَنْ أَلْتَفَّ حَوْلَهَا، وَأَضُمَّ بَطْنِي إِلَى مُؤَخَّرَتِهَا، وَصَدْرِي إِلَى ظَهْرِهَا، وَأَضَعَ يَدَيَّ عَلَى صَدْرِهَا.
كُنْتُ أَبْحَثُ عَنْهَا بِيَدِي حِينَ أَسْتَيْقِظُ فِي اللَّيْلِ، أَجِدُهَا، أَمُدُّ سَاقًا فَوْقَ سَاقَيْهَا، وَأَضْغَطُ وَجْهِي عَلَى كَتِفِهَا.
الأُسْبُوعُ الَّذِي قَضَيْتُهُ وَحِيدًا فِي الْمَنزِلِ كَانَ بِمَثَابَةِ سَبْعِ لَيَالٍ مَعَهَا.
فِي إِحْدَى الأمْسِيَاتِ دَعَوْتُهَا وَطَبَخْتُ لَهَا.
كَانَتْ وَاقِفَةً فِي الْمَطْبَخِ بَيْنَمَا كُنْتُ أَضَعُ اللَّمَسَاتِ الْأَخِيرَةَ عَلَى الطَّعَامِ.
كَانَتْ وَاقِفَةً وَالْبَابُ مَفْتُوحٌ بَيْنَ غُرْفَةِ الطَّعَامِ وَغُرْفَةِ الْجُلُوسِ، بَيْنَمَا كُنْتُ أُقَدِّمُ الطَّعَامَ.
جَلَسَتْ عِنْدَ الطَّاوِلَةِ الْمُسْتَدِيرَةِ، حَيْثُ يَجْلِسُ وَالِدِي عَادَةً.
نَظَرَتْ حَوْلَهَا. كَانَتْ عَيْنَاهَا تَتَفَحَّصَانِ كُلَّ شَيْءٍ، الْأَثَاثَ الْكلَاسِيكِيَّ، الْبِيَانُو، السَّاعَةَ الْقَدِيمَةَ الْوَاقِفَةَ، الصُّورَ، الْرُّفُوفَ الْمَلِيئَةَ بِالْكُتُبِ، الصُّحُونَ، وَأَدَوَاتِ الْمَائِدَةِ عَلَى الطَّاوِلَةِ.
حِينَ تَرَكْتُهَا وَحِيدَةً لِأُكْمِلَ تَحْضِيرَ الْحَلْوَى، لَمْ أَجِدْهَا قَدْ عَادَتْ إِلَى الطَّاوِلَةِ.
لَقَدْ تَجَوَّلَتْ مِنْ غُرْفَةٍ إِلَى أُخْرَى، وَوَجَدْتُهَا وَاقِفَةً فِي مَكْتَبِ وَالِدِي.
تَسَلَّلْتُ بِهُدُوءٍ لِأَتَكِّئَ عَلَى عَتَبَةِ الْبَابِ وَأُرَاقِبَهَا.
أَطْلَقَتْ بَصَرَهَا عَلَى رُفُوفِ الْكُتُبِ الَّتِي تُغَطِّي الْجُدْرَانَ، كَمَا لَوْ كَانَتْ تَقْرَأُ نَصًّا مَا.
ثُمَّ تَوَجَّهَتْ إِلَى رَفٍّ، مَرَّرَتْ بِإِصْبَعِهَا السَّبَّابَةِ الْيُمْنَى بِبُطْءٍ عَلَى ظُهُورِ الْكُتُبِ عِنْدَ مُسْتَوَى صَدْرِهَا، ثُمَّ اِنْتَقَلَتْ إِلَى الْرَّفِّ الْتَالِي، تُكَرِّرُ الْحَرَكَةَ، ظَهَرَ الْكِتَابُ تِلْوَ الْآخَرِ، وَتَمْشِي فِي أَنْحَاءِ الْغُرْفَةِ كُلِّهَا.
تَوَقَّفَتْ عِنْدَ النَّافِذَةِ، وَنَظَرَتْ إِلَى الظَّلَامِ، انْعِكَاسِ رُفُوفِ الْكُتُبِ، وَصُورَتِهَا الْمُنْعَكِسَةِ.
هَذِهِ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ هَانَا الَّتِي بَقِيَتْ فِي ذِهْنِي.
احْتَفَظْتُ بِهَا، وَأَسْتَطِيعُ أَنْ أَعْرِضَهَا عَلَى شَاشَةٍ دَاخِلِيَّةٍ فِي ذِهْنِي، أَرَاهَا كَمَا هِيَ، بِلَا تَغْيِيرٍ، بِلَا ذُبُولٍ.
أَحْيَانًا لَا أَتَذَكَّرُهَا لِفَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ.
لَكِنَّهَا تَعُودُ دَوْمًا إِلَى ذِهْنِي، وَقَدْ أَجِدُ نَفْسِي أُعِيدُ عَرْضَهَا مَرَّاتٍ مُتَتَالِيَةً عَلَى تِلْكَ الشَّاشَةِ الدَّاخِلِيَّةِ وَأَتَأَمَّلُهَا.
إِحْدَى الصُّوَرِ هِيَ لِهَانَا وَهِيَ تَلْبَسُ جَوَارِبَهَا فِي الْمَطْبَخِ.
وَأُخْرَى لِهَانَا وَاقِفَةً أَمَامَ حَوْضِ الاسْتِحْمَامِ، مُمْسِكَةً بِمِنْشَفَةِ الْفرُو بِأَيْدٍ مَمْدُودَةٍ.
وَصُورَةٌ أُخْرَى لِهَانَا تَقُودُ دَرَّاجَتَهَا، وَتُنَثِرُ الرِّيحُ تَنَوُّرَتَهَا فِي الْهَوَاءِ.
ثُمَّ هُنَاكَ صُورَةُ هَانَا فِي مَكْتَبِ وَالِدِي.
كَانَتْ تَرْتَدِي فُسْتَانًا مُخَطَّطًا بِالْأَزْرَقِ وَالْأَبْيَضِ، ذَلِكَ الْفُسْتَانُ الْمَعْرُوفُ حِينَذَا بِالْقَمِيصِ.
تَبْدُو شَابَّةً فِيهِ.
كَانَتْ تُمَرِّرُ بِإِصْبَعِهَا عَلَى ظَهْرِ الْكُتُبِ وَتَنْظُرُ مِنَ النَّافِذَةِ.
ثُمَّ اسْتَدَارَتْ نَحْوِي بِسُرْعَةٍ، حَتَّى تَمَايَلَتِ التَّنَورَةُ لَحْظَةً فَوْقَ سَاقَيْهَا، ثُمَّ عَادَتْ لِتَسْتَقِرَّ.
كَانَتْ عَيْنَاهَا تَبْدُوَانِ مُتْعَبَتَيْنِ.
سَأَلَتْنِي: “هَلْ هَذِهِ كُتُبٌ قَرَأَهَا وَالِدُكَ فَقَطْ أَمْ كُتُبٌ كَتَبَهَا؟”
كُنْتُ أَعْلَمُ بِوُجُودِ كِتَابٍ عَنْ كَانْطَ وَآخَرَ عَنْ هِيغِلَ لِوَالِدِي، بَحَثْتُ عَنْهُمَا وَوَجَدْتُهُمَا وَأَرَيْتُهَا إِيَّاهُمَا.
قَالَتْ: “اِقْرَأْ لِي قَلِيلًا مِنْهُمَا. أَلَا تُرِيدُ ذَلِكَ، يَا صَغِيرِي؟”
“أَنَا…”
لَمْ أَكُنْ أُرِيدُ قَوْلَ الْمَزِيدِ، وَلَمْ أَرْغَبْ أَيْضًا فِي رَفْضِ رَغْبَتِهَا.
أَخَذْتُ كِتَابَ كَانْطَ الْخَاصَّ بِوَالِدِي، وَبَدَأْتُ أَقْرَأُ لَهَا مِنْهُ، فَقْرَةً عَنْ التَّحْلِيلِ وَالْمَنْطِقِ الْجَدَلِيِّ، لَمْ نَفْهَمْهَا هِيَ وَلَا أَنَا.
“هَلْ هَذَا يَكْفِي؟”
نَظَرَتْ إِلَيَّ كَمَا لَوْ أَنَّهَا فَهِمَتْ كُلَّ شَيْءٍ، أَوْ كَأَنَّ الْفَهْمَ لَيْسَ هُوَ الْمُهِمُّ.
“هَلْ سَتَكْتُبُ يَوْمًا مِثْلَ هَذِهِ الْكُتُبِ؟”
هَزَزْتُ رَأْسِي بِالنَّفْيِ.
“هَلْ سَتَكْتُبُ كُتُبًا أُخْرَى؟”
“لَا أَعْلَمُ.”
“هَلْ سَتَكْتُبُ مَسْرَحِيَّاتٍ؟”
“لَا أَعْلَمُ، هَانَا.”
أَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا.
ثُمَّ تَنَاوَلْنَا الْحَلْوَى، وَذَهَبْنَا إِلَى غُرْفَتِي.
كُنْتُ أَتَمَنَّى أَنْ أَنَامَ مَعَهَا فِي سَرِيرِي، لَكِنَّهَا لَمْ تَشَأْ ذَلِكَ.
كَانَتْ تَشْعُرُ كَأَنَّهَا غَرِيبَةٌ فِي بَيْتِي.
لَمْ تَقُلْ ذَلِكَ بِالْكَلَامِ، لَكِنَّ طَرِيقَةَ وُقُوفِهَا فِي الْمَطْبَخِ، أَوْ عِنْدَ الْبَابِ الْمَفْتُوحِ، وَتَنَقُّلِهَا مِنْ غُرْفَةٍ إِلَى أُخْرَى، وَتَفَحُّصِهَا لِكُتُبِ وَالِدِي، وَجُلُوسِهَا مَعِي عَلَى الْمَائِدَةِ، كُلُّهَا كَانَتْ تعبّرُ عَنْ ذَلِكَ.
أَهْدَيْتُهَا قَمِيصَ النَّوْمِ الْحَرِيرِيَّ.
كَانَ بِلَوْنِ الْبَاذِنْجَانِ، بِحَمَالَاتٍ رَفِيعَةٍ، يَكْشِفُ الْكَتِفَيْنِ وَالذِّرَاعَيْنِ، وَيَصِلُ حَتَّى الْكَاحِلَيْنِ.
كَانَ يَلْمَعُ وَيَتَلَأْلَأُ.
فَرِحَتْ هَانَا، ضَحِكَتْ وَتَأَلَّقَ وَجْهُهَا.
نَظَرْتُ إِلَى أَسْفَلِهَا، دَارَتْ حَوْلَ نَفْسِهَا، رَقَصَتْ خُطُوَاتٍ قَلِيلَةً، ثُمَّ نَظَرَتْ فِي الْمِرْآةِ، تَأَمَّلَتْ صُورَتَهَا لِلْحَظَةِ، ثُمَّ تَابَعَتِ الرَّقْصَ.
وَهَذِهِ صُورَةٌ أُخْرَى بَقِيَتْ فِي ذِهْنِي عَنْ هَانَا.
لَطَالَمَا شَعَرْتُ بِبِدَايَةِ كُلِّ سَنَةٍ دِرَاسِيَّةٍ كَأَنَّهَا نُقْطَةُ تَحَوُّلٍ حَاسِمَةٍ.
كَانَ الانْتِقَالُ مِنَ الصَّفِّ الأَدْنَى إِلَى الصَّفِّ الأَعْلَى يَحْمِلُ تَغْيِيرًا خَاصًّا وَجَوْهَرِيًّا.
فُكِّكَ صَفِّي وَتَوَزَّعَ عَلَى ثَلَاثِ صُفُوفٍ مُوَازِيَةٍ.
الكَثِيرُ مِنَ الطُّلَّابِ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ اجْتِيَازِ عَتَبَةِ الصَّفِّ الأَدْنَى إِلَى الأَعْلَى، لِذَا تَمَّ دَمْجُ أَرْبَعِ صُفُوفٍ صَغِيرَةٍ فِي ثَلَاثِ صُفُوفٍ أَكْبَرَ.
الْمَدْرَسَةُ الَّتِي كُنْتُ أَدْرُسُ فِيهَا، كَانَتْ تَقْبَلُ أَوَّلًا فَقَطْ الأَوْلَادَ.
وَعِنْدَمَا أُضِيفَتِ الْفَتَيَاتُ، كُنَّ قَلِيلَاتٍ، فَلَمْ يُوَزَّعْنَ بِالتَّسَاوِي بَيْنَ الصُّفُوفِ الْمُوَازِيَةِ، بَلْ أُلْحِقْنَ بِصَفٍّ أَوْ صَفَّيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فَقَطْ، حَتَّى وَصَلَ عَدَدُهُنَّ إِلَى ثُلُثِ حَجْمِ الصُّفُوفِ.
فِي فَوْجِنَا، لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَدَدٌ كَافٍ مِنَ الْفَتَيَاتِ لِيُدْخَلْنَ إِلَى صَفِّي الْقَدِيمِ.
كُنَّا الصَّفَّ الرَّابِعَ الْمُوَازِي، صَفًّا خَاصًّا بِالْأَوْلَادِ فَقَطْ.
لِهَذَا السَّبَبِ تَمَّ حَلُّ صَفِّنَا وَتَوْزِيعُنَا، وَلَمْ تُحَلَّ أَيُّ مِنَ الصُّفُوفِ الْأُخْرَى.
لَمْ نَعْلَمْ بِالْأَمْرِ إِلَّا عِنْدَ بَدْءِ الْعَامِ الدِّرَاسِيِّ الْجَدِيدِ.
اسْتَدْعَانَا الْمُدِيرُ إِلَى إِحْدَى غُرَفِ الصُّفُوفِ، وَأَخْبَرَنَا كَيْفَ وَلِمَاذَا قُسِّمْنَا فِي الصُّفُوفِ الْجَدِيدَةِ.
مَعَ سِتَّةٍ مِنْ زُمَلَائِي، مَشَيْتُ عَبْرَ الْمَمَرَّاتِ الْفَارِغَةِ نَحْوَ صَفِّنَا الْجَدِيدِ.
حَصَلْنَا عَلَى الْمَقَاعِدِ الْمُتَبَقِّيَةِ، وَجَاءَ مَقْعَدِي فِي الصَّفِّ الثَّانِي.
كَانَتِ الْمَقَاعِدُ فَرْدِيَّةً، لَكِنْ رُتِّبَتْ فِي ثَلَاثِةِ أَعْمِدَةٍ، يَجْلِسُ فِيهَا اثْنَانِ جَنْبًا إِلَى جَنْبٍ.
جَلَسْتُ فِي الْعَمُودِ الْأوسط.
إِلَى يَسَارِي كَانَ زَمِيلٌ مِنْ صَفِّي الْقَدِيمِ، رُودُولْف بَارْغِن، رَجُلٌ ثَقِيلُ الْجِسْمِ، هَادِئٌ، مُوثُوقٌ، لَاعِبُ شَطْرَنْجٍ وَهُوكِي، لَمْ يَكُنْ لِي تَعَامُلٌ مَعَهُ كَثِيرًا فِي الصَّفِّ الْقَدِيمِ، لَكِنَّهُ صَارَ صَدِيقًا قَرِيبًا لِي بِسُرْعَةٍ.
عَلَى يَمِينِي، وَعَلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنَ الْمَمَرِّ، كَانَتِ الْفَتَيَاتُ جَالِسَاتٍ.
كَانَتْ جَارَتِي صُوفِي.
شَعْرُهَا بُنِّيٌّ، وَعَيْنَاهَا بُنِّيَّتَانِ، بَشَرَتُهَا مُسمَرَةٌ كَصَيْفٍ، وَشَعْرُهَا الذَّهَبِيُّ يَتَلَأْلَأُ عَلَى ذِرَاعَيْهَا الْعَارِيَتَيْنِ.
عِنْدَمَا جَلَسْتُ وَنَظَرْتُ حَوْلِي، ابْتَسَمَتْ لِي.
ابْتَسَمْتُ لَهَا رَدًّا.
شَعَرْتُ بِشُعُورٍ جَيِّدٍ، وَفَرِحْتُ بِالْبِدَايَةِ الْجَدِيدَةِ فِي الصَّفِّ الْجَدِيدِ وَبِالْفَتَيَاتِ.
كُنْتُ قَدْ رَاقَبْتُ زُمَلَائِي فِي الصَّفِّ الْأَدْنَى، وَوَجَدْتُ أَنَّهُمْ، سَوَاءٌ كَانَ هُنَاكَ فَتَيَاتٌ فِي صُفُوفِهِمْ أَمْ لَا، كَانُوا يَخَافُونَ مِنْهُنَّ، يَتَجَنَّبُونَهُنَّ، وَيَتَظَاهَرُونَ أَمَامَهُنَّ أَوْ يعْجَبُونَ بِهِنَّ بِإِفْرَاطٍ.
كُنْتُ أَعْرِفُ النِّسَاءَ جَيِّدًا، فَكُنْتُ هَادِئًا وَمُتَعَاوِنًا مَعَهُنَّ.
وَكَانَتِ الْفَتَيَاتُ يُفَضِّلْنَ هَذَا.
كُنْتُ وَاثِقًا أَنَّنِي سَأَتَأَقْلَمُ مَعَهُنَّ فِي الصَّفِّ الْجَدِيدِ، وَبِذَلِكَ سَأَكُونُ مَحْبُوبًا أَيْضًا بَيْنَ الْأَوْلَادِ.
هَلْ يَشْعُرُ الْجَمِيعُ بِهَذَا الشَّكْلِ؟
كُنْتُ أَشْعُرُ، عِنْدَمَا كُنْتُ شَابًّا، إِمَّا بِثِقَةٍ مفْرِطَةٍ أَوْ بِعَدَمِ أَمَانٍ شَدِيدٍ.
كُنْتُ أَظُنُّ نَفْسِي إِمَّا عَاجِزًا تَمَامًا، قَبِيحًا، وَعَدِيمَ الْقِيمَةِ، أَوْ أَعْتَقِدُ أَنَّنِي نَاجِحٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَجِبُ أَنْ يَنْجَحَ مَعِي.
وَعِنْدَمَا أَكُونُ وَاثِقًا، كُنْتُ أَتَجَاوَزُ أَصْعَبَ الصُّعُوبَاتِ.
لَكِنَّ أَصغَرَ عَثْرَةٍ كَانَت تَكْفِي لِتُقنِعَنِي بِأن لَا قِيمَةَ لِي.
اسْتِعَادَةُ الثِّقَةِ لَمْ تَكُنْ يَومًا ثَمَرَةَ النَّجَاحِ؛
فَمَا كُنتُ أَرْجُوهُ مِن نَفْسِي مِن أَدَاءٍ، وَمَا كُنتُ أَنْتَظِرُهُ مِن غَيْرِي مِن اعْتِرَافٍ،
كَانَ يَجْعَلُ خَلْفَ كُلَّ نَجَاحٍ شُعُورًا هَشًّا، ضَئِيلًا، مُتَوَاضِعًا.
وَمَا إِذَا كُنْتُ أَشْعُرُ بِتِلْكَ الْهَشَاشَةِ، أَوْ إِذَا كَانَ النَّجَاحُ يُثِيرُ فِيَّ شَيْئًا مِنَ الفَخْرِ،
فَذَلِكَ كَانَ يَتَوَقَّفُ عَلَى حَالَتِي النَّفْسِيَّةِ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ.
مَعَ “هَانَا”، كُنْتُ أَشْعُرُ بِسَعَادَةٍ تَدُومُ زَمَنًا، رَغْمَ خِلَافَاتِنَا،
وَرَغْمَ رَفْضِهَا المُتَكَرِّرِ لِي، وَذُلِّي المُتَكَرِّرِ بَيْنَ يَدَيْهَا.
وَهَكَذَا، بَدَأَ الصَّيْفُ فِي الفَصْلِ الجَدِيدِ بِدَايَةً طَيِّبَةً.
أَرَى غُرْفَةَ الصَّفِّ أَمَامِي:
عَلَى يَمِينِ الوَاجِهَةِ بَابٌ، وَعَلَى الجِدَارِ الأَيْمَنِ شَرِيطٌ خَشَبِيٌّ عَلَيْهِ عَلَّاقَاتٌ لِتَعْلِيقِ المَلَابِسِ،
وَعَلَى اليَسَارِ نَوَافِذُ تَتَرَاصُّ وَاحِدَةً تِلْوَ الأُخْرَى،
تُطِلُّ عَلَى جَبَلِ “هِيلْجِنْبِرْغ”.
وَحِينَ كُنَّا نَقِفُ عِنْدَ تِلْكَ النَّوَافِذِ فِي الاسْتِرَاحَةِ،
كُنَّا نَرَى الطَّرِيقَ، وَالنَّهْرَ، وَالحُقُولَ عَلَى الضِّفَّةِ الأُخْرَى.
أَمَامَنَا كَانَتِ السَّبُّورَةُ، وَحَامِلُ الخَرَائِطِ وَالصُّوَرِ الإِيضَاحِيَّةِ،
وَمَكْتَبُ المُعَلِّمِ وَكُرْسِيُّهُ عَلَى مِنَصَّةٍ مُنْخَفِضَةٍ، لا تَرْتَفِعُ أَكْثَرَ مِن خُطْوَةٍ.
كَانَتِ الجُدْرَانُ مَطْلِيَّةً بِاللَّوْنِ الأَصْفَرِ الزَّيْتِيِّ حَتَّى ارْتِفَاعِ الرَّأْسِ،
وَفَوْقَهُ بِيَاضٌ صَافٍ،
وَيَتَدَلَّى مِنَ السَّقْفِ مِصْبَاحَانِ كُرَوِيَّانِ، بِلَوْنِ الحَلِيبِ.
الغُرْفَةُ لَمْ تَكُنْ تَحْوِي فَائِضًا من أي شيء، لَا صُوَرًا، وَلَا نَبَاتَاتٍ،
لَا مَقَاعِدَ زَائِدَةً،
لَا خَزَائِنَ فِيهَا كُتُبٌ مَنْسِيَّةٌ أَو دَفَاتِرُ شَاحِبَةٌ،
وَلَا طَبَاشِيرَ مُلَوَّنَةً.
وَحِينَ كَنتُ أَلتَفُّ بِنَظَرِي, كَانَ النَّظَرُ يَتَجَوَّلُ،
كَانَ يَذْهَبُ إِلَى النَّافِذَةِ،
أَو يَسْرِقُ نَظْرَةً إِلَى جَارِي أَو جَارَتِي.
وَكَانَت “صُوفِي” إِذَا لَاحَظَتْ أَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهَا،
تَتَّجِهُ نَحْوِي وَتَبْتَسِمُ.
“يَا بِيَرْغ، إِنَّ (صُوفِيَا) اسْمٌ يُونَانِيٌّ، وَلَا يَعْنِي أَنْ تَدْرُسَ جَارَتَكَ فِي دَرْسِ اليُونَانِيَّةِ! تَرْجِم!”
كُنَّا نُتَرْجِمُ “الأُودِيسَّة”.
كُنْتُ قَدْ قَرَأْتُهَا بِالأَلْمَانِيَّةِ،
فَأَحْبَبْتُهَا، وَأَحَبَّهَا قَلْبِي حَتَّى اليَوْمِ.
وَعِنْدَمَا يَأْتِي دَوْرِي،
كُنْتُ أَجِدُنِي بَعْدَ ثَوَانٍ قَلِيلَةٍ،
أَبْدَأُ التَّرْجَمَةَ.
حِينَ سَخِرَ المُعَلِّمُ مِنِّي وَمِن صُوفِي، وَانْفَجَرَ الضَّحِكُ فِي الصَّفِّ،
لَمْ يَكُنْ تَلَعْثُمِي بِسَبَبِ ذَلِكَ.
إِنَّمَا كَانَت “نُوسِيكَّا”، تِلْكَ الَّتِي تُشْبِهُ الآلِهَةَ فِي طُولِهَا وَمَظْهَرِهَا،
عَذْرَاءَ ذَاتَ ذِرَاعَيْنِ بَيْضَاوَيْنِ —
هَلْ كَانَ عَلَيَّ أَنْ أَتَخَيَّلَ “هَانَا”؟ أَمْ “صُوفِي”؟”
لابُدَّ أنْ تَكونَ إحداهُما.
حينَ تتوقَّفُ مُحرِّكاتُ الطائراتِ عنِ الدَّوران،
لا تَسقُطُ الطائرةُ منَ السَّماءِ كما تسقُطُ الحجارةُ في الوهاد،
بل تَنزلقُ، تَنحدرُ في صَمتٍ ثقيل،
الطائراتُ الضَّخمةُ، تلكَ المُحمَّلةُ بأكثرِ من مُحرِّك،
تُواصِلُ انحدارَها لنحوِ نصفِ ساعةٍ أو يزيد،
ثم تُكابِدُ هبوطًا أخيرًا،
تُقاوِمُ فيه ما لا يُقاوَم،
وحين تَبلغُ الأرضَ،
تَرتَجُّ، تَنتثِرُ، تَتحطَّم.
الرُّكابُ؟
“لا يَشعُرونَ بشيء”.
فالسُّكونُ في لحظاتِ الانزلاقِ لا يَختلفُ كثيرًا عنِ الطَّيرانِ في لحظاتِ الأمان،
بل إنَّه أهدأُ قليلًا،
وإنْ كانَ ضجيجُ الرِّيحِ على جانبي الطائرةِ يُنازعُ صمتَ المحرِّكاتِ المُطفَأة.
تَصطدمُ الرِّيحُ بالجناحَينِ، بجِسمِ الطائرةِ نفسِه، وتَصرُخُ،
بينما يَنظرُ بعضُ الرُّكابِ منَ النَّوافذ،
تَبدو الأرضُ أو البحرُ أقربَ ممَّا يُحتَمَل، أكثرَ تهديدًا منَ الضَّرورة.
أو ربَّما…
“كانَ الفيلمُ يُعرَضُ في تلكَ اللحظة،
وكانَتِ السَّتائرُ قد أُسدِلَتْ بلُطفٍ بأيدي المضيفين والمضيفات”.
لعلَّ الرُّكابَ، لا سيَّما الهادئين منهم،
يَجِدونَ في هذا الطيرانِ الأهدأِ متعةً غامضة، راحةً لا تُفسَّر.
وهكذا كانَ صيفُنا،
“رِحلةَ انزلاقٍ نحوَ الحُبّ”.
أو بالأحرى، نحوَ “حُبِّي لِهانا”،
فأمَّا حُبُّها لي…
“فلا أدري عنهُ شيئًا”.
احتفظنا بطُقوسِنا كما لو أنّ الزَّمنَ توقَّفَ احترامًا لها:
القِراءةُ، ثمَّ الاستحمام، ثمَّ الحُبُّ، ثمَّ الانصهارُ في جسدٍ واحدٍ لا يرى الآخرَ غريبًا.
قرأتُ لها “الحربَ والسَّلام”، بتفاصيلِ تولستوي العَريضة، بِكلِّ ما فيها من تاريخٍ مُتحرِّك، ورجالٍ عِظام،
وروسيا التي تُشبِهُ الأسطورة، والحُبِّ الذي ينمو في أرضٍ باردةٍ دافئة، والزَّواج الذي يُشبهُ اتِّفاقًا بينَ قلبَينِ وسلالَتين.
“قضينا بينَ أربعينَ إلى خمسينَ ساعةٍ في تلكَ الرِّحلةِ الأدبيَّة”،
كانتْ هانا تُصغي، لا كمن يُتابِعُ سردًا، بل كمن يَشهَدُ مَشهَدًا من وراءِ زُجاجِ ذاكرته.
لكنَّها لم تَكنْ هانا الأولى، لم تَكُنْ تلكَ التي تَجزِمُ في الأحكام، وتَسحَبُ لويزةَ وإيميليا إلى أرضِها.
لم تَدمَج ناتاشا وأندريه وبيير في عالَمِها كما فعلَتْ مع الأوائل، بل هي مَن دخلَت عالَمَهُم، “كمن يُدعَى إلى قصرٍ عتيق، فيمكُثُ فيهِ وقتًا، يتجوَّلُ بينَ قاعاتهِ برهبةِ المُدهوش، دونَ أن يَخلَعَ تمامًا حذاءَ الخجلِ عن روحه”.
ما كنتُ أقرؤُهُ لَها في السَّابقِ، كانَتْ قد عَرَفَتْهُ مِنْ قَبلُ.
“كَانَتْ رِوَايَةُ الحربِ والسَّلامِ جَدِيدَةً عَلَيَّ أَيضًا.
قَطَعْنَا تِلكَ الرِّحْلَةَ البَعِيدَةَ مَعًا.”
ابتكرْنَا لِأنفُسِنَا أَسْمَاءَ تَدْلِيعٍ، لم تَعُدْ تُنَادِينِي فَقَط بِـ”الشَّابِّ الصَّغِيرِ”، بَل صَارَت تُنَادِينِي بِأَسْمَاءٍ مُتَنَوِّعَةٍ مِنَ الحَيَوَانَاتِ اللَّطِيفَةِ:
“ضِفْدَعٌ”، “علْجُومٌ”، “جَرْوٌ”، “حَصَاةٌ”، “وَرْدَةٌ”.
كَانَتِ الأَلْقَابُ تَتَنَاقَلُ بَيْنَنَا كَأَنْغَامٍ سِرِّيَّةٍ فِي لُغَةٍ خَاصَّةٍ لا يَفْهَمُهَا سِوَانَا.
وذَاتَ مَرَّةٍ، بَيْنَمَا كُنَّا مُتَعَانِقَيْنِ، سَأَلَتْنِي هَانَا، صَوْتُهَا مُنْخَفِضٌ كَهَمْسَةِ الرِّيحِ:
“فِي أَيِّ حَيَوَانٍ تُفَكِّرُ حِينَ تَضُمُّنِي بَيْنَ ذِرَاعَيْكَ، وَتُغْمِضُ عَيْنَيْكَ، وَتَتَخَيَّلُ الحَيَوَانَاتِ؟”
أَغْمَضْتُ عَيْنَيَّ.
تَخَيَّلْتُ.
كُنَّا مُتَلَاصِقَيْنِ كَجَسَدٍ وَاحِدٍ، رَأْسِي عِنْدَ عُنُقِهَا، وَعُنُقِي عَلَى صَدْرِهَا، ذِرَاعِيَ اليُمْنَى تَحْتَهَا وَمُنْبَسِطَةٌ عَلَى ظَهْرِهَا،
وَالْيُسْرَى عَلَى وَرِكِهَا، أُطَوِّقُهَا بِكَامِلِي، وَأَلْمَسُ بِكَفَّيَّ خَصْرَهَا العَرِيضَ، وَفَخِذَيْهَا الشَّدِيدَتَيْنِ، وَأَلْتَقِطُ بِأَصَابِعِي تَفَاصِيلَ جَسَدِهَا، أَشْعُرُ بِصَدْرِهَا، وَبِبَطْنِهَا، وَهُمَا يُطَوِّقَانِ صَدْرِي وَعُنُقِي كَضِفَّتَيْ نَهْرٍ.
كَانَ جَسَدُهَا نَاعِمًا أَمْلَسَ، وَتَحْتَ تلِكَ النَّعُومَةِ، قُوَّةٌ تُشْبِهُ الطَّمَأْنِينَةَ الَّتِي يُمْكِنُ لِلرُّكْبَانِ أَنْ يَتَّكِلُوا عَلَيْهَا.
وَحِينَ مَدَدْتُ يَدِي إِلَى رَبْلَةِ سَاقِهَا، أَحْسَسْتُ بِرَعْشَةٍ خَفِيفَةٍ، بِحَرَكَةٍ مُتَقَطِّعَةٍ فِي عَضَلَاتِهَا، تُشْبِهُ ذَاكَ الِارْتِجَافَ الَّذِي يَجْرِي تَحْتَ جِلْدِ الحِصَانِ حِينَ يُطَارِدُ الذُّبَابَ.
قُلْتُ لَهَا: “حَيَوَان …. حِصَانٍ.”
تَفَاجَأَتْ.
جَلَسَتْ مُنْتَصِبَةً، وَنَظَرَتْ إِلَيَّ بِدَهْشَةٍ وَذُهُولٍ.
“حِصَان؟”
لَمْ تَكُنْ كَعَادَتِهَا.
لَمْ تَقُلْ: “نَعَمْ” وَلا “لَا”.
وَفِي نَظْرَتِهَا شَيْءٌ مِنَ الحَيْرَةِ وَالعَتَبِ.
التفَتُّ إِلَيْهَا، وَقُلْتُ بِصِدْقٍ وَخِفَّةٍ:
“أَتُرَاكِ لَا تُحِبِّينَ ذَلِكَ؟
قُلْتُهُ لِأَنَّكِ تَبْدِينَ نَاعِمَةً وَمَلسَاء، وَتَحْتَ تلِكَ النعومة، شَيْءٌ قَوِيٌّ، ثَابِتٌ، يُمْكِنُ الِاتِّكَالُ عَلَيْهِ، وَرَبْلَةُ سَاقِكِ… تَتَحَرَّكُ كَذَلِكَ.”
نَظَرَتْ إِلَى سَاقِهَا، ثُمَّ هَزَّتْ رَأْسَهَا، وَقَالَتْ: “حِصَان…”
وَسَكَتَتْ.
أَرَدْتُ أَنْ أُصْلِحَ مَا أفسدته فِي اللَّحْنِ، فَقُلْتُ، أُحَاوِلُ الِاحْتِفَاءَ بِالتَّشْبِيهِ:
“يُمْكِنُنِي أَنْ أُنَادِيكِ ‘شِفَال’، أَو ‘هُوتِتْهُوه’، أَو ‘إِكْوِينْشِن’، أَو ‘بُوكِيفَلْشِن’.”
وَضَحِكْتُ، ثُمَّ أَضَفْتُ بِكُلِّ مَا أَسْتَطِيعُ مِنْ رِقَّةٍ:
“عِنْدَمَا أُفَكِّرُ فِي الحِصَانِ، لَا يَخْطُرُ فِي بَالِي سَرْجٌ، وَلَا جُمْجُمَةٌ، وَلَا حَافِرٌ، بَلْ شَيْءٌ دَافِئٌ، نَاعِمٌ، قَوِيٌّ، يَحْمِلُنِي وَأَنَا عَلَيْهِ، كَمَا تَحْمِلِينِي فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ . أَنتِ لَسْتِ أَرْنَبَةً، وَلَا هِرَّةً، وَفِي النَّمِرِ شَيْءٌ شِرِّيرٌ… وَهٰذَا لَسْتِهِ أَنْتِ.”
تَمَدَّدَتْ عَلَى ظَهْرِهَا، وَأَدَارَتْ يَدَيْهَا خَلْفَ رَأْسِهَا، كَمَنْ يُسَلِّمُ نَفْسَهُ لِلسَّمَاءِ. كُنْتُ قَدْ جَلَسْتُ مُنْتَصِبًا، أُحَدِّقُ فِيهَا وَفِي السُّكُونِ الَّذِي يَتَدَلَّى مِنْ عَيْنَيْهَا.
ثُمَّ بَعْدَ لَحْظَةٍ، أَدَارَتْ وَجْهَهَا نَحْوِي. كَانَ فِيهِ مَا يُشْبِهُ لَمْعَةَ قبْلَةٍ لَا تُقَالُ، وَمَا يُشْبِهُ تَوَقُّفَ الزَّمَنِ عِنْدَ نَبْرَةِ حَنَانٍ غَرِيبَةٍ.
قَالَتْ، وَبِحُرُوفِهَا دفْءٌ لَا يُحْتَمَلُ: “وَلٰكِنِّي أُحِبُّ أَنْ تُسَمِّيَنِي حِصَانًا، أَوْ بِأَسْمَاءِ الْخُيُولِ الْأُخْرَى – هَلْ تُفَسِّرُ لِي لِمَاذَا؟”
فِي يَوْمٍ مَا، ذَهَبْنَا سَوِيًّا إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُجَاوِرَةِ، إِلَى الْمَسْرَحِ، لِمُشَاهَدَةِ مَسْرَحِيَّةٍ بِعُنْوَانِ “الْمُؤَامَرَةُ وَالْحُبُّ”. كَانَ ذٰلِكَ أَوَّلَ عَهْدِ “هَانَا” بِالْمَسْرَحِ، وَقَدْ اسْتَمْتَعَتْ بِكُلِّ شَيْءٍ، مِنَ الْعَرْضِ إِلَى كَأْسِ الشَّمْبَانْيَا فِي الاسْتِرَاحَةِ.
وَضَعْتُ ذِرَاعِي حَوْلَ خَصْرِهَا دُونَ أَنْ أُلْقِيَ لِلنَّاسِ بَالًا، كُنَّا نَبْدُو كَثُنَائِيٍّ فِي الْعَلَنِ، وَكُنْتُ فَخُورًا بِأَنَّنِي لَا أُبَالِي. كَانَ فَخْرًا يَشِي بِشَيْءٍ مِنَ الْتَحَرُّرِ، لَكِنَّنِي كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّنِي لَنْ أَجْرُؤَ عَلَى ذٰلِكَ فِي مَسْرَحِ مَدِينَتِي.
فَهَلْ كَانَتْ تَعْلَمُ؟ نَعَمْ، كَانَتْ تَعْلَمُ.
كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ حَيَاتِي فِي الصَّيْفِ لَمْ تَعُدْ تَدُورُ حَوْلَهَا وَحْدَهَا، وَلَا حَوْلَ الْمَدْرَسَةِ، وَلَا حَتَّى حَوْلَ الدِّرَاسَةِ.
فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَرَّاتِ، حِينَ كُنْتُ أَزُورُهَا فِي آخِرِ النَّهَارِ، كُنْتُ آتِي مِنَ الْمَسْبَحِ، هُنَاكَ حَيْثُ يَجْتَمِعُ الزُّمَلَاءُ وَالزَّمِيلَاتُ، يَجْلِسُونَ مَعًا، يُؤَدُّونَ الْوَاجِبَاتِ، يَلْعَبُونَ كُرَةَ الْقَدَمِ وَالطَّائِرَةِ وَالسِّكَّاتْ، وَيَتَغَازَلُونَ.
كَانَ ذٰلِكَ نَبْضَ الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ لِلصَّفِّ، وَكَانَ يُهِمُّنِي أَنْ أَكُونَ جُزْءًا مِنْهُ، أَنْ أَنْتَمِيَ إِلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ لِي مَقْعَدٌ عَلَى طَاوِلَةِ الْحَيَاةِ.
وَأَنْ أَصِلَ مُتَأَخِّرًا، أَوْ أُغَادِرَ مُبَكِّرًا بِحَسَبِ عَمَلِ “هَانَا”، لَمْ يَكُنْ يُنْقِصُ مِنْ قِيمَتِي، بَلْ رُبَّمَا زَادَنِي غُمُوضًا وَجَاذِبِيَّةً.
كُنْتُ أَعْلَمُ ذٰلِكَ. كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّنِي لَا أُفَوِّتُ شَيْئًا.
وَمَعَ ذٰلِكَ، كَثِيرًا مَا شَعَرْتُ أَنَّ شَيْئًا غَرِيبًا يَحْدُثُ… تَمَامًا فِي اللَّحظَاتِ الَّتِي لَا أَكُونُ فِيهَا.
وَطَالَمَا تَجَنَّبْتُ السُّؤَالَ الَّذِي كَانَ يَنْقُرُ فِي دَاخِلِي: هَلْ كُنْتُ أُفَضِّلُ أَنْ أَكُونَ فِي الْمَسْبَحِ عَلَى أَنْ أَكُونَ مَعَ “هَانَا ؟
فِي يَوْمِ عِيدِ مِيلَادِي فِي شَهْرِ يُولْيُو، احْتَفَلُوا بِي فِي الْمَسْبَحِ، ثُمَّ تَرَكُونِي وَحِيدًا، وَفِي نَفْسِ الْيَوْمِ، اسْتَقْبَلَتْنِي “هَانَا” مُتْعَبَةً، وَبِسُوءِ مِزَاجٍ ظَاهِرٍ عَلَيْهَا.
وَكَانَتِ الْمُفَارَقَةُ الْمُرَّةُ: لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ أَنَّ الْيَوْمَ عِيدُ مِيلَادِي.
حين سألتُها عن يومِ ميلادِها، فأجابتني أنّه في الحادي والعشرين من تشرين الأوّل، لم تردّ السُّؤال، ولم تهتمّ بأن تعرف متى وُلدتُ أنا.
لم يكن مزاجُها أسوأ من المعتاد حين يُثقلها التَّعب، ومع ذلك، كان ذلك الضِّيقُ البسيطُ كافيًا لِيُكدِّرَني، فوددتُ لو أفِرُّ إلى حوض السِّباحة، إلى رفقةِ الصفّ، إلى سهولةِ الحديث، وبساطةِ الضَّحك، وعبثِ اللَّعب، وحرارةِ الغَزل.
“حين أجبتُها أنا بمزاجٍ سيِّئ، واحتدمَ بيننا جدالٌ حادّ، وتصرَّفتْ هانا نحوي كأنّني محضُ هواءٍ لا يُرى،
عاد إليّ ذلك الخوفُ القديمُ من فقدانِها، فانكفأتُ مُنهزمًا أطلبُ الصفح، وما لبثَتْ أن عادت إليّ، تُضمِّدُني بلُطفِها،
ولكنني كنتُ ممتلئًا بالحِقد.
ثم بدأتُ أخونُها.
لم أبحْ بسرٍّ، ولم أُهِنْها أمام أحد، لم أفشِ شيئًا يستوجب الكتمان، بل كتمتُ ما كان ينبغي أن أُفصح به.
لم أُقرَّ بها أمام نفسي.
وأعلمُ أنّ الإنكارَ، في صمتِه، لا يقلّ خيانةً عن الجَهرِ بها.
فالناسُ لا يَفرِقون، في ظاهرِ الأمر، بين من يُنكر، ومن يحتاطُ ويُراعي، ويتحسَّبُ للمشاعرِ المُرهَفة، ويتفادى الحرج والمشكلات.
لكنّ من يُنكرُ يعرفُ أنه يُنكر.
وإنكارُ الآخرِ يُقوِّضُ الأرضَ التي تنهضُ عليها العلاقة، كما تفعلُ الخيانةُ الفاضحة.
لا أذكرُ متى أنكرتُ هانا لأوَّل مرَّة.
تفتّحت صداقاتٌ في صيفٍ منساب، بعد ظُهرٍ طويلٍ في المسبح.
عدا زميلي القديم الذي كنتُ أعرفه من قبل، أحببتُ في الصفِّ الجديد هولجر شليوتر، كان يُشاركُني شغفي بالتاريخ والأدب، وسرعان ما أصبحتِ العلاقةُ بيننا موصولةً بالأُلفة.
ثم جاءت صوفي، كانت تسكنُ على بُعدِ شوارعَ قليلة، ونسيرُ معًا في الطريق إلى المسبح،
فتوطَّدت علاقتنا أيضًا.
في البدءِ، أقنعتُ نفسي أنَّ صداقتي بهم ليست من العمق بحيث أتحدّث لهم عن هانا.
ثم مرَّ الوقتُ دون أن أجد لحظةً مناسبة، ولا عبارةً صالحة، ولا سياقًا يُفضي إليها.
وأخيرًا، بدا أنّ الزمن قد فات.
صارت هانا شيئًا لم يعد يصلح أن أُدخله إلى أحاديث الشباب كأنَّه أحد أسرارهم.
قلتُ لنفسي: “لو تحدّثتُ عنها الآن، لربّما ظنُّوا أنني أخفيتُها لأنّ العلاقة لم تكن صحيحة، أو لأنني أشعرُ بالذنب.”
لكن، ومهما بذلتُ من محاولاتٍ لأقنعَ نفسي، كنتُ أعلم أنني أخونُها حين أتصرف كأنّ أصدقائي يعرفون كلّ ما هو مهمٌّ في حياتي، وأظلُّ صامتًا عن هانا.”
كَانَ شُعُورُهُم بِأَنَّنِي لَسْتُ صَرِيحًا عَلَى التَّمَامِ لَا يُصْلِحُ شَيْئًا، وَلَا يُخَفِّفُ مِن وَقْعِ الصَّمْتِ الَّذِي كَانَ يحِيطُنِي كَسِتَارٍ ثَقِيلٍ.
فِي إِحْدَى الْأمْسِيَاتِ، وَأَثْنَاءَ عَوْدَتِنَا سَوِيًّا أَنَا وَصُوفِي، فَاجَأَتْنَا عَاصِفَةٌ مُبَاغِتَةٌ، فَفَرَرْنَا نَبْتَغِي مَلْجَأً، حَتَّى عَثَرْنَا عَلَى سَقْفِ بَيْتٍ صَغِيرٍ فِي حَدِيقَةٍ بِحَقْلِ “نُويْهَايْمَر”، حَيْثُ كَانَتِ الْأَرْضُ يَوْمَهَا مَزَارِعَ وَحَدَائِقَ، لَمْ تَكُنِ الْمَبَانِي الْجَامِعِيَّةُ قَدِ اغْتَصَبَتْهَا بَعْدُ.
كَانَ الْبَرْقُ يَلْمَعُ، وَالرَّعْدُ يُدَوِّي، وَالْعَاصِفَةُ تَزْأَرُ، وَالْمَطَرُ يَهْطِلُ قَطَرَاتٍ ثَقِيلَةً كَالرَّصَاصِ، تضْرِبُ وَجْهَ الْأَرْضِ وَقُلُوبَنَا سَوِيًّا. فِي اللَّحْظَةِ نَفْسِهَا، انْخَفَضَتِ الْحَرَارَةُ خَمْسَ دَرَجَاتٍ، فَارْتَعَشْنَا، وَمَدَدْتُ ذِرَاعِي حَوْلَهَا.
قَالَتْ، بِنَبْرَةٍ هَادِئَةٍ تُشْبِهُ الْمَطَرَ: “أَنْتَ؟”
وَلَمْ تَكُنْ تَنْظُرُ إِلَيَّ، بَلْ إِلَى الْفَضَاءِ الْمُمْطِرِ الَّذِي يَخْتَبِئُ خَلْفَ الْغَيْمِ.
قُلْتُ: “نَعَم؟”
سَأَلَتْنِي: “لَقَدْ مَرِضْتَ طَوِيلًا… كَانَ لَدَيْكَ الْيَرَقَانُ. هَلْ هَذَا مَا يُقْلِقُكَ؟ أَتَخَافُ أَلَّا تَتَعَافَى تَمَامًا؟ هَلْ قَالَ الْأَطِبَّاءُ شَيْئًا؟ هَلْ عَلَيْكَ أَنْ تَذْهَبَ إِلَى الْعِيَادَةِ يَوْمِيًّا لِتَبْدِيلِ الدَّمِ، أَوْ لِأَخْذِ الْمَحَالِيلِ؟”
فَكَانَتْ “هَانَا” كَمَرَضٍ فِي خَيَالِي. وَخَجِلْتُ.
لَمْ أَقْدِرْ عَلَى النُّطْقِ بِاسْمِهَا.
قُلْتُ: “لَا، يَا صُوفِي، لَمْ أَعُدْ مَرِيضًا. نَتَائِجُ فُحُوصَاتِ كَبِدِي طَبِيعِيَّةٌ، وَيُفْتَرَضُ أَنْ أَسْتَطِيعَ شُرْبَ الْكُحُولِ بَعْدَ عَامٍ إِذَا شِئْتُ، وَلَكِنَّنِي لَا أُرِيدُ. مَا يُهِمُّنِي…”
لَكِنِّي لَمْ أُرِدْ أَنْ أَقُولَ: “مَا يُهِمُّنِي هُوَ هَانَا.”
“سَبَبُ تَأَخُّرِي، أَوْ مُغَادَرَتِي الْمُبَكِّرَةِ، شَيْءٌ آخَر.”
فَسَأَلَتْ: “أَلَا تُرِيدُ الْحَدِيثَ عَنْهُ، أَمْ تُرِيدُ وَلَا تَعْرِفُ كَيْفَ؟”
وَلَمْ أَجِدْ إِجَابَةً. لَمْ أَجِدْ حَتَّى صَوْتًا أَقْدِرُ أَنْ أَتَعَكَّزَ عَلَيْهِ.
وَبَيْنَمَا نَقِفُ هُنَاكَ، تَحْتَ وَمِيضِ الْبَرْقِ، وَصَوْتِ الرَّعْدِ الْقَرِيبِ، وَالْمَطَرِ الَّذِي يَسْقُطُ عَلَيْنَا بَرْدًا وَخَوْفًا، نُدَفِّئُ بَعْضَنَا بَعْضًا بِقُرْبٍ خَفِيٍّ، شَعَرْتُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيَّ أَنْ أُخْبِرَهَا، خُصُوصًا هِيَ، عَنْ “هَانَا”.
قُلْتُ لِنَفْسِي: “رُبَّمَا أَتَحَدَّثُ عَنْ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ.”
وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَحْدُثْ قَطُّ.
لَمْ أَعْرِفْ قَطُّ مَاذَا تَفْعَلُ “هَانَا” حِينَ لَا تَكُونُ مَعِي، وَلَا تَعْمَلُ. وَكُلَّمَا سَأَلْتُهَا، تَجَنَّبَتِ الْإِجَابَةَ.
لَمْ نَكُنْ نَشْتَرِكُ فِي حَيَاةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ كَانَتْ تُنَاوِلُنِي مِنْ حَيَاتِهَا الْقِطْعَةَ الَّتِي تَرغَبُ فِي أَنْ تَمْنَحَنِي إِيَّاهَا.
وَكانَ عَلَيَّ، أَنْ أَقْتَنِعَ بِذَلِكَ.
وَكُنْتُ إِذَا مَا رَغِبْتُ فِي أَكْثَرَ، أَوْ حَتَّى فِي مَعْرِفَةٍ أَكْثَرَ، عُدَّ ذَلِكَ تَجَاوُزًا لَا يُغْتَفَرُ.
وَفِي لَحَظَاتِ سَعَادَتِنَا النَّادِرَةِ، تِلْكَ الَّتِي يُخَيَّلُ لِلْمَرءِ فِيهَا أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مُمْكِنٌ، وَأَنَّ الْمَسْمُوحَ يَتَّسِعُ لِيَشْمَلَ الْمُحَرَّمَ، كَانَتْ هِيَ، بَدَلًا مِنَ الرَّفْضِ الصَّرِيحِ، تَهْرُبُ مِنَ السُّؤَالِ.
كَانَتْ تَقُولُ، وَهِيَ تَبْتَسِمُ بِمَكْرٍ طِفُولِيٍّ عَذْبٍ: “يَا لَكَ مِنْ فُضُولِيٍّ، أَيُّهَا الصَّغِيرُ!”
أَوْ تَلْتَقِطُ يَدِي وَتَضَعُهَا عَلَى بَطْنِهَا بِرِقَّةٍ حَذِرَةٍ، كَأَنَّمَا لِتُصَرِّفَ الْحَدِيثَ عَنْ وَجْهَتِهِ.
ثُمَّ تَقُولُ، بِعَيْنَيْنِ نِصْفِ ضَاحِكَتَيْنِ: “أَتُرِيدُ لَهُ أَنْ يُخْدَشَ؟”
أَحْيَانًا تُعَدِّدُ، وَهِيَ تَرْفَعُ أَصَابِعَهَا وَاحِدًا تِلْوَ الآخَرِ، كَأَنَّهَا تُحَاصِرُنِي بِوَاقِعٍ لَا يُقَاوَمُ:
“عَلَيَّ أَنْ أَغْسِلَ، وَأَكْوِيَ، وَأَكْنُسَ، وَأَمْسَحَ، وَأَشْتَرِيَ، وَأَطْبُخَ، وَأَقْطَفَ الْبَرْقُوقَ، وَأَجْمَعَهُ، وَأَحْمِلَهُ إِلَى الْبَيْتِ، وَأُعِدَّهُ بِسُرْعَةٍ، وَإِلَّا… سَيَأْكُلُهُ الصَّغِيرُ.”
ثُمَّ تَأْخُذُ إِصْبَعِي الصَّغِيرَ بَيْنَ إِبْهَامِهَا وَسِبَابَتِهَا، وَتَقُولُ بِنَبْرَةٍ هَامِسَةٍ: “وَإِلَّا سَيَأْكُلُهُ وَحْدَهُ، كُلَّهُ.”
لَمْ أُصَادِفْهَا قَطُّ فِي الشَّارِعِ، وَلَا فِي مَتْجَرٍ، وَلَا حَتَّى فِي السِّينِمَا، رَغْمَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ دَائِمًا إِنَّهَا تَذْهَبُ كَثِيرًا، وَتُحِبُّ ذَلِكَ.
وَفِي الأَشْهُرِ الأُولَى، ذَهَبْتُ مَعَهَا مَرَارًا، وَلَكِنَّهَا مَا رَغِبَتْ بِذَلِكَ يَوْمًا.
كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَحْيَانًا عَنِ الْأَفْلَامِ، عَن تِلْكَ الَّتِي رَأَيْنَاهَا مَعًا.
كَانَتْ تَذْهَبُ إِلَى السِّينِمَا بِلَا اخْتِيَارٍ مُسَبَّقٍ، تُشَاهِدُ كُلَّ شَيْءٍ: مِنَ الْأَفْلَامِ الْوَطَنِيَّةِ الْأَلْمَانِيَّةِ إِلَى حكَايَا الْغَرْبِ الْأَمْرِيكِيِّ وَالنُّوفِيل فَاجْ الْفَرَنْسِيَّةِ.
أَمَّا أَنَا، فَكُنْتُ أُفْتَنُ بِهُولِيُوودَ، لَا فَرْقَ عِنْدِي إِنْ دَارَتْ أَحْدَاثُهَا فِي رُومَا الْقَدِيمَةِ أَوْ عَلَى تخُومِ الْغَرْبِ الْوَحْشِيِّ.
وَكَانَ بَيْنَنَا فِيلْمٌ وَاحِدٌ، مِنْ أَفْلَامِ الْكَاوْبُوي، أَحَبَبْنَاهُ مَعًا بِشِدَّةٍ؛
يَلْعَبُ فِيهِ رِيتْشَارْد وَيدمَارك دَوْرَ الشَّرِيفِ، الَّذِي عَلَيْهِ أَنْ يَخُوضَ مُبَارَزَةً مَعَ الْفَجْرِ، لَا مَفَرَّ لَهُ مِنْ خَسَارَتِهَا،
ثُمَّ فِي الْمَسَاءِ، يَذْهَبُ إِلَى بَيْتِ دُورُوثِي مَالُونِ الَّتِي حَذَّرَتْهُ، عَبَثًا، مِنَ الْبَقَاءِ.
تَفْتَحُ لَهُ الْبَابَ، وَعَيْنُهَا مُمتَلِئَةٌ بِالْخَوْفِ وَالْغَضَبِ، وَتَقُولُ:
“مَاذَا تُرِيدُ الآنَ؟”
ثُمَّ تَسْأَلُهُ، كَأَنَّهَا تُشْهِرُ فِي وَجْهِهِ الْمِديَةَ:
“أَتُرِيدُ أَنْ تَحْيَا حَيَاتَكَ كُلَّهَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ؟”
وَكَانَتْ هَانَا تُرَدِّدُ هَذَا السُّؤَالَ عَلَيَّ، مَازِحَةً، حِينَ أَزُورُهَا مُحَمَّلًا بِالرَّغْبَةِ:
“مَاذَا تُرِيدُ الآنَ؟ أَنْ تَحْيَا حَيَاتَكَ كُلَّهَا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ؟”
لَمْ أَرَ هَانَا، عَلَى غَيْرِ مَوْعِدٍ، سِوَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ.
كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ يُولْيُو أَوْ أَوَائِلِ أَوْغُسْطُسَ، فِي الْأَيَّامِ الْأَخِيرَةِ قَبْلَ انْطِلَاقِ الْعُطْلَةِ الصَّيْفِيَّةِ الْكُبْرَى.
كَانَتْ فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ تَعِيشُ مزَاجًا غَرِيبًا، يَخْتَلِطُ فِيهِ التَّسَلُّطُ بِالتَّوَتُّرِ، وَالْحِدَّةُ بِالْهَشَاشَةِ.
كَأَنَّ شَيْئًا ثَقِيلًا يَجْثُمُ عَلَى صَدْرِهَا، يُعَذِّبُهَا فِي صَمْتٍ، وَيَجْعَلُهَا عرْضَةً لِلْاِنْكَسَارِ عِنْدَ لَمْسَةٍ، أَوْ كَلِمَةٍ، أَوْ حَتَّى نَظْرَةٍ.
كَانَتْ تَتَحَمَّلُ، تُمْسِكُ نَفْسَهَا كَأَنَّهَا تُحَاوِلُ أَلَّا تَنْفَجِرَ تَحْتَ وَطأَةِ ذَلِكَ الضَّغْطِ الثَّقِيلِ، كَأَنَّهَا خِزَانٌ عَلَى وَشْكِ الْاِنْفِجَارِ.
وَعِنْدَمَا سَأَلْتُهَا عَنْ سَبَبِ عَذَابِهَا، رَدَّتْ بِحِدَّةٍ تُذْهِلُنِي.
لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَتَعَامَلَ مَعَ ذَلِكَ الرَّدِّ، وَلَمْ أَجِدْ سَبِيلًا لِفَهْمِهِ بِسُهُولَةٍ.
لَمْ أَشْعُرْ فَقَطْ بِرَفْضِهَا لِي، بَلْ بِرَفْضِهَا لِذَاتِهَا، بِعَجْزِهَا الْخَفِيِّ، فَتَرَدَّدْتُ بَيْنَ رَغْبَتِي فِي أَنْ أَكُونَ مَوْجُودًا مِنْ أَجْلِهَا، وَبَيْنَ احْتِرَامِي لِهُدُوءِهَا الَّذِي تَحْتَاجُهُ.
وَذَاتَ يَوْمٍ، اخْتَفَى ذَلِكَ الضَّغْطُ فَجْأَةً، كَمَا لَوْ أَنَّ الْعَاصِفَةَ انْحَسَرَتْ دُونَ سَابِقِ إِنْذَارٍ.
ظَنَنْتُ، لِبِضْعِ لَحَظَاتٍ، أَنَّ هَانَا قَدْ عَادَتْ إِلَى طَبِيعَتِهَا، إِلَى ذَلِكَ النَّسَقِ الْمُسْتَقِرِّ الَّذِي أَعْرِفُهُ.
بَعْدَ أَنْ أَنْهَيْنَا قِرَاءَةَ “الْحَرْبِ وَالسَّلَامِ”، لَمْ نَبْدَأْ فَوْرًا كِتَابًا جَدِيدًا، وَكَانَ عَلَيَّ اخْتِيَارُ التَّالِي مِنْ بَيْنِ عِدَّةِ كُتُبٍ جَلَبْتُهَا مَعِي، لَكِنَّهَا لَمْ تُبْدِ رَغْبَةً فِي الْقِرَاءَةِ، بَلْ قَالَتْ لِي بِهُدُوءٍ غَيْرِ مُتَوَقَّعٍ: “دَعْنِي أُحَمِّمْكَ يَا صَغِيرِي.”
لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْحَرَارَةُ الصَّيْفِيَّةُ اللَّاهِبَةُ الَّتِي اسْتَقْبَلَتْنِي فِي الْمَطْبَخِ، كَأَنَّهَا نَسِيجٌ ثَقِيلٌ يَلُفُّنِي، بَلْ كَانَتْ هَانَا قَدْ أَشْعَلَتْ سَخَّانَ الْحَمَّامِ، سَمَحَتْ لِلْمَاءِ أَنْ يَنْسَابَ بِرِقَّةٍ، وَأَضَافَتْ قَطَرَاتٍ مِنَ اللَّافَنْدَرِ، وَبَدَأَتْ تَغْسِلُنِي بِعِنَايَةٍ.
كَانَتْ مَرِيلَتُهَا الزَّرْقَاءُ الْبَاهِتَةُ الْمَنْقُوشَةُ بِالزُّهُورِ، الَّتِي لَمْ تَكُنْ تَرْتَدِي تَحْتَهَا شَيْئًا، تَلْتَصِقُ بِجَسَدِهَا الْمُتَعَرِّقِ فِي الْهَوَاءِ الْحَارِّ وَالرَّطْبِ، وَكَانَ مَنْظَرُهَا يُوقِظُ فِينِي إِحْسَاسًا شَدِيدًا، مَوْجَةً مِنْ رَغْبَةٍ لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهَا مِنْ قَبْلُ.
حِينَ كُنَّا نَعِيشُ لَحَظَاتِ الْحُبِّ مَعًا، أَشْعُرُ بِأَنَّهَا تُرِيدُ أَنْ تَدْفَعَنِي إِلَى عَوَالِمَ مِنَ الْأَحَاسِيسِ، تَتَجَاوَزُ كُلَّ مَا عَرَفْتُهُ مِنْ قَبْلُ، إِلَى حَدٍّ لَمْ أَعُدْ أَطِيقُهُ، وَكَانَ تَفَانِيَهَا فَرِيدًا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِلَا حُدُودٍ؛ فَهِيَ لَمْ تَكْشِفْ لِي عَنْ كُلِّ مَا تَحْتَفِظُ بِهِ لِنَفْسِهَا، بَلْ كَانَ كَأَنَّهَا تُرِيدُ أَنْ تَغْرقَ مَعِي فِي بَحْرٍ عَمِيقٍ مِنَ الْمَشَاعِرِ.
قَالَتْ لِي بِبُرُودٍ حَادٍّ: “اِذْهَبْ الآنَ إِلَى أَصْدِقَائِكَ.”
وَدَّعَتْنِي، وَخَرَجت.
كَانَتِ الْحَرَارَةُ لَا تَزَالُ تَتَدَفَّقُ بَيْنَ الْمَنَازِلِ، تُغَطِّي الْحُقُولَ وَالْحَدَائِقَ، وَتَتَرَنَّحُ فَوْقَ الْإِسْفَلْتِ الْمُحَمَّى، كُنْتُ مُذْهُولًا، غَرِيبًا فِي هَذَا الْعَالَمِ.
فِي الْمَسْبَحِ، كَانَ صرَاخُ الْأَطْفَالِ الَّذِينَ يَلْعَبُونَ وَيَرْتَشِفُونَ الْمَاءَ يَصِلُ إِلَى أُذُنِي كَأَنَّهُ يَأْتِي مِنْ بَعِيدٍ جِدًّا، كُنْتُ أَسِيرُ فِي الْعَالَمِ كَأَنَّهُ لَا يَنْتَمِي إِلَيَّ، وَكَأَنِّي لَا أَنْتَمِي إِلَيْهِ.
غَطَسْتُ فِي الْمَاءِ الْكُلُورِي الْغَائِمِ، وَلَمْ أَشْعُرْ بِرَغْبَةٍ فِي الصُّعُودِ إِلَى السَّطْحِ مُجَدَّدًا، رَقَدْتُ مَعَ الْآخَرِينَ، اسْتَمَعْتُ إِلَيْهِمْ، وَوَجَدْتُ كَلَامَهُمْ سَخِيفًا، تَافِهًا.
حَتَّى تَلَاشَتْ تِلْكَ الْحَالَةُ فِي النِّهَايَةِ، فِي وَقْتٍ مَا، أَصْبَحَ بَعْدُ ظَهِيرَةٍ عَادِيَّةٍ فِي الْمَسْبَحِ، بَيْنَ وَاجِبَاتٍ دِرَاسِيَّةٍ، وَلَعِبِ الْكُرَةِ الطَّائِرَةِ، وَالثَّرْثَرَةِ، وَالْمُغَازَلَةِ.
لَا أَتَذَكَّرُ مَا الَّذِي كُنْتُ أَفْعَلُهُ بِالضَّبْطِ حِينَ رَفَعْتُ نَظَرِي وَرَأَيْتَهَا.
كَانَتْ تَقِفُ عَلَى بُعْدِ عِشْرِينَ إِلَى ثَلَاثِينَ مِتْرًا، تَرْتَدِي شُورْتًا وَقَمِيصًا مَفْتُوحًا مَرْبُوطًا عِنْدَ الْخَصْرِ، وَكَانَتْ تُطِلُّ نَحْوِي بِعَيْنَيْنِ تَمْلَؤُهُمَا دَلَالَةٌ غَامِضَةٌ.
نَظَرْتُ إِلَيْهَا، وَرَدَدْتُ النَّظَرَ.
لَكِنَّنِي لَمْ أَسْتَطِعْ قِرَاءَةَ تَعَابِيرِ وَجْهِهَا مِنْ تِلْكَ الْمَسَافَةِ، لَمْ تَكُنِ الْكَلِمَاتُ تَكْفِي لِفَكِّ شِفْرَةِ ذَلِكَ الْعَبُوسِ الْغَامِضِ.
لَمْ أَنَهَضْ وَأَسْرِعْ نَحْوَهَا.
تَزَاحَمَتْ فِي ذِهْنِي أَسْئِلَةٌ كَثِيرَةٌ، كَأَنَّهَا شَلَّالَاتٌ لَا تَهْدَأُ:
“لِمَاذَا هِيَ هُنَا فِي الْمَسْبَحِ؟ هَلْ تُرِيدُ أَنْ تُرَى مَعِي؟ هَلْ أَرْغَبُ أَنْ يُرَى أَنِّي مَعَهَا؟ لَمْ نَلْتَقِ صُدْفَةً مِنْ قَبْلُ، مَاذَا عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ؟”
ثُمَّ نَهَضْتُ.
وَفِي اللَّحْظَةِ الَّتِي حَرَّرْتُ فِيهَا نَظَرِي عَنْهَا، رَحَلَتْ كَأَنَّهَا سَرَابٌ فِي الْهَوَاءِ.
هَانَا فِي شُورْتٍ وَقَمِيصٍ مَرْبُوطٍ، وَوَجْهُهَا الْمُوَجَّهُ نَحْوِي، وَعبُوسُهَا الَّذِي لَمْ أَسْتَطِعْ فَهْمَهُ — هَذِهِ صُورَةٌ تَخْتَزِنُهَا ذَاكِرَتِي بِلَا زَوَالٍ.
فِي الْيَوْمِ التَّالِي، لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ.
أَتَيْتُ فِي الْوَقْتِ الْمُعْتَادِ، وَقَرَعْتُ الْبَابَ، رَأَيْتُ مِنْ خِلَالِ النَّافِذَةِ، كُلَّ شَيْءٍ كَانَ كَمَا هُوَ، وَسَمِعْتُ دَقَّاتِ السَّاعَةِ.
جَلَسْتُ عَلَى دَرَجَاتِ السُّلَّمِ مَرَّةً أُخْرَى، وَجَاءَنِي الصَّمْتُ ثَقِيلًا كَالْحَجَرِ.
فِي الشُّهُورِ الأُولَى، كُنْتُ أَعْرِفُ دَائِمًا مَسَارَاتِ عَمَلِهَا، رَغْمَ أَنِّي لَمْ أُحَاوِلْ مُرَافَقَتَهَا أَوْ حَتَّى اسْتِقْبَالَهَا، ثُمَّ تَوَقَّفْتُ عَنْ السُّؤَالِ، وَفَقَدْتُ الاهْتِمَامَ.
وَهَذَا مَا لَاحَظْتُهُ الآنَ فَقَطْ.
مِنْ كُشْكِ الْهَاتِفِ فِي مَيْدَانِ فِيلْهِلْمْ، اتَّصَلْتُ بِشَرِكَةِ النَّقْلِ وَالتِّلْفْرِيكِ، وَتَمَّ تَحْوِيلِي عِدَّةَ مَرَّاتٍ، وَعَرَفْتُ أَنَّ هَانَا شْمِيتْس لَمْ تَحْضُرْ إِلَى الْعَمَلِ.
عُدْتُ إِلَى شَارِعِ الْمَحَطَّةِ، وَسَأَلْتُ فِي وَرْشَةِ النَّجَارَةِ دَاخِلَ الْمَبْنَى عَنْ مَالِكِ الْمَنْزِلِ، وَحَصَلْتُ عَلَى اسْمٍ وَعُنْوَانٍ فِي كِيرْشْهَايمْ.
ذَهَبْتُ إِلَى هُنَاكَ.
قَالُوا لِي: “هَلِ السَّيِّدَةُ شْمِيتْس؟ لَقَدْ غَادَرَتْ هَذَا الصَّبَاحَ.”
وَسَأَلْتُ: “وَمَاذَا عَنْ أَثَاثِهَا؟”
أَجَابُوا: “لَيْسَ أَثَاثَهَا.”
“وَمُنْذُ مَتَى كَانَتْ تَسْكُنُ الشَّقَّةَ؟”
رَدَّتِ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَحَدَّثْتُ مَعَهَا مِنْ خَلْفِ نَافِذَةِ الْبَابِ: “مَا شَأْنُكَ أَنْتَ؟”
ثُمَّ أَغْلَقَتِ النَّافِذَةَ فِي وَجْهِي، كَأَنَّهَا تُغْلِقُ بَابًا عَلَى كُلِّ الْأَسْئِلَةِ الَّتِي لَمْ تَزَلْ مُعَلَّقَةً فِي الْهَوَاءِ.
“وَفِي مَبْنَى إِدَارَةِ شَرِكَةِ النَّقْلِ وَالتِّلْفْرِيكِ، طَلَبْتُ الْوُصُولَ إِلَى قِسْمِ الْمُوَظَّفِينَ.”
كَانَ الْمَسْؤُولُ وُدُودًا، يَحْمِلُ فِي عَيْنَيْهِ اهْتِمَامًا غَيْرَ مُصْطَنَعٍ.
قَالَ لِي: “اتَّصَلَتْ هَذَا الصَّبَاحَ فِي وَقْتٍ مُنَاسِبٍ، حَتَّى تَمَكَّنَّا مِنْ تَنْظِيمِ الْبَدِيلِ، وَأَخْبَرَتْنَا بِأَنَّهَا لَنْ تَأْتِيَ بَعْدَ الْآنَ، أَبَدًا.”
هَزَّ رَأْسَهُ بِهُدُوءٍ قَائِلًا: “قَبْلَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، كَانَتْ تَجْلِسُ هُنَا، عَلَى كُرْسِيكَ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهَا أَنْ نُدَرِّبَهَا لِتُصْبِحَ سَائِقَةً، لَكِنَّهَا تَرَكَتْ كُلَّ شَيْءٍ.”
بَعْدَ أَيَّامٍ، خَطَرَ لِي أَنْ أَذْهَبَ إِلَى مَكْتَبِ تَسْجِيلِ السُّكَّانِ.
لَقَدْ أَلْغَتْ تَسْجِيلَهَا فِي الْمَدِينَةِ وَانْتَقَلَتْ إِلَى هَامْبُورْغَ دُونَ أَنْ تَذْكُرَ عُنْوَانًا.
لِبَضْعَةِ أَيَّامٍ، غَمَرَنِي شُعُورٌ سَيِّءٌ شَدِيدٌ.
حَرَصْتُ عَلَى أَلَّا يَلْحَظَ الْوَالِدَانِ وَالْأَشِقَّاءُ، كُنْتُ أُشَارِكُ قَلِيلًا فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْمَائِدَةِ، وَآكُلُ قَلِيلًا، وَأَتَمَكَّنُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَرْحَاضِ حِينَ تَشُدُّنِي رَغْبَةُ التَّقَيُّؤِ.
ذَهَبْتُ إِلَى الْمَدْرَسَةِ وَالْمَسْبَحِ، وَفِي الْمَسْبَحِ، كُنْتُ أَقْضِي بَعْدَ الظُّهْرِ فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ حَيْثُ لَا يَبْحَثُ عَنِّي أَحَدٌ.
كَانَ جَسَدِي يَشْتَاقُ إِلَى هَانَا، لَكِنْ مَا كَانَ أَعْظَمَ مِنَ الِاشْتِيَاقِ الْجَسَدِيِّ، كَانَ شُعُورَ الذَّنْبِ.
“لِمَاذَا لَمْ أَنْهَضْ وَأَهْرَعْ إِلَيْهَا حِينَ وَقَفَتْ هُنَاكَ؟”
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ الصَّغِيرَةِ، تَجَمَّعَ كُلُّ تَرَدُّدِي وَنِصْفُ قَلْبِي فِي الشُّهُورِ الْمَاضِيَةِ، الَّتِي أَنْكَرْتُهَا وَخُنْتُهَا فِيهَا, كَعِقَابٍ لِذَلِكَ، رَحَلَتْ.
أَحْيَانًا حَاوَلْتُ أَنْ أُقْنِعَ نَفْسِي بِأَنَّنِي لَمْ أَرَهَا حَقًّا.
كَيْفَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَكُونَ مُتَأَكِّدًا أَنَّهَا كَانَتْ هِيَ، وَقَدْ لَمْ أَتَعَرَّفْ عَلَى وَجْهِهَا جَيِّدًا؟
“لَوْ كَانَتْ هِيَ، أَلَمْ يَكُنْ يَجِبُ أَنْ أَعْرِفَ وَجْهَهَا؟”
“هَلْ يُمْكِنُ أَلَّا أَكُونَ مُتَأَكِّدًا بِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ هِيَ؟”
وَلَكِنَّنِي كُنْتُ أَعْلَمُ، بِلَا شَكٍّ، أَنَّهَا هِيَ.
كَانَتْ وَاقِفَةً، تَنْظُرُ—وَكَانَ الْوَقْتُ قَدْ فَاتَ.