بَعْدَ رَحِيلِ هَانَا مِنَ الْمَدِينَةِ، اِسْتَغْرَقَ الأَمْرُ بَعْضَ الْوَقْتِ حَتَّى تَوَقَّفْتُ عَنِ الْبَحْثِ عَنْهَا فِي كُلِّ مَكَانٍ، حَتَّى اِعْتَدْتُ أَنَّ الأَمْسِيَاتِ لَمْ تَعُدْ تَحْمِلُ صُورَتَهَا، وَحَتَّى صِرْتُ أَتَصَفَّحُ الْكُتُبَ وَأَفْتَحُهَا دُونَ أَنْ أَسْأَلَ نَفْسِي: هَلْ تَصْلُحُ لِلْقِرَاءَةِ عَلَيْهَا؟
اِسْتَغْرَقَ وَقْتًا حَتَّى تَوَقَّفَ جَسَدِي عَنِ الشَّوْقِ إِلَيْهَا؛ وَأَحْيَانًا كُنْتُ أُلَاحِظُ أَنَّ ذِرَاعَيَّ وَسَاقَيَّ تَبْحَثَانِ عَنْهَا فِي النَّوْمِ، وَمَرَّاتٍ عِدَّةٍ ضَحِكَ أَخِي عَلَى أَنَّنِي أُنَادِي “هَانَا” وَأَنَا نَائِمٌ.
أَتَذَكَّرُ أَيْضًا دُرُوسًا فِي الْمَدْرَسَةِ، حَيْثُ كُنْتُ أَحْلُمُ بِهَا فَقَطْ وَأُفَكِّرُ فِيهَا.
اِخْتَفَى ذَلِكَ الشُّعُورُ بِالذَّنْبِ الَّذِي عَذَّبَنِي فِي الأَسَابِيعِ الأُولَى.
كُنْتُ أَتَجَنَّبُ بَيْتَهَا، وَأَسْلُكُ طُرُقًا أُخْرَى، وَبَعْدَ نِصْفِ عَامٍ اِنْتَقَلَتْ عَائِلَتِي إِلَى حَيٍّ آخَرَ.
وَلَكِنَّنِي لَمْ أَنْسَ هَانَا.
لَكِنْ فِي يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ تَوَقَّفَتْ هَذِهِ الذِّكْرَى عَنْ مُرَافَقَتِي.
بَقِيَتْ هُنَاكَ، كَمَدِينَةٍ تَبْقَى حِينَ يُغَادِرُ الْقِطَارُ.
هِيَ هُنَاكَ، خَلْفَنَا فِي مَكَانٍ مَا، وَيُمْكِنُ أَنْ نَذْهَبَ لِنَطْمَئِنَّ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ لِمَاذَا نَفْعَلُ؟
أَتَذَكَّرُ السَّنَوَاتِ الأَخِيرَةَ فِي الْمَدْرَسَةِ وَالسَّنَوَاتِ الأُولَى فِي الْجَامِعَةِ كَأَيَّامٍ سَعِيدَةٍ.
وَرَغْمَ ذَلِكَ، لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ عَنْهَا الْكَثِيرَ.
كَانَتْ تِلْكَ السَّنَوَاتُ سَهْلَةً؛ لَمْ يَكُنِ اجْتِيَازُ شَهَادَةِ الثَّانَوِيَّةِ الْعَامَّةِ وَالدِّرَاسَةُ الَّتِي اخْتَرْتُهَا بِدَافِعِ الْحَرَجِ، وَهِيَ الْحُقُوقُ، أَمْرًا شَاقًّا.
لَمْ تَكُنِ الصَّدَاقَاتُ، وَلَا الْعَلَاقَاتُ الْعَاطِفِيَّةُ، وَلَا الْفِرَاقُ أَمْرًا صَعْبًا عَلَيَّ.
لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ صَعْبًا، كُلُّ شَيْءٍ كَانَ سَهْلًا، وَكُلُّ شَيْءٍ كَانَ خَفِيفَ الْوَزْنِ.
رُبَّمَا لِهَذَا السَّبَبِ كَانَتْ حَقِيبَةُ الذِّكْرَيَاتِ صَغِيرَةً جِدًّا.
أَمْ هَلْ أَنَا مَنْ جَعَلَهَا صَغِيرَةً؟
أَتَسَاءَلُ أَيْضًا إِنْ كَانَتِ الذِّكْرَى السَّعِيدَةُ صَحِيحَةً فِعْلًا.
حِينَ أَعُودُ بِذَاكِرَتِي إِلَى الْوَرَاءِ، تَبْرُزُ أَمَامِي مَوَاقِفُ مُخْجِلَةٌ وَمُؤْلِمَةٌ.
وَأَعْرِفُ أَنَّنِي قَدْ وَدَّعْتُ ذِكْرَى هَانَا، وَلَكِنَّنِي لَمْ أَتَجَاوَزْهَا.
لَمْ أَعُدْ أَسْمَحُ لِنَفْسِي أَنْ أُذَلَّ بِسَبَبِ هَانَا، وَلَمْ أَعُدْ أُذِلُّ نَفْسِي، وَلَمْ أَعُدْ أَشْعُرُ بِالذَّنْبِ.
لَمْ أَعُدْ أُحِبُّ أَحَدًا بِحَيْثُ يُؤْلِمُنِي فَقْدَانُهُ.
لَمْ أُفَكِّرْ فِي ذَلِكَ بِوُضُوحٍ حِينَهَا، وَلَكِنَّنِي شَعَرْتُ بِهِ بِحَزْمٍ.
تَعَوَّدْتُ عَلَى التَّصَرُّفِ بِتَكَبُّرٍ وَثِقَةٍ زَائِدَةٍ.
قَدَّمْتُ نَفْسِي كَمَنْ لَا يَمَسُّهُ شَيْءٌ، وَلَا يَهْتَزُّ، وَلَا يَحَارُ.
لَمْ أَسْمَحْ لِنَفْسِي بِأَنْ أَغُوصَ فِي شَيْءٍ.
وَأَتَذَكَّرُ مُدَرِّسًا كَانَ يُدْرِكُ ذَلِكَ، وَتَحَدَّثَ مَعِي عَنْهُ، فَصَرَفْتُهُ بِغَطْرَسَةٍ.
وَأَتَذَكَّرُ أَيْضًا صُوفِي.
بَعْدَ فَتْرَةٍ قَصِيرَةٍ مِنْ رَحِيلِ هَانَا، تَمَّ تَشْخِيصُ مَرَضِ السُّلِّ لَدَى صُوفِي.
قَضَتْ ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ فِي الْمُصَحَّةِ، وَعَادَتْ حِينَ أَصْبَحْتُ طَالِبًا فِي الْجَامِعَةِ.
شَعَرْتُ بِالْوَحْدَةِ، وَبَدَأْتُ أَبْحَثُ عَنْ اِتِّصَالٍ بِالْأَصْدِقَاءِ الْقُدَامَى، وَلَمْ يَكُنْ صَعْبًا عَلَيَّ أَنْ أَدْخُلَ إِلَى قَلْبِهَا.
بَعْدَ أَنْ نِمْنَا مَعًا، أَدْرَكْتُ، وَالدُّمُوعُ تَنْهَمِرُ مِنْ عَيْنَيْهَا، أَنَّنِي لَمْ أَكُنْ مُهْتَمًّا بِهَا حَقًّا، وَقَالَتْ: “مَاذَا حَدَثَ لَكَ؟ مَاذَا حَدَثَ لَكَ؟”.
أَتَذَكَّرُ جَدِّي، حِينَ أَرَدْتُ أَنْ يُبَارِكَنِي فِي آخِرِ زِيَارَاتِي لَهُ قَبْلَ وَفَاتِهِ، وَأَخْبَرْتُهُ أَنَّنِي لَا أُؤْمِنُ بِذَلِكَ وَلَا أُعِيرُ الأَمْرَ اهْتِمَامًا.
يَصْعُبُ عَلَيَّ تَصَوُّرُ أَنَّنِي شَعَرْتُ بِالرَّاحَةِ جَرَّاءَ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ آنَذَاكَ.
أَتَذَكَّرُ أَيْضًا أَنَّنِي كُنْتُ أَشْعُرُ بِكُتْلَةٍ فِي حَلْقِي تُجَاهَ أَبْسَطِ لَفْتَاتِ الْحَنَانِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُوَجَّهَةً إِلَيَّ أَوْ لِغَيْرِي.
أَحْيَانًا كَانَ مَشْهَدٌ فِي فِلْمٍ يَكْفِي.
كَانَ ذَلِكَ التَّعَايُشُ بَيْنَ الْقَسْوَةِ وَالْحَسَاسِيَةِ يُثِيرُ شُكُوكِي تُجَاهَ نَفْسِي.
رَأَيْتُ هَانَا مَرَّةً أُخْرَى فِي قَاعَةِ الْمَحْكَمَةِ.
لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْمُحَاكَمَةُ الأُولَى لِمُعَسْكَرَاتِ الِاعْتِقَالِ، وَلَا مِنَ الْمُحَاكَمَاتِ الْكُبْرَى.
كَانَ الأُسْتَاذُ، أَحَدُ الْقَلَائِلِ الَّذِينَ عَمِلُوا عَلَى دِرَاسَةِ مَاضِي النَّازِيِّينَ وَإِجْرَاءَاتِ الْمَحَاكِمِ، قَدْ جَعَلَهَا مَوْضُوعًا لِنَدْوَةٍ، آمِلًا أَنْ يُتَابِعَهَا مَعَ الطُّلَّابِ طِوَالَ فَتْرَةِ اِنْعِقَادِهَا.
لَا أَذْكُرُ مَاذَا كَانَ يُرِيدُ التَّحَقُّقَ مِنْهُ أَوْ تَأْكِيدَهُ أَوْ دَحْضَهُ.
أَتَذَكَّرُ مُنَاقَشَةً فِي النَّدْوَةِ حَوْلَ حَظْرِ الْعِقَابِ الرَّجْعِيِّ.
هَلْ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ الْقَانُونُ الَّذِي حُكِمَ بِمُوجِبِهِ عَلَى حُرَّاسِ الْمُعَسْكَرَاتِ قَدْ كَانَ مَوْجُودًا فِي قَانُونِ الْعُقُوبَاتِ وَقْتَ وُقُوعِ الْجَرَائِمِ؟
أَمِ الأَمْرُ يَعْتَمِدُ عَلَى كَيْفِيَّةِ فَهْمِهِ وَتَطْبِيقِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُطَبَّقًا عَلَيْهِمْ آنَذَاكَ؟
مَا هُوَ الْقَانُونُ؟
أَهُوَ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الْكُتُبِ؟ أَمْ مَا تُطَبِّقُهُ وَتَتَّبِعُهُ الْمُجْتَمَعَاتُ فِعْلِيًّا؟
أَمْ هُوَ مَا يَجِبُ تَطْبِيقُهُ وَاتِّبَاعُهُ، سَوَاءٌ كَانَ مَكْتُوبًا أَمْ لَا، إِذَا مَا سَارَتِ الأُمُورُ كَمَا يَنْبَغِي؟
الأُسْتَاذُ، رَجُلٌ مُسِنٌّ، عَادَ مِنَ الْمَهْجَرِ، لَكِنَّهُ بَقِيَ غَرِيبًا فِي الْفِقْهِ الْقَانُونِيِّ الأَلْمَانِيِّ، شَارَكَ فِي تِلْكَ الْمُنَاقَشَاتِ بِكُلِّ عِلْمِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ بِبُرُودٍ مِنْ يَعْرِفُ أَنَّ الْحَلَّ لَا يَكْمُنُ فَقَطْ فِي الْعِلْمِ.
قَالَ: «اُنْظُرُوا إِلَى الْمُتَّهَمِينَ – لَنْ تَجِدُوا أَحَدًا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَانَ يَحِقُّ لَهُ الْقَتْلُ حِينَهَا».
بَدَأَتِ النَّدْوَةُ فِي الشِّتَاءِ، وَالْمُحَاكَمَةُ فِي الرَّبِيعِ.
اِسْتَمَرَّتِ الْمُحَاكَمَةُ لِأَسَابِيعَ عِدَّةٍ.
كَانَ يُعْقَدُ الْجَلَسَاتُ مِنَ الِاثْنَيْنِ إِلَى الْخَمِيسِ، وَلِكُلِّ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ، كَانَ الأُسْتَاذُ يُعَيِّنُ مَجْمُوعَةً مِنَ الطُّلَّابِ لِيَقُومُوا بِتَسْجِيلِ مَحْضَرٍ دَقِيقٍ.
فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ كَانَ مَوْعِدُ اجْتِمَاعِ السِّمِنَارِ، حَيْثُ عُرِضَتْ أَحْدَاثُ الأُسْبُوعِ الْمَاضِي لِلنِّقَاشِ وَالْمُرَاجَعَةِ.
المُرَاجَعَةُ! مُرَاجَعَةُ الْمَاضِي الَّذِي نُحَاوِلُ أَنْ نُعِيدَ إِلَيْهِ أَنْفَاسَهُ، وَنُزِيلَ عَنْهُ غُبَارَ النِّسْيَانِ.
كُنَّا نَحْنُ طُلَّابُ السِّمِنَارِ نَرَى أَنْفُسَنَا طَلِيعَةَ مَنْ يُعَالِجُ جُرْحَ التَّارِيخِ، نَفْتَحُ النَّوَافِذَ عَلَى وُسْعِهَا، نَدْعُو الْهَوَاءَ أَنْ يَدْخُلَ، وَالرِّيحَ الَّتِي تُثِيرُ الْغُبَارَ الَّذِي أَلْقَتْهُ الْمُجْتَمَعَاتُ عَلَى فَظَاعَاتِ ذَلِكَ الْمَاضِي.
نُتِيحُ بِذَلِكَ مَجَالًا لِلتَّنَفُّسِ وَالرُّؤْيَةِ بِوُضُوحٍ.
وَلَمْ نَعْتَمِدْ عَلَى التَّبَحُّرِ الْقَانُونِيِّ وَحْدَهُ، بَلْ كَانَ ثَابِتًا لَدَيْنَا أَنْ يُدَانَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الإِدَانَةَ.
كَمَا كَانَ وَاضِحًا أَنَّنَا لَا نُحَاكِمُ هَذَا الْحَارِسَ أَوْ ذَاكَ الشِّرِّيرَ مِنْ حُرَّاسِ مُعَسْكَرَاتِ الِاعْتِقَالِ فَقَطْ.
الْجِيلُ الَّذِي اِسْتَخْدَمَ هَؤُلَاءِ الْحُرَّاسَ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ، أَوْ عَلَى الأَقَلِّ لَمْ يَنْبُذْهُمْ حِينَ كَانَ بِوُسْعِهِ بَعْدَ عَامِ 1945، هُوَ الَّذِي وُضِعَ عَلَى الْمِنَصَّةِ.
وَحَاكَمْنَاهُ بِمُحَاكَمَةِ كَشْفٍ وَمُحَاسَبَةٍ عَمِيقَةٍ، مُدِينِينَ إِيَّاهُ بِالْخَجَلِ وَالْعَارِ.
كَانَ آبَاؤُنَا قَدْ لَعِبُوا أَدْوَارًا مُخْتَلِفَةً فِي الْعَهْدِ الثَّالِثِ.
بَعْضُهُمْ خَدَمُوا فِي الْحَرْبِ، مِنْهُمْ ضُبَّاطٌ فِي الْجَيْشِ النِّظَامِيِّ، وَآخَرُونَ فِي قُوَّاتِ الأَسِّ أَسِّ، وَآخَرُونَ حَقَّقُوا مَنَاصِبَ فِي الْقَضَاءِ وَالإِدَارَةِ.
كَانَ لَدَيْنَا مُعَلِّمُونَ وَأَطِبَّاءُ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَأَحَدُنَا كَانَ لَهُ عَمٌّ كَانَ مَسْؤُولًا كَبِيرًا فِي وَزَارَةِ الدَّاخِلِيَّةِ فِي عَهْدِ الرَّايخِ.
أَنَا مُتَأَكِّدٌ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، حِينَ سَأَلْنَاهُمْ وَأَجَابُوا، كَانَ لَدَيْهِمْ قِصَصٌ مُخْتَلِفَةٌ لِيُخْبِرُونَا بِهَا.
أَمَّا وَالِدِي فَلَمْ يُرِدِ التَّحَدُّثَ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَسِرَ مَنْصِبَهُ كَمُحَاضِرٍ فِي الْفَلْسَفَةِ بِسَبَبِ إِعْلَانِهِ عَنْ مُحَاضَرَةٍ حَوْلَ سْبِينُوزَا، وَأَنَّهُ عَالَنَا خِلَالَ الْحَرْبِ مِنْ خِلَالِ عَمَلِهِ كَمُرَاجِعٍ فِي دَارِ نَشْرٍ لِلْخَرَائِطِ وَكُتُبِ الرِّحْلَاتِ.
كَيْفَ لِي أَنْ أُدِينَهُ بِالْخَجَلِ؟ وَمَعَ ذَلِكَ فَعَلْتُ.
لَقَدْ أَدَنَّا جَمِيعًا آبَاءَنَا بِالْخَجَلِ، وَلَوْ أَنَّنَا لَمْ نَسْتَطِعْ إِلَّا أَنْ نَتَّهِمَهُمْ بِالتَّسَامُحِ مَعَ الْجُنَاةِ بَيْنَ أَهْلِهِمْ وَمُجْتَمَعِهِمْ بَعْدَ عَامِ 1945.
طَوَّرْنَا نَحْنُ طُلَّابُ السِّمِنَارِ هُوِيَّةً جَمَاعِيَّةً قَوِيَّةً.
كُنَّا مِنْ سِمِنَارِ مُعَسْكَرَاتِ الِاعْتِقَالِ – هَكَذَا كَانَ يُسَمِّينَا الآخَرُونَ فِي الْبِدَايَةِ، ثُمَّ تَبَنَّيْنَا الِاسْمَ.
مَا كُنَّا نَفْعَلُهُ لَمْ يَهُمِ الآخَرِينَ، بَلْ كَانَ يُثِيرُ فِيهِمُ الْغَرَابَةَ وَرُبَّمَا النُّفُورَ أَحْيَانًا.
أَعْتَقِدُ الآنَ أَنَّ الْحَمَاسَةَ الَّتِي اسْتَقْبَلْنَا بِهَا هَذِهِ الْفَظَائِعَ وَنَقَلْنَاهَا لِلآخَرِينَ كَانَتْ فِي ذَاتِهَا مُثِيرَةً لِلرَّفْضِ.
فَكُلَّمَا كَانَتِ الْفَظَائِعُ الَّتِي قَرَأْنَا عَنْهَا أَوْ سَمِعْنَا بِهَا أَشَدَّ رُعْبًا، اِزْدَادَ يَقِينُنَا بِمُهِمَّتِنَا التَّنْوِيرِيَّةِ وَالِاتِّهَامِيَّةِ.
وَحَتَّى حِينَ كَانَتْ تِلْكَ الأَحْدَاثُ تحْبسُ أَنْفَاسَنَا، كُنَّا نَرْفَعُهَا بِفَخْرٍ قَائِلِينَ: «اُنْظُرُوا هُنَا!».
لَقَدْ سَجَّلْتُ فِي السِّمِنَارِ بِدَافِعِ الفُضُولِ البَسِيطِ. كَانَ شَيْئًا مُخْتَلِفًا عَنْ قَانُونِ التِّجَارَةِ، أَوْ عَنْ مَوَاضِيعِ المَسْؤُولِيَّةِ وَالمُشَارَكَةِ، أَوْ عَنْ قَانُونِ سَاكْسُونَ القَدِيمِ، أَوِ الفَلْسَفَةِ القَانُونِيَّةِ القَدِيمَةِ.
جَلَبْتُ مَعِيَ إِلَى السِّمِنَارِ ذَلِكَ التَّفَاخُرَ المُتَكَبِّرَ الَّذِي تَعَوَّدْتُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ مَعَ مُرُورِ الشِّتَاءِ بَدَأَ يَصْعُبُ عَلَيَّ الهُرُوبُ مِنْهُ – لَيْسَ فَقَطْ مِنَ الأَحْدَاثِ الَّتِي كُنَّا نَقْرَؤُهَا وَنَسْمَعُ عَنْهَا، بَلْ مِنَ الحَمَاسَةِ الَّتِي اِسْتَحْوَذَتْ عَلَى طُلَّابِ السِّمِنَارِ.
فِي البِدَايَةِ، كُنْتُ أُخَادِعُ نَفْسِي بِأَنَّنِي أَرْغَبُ فَقَطْ فِي مُشَارَكَةِ الحَمَاسَةِ العِلْمِيَّةِ، أَوْ حَتَّى السِّيَاسِيَّةِ وَالأَخْلَاقِيَّةِ. وَلَكِنَّنِي أَرَدْتُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، أَرَدْتُ أَنْ أُشَارِكَ حَمَاسَةَ الجَمَاعَةِ كُلِّهَا.
قَدْ يَظَلُّ الآخَرُونَ يَرَوْنَنِي مُتَبَاعِدًا وَمُتَكَبِّرًا، وَلَكِنَّنِي خِلَالَ أَشْهُرِ الشِّتَاءِ شَعَرْتُ بِشُعُورٍ جَمِيلٍ بِأَنَّنِي أَنْتَمِي إِلَى هَذَا المَكَانِ، وَأَنَّنِي فِي سَلَامٍ مَعَ نَفْسِي، وَمَعَ مَا أَقُومُ بِهِ، وَمَعَ مَنْ أَعْمَلُ مَعَهُمْ.
كَانَتْ جَلْسَةُ المُحَاكَمَةِ فِي مَدِينَةٍ تَبْعُدُ بِالسَّيَّارَةِ نَحْوَ سَاعَةٍ. لَمْ يَكُنْ لِي أَيُّ اِرْتِبَاطٍ هُنَاكَ مِنْ قَبْلُ.
قَادَ السَّيَّارَةَ طَالِبٌ آخَرُ، نَشَأَ فِي تِلْكَ المَدِينَةِ، وَكَانَ يَعْرِفُ الطَّرِيقَ جَيِّدًا. كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الخَمِيسِ، وَبَدَأَتِ المُحَاكَمَةُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ.
قَضَى المُحَامُونَ الأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ الأُولَى فِي تَقْدِيمِ طَلَبَاتِ اِسْتِبْعَادِ القُضَاةِ لِأَسْبَابِ الاِنْحِيَازِ. وَكُنَّا نَحْنُ المَجْمُوعَةَ الرَّابِعَةَ الَّتِي سَتَبْدَأُ حَقًّا فِي اِسْتِجْوَابِ المُتَّهَمِينَ حَوْلَ شَخْصِيَّاتِهِمْ، وَهُوَ مَا كَانَ يُمَثِّلُ الاِنْطِلَاقَ الفِعْلِيَّ لِلْمُحَاكَمَةِ.
كُنَّا نَسِيرُ فِي طَرِيقٍ جَبَلِيٍّ تُحِيطُ بِهِ أَشْجَارُ الفَاكِهَةِ المُزْهِرَةِ، وَكَانَ مِزَاجُنَا مُرْتَفِعًا وَمُفْعَمًا بِالحَيَوِيَّةِ؛ أَخِيرًا سَنُثْبِتُ مَا اسْتَعْدَدْنَا لَهُ.
لَمْ نَكُنْ مُجَرَّدَ مُتَفَرِّجِينَ أَوْ مُسْتَمِعِينَ أَوْ مُدَوِّنِينَ.
كَانَتْ مُشَاهَدَتُنَا، وَاسْتِمَاعُنَا، وَتَدْوِينُنَا مُسَاهَمَتَنَا فِي مُعَالَجَةِ المَاضِي.
المَحْكَمَةُ كَانَتْ فِي مَبْنًى يَعُودُ إِلَى بَدَايَةِ القَرْنِ، وَلَكِنْ دُونَ الزَّخْرَفَةِ أَوِ الكَآبَةِ الَّتِي عَادَةً مَا تُظْهِرُهَا مَبَانِي المَحَاكِمِ القَدِيمَةِ. القَاعَةُ الَّتِي اِنْعَقَدَ فِيهَا المَجْلِسُ القَضَائِيُّ كَانَتْ بِهَا صَفٌّ مِنَ النَّوَافِذِ الكَبِيرَةِ عَلَى اليَسَارِ، زُجَاجُهَا عَكِرٌ يَحْجُبُ النَّظَرَ إِلَى الخَارِجِ، وَلَكِنَّهُ يَسْمَحُ بِدُخُولِ ضَوْءٍ وَافِرٍ يَنْسَابُ عَلَى وُجُوهِنَا فِي هَيْئَةِ حَقِيقَةٍ لَا تُخْفَى.
أَمَامَ النَّوَافِذِ، جَلَسَ المَدَّعُونَ العَامُّونَ، وَفِي أَيَّامِ الرَّبِيعِ وَالصَّيْفِ المُشْمِسَةِ، كَانُوا يَبْدُونَ كَظِلَالٍ خَافِتَةٍ.
القُضَاةُ الثَّلَاثَةُ بِجَلَابِيبِهِمُ السَّوْدَاءِ، مَعَ سِتَّةِ أَعْضَاءٍ مِنْ هَيْئَةِ المُحَلَّفِينَ، جَلَسُوا عَلَى رَأْسِ القَاعَةِ، وَعَلَى الجَانِبِ الأَيْمَنِ كَانَتْ مَنَصَّةُ المُتَّهَمِينَ وَالمُحَامِينَ، وَالَّتِي، بِسَبَبِ العَدَدِ الكَبِيرِ، اِمْتَدَّتْ بِطَاوِلَاتٍ وَكَرَاسٍ إِلَى نِصْفِ القَاعَةِ، أَمَامَ مَقَاعِدِ الجُمْهُورِ.
جَلَسَ بَعْضُ المُتَّهَمِينَ وَالمُحَامِينَ بِظُهُورِهِمْ نَحْوَنَا، أَمَّا هَانَا فَجَلَسَتْ بِظَهْرِهَا لَنَا. لَمْ أَتَعَرَّفْ عَلَيْهَا إِلَّا حِينَ نَادَتْ عَلَيْهَا المَحْكَمَةُ، فَنَهَضَتْ وَتَقَدَّمَتْ إِلَى الأَمَامِ. بِالطَّبْعِ عَرَفْتُ الاِسْمَ فَوْرًا: “هَانَا شْمِيتْس”. ثُمَّ تَعَرَّفْتُ إِلَى المَلَامِحِ: الرَّأْسُ المُغَطَّى بِشَعْرٍ مَلْفُوفٍ عَلَى شَكْلِ عُقْدَةٍ، العُنُقُ، الظَّهْرُ العَرِيضُ، وَالذِّرَاعَانِ القَوِيَّتَانِ.
كَانَتْ وَاقِفَةً مُسْتَقِيمَةً، مَتِينَةً عَلَى قَدَمَيْهَا الاِثْنَتَيْنِ.
أَطْلَقَت ذِرَاعَيْهَا مُرْتَخِيَتَيْنِ إِلَى جَانِبَيْهَا. كَانَت تَرْتَدِي ثَوْبًا رَمَادِيًّا بِأَكْمَامٍ قَصِيرَةٍ. تَعَرَّفْتُ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ لَمْ أَشْعُرْ بِشَيْءٍ. لَمْ أَشْعُرْ بِشَيْءٍ. نَعَمْ، أَرَادَت أَنْ تَقِفَ. نَعَمْ، وُلدَت فِي الحَادِي وَالعِشْرِينَ مِنْ أُكْتُوبَر عَامَ 1922 فِي هِيرْمَانْشْتَات، وَهِيَ الآنَ تَبْلُغُ مِنَ العُمْرِ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ سَنَةً.
نَعَمْ، عَمِلَت فِي بَرْلِين لَدَى شَرِكَةِ سِيمِنْس، وَفِي خَرِيفِ عَامِ 1943 انْضَمَّتْ إِلَى قُوَّاتِ الحَرَسِ الخَاصِّ (إس إس
“هل انْضَمَمْتِ إِلَى قُوَّاتِ الحَرَسِ الخَاصِّ طَوْعًا؟”
“نَعَمْ.”
“وَلِمَاذَا؟”
لَمْ تُجِبْ هَانَا.
“هل صَحِيحٌ أَنَّكِ انْضَمَمْتِ إِلَى قُوَّاتِ الحَرَسِ الخَاصِّ رَغْمَ أَنَّ شَرِكَةَ سِيمِنْس عَرَضَت عَلَيْكِ وَظِيفَةً مُشْرِفَةً؟”
قَفَزَ مُحَامِي هَانَا وَاقِفًا وَقَالَ: “مَاذَا تَعْنِي هُنَا كَلِمَةُ ‘رَغْمَ’؟
مَا هَذِهِ التُّهْمَةُ الَّتِي تُفِيدُ أَنَّ امْرَأَةً تُفَضِّلُ أَنْ تَكُونَ مُشْرِفَةً فِي سِيمِنْس عَلَى أَنْ تِلْتَحِقَ بِقُوَّاتِ الحَرَسِ الخَاصِّ؟
لا شَيْءَ يُبَرِّرُ أَنْ تَكُونَ قَرَارُ مُوَكِّلَتِي مَوْضُوعَ مِثْلِ هَذَا السُّؤَالِ.”
عَادَ إِلَى مَقْعِدِهِ. كَانَ المُحَامِي الشَّابُّ الوَحِيدَ، أَمَّا الآخَرُونَ فَكَانُوا كِبَارَ السِّنِّ، وَبَعْضُهُمْ، كَمَا اتَّضَحَ لَاحِقًا، نَازِيُّونَ قُدَمَاءُ.
كَانَ مُحَامِي هَانَا يَتَجَنَّبُ لُغَةَ وَزَعْمَ زُمَلَائِهِ النَّازِيِّينَ، لَكِنَّهُ اتَّسَمَ بِحَمَاسٍ مُفْرِطٍ أَضَرَّ بِمُوَكِّلَتِهِ كَمَا أَضَرَّت خُطَبُ زُمَلَائِهِ النَّازِيِّينَ بِمُوكِلِيِهِمْ. نَجَحَ فِي أَنْ يُرْبِكَ رَئِيسَ المَحْكَمَةِ، فَاِمْتَنَعَ عَنْ مُتَابَعَةِ السُّؤَالِ عَنْ سَبَبِ انْضِمَامِ هَانَا إِلَى قُوَّاتِ الحَرَسِ الخَاصِّ.
عَاشَت فِي مَدِينَتِي الأَصْلِيَّةِ ثَمَانِي سَنَوَاتٍ؛ كَانَت أَطْوَلَ فَتْرَةٍ قَضَتْهَا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ.
“هل التَّغْيِيرُ المُتَكَرِّرُ لِمَكَانِ السَّكَنِ يُبَرِّرُ الخَوْفَ مِنْ هَرَبِهَا؟” أَظْهَرَ المُحَامِي سُخْرِيَّةً وَاضِحَةً.
“مُوكِلَتِي قَامَت بِتَسْجِيلِ خُرُوجٍ وَدُخُولٍ لِكُلِّ مَكَانٍ سَكَنَتْ فِيهِ لَدَى الشُّرْطَةِ. لا شَيْءَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَهْرُبُ، وَلا شَيْءَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفِيهِ. أَلَا يَرَى القَاضِي، فِي ظِلِّ جَسَامَةِ الاتِّهَامِ وَخُطُورَةِ إِثَارَةِ الرَّأْيِ العَامِّ، أَنَّ إِبْقَاءَ مُوكِلَتِي طَلِيقَةً أَمْرٌ لا يُمْكِنُ تَحَمُّلُهُ؟ هَذَا، أَيُّتهَا المَحْكَمَةُ المَوْقَّرَةُ، هُوَ سَبَبُ اعْتِقَالِ نَازِي؛ فَقَدْ أُدْخِلَ مِنْ قِبَلِ النَّازِيِّينَ وَأُلْغِيَ بَعْدَ سُقُوطِهِمْ. إِنَّهُ سَبَبٌ لا وُجُودَ لَهُ بَعْدَ اليَوْمِ.”
كَانَ المُحَامِي يَتَحَدَّثُ بِسُرُورٍ سَاخِرٍ، كَمَن يَكْشِفُ حَقِيقَةً مَرِيرَةً.
شَعَرْتُ بِالصَّدْمَةِ. أَدْرَكْتُ أَنَّنِي كُنْتُ أَعْتَبِرُ اعْتِقَالَ هَانَا أَمْرًا طَبِيعِيًّا وَصَحِيحًا، لَيْسَ بِسَبَبِ الاتِّهَامِ، أَوْ خُطُورَةِ التُّهْمَةِ، أَوْ قُوَّةِ الشُّبْهَةِ الَّتِي لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ عَنْهَا شَيْئًا دَقِيقًا بَعْدُ، بَلْ لأَنَّ وُجُودَهَا فِي الزَّمن..
لَمْ أَفُوِّتْ يَوْمًا وَاحِدًا مِنْ جَلَسَاتِ الْمَحْكَمَةِ. كَانَ ذَلِكَ مَحَلَّ دَهْشَةٍ وَاسْتِغْرَابٍ بَيْنَ الطُّلَّابِ الْآخَرِينَ. وَقَدْ رَحَّبَ الْأُسْتَاذُ بِتِلْكَ الْحَمَاسَةِ، مُؤَكِّدًا أَنَّ أَحَدَنَا يَضْمَنُ لِلْمَجْمُوعَةِ التَّالِيَةِ أَنْ تَعْرِفَ مَا رَأَتْهُ وَسَمِعَتْهُ الْمَجْمُوعَةُ السَّابِقَةُ.
ذَاتَ مَرَّةٍ، نَظَرَتْ هَانَا إِلَى الْجُمْهُورِ، وَنَظَرَتْ إِلَيَّ بِعَيْنَيْنِ لَا تُخْطِئَانِ. أَمَّا بَقِيَّةُ الْأَيَّامِ، فَكَانَتْ تَنْظُرُ دَوْمًا إِلَى مَقْعَدِ الْمَحْكَمَةِ، حِينَ تَدْخُلُ إِحْدَى الضَّابِطَاتِ وَتَجْلِسُ فِي مَكَانِهَا. كَانَ ذَلِكَ يَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهِ شَيْئًا مِنَ الْغُرُورِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْغُرُورُ وَاضِحًا مِنِ ابْتِعَادِهَا عَنِ الْحَدِيثِ مَعَ الْمُتَّهَمِينَ الْآخَرِينَ، وَقِلَّةِ كَلَامِهَا مَعَ مُحَامِيهَا.
كَانَتِ الْمُتَّهَمَاتُ الْأُخْرَيَاتُ يَتَبَادَلْنَ الْكَلَامَ تَدْرِيجِيًّا أَقَلَّ فَأَقَلَّ مَعَ مُرُورِ الْأَيَّامِ.
فِي اسْتِرَاحَاتِ الْمُحَاكَمَةِ، كُنَّ يَقِفْنَ مَعَ أَقَارِبِهِنَّ وَأَصْدِقَائِهِنَّ، يُلَوِّحْنَ لَهُمْ وَيُنَادُونَهُمْ حِينَ يَرَوْنَهُمْ فِي الْجُمْهُورِ صَبَاحًا. أَمَّا هَانَا، فَكَانَتْ تَبْقَى جَالِسَةً فِي مَكَانِهَا، صَامِتَةً.
كُنْتُ أَرَاهَا مِنَ الْخَلْفِ، أَرَى رَأْسَهَا، عُنُقَهَا، كَتِفَيْهَا، وَكَأَنِّي أَقْرَأُ فِي ثَنَايَاهَا.
حِينَ يَذْكُرُونَهَا، كَانَتْ تَرْفَعُ رَأْسَهَا عَالِيًا بِشَكْلٍ خَاصٍّ، وَإِذَا شَعَرَتْ بِظُلْمٍ أَوِ افْتِرَاءٍ أَوْ هُجُومٍ، وَحَاوَلَتِ الرَّدَّ، كَانَتْ تَدْفَعُ كَتِفَيْهَا إِلَى الْأَمَامِ، وَيَنْتَفِخُ عُنُقُهَا، فَتَبْرُزُ عَضَلَاتُهُ بِشَكْلٍ أَكْثَرَ وُضُوحًا وَقُوَّةً.
تَتَتَابَعُ الرُّدُودُ الْفَاشِلَةُ، وَكُلَّمَا فَشِلَتْ، انْهَدَمَتِ الْأَكْتَافُ، لَكِنَّهَا لَمْ تَكُنْ تَهُزُّ كَتِفَيْهَا قَطُّ، وَلَا تُـمِيلُ رَأْسَهَا. كَانَتْ مشدودَةَ الْأَعْصَابِ حَدَّ عَدَمِ السَّمَاحِ بِخِفَّةِ هَزِّ كَتِفٍ أَوْ إِيمَاءَةِ رَأْسٍ. لَمْ تَكُنْ تَسْمَحُ لِنَفْسِهَا حَتَّى بِإِمَالَةِ رَأْسٍ أَوْ إِسْنَادِهِ أَوْ إِرْخَائِهِ. جَلَسَتْ كَتِمْثَالٍ جَلِيدِيٍّ، وَتِلْكَ الْجَلْسَةُ كَانَتْ لَابُدَّ أَنْ تَكُونَ مُؤْلِمَةً.
أَحْيَانًا، تَتَفَلَّتُ خُصَلَاتٌ مِنْ شَعْرِهَا مِنَ الْعُقْدَةِ الْمَشْدُودَةِ، فَتَتَلَفَّفُ، وَتَتَدَلَّى عَلَى عُنُقِهَا، ثُمَّ تَتَمَايَلُ عَلَيْهِ فِي نَسِيمِ الْقَاعَةِ. وَكَانَ يَحْدُثُ أَنْ تَرْتَدِيَ “هَانَا” فُسْتَانًا يَكْشِفُ بِقَصَّتِهِ عَنْ شَامَةٍ صَغِيرَةٍ فِي أَعْلَى كَتِفِهَا الْأَيْسَرِ.
حِينَئِذٍ، كُنْتُ أَتَذَكَّرُ كَيْفَ كُنْتُ أَنْفُخُ عَنْ عُنُقِهَا لِأُبْعِدَ الشَّعْرَ، وَكَيْفَ قَبَّلْتُ تِلْكَ الشَّامَةَ وَذَلِكَ الْعُنُقَ. وَلَكِنَّ الذِّكْرَى كَانَتْ مُجَرَّدَ تَسْجِيلٍ، لَمْ أَشْعُرْ بِشَيْءٍ.
طِوَالَ أَسَابِيعِ الْمُحَاكَمَةِ، لَمْ أَشْعُرْ بِشَيْءٍ. كَانَ وَعْيِي مُخَدَّرًا. أَحْيَانًا، حَاوَلْتُ إِثَارَتَهُ، فَصَوَّرْتُ فِي ذِهْنِي “هَانَا” وَهِيَ تَقُومُ بِمَا تُتَّهَمُ بِهِ، بِكُلِّ وُضُوحٍ يَسْمَحُ بِهِ خَيَالِي. كَذَلِكَ حَاوَلْتُ أَنْ أُثِيرَ فِي نَفْسِي مَا كَانَ يُوقِظُهُ فِيهَا تِلْكَ الشَّامَةُ وَذَلِكَ الْعُنُقُ.
وَلَكِنَّهُ كَانَ شِبْهَ مَا يَحْدُثُ حِينَ تَضْغَطُ الْيَدُ عَلَى الذِّرَاعِ الْمُخَدَّرِ بَعْدَ حقْنَةٍ: الذِّرَاعُ لَا تَشْعُرُ بِالضَّغْطِ، وَالْيَدُ تَعِي أَنَّهَا تَضْغَطُ، وَالْمُخُّ فِي اللَّحْظَةِ الْأُولَى لَا يُمَيِّزُ، وَفِي الثَّانِيَةِ يُفْرِزُ التَّمْيِيزَ بِدِقَّةٍ. وَرُبَّمَا يَتَغَيَّرُ لَوْنُ النُّقْطَةِ الْمَضْغُوطَةِ، لِتُصْبِحَ بَاهِتَةً، ثُمَّ يَعُودُ الدَّمُ فَتَسْتَعِيدَ لَوْنَهَا، لَكِنَّ الإِحْسَاسَ لَا يَعُودُ بِسُرْعَةٍ.
مَنْ أَعْطَانِي تِلْكَ الْحقْنَةَ؟ أَنَا نَفْسِي؟ لِأَنَّنِي مَا كُنْتُ لِأَحْتَمِلَ ذَلِكَ دُونَ تَخْدِيرٍ؟
وَلَمْ يَكُنِ التَّخْدِيرُ مَحْصُورًا فِي قَاعَةِ الْمَحْكَمَةِ. فَقَدْ صِرْتُ أَرَى “هَانَا” كَمَا لَوْ تَمَّتْ مُعَاشَرَتُهَا مِنْ قِبَلِ شَخْصٍ آخَرَ، أَعْرِفُهُ جَيِّدًا، لَكِنَّهُ لَيْسَ أَنَا. وَصِرْتُ، فِي كُلِّ أُمُورِ حَيَاتِي، أَرَاهَا مِنَ الْخَارِجِ: فِي الْجَامِعَةِ، وَبَيْنَ أَهْلِي، وَمَعَ أَصْدِقَائِي، كُنْتُ أُؤَدِّي دَوْرِي، لَكِنْ رُوحِي لَمْ تَكُنْ حَاضِرَةً.
وَبَعْدَ فَتْرَةٍ، خُيِّلَ إِلَيَّ أَنَّنِي أُبْصِرُ مِثْلَ هٰذَا التَّخَدُّرِ فِي وُجُوهِ غَيْرِي. لَا فِي وُجُوهِ الْمُحَامِينَ؛ فَهُمْ، عَلَى مَدَى الْجَلَسَاتِ، لَمْ يَفْقِدُوا ذٰلِكَ الصَّخَبَ الْجَازِمَ، وَالْحِدَّةَ الْمُتَعَالِيَةَ، أَوِ الْوَقَاحَةَ الْبَارِدَةَ الَّتِي تُلَوِّنُهَا طَبَائِعُهُمُ الشَّخْصِيَّةُ وَالْخَلْفِيَّةُ السِّيَاسِيَّةُ. نَعَمْ، كَانَتِ الْمُحَاكَمَةُ تُرْهِقُهُمْ، فَيَأْتُونَ فِي الْمَسَاءِ أَكْثَرَ تَعَبًا أَوْ أَعْلَى نَبْرَةً، لَكِنَّهُمْ بَعْدَ لَيْلَةٍ يَعُودُونَ وَقَدِ امْتَلَأُوا أَوِ انْتَفَخُوا مِنْ جَدِيدٍ، فَيَصِيحُونَ وَيَزْفُرُونَ كَمَا فِي الْبِدَايَةِ.
وَحَاوَلَ الْمُدَّعُونَ الْعُمُومِيُّونَ مُجَارَاتَهُمْ، مُبَادِرِينَ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِنَفْسِ الْحَمَاسِ، لَكِنَّهُمْ أَخْفَقُوا. فَفِي الْبِدَايَةِ، كَانَ مَا يَسْمَعُونَهُ يُرْعِبُهُمْ، ثُمَّ بَدَأَ مَفْعُولُ التَّخْدِيرِ يَنْسَلُّ إِلَيْهِمْ.
أَمَّا أَكْبَرُ أَثَرٍ فَظَهَرَ فِي الْقُضَاةِ وَالْمُحَلَّفِينَ. فِي الْأَسَابِيعِ الْأُولَى، كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ الْفَظَائِعَ الَّتِي تُرْوَى – أَحْيَانًا فِي بُكَاءٍ، أَوْ بِصَوْتٍ مُنْقَطِعٍ، أَوْ فِي تَلَفُّتٍ وَارْتِبَاكٍ – بِانْفِعَالٍ بَيِّنٍ، أَوْ بِتَمَاسُكٍ شَاقٍّ.
ثُمَّ عَادَتِ الْوُجُوهُ تَسْتَرْجِعُ طَبِيعَتَهَا، وَبَدَأَتِ الْهَمَسَاتُ وَالِابْتِسَامَاتُ، وَرُبَّمَا نَفَسٌ خَفِيفٌ مِنَ الضِّيقِ إِذَا أَسْهَبَ أَحَدُ الشُّهُودِ فِي تَفَاصِيلِهِ.
وَلَمَّا نُوقِشَتْ فِي الْقَاعَةِ رِحْلَةٌ إِلَى “إِسْرَائِيلَ” لِاسْتِجْوَابِ شَاهِدَةٍ، شَعَّ فِي الْمَكَانِ شَيْءٌ مِنَ الْفَرَحِ.
أَمَّا الطُّلَّابُ، وَكُنَّا نَحْضُرُ كُلَّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَكَانَ الذُّهُولُ يَعْصِفُ بِهِمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، كَأَنَّ الْهَوْلَ يَقْتَحِمُ عَلَيْهِمْ يَوْمًا جَدِيدًا.
وَأَنَا، وَقَدْ كُنْتُ شَاهِدًا يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، أَرَاقِبُهُمْ مِنْ مَسَافَةٍ، كَمَا يَرَاقِبُ سَجِينُ الْمُعْتَقَلِ النَّازِيِّ الْوُفُودَ الْجَدِيدَةَ، وَقَدْ أَلِفَ رُعْبَ الظِّلَالِ وَالْمَصَائِبِ، وَصَارَ يُسَجِّلُ كُلَّ شَيْءٍ بِتَخْدِيرٍ وَاحِدٍ: “مَوْتَ الْغَيْرِ، وَمَوْتَ نَفْسِهِ.”
تَحْكِي كُلُّ الآدَابِ، الَّتِي تَرَكَهَا النَّاجُونَ، عَنْ تِلْكَ التَّخْدِيرَةِ الَّتِي تَغْلِبُ عَلَى وَظَائِفِ الْحَيَاةِ، حَيْثُ يَخْتَفِي التَّعَاطُفُ وَالاحْتِرَامُ، وَتَصْبِحُ الْعَمَلِيَّاتُ الْيَوْمِيَّةُ لِلْإِبَادَةِ وَالْحَرْقِ مِنْ بَسَاطَةِ الرُّوتِينِ. وَحَتَّى فِي الْقَلِيلِ مِمَّا صَرَّحَ بِهِ الْجُناةُ، تَبْرُزُ غُرَفُ الْغَازِ وَأَفْرَانُ الْحَرْقِ كَأَنَّهَا بِيئَةٌ اعْتِيَادِيَّةٌ، وَيَبْدُو الْجُناةُ أَنْفُسُهُمْ بَارِدِينَ، لا مُبَالِينَ، كَأَنَّهُمْ مُخَدَّرُونَ أَوْ سُكارَى.
وَخَيَّلَ إِلَيَّ أَنَّ الْمُتَّهَمِينَ لا يَزَالُونَ ـ وَرُبَّمَا إِلَى الأَبَدِ ـ غَارِقِينَ فِي تِلْكَ التَّخْدِيرَةِ، كَأَنَّهُمْ تَحَجَّرُوا فِيهَا. وَمُنْذُ ذَلِكَ الْوَقْتِ، حِينَ بَدَأْتُ أُفَكِّرُ فِي هَذَا الْقَاسِمِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمْ، وَفِي أَنَّ التَّخْدِيرَةَ لَمْ تَكُنْ حِصْرًا عَلَى الْجُناةِ وَالضَّحَايَا فَقَطْ، بَلْ سَرَتْ إِلَيْنَا أَيْضًا، نَحْنُ الَّذِينَ جِئْنَا بَعْدَهُمْ قُضَاةً وَمُحَلِّفِينَ وَمُدَّعِينَ عَامِّينَ وَمُسَجِّلِينَ رَسْمِيًّا.
حِينَ كُنْتُ أُقَارِنُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ، بَيْنَ الْمَيِّتِ وَالْحَيِّ، بَيْنَ النَّاجِي وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُ، لَمْ يَكُنْ شُعُورِي مُرِيحًا، وَلا هُوَ الْآنَ.
أَيَجُوزُ لَنَا أَنْ نُجْرِيَ مِثْلَ هَذِهِ الْمُقَارَنَاتِ؟ حِينَ كُنْتُ أُلَمِّحُ إِلَيْهَا فِي بَعْضِ الأَحَادِيثِ، كُنْتُ أُشَدِّدُ دَائِمًا عَلَى أَنَّ الْمُقَارَنَةَ لا تُلْغِي الْفَارِقَ الْحَاسِمَ: “ذَاكَ الْفَارِق بَيْنَ مَنْ أُجْبِرَ عَلَى دُخُولِ عَالَمِ الْمُعْتَقَلِ وَمَنْ دَخَلَهُ بِإِرَادَتِهِ، بَيْنَ مَن تَأَلَّمَ وَمَن سَبَّبَ الْأَلَمَ.” وَكَانَ هَذَا الْفَارِقُ هُوَ الْمِعْيَارُ الْفَصْلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ.
وَلَكِنَّنِي، فِي نَفْسِ الْوَقْتِ، كُنْتُ أَطْرَحُ عَلَى نَفْسِي سُؤَالًا لَمْ يُفَارِقْنِي مُنْذُ ذَلِكَ الْحِينِ: “مَاذَا عَسَانَا نَفْعَلُ ـ نَحْنُ أَبْنَاءُ مَا بَعْدَ الْكَارِثَةِ ـ بِهَذِهِ الْمَعَارِفِ عَنْ فَظَائِعِ إِبَادَةِ الْيَهُودِ؟”
هَلْ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَظُنَّ أَنَّنَا نَقْدِرُ عَلَى فَهْمِ مَا لا يُفْهَمُ؟ أَلَّا نُقَارِنَ بَيْنَ مَا لا يُقَارَنُ؟ أَلَّا نَسْأَلَ؟ لأَنَّ السُّؤَالَ ـ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِنْكَارًا ـ يُحَوِّلُ تِلْكَ الْفَظَائِعَ إِلَى مَادَّةٍ لِلْحِوَارِ، فِي حِينِ أَنَّهَا، بِحَسَبِ هَذَا الْمَنْطِقِ، أَمْرٌ لا يُوَاجَهُ إِلَّا بِالصَّمْتِ الْمَشْحُونِ بِالرُّعْبِ وَالْخِزْيِ وَالذَّنْبِ.
أَفَنَكْتَفِي إِذًا بِالصَّمْتِ الْمُرْتَجِفِ بَيْنَ الْخَجَلِ وَالذَّنْبِ؟ وَإِلَى أَيِّ غَايَةٍ؟
لَيْسَ الْأَمْرُ أَنَّ حَمَاسِي لِفَهْمِ الْمَاضِي وَكشْفِهِ، الَّذِي قَادَنِي إِلَى ذَلِكَ السِّمِينَارِ، قَدْ تَبَخَّرَ كُلِّيًّا فِي جَلَسَاتِ الْمُحَاكَمَةِ…
وَلَكِنَّ، هَلْ كَانَ كُلُّ مَا فُعِلَ هُوَ أَنْ يُدَانَ قِلَّةٌ مِمَّنِ اقْتَرَفُوا، وَيُعَاقَبُوا، ثُمَّ نَصْمُتُ نَحْنُ، أَبْنَاءُ الْجِيلِ الْلَاحِقِ، فِي ذُهُولٍ وَخَجَلٍ وَذَنْبٍ؟ أَهَذَا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ؟
فِي الْأُسْبُوعِ الثَّانِي، تَمَّتْ تِلَاوَةُ لَائِحَةِ الْاِتِّهَامِ، وَاسْتَغْرَقَتِ التِّلَاوَةُ يَوْمًا وَنِصْفَ يَوْمٍ ـ يَوْمًا وَنِصْفًا فِي صِيغَةِ الْمُضَارِعِ الْمَجْهُولِ: “الْمُتَّهَمَةُ الأُولَى قَدْ فَعَلَتْ…”، “وَقَدْ قَامَتْ كَذَلِكَ بِـ…”، “وَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا أَتَتْ بِـ…”، “وَبِذَلِكَ تَكُونُ قَدْ أَتَمَّتْ أَرْكَانَ الْجَرِيمَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فِي الْفَقْرَةِ كَذَا…”، “وَقَدْ تَصَرَّفَتْ أَيْضًا بِصُورَةٍ غَيْرِ قَانُونِيَّةٍ وَمَسْؤُولَةٍ عَقْلِيًّا وَأَخْلَاقِيًّا.”
كَانَتْ “هَانَّا” هِيَ الْمُتَّهَمَةُ الرَّابِعَةُ. وَكَانَتِ النِّسْوَةُ الْخَمْسُ الْمَاثِلَاتُ أَمَامَ الْقَضَاءِ قَدْ شَغَلْنَ مَنَاصِبَ كَحَارِسَاتٍ فِي أَحَدِ الْمُعَسْكَرَاتِ الصَّغِيرَةِ
وَفِي الحَقِيقَةِ، لَمْ يَكُنْ لِأَيَّةِ سَجِينَةٍ مَفْرُوضًا أَنْ تَنْجُوَ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ الدَّامِيَةِ. وَلكِنَّ اثْنَتَيْنِ فَقَطْ نَجَوْا: أُمٌّ وابْنَتُهَا. وَقَدْ دَوَّنَتِ الابْنَةُ مَا جَرَى فِي كِتَابٍ نُشِرَ فِي أَمْرِيكَا، حَكَتْ فِيهِ حِكَايَةَ المُعَسْكَرِ وَالرِّحْلَةِ الْمَشْؤُومَةِ.
وَعَمِلَتِ الشُّرْطَةُ وَالنِّيَابَةُ عَلَى تَتَبُّعِ خَمْسِ مُتَّهَمَاتٍ، وَبَحَثَت عَنْ شُهُودٍ آخَرِينَ، كَانُوا يَقِيمُونَ فِي القَرْيَةِ الَّتِي فُصِلَتْ عَنْهَا خُطُوطُ القَافِلَةِ. وَأَهَمُّهُمَا الشَّهِيدَتَانِ: الابْنَةُ، الَّتِي غَادَرَتْ إِلَى أَلْمَانْيَا، وَالأُمُّ، الَّتِي بَقِيَتْ فِي إِسْرَائِيلَ.
سَافَرَ القُضَاةُ وَالوُكَلَاءُ وَالمُدَافِعُونَ إِلَى إِسْرَائِيلَ لِاسْتِجْوَابِ الأُمِّ – وَهَذَا كَانَ الجُزْءَ الوَحِيدَ مِنَ المُحَاكَمَةِ الَّذِي لَمْ أَكُنْ حَاضِرًا فِيهِ.
أَحَدُ رُكْنَيِ الاتِّهَامِ الرَّئِيسِيَّيْنِ كَانَ مُرْتَكِزًا عَلَى عَمَلِيَّاتِ “الانتِقَاءِ” فِي المُعَسْكَرِ. فِي كُلِّ شَهْرٍ، يُرْسَلُ مِنْ “أوشفِيتس” نَحْوَ سِتِّينَ سَجِينَةً جَدِيدَةً، وَيُرْجَعُ نَفْسُ العَدَدِ مَطْرُوحًا مِنْهُ مَنْ فَارَقْنَ الحَيَاةَ بَيْنَهُنَّ. وَكُلُّ مَنْ يُرْجَعُ يُقْتَلُ، وَهٰذِهِ حَقِيقَةٌ مَعْرُوفَةٌ. وَالمُرْجَعَاتُ كُنَّ مِنْ تِلْكَ اللَّوَاتِي فَقَدْنَ طَاقَتَهُنَّ لِلْعَمَلِ فِي المَصْنَعِ.
وَهٰذَا المَصْنَعُ خُصِّصَ لِصِنَاعَةِ الذَّخَائِرِ. وَرُغْمَ أَنَّ العَمَلَ فِيهِ لَمْ يَكُنْ شَاقًّا جِدًّا، إِلَّا أَنَّ النِّسْوَةَ لَمْ يَصِلْنَ إِلَيْهِ، فَكُنَّ يَقضينَ أَكْثَرَ وَقْتِهِنَّ فِي أَعْمَالِ البِنَاءِ وَالإِصْلَاحِ، بَعْدَ الضَّرَرِ الْبَالِغِ الَّذِي تركَتْهُ الانْفِجَارَاتُ فِي الرَّبِيعِ.
أَمَّا التُّهْمَةُ الثَّانِيَةُ الرَّئِيسِيَّةُ، فَكُنتْ تَتَعَلَّقُ بِلَيْلَةِ القَصْفِ الَّتِي أَفْنَتْ كُلَّ شَيْءٍ. فَقَامَ الحُرَّاسُ وَالمُرَاقِبَاتُ بِإِغْلَاقِ أَبْوَابِ الكَنِيسَةِ عَلَى مِئَاتِ السَّجِينَاتِ، فِي قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ غَادَرَهَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا.
لَمْ يَكُنِ القَصْفُ عَنِيفًا، بَلْ قنَابِلَ قَلِيلَةً، رُبَّمَا وُجِّهَتْ نَحْوَ خَطٍّ حَدِيدِيٍّ قَرِيبٍ، أَوْ مَصْنَعٍ مَا، أَوْ أُلْقِيَتْ عَشْوَائِيًّا بَعْدَ فَشَلِ غَارَةٍ أَوْسَعَ.
إِحْدَى تِلْكَ القَنَابِلِ أَصَابَتْ بَيْتَ القِسِّ، حَيْثُ كَانَ الحُرَّاسُ وَالمُرَاقِبَاتُ يَبِيتُونَ، وَأُخْرَى سَقَطَتْ عَلَى بُرْجِ الكَنِيسَةِ، فَاشْتَعَلَ البُرْجُ أَوَّلًا، ثُمَّ انْتَقَلَتِ النَّارُ إِلَى السَّقْفِ، حَتَّى وَالخَشَبُ المَشْتَعِلُ فَوْقَ رُؤُوسِ السَّجِينَاتِ. فَاشْتَعَلَتِ المَقَاعِدُ، وَانْتَشَرَتِ النَّارُ فِي الجُدْرَانِ، وَفِي الجَسَدِ، وَفِي الرُّوحِ.
أَبْوَابُ الكَنِيسَةِ الثَّقِيلَةُ لَمْ تُفْتَحْ. كَانَ بِإِمْكَانِ المُتَّهَمَاتِ أَنْ يَفْتَحْنَهَا، وَلَكِنَّهُنَّ لَمْ يَفْعَلْنَ، فَاحْتَرَقَتِ النِّسَاءُ حَبِيسَاتِ تِلْكَ الكَنِيسَةِ.
لَمْ تَكُنِ الأُمُورُ تَسِيرُ بِشَكْلٍ أَسْوَأَ لِهَانَا فِي قَاعَةِ المَحْكَمَةِ. فَمُنْذُ بدَايَةِ الاسْتِجْوَابِ الشَّخْصِيِّ، لَمْ تَتْرُكْ أَيَّ انْطِبَاعٍ جَيِّدٍ فِي نُفُوسِ القُضَاةِ.
وَبَعْدَ تِلَاوَةِ لَائِحَةِ الاتِّهَامِ، رَفَعَتْ صَوْتَهَا مُعْتَرِضَةً عَلَى أَمْرٍ رَأَتْهُ غَيْرَ صَحِيحٍ، فَرَدَّ عَلَيْهَا رَئِيسُ المَحْكَمَةِ بِنَفَادِ صَبْرٍ، قَائِلًا: “إِنَّ وَقْتَ الاعْتِرَاضِ قَدْ مَضَى، وَكَانَ عَلَيْكِ أَنْ تُثِيرِي ملاحظاتِكِ قَبْلَ افْتِتَاحِ الجَلَسَاتِ الرَّئِيسِيَّةِ. أَمَّا الآنَ، فَقَدْ بَدَأَتِ المُحَاكَمَةُ، وَالحُكْمُ سَيَتَّضِحُ مِنْ خِلَالِ الأَدِلَّةِ.”
وَعِنْدَمَا اقْتَرَحَ القَاضِي فِي بَدَايَةِ الجَلَسَاتِ أَنْ يَتَخَلَّوْا عَنْ تِلَاوَةِ النُّسْخَةِ الأَلْمَانِيَّةِ مِنْ كِتَابِ ابْنَةِ الضَّحِيَّةِ، لِأَنَّ المَخْطُوطَةَ كَانَتْ قَدْ وُزِّعَتْ عَلَى جَمِيعِ الأَطْرَافِ، تَرَدَّدَتْ هَانَا فِي الْمُوَافَقَةِ، وَاضْطُرَّ مُحَامِيُهَا إِلَى إِقْنَاعِهَا تَحْتَ أَنْظَارِ القَاضِي المُنْدَهِشِ، وَلَمْ تَكُنْ رَاضِيَةً.
وَلَمْ تَكُنْ رَاغِبَةً أَيْضًا فِي قَبُولِ مَا اعْتَرَفَتْ بِهِ سَابِقًا، أَثْنَاءَ اسْتِجْوَابٍ قَضَائِيٍّ سَابِقٍ، مِنْ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْمِلُ “مِفْتَاحَ الكَنِيسَةِ”. قَالَتْ: “لَمْ يَكُنْ مَعِي مِفْتَاحٌ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ أَحَدٍ مِفْتَاحٌ، وَلَا كَانَ هُنَاكَ مِفْتَاحٌ وَاحِدٌ لِلكَنِيسَةِ، بَلْ عَدَدٌ مِنَ المَفَاتِيحِ لِعِدَّةِ أَبْوَابٍ، وَكُلُّهَا وضِعَتْ مِنَ الخَارِجِ فِي الأَقْفَالِ.”
وَلَكِنَّ المَحْضَرَ الَّذِي قَرَأَتْهُ وَوَقَّعَتْ عَلَيْهِ بِنَفْسِهَا كَانَ يَقُولُ غَيْرَ ذَلِكَ. وَعِنْدَمَا سَأَلَتْ: “لِمَاذَا يُرِيدُونَ إِلْصَاقَ شَيْءٍ بِي؟”، لَمْ يُحَسِّنْ ذَلِكَ مِنْ موقفِهَا.
لَمْ يَكُنْ تَسَاؤُلُهَا صَوْتِيًّا، وَلَا عَنِيدًا، بَلْ بِإِصْرَارٍ مَشُوبٍ بِالحَيْرَةِ وَالاِرتِباكِ.
كانَ مِنَ المُفْتَرَضِ أَن يَكُونَ مُحَامِيُّها أَفْهَمَ حِيلَةً وَأمْهَرَ خِبْرَةً، أو عَلَى القَلِيلِ أَكْثَرَ بَرَاعَةً. وَرُبَّمَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهَا أَلَّا تُعَقِّدَ الأُمُورَ عَلَيْهِ؛ فَلم تَكُن تَمْنَحُهُ ثِقَتَهَا، وَلَم تَكُن هِيَ الَّتِي اخْتَارَتْهُ، بَل عُيِّنَ مَحَامِيًّا لَهَا بِمَكَانٍ، مِنْ قِبَلِ القَاضِي، مَكَلَّفًا بِالدِّفَاعِ عَنْهَا.
كانتْ هَنّا تُحْرِزُ، أَحْيَانًا، نَوْعًا مِنَ النَّجَاحِ. أَتَذَكَّرُ اسْتِجْوَابَهَا حِيَالَ عَمَلِيَّاتِ “الِاخْتِيَارِ” الَّتِي جَرَتْ فِي المُعَسْكَرِ. أَمَّا بَقِيَّةُ الْمُتَّهَمِينَ فَقَدْ أَنْكَرُوا بِشدَّةٍ أَيَّ صِلَةٍ لَهُمْ بِذٰلِكَ، فِي أَيِّ وَقْتٍ وَبِأَيِّ طَرِيقَةٍ. وَلَكِنَّ هَنّا أَقَرَّتْ، بِكُلِّ تَرحيبٍ، بِمُشَارَكَتِهَا فِي ذٰلِكَ، وَمَا كَانَتْ وَحْدَهَا، بَلْ كَانَ سَائِرُ الآخَرِينَ مِثْلَهَا، بِرِفْقَتِهِمْ.
وَبَدَا لِلْقَاضِي الرَّئِيسِ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَغُوصَ أَعْمَقَ فِي نَفْسِهَا، فَسَأَلَهَا: “كَيْفَ كَانَتْ تَجْرِي عَمَلِيَّاتُ الِاخْتِيَارِ؟”
فَوصَفَتْ هَنّا بِوُضُوحٍ أَنَّ المُشْرِفَاتِ اتَّفَقْنَ عَلَى إِبْلَاغِ أَعْدَادٍ مُتَسَاوِيَةٍ مِنَ السَّجِينَاتِ، مِنْ مَنَاطِقِ مَسْؤُولِيَّاتِهِنَّ السِّتِّ، عَشرُ سَجِينَاتٍ مِنْ كُلِّ مِنْطَقَةٍ، لِيَكُونَ المَجْمُوعُ سِتِّينَ. وَلٰكِنَّ هٰذِهِ الأَعْدَادَ تَتَفَاوَتُ حَسَبَ نِسْبَةِ المَرْضَى فِي كُلِّ مِنْطَقَةٍ، وَفِي النِّهَايَةِ، يَكُونُ هُنَاكَ تَفْوِيضٌ جَمَاعِيٌّ لِمَن يَجِبُ إِرْجَاعُهَا.
سَأَلَهَا القَاضِي: “هَلْ أمْتَنَعَتْ إِحْدَاكُنَّ عَنِ المُشَارَكَةِ؟ أَمْ كُنْتُنَّ جَمِيعًا تَتَصَرَّفْنَ بِوَاحِدَةٍ؟”
فَأَجَابَتْ بِثِقَةٍ: “نَعَمْ.”
فَسَأَلَهَا: “أَلَمْ تَكُنُوا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ تُرْسِلُونَ هٰؤُلَاءِ السَّجِينَاتِ إِلَى الْمَوْتِ؟”
فَقَالَتْ: “بَلَى، وَلٰكِنَّ الجُدُدَ كَانُوا يَصِلُونَ، وَيَجِبُ عَلَى القُدَمَاءِ أَنْ يُفْسِحُوا لَهُمْ المَكَانَ.”
فَقَالَ القَاضِي: “فَإِذَنْ، أَنْتِ بِغيْرَةِ تَفْرِيغِ المَكَانِ كُنْتِ تَقُولِينَ: أَنْتِ، وَأَنْتِ، وَأَنْتِ، يَجِبُ إِعَادَتُكُنَّ وَقَتْلُكُنَّ؟”
لَمْ تَفْهَمْ هَنّا مَغْزَى السُّؤَالِ، فَتَرَدَّدَتْ: “أَنَا… أَعْنِي… وَمَاذَا كُنْتُمْ أَنْتُمْ لِتَفْعَلُوا؟”
وَكَانَ سُؤَالُهَا ذَاكَ، مِنْ جِهَتِهَا، جَادًّا، إذْ لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُ كَيْفَ تَتَصَرَّفُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَكَانَتْ تَرْجُو مِنَ القَاضِي، الَّذِي بَدَا أَنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ، أَنْ يُخْبِرَهَا مَاذَا كَانَ سَيَفْعَلُهُ هُوَ.
سَادَ صَمْتٌ لَحْظِيٌّ. فَلا يَلِيقُ فِي مَجْرَى دَعَاوَى جِنَائِيَّةٍ أَلْمَانِيَّةٍ أَنْ يُوجّهَ المُتَّهَمُ أَسْئِلَةً إِلَى القَاضِي، وَلٰكِنَّ السُّؤَالَ قَدْ طُرِحَ وَالجَمِيعُ انْتَظَرُوا الجَوَابَ، وَكَانَ عَلَى القَاضِي أَنْ يُجِيبَ. لَمْ يَكُنْ بِوُسْعِهِ أَنْ يَتَجَاهَلَ السُّؤَالَ، وَلَا أَنْ يَرُدَّهُ بِتَوْبِيخٍ أَوْ سُخْرِيَّةٍ. كَانَ ذٰلِكَ وَاضِحًا لِلْجَمِيعِ، وَكَانَ هُوَ نَفْسُهُ يدْرِكُ ذَلِكَ.
فَهِمْتُ لِمَاذَا جَعَلَ هٰذَا التَّعْبِيرَ الْمُسْتَمِرَّ مِنَ “الِارْتِبَاكِ” طَابِعًا لَهُ. كَانَ قَدْ صَنَعَ مِنْهُ قِنَاعًا، وَرَاءَ هٰذَا القِنَاعِ كَانَ يَسْتَرِيحُ قَلِيلًا لِيَجِدَ جَوَابَهُ، وَلَكِن لَمْ يَكُنْ لَدَيْهِ وَقْتٌ كَافٍ، فَكُلَّمَا اطْالَ انْتِظَارُهُ ازْدَادَ التَّوَتُّرُ وَتَصَاعَدَتِ التَّوَقُّعَاتُ، فَصَارَ لَازِمًا أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُ، عِنْدَمَا يَنْطِقُ بِهِ، لَائِقًا بِتِلْكَ اللَّحْظَةِ.
فَقَالَ بِرِصَانَةٍ: “هُنَاكَ أُمُورٌ لا يَجِبُ أَنْ يُقْحَمَ فِيهَا الإِنْسَانُ نَفْسَهُ، وَإِنْ لَمْ يُهَدِّدْ انْسِحَابُهُ مِنْهَا جَسَدَهُ أَوْ حَيَاتَهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَنَحَّى.”
لَعَلَّ العِبَارَةَ كَانَتْ لِتَكْفِي، لَوْ قَالَهَا القَاضِي بِطَرِيقَةٍ تشِيرُ إِلَى هانا أَوْ إِلَى نَفْسِهِ، لا أَنْ يُطلِقَ أَحْكَامًا عَامَّةً عَمَّا “يَجِبُ” وَ”لا يَجُوزُ”، وَ”مَا يُكَلِّفُ الإِنْسَانَ مَاذَا”. فَتِلْكَ الطَّرِيقَةُ لَمْ تُنْصِتْ لِمَغْزَى سُؤَالِ هانا ، وَلَمْ تُنْصِفْ جِدِّيَّتَهَا. فَهِيَ كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَعْرِفَ: “مَاذَا كَانَ يَجِبُ أَنْ أَفْعَلَهُ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ؟”، لا أَنْ تَسْمَعَ بِبسَاطَةٍ أَنَّ “هُنَاكَ أَشْيَاءً لا يُفْعَلُ مِثْلُهَا.”
بَدَتْ إِجَابَةُ القَاضِي، فِي عَيْنِ الجَمِيعِ، عَاجِزَةً وَمُحْزِنَةً. تَنَفَّسَ الحُضُورُ بِارْتِيَاحٍ خَائِبٍ، كَأَنَّهُمْ تَخَلَّصُوا مِنْ عِبْءِ انْتِظَارٍ ثَقِيلٍ، ثُمَّ رَمَقُوا هانا بِدَهْشَةٍ وَاضِحَةٍ، كَأَنَّهَا “رَبِحَتْ” هٰذَا السِّجَالَ القَصِيرَ.
ها هي، غارقةٌ في تأمّلها الخاصّ، تبحر في أعماق سؤالٍ لا يزال يئنّ بين ثنايا عقلها:
“أيكونُ إذن… أيكونُ أنّه لم يكن عليّ أن أُبلِّغ عن نفسي لشركة سيمنس؟”
لَمْ يَكُنْ ذٰلِكَ سُؤَالًا مُوَجَّهًا إِلَى الْقَاضِي، بَلْ كَانَ كَأَنَّهَا تُخَاطِبُ ذَاتَهَا بِصَوْتٍ خَافِتٍ مُتَرَدِّدٍ، كَأَنَّ السُّؤَالَ قَدْ بَرَزَ لِتَوِّهِ عَلَى سَطْحِ ذِهْنِهَا، لَا تَزَالُ تَشُكُّ: أَهُوَ السُّؤَالُ الصَّحِيحُ؟ وَمَا لَوْنُ جَوَابِهِ فِي الْحَقِيقَةِ؟
وَكَمَا أَغْضَبَ إِصْرَارُ هَانَا الْقَاضِيَ فِي السَّابِقِ، فَقَدْ أَثَارَ إِقْرَارُهَا السَّهْلُ حَفِيطَةَ بَقِيَّةِ الْمُتَّهَمَاتِ. إِذْ بَدَا صِدْقُهَا كَأَنَّهُ يَقَوِّضُ دِفَاعَهُنَّ جَمِيعًا، وَيُضْعِفُ مَوْقِفَهَا هِيَ أَيْضًا.
لَقَدْ كَانَتِ الْأَدِلَّةُ، فِي ظَاهِرِهَا، تَمِيلُ لِصَالِحِ الْمُتَّهَمَاتِ. فَفِي الْاِتِّهَامِ الْأَوَّلِ، لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ أَدِلَّةٌ سِوَى شَهَادَةِ الْأُمِّ وَابْنَتِهَا وَكِتَابِ الْأَخِيرَةِ. وَكَانَ بِإِمْكَانِ دِفَاعٍ ذَكِيٍّ أَنْ يُشَكِّكَ، دُونَ الطَّعْنِ فِي جَوْهَرِ أَقْوَالِ الشَّاهِدَتَيْنِ، فِي كَوْنِ الْمُتَّهَمَاتِ أَنْفُسِهِنَّ شَارَكْنَ فِعْلًا فِي عَمَلِيَّاتِ الْاِنْتِقَاءِ. فَالْشَّهَادَاتُ لَمْ تَكُنْ دَقِيقَةً، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ تَكُونَ كَذٰلِكَ. إِذْ كَانَ هُنَاكَ قَائِدٌ لِلْمَعْسَكَرِ، وَحُرَّاسٌ، وَمُشْرِفَاتٌ مُتَعَدِّدَاتٌ، وَسِلْسِلَةٌ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالْمَهَامِّ، لَمْ يَكُنْ بِوُسْعِ الْأَسِيرَاتِ أَنْ يُدْرِكْنَهَا كَامِلَةً، وَلَا أَنْ يُحِيطْنَ بِتَفَاصِيلِهَا.
وَكَانَ الْأَمْرُ مُشَابِهًا فِي الْاِتِّهَامِ الثَّانِي. فَالْأُمُّ وَابْنَتُهَا كَانَتَا مَحْبُوسَتَيْنِ فِي الْكَنِيسَةِ، وَلَمْ تَكُونَا عَلَى عِلْمٍ بِمَا جَرَى خَارِجَهَا.
صَحِيحٌ أَنَّ الْمُتَّهَمَاتِ لَمْ يَسْتَطِعْنَ إِنْكَارَ وُجُودِهِنَّ فِي الْمَكَانِ، لَكِنَّ ذٰلِكَ لَمْ يَكُنْ كَافِيًا لِلْإِدَانَةِ.
أَمَّا الشُّهُودُ الْآخَرُونَ، مِنَ الَّذِينَ عَاشُوا فِي الْقَرْيَةِ آنَذَاكَ، فَقَدْ تَحَدَّثُوا وَتَذَكَّرُوا وُجُوهَ الْمُتَّهَمَاتِ وَأَحَادِيثَهُنَّ. وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الشُّهُود أَنْفُسهمْ اضْطُرُّوا إِلَى الْحَذَرِ، خَشْيَةَ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَيْهِمِ الْاِتِّهَامُ بِأَنَّهُمْ تَقَاعَسُوا عَنْ إِنْقَاذِ الْأَسْرَى.
إِنْ كَانَتِ الْمُتَّهَمَاتُ وَحْدَهُنَّ فِي الْمَكَانِ، أَلَمْ يَكُنْ بِوُسْعِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ، وَهُمْ كَثِيرُونَ، أَنْ يَهِيمِنُوا عَلَى عَدَدٍ قَلِيلٍ مِنَ النِّسَاءِ الْحُرَّاسِ، وَيَفْتَحُوا أَبْوَابَ الْكَنِيسَةِ بِأَيْدِيهِمْ؟
أَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَصُوغُوا دِفَاعًا يُظْهِرُ أَنَّ الْمُتَّهَمَاتِ تَصَرَّفْنَ تَحْتَ وَطْأَةِ إِكْرَاهٍ يُخَفِّفُ عَنْ الْجَمِيعِ، شُهُودًا وَمُتَّهمِينَ؟ إِكْرَاهٌ صَادِرٌ عَنِ الْحُرَّاسِ الْمُسَلَّحِينَ، الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا قَدْ فَرُّوا بَعْدُ، أَوِ الَّذِينَ ظَنَّتِ الْمُتَّهَمَاتُ أَنَّهُمْ غَابُوا لَحَظَاتٍ فَقَطْ، رُبَّمَا لِنَقْلِ الْجَرْحَى إِلَى الْمُسْتَشْفَى، وَسرْعَانَ مَا سَيَعُودُونَ؟
وَحِينَ أَدْرَكَ مُحَامُو الْمُتَّهَمَاتِ الْأُخَرِ أَنَّ هٰذَا النَّهْجَ لَا يَنْجَحُ فِي مُوَاجَهَةِ إِقْرَارَاتِ هَانَا الْوَاضِحَةِ، غَيَّرُوا الْخُطَّةَ، وَاتَّجَهُوا إِلَى اسْتِغْلَالِ تِلْكَ الْإِقْرَارَاتِ لِيَجْعَلُوهَا مِنْهَا عِبْئًا عَلَى هَانَا وَحْدَهَا، وَتَبْرِئَةً لِمَنْ سِوَاهَا.
وَقَدْ فَعَلُوا ذٰلِكَ بِمَسَافَةٍ مِهْنِيَّةٍ بَارِدَةٍ، فِيمَا كَانَتِ الْمُتَّهَمَاتُ الْأُخَرُ يُقَاطِعْنَ بِإِشَارَاتِ اسْتِهْجَانٍ وَانْفِعَالٍ.
“لَقَدْ قُلْتِ إِنَّكِ كُنْتِ تَعْلَمِينَ أَنَّكِ كُنْتِ تُرْسِلِينَ الْأَسْرَى إِلَى حَتْفِهِمْ – هٰذَا يَخُصُّكِ وَحْدَكِ، أَلَيْسَ كَذٰلِكَ؟ مَا كَانَتْ تَعْرِفُهُ زُمَلَاءُكِ، لَا يُمْكِنُكِ أَنْ تجْزِمِي بِهِ، أَلَيْسَ كَذٰلِكَ؟ رُبَّمَا تَظُنِّينَ، لَكِنْ لَا يُمْكِنُكِ الْحُكْمُ، أَلَيْسَ كَذٰلِكَ؟”
كَانَ السَّائِلُ هَذِهِ الْمَرَّةَ مُحَامِيًا عَنْ إِحْدَى الْمُتَّهَمَاتِ.
“لَكِنَّنَا جَمِيعًا كُنَّا نَعْلَمُ…”
“قَوْلُكِ ‘نَحْنُ’ أَوْ ‘جَمِيعُنَا’، أَسْهَلُ مِنْ أَنْ تَقُولِي ‘أَنَا’، أَنَا وَحْدِي، أَلَيْسَ كَذٰلِكَ؟ هَلْ صَحِيحٌ أَنَّكِ، أَنْتِ وَحْدَكِ، كُنْتِ تُخَصِّصِينَ لِكُلِّ فَتْرَةٍ فَتَاةً مِنَ الشَّابَّاتِ اللَّوَاتِي تَحْتَ حِرَاسَتِكِ، وَاحِدَةً تِلْوَ الْأُخْرَى؟”
تَرَدَّدَتْ هَانَا لَحْظَةً.
“أَعْتَقِدُ أَنَّنِي لَمْ أَكُنِ الْوَحِيدَةَ الَّتِي…”
“كَاذِبَةٌ قَذِرَةٌ! أُولَٰئِكَ الْمُدَلَّلَاتُ كُنَّ لَكِ وَحْدَكِ! كُنَّ مِنْ اخْتِيَارِكِ، لَكِ أَنْتِ فَقَطْ!”
صَرَخَتْ بِهَا مُتَّهِمَةٌ أُخْرَى، امْرَأَةٌ فَظَّةٌ تَجْمَعُ بَيْنَ بَلَادَةٍ دَاجِنَةٍ وَفَمٍ لَا يَعْرِفُ الْكَبْحَ، وَكَانَتِ الْغَضبَةُ ظَاهِرَةً فِي صَوْتِهَا وَحَرَكَاتِهَا.
“هَلْ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونِي تَسْتَعْمِلِينَ كَلِمَةَ ‘أَعْلَمُ’ حِينَ لَا تَمْلِكِينَ سِوَى الظَّنِّ، وَتَقُولِينَ ‘أَظُنُّ’ حَيْثُ تَكُونِينَ فِي الْحَقِيقَةِ تَخْتَلِقِينَ؟”
أَمَالَ الْمُحَامِي رَأْسَهُ بِحُزْنٍ خَافِتٍ، كَأَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ جَوَابَهَا الصَّامِتَ بِإِقْرَارٍ مَكْتُومٍ.
“هَلْ صَحِيحٌ أَيْضًا أَنَّ جَمِيعَ الْفَتَيَاتِ اللَّوَاتِي كُنْتِ تَحْتَضِنُهُنَّ، كُنْتِ تُرْسِلِينَهِنَّ إِلَى أُوشْفِيتْز فِي أَوَّلِ قَافِلَةٍ تَالِيَةٍ حِينَ تَمَلَّيْنَ مِنْهُنَّ؟”
لَمْ تُجِبْ هَانَا.
“تِلْكَ كَانَتْ تَصْفِيَتُكِ الْخَاصَّةُ، اخْتِيَارُكِ الشَّخْصِيُّ، أَلَيْسَ كَذٰلِكَ؟ أَنْتِ تُحَاوِلِينَ الْآنَ إِنْكَارَهَا، تُخْفِينَهَا خَلْفَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ الْجَمِيعُ. وَلَكِنَّ…”
هَاجَتْ مَشَاعِرُ ابْنَتِهَا فَجْأَةً، فَصَاحَتْ فِي قَاعَةِ الْمَحْكَمَةِ، وَصَوْتُهَا يَتَصَدَّعُ بَيْنَ الْجُمُوعِ:
“يَا إِلَهِي!”
وَغَطَّتْ وَجْهَهَا بِكَفَّيْهَا، كَأَنَّهَا تُخْفِي أَلَمًا دَفِينًا، ثُمَّ أَضَافَتْ بَاِنْدِهَاشٍ مَمْزُوجٍ بِالْنَدَمِ:
“كَيْفَ نَسِيتُ ذٰلِكَ؟ كَيْفَ؟”
تَوَجَّهَ إِلَيْهَا الْقَاضِي سَائِلًا، “هَلْ تَرْغَبِينَ فِي إِضَافَةِ شَيْءٍ إِلَى إِفَادَتِكِ؟”
لَكِنَّهَا لَمْ تَنْتَظِرْ طَلَبَهُ، بَلْ قَامَتْ وَاقِفَةً، وَصَوْتُهَا الْجَهِيرُ يَمْلَأُ الْمَكَانَ مِنْ بَيْنِ الْحُضُورِ:
“نَعَمْ، كَانَتْ لَهَا مُدَلَّلَاتٌ. دَائِمًا كَانَتْ تَخْتَارُ وَاحِدَةً مِنَ الصَّغِيرَاتِ، الضُّعَفَاءِ الرَّقِيقَاتِ، تَأْخُذُهَا تَحْتَ جَنَاحِهَا، تُجَنِّبُهَا الْعَمَلَ، تسْكُنُهَا فِي مَكَانٍ أَفْضَلَ، تُطْعِمُهَا وَتَعْنَى بِهَا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا. وَفِي الْمَسَاءِ، تَسْتَدْعِيهَا إِلَى حُجْرَتِهَا، وَكَانَ مِنَ الْمُحَرَّمِ عَلَى الْبَنَاتِ أَنْ يَفْصِحْنَ عَمَّا يَجْرِي هُنَاكَ, فكنَّا نَظُنُّ أَنَّها تَسْتَمْتِعُ بِهِنَّ ثُمَّ تَتَخَلَّى عَنْهُنَّ. لَكِنَّ الأَمْرَ لَمْ يَكُنْ هَكَذَا، أَبَدًا.”
خَفَّ صَوْتُها تَدْرِيجِيًّا، كَأَنَّهُ يَنْسَحِبُ إِلَى عُمقِ الذَّاكِرَةِ
ذَاتَ يَوْمٍ، تَحَدَّثَتْ إِحْدَاهُنَّ أَخِيرًا، وَعَلِمْنَا أَنَّ الفَتَيَاتِ كُنَّ يَقْرَأْنَ لَهَا كُلَّ مَسَاءِ، مَسَاءً بَعْدَ مَسَاءِ… كَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ يُفْنَيْنَ فِي الوَرْشَةِ تَحْتَ طَأْطَأِ العَمَلِ.
أَظُنُّنِي أَقْنَعْتُ نَفْسِي أَنَّ هَذَا كَانَ أَفْضَلَ، وَإِلَّا لَمَا نَسِيتُهُ…
لَكِنْ، هَلْ كَانَ أَفْضَلَ فِعْلًا؟
جَلَسَتْ بِهُدُوءٍ، وَأَدَارَتْ هَانَا نَظَرَهَا نَحْوِي.
نَظْرَةٌ وَاحِدَةٌ، خَاطِفَةٌ، تَقْبِضُ عَلَى رُوحِي، فَأَدْرَكْتُ أَنَّهَا كَانَتْ تَعْلَمُ مُنْذُ البِدَايَةِ أَنَّنِي هُنَا.
لَمْ تَطْلُبْ شَيْئًا، وَلَمْ تَتَوَسَّلْ، وَلَا بَرَّرَتْ شَيْئًا، وَلَمْ تَعُدْ تعِدُّ بِشَيْءٍ.
وَجْهُهَا كَانَ كَمَا هُوَ: مُجَرَّدٌ، صَامِتٌ، لَا يَخْفِي وَلَا يُعْلِنُ.
وَرَأَيْتُهَا مُرْهَقَةً، وَشَدِيدَةَ التَّوَتُّرِ، تَحْمِلُ تَحْتَ عَيْنَيْهَا هَالَاتٍ دَاكِنَة، وَعَلَى خَدَّيْهَا خَطَّانِ طَوِيلَانِ لَمْ أَرَهُمَا مِنْ قَبْلُ، كَأَنَّهُمَا نَدَبَتَانِ عَمِيقَتَانِ، تَشَقَّانِ مَلَامِحَهَا النَّاعِمَةَ.
حِينَ احْمَرَّ وَجْهِي تَحْتَ نَظَرَتِها، صَرَفَتْ عَيْنَيْهَا عَنِّي، وَعَادَتْ تُوَاجِهُ القُضَاةَ.
سَأَلَ القَاضِي مُحَامِيَ المُتَّهَمَةِ الَّتِي اسْتَجْوَبَهَا إِنْ كَانَ لَدَيْهِ سُؤَالٌ آخَرُ، ثُمَّ تَوَجَّهَ بِالسُّؤَالِ إِلَى مُحَامِي هَانَا.
وَأَنَا فِي دَاخِلِي أُحَدِّثُ نَفْسِي:
“اسْأَلها… اسْأَلها، هَلْ كَانَتْ تَخْتَارُ الصَّغِيرَاتِ وَالضُّعَفَاءَ لِأَنَّهَا تَعْرِفُ أَنَّهُنَّ لَن يَحْتَمِلْنَ العَمَلَ؟ وَأَنَّ مَصِيرَهُنَّ الْمُحْتُومَ كَانَ الرَّحِيلُ مَعَ القَافِلَةِ؟
اسْأَلِها، هَلْ كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَ آخِرَ شَهْرٍ فِي حَيَاتِهِنَّ أَكْثَرَ احْتِمَالًا؟
قُولِيهَا، هَانَا… قُولِيهَا.
قُولِيهَا إِنَّكِ أَرَدْتِ أَنْ تَجْعَلِيَ الشَّهْرَ الأَخِيرَ فِي حَيَاتِهِنَّ أَكْثَرَ احْتِمَالًا.
قُولِيهَا إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ سَبَبٌ آخَرُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ.”
لَكِنَّ المُحَامِي لَمْ يَسْأَلْ، وَهَانَا لَمْ تَتَحَدَّثْ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِهَا.
لَمْ تُنْشَرِ النُّسْخَةُ الأَلْمَانِيَّةُ مِنَ الكِتَابِ الَّذِي كَتَبَتْهُ الْابْنَةُ عَنْ تَجْرِبَتِهَا فِي الْمُعْتَقَلِ إِلَّا بَعْدَ اِنْتِهَاءِ الْمُحَاكَمَةِ.
خِلَالَ الْمُحَاكَمَةِ، كَانَ الْمَخْطُوطُ مَوْجُودًا، لَكِنَّهُ أُتِيحَ فَقَطْ لِأَطْرَافِ الْقَضِيَّةِ.
وَأَنَا، لَمْ يَكُنْ أَمَامِي سِوَى قِرَاءَتهِ بِالْإِنْجِلِيزِيَّةِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ أَمْرًا غَرِيبًا وَشَاقًّا.
بِكُلِّ رَسْمٍ وَجَلاَلٍ، تَتَجَلَّى اللُّغَةُ الْأَجْنَبِيَّةُ الَّتِي لَا يتقنُهَا الْإِنْسَانُ، وَتُصْبِحُ فِي قِرَاءَتِهَا رِحْلَةً تَجْمَعُ بَيْنَ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، بَيْنَ التِّمَاسِ الْفَهْمِ وَغُمُوضِ الْمَعْنَى.
“يُضْطَرُّ الْقَارِئُ إِلَى أَنْ يُنَقِّبَ فِي النَّصِّ بِدِقَّةٍ وَاجْتِهَادٍ، وَمَعَ ذَلِكَ، يَبْقَى غَرِيبًا عَنْهُ، كَمَا تَبْقَى اللُّغَةُ نَفْسُهَا غَرِيبَةً.”
وَبَعْدَ سِنَوَاتٍ عَدِيدَةٍ، عُدْتُ إِلَى قِرَاءَةِ الْكِتَابِ، لِأَجِدَ أَنَّ النَّصَّ ذَاتَهُ يَنْسِجُ مَسَافَةً لَا تزَالُ، لَا يَدْعُو إِلَى التَّمَاهِي، وَلَا يَمْنَحُ تَعَاطُفًا مَجَّانِيًّا لِأُمٍّ، أَوْ لِابْنَتِهَا، أَوْ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ شَارَكُوهُمَا الْمَصِيرَ فِي مُعْتَقَلَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، ثُمَّ فِي أُوشْفِيتْزَ وَكْرَاكُوفَ.
لَا يَمْنَحُ الْكِتَابُ الْقَائِدَاتِ فِي الثَّكَنَاتِ، وَلَا الْمُشْرِفَاتِ، وَلَا الْحُرَّاسَ، مَا يَكْفِي مِنَ الْمَلَامِحِ النَّفْسِيَّةِ، لِتَكْوِينِ مَوْقِفٍ مِنْهُمْ، أَوْ لِلْحُكْمِ عَلَيْهِمْ، لَا بِخَيْرٍ وَلَا بِشَرٍّ.” إِنَّهُ يَنْبُثُّ بِلَادَةً مَهِيبَةً، بِلَادَةً قَاتِلَةً حَاوَلْتُ أَنْ أَصِفَهَا مِنْ قَبْلُ.
وَمَعَ ذَلِكَ، لَمْ تَفْقِدِ الابْنَةُ، رَغْمَ تِلْكَ الْبلَادَةِ، قُدْرَتَهَا عَلَى تَسْجِيلِ مَا تَرَاهُ، وَتَحْلِيلِهِ؛ لَمْ تَسْمَحْ لِنَفْسِهَا أَنْ تُفْسِدَ الشَّهَادَةَ بِالشَّفَقَةِ عَلَى الذَّاتِ، وَلَا بِتِلْكَ الثِّقَةِ الَّتِي اِكْتَسَبَتْهَا مِنْ نَجَاتِهَا، وَمِنْ كَوْنِهَا لَمْ تَحْتَمِلِ السِّنِينَ فِي الْمُعْتَقَلَاتِ فَحَسْبُ، بَلْ حَوَّلَتْهَا إِلَى عَمَلٍ أَدَبِيٍّ مُتَمَاسِكٍ.
كَتَبَتْ عَنْ نَفْسِهَا، وَعَنْ سُلُوكِهَا الْمُرَاهِقِ، الْمُتَذَاكِي، بَلِ الْمُتَذَاكِي عَلَى نَحْوٍ خَبِيثٍ أَحْيَانًا، بِنَفْسِ الْبُرُودَةِ وَالِاتِّزَانِ الَّذِي كَتَبَتْ بِهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ.
هَانَا، فِي الْكِتَابِ، لَا تُذْكَرُ بِالِاسْمِ، وَلَا تُوْصَفُ بِطَرِيقَةٍ تتِيحُ التَّعَرُّفَ عَلَيْهَا. وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، ظَنَنْتُ أَنِّي أُبْصِرُهَا فِي هَيْئَةِ مُشْرِفَةٍ شَابَّةٍ، جَمِيلَةٍ، تُؤَدِّي عَمَلَهَا بِإِخْلَاصٍ خَالٍ مِنَ الضَّمِيرِ، لَكِنِّنِي لَمْ أَكُنْ وَاثِقًا. وَعِنْدَمَا رَأَيْتُ بَقِيَّةَ الْمُتَّهَمَاتِ، لَمْ يَكُنْ بِالْإِمْكَانِ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمُشْرِفَةُ سِوَى هَانَا.
لَكِن، كَانَتْ هُنَاكَ مُشْرِفَاتٌ أُخْرَى. فِي أَحَدِ الْمُعْتَقَلَاتِ، تَحَدَّثَتِ الْابْنَةُ عَنْ مُشْرِفَةٍ كَانَتْ تُلَقَّبُ بِـ”الْفَرَسِ”؛ شَابَّةٌ أَيْضًا، جَمِيلَةٌ وَمُؤَهَّلَةٌ، لَكِنَّهَا كَانَتْ قَاسِيَةً وَفَاقِدَةً لِلْسَّيْطَرَةِ.
كَانَتِ الْمُشْرِفَةُ فِي الْمُعْتَقَلِ تُذَكِّرُهَا بِهَا.
هَلْ خَطَرَ هَذَا التَّشْبِيهُ لِأَحَدٍ سِوَاي؟
هَلْ كَانَتْ هَانَا عَلَى عِلْمٍ بِهِ؟ هَلْ تَذَكَّرَتْهُ؟ وَهَلْ بَدَا عَلَيْهَا التَّأَثُّرُ حِينَ شَبَّهْتُهَا بِفَرَسٍ؟
كَانَ مُعْتَقَلُ كْرَاكُوفَ هُوَ الْمَحَطَّةُ الْأَخِيرَةُ لِلْأُمِّ وَابْنَتِهَا بَعْدَ أُوشْفِيتْزَ. كَانَتْ تِلْكَ، بِوَجْهِ مَا، خُطْوَةً إِلَى الْأَمَامِ. فَالْعَمَلُ، رَغْمَ قَسْوَتِهِ، كَانَ أَقَلَّ قَسْوَةً، وَالطَّعَامُ أَحْسَنُ، وَالنَّوْمُ مَعَ سِتِّ نِسَاءٍ فِي غُرْفَةٍ وَاحِدَةٍ أَفْضَلُ بِكَثِيرٍ مِنَ النَّوْمِ مَعَ مِئَةٍ فِي عَنبَرٍ وَاحِدٍ.
وَكَانَ الْمَكَانُ أَدْفَأَ؛ إِذْ كَانَتِ النِّسَاءُ قَادِرَاتٍ عَلَى التَّقَاطِ قِطَعِ الْحَطَبِ فِي طَرِيقِ عَوْدَتِهِنَّ مِنَ الْمَصْنَعِ إِلَى الْمُعْتَقَلِ.
كَانَتْ هُنَاكَ، بِلَا شَكٍّ، رَهْبَةٌ مِنْ “الِانْتِقَائَاتِ”، لَكِنَّهَا لَمْ تَبْلُغْ مِنَ الْفَظَاعَةِ مَا كَانَ فِي أُوشْفِيتْزَ.
فِي كُلِّ شَهْرٍ، كَانَتْ سِتُّونَ امْرَأَةً يُعَادُ تَرْحِيلُهُنَّ مِنْ أَصْلِ أَلْفٍ وَمِئَتَيْنِ تَقْرِيبًا؛ وَبِذَلِكَ، كَانَ يُمْكِنُ لِلْمَرْءِ أَنْ يَتَوَقَّعَ الْبَقَاءَ عِشْرِينَ شَهْرًا، حَتَّى وَلَوْ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكْ مِنَ الْقُوَّةِ سِوَى مَا يَمْلِكُهُ الْإِنْسَانُ الْعَادِيُّ.
وَكَانَ مِنَ الْمَشْرُوعِ أَنْ يَأْمُلَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى مِنَ الْمُتَوَسِّطِ. بَلْ وَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُعَوَّلَ عَلَى أَنَّ الْحَرْبَ سَتَنْتَهِي قَبْلَ أَنْ تَمْضِيَ الْعِشْرُونَ شَهْرًا.
لَكِنَّ الْبُؤْسَ الْحَقِيقِيَّ قَدْ بَدَأَ حِينَ فُكِّكَ الْمُعْتَقَلُ، وَاضْطُرَّ السُّجَنَاءُ إِلَى الْمَسِيرِ نَحْوَ الْغَرْبِ.
كَانَ الشِّتَاءُ قَدْ أَقْبَلَ، وَالثَّلْجُ يَهْطِلُ بِثِقْلٍ بَارِدٍ، وَالْمَلَابِسُ الَّتِي كَانَتِ النِّسَاءُ تَرْتَدِينَهَا — وَالَّتِي بِالْكَادِ كَفَتْهُنَّ فِي الْمَصْنَعِ وَالْمُعْتَقَلِ — لَمْ تَعُدْ تَقِيهِنَّ بَرْدَ الطَّرِيقِ الْقَارِسِ.
وَأَمَّا الْأَحْذِيَةُ، فَكَانَتْ أَشَدَّ بُؤْسًا؛ أَحْيَانًا كَانَتْ مُجَرَّدَ لُفَائِفَ مِنَ الْخِرَقِ وَالْجَرَائِدِ، مَرْبُوطَةً بِإِحْكَامٍ لِيَبْقَى مَا يُشْبِهُ الْحِذَاءَ ثَابِتًا أَثْنَاءَ الْوُقُوفِ وَالْمَشْيِ، لَكِنَّهَا لَمْ تَصْمُدْ فِي مَسِيرٍ طَوِيلٍ فَوْقَ الثَّلْجِ وَالْجَلِيدِ.
وَلَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ مُجَرَّدَ مَشْيٍ، بَلْ كَانَ هَرْبًا، هرْوَلَةً، رَكْضًا مُتَسَارِعًا مُطَارَدًا.
“مَسِيرُ الْمَوْتِ؟” تَسْأَلُ الْابْنَةُ فِي كِتَابِهَا، ثُمَّ تُجِيبُ:
“لَا، بَلْ رَكْضُ الْمَوْتِ، جَلَبَةُ الْمَوْتِ.”
انْهَارَتْ كَثِيرَاتٌ عَلَى الطَّرِيقِ، وَبَعْضُهُنَّ لَمْ يَعُدْنَ قَادِرَاتٍ عَلَى النُّهُوضِ بَعْدَ لَيْلَةٍ قَاسِيَةٍ قَضَيْنَهَا فِي حَظِيرَةٍ أَوْ عِنْدَ جِدَارٍ بَارِدٍ.
وبَعْدَ أُسْبُوعٍ، كَانَتْ نِصْفُ النِّسَاءِ قَدْ فَارَقْنَ الحَيَاةَ.
كَانَتِ الكَنِيسَةُ مَلْجَأً أَرْحَمَ مِنَ الحَظَائِرِ وَالجُدْرَانِ الَّتِي سَبَقَ لَهُنَّ المَبِيتُ عِنْدَهَا.
وَحِينَمَا كُنَّ يَمُررْنَ بِمَزَارِعَ مُهْجُورَةٍ، كَانَ الحُرَّاسُ وَالمُشْرِفَاتُ يَنْهَبُونَ الْبُيُوتَ السَّكَنِيَّةَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَيَتْرُكُونَ لِلنِّسَاءِ مَا تَبَقَّى مِنْ جُدْرَانٍ بَارِدَةٍ أَوْ سُقُوفٍ عَارِيَةٍ.
أَمَّا فِي القَرْيَةِ الْمُهْجُورَةِ هَذِهِ، فَقَدْ تَمَكَّنُوا مِنَ الاسْتِيلَاءِ عَلَى بَيْتِ الْكَاهِنِ، وَمَعَ ذَلِكَ أَبْقوْا لِلنِّسَاءِ شَيْئًا أَكْثَرَ كَرَامَةً مِنْ جِدَارٍ أَوْ حَظِيرَةٍ.
إِنَّهُنَّ فَعَلْنَ ذَلِكَ، وَأَنَّ فِي الْقَرْيَةِ كَانَ هُنَاكَ حَسَاءٌ دَافِئٌ لِلْطَّعَامِ، بَدَا كَأَنَّهُ وَعْدٌ بِنِهَايَةِ الْبُؤْسِ.
هَكَذَا غَفَتِ النِّسَاءُ فِي نَوْمٍ ثَقِيلٍ،
لَكِن سَرْعَانَ مَا انْهَمَرَتِ الْقَنَابِلُ.
طَالَمَا كَانَ الْبُرْجُ يَشْتَعِلُ، كَانَ صَوْتُ النِّيرَانِ يُسْمَعُ مِنْ دَاخِلِ الْكَنِيسَةِ، وَلَكِنَّ اللَّهَبَ لَمْ يَكُن يُرَى.
وَعِنْدَمَا انْكَسَرَ رَأْسُ الْبُرْجِ وَانْهَارَ عَلَى السَّقْفِ الْخَشَبِيِّ، اسْتَغْرَقَتْ دَقَائِقُ حَتَّى بَدَا وَهجُ النَّارِ وَاضِحًا.
ثُمَّ بَدَأَتِ النِّيرَانُ تَتَسَاقَطُ كَقَطَرَاتٍ مُلْتَهِبَةٍ، فَأَوْقَدَتِ اللِّبَاسَ، وَسَقَطَتِ الْعَوَارِضُ الْمُشْتَعِلَةُ فَأَحْرَقَتِ الْمَقَاعِدَ وَالْمنْبَرَ.
وَخِلَالَ وَقْتٍ قَصِيرٍ، انْهَارَ السَّقْفُ بِالْكَاملِ عَلَى صَحْنِ الْكَنِيسَةِ، وَاشْتَعَلَ كُلُّ شَيْءٍ بِلَهِيبٍ هَائِجٍ لَا يُقَاوَمُ.
تُعَلِّقُ الابْنَةُ قَائِلَةً:
“كَانَ بِإِمْكَانِ النِّسَاءِ النَّجَاةُ لَوْ تَعَاوَنَّ فَوْرًا عَلَى كَسْرِ إِحْدَى الأَبْوَابِ، لَكِنَّهُنَّ لَمْ يُدْرِكْنَ مَا يَحْدُثُ أَوْ مَا سَيَحْدُثُ، وَلَا أَنَّ الأَبْوَابَ لَنْ تُفْتَحَ لَهُنَّ.”
كَانَتِ اللَّيْلَةُ حَالِكَةَ السَّوَادِ عِنْدَمَا أَيْقَظَهُنَّ انفِجَارُ الْقُنْبُلَةِ،
وَلِبَعْضِ الْوَقْتِ سَمِعْنَ صَوْتًا غَرِيبًا مُخِيفًا دَاخِلَ الْبُرْجِ، فَكُنَّ صَامِتَاتٍ مُسْتَمِعَاتٍ، يُحَاوِلْنَ فَهْمَ مَا يَدُورُ.
“إِنَّهُ صَوْتُ تَفَرُّقِ النِّيرَانِ وَفَرْقَعَتِهَا، وَوَهجُ النَّارِ الَّذِي يَلْمَعُ بَيْنَ الْحِينِ وَالْآخَرِ خَلْفَ النَّافِذَاتِ،” تَتَابِعُ الابْنَةُ،
“وَالضَّرْبَةُ الَّتِي سمِعَتْ فَوْقَ رُؤُوسِهِنَّ كَانَتْ اِنْتِقَالَ الْحَرِيقِ مِنَ الْبُرْجِ إِلَى السَّقْفِ.”
لَمْ تُدْرِكِ النِّسَاءُ الْحَقِيقَةَ إِلَّا حِينَ بَدَأَ السَّقْفُ يَشْتَعِلُ أَمَامَ أَعْيُنِهِنَّ،
حِينَئِذٍ صَرَخْنَ بِأَلَمٍ وَرُعْبٍ، نَادينَ طَلَبًا لِلْمُسَاعَدَةِ، وَانْدَفَعْنَ نَحْوَ الأَبْوَابِ، يَرُنُّنَ عَلَيْهَا، يَطْرُقْنَهَا وَيَصْرُخْنَ.
وَعِنْدَمَا سَقَطَ السَّقْفُ الْمُشْتَعِلُ عَلَى صَحْنِ الْكَنِيسَةِ، صَارَتْ جُدْرَانُهَا أَشْبَهَ بِمَوْقِدٍ يُحْتَجَزُ فِيهِ اللَّهَبُ،
وَلَمْ يَمُتْ مُعْظَمُ النِّسَاءِ اخْتِنَاقًا، بَلِ احْتَرَقْنَ حَيَّاتٍ فِي أَلْسِنَةِ اللَّهَبِ السَّاطِعَةِ وَالصَّاخِبَةِ.
فِي النِّهَايَةِ، وَبَعْدَ سَاعَاتٍ مِنَ الصِّرَاعِ، “اسْتَطَاعَ الْحَرِيقُ أَنْ يَخْتَرِقَ أَبْوَابَ الْكَنِيسَةِ الْحَدِيدِيَّةِ، مُذِيبًا الْحَدِيدَ وَمُشْتَعِلًا، لَهُ لَهِيبٌ لَا يَرْحَمُ.”
نَجَتِ الْأُمُّ وَابْنَتُهَا، “لِأَنَّ الْأُمَّ اتَّخَذَتِ الْقَرَارَ الصَّحِيحَ لأَسْبَابٍ خَاطِئَةٍ.”
حِينَ غَمَرَ الْهَلَعُ النِّسَاءَ، لَمْ تَطِقِ الْبَقَاءَ بَيْنَهُنَّ، “فَفَرَّتْ إِلَى الشرْفَةِ الْعُلْوِيَّةِ.”
“لَمْ يَكُنْ يَهُمُّهَا أَنْ تَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى اللّهَبِ، فَقَطْ أَرَادَتْ أَنْ تَبْقَى وَحْدَهَا، بَعِيدًا عَنْ صُرَاخِ النِّسَاءِ الْمُشْتَعِلَاتِ وَالْمُزْدَحِمَاتِ فِي الْفَوْضَى.”
كَانَتِ الشّرْفَةُ ضَيِّقَةً جِدًّا، بِحَيْثُ لَمْ يُصِبْهَا السَّقْفُ الْمُحْتَرِقُ إِلَّا قَلِيلًا.
وَقَفَتِ الْأُمُّ وَابْنَتُهَا مُضْغُوطَتَيْنِ إِلَى الْجِدَارِ، تُرَاقِبَانِ وَتَسْتَمِعَانِ إِلَى هَيْجَانِ النَّارِ مِنْ حَوْلِهِمَا.
فِي الْيَوْمِ التَّالِي، “لَمْ يَجْرُؤْنَ عَلَى النُّزُولِ وَالْخُرُوجِ.”
وَفِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ الْتَّالِيَةِ، كُنَّ يَخْشَيْنَ أَنْ يخْطِئْنَ فِي خُطُوَاتِ السُّلَّمِ وَالطَّرِيقِ.
عِنْدَمَا خَرَجْنَ مِنَ الْكَنِيسَةِ فِي فَجْرِ الْيَوْمِ التَّالِي بَعْدَ غَدٍ، صَادَفْنَ بَعْضَ سُكَّانِ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ حَدَقُوا فِيهِنَّ صَمْتًا وَذُهُولًا، لَكِنَّهُمْ أَهَدَيْنَهُنَّ مَلَابِسَ وَطَعَامًا وَسَمَحُوا لَهُنَّ بِالْمُضِيِّ.
سَأَلَ الْقَاضِيُّ الرَّئِيسُ كُلَّ مُتَّهَمَةٍ نَفْسَ السُّؤَالِ: “لِمَاذَا لَمْ تَفْتَحُوا الأَبْوَابَ؟”
وَرَدَّتِ الْمُتَّهِمَاتُ وَاحِدَةً تِلْوَ الأُخْرَى بِنَفْسِ الْجَوَابِ: “لَمْ نَسْتَطِعِ الْفَتْحَ.”
تَسَاءَلَ الْقَاضِيُّ: “وَلِمَاذَا؟”
كَانَتِ الْإِجَابَاتُ مُخْتَلِفَةً لَكِنَّهَا مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى؛ فَمِنْهُنَّ مَنْ قَالَتْ: “أُصِبْتُ أَثْنَاءَ انْفِجَارِ الْقُنْبُلَةِ فِي بَيْتِ الْقسِيسِ.”
وَمِنْهُنَّ مَنْ قَالَتْ: “كُنْتُ فِي حَالَةِ صَدْمَةٍ بِسَبَبِ الانْفِجَارِ.”
وَمِنْهُنَّ مَنْ أَوْضَحَتْ: “بَعْدَ الانْفِجَارِ، اعْتَنَيْتُ بِالْحُرَّاسِ الْجَرْحَى وَغَيْرِهِنَّ مِنَ الْمُشْرِفَاتِ، أَنْقَذْتُهُنَّ مِنْ تَحْتِ الْأَنْقَاضِ، وَرَبَطْتُ جُرُوحَهُنَّ، وَوَفَّرْتُ لَهُنَّ الرِّعَايَةَ.”
وَأَضَافَتْ إِحْدَاهُنَّ: “لَمْ أَكُنْ أُفَكِّرُ فِي الْكَنِيسَةِ، وَلَمْ أَكُنْ قَرِيبَةً مِنْهَا، وَلَمْ أَرَ الْحَرِيقَ هُنَاكَ، وَلَمْ أَسْمَعِ الصّيَحَاتِ الصَّادِرَةَ مِنْهَا.”
وَجَّهَ الْقَاضِيُّ ذَاتَ اللَّوْمِ لِكُلِّ مُتَّهَمَةٍ، وَقَالَ: “التَّقْرِيرُ يُقْرَأُ خِلَافَ ذَلِكَ.”
كَانَ هَذَا التَّعْبِيرُ حَذِرًا وَمَدْرُوسًا، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ التَّقْرِيرَ الْمَوْجُودَ فِي مَلَفَّاتِ قُوَّاتِ الْأَمْنِ الْخَاصَّةِ (SS) ذَكَرَ خِلَافَ ذَلِكَ، لَكَانَ كَلَامًا غَيْرَ صَحِيحٍ، لَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ كَانَ يُقْرَأُ بِشَكْلٍ مُخْتَلِفٍ.
ذَكَرَ التَّقْرِيرُ بِأَسْمَاءِ وَاضِحَةٍ مَن قُتِلَ فِي بَيْتِ الْقَسِيسِ، وَمَن جُرِحَ، وَمَن نقلَ الْجَرْحَى إِلَى الْمُسْتَشْفَى بِوَاسِطَةِ الشَّاحِنَةِ، وَمَن رَافَقَهُمْ فِي سَيَّارَةِ الْمَقْطُورَةِ.
كَذَلِكَ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْمُشْرِفَاتِ بَقِينَ لِمُرَاقَبَةِ نِهَايَةِ الْحَرَائِقِ، وَلِمَنْعِ امْتِدَادِهَا، وَلِإِحْبَاطِ مُحَاوَلَاتِ الْهَرْبِ تَحْتَ غِطَاءِ النِّيرَانِ.
وَذَكَرَ التَّقْرِيرُ وَفَاةَ عَدَدٍ مِنَ السِّجِينَاتِ.
إِنَّ أَسْمَاءَ الْمُتَّهِمَاتِ لَمْ تَكُنْ مِنْ بَيْنِ الْأَسْمَاءِ الْمَذْكُورَةِ، فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُنَّ كُنَّ مِنْ بَيْنِ الْمُشْرِفَاتِ اللَّوَاتِي بَقَيْنَ خَلْفَ الْمَجْمُوعَةِ.
وَإِنَّ الْمُشْرِفَاتِ اللَّوَاتِي بَقِينَ “مَنَعْنَ مُحَاوَلَاتِ الْهَربِ”، دَلَّ عَلَى أَنَّ “إِنْقَاذَ الْجَرْحَى مِنْ بَيْتِ الْقَسِيسِ، وَانْطِلَاقَ نَقْلِهِمْ إِلَى الْمُسْتَشْفَى، لَمْ يَكُنْ نِهَايَةَ الْقِصَّةِ.”
كَانَ يُقْرَأُ مِنَ التَّقْرِيرِ: “إِنَّ الْمُشْرِفَاتِ اللَّوَاتِي بَقِينَ، تَرَكْنَ الْحَرِيقَ يَلْتَهِمُ الْكَنِيسَةَ، وَأَبْقَيْنَ الْأَبْوَابَ مُوصَدَةً.”
وَكَانَتِ الْمُتَّهِمَاتُ مِنْ بَيْنِ هَؤُلاَءِ الْمُشْرِفَاتِ اللَّوَاتِي بَقِينَ، “حَسَبَ مَا جَاءَ فِي التَّقْرِيرِ.”
لَكِنَّ الْمُتَّهِمَاتِ، وَاحِدَةً تِلْوَ الأُخْرَى، نَفَيْنَ ذَلِكَ قَائِلَاتٍ: “لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.”
وَأَضْفْنَ: “التَّقْرِيرُ خَاطِئٌ.”
وَأَوْضَحْنَ: “يَبْدُو ذَلِكَ وَاضِحًا لِأَنَّهُ يَذْكُرُ أَنَّ مَن تَبَقَّى مِنَ الْمُشْرِفَاتِ كُنَّ يُكَلَّفْنَ بِمَنَعِ امْتِدَادِ الْحَرَائِقِ.”
سَأَلْنَ: “وَكَيْفَ كَانَ بِإِمْكَانِنَا تَنْفِيذُ تِلْكَ الْمَهَمَّةِ؟”
وَأَكَّدْنَ: “هَذَا كَلَامٌ فَارِغٌ، وَكَذَلِكَ الْمَهَمَّةُ الْأُخْرَى، مَنْعُ مُحَاوَلَاتِ الْهَربِ تَحْتَ سِتَارِ النِّيرَانِ، أَمْرٌ لَا مَعْنَى لَهُ.”
تَابَعْنَ: “مُحَاوَلَاتُ الْهَربِ؟ عِنْدَمَا لَمْ نَعُدْ قَادِرَاتٍ عَلَى رِعَايةِ أَنْفُسِنَا، وَلَا حَتَّى السِّجِينَاتِ، لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَيْءٌ يُهرَبُ مِنْهُ.”
وَخَتَمْنَ بِالْقَوْلِ: “التَّقْرِيرُ يُخْطِئُ تَمَامًا فِي فَهْمِ مَا فَعَلْنَاهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَمَا تَحَمَّلْنَاهُ مِنْ مَعَانَاةٍ وَإِنْجَازَاتٍ.”
“كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ التَّقْرِيرُ إِلَى هَذَا الْقَدَرِ مِنَ الْخَطَإِ؟”
قَالُوا إِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.
حَتَّى جَاءَتْ دَوْرُ الْمُتَّهِمَةِ الْبَطِيئَةِ اللَّاذِعَةِ، فَكَانَتْ تَعْرِفُ.
“اسْأَلُوا تِلْكَ!” أَشَارَتْ بِأَصْبَعِهَا نَحْوَ هَانَا.
“هِيَ الَّتِي كَتَبَتِ التَّقْرِيرَ. هِيَ وَحْدَهَا الْمَسْؤُولَةُ، وَبِذَلِكَ التَّقْرِيرِ أَرَادَتْ أَنْ تُخْفِيَ الْأَمْرَ وَتجَرَّنَا إِلَى الْوَرْطَةِ.”
سَأَلَ الرَّئِيسُ هَانَا، وَكَانَ ذَلِكَ سُؤَالُهُ الْأَخِيرُ.
سُؤَالُهُ الْأَوَّلُ كَانَ:
“لِمَاذَا لَمْ تَفْتَحُوا الْأَبْوَابَ؟”
رَدَّتْ هَانَا:
“كُنَّا… كُنَّا…” بَحَثَتْ عَنْ جَوَابٍ.
“لَمْ نَكُنْ نَعْلَمُ كَيْفَ نَتَصَرَّفُ.”
رَكَّزَ:
“لَمْ تَعْلَمُوا كَيْفَ تَتَصَرَّفْنَ؟”
قَالَتْ:
“بَعْضُنَا مَاتَ، وَالآخَرُونَ هَرَبُوا. قَالُوا إِنَّهُمْ سَيَنْقُلُونَ الْجَرْحَى إِلَى الْمُسْتَشْفَى وَسَيَعُودُونَ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَعُودُوا، وَكُنَّا نَعْلَمُ ذَلِكَ. رُبَّمَا لَمْ يَذْهَبُوا أَصْلًا إِلَى الْمُسْتَشْفَى، فَالْجَرْحَى لَمْ يَكُونُوا مُصَابِينَ بِشِدَّةٍ.”
“كُنَّا سَنَذْهَبُ مَعَهُمْ، لَكِنَّهُمْ قَالُوا إِنَّ الْجَرْحَى بِحَاجَةٍ إِلَى الْمِسَاحَةِ، وَلَمْ يَكُونُوا يُرِيدُونَنَا، لَمْ يُرِيدُوا كَثِيرًا مِنَ النِّسَاءِ مَعَهُمْ. لَا أَعْرِفُ أَيْنَ ذَهَبُوا.”
سُئِلَتْ:
“مَاذَا فَعَلْتُمْ؟”
أَجَابَتْ:
“لَمْ نَكُنْ نَعْرِفُ مَاذَا نَفْعَلُ. كُلُّ شَيْءٍ حَدَثَ بِسُرْعَةٍ، وَكَانَ بَيْتُ الْقسِيسِ يَحْتَرِقُ وَبُرْجُ الْكَنِيسَةِ أَيْضًا، وَكَانَ الرِّجَالُ وَالسَّيَّارَاتُ هُنَاكَ قَبْلَ لَحَظَاتٍ، ثُمَّ اخْتَفُوا فَجْأَةً، وَوَجَدْنَا أَنْفُسَنَا وَحِيدَاتٍ مَعَ النِّسَاءِ فِي الْكَنِيسَةِ.”
“تَرَكُوا بَعْضَ الْأَسْلِحَةِ، لَكِنَّنَا لَمْ نَعْرِفْ كَيْفَ نَسْتَخْدِمُهَا، وَلَوْ عَرَفْنَا، فَمَا الَّذِي كَانَ سَيَنْفَعُنَا نَحْنُ الْقَلِيلَاتِ؟ كَيْفَ كُنَّا سَنُرَاقِبُ كُلَّ هَؤُلاَءِ النِّسَاءِ؟ الْقَافِلَةُ طَوِيلَةٌ جِدًّا، حَتَّى لَوْ جَمَعْتَهَا، وَالْحرَاسَةُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَافَةِ تَحْتَاجُ إِلَى كَثِيرَاتٍ مِنَّا.”
وَقَفَتْ هَانَا قَلِيلًا، ثُمَّ قَالَتْ:
“بَدَأَتِ الصَّرَخَاتُ، وَازْدَادَتْ سُوءًا.”
“لَوْ كُنَّا الآنَ فَتَحْنَا الْأَبْوَابَ وَهَرَبَ الْجَمِيعُ…”
تَوَقَّفَ الرَّئِيسُ لَحْظَةً، وَكَأَنَّهُ يَنْتَظِرُ مِنَ الْكَلِمَاتِ أَنْ تَحْمِلَ جَوَابًا يُنْقِذُ الْمَوْقِفَ.
“هَلْ كُنْتُنَّ خَائِفَاتٍ؟ هَلْ كُنْتُنَّ تَخَفْنَ أَنْ تَغْلِبَكُمُ السِّجِينَاتُ؟”
رَدَّتْ هَانَا بِصَوْتٍ كَأَنَّهُ ذَا رِزَانَةٍ مُتَرَدِّدَةٍ:
“أَنْ يَغْلِبُونَا… لا، لَكِنْ كَيْفَ كُنَّا سَنُعِيدُ النِّظَامَ؟ كَانَ سَيَكُونُ فَوْضَى عَارِمَةً لَا نَقْدِرُ عَلَى السَّيْطَرَةِ عَلَيْهَا. وَلَوْ حَاوَلُوا الْهَربَ…”
انتظرَ الرئيسُ تكملةَ الجملة، لكن هانَا توقّفتْ، تاركةً الكلمات معلّقة في هواء القاعة.
سألها بصوتٍ حادّ:
“هل كُنتُنَّ تَخَفْنَ أَنْ يُعْتَقَلَ أَوْ يُحَاكَمَ أَوْ يُطْلَقَ عَلَيْكُمُ النَّارُ إِذَا هَرَبُوا؟”
قالتْ بثقةٍ غائمةٍ:
“لَمْ نَكُنْ لِنَسْمَحَ لَهُمْ بِالْهُرُوبِ هَكَذَا بِبسَاطَةٍ! كُنَّا مَسْؤُولِينَ عَنْهُمْ… لَقَدْ كُنَّا نُرَاقِبُهُمْ طِيلَةَ الْوَقْتِ، فِي الْمُعسْكَرِ وَفِي الْقَافِلَةِ، وَكَانَ الْهَدَفُ حِرَاسَتُهُمْ وَمَنْعُ هُرُوبِهِمْ. لِذَلِكَ لَمْ نَكُنْ نَعْرِفُ مَاذَا نَفْعَلُ.”
ثُمَّ أَضَافَتْ بِهُدُوءٍ مُنْهَكٍ:
“كَمَا لَمْ نَكُنْ نَعْلَمُ كَمْ مِنَ النِّسَاءِ سَيَبْقَى عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ فِي الْأَيَّامِ الْقَادِمَةِ. فَقَدْ مَاتَ الْكَثِيرُ، وَاللَوَاتِي بَقَيْنَ كُنَّ ضُعَفَاءَ جِدًّا…”
شَعَرَتْ هَانَا بِأَنَّ كَلِمَاتَهَا تَتَعَثَّرُ، لَا تَخْدِمُ قَضِيَّتَهَا، وَلَا تَعِينُهَا عَلَى الدِّفَاعِ، لَكِنَّهَا لَمْ تَجِدْ بَدِيلًا سِوَى الاِسْتِمْرَارِ.
حَاوَلَتْ أَنْ تُعَبِّرَ بِشَكْلٍ أَوْضَحَ، تشْرحَ أَكْثَرَ، لَكِنَّ كُلَّمَا اِنْهَمَرَتِ الْكَلِمَاتُ ازْدَادَتِ الْأُمُورُ تَعْقِيدًا، وَاشْتَدَّتِ الْغمَّةُ.
وَفِي حِيرَةٍ تَفِيضُ بِالْأَسَى، عَادَتْ تُوَجِّهُ كَلَامَهَا لِلرَّئِيسِ:
“مَاذَا كُنْتُمْ لِتَفْعَلُوا إِذًا؟”
لَكِنَّهَا كَانَتْ تَعْرِفُ، هَذِهِ الْمَرَّةَ، أَنَّهَا لَنْ تَحْصُلَ عَلَى جَوَابٍ. لَمْ تَكُنْ تَتَوَقَّعُ رَدًّا، وَلَا أَحَدٌ فِي الْقَاعَةِ كَانَ يَنْتَظِرُ جَوَابًا.
هَزَّ الرَّئِيسُ رَأْسَهُ صَامِتًا، يُجَسِّدُ الْحِيرَةَ وَالْعَجْزَ الَّذِينَ رَصَدَهُمَا فِي كَلَامِهَا.
اللَّيْلُ الْقَارِسُ، الْبَرْدُ الْمُخِيفُ، الثَّلْجُ الَّذِي يكْسُو الْأَرْضَ، النِّيرَانُ الَّتِي تَلْتَهِمُ الْكَنِيسَةَ، صرَاخُ النِّسَاءِ الْمُحَاصَرَاتِ، اخْتِفَاءُ الَّذِينَ أَمَرُوا الْحَارِسَاتِ وَرَافَقُوهُنَّ… كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْأُمُورُ بَسِيطَةً فِي مِثْلِ هَذَا الظَّرْفِ؟
لَكِنْ هَلْ يَكْفِي الِاعْتِرَافُ بِصُعُوبَةِ الْمَوْقِفِ لِتَخْفِيفِ رُعْبِ فِعْلِ الْمُتَّهمَاتِ أَوِ التَّقْصِيرِ؟
هَلْ هُوَ مُجَرَّدُ حَادِثِ سَيْرٍ فِي طَرِيقٍ مَهْجُورٍ لَيْلَةً شِتَوِيَّةً، مَعَ إِصَابَاتٍ وَأَضْرَارٍ جَسِيمَةٍ، فَلَا أَحَدَ يَعْرِفُ مَاذَا يَفْعَلُ؟
أَمْ هُوَ صِرَاعٌ بَيْنَ وَاجِبَيْنِ، كِلَاهُمَا يَسْتَحِقُّ الْجُهْدَ وَالتَّضْحِيَاتِ؟
كَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ نَفْهَمَ، لَكِنَّنَا لَا نُرِيدُ أَنْ نَتَخَيَّلَ ذَلِكَ الْوَصْفَ الَّذِي قَدَّمَتْهُ هَانَا.
“هَلْ كَتَبْتُمْ التَّقْرِيرَ؟”
“فَكَّرْنَا مَعًا فِيمَا نَكْتُبُ. لَمْ نُرِدْ أَنْ نُلْقِيَ اللَّوْمَ عَلَى مَن هَرَبُوا، وَلَكِنَّنَا أَيْضًا لَمْ نُرِدْ أَنْ نُعْتَرِفَ بِأَنَّنَا أَخْطَأْنَا.”
“إِذًا تَقُولِينَ إِنَّكُمْ قَرَّرْتُمْ مَعًا. مَن كَتَبَ التَّقْرِيرَ؟”
“أَنْتِ!”
أَشَارَتْ الْمُتَّهِمَةُ الْأُخْرَى بِإِصْبَعِهَا نَحْوَ هَانَا.
“لَا، لَمْ أَكْتُبِ التَّقْرِيرَ. هَلْ يَهُمُّ مَن كَتَبَهُ؟”
اقْتَرَحَ مُدَّعٍ عَامٌّ أَنْ يُطْلَبَ خَبِيرٌ لِتَحْلِيلِ خَطِّ التَّقْرِيرِ وَمُقَارَنَتِهِ بِخَطِّ الْمُتَّهِمَةِ شْمِيتْس.
“خَطِّي؟ تُرِيدُونَ خَطِّي…”
ناقَشَ الرَّئِيسُ وَالْمُدَّعِي وَمُحامِي هانَا مَسْأَلَةً ما إِذَا كانَ الخَطُّ يُمْكِنُ أَنْ يَحْفَظَ هُوِيَّةَ كاتِبِهِ عَبْرَ خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا، وَهَلْ يُمْكِنُ التَّعَرُّفُ عَلَيْهِ، وَسْطَ صَمْتٍ يَمْلَأُ الْقَاعَةَ وَيُثقِّلُ الْأَجْوَاءَ بِهُدُوءٍ قَاتِلٍ.
كانَتْ هانَا تَسْتَمِعُ بِصَمْتٍ مُتَثَاقِلٍ، تُحاوِلُ أَنْ تَقُولَ شَيْئًا أَوْ تَطْرَحَ سُؤَالًا مَرَّاتٍ عَدِيدَةً، لَكِنَّ التَّوَتُّرَ كانَ يَشْتَدُّ فِي صَدْرِهَا. ثُمَّ انطَلَقَتْ تَقُولُ:
“لا حَاجَةَ لِخَبِيرٍ. أَعْتَرِفُ بِأَنِّي كَتَبْتُ التَّقْرِيرَ.”
“مِنْ أَيَّامِ الْمَحْكَمَةِ، جِئْتُ وَأَنَا أَحْمِلُ جُوعًا جَدِيدًا لِلْأَلْوَانِ وَرَوَائِحِ الطَّبِيعَةِ. فِي أَيَّامِ الْجُمُعَةِ وَالْسَّبْتِ كُنْتُ أُعَوِّضُ مَا فَاتَنِي خِلَالَ الْأُسْبُوعِ فِي الدِّرَاسَةِ، حَتَّى أَتَمَكَّنَ مِنْ مُوَاكَبَةِ التَّمَارِينِ وَإِنْجَازِ الْمُقَرَّرِ الدِّرَاسِيِّ.
أَمَّا أَيَّامُ الْأَحَدِ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ لِلْمَشْيِ. هِيلْجِنْبِرْغ، بَازِيلِيكْ مِيخَائِيل، بُرْجُ بَسْمَارْك، طَرِيقُ الْفَلَاسِفَةِ، ضِفَافُ النَّهْرِ… لَمْ أُغَيِّرِ الطَّرِيقَ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ سِوَى قَلِيلًا.
وَجَدْتُ فِي ذَلِكَ تَنَوُّعًا كَافِيًا، بَيْنَ رُؤْيَةِ الْخُضْرَةِ الَّتِي تَزْدَادُ ازْدِهَارًا أُسْبُوعًا بَعْدَ آخَرَ، وَالسَّهْلِ الرَّايِنِيِّ الَّذِي يَتَبَدَّلُ بَيْنَ ضَبَابِ الْحَرِّ، وَسَتَائِرِ الْمَطَرِ، وَسُحُبِ الْعَوَاصِفِ. وَأَشْتُمُّ فِي الْغَابَةِ رَائِحَةَ التُّوتِ وَالزُّهُورِ تَحْتَ حَرَارَةِ الشَّمْسِ، وَرَائِحَةَ التُّرَابِ وَالأَوْرَاقِ الْمُتَحَلِّلَةِ مِنَ الْعَامِ الْمَاضِي حِينَ تُمْطِرُ السَّمَاءُ.”
تَنَهَّدْتُ، ثُمَّ قُلْتُ بِصِدْقٍ كَاشِفٍ:
“بِصَرَاحَةٍ، لَا أَحْتَاجُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ التَّنَوُّعِ، وَلَا أَبْحَثُ عَنْهُ. الرِّحْلَةُ الْقَادِمَةُ أَبْعَدُ قَلِيلًا مِنَ السَّابِقَةِ، وَالإِجَازَةُ فِي مَكَانٍ اكْتَشَفْتُهُ مِنْ قَبْلُ وَأَحْبَبْتُهُ. لِفَتْرَةٍ، ظَنَنْتُ أَنَّ عَلَيَّ أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَ جُرْأَةً، فَأَجْبَرْتُ نَفْسِي عَلَى الذَّهَابِ إِلَى سِيلَانَ، وَمِصْرَ، وَالْبِرَازِيلِ، قَبْلَ أَنْ أَعُودَ إِلَى تَأَمُّلِ الْمَنَاطِقِ الْمَأْلُوفَةِ لِي أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ. فِيهَا أَرَى أَكْثَرَ.”
تَابَعْتُ وَأَنَا أَغُوصُ فِي أَعْمَاقِ الذِّكْرَى:
“عَثَرْتُ مُجَدَّدًا عَلَى الْمَكَانِ فِي الْغَابَةِ حَيْثُ انْكَشَفَ لِي سِرُّ هانَا. لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ خَاصٌّ، وَلَمْ تَكُنْ لَدَيْهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ شَيْئًا مُمَيَّزًا؛ لَا شَجَرَةً غَرِيبَةَ النُّمُوِّ، وَلَا صَخْرَةً فَرِيدَةً، وَلَا مَنظَرًا اسْتِثْنَائِيًّا لِلْمَدِينَةِ أَوِ السَّهْلِ، وَلَا شَيْءً يَدْعُو إِلَى تَدَاعِي مُفَاجِئٍ لِلْأَفْكَارِ.”
بَيْنَمَا كُنْتُ أُفَكِّرُ فِي هانَا، أُسْبُوعًا بَعْدَ أُسْبُوعٍ، وَأَنَا أَحُومُ فِي نَفْسِ الدُّرُوبِ، انْبَثَقَ فِكْرٌ جَدِيدٌ، سَارَ بِطَرِيقِهِ الْخَاصِّ، وَأَثْمَرَ نَتِيجَتَهُ الْخَاصَّةَ. وَعِنْدَمَا أَكْتمَلَ، كَانَ قَدِ اكْتَمَلَ – كَانَ بِإِمْكَانِهِ أَنْ يَكُونَ فِي أَيِّ مَكَانٍ، أَوْ عَلَى الْأَقَلِّ حَيْثُ تَسْمَحُ أُلْفَةُ الْمَكَانِ وَالظُّرُوفُ بِأَنْ يَشْعُرَ الْمَرْءُ بِالْمُفَاجَأَةِ الَّتِي لَا تَأْتِي مِنَ الْخَارِجِ، بَلْ تَنْمُو فِي الدَّاخِلِ، وَيَقْبَلُهَا.”
ثُمَّ وَصَفْتُ الْمَكَانَ:
كَانَ عَلَى طَرِيقٍ يَصْعَدُ الْجَبَلَ بِشِدَّةٍ، يَعْبُرُ الطَّرِيقَ الْعَامَّ، يَمُرُّ بِجَانِبِ بِئْرٍ، ثُمَّ يَمُرُّ أَوَّلًا تَحْتَ أَشْجَارٍ قَدِيمَةٍ طَوِيلَةٍ دَاكِنَةٍ، ثُمَّ عَبْرَ أَشْجَارٍ أَقَلَّ كَثَافَةً وَضَوْءً.
ثُمَّ بِقَلَقٍ وَوُضُوحٍ تَامٍّ، قُلتُ:
“كَانَتْ هانَا لا تَعْلَمُ القِرَاءَةَ وَلا الكِتَابَةَ. وَلِهذَا، كَانَتْ تَجْعَلُني أَقْرَأُ لَهَا. وَلِهذَا أَيْضًا، تَرَكَتْ لِي مَهَمَّةَ الكِتَابَةِ وَالقِرَاءَةِ فِي رِحْلَتِنا بِالدَّرَّاجَةِ، وَكَانَتْ صَبَاحَ ذَلِكَ اليَوْمِ فِي الفُندُقِ فِي حِيرَةٍ شَدِيدَةٍ حِينَ وجدَتْ وَرَقَتِي، وَرَأَتْ أَنَّهَا تَعْرِفُ مُحْتَوَاهَا، وَخَافَتْ مِن انْكِشَافِ أَمْرِهَا.
ثُمَّ تَوَضَّحَ سَبَبُ تَصَرُّفَاتِها المَهذَّبَةِ وَالمُرَاوغَةِ، وَلِهذَا تَجَنَّبَتِ التَّرْقِيَةَ فِي شَرِكَةِ التِّرَامِ، لأَنَّ ضَعْفَهَا الَّذِي كَانَتْ تَخْفِيهِ كَمُوَظَّفَةِ تَحْصِيلٍ، كَانَ سَيَظْهَرُ جَلِيًّا لَو تَدَرَّبَتْ عَلَى القِيَادَةِ. وَلِهذَا أَيْضًا، أَبَتْ أَنْ تَرقَى فِي شَرِكَةِ سِيمِنْسَ، وَاخْتَارَتْ أَنْ تُصْبِحَ مُشْرِفَةً بَدَلًا مِن ذَلِكَ.
وَلِهذَا، لِكَي تَتَهَرَّبَ مِن المُوَاجَهَةِ مَعَ الخَبِيرِ، أَقَرَّتْ بِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي كَتَبَتِ التَّقْرِيرَ. هَلْ كَانَتْ تَتَكَلَّمُ كَثِيرًا فِي المُحَاكَمَةِ وَتعرِضُ نَفْسَهَا لِلْمَخَاطِرِ بِسَبَبِ ذَلِكَ؟ لِأَنَّهَا لَمْ تَسْتَطِعْ قِرَاءَةَ كِتَابِ الابْنَةِ، وَلَا لَائِحَةَ الاتِّهَامِ، وَلَمْ تَرَ فُرَصَ دِفَاعِهَا، وَلَمْ تَتَهَيَّأْ جَيِّدًا؟
هَلْ أَرْسَلَتْ مُحَامِيِّهَا إِلَى أُوشْفِيتْز لِذَلِكَ؟ لِكَيْ تُسكِّتَهُمْ لَو لَاحَظُوا شَيْئًا؟ وَهَلْ جَعَلَتِ الضُّعَفَاءَ مِنَ المُحْمِيِّينَ لَدَيْهَا أَيْضًا؟ هَلْ كَانَ السَّبَبُ فَقَطْ هذَا؟”
تَوَقَّفْتُ، ثُمَّ قُلتُ:
“كُنْتُ أَفْهَمُ خَجَلَهَا مِن عَدَمِ إِلْمَامِهَا بِالقِرَاءَةِ وَالكِتَابَةِ، وَتَفْضِيلَهَا أَنْ تُظْهِرَ اسْتِغْرَابَهَا مِنِّي عَلَى أَنْ تُفَضَحَ أَمَامَ الآخَرِينَ. لَقَدْ عَرَفْتُ الخَجَلَ كَسَبَبٍ لِلسُّلُوكِ المُرَاوِغِ، وَالمُدَافِعِ، وَالمَخْفِي، وَالمُشَوَّهِ، وَأَحْيَانًا الجَارِحِ.”
وَأَخِيرًا تَسَاءَلْتُ بِعُمْقٍ:
“لَكِنْ هَلْ كَانَ خَجَلُ هانَا مِن عَدَمِ القُدْرَةِ عَلَى القِرَاءَةِ وَالكِتَابَةِ هُوَ السَّبَبُ فِي سُلُوكِهَا فِي المُحَاكَمَةِ وَالمُعَسكَرِ؟ هَلْ كَانَ خَوْفُهَا مِن انْكِشَافِهَا كَأُمِّيَّةٍ هُوَ سَبَبُ انْكِشَافِهَا كَإِجْرَامِيَّةٍ؟ هَلْ كَانَ خَوْفُهَا مِن انْكِشَافِهَا كَأُمِّيَّةٍ هُوَ سَبَبُ ارْتِكَابِهَا الجَرِيمَةَ؟”
كَمْ مَرَّةً طَرَحْتُ عَلَى نَفْسِي هذِهِ الأَسْئِلَةَ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي، وَمَا زِلْتُ أُحَاوِرُهَا حَتَّى اليَوْمَ.
“إِذَا كَانَ دَافِعُ هانَا هُوَ الخَوْفُ مِن الانْكِشَافِ، فَلِمَاذَا اخْتَارَتْ بَدَلًا مِن الانْكِشَافِ البَسِيطِ كَأُمِّيَّةٍ الانْكِشَافَ الرَّهِيبَ كَإِجْرَامِيَّةٍ؟” هَلْ كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّ بِإِمْكَانِهَا الإِفْلَاتَ مِن أَيِّ انْكِشَافٍ؟ هَلْ كَانَتْ بِبَسَاطَةٍ غَبِيَّةً؟ وَهَلْ بَلَغَتْ مِنَ الغُرُورِ وَالشَّرِّ مَبْلَغًا يَجْعَلُهَا تُقْبِلُ عَلَى الجَرِيمَةِ فَقَطْ لِتَفَادِي الانْكِشَافِ؟
رَفَضْتُ هذِهِ الفُرْضِيَّاتِ آنَذَاكَ، وَمَا زِلْتُ أَرْفُضُهَا. قُلْتُ فِي نَفْسِي: “لا، لَمْ تَخْتَرْ هانَا الجَرِيمَةَ.”
لَقَدْ رَفَضَتِ التَّرْقِيَةَ فِي شَرِكَةِ سِيمِنْسَ، وَدَخَلَتْ فِي عَمَلِ المُشْرِفَةِ عَن غَيْرِ قَصْدٍ.
وَلَا، لَمْ تُرْسِلِ الضُّعَفَاءَ وَالرَّقِيقِينَ إِلَى أُوشْفِيتْز لِأَنَّهُمْ قَرَأُوا لَهَا، بَلِ اخْتَارَهُمْ لِلْقِرَاءَةِ عَلَيْهَا، لِتُخَفِّفَ عَنْهُمْ أَلَمَ الشَّهْرِ الأَخِيرِ قَبْلَ أَنْ يُنْقَلُوا إِلَى أُوشْفِيتْز.
وَلَا، فِي المُحَاكَمَةِ لَمْ تَكُنْ هانَا تُوَازِنُ بَيْنَ الانْكِشَافِ كَأُمِّيَّةٍ وَالانْكِشَافِ كَإِجْرَامِيَّةٍ. لَمْ تَكُنْ تَحْسُبُ حِسَابًا، وَلَا تَرَاوَغُ، بَلْ كَانَتْ تَقْبَلُ المُسَاءَلَةَ فَقَطْ، وَلَا تُرِيدُ أَنْ تُفَضَحَ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ.”
لَم تَكُن تُحَارِبُ لِمَصْلَحَتِهَا فَقَطْ، بَلْ كَانَتْ تُقَاتِلُ مِنْ أَجْلِ حَقِيقَتِهَا وَعَدَالَتِهَا.
وَبِمَا أَنَّهَا كَانَتْ مُضْطَرَّةً أَنْ تخْفِيَ شَيْئًا، وَأَنْ لا تَكُونَ صَرِيحَةً تَمَامًا، وَلَا أَنْ تُظْهِرَ حَقِيقَتَهَا كَامِلَةً، كَانَتْ حَقَائِقُهَا وَعَدَالَتُهَا بَائِسَةً، لَكِنَّهَا كَانَتْ لَهَا، وَكَانَ نِضَالُهَا مِنْ أَجْلِهَا.
لَابُدَّ أَنَّهَا كَانَتْ مُنْهَكَةً تَمَامًا.
لَم تَكُن تقَاتِلُ فَقَطْ فِي الْمُحَاكَمَةِ، بَلْ كَانَتْ تُحَارِبُ دَوْمًا، وَقَدْ حَارَبَتْ دَائِمًا، لَيْسَ لِتُثْبِتَ مَا تَسْتَطِيعُ، بَلْ لِتخْفِيَ مَا لَا تَسْتَطِيعُ.
حَيَاةٌ تَتَكَوَّنُ انْتِصَارَاتُهَا مِنْ هَزَائِمَ مَخْفِيَّةٍ، وَانْطِلَاقَتُهَا مِنْ انْسِحَابَاتٍ حَازِمَةٍ.
اسْتَغْرَبْتُ هذَا التَّنَاقُضَ بَيْنَ مَا كَانَ، لا بُدَّ أَنَّهُ كَانَ يَشْغَلُ ذِهْنَ هانَا حِينَ غَادَرَتْ مَدِينَتِي، وَبَيْنَ مَا كُنْتُ أَتَصَوَّرُهُ وَأَرْسمُهُ فِي خَيَالِي آنَذَاكَ.
كُنْتُ وَاثِقًا أَنَّهَا طُرِدَتْ لِأَنَّهَا خَانَتْ وَنَكَرَتْ، وَلَكِنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ كَانَتْ تَتَهَرَّبُ مِنْ انْكِشَافِهَا فِي التِّرَامِ فَحَسْبُ.
لَكِنْ حَقِيقَةً أَنَّنِي لَمْ أُطْردْهَا، لَنْ يُغَيِّرَ شَيْئًا. لَكِنَّنِي كُنْتُ خَائِنًا لَهَا.
وَإِذَا لَمْ أَكُنْ مُذْنِبًا بِالْخِيَانَةِ لِأَنَّهَا خِيَانَةٌ مُجْرِمَةٌ، فَكُنْتُ مُذْنِبًا لِأَنِّي أَحْبَبْتُ مُجْرِمَةً.
بِاعْتِرَافِ هانَا بِأَنَّهَا كَتَبَتِ التَّقْرِيرَ، سَهَّلَ ذَلِكَ عَلَى الْمُتَّهَمِينَ الآخَرِينَ لعْبَتَهُمْ.
“هانَا، إِنْ لَمْ تَكُنْ قَدْ تَصَرَّفَتْ بِمُفْرَدِهَا، فَقَدْ ضَايَقَتْ، وَهَدَّدَتْ، وَأَجْبَرَتِ الآخَرِينَ. لَقَدِ اسْتَوْلَتْ عَلَى الْقِيَادَةِ، قَادَتْ بِالْقَلَمِ وَالْكَلِمَةِ، وَاتَّخَذَتِ الْقَرَارَاتِ.”
أَهَالِي الْقَرْيَةِ الَّذِينَ شَهِدُوا لَمْ يَسْتَطِيعُوا تَأْكِيدَ ذَلِكَ وَلَا نَفْيهِ.
رَأَوْا الْكَنِيسَةَ الْمُشْتَعِلَةَ تَحْتَ حِرَاسَةِ عِدَّةِ نِسَاءٍ بِالزِّيِّ الرَّسْمِيِّ، فَلَمْ يَجْرؤُوا عَلَى فَتْحِ بَابِهَا بِأَنْفُسِهِمْ.
صَادَفُوا هؤُلَاءِ النِّسوَةِ صَبَاحَ الْيَوْمِ التَّالِي عِنْدَ مُغَادَرَتِهِنَّ، وَتَعَرَّفُوا عَلَيْهِنَّ بَيْنَ الْمُتَّهَمَاتِ.
لَكِنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا أَيُّ الْمُتَّهَمَاتِ كَانَتِ الْقَائِدَةَ حِينَذَاكَ، أَوْ إِنْ كَانَتْ هُنَاكَ قَائِدَةٌ أَصْلًا.
قَالَ مُحَامِيُّ إِحْدَى الْمُتَّهَمَاتِ مُشِيرًا إِلَى هانَا: “وَلَكِنْ أَلَا يُمْكِنُكُمْ اسْتِبْعَادُ أَنَّ هَذِهِ الْمُتَّهَمَةَ هِيَ الَّتِي اتَّخَذَتِ الْقَرَارَاتِ؟”
لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَنْفُوا ذَلِكَ، فَكَيْفَ لَهُمْ؟
وَبِالنَّظَرِ إِلَى بَاقِي الْمُتَّهَمَاتِ، اللَّوَاتِي بَدَوْنَ أَكْبَرَ سِنًّا، وَأَكْثَرَ تَعَبًا، وَجُبْنًا، وَمُرَارَةً، لَمْ يَرْغَبُوا فِي ذَلِكَ أَيْضًا.
بِالْمُقَارَنَةِ مَعَ الْأُخْرَيَاتِ، كَانَتْ هانَا الْقَائِدَةَ.
كَمَا أَنَّ وُجُودَ قَائِدَةٍ يُبَرِّئُ أَهْلَ الْقَرْيَةِ؛ فَالْتَّنَازُلُ عَنْ تَقْدِيمِ الْمُسَاعَدَةِ لِوَحْدَةٍ مُنَظَّمَةٍ يُحْتَمَلُ أَكْثَرَ مِنَ التَّنَازُلِ عَنْ مَجْمُوعَةٍ مِنْ نِسَاءِ حَيْرَاتٍ.
وَاصَلَتْ هَانَا القِتَالَ.
“اعْتَرَفَتْ بِمَا كَانَ صَحِيحًا، وَأَنْكَرَتْ مَا لَمْ يَكُنْ.”
“كَانَتْ تنْكُرُ بِشِدَّةٍ مُتَزَايِدَةٍ، وَلَكِنَّهَا لَمْ تَرْفَعْ صَوْتَهَا. بِيَدِ أَنَّ حِدَّةَ كَلَامِهَا أَثَارَتِ اسْتِغْرَابَ المَحْكَمَةِ، وَفِي النِّهَايَةِ اسْتَسْلَمَتْ. لَمْ تَعُدْ تَتَحَدَّثُ إِلَّا إِذَا سُئِلَتْ، فَتُجِيبُ بِإِيْجَازٍ مُخْتَصَرٍ، وَأَحْيَانًا بِتَلَعْثُمٍ خَفِيفٍ، كَأَنَّهَا تُرِيدُ أَنْ تُظْهِرَ اسْتِسْلَامَهَا فِي جُلُوسِهَا كُلَّمَا تَكَلَّمَتْ.
رَئِيسُ القُضَاةِ، الَّذِي قَالَ لَهَا مِرَارًا فِي بَدَايَةِ المَحَاكَمَةِ إِنَّ عَلَيْهَا أَلَّا تَقِفَ وَأَنَّ بِإِمْكَانِهَا الجُلُوسُ، لَاحَظَ ذَلِكَ أَيْضًا بِاسْتِغْرَابٍ.
وَفِي أَوَاخِرِ المحَاكَمَةِ، بَدَا لِي أَنَّ المَحْكَمَةَ قَدْ سِئِمَتْ، وَأَنَّهَا تُرِيدُ فَقَطْ أَنْ تُنْهِيَ القَضِيَّةَ، وَأَنَّ حُضُورَهَا الذِّهْنِيَّ لَمْ يَعُدْ كَامِلًا، بَلْ كَانَ فِي مَكَانٍ آخَرَ، فِي الحَاضِرِ بَعْدَ أَسَابِيعَ طَوِيلَةٍ مِنَ التَّغَلْغُلِ فِي مَاضِيهَا.
وَأَنَا أَيْضًا قَدْ سئِمْتُ، لَكِنَّنِي لَمْ أَسْتَطِعْ تَرْكَ الأَمْرِ يَمْضِي.
بِالنِّسْبَةِ إِلَيَّ، لَمْ تَكُنِ المحَاكَمَةُ نِهَايَةً، بَلْ بَدَايَةً.
كُنْتُ شَاهِدًا، ثُمَّ فَجْأَةً أَصْبَحْتُ مُشَارِكًا، لَاعِبًا وَمُقَرِّرًا.
لَمْ أَبْحَثْ عَنْ هَذَا الدَّوْرِ وَلَمْ أَخْتَرْهُ، لَكِنَّنِي وَجَدْتُهُ لِي، سَوَاءٌ أَرَدْتُ أَمْ لَمْ أُرِدْ، سَوَاءٌ تَحَرَّكْتُ أَوْ بَقِيتُ سَاكِنًا تَمَامًا.
كَانَ الأَمْرُ وَاحِدًا فَقَطْ أَنْ أَذْهَبَ إِلَى رَئِيسِ القُضَاةِ وَأُخْبِرَهُ أَنَّ هَانَا أُمِّيَّةٌ، وَأَنَّهَا لَيْسَتِ الفَاعِلَةَ الرَّئِيسِيَّةَ وَالمُذْنِبَةَ كَمَا صَوَّرَهَا الآخَرُونَ.
أَنَّ تَصَرُّفَهَا فِي المحَاكَمَةِ لَمْ يَكُنْ عَلاَمَةَ عِنَادٍ أَوْ غَبَاءٍ أَوْ وَقَاحَةٍ، بَلْ نَتِيجَةَ جَهْلِهَا المُسْبَقِ بِالِاتِّهَامَاتِ وَالنُّصُوصِ، وَرُبَّمَا أَيْضًا لِغِيَابِ أَيَّةِ خُطَّةٍ أَوْ مَكْرٍ.”
“إِنَّهَا كَانَتْ مُعَرَّضَةً إِلَى إِعَاقَةٍ كَبِيرَةٍ فِي دِفَاعِهَا.
إِنَّهَا مُذْنِبَةٌ، لَكِنَّهَا لَيْسَتْ مُذْنِبَةً كَمَا بَدَا لِلْوَهْلَةِ الأُولَى.
رُبَّمَا لَا أُقْنِعُ رَئِيسَ القُضَاةِ، لَكِنَّنِي كُنْتُ سَأَجْعَلُهُ يُفَكِّرُ وَيَتَحَقَّقُ.
فِي النِّهَايَةِ، سَتَتَبَيَّنُ صِحَّتِي، وَهَانَا سَتُعَاقَبُ، لَكِنْ عُقُوبَتَهَا سَتَكُونُ أَخَفَّ.
سَتَذْهَبُ لِلسِّجْنِ، لَكِنَّهَا سَتَخْرُجُ مُبَكِّرًا، تَسْتَعِيدُ حُرِّيَّتَهَا أَسْرَعَ – أَلَيْسَ هذَا مَا كَانَتْ تُحَارِبُ مِنْ أَجْلِهِ؟
نَعَمْ، كَانَتْ تُحَارِبُ، لَكِنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَاغِبَةً أَنْ تَدْفَعَ ثَمَنَ كَشْفِ أُمِّيَّتِهَا مِنْ أَجْلِ النَّجَاحِ.
وَلَمْ تَكُنْ تُرِيدُ أَنْ تَبِيعَ صُورَتَهَا الذَّاتِيَّةَ مُقَابِلَ بَعْضِ سَنَوَاتٍ فِي السِّجْنِ.
كَانَتْ قَادِرَةً عَلَى هَذَا التَّصَرُّفِ، لَكِنَّهَا لَمْ تَفْعَلْ، إِذًا لَمْ تَرْغَبْ بِهِ.
كَانَتْ صُورَتُهَا الذَّاتِيَّةُ تَسْتَحِقُّ عِنْدَهَا سَنَوَاتِ السِّجْنِ، لَكِنْ هَلْ كَانَتْ تَسْتَحِقُّ؟
مَا الَّذِي جَنَتْهُ مِنْ هَذِهِ الصُّورَةِ الكَاذِبَةِ الَّتِي قَيَّدَتْهَا، وَشَلَّتْ حَرَكَتَهَا، وَمَنَعَتْهَا مِنْ أَنْ تَتَفَتَّحَ؟
بِالطَّاقَةِ الَّتِي اسْتَثْمَرَتْهَا فِي الحِفَاظِ عَلَى هَذِهِ الكَذبَةِ، كَانَتْ لِتَتَعَلَّمَ القِرَاءَةَ وَالكِتَابَةَ مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ.
حَاوَلْتُ ذَاتَ مَرَّةٍ أَنْ أَتَحَدَّثَ مَعَ أَصْدِقَائِي عَنْ هَذِهِ المُشْكِلَةِ.
تَخَيَّلْ شَخْصًا يَرْكُضُ نَحْوَ هَلَاكِهِ عَنْ قَصْدٍ، وَأَنْتَ تَسْتَطِيعُ إِنْقَاذَهُ – هَلْ تُنْقِذُهُ؟
تَخَيَّلْ عَمَلِيَّةً جِرَاحِيَّةً وَمَرِيضًا يَتَنَاوَلُ أَدْوِيَةً تَتَعَارَضُ مَعَ التَّخْدِيرِ، لَكِنَّهُ يَخْجَلُ مِنَ الإِفْصَاحِ عَنْ ذَلِكَ لِلْمُخَدِّرِ – هَلْ تُخْبِرُ المُخَدِّرَ؟
تَخَيَّلْ مُحاكَمَةً ومُتَّهَمًا يُعاقَبُ إذا لَم يُعلِنْ أنّه أَعْسَرُ، وبالتَّالي لا يُمكِنُ أَنْ يَكُونَ الفاعِلَ لأنَّ الفِعْلَ تَمَّ باليدِ اليُمْنَى، لَكِنَّه يَخْجَلُ مِن كَوْنِهِ أَعْسَرَ – هَل تُخْبِرُ القاضِي؟
تَخَيَّلْ أنَّ المُتَّهَمَ مِثْلِيُّ الجنسِ، ولا يُمكِنُ أنْ يَكُونَ الفاعِلَ، لَكِنَّه يَخْجَلُ مِن مِيولِهِ – هَل تَقُولُ للقاضِي؟
الأمرُ ليس في مدى وُجوبِ الخَجَلِ مِن كَوْنِهِ أَعْسَرَ أو مِثْلِيًّا، بَل تَخَيَّلْ فَقَطْ أنَّ المُتَّهَمَ يَخْجَلُ.
قَرَّرْتُ أَنْ أَتَحَدَّثَ مَعَ وَالِدِي، لَيْسَ لِأَنَّنا كُنَّا قَرِيبَيْنِ كَثِيرًا.
كانَ أَبِي مُنطَوِيًا، لا يُفْصِحُ لأَطْفَالِهِ عَنْ مَكْنُونَاتِ نَفْسِهِ، ولا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفْهَمَ أَوْ يُدْرِكَ مَا نُبْدِيهِ مِن مَشَاعِرٍ نَحْوَهُ. ظَنَنْتُ طَوِيلًا، أَنَّ خَلْفَ صَمْتِهِ كُنُوزًا دَفِينَةً مِنَ العُمقِ وَالثَّرَاءِ، لَكِنِّي مَا لَبِثْتُ أَنْ تَسَاءَلْتُ: هَل كَانَ فِي دَاخِلِهِ شَيْءٌ حَقِيقِيٌّ؟
رُبَّمَا كَانَ شَابًّا غارِقًا فِي بَحْرِ المَشَاعِرِ، لَكِنَّه تَرَكَهَا تَذْبُلُ وَتَمُوتُ فِي عُزْلَتِهِ، بِلَا كَلِمَاتٍ، بِلَا بَوْحٍ. ورَغْمَ بُعْدِهِ عَنَّا، ظَلَلْتُ أَبْحَثُ عَنِ الحِوَارِ، عَنِ الفَيْلَسُوفِ الَّذِي دَرَسَ كانْطَ وَهيغِلَ، ذَوِي الأَفْكَارِ عَنِ الأَخْلَاقِ وَالإِنْسَانِ، عَسَى أَنْ نَجِدَ مِنْهُ صَدًى لِنِقَاشِي، بَعِيدًا عَنْ عُيُوبِ أَصْدِقَائِي وَأَمْثَالِهِمْ.
حين أَرَدْنَا نَحْنُ الأَطْفَال أَنْ نُحَادِثَهُ، كَانَ يُحَدِّدُ لَنَا مَوَاعِيدَ كَأَنَّنَا طُلَّابُهُ فِي الجَامِعَةِ. كانَ يَعْمَلُ مِن بَيْتِهِ، وَلا يَزُورُ الجَامِعَةَ إِلَّا لِإِلْقَاءِ المحَاضَرَاتِ وَالنَّدَوَاتِ. وَكانَ زُمَلاؤُهُ وَطُلَّابُهُ يَأْتُونَ إِلَيْهِ فِي البَيْتِ، فَتَتَرَاصَّ صُفُوفُهُمْ فِي المَمَرِّ، يَسْتَنِدُونَ إِلَى الحَائِطِ، بَعْضُهُمْ يَقْرَأُ، وَبَعْضُهُمْ يَنْظُرُ إِلَى لَوْحَاتِ المَدِينَةِ عَلَى الجُدْرَانِ، وَآخَرُونَ يُحَدِّقُونَ فِي الفَرَاغِ، لا صَوْتَ سِوَى تَحِيَّةٍ خَجُولَةٍ حِينَ نَعْبُرُ نَحْنُ الأَطْفَال. أَمَّا نَحْنُ، فَلَمْ نَنْتَظِرْ، بَلْ كُنَّا نَطْرُقُ بَابَ غُرْفَةِ أَبِي فِي الوَقْتِ المُحَدَّدِ، فَنُدْعَى لِلْدُّخُولِ.
رَأَيْتُ غُرْفَةَ عَمَلِ أَبِي بِوُضُوحٍ: الأُولَى تُطِلُّ عَلَى الشَّوَارِعِ وَالمَنَازِلِ، حَيْثُ كَانَت هَانَا تَتَلَمَّسُ الكُتُبَ بِأَصَابِعِهَا الصَّغِيرَةِ، وَالثَّانِيَةُ عَلَى سَهْلِ الرَّاينِ الوَاسِعِ. البَيْتُ الَّذِي انْتَقَلْنَا إِلَيْهِ فِي أَوَائِلِ السِّتِّينِيَّاتِ، ظَلَّ وَالِدَاَيَ يَعِيشَانِ فِيهِ بَعْدَ أَنْ كَبَرْنَا نَحْنُ الأَطْفَالَ، كَانَ عَلَى سَفْحِ التِّلِّ فَوْقَ المَدِينَةِ. فِي الغُرْفَتَيْنِ، لَم تُفْتَحِ النَّافِذَاتُ لِلْعَالَمِ الخَارِجِيِّ، بَلْ جُلبَ هذَا العَالَمُ إِلَى الدَّاخِلِ، كَلَقْطَةٍ فَنِّيَّةٍ مُعَلَّقَةٍ. كَانَت غُرْفَةُ عَمَلِ أَبِي بِمَثَابَةِ صُنْدُوقٍ مَلِيءٍ بِالكُتُبِ وَالأَوْرَاقِ وَالأَفْكَارِ، يَعْبُقُ بِدُخَانِ الغِلْيُونِ وَالسِّيْجَارِ، فِي جَوٍّ خَاصٍّ، مُخْتَلِفٍ عَنِ الخَارِجِ. كَانَت الغُرْفَةُ مَأْلُوفَةً وَغَرِيبَةً فِي آنٍ مَعًا.
سَمَحَ لِي وَالِدِي أَنْ أَعْرِضَ مُشْكِلَتِي بِشَكْلٍ مُجَرَّدٍ، مَعَ أَمْثِلَةٍ. قالَ لي: «إنَّها تَتَعَلَّقُ بِالمُحاكَمَةِ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟» لَكِنَّه هَزَّ رَأْسَهُ، كَأَنَّه يَقُولُ لي: “لا أَتَوَقَّعُ جَوَابًا مِنْكَ، وَلا أُرِيدُ أَنْ أَخْتَرِقَكَ، وَلا أُرِيدُ أَنْ أَعْرِفَ مِنْكَ مَا لَمْ تَبُوحْ بِهِ بِنَفْسِكَ.”
ثُمَّ جَلَسَ، مائِلًا رَأْسَهُ جَانِبًا، يَمْسِكُ بِمُسَانِدِ الكُرْسِيِّ بِإِحْكَامٍ، غَارِقًا فِي التَّفْكِيرِ. لَمْ يَنْظُرْ إِلَيَّ. نَظَرْتُ إِلَيْهِ، إِلَى شَعْرِهِ الرَّمَادِيِّ، وَجَنَبَيْهِ الَّذَيْنِ يُحَلِّقُهُمَا عَلَى نَحْوٍ غَيْرِ مُنْتَظَمٍ، إِلَى التَّجَاعِيدِ الْحَادَّةِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَمِنْ أَجْنِحَةِ أَنْفِهِ إِلَى زَوَايَا فَمِهِ. انْتَظَرْتُ. لَمَّا بَدَأَ يَتَكَلَّمُ، اسْتَرْسَلَ بَعِيدًا، يُعَلِّمُنِي عَنِ الْإِنْسَانِ، وَالْحُرِّيَّةِ، وَالْكَرَامَةِ، وَعَنْ كَوْنِهِ كَائِنًا يَجِبُ أَلَّا يُحَوَّلَ إِلَى مُجَرَّدِ شَيْءٍ بِلَا إِنْسَانِيَّةٍ.
قَالَ لِي: “أَلَا تَتَذَكَّرُ كَيْفَ كَانَ يغْضِبُكَ، وَأَنْتَ طِفْلٌ صَغِيرٌ، أَنْ تَعْرِفَ أُمُّكَ أَفْضَلَ مِنْكَ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ؟ إِلَى أَيِّ حَدٍّ يُمْكِنُ السَّمَاحُ بِذَلِكَ مَعَ الْأَطْفَالِ؟ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، فَلْسَفِيَّةٌ، وَلَكِنَّ الْفَلْسَفَةَ لَا تَهْتَمُّ بِالْأَطْفَالِ. تَرَكْتُهُمْ لِلْبِيدَاغُوجِيَا، حَيْثُ يُتْرَكُ الْأَطْفَالُ فِي حَالَةٍ يُرْثَى لَهَا. لَقَدْ نَسِيَتِ الْفَلْسَفَةُ الْأَطْفَالَ،” ابْتَسَمَ لِي، “نَسِيَتْهُمْ إِلَى الأَبَدِ، لَيْسَ أَحْيَانًا فَقَطْ كَمَا فَعَلْتُ أَنَا مَعَكُمْ.”
قُلْتُ لَهُ: “لَكِنْ…”
قَاطَعَنِي بِصَرَامَةٍ: “أَمَّا مَعَ الْكِبَارِ فَلَا أَرَى أَيَّ مبَرِّرٍ أَبَدًا لِأَنْ نُفَضِّلَ مَا يَعْتَقِدُهُ الآخَرُونَ خَيْرًا لَهُمْ عَلَى مَا يَرَوْنَهُ هُمْ لِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا.”
قُلْتُ: “حَتَّى لَوْ كَانُوا سُعَدَاءَ لَاحِقًا بِذَلِكَ؟”
هَزَّ رَأْسَهُ: “لَا نَتَحَدَّثُ عَنِ السَّعَادَةِ، بَلْ عَنِ الْكَرَامَةِ وَالْحُرِّيَّةِ. كُنْتَ تَعْرِفُ الْفَرْقَ وَأَنْتَ طِفْلٌ صَغِيرٌ. لَمْ يَكُنْ يُعَزِّيكَ أَنَّ أُمَّكَ كَانَتْ دَائِمًا عَلَى الْحَقِّ.”
أَعُودُ الْيَوْمَ كَثِيرًا إِلَى ذَلِكَ الْحِوَارِ مَعَ أَبِي، الَّذِي غَفَلْتُهُ، حَتَّى بَعْدَ رَحِيلِهِ، حِينَ بَدَأْتُ أَبْحَثُ فِي أَعْمَاقِ ذَاكِرَتِي عَنْ لِقَائَاتٍ وَتَجَارِبَ جَمِيلَةٍ مَعَهُ. وَعِنْدَمَا وَجَدْتُهَا، نَظَرْتُ إِلَيْهِ بِدَهْشَةٍ وَسُرُورٍ.
كُنْتُ آنَذَاكَ مُحْتَارًا بَيْنَ تَجْرِيدِهِ وَوُضُوحِهِ، لَكِنِّي فَهِمْتُ أَخِيرًا قَوْلَهُ: “لَسْتَ مُضْطَرًّا لِأَنْ أَتَحَدَّثَ مَعَ الْقَاضِي، بَلْ لَا يَجُوزُ لِي ذَلِكَ.” شَعَرْتُ بِالرَّاحَةِ، وَكَانَ أَبِي يَلْحَظُ ذَلِكَ فِي وَجْهِي.
قَالَ لِي: “هَلْ تُعْجِبُكَ الْفَلْسَفَةُ هَكَذَا؟”
فَأَجَبْتُهُ: “لَمْ أَكُنْ أَعْلَمُ إِذَا كَانَ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَرَّفَ فِي الْحَالَةِ الَّتِي وَصَفْتَهَا، وَلَمْ أَكُنْ سَعِيدًا بِفِكْرَةِ أَنْ أُجْبَرَ عَلَى ذَلِكَ. وَالْآنَ، أَلَا يُسْمَحُ لِي حَتَّى أَنْ أَتَصَرَّفَ؟ أَجِدُ هَذَا…”
تَوَقَّفْتُ، لَمْ أَعْثُرْ عَلَى كَلِمَاتٍ تُعَبِّرُ عَنْ شُعُورِي، هَلْ كَانَ ذَلِكَ مُرِيحًا؟ أَمْ مُطمئِنًّا؟ أَمْ مُمتِعًا؟ بَدَا لِي بَعِيدًا عَن مَدَى الْأَخْلَاقِ وَالْمَسْؤُولِيَّةِ الَّتِي أُؤْمِنُ بِهَا.
“أَجِدُ الْأَمْرَ جَيِّدًا”، قُلْتُ فِي دَاخِلِي، فَقَدْ بَدَا لِي أَخْلَاقِيًّا وَمَسْؤُولًا، لَكِنِّي لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَقُولَ إِنَّنِي وَجَدْتُهُ جَيِّدًا حَقًّا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مُجَرَّدِ مُرِيحٍ بَعْضَ الشَّيْءِ.
“مُرِيحٌ؟” تَسَاءَلَ وَالِدِي. أَوْمَأْتُ بِرَأْسِي وَأَلْقَيْتُ كَتِفَيَّ دُونَ رَدٍّ.
قَالَ: “لَا، مُشْكِلَتُكَ لَيْسَتْ لَهَا حَلٌّ مُرِيحٌ بِطَبِيعَةِ الْحَالِ. لَا بُدَّ مِنَ التَّصَرُّفِ، إِذَا كَانَتِ الْحَالَةُ الَّتِي تَصِفُهَا تَتَعَلَّقُ بِمَسْؤُولِيَّةٍ تَحَمَّلْتَهَا أَوْ وَلِيْتَهَا. إِذَا كُنْتَ تَعْلَمُ مَا هُوَ الْخَيْرُ لِلآخَرِ، وَهُوَ يُغْمِضُ عَيْنَيْهِ عَنْ ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ أَنْ تُحَاوِلَ فَتْحَ عَيْنَيْهِ.”
“عَلَيْكَ أَنْ تَتْرُكَ لَهُ الْكَلِمَةَ الْأَخِيرَةَ، لَكِنْ يَجِبُ أَنْ تَتَحَدَّثَ مَعَهُ، مَعَهُ فَقَطْ، لَا خَلْفَ ظَهْرِهِ مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ.”
هَلْ أَتَحَدَّثُ مَعَ هَانَا؟ مَاذَا يُمْكِنُنِي أَنْ أَقُولَ لَهَا؟
“هَلْ أُخْبِرُهَا أَنَّنِي كَشَفْتُ كذِبَتَهَا الَّتِي تَعِيشُهَا؟”
هَلْ أُخْبِرُهَا أَنَّهَا عَلَى وَشْكِ أَنْ تُضَحِّيَ بِحَيَاتِهَا كُلِّهَا مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الْكذِبَةِ الْحَمْقَاءِ؟ هَلْ أُخْبِرُهَا أَنَّ تِلْكَ الْكذِبَةَ لَا تَسْتَحِقُّ التَّضْحِيَةَ؟
هَلْ عَلَيْهَا أَنْ تُقَاتِلَ لِتَفَادِي قَضَاءِ وَقْتٍ أَطْوَلَ مِمَّا يَجِبُ فِي السِّجْنِ، لِتَبْدَأَ بَعْدَهَا حَيَاةً جَدِيدَةً؟ وَمَاذَا بَعْد؟ هَلْ كَانَتْ حَيَاتُهَا كَثِيرَةً أَمْ قَلِيلَةً؟ مَاذَا عَلَيْهَا أَنْ تَفْعَلَ بِهَا؟
هَلْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْزِعَ مِنْهَا كذِبَتَهَا عَنْ الْحَيَاةِ دُونَ أَنْ أَفْتَحَ أَمَامَهَا أُفُقًا جَدِيدًا لِلْحَيَاةِ؟
لَمْ أَجِدْ جَوَابًا طَوِيلَ الْأَمَدِ، وَلَا أَعْرِفُ كَيْفَ أُوَاجِهُهَا وَأَقُولُ لَهَا إِنَّهُ مِنَ الصَّحِيحِ، بَعْدَ مَا فَعَلْت، أَنْ تَكُونَ آفَاقُ حَيَاتِهَا قَصِيرَةً وَمُتَوَسِّطَةَ الْمَدَى هِيَ السِّجْنُ.
لَمْ أَدْرِ كَيْفَ أُوَاجِهُهَا، وَكَيْفَ أَقُولُ لَهَا شَيْئًا.
لَمْ أَكُنْ أَعْلَمُ عَلَى الإِطْلَاقِ كَيْفَ أُوَاجِهُهَا.
سَأَلْتُ والدي: “وَمَاذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ بِالإِمْكَانِ التَّحَدُّثُ مَعَهَا؟”
نَظَرَ إِلَيَّ بِرِيبَةٍ، وَكُنْتُ أَدْرِكُ أَنَّ السُّؤَالَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْضُوعِ مُبَاشَرَةً.
لَمْ يَعُدْ هُنَاكَ مَا يُقَالُ مِنْ أَخْلَاقٍ أَوْ وَعِظٍ، كَانَ عَلَيَّ فَقَطْ أَنْ أَقرَرَ.
قَالَ: “لَمْ أَسْتَطِعْ مُسَاعَدَتَكَ.”
وَقَفَ وَالِدِي، فَوَقَفْتُ أَنَا أَيْضًا.
“لَا، لَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ تَذْهَبَ، فَقَطْ يُؤْلِمُنِي ظَهْرِي.” كَانَ مُنْحَنِيًا، يَضْغَطُ بِيَدَيْهِ عَلَى خَاصِرَتَيْهِ.
“لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ إِنِّي أَشْعُرُ بِالْأَسَفِ لِأَنِّي لَمْ أَسْتَطِعْ مُسَاعَدَتَكَ. كَفَيْلَسُوفٍ، أَعْنِي كَمَا سَأَلْتَنِي. أَمَّا كَأَبٍ، فَإِنَّ تَجْرِبَةَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى مُسَاعَدَةِ أَطْفَالِي تَكَادُ تَكُونُ لَا تُحْتَمَلُ.”
انْتَظَرْتُ، لَكِنَّهُ لَمْ يُكْمِلْ كَلَامَهُ.
ظَنَنْتُ أَنَّهُ يُسَهِّلُ الْأُمُورَ عَلَى نَفْسِهِ، وَكُنْتُ أَعْرِفُ مَتَى كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَهْتَمَّ بِنَا أَكْثَرَ، وَكَيْفَ كَانَ بِإِمْكَانِهِ مُسَاعَدَتُنَا بِشَكْلٍ أَفْضَلَ.
ثُمَّ خَطَرَ فِي بَالِي أَنَّهُ رُبَّمَا هُوَ نَفْسُهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَيَحْمِلُهُ ثِقلًا كَبِيرًا.
لَكِنْ مَهْمَا يَكُنْ، لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَقُولَ لَهُ شَيْئًا.
شَعَرْتُ بِالْحَرَجِ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ أَيْضًا كَانَ مُحْرَجًا.
“نَعَمْ، إِذًا…” قُلْتُ.
“يُمْكِنُكَ أَنْ تَأْتِيَ مَتَى شِئْتَ.” نَظَرَ إِلَيَّ وَالِدِي، لَمْ أُصَدِّقْهُ، فَأَوْمَأْتُ بِرَأْسِي.
فِي شَهْرِ يُونْيُو، سَافَرَتِ الْمَحْكَمَةُ لِمُدَّةِ أُسْبُوعَيْنِ إِلَى إِسْرَائِيلَ.
كَانَتْ جَلَسَاتُ الاسْتِجْوَابِ هُنَاكَ مَسْأَلَةَ أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ فَقَطْ، لَكِنَّ الْقُضَاةَ وَالْمُدَّعُونَ دَمَجُوا بَيْنَ الْعَمَلِ الْقَضَائِيِّ وَالزِّيَارَةِ السِّيَاحِيَّةِ، بَيْنَ الْقُدْسِ وَتَلِّ أَبِيبَ، وَالنَّقبِ، وَالْبَحْرِ الْأَحْمَرِ.
كَانَ ذَلِكَ بِالطَّبْعِ مَقْبُولًا مِنْ نَاحِيَةِ الْخِدْمَةِ وَالْإِجَازَاتِ وَالتَّكْلِيفَاتِ، وَمَعَ ذَلِكَ، وَجَدْتُ الْأَمْرَ غَرِيبًا.
كُنْتُ قَدْ خَطَّطْتُ أَنْ أُكَرِّسَ هَذَيْنِ الْأُسْبُوعَيْنِ لِلدِّرَاسَةِ فَقَطْ. لَكِنَّ الْأُمُورَ لَمْ تَجْرِ كَمَا تَوَقَّعْتُ وَرَغِبْتُ.
لَمْ أَتَمَكَّنْ مِنَ التَّرْكِيزِ عَلَى الدِّرَاسَةِ، وَلَا عَلَى الْأَسَاتِذَةِ، وَلَا عَلَى الْكُتُبِ.
مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، كَانَتْ أَفْكَارِي تتَشَتَّتُ وَتَغُوصُ فِي صُوَرٍ حَيَّةٍ.
رَأَيْتُ هَانَا أَمَامَ الْكَنِيسَةِ الْمُشْتَعِلَةِ، بِوَجْه قَاسٍ، تَرْتَدِي زِيًّا أَسْوَدَ، وَتَحْمِلُ سَوْطَ رُكُوبٍ.
كَانَتْ تَرْسُمُ بِحَرَكَاتِ السَّوْطِ دَوَائِرَ فِي الثَّلْجِ، وَتَطْرُقُ عَلَى سِيقَانِ حِذَائِهَا بِصَمْتٍ.
رَأَيْتُهَا تَسْتَمِعُ وَتَتَأَثَّرُ وَهِيَ تُقْرَأُ عَلَيْهَا.
تَسْمَعُ بَاِنْتِبَاهٍ، لَا تَسْتَفْسِرُ، وَلَا تُدْلِي بِأَيِّ تَعْلِيقٍ.
وَعِنْدَ نِهَايةِ السَّاعَةِ، أَخْبَرَتِ الْقَارِئَةَ أَنَّهَا سَتُرحَّلُ غَدًا بِالْحَمْلِ إِلَى أُوشْفِيتْسَ.
كَانَتِ الْقَارِئَةُ، هِيَ كَائِنٌ نَحِيفٌ بِشَعْرٍ أَسْوَدَ قَصِيرٍ، وَعَيْنَيْنِ قَرِيبَتَيْ البَصَرِ، قَدْ بَدَأَتْ تَبْكِي.
ضَرَبَتْ هَانَا بِيَدِهَا الْجِدَارَ، وَدَخَلَتِ امْرَأَتَانِ أُخْرَيَتانِ، هُنَّ أَيْضًا سَجِينَاتٌ بِزِيِّ الْخُطُوطِ، وَأَخْرَجْنَ الْقَارِئَةَ بِعُنْفٍ.
رَأَيْتُ هَانَا تَسِيرُ عَلَى طُرُقِ الْمُعْسِرِ، تَدْخُلُ مَسَاكِنَ السِّجْنِ، وَتُشْرِفُ عَلَى أَعْمَالِ الْبِنَاءِ.
كُلَّ شَيْءٍ تَفْعَلُهُ بِنَفْسِ وَجْهِهَا الْقَاسِي، وَبِعُيُونٍ بَارِدَةٍ وَفَمٍ ضَيِّقٍ.
السُّجَنَاءُ يَنْحَنُونَ، يَتَكَيَّفُونَ مَعَ الْعَمَلِ، يَلْتَصِقُونَ بِالْجِدَارِ، يُرِيدُونَ أَنْ يَخْتَفُوا فِيهِ.
أَحْيَانًا، كَانَتْ تَصفُّ الْعَدِيدَ مِنَ السُّجَنَاءِ، أَوْ يَجْرُونَ مِنْ هُنَا وَهُنَاكَ، أَوْ يشْكِلُونَ صُفُوفًا وَيَسِيرُونَ رُكْبًا.
وَهَانَا وَاقِفَةٌ بَيْنَهُمْ تَصْرُخُ بِالْأَوَامِرِ، وَوَجْهُهَا الصَّارِخُ يَتَحَوَّلُ إِلَى قُبْحٍ مُقَزِّزٍ، وَتُسَاعِدُ بِسَوْطِ الرُّكُوبِ.
رَأَيْتُ بُرْجَ الْكَنِيسَةِ يُحَطِمُ سَقْفَهَا، وَالرَّعْدُ يَهُبُّ فَوْقَ السَّمَاءِ كَسَحَابٍ هَائِجٍ، وَصَدَى يَأْسِ النِّسَاءِ يَتَلاطَمُ فِي الْهَوَاءِ. رَأَيْتُ الْكَنِيسَةَ تَحْتَرِقُ فِي صَبَاحٍ بَاكِرٍ، وَالنَّارُ تَلْتَهِمُ جُدْرَانَهَا بِغَيْرِ رَحْمَةٍ.
بِجَانِبِ تِلْكَ الصُّوَرِ النَّارِيَّةِ، تَكَشَّفَتْ لِي صُوَرٌ أُخْرَى. رَأَيْتُهَا تَلْبَسُ الْجَوَارِبَ فِي الْمَطْبَخِ، تَمْسِكُ الْمِنْشَفَةَ الْمُحَاكَةَ بِحَنَانٍ.
رَأَيْتُهَا تَقُودُ دَرَّاجَتَهَا، وَفُسْتَانُهَا يَرْتَفِعُ بِرِفْعَةِ الرِّيحِ،
وَاقِفَةً فِي غُرْفَةِ عَمَلِ وَالِدِي،
تَرْقُصُ أَمَامَ الْمِرْآةِ كَأَنَّ الْوَقْتَ يَتَوَقَّفُ.
رَأَيْتُهَا تَنْظُرُ إِلَيَّ مِنْ عُمقِ الْمَسْبَحِ، وَتَسْتَمِعُ لِي بِصَمْتٍ، تَتَكَلَّمُ مَعِي، تَبْتَسِمُ، وَتُحِبُّنِي.
وَأَصْبَحَ الْأَمْرُ أَثْقَلَ عِنْدَمَا تَتَداخَلُ تِلْكَ الصُّوَرُ فِي ذِهْنِي. “هَانَا، الَّتِي تُحِبُّنِي بِعُيُونٍ بَارِدَةٍ وَفَمٍ ضَيِّقٍ، تَسْتَمِعُ إِلَيَّ صَامِتَةً أَثْنَاءَ الْقِرَاءَةِ، وَفِي النِّهَايَةِ تَضْرِبُ بِيدِهَا الْجِدَارَ، تَتَكَلَّمُ مَعِي، وَيَتَحَوَّلُ وَجْهُهَا إِلَى قبَحٍ لا يُرَى.”
وَأَخْطَرُ مَا كَانَ فِي أَحْلَامِي، “حَيْثُ تَكُونُ هَانَا، الصَّلْبَةُ، السَّيِّدَةُ الْقَاسِيَةُ، مُثِيرَةً لِي بِطَرِيقَةٍ جِنْسِيَّةٍ غَامِضَةٍ، وَأَصْحُو مِنْ ذَلِكَ الْحُلْمِ مُمْتَلِئًا بِالشَّوْقِ وَالْخَجَلِ وَالْغَضَبِ. وَفِي تِلْكَ اللَّحَظَاتِ، أَخَافُ مَنْ هانَا حَقًّا.
كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّ تِلْكَ الصُّوَرَ الْوَهْمِيَّةَ هِيَ كَلِيشِيهَاتٌ بَائِسَةٌ، لا تُجَسِّدُ هَانَا الْحَقِيقِيَّةَ الَّتِي عِشْتُهَا وَشَهِدْتُهَا. وَمَعَ ذَلِكَ، كَانَتْ تَحْمِلُ قُوَّةً هَائِلَةً.
هِيَ تفْسدُ الصُّوَرَ الذّكرِيَّةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهَانَا، وَتَرْبِطُهَا بِصُوَرٍ أُخرَى كَانَتْ تَسْكُنُ رَأْسِي.
وَعِنْدَمَا أَتَذَكَّرُ تِلْكَ السِّنِينَ، أُدْرِكُ قَدْرَ قِلَّةِ الصُّوَرِ وَالْمَعْلُومَاتِ الَّتِي كَانَتْ تَصِفُ الْحَيَاةَ وَالْمَذْابحَ فِي الْمَعَاسِرِ.
كُنَّا نَعْرِفُ أُوشْفِيتْس مِنْ بَابِهَا وَالنِّقْشِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهِ، وَالأَرْضِيَّاتِ الْخَشَبِيَّةِ الْمُتَعَدِّدَةِ الطَّوَابِقِ، وَأَكْوَامَ الشَّعْرِ، وَالنَّظَّارَاتِ، وَالْحَقَائِبِ. وَمِنْ بِيرْكِنَاو، بَنَايَةُ الدُّخُولِ مَعَ الْبُرْجِ، الْجَنَاحَيْنِ الْجَانِبِيَّيْنِ، وَمَمَرِّ السُّيُورِ الْحَدِيدِيَّةِ لِلْقِطَارَاتِ. وَمِنْ بَرْغِنْ-بِيلْسِن، صُوَرُ جُثَثِ الضَّحَايَا الَّتِي وَجَدَهَا الْحَلَالُونَ وَصَوَّرُوهَا عِنْدَ التَّحْرِيرِ.
كُنَّا نَعْرِفُ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ مِنَ السَّجِينَاتِ، وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنَ الرِّوَايَاتِ ظَهَرَتْ بَعْدَ الْحَرْبِ بِفَتْرَةٍ قَصِيرَةٍ، ثُمَّ عَادَتْ لِلظُّهُورِ فِي ثَمَانِينِيَّاتِ الْقَرْنِ الْمَاضِي، وَلَمْ تَكُنْ مَوْضُوعًا لِكُتُبِ النَّشْرِ بَيْنَهَا.
الْيَوْمَ، تَوَفَّرَتْ الْكَثِيرُ مِنَ الْكُتُبِ وَالأَفْلَامِ، حَتَّى أَصْبَحَ عَالَمُ الْمَعَاسِرِ جُزْءًا مِنَ الْوَاقِعِ الْمُشْتَرَكِ، الَّذِي تكمِلُهُ الْمُخَيَّلَةُ الْجَمَاعِيَّةُ.
وَصَارَتِ الْمُخَيَّلَةُ تَتَجَوَّلُ فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَمُنْذُ مُسَلْسَلِ التِّلْفَازِ “هُولُوكَوْسْت” وَالأَفْلَامِ كَـ “اخْتِيَارُ صُوفِي” وَخَاصَّةً “قَائِمَةُ شِينْدْلِر”، لَمْ تَعُدْ تُكْفِي بِمُجَرَّدِ الرُّؤْيَةِ، بَلْ تضِيفُ وَتُجَمِّلُ.
كَانَتِ الْمُخَيَّلَةُ آنَذَاكَ كَسْلَى وَكَتَمَتْ حَرَكَتَهَا، “مُصَدِّقَةً أَنَّ حَرَكَةَ الْمُخَيّلَةِ لَا تَلِيقُ بِالصَّدْمَةِ الَّتِي يُلقِيهَا عَالَمُ الْمَعَاسِرِ عَلَى الْعَالَمِ.” وَالصُّوَرُ الْمُقَدَّمَةُ مِنَ الصُّورِ الْحَلَالِيَّةِ وَرُوَايَاتِ السَّجِينَاتِ كَانَتْ تُرَاجَعُ مَرَّةً وَأُخْرَى حَتَّى تَجَمَّدَتْ وَصَارَتْ كَلِيشِيهَاتٍ.
قَرَّرْتُ الرَّحِيلَ. “لَوْ كَانَ بِإِمْكَانِي أَنْ أُسَافِرَ إِلَى أُوشْفِيتْسَ مِنْ لَيْلَةٍ إِلَى أُخْرَى، لَفَعَلْتُ ذَلِكَ دُونَ تَرَدُّدٍ.” وَلَكِنَّ الحُصُولَ عَلَى تَأْشِيرَةٍ اسْتَغْرَقَ أَسَابِيعَ طَوِيلَةً. لِذَلِكَ تَوَجَّهْتُ إِلَى “سْتِرَاثُوف”
تَكَلَّمَ السّائِقُ، سائِلًا إِيّايَ عَنْ سَبَبِ زِيارَتِي “لِسْتِراثُوف”. قَصَصْتُ لَهُ حِكايةَ بَحْثِي، وَنَقْصِ الصُّوَرِ الحَقِيقِيَّةِ الَّتِي أَمْلِكُها، فَأَجابَنِي بِنَبْرَةٍ فِيهَا بَعْضُ السُّخْرِيَةِ الخَفِيفَةِ: “آه، تُرِيدُ أَنْ تَفْهَمَ لِماذا يَسْتَطِيعُ النّاسُ أَنْ يَرْتَكِبُوا مِثْلَ هذِهِ الفَظائِعِ.” وَرُبَّما كانَ ذلِكَ مُجَرَّدَ لَوْنٍ فِي لَهْجَتِهِ وَصَوْتِهِ، لا أَكْثَرَ.
قَبْلَ أَنْ أَفْتَحَ فَمِي لِلرَّدِّ، واصَلَ كَلامَهُ بِثِقَةٍ شِبْهِ اسْتِنْكارِيَّةٍ: “ماذا تُرِيدُ أَنْ تَفْهَمَ بِالضَّبْطِ؟ هَلْ تَعْتَقِدُ أَنَّ النّاسَ يَقْتُلُونَ بِدافِعِ الشَّغَفِ؟ بِالحُبِّ أَوِ الكَراهِيَةِ؟ مِنْ أَجْلِ الشَّرَفِ أَوِ الِانْتِقامِ، أَلَيْسَ كَذلِكَ؟” أَوْمَأْتُ بِرَأْسِي بِإِجابَةٍ مُوافِقَةٍ.
ثُمَّ أَضافَ قائلًا: “وَتَعْلَمُ أَيْضًا أَنَّ القَتْلَ يَكُونُ مِنْ أَجْلِ الثَّراءِ أَوِ السُّلْطَةِ، وَأَنَّ القَتْلَ يَحْدُثُ فِي الحُرُوبِ أَوْ أَثْناءَ الثَّوْراتِ، أَلَيْسَ كَذلِكَ؟” أَوْمَأْتُ مَرَّةً أُخْرَى، وَأَنَيْتُ داخِلِي بِمَزِيجٍ مِنَ الأَلَمِ وَالحَقائِقِ.
ثُمَّ قَالَ بِنَبْرَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، فِيهَا شَيْءٌ مِنَ التَّحَدِّي: “لَكِنْ…”
قُلْتُ لَهُ: “لَكِنْ مَاذَا؟”
رَدَّ عَلَيَّ بِهُدُوءٍ كَأَنَّهُ يَخْتَبِرُنِي: “أَمَّا الَّذِينَ قُتِلُوا فِي المعسكَرَاتِ، فَلَمْ يَفْعَلُوا شَيْئًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ، أَلَيْسَ كَذلِكَ؟ هَلْ تُرِيدُ أَنْ تَقُولَ ذلِكَ؟ هَلْ تُرِيدُ أَنْ تَقُولَ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُناكَ سَبَبٌ لِلْكَرَاهِيَةِ وَلا لِلْحَرْبِ؟”
لَمْ أَشَأْ أَنْ أُومِئَ ثانِيَةً، فَكانَ ما يَقُولُ صَحِيحًا، وَلَكِنْ لَيْسَ بِالطَّرِيقَةِ الَّتِي قالَها بِها. فَكَّرْتُ، ثُمَّ قُلْتُ: “أَنْتَ مُحِقٌّ، لَمْ تَكُنْ هُناكَ حَرْبٌ وَلا سَبَبٌ لِلْكَرَاهِيَةِ. وَلَكِنْ حَتَّى الجَلَّادُ لا يَكْرَهُ مَنْ يُعْدِمُهُ، وَمَعَ ذلِكَ يُعْدِمُهُ. هَلْ تَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذلِكَ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِذلِكَ؟”
ضَحِكَ بِازْدِرَاءٍ، وَقالَ: “وَتَظُنُّ الآنَ أَنَّنِي أَتَحَدَّثُ عَنِ الأَوَامِرِ وَالطّاعَةِ، وَأَنَّ جُنُودَ المعسكَرَاتِ تَلَقَّوْا أَوَامِرَ وَعَلَيْهِمْ تَنْفِيذُها؟ لا، لَسْتُ أَتَكَلَّمُ عَنِ الأَوَامِرِ وَالطّاعَةِ. فَالجَلَّادُ لا يُطِيعُ الأَوَامِرَ. هُوَ يَقُومُ بِعَمَلِهِ، لا يَكْرَهُ مَنْ يُعْدِمُهُ، وَلا يَنْتَقِمُ مِنْهُمْ، وَلا يَقْتُلُهُمْ لِأَنَّهُمْ يَعْتَرِضُونَ طَرِيقَهُ أَوْ يُهَدِّدُونَهُ أَوْ يُهَاجِمُونَهُ. هُم عِنْدَهُ لا يُهِمُّونَ شَيْئًا عَلَى الإِطْلاقِ. هُم لَهُ سَواءٌ، إِلَى دَرَجَةٍ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ قَتْلُهُمْ أَوْ تَرْكُهُمْ عَلَى قَيْدِ الحَياةِ بِنَفْسِ السُّهُولَةِ.”
نَظَرَ إِلَيَّ، عَيْنَاهُ تَلْمَعَانِ، وَقالَ: “لا تَقُولُ ‘لَكِنْ’؟ هَيَّا، قُلْ إِنَّ الإِنْسانَ لا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِهذِهِ اللَّامُبالاةِ تُجاهَ أَخِيهِ الإِنْسانِ. أَلَمْ تَتَعَلَّمْ شَيْئًا؟ التَّضَامُنُ مَعَ كُلِّ مَنْ يَحْمِلُ وَجْهَ إِنْسانٍ؟ كَرامَةُ الإِنْسانِ؟ الِاحْتِرامُ لِلْحَياةِ؟”
كُنْتُ غاضِبًا وَعاجِزًا، أَبْحَثُ عَنْ كَلِمَةٍ أَوْ جُمْلَةٍ تَمْحُو ما قالَهُ وَتُخْرِسُ لِسانَهُ، وَلَكِنْ لَمْ أَجِدْ. ثُمَّ اسْتَمَرَّ، كَما لَوْ كانَ يَحْكِي قِصَّةً لَهُ صِلَةٌ بِها: “مَرَّةً، رَأَيْتُ صُورَةً لِإِعْدامِ اليَهُودِ فِي رُوسْيا. كانُوا يَنْتَظِرُونَ عُراةً فِي صَفٍّ طَوِيلٍ، بَعْضُهُمْ يَقِفُ عَلَى حافَّةِ حُفْرَةٍ، وَخَلْفَهُمْ جُنُودٌ يَحْمِلُونَ بَنادِقَ وَيُطْلِقُونَ الرَّصاصَ عَلَى أَعْناقِهِمْ. كانَ ذلِكَ فِي مَحْجَرِ حِجارَةٍ، وَقَفَ اليَهُودِ وَالجُنُودِ، عَلَى حافَّةِ جِدارٍ، جَلَسَ ضابِطٌ يُرْسِلُ ساقَيْهِ لِتَتَدَلَّيا، وَيُدَخِّنُ سِيجارَةً.”
كانَ يَبْدُو قَلِيلًا مُنْزَعِجًا، رُبَّما لِأَنَّ الأُمُورَ لَمْ تَسِرْ بِسُرْعَةٍ كافِيَةٍ. وَلَكِنَّهُ كانَ يَحْمِلُ أَيْضًا شَيْئًا مِنَ الرِّضا، وَرُبَّما المُتْعَةِ، لِأَنَّهُ عَلَى الأَقَلِّ كانَ عَمَلُ اليَوْمِ يُنْجَزُ وَقَرِيبًا سَتَأْتِي ساعَةُ الِانْصِرافِ. قالَ بِنَبْرَةٍ هادِئَةٍ وَبارِدَةٍ: “هُوَ لا يَكْرَهُ اليَهُودَ. هُوَ لَيْسَ…”
قاطَعْتُهُ بِانْدِفاعٍ، وَقُلْتُ: “هَلْ كُنْتَ أَنْتَ؟ هَلْ جَلَسْتَ عَلَى تِلْكَ الحافَّةِ وَ…”
تَوَقَّفَ فَجْأَةً، شاحِبَ الوَجْهِ، وَتَلَأْلَأَتِ العَلامَةُ عَلَى صَدْغِهِ، ثُمَّ قالَ بِصَوْتٍ صارِمٍ: “اخْرُجْ!”
نَزَلْتُ مِنَ السَّيّارَةِ، وَاسْتَدارَ فَجْأَةً بِطَرِيقَةٍ أَجْبَرَتْنِي عَلَى التَّحَرُّكِ جانِبًا. سَمِعْتُ صَوْتَ سَيّارَتِهِ يَتَلاشَى فِي المُنْحَنَياتِ التّالِيَةِ، ثُمَّ عَمَّ الصَّمْتُ.
سِرْتُ صاعِدًا عَلَى الطَّرِيقِ، لَمْ تَتَجاوَزْنِي أَيَّةُ مَرْكَبَةٍ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ فِي مُواجَهَتِي. سَمِعْتُ صَوْتَ الطُّيُورِ، وَهُبُوبَ الرِّيحِ بَيْنَ الأَشْجارِ، وَأَحْيانًا خَرِيرَ جَدْوَلِ ماءٍ. تَنَفَّسْتُ بِارْتِياحٍ عَمِيقٍ، وَفِي رُبْعِ ساعَةٍ وَصَلْتُ إِلَى معسكَرِ الِاعْتِقالِ.
“قَد زُرْتُ ذلكَ الْمَكَانَ مُجَدَّدًا، فِي يَوْمٍ شِتَائِيٍّ صافٍ بَارِدٍ، تَحْتَ سَمَاءِ نَقِيَّةٍ تلْمعُ فِيهَا نُجُومُ الْمَاضِي. وَرَاءَ «شِيرمِيك» تَلَونَتِ الْغَابَةُ بِثَوْبٍ نَاصِعِ الثُّلُوجِ، فَالأَشْجَارُ تَلَفَّفَتْ بِرِقَّةٍ بِبُودْرَةٍ بَيْضَاءِ، وَالأَرْضُ ارْتَدَتْ غِطَاءً بَدَتْ كَأَنَّها حُلْمٌ أَبَدِيٌّ مِنْ نقْرَةِ النُّورِ.
وَأَرْضُ المُعَسْكَرِ كَانَتْ مِسْطَحةً مُسْتَطِيلةً عَلَى مَصْطَبَةٍ جَبَلِيَّةٍ مُنْحَدِرَةٍ، تُطِلُّ عَلَى أُفُقِ «الفوج» الْوَاسِعِ، وَالضَّوْءُ يُغْمِرُهَا فَتَبْدُو كَأَنَّها لَبِيدَةٌ مِنَ الْبَيْضِ تَتَلَأْلَأُ.
خَشَبُ الأَبْرَاجِ الرَّقَابِيَّةِ، بِطَوَابِقِهَا الْمُتَتَالِيَةِ، وَالْبَرَّاكَاتِ الْوَاطِئَةِ الْوَاحِدَةِ الطَّبَقةِ، كَانَ لَوْنُهَا أَزْرَقَ يَمِيلُ إِلَى الرَّمَادِيِّ، فَكَانَتْ نَغْمَةً دَافِئَةً تَخْتَبِئُ فِي صَمْتِ الْثَّلْجِ الْبَارِدِ.
وَكَانَ هُنَاكَ بَابٌ سِلْكِيٌّ، تُغَلِّفُهُ شَبَكَاتُ الأَسْلاكَ الشَّائِكَةُ، عَلَيْهَا لَافِتَةٌ كُتِبَ عَلَيْهَا: «مُعَسْكَرُ التَّرْكِيزِ شْتْرُوتْهُوف-نَاتْسْفَايْلَر». يَطُوقُهُ سُورٌ مُزْدَوَجٌ مِنَ السِّلْكِ الشَّائِكِ، وَبَيْنَ بَرَاكَاتِهِ تَتَخَلَّى الأَرْضُ الْمُفْصِلَةُ، تَحْتَ وَشَاحِ الثَّلْجِ الْمُتَلَأْلِئِ، عَنْ كُلِّ مَعَالِمِهَا، كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ.
كَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَنَاطِقُ منْحَدَرًا لأَطْفَالٍ يَتَزَلَّجُونَ، يُقِيمُونَ فِي بَرَاكَاتٍ دَافِئَةٍ تُشَبِهُ دُودَةَ نَوافِذِهَا الصَّغِيرَةُ، وَيَسْتَجِيبُونَ لِدَعْوَةِ تَنَاوُلِ كَعْكٍ وَشُوكُولَاتَةٍ سَاخِنَةٍ.
وَلَكِنَّ الْمُعَسْكَرَ كانَ مغْلقًا. خُضْتُ الثَّلْجَ حَوْلَهُ، فَبَلَّلْتُ قَدَمَيَّ، وَرَحْتُ أُطَالِعُ كُلَّ زَاوِيَةٍ مِنَ الْمَكَانِ، أَسْتَدْعِي فِي ذِهْنِي زِيَارَتِي الْأُولَى، وَذَاكَ الْهُبُوطَ بَيْنَ أُسُسِ البَرَّاكَاتِ الْمُنْهَارَةِ.
تَذَكَّرْتُ أَفْرَانَ الْحَرْقِ الَّتِي قَدْ عُرِضَتْ فِي إِحْدَى الْبَرَاكَاتِ، وَبَرَاكَةً أُخْرَى كَانَتْ مَبْنًى لِلزَّنَازِينِ. فِي خَيَالِي، حَاوَلْتُ بِيَأْسٍ أَنْ أَرْسُمَ صُورَةً لِمُعَسْكَرٍ مُكْتَظٍّ بِالسُّجَنَاءِ وَالْحُرَّاسِ، وَآثَارِ الْعَذَابِ الْمُتَرَسِّخَةِ.
كُنْتُ أُحَدِّقُ فِي إِحْدَى الْبَرَّاكَاتِ، أُغْمِضُ عَيْنَيَّ، وَأُرَتِّبُ بَرَّاكَةً تِلْوَ أُخْرَى، وَأَقِيسُ طُولَ الْمَبْنَى وَأُحَاوِلُ حِسَابَ عَدَدِ السُّجَنَاءِ فِيهِ، وَأَتَصَوَّرُ الضِّيقَ الْمُخِيفَ الَّذِي كَانُوا يَتَحَمَّلُونَهُ.
كُنْتُ أَرَى الدَّرَجَ بَيْنَ الْبَرَاكَاتِ، الَّذِي كَانَ يُسْتَعْمَلُ كَمِسَاحَةٍ لِلتَّجْمِيعِ، وَمِنَ الأَسْفَلِ إِلَى الأَعْلَى، أَمْلَأُهُ بِصُفُوفٍ مِنَ الْظُّهُورِ الْمُتَرَاصَّةِ، وَرُؤُوسٍ مُنْحَنِيَةٍ.
وَلَكِنَّ كُلَّ ذَلِكَ كَانَ عَبَثًا. أَحْسَسْتُ بِفَشَلٍ مُخْزٍ وَمُذِلٍّ، وَفِي طَرِيقِ عَوْدَتِي، عَلَى سُفُوحِ الْجَبَلِ، لَفَتَ نَظَرِي بَيْتٌ صَغِيرٌ مُقَابِلٌ لِمَطْعَمٍ، كُتِبَ عَلَيْهِ: “غُرْفَةُ الْغَازِ”
كَانَ لَوْنُهُ أَبْيَضَ، وَأَبْوَابُهُ وَنَوَافِذُهُ مُؤَطَّرَةٌ بِالْحَجَرِ الرَّمْلِيِّ. كَانَ يُشْبِهُ حَظِيرَةً أَوْ مَخْزَنًا، أَوْ مَسْكَنًا لِلْخَدَمِ.
وَلَمْ أَدْخُلْهُ يَوْمًا، وَلَمْ أَنْزِلْ مِنَ السَّيَّارَةِ. جَلَسْتُ فِيهَا هُنَيْهَةً، وَالمُحَرِّكُ يَهِسُّ تَحْتِي، وَأَنَا أُطَالِعُ بِصَمْتٍ ثَقِيلٍ مَا حَوْلِي.
ثُمَّ أَدَرْتُ الْمِقْوَدَ وَمَضَيْتُ
فِي الْبِدَايَةِ، كُنْتُ أَتَوَجَّسُ مِنْ عَبْرِ قُرًى “الأَلْزَاس” فِي طَرِيقِ الْعَوْدَةِ، وَأَبْحَثُ عَنْ مَطْعَمٍ لِأَتَنَاوَلَ غَدَاءً مُتَأَخِّرًا. وَلَكِنَّ هَذِهِ الْخَشْيَةَ لَمْ تَكُنْ إِلَّا ظِلَّ تَصَوُّرَاتٍ ذِهْنِيَّةٍ، لا وَقْعَ لَهَا فِي صَدْرِي، بَلْ كَانَتْ مِنْ ثَمَرِ أَفْكَارٍ عَقْلِيَّةٍ عَمَّا “يَجِبُ” أَنْ يَشْعُرَ بِهِ الإِنْسَانُ بَعْدَ زِيَارَةِ مُعَسْكَرِ التَّرْكِيزِ.
أَدْرَكْتُ ذَلِكَ، فَهَزَزْتُ كَتِفَيَّ بِهُدُوءٍ، وَوَجَدْتُ فِي إِحْدَى قُرًى سَفْحِ “الفُوج” مَطْعَمًا يُدْعَى “أُو پْتِيتْ غَاغْسُون” “إِلَى ٱلصَّبِيِّ الصَّغِيرِ”. مِنْ مَقْعَدِي تَفَتَّحَتِ السُّهُولُ وَاسِعَةً أَمَامَ نَظَرَيَّ. “صَبِيِّيّ” — كَانَتْ هَانَّا تُنَادِينِي بِهَذَا اللَّقَبِ.
فِي زِيَارَتِي الأُولَى لِلْمُعَسْكَرِ، تَجَوَّلْتُ بَيْنَ أَرْجَائِهِ حَتَّى أُغْلِقَتِ الْبَوَّابَاتُ وَرَائِي. بَعْدَ ذَلِكَ، جَلَسْتُ تَحْتَ النُّصْبِ الْمَرْفُوعِ عَلَى الْمَكَانِ، أُطِلُّ عَلَى الأَرْضِ تَحْتِي. فِي دَاخِلِي فَرَاغٌ شَاسِعٌ، كَأَنِّي أَتَلَفَّتُ فِي مَجَاهِيلِ نَفْسِي، فَأَجِدُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ هُنَاكَ.
حِينَ حَلَّ اللَّيْلُ عَلَى الْمَكَانِ. انْتَظَرْتُ سَاعَةً حَتَّى عَبَرَتْ شَاحِنَةٌ صَغِيرَةٌ مَفْتُوحَةٌ، رَكِبْتُ فِي خَلْفِيَّتِهَا، وَانْطَلَقْنَا نَحْوَ أَقْرَبِ قَرْيَةٍ. تَرَكْتُ خُطَايَ عَلَى حَدِّ محَاوَلَةِ الْعَوْدَةِ فِي نَفْسِ اللَّيْلَةِ.
وَفِي فُنْدُقٍ رَخِيصٍ، وَجَدْتُ غُرْفَةً بَسِيطَةً، وَفِي صَالَةِ الطَّعَامِ، تَنَاوَلْتُ شَرِيحَةً نَحِيلَةً مِنَ اللَّحْمِ، مَعَ بَطَاطَا مَقْلِيَّةٍ وَبَازِلَّاءٍ.
عَلَى مَائِدَةٍ جَانِبِيَّةٍ، كَانَ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ يَلْعَبُونَ الْوَرَقَ، وَيَفْتَرِحُونَ صَوْتًا صَاخِبًا. فَتَحَ أَحَدُهُمُ الْبَابَ، وَدَخَلَ رَجُلٌ صَغِيرُ الْجِسْمِ، عَجُوزٌ بَدُونِ تَحِيَّةٍ. كَانَ يَرْتَدِي سُرْوَالًا قَصِيرًا، وَسَاقَهُ خَشَبِيَّةٌ. تَوَجَّهَ إِلَى النَّادِلِ، وَقَالَ: “بِيرَا”.
أَدَارَ ظَهْرَهُ لِلطَّاوِلَةِ، وَبَانَ رَأْسُهُ الأَصْلَعُ مِنْ فَوْقِ قَفَاهُ، وَكَانَ فَاحِشَ الْكِبَرِ. وَضَعَ الْلَّاعِبُونَ الْوَرَقَ، وَبَدَأُوا يُفَتِّشُونَ فِي المَنَافِضِ عَنْ أَعْقَابِ السَّجَائِرِ، وَرَمَوْهَا نَحْوَهُ وَأصَابُوهُ.
فَرَكَ الرَّجُلُ يَدَيْهِ خَلْفَ رَأْسِهِ كَمَنْ يُبْعِدُ ذُبَابًا، وَوَضَعَ النَّادِلُ أَمَامَهُ الْبِيرَا. وَلَمْ يُنْطِقْ أَحَدٌ بِكَلِمَةٍ.
لَمْ أَسْتَطِعْ الْاحْتِمَالَ. قَامَتْ يَدَايَ مِنْ مَقْعَدِي، وَتَقَدَّمْتُ نَحْوَ الطَّاوِلَةِ الْمُجَاوِرَةِ، وَصَرَخْتُ: “تَوَقَّفُوا!”. كُنْتُ أَرْتَجِفُ غَضَبًا، وَفِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، قَفَزَ الرَّجُلُ إِلَيْنَا عَلَى عُرْجَتِهِ، وَأَخَذَ يَلْعَبُ بِسَاقِهِ. ثُمَّ أَخْرَجَ السَّاقَ الْخَشَبِيَّةَ، وَهَوَى بِهَا ضَرْبًا عَلَى الطَّاوِلَةِ، فَاهْتَزَّتْ الْكُؤُوسُ وَالْمَنَافِضُ، وَجَلَسَ ضَاحِكًا، فَمُهُ خَالٍ مِنَ الأَسْنَانِ، ضَحِكَةً تَصْفِيرِيَّةً. ضَحِكَ الْبَاقُونَ مَعَهُ، ضَحِكَةَ “بِيرَا” الصَّاخِبَةَ.
وَأَشَارُوا إِلَيَّ: “تَوَقَّفْ، تَوَقَّفْ”.
فِي اللَّيْلِ، كَانَتِ الرِّيحُ تَجُولُ حَوْلَ الْبَيْتِ كَمَنْ يَسْتَدْعِي الأَشْبَاحَ.
لَمْ أَشْعُرْ بِالْبَرْدِ، وَصَوْتُ الرِّيحِ الْعَاوِيَةِ، وَصَرِيرُ الشَّجَرَةِ أَمَامَ النَّافِذَةِ، وَضَرَبَاتُ الْمِصْرَاعِ الْمُتَقَطِّعَةِ، لَمْ تَكُنْ تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ النَّوْمِ بِشِدَّةٍ
لَمْ يَكُنْ هُوَ الخَوْفُ، وَلَكِنَّ قَلَقًا عَصِيًّا عَلَى التَّحَمُّلِ كَانَ يَنْشبُ أَظْفَارَهُ فِي أَعْمَاقِ فُؤَادِي، حَتَّى اسْتَفَحَلَ فِي جَسَدِي بِكُلِّهِ، فَصَارَ الرُّعْدُ يَسْرِي فِي عُرُوقِي، وَأَرْتَجِفُ مِن دُونِ سبَبٍ.
لَمْ يَكُنْ خَوْفِي مِنْ صُورَةَ تَوَقُّعٍ لِحَدَثٍ مُرْهِبٍ قَادِمٍ، بَلْ كَانَ مِنْ هَيْئَةٍ جَسَدِيَّة نَقِيَّة. كُنْتُ مُسْتَلْقِيًا، أُصْغِي لِلرِّيحِ تَمُرُّ بِلُطْفٍ، أَشْعُرُ بِرَاحَةٍ هَادِئَةٍ تَخْلُو كُلَّمَا خَفَّ صَوْتُهَا، وَأَجْزَعُ مخْتَنِقًا كُلَّمَا ازْدَادَتْ عَوَاصِفُهَا، وَاسْتَشْرَت كُلّ مَوْجَةٍ.
لَمْ أَكُنْ أَدْرِي كَيْفَ أَسْتَيْقِظُ فِي صَبَاحِ غَدٍ مَشْرِقٍ، كَيْفَ أُوَاصِلُ السَّيْرَ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْدَةِ، كَيْفَ أُتِمُّ دِرَاسَتِي، وَكَيْفَ أَصِيرُ فِي يَوْمٍ مَا رَجُلًا مِهْنِيًّا، وَزَوْجًا، وَأَبًا لِأَوْلَادٍ.
كُنْتُ أَرْغَبُ فِي أَنْ “أَفْهَمَ جَرِيمَةَ هَانَّا، وَأُدِينَهَا فِي آنٍ وَاحِدٍ. وَلَكِنَّ الجَرِيمَةَ كَانَتْ مُرَوِّعَةً إِلَى حَدٍّ يَجْعَلُ الفَهْمَ يُخَفِّفُ، وَالتَّخْفِيفُ هُنَا خِيَانَةٌ لِلْعَدَالَةِ. كُلَّمَا حَاوَلْتُ أَنْ أَغُوصَ فِي فَهْمِهَا، أَحْسَسْتُ أَنَّ ذَلِكَ يُخَفِّفُ وَقْعَ الإِدَانَةِ، وَكُلَّمَا قَرَّبْتُهَا مِنْ مِقْدَارِ الْمَسْؤُولِيَّةِ، لَمْ يَبْقَ مَكَانٌ لِلْفَهْمِ.
وَمَعَ ذَلِكَ، كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ “أَفْهَمَ هَانَّا”.
أَنْ أَتَغَافَلَ عَنْ فَهْمِهَا، بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ، كَانَ يُعْتَبَرُ خِيَانَةً لَهَا.
لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُوَافِقَ ذَلِكَ التَّنَاقُضَ، كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ “أُوَاجِهَ كِلَا الأَمْرَيْنِ: الفَهْمَ وَالإِدَانَةَ”، وَلَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يلْغِي الآخَرَ.
فِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي، أَشْرَقَ صَبَاحٌ كأنه صباحٌ صَيْفِيٌّ جَمِيلٌ، وَسَارَتِ الرِّحْلَةُ بِخِفَّةٍ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْدَةِ. عُدْتُ فِي سَاعَاتٍ معَيَّنَةٍ، وَأَنَا أَمْشِي فِي أَزِقَّةِ الْمَدِينَةِ، كَأَنِّي غَائِبٌ عَنْهَا طِوَالَ عُمُرِي. بَدَتْ لِي الشَّوَارِعُ، وَالْمَبَانِي، وَالنَّاسُ غُرَبَاءَ لا أُلفَةَ لِي بِهِم.
وَلَمْ يَقْتَرِبْ عَالَمُ “مُعَسْكَرَاتِ التَّرْكِيزِ” مِنْ قَلْبِي، بَلْ ظَلَّ مَجْمُوعُ صُوَرِ “أُوشْفِيتْسَ”، وَ”بِيرْكِنَاوْ”، وَ”بِيرْغِن-بِيلْسِنْ”، وَجَمْعُهَا مِنْ “شْتْرُوتْهُوف” يَثْبُتُ عَلَيَّ، وَيَتَجَمَّدُ كَجَلْيدٍ بَارِدٍ عَلَى نَفْسِي.
وَمَعَ كُلِّ ذَلِكَ، ذَهَبْتُ فِي النِّهَايَةِ إِلَى “القَاضِي الرَّئِيسِ”، لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَذْهَبَ إِلَى “هَانا”. وَلَكِنَّنِي، فِي نَفْسِ الْوَقْتِ، لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَبْقَى صَامِتًا، بِدُونِ أَنْ أَفْعَلَ شَيْئًا.
لِمَاذَا؟ لِأَنَّهَا “خَدَعَتْنِي، وَتَرَكَتْنِي، وَلَمْ تَكُنْ مَنْ تَصَوَّرْتُهَا، أَوْ مَنْ بَنَيْتُهَا فِي خَيَالِي.
وَأَنَا، مَنْ كُنْتُ فِي عَيْنَيْهَا؟ هَلْ كُنْتُ “الصَّبِيُّ القَارِئُ” الَّذِي اسْتَغَلَّتْهُ؟
أَمْ كُنْتُ “الصَّغِيرُ الَّذِي يَقْضِي لَيْلَهَا وَتَتَسَلَّى بِهِ؟
هَلْ كَانَ بِيَدِهَا، وَلَوْ لَمْ تَسْتَطِعْ مُفَارَقَتِي، أَنْ تُرْسِلَنِي إِلَى “غُرْفَةِ الْغَازِ”؟
وَلِمَاذَا لَمْ أَسْتَطِعِ الاِحْتِمَالَ دُونَ أَنْ أَفْعَلَ شَيْئًا؟
كُنْتُ أُرَدِّدُ لِنَفْسِي: “يَجِبُ أَنْ أَمْنَعَ حُكْمًا جَائِرًا.
كَانَ عَلَيَّ، هكَذَا تَكَلَّمْتُ إِلَى نَفْسِي، أَنْ أُسَاهِمَ فِي إِحْقَاقِ “العَدَالَةِ”، سَوَاءٌ أَرَادَتْ هَانَّا ذٰلِكَ أَمْ لَمْ تُرِدْ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي صَالِحِهَا أَمْ ضِدَّهَا.
عَدَالَةٌ مِنْ أَجْلِ هَانَّا وَضِدَّهَا، هكذا تَمَثَّلَ لِي ذٰلِكَ فِي سِرِّي.
وَلٰكِنَّ الْحَقِيقَةَ، فِي جَوْهَرِهَا، لَمْ تَكُنْ هِيَ “العَدَالَةَ” بِنَفْسِهَا. لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَتْرُكَهَا كَمَا هِيَ، وَلَا كَمَا تَمْنَتْ أَنْ تَكُونَ.
كَانَ لِي أَنْ أَلْتَفَّ حَوْلَهَا، أَنْ أُحَاوِلَ أَنْ أُؤَثِّرَ عَلَيْهَا، إِمَّا بِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ أَوْ بِلُطْفٍ غَيْرِ مُبَاشِرٍ.
كَانَ رَئِيسُ الْمَحْكَمَةِ يَعْرِفُ مَجْمُوعَتَنَا الدِّرَاسِيَّةَ، فَقَبِلَ بِلُطْفٍ أَنْ يَلْتَقِيَ بِي بَعْدَ أَحَدِ الجَلَسَاتِ. طَرَقْتُ الْبَابَ، فَدُعِيتُ لِلدُّخُولِ، وَرَحَّبَ بِي وَأَشَارَ إِلَى الْكُرْسِيِّ الْمُقَابِلِ لِمَكْتَبِهِ.
كَانَ جَالِسًا بِدُونِ مَعْطَفِ الْقَضَاءِ، ذَاكَ الَّذِي عَلَّقَهُ عَلَى ظَهْرِ الْكُرْسِيِّ، كَأَنَّهُ لَبِسَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ يَتَدَلَّى بِهَوَانٍ.
بَدَا مُرْتَاحًا، رَجُلًا قَضَى يَوْمَهُ فِي الْعَمَلِ وَهُوَ رَاضٍ.
وَفِي وَجْهِهِ، غَابَتْ تِلْكَ التَّعَابِيرُ الْجَامِدَةُ الَّتِي كَانَ يَتَخَفَّى وَرَاءَهَا فِي قَاعَةِ الْمَحْكَمَةِ، فَصَارَ وَجْهُهُ وَدُودًا، ذَكِيًّا، يَحْمِلُ طَابَعَ رِجَالِ الْوَظَائِفِ الْمُسَالِمِينَ.
بَدَأَ يُحَادِثُنِي، وَسَأَلَنِي عَنْ أُمُورٍ شَتَّى:
“مَاذَا تَرَى مَجْمُوعَتُكُمْ فِي مَسَارِ الْقَضِيَّةِ؟
وَمَاذَا يَنْوِي أُسْتَاذُكُمْ أَنْ يَفْعَلَ بِالْمُحَاضَرَاتِ؟
فِي أَيِّ فَصْلٍ أَنْتُمْ؟
وَأَنْتَ، فِي أَيِّ فَصْلٍ دِرَاسِيٍّ؟
وَلِمَاذَا تَدْرُسُ الْقَانُونَ؟
وَمَتَى تُفَكِّرُ فِي اجْتِيَازِ الِامْتِحَانِ؟”
وَنَصَحَنِي:
“إِيَّاكَ أَنْ تَتَأَخَّرَ فِي تَسْجِيلِ الْامْتِحَانِ.”
أَجَبْتُهُ عَلَى كُلِّ مَا سَأَلَهُ، وَاسْتَمَعْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يحْكِي لِي عَنْ أَيَّامِ دِرَاسَتِهِ وَامْتِحَانِهِ.
كَانَ قَدْ سَلَكَ كُلَّ خُطْوَةٍ فِي وَقْتِهَا، وَنَالَ مَا يُطْلَبُ مِنْ تَدْرِيبٍ وَتَطْبِيقٍ، وَأَتَمَّ الامْتِحَانَ بِنَجَاحٍ.
قَالَ: “لَوْ أُعِيد كُلَّ ذٰلِكَ، لَفَعَلْتُهُ بِالطَّرِيقَةِ نَفْسِهَا.”
كَانَتِ النَّافِذَةُ مَفْتُوحَةً، وَفِي السَّاحَةِ، تَصَدَّرَتْ أَصْوَاتُ بَابٍ يُغْلَقُ وَمُحَرِّكٍ يَشْتَعِلُ.
تَبِعْتُ أَصْوَاتَ السَّيَّارَاتِ حَتَّى غَطَّاهَا ضَجِيجُ الْمُرُورِ.
ثُمَّ عَلَتْ أَصْوَاتُ الأَطْفَالِ يَلْعَبُونَ وَيَضْحَكُونَ فِي السَّاحَةِ الْفَارِغَةِ، وَكَانَتْ بَعْضُ كَلِمَاتِهِمْ وُاضِحَةً، كَاسْمٍ أَوْ سُبَّةٍ أَوْ نِدَاءٍ.
وَقَامَ رَئِيسُ الْمَحْكَمَةِ، وَوَدَّعَنِي بِكَلِمَاتٍ طَيِّبَةٍ:
“يُمْكِنُكَ أَنْ تَعُودَ مَتَى شِئْتَ، إِذَا كَانَ لَدَيْكَ مَزِيدٌ مِنَ الأَسْئِلَةِ، أَوْ احْتَجْتَ إِلَى نَصِيحَةٍ فِي دِرَاسَتِكَ.”
وَأَضَافَ:
“وَلْتُخْبِرْنِي مَجْمُوعَتُكُمْ بِتَقْيِيمِهَا لِلْمُحَاكَمَةِ.”
خَرَجْتُ مِنَ الْمَبْنَى، وَعَبَرْتُ السَّاحَةَ الْفَارِغَةَ. وَأَحَد الْفِتْيَةِ الأَكْبَرِ سِنًّا، سَأَلْتُ عَنْ طَرِيقِ الْمَحَطَّةِ.
كَانَتْ مَجْمُوعَتُنَا قَدْ غَادَرَتْ مُبَكِّرًا بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ، فَلَمْ يَبْقَ لِي إِلَّا أَنْ أَسْتَقِلَّ الْقِطَارَ.
كَانَ الْقِطَارُ مُتَهَاوِنًا، يَتَوَقَّفُ عِنْدَ كُلِّ مَحَطَّةٍ، يَصْعَدُ النَّاسُ وَيَنْزِلُونَ، وَأَنَا جَالِسٌ عِنْدَ النَّافِذَةِ، أُحَاطُ بِوُجُوهٍ تَتَبَدَّلُ، وَأَصْوَاتٍ تَتَدَاخَلُ، وَرَوَائِحَ تَتَنَوَّعُ.
وَفِي الْخَارِجِ، مَرَّتِ الْمَنَازِلُ وَالشَّوَارِعُ، وَالسَّيَّارَاتُ، وَالأَشْجَارُ، وَعَبرَ الأُفُقِ، تَتَوَازَعُ الْجِبَالُ وَالْقِلَاعُ وَالْمَحَاجِرُ.
كَانَ كُلُّ شَيْءٍ حَاضِرًا أمَامَ بَصَرِي، غَيْرَ أَنَّ لا شَيْءَ كَانَ يُنْبِتُ فِيَّ شعُورًا.
لَمْ أَعُدْ مَجْرُوحًا، وَلَمْ أَعُدْ مَخْدُوعًا، وَلَمْ أَعُدْ مُسْتَغَلًّا، بَعْدَ أَنْ تَرَكَتْنِي “هَانَّا”.
وَلَمْ أَعُدْ أَشْعُرُ بِذَلِكَ الْإِلْحَاحِ الْقَاسِي عَلَى التَّأْثِيرِ فِيهَا.
كَانَتْ تَسَلَّلَتْ إِلَيَّ حَالَةٌ مِنَ التَّخَدُّرِ، كَأَنَّهَا قِشْرَةٌ ثَقِيلَةٌ لَازَمَتْنِي أَثْنَاءَ سَمَاعِي لِأَهْوَالِ الْمُحَاكَمَةِ، فَغَلَبَتْ عَلَى كُلِّ مَا مَرَرْتُ بِهِ فِي الأَسَابِيعِ الْمَاضِيَةِ.
وَلَوْ أَنَّنِي أَقُولُ إِنَّ ذَلِكَ أَسْعَدَنِي، فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ تُخَالِفُ ذَلِكَ.
إِلَّا أَنِّي كُنْتُ أُحِسُّ، بِدُونِ رَيْبٍ، أَنَّ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَأَنَّهُ الْمَسْلَكُ الَّذِي سَيُمَكِّنُنِي مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى حَيَاتِي الْعَادِيَةِ، وَالِاسْتِمْرَارِ فِيهَا بِثِقَةٍ.
فِي نِهَايَةِ شَهْرِ حُزَيْرَانَ، صَدَرَ الْحُكْمُ.
حُكِمَ عَلَى “هَانا” بِالسِّجْنِ الْمُؤَبَّدِ، وَنَالَ الْبَاقُونَ أَحْكَامًا تَقْدِيرِيَّةً بِفَتَرَاتٍ مُحَدَّدَةٍ.
كَانَتْ قَاعَةُ الْمَحْكَمَةِ، كَمَا فِي الْبِدَايَةِ، مُكْتَظَّةً بِالْمُوَظَّفِينَ الْقَضَائِيِّينَ، وَطُلَّابِ جَامِعَتِنَا وَالْجَامِعَةِ الْمَحَلِّيَّةِ، وَفَصْلٍ مَدْرَسِيٍّ، وَصَحَافِيِّينَ مَحَلِّيِّينَ وَأَجَانِبَ، وَكُلِّ مَنْ يَحِلُّ بِالْمَكَانِ فِي أَيَّامِ الْمُحَاكَمَاتِ.
وَكَانَ الصَّخَبُ وَالْهَمْهَمَةُ تَمْلَأَانِ الْمَكَانَ.
وَعِنْدَ دُخُولِ الْمُتَّهَمِينَ، لَمْ يَلْتَفِتْ أَحَدٌ إِلَيْهِمْ فِي الْبِدَايَةِ، غَيْرَ أَنَّ الصَّوْتَ خَبَا تَدْرِيجِيًّا.
أَوَّلُ مَنْ صَمَتُوا كَانُوا الْجَالِسِينَ قُرْبَ الْمُتَّهَمِينَ.
بَدَأُوا ينبِّهُونَ جِيرَانَهُمْ بِهِمْ، يَلْتَفِتُونَ، وَيُهْمِسُونَ بِصَوْتٍ خَفِيٍّ: “اُنْظُرُوا”.
وَمَنْ لَمْ يُبَالِ، تَمَكَّنَ مِنْ لَفْتِ انتِبَاهِ الْجَمِيعِ، وَسَرِيعًا تَسَارَعَ الْهَمْسُ، وَتَنَاقَلَ، حَتَّى سَادَ الصَّمْتُ التَّامُّ أَرْجَاءَ الْقَاعَةِ.
لَا أَدْرِي، هَلْ كَانَتْ “هَانا” تُدْرِكُ كَيْفَ تَبْدُو؟
أَمْ هَلْ رَغِبَتْ أَنْ تَكُونَ هَكَذَا؟
كَانَتْ تَرْتَدِي زِيًّا أَسْوَدَ، وَقَمِيصًا أَبْيَضَ.
وَكَانَتْ قَطْعَةُ الْمَلْابسِ وَرَبْطَةُ الْعُنُقِ تَجْعَلَانِهَا تشْبِهُ رَسْمِيًّا، بَعْضَ المَرَّاتِ زِيّاً عَسْكَرِيّاً.
لَمْ أَرَ قَطُّ الزِّيَّ الرَّسْمِيَّ لِنِسَاءِ “إس إس”، وَلَكِنِّي، وَكَثِيرُونَ مِمَّنْ حَضَرُوا، خَاطَرُوا بِالْقَوْلِ أَنَّهَا كَانَتْ تَرْتَدِيهِ.
فَالزِّيُّ، وَالْمَرْأَةُ فِيهِ، وَكُلُّ مَا اتُّهِمَتْ بِهِ “هَانا”، كَانَ حَاضِرًا أَمَامَنَا كَشَاهِدٍ صَامِتٍ.
ثُمَّ “عَادَ الْهَمْسُ”، وَتَعَالَتِ الْأَصْوَاتُ الْغَاضِبَةُ، حَتَّى شَعَرَ كَثِيرُونَ أَنَّ “الْمُحَاكَمَةَ وَالْحُكْمَ” وَهُمْ أَيْضًا — كَمَنْ شَهِدَ النُّطْقَ بِالْحُكْمِ — قَدْ “تَعَرَّضُوا لِلسُّخْرِيَةِ وَالاِزْدِرَاءِ” مِنْ قِبَلِ “هَانا”.
ثَمِلتِ الْقَاعَةُ بِالضَّجِيجِ، وَعَلَتِ الْأَصْوَاتُ شَيْئًا فَشَيْئًا، حَتَّى تَجَرَّأَ بَعْضُ الْحُضُورِ عَلَى مُخَاطَبَةِ “هَانَّا” مُبَاشَرَةً، مُعَبِّرِينَ عَمَّا يضْمرُونَهُ نَحْوَهَا مِنْ سَخَطٍ وَازْدِرَاءِ.
ثُمَّ دَخَلَ الْقُضَاةُ إِلَى الْقَاعَةِ، وَتَقَدَّمَ الرَّئِيسُ بِخُطَاهُ الثَّابِتَةِ. وَمَا إِنْ وَقَعَتْ عَيْنَاهُ عَلَى “هَانا”، حَتَّى ارْتَسَمَ عَلَى وَجْهِهِ امْتِعَاضٌ خَفِيٌّ، ثُمَّ أَعْلَنَ الْحُكْمَ.
كَانَتْ “هَانا” وَاقِفَةً، مُنْتَصِبَةَ الْقَامَةِ، تُصْغِي دُونَ أَنْ تَذْرِفَ دَمْعَةً، أَوْ تُحَرِّكَ عَضَلَةً. وَلَمَّا شَرَعَ الْقَاضِي فِي تِلَاوَةِ حَيْثِيَّاتِ الْحُكْمِ، جَلَسَتْ.
لَمْ أَشَأْ أَنْ أُزِيحَ نَظَرِي عَنْهَا، فَعَلَّقْتُ بَصَرِي عَلَى رَأْسِهَا، عَلَى عُنُقِهَا الْجَامِدِ، وَلَمْ أُحَوِّلْهُ حَتَّى انْتَهَى الْقَاضِي مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَقَدِ اسْتَغْرَقَتِ السَّاعَاتُ طَوِيلَةً.
حِينَ أُنْهِيتِ الْجَلْسَةُ، وَبَدَأَ الْحُرَّاسُ بِاقْتِيَادِ الْمُتَّهَمِينَ خَارِجًا، انْتَظَرْتُ لَحْظَةً، مُتَرَقِّبًا أَنْ تُلْقِيَ “هَانا” إِلَيَّ نَظْرَةً أَخِيرَةً.
جَلَسْتُ فِي مَكَانِي الْمُعْتَادِ، حَيْثُ اعْتَدْتُ مُرَاقَبَتَهَا، وَلَكِنَّهَا لَمْ تَلْتَفِتْ. بَقِيَتْ تَنْظُرُ أَمَامَهَا، نَظْرَةً تَخْتَرِقُ الْجُدْرَانَ وَلَا تَرَى شَيْئًا.
كَانَتْ نَظْرَةً فِيهَا كِبْرٌ، وَجُرْحٌ قَدِيمٌ، وَضيَاعٌ، وَتَعَبٌ لَا آخِرَ لَهُ.
نَظْرَةٌ تَرْفُضُ أَنْ تَرَى، تَرْفُضُ أَنْ تَتَّصِلَ بِالْعَالَمِ.
قَضَيْتُ صَيْفَ مَا بَعْدَ الْمُحَاكَمَةِ فِي قَاعَةِ الْمُطَالَعَةِ بِمَكْتَبَةِ الْجَامِعَةِ. كُنْتُ أَصِلُ عِنْدَ فَتْحِهَا، وَلَا أَخْرُجُ إِلَّا عِنْدَ إِغْلَاقِهَا.
وَفِي عُطلَاتِ نِهَايَةِ الْأُسْبُوعِ، أُتَابِعُ الدِّرَاسَةَ فِي الْمَنْزِلِ.
كَانَ انْهِمَاكِي مُطْلَقًا، مَسْعُورًا، كَأَنِّي أُحَاوِلُ أَنْ أَدْفِنَ تَحْتَ كُتُبِي كُلَّ شُعُورٍ، وَكُلَّ فِكْرَةٍ لَمْ تَسْمَحْ لَهَا الْمَحَاكِمُ أَنْ تَسْتَفِيقَ.
تَجَنَّبْتُ النَّاسَ، خَرَجْتُ مِنْ بَيْتِ الْعَائِلَةِ، وَاسْتَأْجَرْتُ غُرْفَةً صَغِيرَةً.
وَلَمَّا صَادَفَنِي أَحَدُ الْمَعَارِفِ فِي قَاعَةِ الْمُطَالَعَةِ، أَوْ فِي زِيَارَةٍ عَابِرَةٍ لِلْسِّينِمَا، صَدَدْتُهُ بِرِفْقٍ قَاطِعٍ.
وَحِينَ دَخَلَ الشِّتَاءُ وَبَاشَرَ الْفَصْلُ الدِّرَاسِيُّ، لَمْ يَتَغَيَّرْ شَيْءٌ.
وَمَعَ ذَلِكَ، دُعِيتُ لِلْاِنْضِمَامِ إِلَى مَجْمُوعَةٍ مِنَ الطُّلَّابِ لِقَضَاءِ عُطْلَةِ عِيدِ الْمِيلَادِ فِي كُوخٍ جَبَلِيٍّ لِلتَّزَلُّجِ.
أَجَبْتُ بِدَهْشَةٍ: “نَعَمْ”.
لَمْ أَكُنْ مُتَزَلِّجًا مَاهِرًا، لَكِنِّي أَحْبَبْتُ السُّرْعَةَ، وَالتَّزَلُّجَ مَعَ الْأَفْضَلِ.
أَحْيَانًا، كُنْتُ أُجَازِفُ فِي مِنْحَدَرَاتٍ لَا طَاقَةَ لِي بِهَا، مُعَرِّضًا نَفْسِي لِلْسُّقُوطِ وَرُبَّمَا الْكَسْرِ.
وَكَانَ ذَلِكَ عَنْ وَعْيٍ تَامٍّ.
أَمَّا الْخَطَرُ الْآخَرُ، الَّذِي اقْتَرَبَ مِنِّي صَامِتًا، حَتَّى تَمَكَّنَ مِنِّي دُونَ أَنْ أُدْرِكَ، فَلَمْ أَشْعُرْ بِهِ قَطُّ.
لَمْ أَكُنْ أَشْعُرُ بِالْبَرْدِ.
بَيْنَمَا يَلْتَفُّ الْآخَرُونَ بِالسِّتْرَاتِ وَالْمَعَاطِفِ، كُنْتُ أَتَزَلَّجُ بِقَمِيصٍ فَقَطْ.
هَزُّوا رُؤُوسَهُمْ، وَسَخِرُوا، بَلْ حَتَّى لَمْ تُجْدِ تَحْذِيرَاتُهُمْ الْقَلِقَةُ فِي تَغْيِيرِ سُلُوكِي.
لَمْ أَكُنْ أَشْعُرُ بِالْبَرْدِ.
وَحِينَ بَدَأْتُ بِالسُّعَالِ، عَزَوْتُ الْأَمْرَ إِلَى السِّجَائِرِ النَّمْسَاوِيَّةِ.
عِنْدَمَا بَدَأَتِ الْحُمَّى تَتَسَلَّلُ إِلَى جَسَدِي، شَعَرْتُ بِلَذَّةٍ غَرِيبَةٍ فِي هَذَا الْوَهْنِ الْمُفَاجِئِ.
كُنْتُ ضَعِيفًا، لَكِنِّي خَفِيفٌ، وَكَأَنَّ الْحَوَاسَّ كُلَّهَا قَدِ ارْتَدَتْ أَغْطِيَةً نَاعِمَةً مِنْ قُطْنٍ وَسُكُونٍ.
كُلُّ شَيْءٍ بَدَا لِي مُخْمَلِيًّا، مُسْتَسْلِمًا، مُتَرَنِّحًا فِي بُطْءٍ.
كُنْتُ أُحَلِّقُ فِي فَضَاء دَاخِلِيٍّ، لَا يُقَاسُ بِالزَّمَنِ.
ثُمَّ ارْتَفَعَتِ الْحَرَارَةُ فَجْأَةً، وَنُقِلْتُ إِلَى الْمُسْتَشْفَى.
حِينَ خَرَجْتُ مِنْ هُنَاكَ، كَانَتِ الْغِشَاوَةُ قَدِ انْقَشَعَتْ.
كُلُّ مَا كَانَ قَدْ خَمَدَ فِيَّ مِنْ تَسَاؤُلَاتٍ، وَمَخَاوِفَ، وَاتِّهَامَاتٍ ذَاتِيَّةٍ، وَنَدَمٍ مَرِيرٍ، وَرُعْبٍ دَفِينٍ، وَأَلَمٍ صَارِخٍ — ذَلِكَ كُلُّهُ، الَّذِي أَيْقَظَتهُ الْمَحَاكِمُ ثُمَّ أَسْكَتَهُ — عَادَ إِلَيَّ بِكُلِّ ثِقْلِهِ، وَبَقِيَ، وَلَمْ يُفَارِقْنِي بَعْدَهُ.
لَا أَدْرِي مَا التَّشْخِيصُ الَّذِي يَضَعُهُ الأَطِبَّاءُ لِمَن لَا يَشْعُرُ بِالْبَرْدِ حِينَ يَكُونُ مِنَ الْمُفْترَضِ أَنْ يَرْتَجِفَ.
لَكِنَّ تَشْخِيصِي الشَّخْصِيَّ هُوَ أَنَّ “التَّخْدِيرَ”، الَّذِي طَمَسَ وُجْدَانِي، لَمْ يُرِدْ أَنْ يَفْلِتَنِي حَتَّى يَمْلِكَ جَسَدِي أَيْضًا، وَيُحْكَمَ عَلَيْهِ بِالضَّعْفِ، قَبْلَ أَنْ يُغَادِرَنِي تَمَامًا.
عِندَمَا أَتْمَمْتُ دِرَاسَتِي الْجَامِعِيَّةَ، وَشَرَعْتُ فِي فَتْرَةِ التَّدْرِيبِ الْمِهْنِيِّ، كَانَ صَيْفُ حَرَكَةِ الطَّلَبَةِ قَدْ بَدَأَ يَغْلِي فِي الشَّوَارِعِ وَالسَّاحَاتِ.
كُنْتُ مَهْتَمًّا بِالتَّارِيخِ وَعِلْمِ الِاجْتِمَاعِ، وَقَرِيبًا مِنَ الْجَامِعَةِ بِمَا يَكْفِي لِكَيْ أَشْهَدَ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَكِنْ مِنْ مَكَانٍ أَقْرَبَ إِلَى الظِّلِّ.
غَيْرَ أَنَّ “الشَّهَادَةَ” لَا تُسَاوِي “الِاشْتِرَاكَ”. لَمْ أَكُنْ مُنْدَفِعًا نَحْوَ إِصْلَاحِ النِّظَامِ الْجَامِعِيِّ، وَلَا مُهْتَمًّا بِـ”الْفِيتْكُونْغ” أَوْ الْأَمْرِيكِيِّينَ. وَأَمَّا ذَلِكَ الْمَوْضُوعُ الثَّالِثُ، وَالَّذِي كَانَ فِي حَقِيقَتِهِ جَوْهَرَ حَرَكَةِ الطَّلَبَةِ – أَيْ مُوَاجَهَةُ الْمَاضِي النَّازِيِّ – فَقَدْ كَانَ يَفْصِلُنِي عَنْهُ حَاجِزٌ نَفْسِيٌّ غَلِيظٌ، وَمَسَافَةٌ لَا تُقَاسُ بِالْخُطُوَاتِ.
لَمْ أَرِدْ أَنْ أَهْتِفَ مَعَهُمْ، وَلَا أَنْ أُشَارِكَ فِي الْمَسِيرَاتِ. وَأَحْيَانًا، كَانَ يَتَبَادَرُ إِلَى ذِهْنِي أَنَّ “مُوَاجَهَةَ الْمَاضِي النَّازِيِّ” لَمْ تَكُنْ سَبَبًا بِذَاتِهَا، بَلْ وَجْهًا آخَرَ لِصِرَاعٍ خَفِيٍّ بَيْنَ جِيلَيْنِ؛ صِرَاعٍ تَفَجَّرَ فِي كُلِّ سَطْرٍ وَصَوْتٍ وَمَظَاهِرِ الْغَضَبِ.
كَانَ الْآبَاءُ، طَالَ الزَّمَنُ أَمْ قَصُرَ، قَدْ خَذَلُوا. خِلالَ حُكْمِ “الرَّايِخِ الثَّالِثِ”، أَوْ فِي مَا تَلَاهُ مِنْ صَمْتٍ وَتَوَاطُؤٍ. جَاءَ الْأَبْنَاءُ لِيَقْطَعُوا كُلَّ خَيْطِ وِثَاقٍ. “كَيْفَ يُمْكِنُ لِمَنْ ارْتَكَبُوا الْجَرَائِمَ، أَوْ رَأَوْهَا وَلَمْ يَسْتَنْكِرُوا، أَوْ أَدَارُوا الظُّهُورَ، أَوْ احْتَضَنُوا بَعْدَ الْحَرْبِ مَنْ اقْتَرَفَهَا، أَنْ يُمْلُوا شَيْئًا عَلَى أَبْنَائِهِم؟” مَاذَا بَقِيَ لِيُقَالَ؟
وَمَعَ ذَلِكَ، كَانَ هُنَاكَ مَا يُؤَرِّقُ الأَنْفُسَ فِي صَمْتٍ مُرٍّ. أَبْنَاءٌ لَمْ يُرِيدُوا لَوْمَ آبَائِهِم، أَوْ لَمْ يَسْتَطِيعُوا ذَلِكَ. فِي أَعْيُنِهِم، لَمْ تَكُنِ الْمُوَاجَهَةُ مَعَ الْمَاضِي النَّازِيِّ جَانِبًا فِي صِرَاعِ الْأَجْيَالِ، بَلْ كَانَتْ جَوْهَرَ الْمَسْأَلَةِ بِأَسْرِهَا.
وَبِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ الْجَدَلِ الْأَخْلَاقِيِّ أَوِ الْقَانُونِيِّ حَوْلَ مَفْهُومِ “الذَّنْبِ الْجَمَاعِيِّ”، فَإِنَّهُ لِجِيلِنَا الْجَامِعِيِّ كَانَ وَاقِعًا مَلْمُوسًا، حضُورُهُ فِي الضَّمِيرِ كَحُضُورِ الدَّمِ فِي الْعُرُوقِ.
لَمْ تَكُنِ الْإِدَانَةُ مَقْصُورَةً عَلَى مَا جَرَى فِي “الرَّايِخِ الثَّالِثِ”، بَلْ تَعَدَّتْ ذَلِكَ إِلَى مَا تَبِعَهُ. الصُّلْبَانُ الْمُعَقَّفَةُ عَلَى قُبُورٍ يَهُودِيَّةٍ، النَّازِيُّونَ الَّذِينَ عَادُوا لِيَتَسَلَّلُوا إِلَى مَنَاصِبِ الْقَضَاءِ وَالْإِدَارَةِ وَالْجَامِعَاتِ، إِنْكَارُ وُجُودِ إِسْرَائِيلَ، وَذُرُوفٌ مِنَ التَّكَيُّفِ وَالصَّمْتِ أَكْثَرُ مِمَّا وَرَدَ مِنْ حِكَايَاتِ الْمُنَافِين وَالْمُقَاوِمِين.
كُنَّا نَشْعُرُ بِالْخِزْيِ، حَتَّى لَوْ أَشَرْنَا بِأَصَابِعِنَا إِلَى مَنْ نَعْرِفُ أَنَّهُمُ الْمُذْنِبُونَ.
وَلَكِنَّ “الإِشَارَةَ بِالْأُصْبُعِ” لَمْ تُحَرِّرْنَا. بَلْ حَوَّلَتِ الْأَلَمَ الْخَفِيَّ إِلَى طَاقَةٍ، وَالْعَارَ الْمُتَجَذِّرَ إِلَى فِعْلٍ وَغَضَبٍ. خُصُوصًا عِنْدَمَا تَعَلَّقَ الأَمْرُ بِالآبَاءِ. فَالمُوَاجَهَةُ مَعَهُمْ كَانَتْ تَفُورُ بِشَحْنَةٍ تَقْتَرِبُ مِنَ الْاِنْفِجَارِ.
وَأَمَّا أَنَا، فَلَمْ أَكُنْ أَمْلِكُ إِصْبَعًا أُشِيرُ بِهِ. لَا إِلَى وَالِدَيَّ، فَلَمْ يَكُنْ لَدَيَّ مَا أَلُومُهُمَا عَلَيْهِ. كَانَ ذَلِكَ الْحمَاسُ “التَّنْوِيرِيُّ”، الَّذِي جَعَلَنِي يَوْمًا – فِي نِقَاشٍ جَامِعِيٍّ عَنْ مُعَسْكَرَاتِ الْإِبَادَةِ – أُدِينُ وَالِدِي، قَدْ ذَوَى. وَغَدَا ذَلِكَ الْمَوْقِفُ، فِي نَظَرِي، مُجَرَّدَ زَلَّةٍ فِي التَّقْدِيرِ.
وَمَا اقْتَرَفَهُ بَعْضُ مَنْ حَوْلِي، فِي بِيئَتِي الِاجْتِمَاعِيَّةِ، كَانَ فِي كُلِّ الأَحْوَالِ، أَقَلَّ فَظَاعَةً مِمَّا فَعَلَتْ “هَانَا”.
كَانَ يَنْبَغِي أَنْ أُشِيرَ إِلَيْهَا.
وَلَكِنَّ الإِصْبَعَ الَّذِي رَفَعْتُهُ نَحْوَ “هَانَا”، عَادَ فَأَشَارَ نَحْوِي. فَقَدْ أَحْبَبْتُهَا. وَلَمْ أَكُنْ فَقَطْ قَدْ أَحْبَبْتُهَا، بَلِ اخْتَرْتُهَا.
حَاوَلْتُ أَنْ أُقْنِعَ نَفْسِي أَنِّي، عِنْدَمَا اخْتَرْتُ “هَانَا”، لَمْ أَكُنْ أَعْلَمُ مَا فَعَلَتْ. حَاوَلْتُ أَنْ أَكْتَسِيَ بَرَاءَةً تُشْبِهُ بَرَاءَةَ الْأَطْفَالِ فِي حُبِّهِمْ لِآبَائِهِمْ، دُونَ مَسْؤُولِيَّةٍ.
وَلَكِنَّ حُبَّ الْوَالِدَيْنِ هُوَ الْوَحِيدُ الَّذِي لَا نُسْأَلُ عَنْهُ. وَرُبَّمَا نُسْأَلُ، مَنْ يَدْرِي؟
كُنْتُ أَغَارُ مِنْ أُولَئِكَ الطَّلَبَةِ الَّذِينَ قَطَعُوا صِلَتَهُمْ بِآبَائِهِم، وَبِذَلِكَ بِجِيلٍ كَامِلٍ مِنَ الْجُنَاةِ، وَالصَّامِتِينَ، وَالْمُتَوَاطِئِينَ، وَالْمُتَسَاهِلِينَ. قَدْ لَنْ يَتَخَلَّصُوا مِنْ خِزْيِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ، عَلَى الأَقَلِّ، نَجَوْا مِنْ لَوْعَةِ ذَلِكَ الْخِزْيِ.
وَلَكِنْ، مِنْ أَيْنَ جَاءَتْهُمْ تِلْكَ النَّبْرَةُ الْمُتَعَجْرِفَةُ مِنْ “الْبَرَاءَةِ الأَخْلَاقِيَّةِ”، الَّتِي كُنْتُ أَلْمَحُهَا فِي أَعْيُنِهِم؟
كَيْفَ لِلشُّعُورِ بِالذَّنْبِ وَالْخَجَلِ أَنْ يَتَصَالَحَ مَعَ تَفَوُّقٍ أَخْلَاقِيٍّ وَزهوٍ نَفْسِيٍّ؟ أَتَرَاهَا تِلْكَ الْقَطِيعَةُ لَمْ تَكُنْ سِوَى “خُطْبَةٍ جَوْفَاءَ”، وَضَجِيجٍ يَحْجُبُ الْحَقِيقَةَ: “أَنَّ الْحُبَّ الَّذِي كُنَّا نُكِنُّهُ لِآبَائِنَا قَدْ رَسَّخَ فِينَا تَوَرُّطَنَا الَّذِي لَا مَفَرَّ مِنْهُ فِي ذَنْبِهِمْ”.
وَهَكَذا، صَمَتُّ… لِأَنَّ “الحَقِيقَةَ فِي ما نَقُولُهُ، تَكْمُنُ فِي ما نَفْعَلُهُ؛ فَإِذا لَمْ نَفْعَلْهُ، فَلا جَدْوَى مِنَ الكَلامِ.”
حِينَ كَتَبْتُ امْتِحانِي الثّانِي، تُوُفِّيَ الأُسْتاذُ الَّذِي كانَ يُشْرِفُ عَلَى نَدْوَةِ معسكَرَاتِ الِاعْتِقالِ. وَجَدَتْ جِيرْتْرُود نَعْيَهُ فِي الصَّحِيفَةِ، ثُمَّ الْتَفَتَتْ إِلَيَّ قَائِلَةً:
“هَلْ تَوَدُّ أَنْ تَذْهَبَ إِلَى الجِنازَةِ؟”
لَمْ أَرْغَبْ، فَقَدْ كانَتِ الجِنازَةُ يَوْمَ خَمِيسٍ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَلِيَ امْتِحاناتٌ فِي صَباحِ الخَمِيسِ وَالجُمُعَةِ. كَما أَنَّ عَلاقَتِي بِالرَّجُلِ لَمْ تَكُنْ وَثِيقَةً.
“لا أُحِبُّ الجَنائِزَ، وَلا أُحِبُّ أَنْ تُذَكِّرَنِي بِالوَاقِعَةِ.”
وَلَكِنَّ الوَقْتَ كانَ قَدْ فاتَ، إِذْ عادَ الْماضِي إِلَى الحَياةِ، وَعِنْدَما خَرَجْتُ مِنَ الِامْتِحانِ ذاكَ الخَمِيسَ، شَعَرْتُ كَأَنَّ لِي مَوْعِدًا مَعَ الذَّاكِرَةِ، لا بُدَّ أَنْ أُلَبِّيَهُ.
“رَكِبْتُ التِّرَامَ، وَهَذا ما لَمْ أَفْعَلْهُ مِنْ قَبْلُ.”
كانَتْ تِلْكَ الرِّحْلَةُ بِذاتِها عَوْدَةً إِلَى زَمَنٍ آخَرَ، إِلَى مَكانٍ قَدِيمٍ تَغَيَّرَتْ مَلامِحُهُ، دُونَ أَنْ يَفْقِدَ إِشاراتِهِ الأُولَى.
فِي عَهْدِ هانا، كانَتْ عَرَباتُ التِّرَامِ تَتَكَوَّنُ مِنْ عَرَبَتَيْنِ أَوْ ثَلاثٍ، تَتَقَدَّمُها منصّاتٌ خَشَبِيَّةٌ مَفْتُوحَةٌ، وَأَلْواحٌ صَغِيرَةٌ يُمْكِنُ القَفْزُ إِلَيْها وَلَوْ بَدَأَ القِطارُ فِي التَّحَرُّكِ. وَكانَ هُناكَ حَبْلٌ يَمْتَدُّ داخِلَ العَرَبَةِ، يَشُدُّهُ المُحاسِبُ لِيُصْدِرَ رَنِينًا يُعْلِنُ انْطِلاقَ الرِّحْلَةِ.
في الصيفِ، كانت تلك المنصّاتُ تُفتحُ على الهواءِ، فيغدو الترامُ شبه عربةٍ مكشوفةٍ. والمحاسبُ، ذاك الكائنُ المتعدِّدُ الأدوارِ، يبيعُ التذاكرَ، يختمُها، يراقبُها، ينادي المحطّاتِ، ويُشيرُ بيده لانطلاقِ القطارِ. يصرخُ على الأطفالِ الذين يتزاحمونَ على الحوافِّ، ويزجرُ الراكبينَ المتسلِّلين، ويمنعُ الدخولَ إن اكتظّت العربةُ.
كان منهم الظريفُ، والدعوبُ، والفظُّ، والصارمُ، وكان مزاجُ المحاسبِ يُشعلُ أجواءَ الترامِ، أو يُطفئها.
كم كنتُ أحمقَ، إذ خِفتُ مواجهةَ هانا، بعد مفاجأتي الفاشلةِ إلى شِفِتسينغن، وخشيتُ أن أراها تؤدّي دورَ المحاسبِ، وأن تُعيدَني اللحظةُ إلى ذاتِها، أمامَها.
ركبتُ ترامًا بلا محاسبٍ، متجهًا إلى مقبرةِ بيرغفريدهوف.
كان يومًا خريفيًّا باردًا، سماؤهُ صافيةٌ لكنْ محجوبةٌ بالضبابِ، وشمسٌ صفراءُ باهتةٌ، لا تُدفِئ، بل يمكنُ للعينِ أن تُحدِّقَ فيها دونَ أن تُؤذيَها.
بحثتُ طويلًا حتى وجدتُ القبرَ الذي أُقيمتْ عنده مراسمُ الدفنِ.
“سِرتُ بين أشجارٍ عاليةٍ عاريةٍ، تتمايلُ بلا أوراقٍ، وبين شواهدِ قبورٍ قديمةٍ متآكلةٍ. من حينٍ لآخرَ، كنتُ ألتقي ببستانيٍّ هرمٍ أو امرأةٍ مُسنّةٍ تحملُ إبريقَ ماءٍ ومقصًّا للباقاتِ. وكان السكونُ يملأُ كلَّ شيءٍ، سوى ترنيمٍ كنَسيٍّ بعيدٍ، يُرتّلُ عند قبرِ الأستاذِ.”
توقّفتُ جانبًا، وتأمّلتُ الجمعَ الصغيرَ من المُشيّعين. بعضُهم بدا غريبًا، منعزلًا عن عالمِ الأحياءِ.
في الكلماتِ التي أُلقيتْ عن حياةِ الأستاذِ، تبيّنَ لي كمْ كان منقطعًا عن مجتمعهِ؛ قد نأى بنفسهِ، فغاب التواصلُ، وبقيَ مستقِلًّا، لكنه صار وحيدًا.
رَأَيْتُ هُناكَ وَجْهًا مَأْلُوفًا؛ أَحَدَ المُشارِكِينَ فِي نَدْوَةِ المعسكَرِ، كانَ قَدِ اجْتازَ الِامْتِحانَ قَبْلِي، عَمِلَ مُحَامِيًا، ثُمَّ افْتَتَحَ حانَةً. جاءَ مُرْتَدِيًا مِعْطَفًا أَحْمَرَ طَوِيلًا، خاطَبَنِي حِينَ كُنْتُ أُغادِرُ:
“كُنَّا مَعًا فِي النَّدْوَةِ – أَلا تَتَذَكَّر؟”
قُلْتُ: “بَلَى.” فَصافَحَنِي.
قالَ: “كُنْتَ دائِمًا حاضِرًا، كُلَّ أَرْبِعاءِ. أَحْيانًا أَقُلُّكَ بِسَيّارَتِي.” ثُمَّ ضَحِكَ وَأَضافَ:
“لَكِن، هَلْ سَتُخْبِرُنِي الآنَ لِماذا كُنْتَ تَحْضُرُ كُلَّ مَرَّةٍ؟”
نَظَرَ إِلَيَّ بِتِلْكَ النَّظْرَةِ الَّتِي تُشْبِهُ الحَفاوَةَ، وَفِيهَا شَيْءٌ مِنَ التَّرَقُّبِ.
قُلْتُ: “كانَتِ الجَلْسَةُ تَهُمُّنِي كَثِيرًا.”
قالَ: “كانَتْ تَهُمُّكَ؟”
ضَحِكَ مِنْ جَدِيدٍ، وَقالَ:
“الجَلْسَةُ، أَمِ المُتَّهَمَةُ الَّتِي كُنْتَ تُراقِبُها دائِمًا؟ تِلْكَ الَّتِي بَدَتْ لَنا مَعْقُولَةً؟ كُنَّا جَمِيعًا نَتَساءَلُ: ما الَّذِي يَرْبِطُكَ بِها؟ وَلَكِنْ لَمْ يَجْرُؤْ أَحَدٌ عَلَى سُؤَالِكَ. كُنَّا آنَذاكَ حَسّاسِينَ، وَرُبَّما أَكْثَرَ لُطْفًا مِمّا يَنْبَغِي.”
راحَ يَتَذَكَّرُ مُشارِكًا آخَرَ، كانَ يَتَلَعْثَمُ، يهمهِمُ، وَيَتَحَدَّثُ كَثِيرًا، كَلامًا فارِغًا، وَلَكِنَّنا كُنَّا نَسْتَمِعُ إِلَيْهِ كَأَنَّ كَلِماتِهِ ذَهَبٌ خالِصٌ. ثُمَّ حَدَّثَنِي عَن باقي المُشارِكِينَ، عَنْ ماضِيهِمْ، وَما صارُوا عَلَيْهِ اليَوْمَ.
كانَ يُطِيلُ الحَدِيثَ، كَما لَوْ أَنَّ الذِّكْرَى لا تُرِيدُ أَنْ تَنْتَهِي.
كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ، فِي النِّهايَةِ، سَيَعُودُ لِيَسْأَلَنِي: “فَما ذا كانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ تِلْكَ المُتَّهَمَةِ؟”
وَكُنْتُ لا أَدْرِي ما الجَوابُ. كَيْفَ أُنْكِرُ؟ كَيْفَ أُقِرُّ؟ كَيْفَ أَتَحايَلُ أَوْ أَلُوذُ بِالصَّمْتِ؟
ثُمَّ، بَلَغْنا مَدْخَلَ المَقْبَرَةِ، وَهُناكَ سَأَلَنِي.
كانَتِ التِّرامُ تَسْتَعِدُّ لِلْمُغادَرَةِ، وَالمَحَطَّةُ تُدَوِّي بِصَفِيرِ الِانْتِظارِ القَصِيرِ. فَصَرَخْتُ فَجْأَةً: “وَداعًا!”
وَعَدَوْتُ، كَأَنَّنِي قادِرٌ عَلَى الظَّفَرِ بِلَحْظَةِ هُرُوبٍ خاطِفَةٍ، أَرْكُضُ بِمُحاذاةِ العَرَبَةِ، أَضْرِبُ بِيَدِي المَفْتُوحَةِ عَلَى البَابِ الحَدِيدِيِّ، وَأَنا لا أَرْجُو، بَلْ أَهْرُبُ مِنْ رَجائِي نَفْسِهِ.
حَدَثَ ما لَمْ أَتَوَقَّعْهُ. تَوَقَّفَتِ التِّرامُ فَجْأَةً، وَانْفَتَحَ البَابُ، فَصَعِدْتُ.
بَعْدَ فَتْرَةِ التَّدْرِيبِ المِهْنِيِّ، كانَ عَلَيَّ أَنْ أَخْتارَ مِهْنَةً.
أَمْهَلْتُ نَفْسِي. كانَتْ جِيرْتْرُود قَدْ شَرَعَتْ فِي مِهْنَتِها فَوْرًا؛ قاضِيَةً، مَشْغُولَةً، مُتَأَلِّقَةً، مُنْشَغِلَةً بِحَياتِها.
كُنَّا سُعَداءَ، أَنا وَهِيَ، أَنْ أَبْقَى فِي المَنْزِلِ لِأَعْتَنِيَ بِجُولْيا. وَلَكِنْ حِينَ اجْتازَتْ جِيرْتْرُود مَصاعِبَ البِدايَةِ، وَدَخَلَتْ جُولْيا الحَضانَةَ، باتَ القَرارُ يَضْغَطُ مِنَ الدّاخِلِ وَمِنَ الخَارِجِ.
لَمْ يَكُنْ سَهْلًا عَلَيَّ.
لَمْ أَرَني فِي أَيٍّ مِنَ الأَدْوارِ الَّتِي جَسَّدَها المُحامُونَ فِي مُحاكَمَةِ هانا. التُّهَمُ بَدَتْ لِي اخْتِزالًا ساخِرًا، وَالدِّفاعُ تَبْرِيرًا مَبْتُورًا، أَمَّا القَضاءُ، فَكانَ أَبْشَعَ أَشْكالِ التَّبْسِيطِ.
أَنْ أَكُونَ مُوَظَّفًا إِدَارِيًّا؟! جَرَّبْتُ، فِي مَكْتَبِ المُحافَظَةِ. غُرَفٌ باهِتَةٌ، مَمَرّاتٌ مُعَقَّمَةٌ، رائِحَةٌ تُشْبِهُ المَوْتَ البَطِيءَ، وَمُوَظَّفُونَ رَمادِيُّونَ، لا حَياةَ فِيهِمْ وَلا فِي مَكاتِبِهِمْ.
ضاقَ الحَقْلُ القانُونِيُّ مِنْ حَوْلِي، وَصِرْتُ أَخْتَنِقُ فِيهِ، إِلَى أَنْ جاءَنِي عَرْضٌ غَيْرُ مُتَوَقَّعٍ مِنْ أُسْتاذِ القانُونِ التَّارِيخِيِّ؛ والعَمَلُ مَعَهُ.
قالَتْ جِيرْتْرُود: “هَذا هُرُوبٌ. هُرُوبٌ مِنَ الحَياةِ وَتَحَدِّياتِها.”
وَكانَتْ عَلَى حَقٍّ.
هَرَبْتُ. وَكُنْتُ مُرْتاحًا أَنْ بِوُسْعِي أَنْ أَهْرُبَ.
قُلْتُ لَها، وَقُلْتُ لِنَفْسِي:
“لَيْسَ لِلْأَبَدِ. أَنا شابٌّ، وَبَعْدَ سَنَواتٍ مِنْ دِراسَةِ القانُونِ التَّارِيخِيِّ، أَخْتارُ ما أَشاءُ مِنَ الْوَظائِفِ العَمَلِيَّةِ.”
وَلَكِنَّ الأَمْرَ كانَ لِلْأَبَدِ.
أعقبَ الهروبَ هروبٌ.
من الجامعةِ إلى مؤسّسةٍ بحثيّةٍ. وهناك، في تلك الزاويةِ المعزولةِ، وجدتُ مساحةً أمارسُ فيها شغفي، أبحثُ، وأكتبُ، دون أن أعتمدَ على أحدٍ، أو أُزعجَ أحدًا.
الهروبُ ليسَ هروبًا فقط، بل هو أيضًا وصولٌ.
والماضي الذي وصلتُ إليه كمتخصّصٍ في القانونِ التاريخيِّ، لم يكن ميتًا، بل نابضًا، دافئًا، حاضرًا، لا يقلُّ حياةً عن يومنا هذا.
ليس الأمرُ كما يتخيّلهُ الخارجون.
فدراسةُ الماضي ليست مراقبةً له من شرفةِ الحاضرِ، بل هي جسورٌ تُبنى، تُنصِتُ إلى الضفتينِ، وتتحرّكُ على كليهما.
واحِدَةٌ مِنْ مَجالاتِ بَحْثِي كانَتْ “القانُون فِي العَهْدِ النّازِيِّ”، وَهُناكَ، يَتَكشَّفُ لَكَ التَّداخُلُ الكَثِيفُ بَيْنَ الأَزْمِنَةِ.
الهُرُوبُ، فِي هَذا السِّياقِ، لَمْ يَكُنْ هُرُوبًا إِلَى الماضِي، بَلْ إِلَى الحاضِرِ نَفْسِهِ، إِلَى مُسْتَقْبَلِهِ، دُونَ أَنْ أُسَلِّمَ بِما وَرِثْتُهُ مِنَ العالَمِ الَّذِي نَشَأْتُ فِيهِ.
وَمَعَ ذَلِكَ، لا أُخْفِي لَذَّتِي.
لَقَدِ اسْتَمْتَعْتُ بِالغَوْصِ فِي الماضِي، حَتَّى حِينَ بَدا ذَلِكَ الغَوْصُ بِلَا أَثَرٍ حاسِمٍ فِي الحاضِرِ.
شَعَرْتُ بِهَذِهِ اللَّذَّةِ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ، وَأَنا أُقَلِّبُ قَوانِينَ وَمَشْرُوعاتِ عَصْرِ التَّنْوِيرِ.
كانَ الإِيمَانُ هُوَ القاعِدَةَ الَّتِي نُسِجَتْ مِنْها تِلْكَ النُّصُوصُ:
إِيمَانٌ بِأَنَّ فِي هَذَا العالَمِ نِظامًا خَيِّرًا راسِخًا، يُمْكِنُ لِلْمَرْءِ أَنْ يَصُونَهُ وَيُعِيدَهُ إِلَى نَضارَتِهِ الأُولَى.
أَنْ أَرَى كَيْفَ تَحَوَّلَ ذَلِكَ الإِيمَانُ إِلَى فَقَراتٍ قانُونِيَّةٍ، كَأَنَّما هم حُرّاسٌ رَسْمِيُّونَ عَلَى بَوّابَةِ النِّظامِ، ثُمَّ تُصاغَ القَوانِينُ بِجَمالٍ يَجْعَلُ جَمالَها بُرْهانًا عَلَى صِدْقِها، ذَلِكَ كانَ كَفِيلًا بِأَنْ يُبْهِجَ رُوحِي وَيُثْلِجَ صَدْرِي.
طَوِيلًا صَدَّقْتُ أَنَّ التَّارِيخَ القَانُونِيَّ يَتَقَدَّمُ، وَأَنَّنَا فِي مَسَارٍ نَحْوَ المَزِيدِ مِنَ الجَمالِ وَالعَقْلِ وَالعَدالَةِ.
وَأَنَّ كُلَّ تَراجُعٍ، وَكُلَّ انْكِسَارٍ، مَا هُوَ إِلَّا عَثرَةٌ مُؤَقَّتَةٌ فِي طَرِيقِ النُّضْجِ وَالإِنْسَانِيَّةِ.
لَكِنْ حِينَ أَدْرَكْتُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ وَهْمٌ، بَدَأْتُ أُعِيدُ تَخَيُّلَ تَارِيخِ القَانُونِ.
فِي تَصَوُّرِي الجَدِيدِ، لا يَسِيرُ الخَطُّ إِلَى الأَمَامِ، بَلْ يَدُورُ فِي حَلقَةٍ.
يُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنَّ التَّارِيخَ القَانُونِيَّ يَمْضِي نَحْوَ هَدَفٍ، فَإِذَا بَلَغَهُ، وَجَدَ نَفْسَهُ قَدْ عَادَ إِلَى نُقْطَةِ البَدْءِ، وَانْطَلَقَ مِنْ جَدِيدٍ، فِي رِحْلَةٍ لا تَنْتَهِي.
كُنْتُ أَقْرَأُ “الأُودِيسَّا” مِنْ جَدِيدٍ، تِلْكَ الَّتِي قَرَأْتُهَا فِي المَدْرَسَةِ، وَظَنَنْتُهَا آنَذَاكَ “قِصَّةَ عَوْدَةٍ إِلَى الوَطَنِ.”
وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ.
كَيْفَ يُؤْمِنُ اليُونَانِيُّونَ، الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ المَرْءَ لا يَرْكَبُ النَّهْرَ مَرَّتَيْنِ، بِأَنَّ فِي الإِمْكَانِ عَوْدَةً إِلَى وَطَنٍ؟
“أُودِيسِيُوس لا يَعُودُ لِيَبْقَى، بَلْ لِيُغَادِرَ مِنْ جَدِيدٍ.”
الأُودِيسَّا لَيْسَتْ حِكايَةَ عَوْدَةٍ، بَلْ سِيرَةُ حَرَكَةٍ: حَرَكَةٍ نَحْوَ هَدَفٍ، وَأُخْرَى تِيهًا مِنْ دُونِهِ، حَرَكَةٍ نَاجِحَةٍ حِينًا، وَبَائِسَةٍ حِينًا آخَرَ. أَلَيْسَتْ هَذِهِ – فِي جَوْهَرِهَا – قِصَّةَ القَانُونِ أَيْضًا؟
بَدَأْتُ مَعَ “الأُودِيسَّا”.
قَرَأْتُهَا بَعْدَ انْفِصَالِي عَنْ “جِيرْتُرُود”.
فِي لَيَالٍ كَثِيرَةٍ، لَمْ أَكُنْ أَسْتَطِيعُ النَّوْمَ إِلَّا لِسَاعَاتٍ مَعْدُودَاتٍ.
كُنْتُ أَسْتَيْقِظُ، وَإِذَا أَشْعَلْتُ الضَّوْءَ وَأَمْسَكْتُ كِتَابًا، غَلَبَنِي النُّعَاسُ. وَإِنْ أَطْفَأْتُ الضَّوْءَ، وَأَلْقَيْتُ بِالكِتَابِ جَانِبًا، عُدْتُ إِلَى سَهَرٍ شَاقٍّ، ثَقِيلٍ، مُنْهَكِ الرُّوحِ.
فَصِرْتُ أَقْرَأُ بِصَوْتٍ عَالٍ.
وَفِي أَثْنَاءِ القِرَاءَةِ، لَمْ تُغْمِضْ عَيْنَايَ.
ذَاكَ التَّفْكِيرُ المُضْطَرِبُ، المُتَوَزِّعُ بَيْنَ الذِّكْرَيَاتِ وَالأَحْلَامِ وَالدَّوَائِرِ المُغْلَقَةِ مِنَ الأَلَمِ، حَوْلَ زَوَاجِي، وَابْنَتِي، وَحَيَاتِي، كَانَ لا يَنِي يَسْتَحْضِرُ “هَانَا”، مَرَّةً تِلْوَ الأُخْرَى.
كُنْتُ أَقْرَأُ مِنْ أَجْلِ “هَانَا”.
كُنْتُ أَقْرَأُ لَهَا بِصَوْتِي عَلَى أَشْرِطَةٍ مُسَجَّلَةٍ.
اِسْتَغْرَقَ إِرْسَالُ تِلْكَ الأَشْرِطَةِ أَشْهُرًا.
فِي البِدَايَةِ، لَمْ أَشَأْ أَنْ أُرْسِلَهَا مُتَفَرِّقَةً. أَرَدْتُ أَنْ أَنْتَهِيَ مِنْ تَسْجِيلِ “الأُودِيسَّا” كَامِلَةً، ثُمَّ أُرْسِلهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً.
ثُمَّ رَاوَدَنِي شَكٌّ: هَلْ سَتَجِدُ “هَانَا” فِي “الأُودِيسَّا” مَا يُسْعِدُهَا؟
فَأَخَذْتُ أُسَجِّلُ مَا تَلَاهَا، مِنْ قَصَصٍ لِشْنِيتْسْلَر وَتْشِيخُوف.
تَرَدَّدْتُ طَوِيلًا قَبْلَ أَنْ أَتَّصِلَ بِالمَحْكَمَةِ الَّتِي أَصْدَرَتْ حُكْمَهَا عَلَى “هَانَا”، لِأَسْتَعْلِمَ عَنْ مَكَانِ اعْتِقَالِهَا.
ثُمَّ أَخِيرًا، جَمَعْتُ كُلَّ شَيْءٍ: عُنْوَانَهَا فِي سِجْنٍ قَرِيبٍ مِنَ المَدِينَةِ الَّتِي حُوكِمَتْ فِيهَا، جِهَازَ التَّسْجِيلِ، الأَشْرِطَةَ، مُرَقَّمَةً عَلَى التَّوَالِي: مِنْ “تْشِيخُوف”، إِلَى “شْنِيتْسْلَر”، ثُمَّ إِلَى “هُومِيرُوس”.
وَأَخِيرًا، أَرْسَلْتُ الطَّرْدَ الَّذِي يَحْوِي جِهَازَ التَّسْجِيلِ وَالأَشْرِطَةَ كُلَّهَا.
لَقَدْ عَثَرْتُ مُؤَخَّرًا عَلَى الدَّفْتَرِ الَّذِي كُنْتُ أُسَجِّلُ فِيهِ مَا قَرَأْتُهُ لِـ”هَانَا” عَبْرَ السِّنِينَ.
“كَانَتِ العَنَاوِينُ الاثْنَا عَشْرَ الأُولَى مُدَوَّنَةً دُفْعَةً وَاحِدَةً وَبِوُضُوحٍ، لِأَنِّي بَدَأْتُ القِرَاءَةَ دُونَ تَرْتِيبٍ، ثُمَّ أَدْرَكْتُ أَنَّنِي لَنْ أَتَذَكَّرَ مَا قَرَأْتُهُ مِنْ دُونِ تَدْوِينٍ.”
وَأَمَّا العَنَاوِينُ التَّالِيَةُ، فَبَعْضُهَا مُؤَرَّخٌ، وَبَعْضُهَا لَا، وَلَكِنِّي أَعْلَمُ يَقِينًا: لَقَدْ أَرْسَلْتُ الحَلْقَةَ الأُولَى فِي عَامِهَا الثَّامِنِ مِنَ السِّجْنِ، وَالأَخِيرَةَ فِي عَامِهَا الثَّامِنِ عَشَرَ.
وَفِي ذَاكَ العَامِ، قُبِلَ طَلَبُ العَفْوِ الخَاصِّ بِهَا.
“كُنْتُ أَقْرَأُ لِـهَانَا كُلَّ مَا كُنْتُ أَرْغَبُ فِي قِرَاءَتِهِ لِنَفْسِي.”
فِي البِدَايَةِ، وَجَدْتُ صُعُوبَةً فِي أَنْ أُسَجِّلَ القِرَاءَةَ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ، وَأَنْ أُرَكِّزَ كَمَا أَفْعَلُ حِينَ أَقْرَأُ صَامِتًا، لِنَفْسِي.
وَلَكِنَّ هَذَا التَّحَفُّظَ تَرَاجَعَ مَعَ الوَقْتِ.
“العَيْبُ الوَحِيدُ فِي القِرَاءَةِ بِصَوْتٍ عَالٍ هُوَ أَنَّهَا تَسْتَغْرِقُ وَقْتًا أَطْوَلَ.”
وَلَكِنَّ الكَلِمَاتِ المَسْمُوعَةَ تَتَرَسَّخُ فِي الذَّاكِرَةِ أَكْثَرَ.
وَحَتَّى اليَوْمِ، مَا زِلْتُ أَسْتَعِيدُ بَعْضَ المَشَاهِدِ وَكَأَنَّهَا تُقْرَأُ الآنَ.
قَرَأْتُ لَهَا مَا كُنْتُ أَعْرِفُهُ وَأُحِبُّهُ مِنْ قَبْلُ، مِنْ قَصَصِ “كِيلَرْ” وَ”فُونتَانِه”، وَقَصَائِدِ “هَايْنِ” وَ”مُورِيكَه”.
وَلِفَتْرَةٍ، تَرَدَّدْتُ فِي أَنْ أُسَجِّلَ الشِّعْرَ بِصَوْتٍ عَالٍ.
وَلَكِنَّنِي اسْتَمْتَعْتُ فِي النِّهَايَةِ، وَحَفِظْتُ كَثِيرًا مِنْهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ.
وَلَا زِلْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أُرَدِّدَهَا حَتَّى اليَوْمِ.
إِنَّ عَنَاوِينَ الدَّفْتَرِ تَعْكِسُ ثِقَةً عَمِيقَةً بِالثَّقَافَةِ وَالتَّعْلِيمِ الرَّفِيعِ.
لَا أَذْكُرُ أَنَّنِي طَرَحْتُ عَلَى نَفْسِي سُؤَالًا عَنْ ضَرُورَةِ تَجَاوُزِ كَافْكَا، فْرِيش، جُونْسُون، بَاخْمَان، أَوْ لِينْز، إِلَى الأَدَبِ التَّجْرِيبِيِّ، ذَاكَ الَّذِي لَا أَجِدُ فِيهِ قِصَّةً، وَلَا أُحِبُّ شَخْصِيَّاتِهِ.
كَانَ مِنَ البَدِيهِيِّ لَدَيَّ أَنَّ الأَدَبَ التَّجْرِيبِيَّ لَا يُجَرِّبُ اللُّغَةَ، بَلْ يُجَرِّبُ القَارِئَ نَفْسَهُ.
وَهَذَا لَمْ نَكُنْ نَحْتَاجُهُ، لَا أَنَا، وَلَا هَانَا.
وَحِينَ بَدَأْتُ أَكْتُبُ بِنَفْسِي، قَرَأْتُ لَهَا مِنْ كِتَابَاتِي أَيْضًا.
كُنْتُ أُمْهِلُ نَفْسِي حَتَّى أَنْتَهِيَ مِنْ كِتَابَةِ المَسَوَّدَةِ بِخَطِّ يَدِي، ثُمَّ أُرَاجِعُ النُّسْخَةَ المَطْبُوعةَ.
وَحِينَ أَشْعُرُ أَنَّ العَمَلَ قَدْ نَضَجَ، أَبْدَأُ بِالقِرَاءَةِ.
وَأَثْنَاءَ القِرَاءَةِ، كُنْتُ أُحِسُّ صِدْقَ الإِحْسَاسِ فِي النَّصِّ.
فَإِنْ لَمْ يُصِبْ، رَجَعْتُ إِلَى المُرَاجَعَةِ، أَصْلَحْتُ كُلَّ مَا يَنْبَغِي إِصْلَاحُهُ، وَسَجَّلْتُ مِنْ جَدِيدٍ فَوْقَ القَدِيمِ.
وَلَكِنِّي لَمْ أَكُنْ أُحِبُّ ذَلِكَ.
كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أُنْهِيَ القِرَاءَةَ مِنْ أَوَّلِ مَرَّةٍ، أَنْ أَقْرَأَ لِهَانَا، لَهَا وَحْدَهَا، بِكَامِلِ تَرْكِيزِي، وَبِكُلِّ مَا أَمْلِكُهُ مِنْ خَيَالٍ نَقْدِيٍّ، وَمِنْ صِدْقٍ دَاخِلِيٍّ.
هَانَا كَانَتِ الجِهَةَ الَّتِي جَمَعْتُ لَهَا كُلَّ قُوَايَ، وَكُلَّ إِبْدَاعِي، وَكُلَّ وَجَعِي النَّائِمِ.
وَبَعْدَ ذَلِكَ، فَقَطْ بَعْدَ ذَلِكَ، كُنْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أُرْسِلَ المَخْطُوطَ إِلَى دَارِ النَّشْرِ.
لَمْ أُدْخِلْ فِي الأَشِرِطَةِ أَيَّ مُلَاحَظَاتٍ شَخْصِيَّةٍ، وَلَمْ أَذْكُرْ شَيْئًا عَنْ “هَانَا”، وَلَمْ أُحَدِّثْهَا عَنْ نَفْسِي.
كُنْتُ أَكْتَفِي بِقِرَاءَةِ العُنْوَانِ، وَاسْمِ المُؤَلِّفِ، ثُمَّ أَشْرَعُ فِي تِلَاوَةِ النَّصِّ.
وَحِينَ يَنْتَهِي، أَظَلُّ صَامِتًا لَحْظَةً، ثُمَّ أُغْلِقُ الكِتَابَ، وَأَضْغَطُ زِرَّ الإِيقَافِ.
فِي العَامِ الرَّابِعِ مِنْ تَوَاصُلِنَا، ذَلِكَ التَّوَاصُلِ الَّذِي تَنَاوَبَتْ فِيهِ الكَلِمَاتُ وَالصَّمْتُ، وَصَلَتْنِي مِنْهَا تَحِيَّةٌ.
قَالَتْ: يَا فَتَى، كَانَتِ القِصَّةُ الأَخِيرَةُ جَمِيلَةً جِدًّا. شُكْرًا. هَانَا.
كَانَتِ الوَرَقَةُ مُسَطَّرَةً، صَفْحَةً مُمَزَّقَةً مِنْ دَفْتَرِ كِتَابَةٍ، مُنْتَظِمَةً عَلَى نَحْوٍ أَنِيقٍ.
وَقَدْ كُتِبَتِ التَّحِيَّةُ فِي أَعْلَى الصَّفْحَةِ، تَمْلَأُ ثَلَاثَةَ أَسْطُرٍ، بِقَلَمِ حِبْرٍ أَزْرَقَ سَائِلٍ.
قَادَتْهُ “هَانَا” بِضَغْطٍ شَدِيدٍ، حَتَّى إِنَّ الحِبْرَ قَدْ تَسَرَّبَ إِلَى الجِهَةِ الأُخْرَى مِنَ الوَرَقَةِ.
وَكَذَلِكَ كَانَ العُنْوَانُ، قَدْ كُتِبَ بِقُوَّةٍ ظَاهِرَةٍ، وَانْعَكَسَتْ آثَارُ الكِتَابَةِ بِوُضُوحٍ عَلَى نِصْفَيِ الوَرَقَةِ المَطْوِيَّةِ فِي المُنْتَصَفِ.
لِلْوَهْلَةِ الأُولَى، قَدْ يَظُنُّ المَرْءُ أَنَّهَا كِتَابَةُ طِفْلٍ صَغِيرٍ، وَلَكِنَّ مَا افْتَقَرَ إِلَيْهِ الخَطُّ مِنَ البَرَاءَةِ وَاللِّيُونَةِ الطُّفُولِيَّةِ، كَانَ هَاهُنَا عُنْفًا وَمَشَقَّةً.
كَانَ جَلِيًّا ذَلِكَ الصِّرَاعُ الَّذِي خَاضَتْهُ “هَانَا” لِتُشَكِّلَ الحُرُوفَ، وَتَنْسُجَ الكَلِمَاتِ.
فَالْيَدُ الطُّفُولِيَّةُ تَمِيلُ إِلَى التَّشَتُّتِ، وَتَحْتَاجُ إِلَى تَوْجِيهٍ لِتَبْقَى عَلَى السَّطْرِ؛ أَمَّا يَدُ “هَانَا”، فَلَمْ تَكُنْ تَرْغَبُ فِي الذَّهَابِ إِلَى أَيِّ مَكَانٍ، وَكَانَتْ تُجْبِرُ نَفْسَهَا عَلَى دَفْعِ القَلَمِ دَفْعًا لِتَسْتَمِرَّ.
الخُطُوطُ الَّتِي صَاغَتِ الحُرُوفَ كَانَتْ تُكَرَّرُ مِرَارًا فِي كُلِّ طَلْعَةٍ وَهُبُوطٍ، قَبْلَ القَوْسِ وَالحَلْقَةِ.
وَكَانَ كُلُّ حَرْفٍ يُنْتَزَعُ انْتِزَاعًا، وَيَأْخُذُ مَيْلًا غَرِيبًا أَوْ وَضْعًا غَيْرَ مَأْلُوفٍ، وَغَالِبًا مَا كَانَ الطُّولُ وَالعَرْضُ غَيْرَ مُتَنَاسِبَيْنِ.
قَرَأْتُ تِلْكَ التَّحِيَّةَ، وَغَمَرَنِي فَرَحٌ خَالِصٌ وَابْتِهَاجٌ.
قُلْتُ فِي نَفْسِي: إِنَّهَا تَكْتُبُ، إِنَّهَا تَكْتُبُ!
كُنْتُ قَدْ قَرَأْتُ كُلَّ مَا تَيَسَّرَ لِي عَنِ الأُمِّيَّةِ، وَعَرَفْتُ كَمْ يُثْقِلُ العَجْزُ حَيَاةَ الإِنْسَانِ اليَوْمِيَّةَ، مِنْ إِيجَادِ طَرِيقٍ أَوْ عُنْوَانٍ، إِلَى اخْتِيَارِ طَبَقٍ مِنْ قَائِمَةِ الطَّعَامِ.
كُنْتُ أُدْرِكُ حَجْمَ الخَوْفِ الَّذِي يَسْكُنُ الأُمِّيَّ وَهُوَ يَتَّبِعُ أَنْمَاطًا رُوتِينِيَّةً ثَابِتَةً، وَالجُهْدَ الَّذِي يَبْذُلُهُ لِإِخْفَاءِ عَجْزِهِ عَنِ القِرَاءَةِ وَالكِتَابَةِ، ذَلِكَ الانْسِحَابَ البَطِيءَ مِنَ الحَيَاةِ الحَقِيقِيَّةِ.
الأُمِّيَّةُ عَجْزٌ عَنِ البُلُوغِ، عَنِ التَّمَكُّنِ. فَلَمَّا امْتَلَكَتْ “هَانَا” الشَّجَاعَةَ لِتَتَعَلَّمَ القِرَاءَةَ وَالكِتَابَةَ، خَطَتْ خُطْوَةً مِنَ الظُّلْمَةِ إِلَى النُّورِ، مِنَ العَجْزِ إِلَى القُدْرَةِ، كَانَتْ تِلْكَ خُطْوَةً تَنْوِيرِيَّةً بِكُلِّ مَا تَعْنِيهِ الكَلِمَةُ.
ثُمَّ نَظَرْتُ فِي خَطِّ يَدِهَا، وَرَأَيْتُ كَمَّ العَنَاءِ وَالمُكَابَدَةِ الَّتِي احْتَمَلَتْهَا لِتَكْتُبَ. شَعَرْتُ بِفَخْرٍ عَمِيقٍ بِهَا، وَفِي الوَقْتِ نَفْسِهِ، كَانَ فِي قَلْبِي حُزْنٌ شَفِيفٌ؛ حُزْنٌ عَلَى حَيَاتِهَا المُتَأَخِّرَةِ وَالمَهْدُورَةِ، عَلَى فُرَصٍ لَمْ تُمنَحْ، وَأَزْمِنَةٍ لَمْ تَنْتَظِرْ.
كُنْتُ أَتَسَاءَلُ: إِنْ فَاتَ الوَقْتُ المُنَاسِبُ، وَإِنْ تَأَخَّرَ الإِنْسَانُ فِي المُبَادَرَةِ، أَوْ حُرِمَ طَوِيلًا، فَهَلْ يَأْتِي المُتَأَخِّرُ وَقَدْ فَقَدَ قِيمَتَهُ، وَلَوْ بُذِلَ الجُهْدُ وَحَلَّ الفَرَحُ؟ أَمْ أَنَّ “التَّأَخُّرَ” لَا يُبْطِلُ المَعْنَى، وَأَنَّ هُنَاكَ فَقَطْ “تَأْخِيرًا”، وَهُوَ – عَلَى الأَقَلِّ – أَفْضَلُ مِنْ “عَدَمِ الحُدُوثِ”؟ لَا أَدْرِي.
بَعْدَ تِلْكَ التَّحِيَّةِ الأُولَى، بَدَأَتْ تَتَوَالَى التَّحَايَا دُونَ انْقِطَاعٍ. كَانَتْ رَسَائِلُهَا دَوْمًا وَجِيزَةً، كَلِمَاتُ شُكْرٍ، أَوْ أُمْنِيَةٌ، أَوْ طَلَبٌ لِلْمَزِيدِ مِنْ نَفْسِ الكَاتِبِ، وَرُبَّمَا لَا شَيْءَ أَكْثَرُ. أَحْيَانًا كَانَتْ تُلْقِي تَعْلِيقًا عَلَى كَاتِبٍ أَوْ قَصِيدَةٍ، أَوْ شَخْصِيَّةٍ رِوَائِيَّةٍ، أَوْ مُلَاحَظَةٍ مِنْ دَاخِلِ السِّجْنِ.
كانت تقولُ: «في الفِنَاءِ تزهرُ الشُّجيراتُ الصَّفراءُ بالفعل»، أو «أُحبُّ كَثرةَ العواصِفِ في هذا الصَّيف»، أو «مِنَ النَّافذةِ أرى الطُّيورَ تتجمَّعُ استعدادًا لِلطِّيرانِ نحوَ الجَنوبِ» — وغالبًا ما كانت رسائلُ «هانا» تنقُلُ إليَّ أوَّلَ مرَّةٍ وجودَ هذه الأشياءِ: الشُّجيراتِ الصَّفراءِ، عَواصِفِ الصَّيفِ، أسرابِ الطُّيورِ.
وكانت ملاحظاتُها الأدبيَّةُ دقيقةً في الغالِبِ، مِثلَ: «شْنيتسلَر يَنبَحُ، شتيفان تسفايغ كَلبٌ مَيِّت»، أو «كِيلَر يَحتاجُ إلى امرَأَةٍ»، أو «قَصائِدُ غُوتِه كَصُوَرٍ صَغيرَةٍ داخِلَ إطاراتٍ جَميلَةٍ»، أو «لينز يَكتُبُ حَتْمًا على الآلَةِ الكاتِبَةِ»
ولأنّها لم تَكُن تَعرِفُ شَيئًا عَنِ المُؤلِّفِينَ، أَفْتَرَضَتْ أَنَّهُم مُعَاصِرُونَ لَهَا، مَا لَمْ يَثبُتْ لَدَيْهَا غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ دَهِشْتُ، كَيْفَ يُمْكِنُ لِلْأَدَبِ القَدِيمِ أَنْ يُقْرَأَ كَأَنَّهُ كُتِبَ الْيَوْمَ، وَكَيْفَ يُمْكِنُ لِمَنْ جَهِلَ التَّارِيخَ أَنْ يَسْتَشْرِفَ بِبَصِيرَتِهِ أَحْوَالَ حَيَاةٍ فِي أَزْمِنَةٍ وَأَمَاكِنَ نَائِيَةٍ، كَأَنَّهُ كَانَ فِيهَا.
لَمْ أَكْتُبْ لَهَا قَطُّ، وَلَكِنَّنِي كُنْتُ أُواصِلُ الْقِرَاءَةَ عَلَيْهَا دَائِمًا.
حِينَ قَضَيْتُ عَامًا فِي أَمْرِيكَا، كُنْتُ أُرْسِلُ مِنْ هُنَاكَ أَشْرِطَةً مُسَجَّلَةً. وَفِي أَيَّامِ الإِجَازَةِ، أَوْ حِينَ يَسْتَغْرِقُنِي الْعَمَلُ، كَانَتْ تَمْضِي أَسَابِيعُ قَبْلَ أَنْ أُنْجِزَ الشَّرِيطَ التَّالِي؛ لَمْ أَضَعْ لِنَفْسِي وَتِيرَةً مُنْتَظِمَةً، فَقَدْ أَرْسَلْتُ أَحْيَانًا كُلَّ أُسْبُوعٍ، وَأُخْرَى كُلَّ أُسْبُوعَيْنِ، وَقَدْ تَطُولُ الْمُدَّةُ إِلَى ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةِ أَسَابِيعَ.
لَمْ يَشْغَلْنِي أَنَّ هَانَا، بَعْدَ أَنْ تَعَلَّمَتِ الْقِرَاءَةَ بِوَاسِطَةِ نَفْسِهَا، لَمْ تَعُدْ فِي حَاجَةٍ إِلَى أَشْرِطَتِي. كَانَ يُمْكِنُهَا أَنْ تَسْتَمْتِعَ بِالْقِرَاءَةِ وَحْدَهَا أَيْضًا. لَكِنَّ الْقِرَاءَةَ بِصَوْتٍ عَالٍ، كَانَتْ طَرِيقَتِي لِأَتَّصِلَ بِهَا، لِأُحَدِّثَهَا.
لَقَدِ احْتَفَظْتُ بِكُلِّ تَحِيَّاتِهَا.
كَانَ خَطُّهَا يَتَغَيَّرُ تَدْرِيجِيًّا؛ فَفِي الْبِدَايَةِ، كَانَتِ الْحُرُوفُ تَنْحَنِي بِصُعُوبَةٍ فِي اتِّجَاهٍ وَاحِدٍ، وَتُرَاعِي الْاِرْتِفَاعَ وَالْعَرْضَ بِحَذَرٍ. ثُمَّ شَيْئًا فَشَيْئًا، أَصْبَحَ الْخَطُّ أَسْهَلَ وَأَكْثَرَ ثِقَةً، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ نُعُومَةَ السَّلَاسَةِ؛ بَلْ كَانَ فِيهِ ذَلِكَ الْجَمَالُ الْجَافُّ، الصَّارِمُ، الَّذِي يُمَيِّزُ خُطُوطَ كِبَارِ السِّنِّ مِمَّنْ لَمْ يَكْتُبُوا كَثِيرًا فِي حَيَاتِهِمْ.
فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ، لَمْ أَكُنْ أُفَكِّرُ فِي أَنَّ هَانَا سَتَخْرُجُ يَوْمًا. كَانَ تَبَادُلُ التَّحِيَّاتِ وَالأَشْرِطَةِ أَمْرًا أَلِيفًا، وَهَانَا بِالنِسْبةِ لي كَانَتْ قَرِيبَةً وَبَعِيدَةً فِي آنٍ مَعًا، تَحْضُرُ بِطَرِيقَةٍ حُرَّةٍ، تَخْلُو مِنَ الْاِلْتِزَامِ، وَلَكِنَّهَا لَا تَخْلُو مِنَ الْحَنِينِ.
كَانَ يُمْكِنُنِي أَنْ أُبْقِيَ ذَلِكَ الْوَضْعَ مُسْتَمِرًّا إِلَى الأَبَدِ. أَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ رَاحَةً وَأَلْوَانًا لِلأَنَانِيَّةِ.
ثُمَّ وَصَلَنِي خِطَابٌ مِنْ مُدِيرَةِ السِّجْنِ. كَتَبَتْ فِيهِ:
“مُنْذُ سِنِينَ، وَالسَّيِّدَةُ شْمِيتْس تُبَادِلُكُمْ الْمُرَاسَلَاتِ، وَهَذَا هُوَ الاِتِّصَالُ الْوَحِيدُ الَّذِي تَمْلِكُهُ مَعَ الْعَالَمِ الْخَارِجِيِّ، وَلِذَلِكَ أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ، مَعَ أَنَّنِي لَا أَعْلَمُ مَدَى قُرْبِكُمْ مِنْهَا، أَوْ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ أَقَارِبِهَا أَوْ أَصْدِقَائِهَا.
فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ، سَتَتَقَدَّمُ السَّيِّدَةُ شْمِيتْس بِطَلَبِ عَفْوٍ مِنْ جَدِيدٍ، وَأُرَجِّحُ أَنْ تُوَافِقَ عَلَيْهِ لَجْنَةُ الْعَفْوِ. وَبِذَلِكَ، سَتَخْرُجُ قَرِيبًا بَعْدَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ عَامًا مِنَ السِّجْنِ.
بِالطَّبْعِ، يُمْكِنُنَا أَنْ نُوَفِّرَ لَهَا مَسْكَنًا وَعَمَلًا، أَوْ نُحَاوِلَ ذَلِكَ؛ وَلَكِنَّ الْعُثُورَ عَلَى عَمَلٍ فِي هَذَا السِّنِّ لَيْسَ بِالأَمْرِ الْهَيِّنِ، مَعَ أَنَّهَا لَا تَزَالُ فِي صِحَّةٍ جَيِّدَةٍ، وَتُبْدِي بَرَاعَةً فِي وَرْشَةِ الْخِيَاطَةِ الَّتِي نُدِيرُهَا.
وَمَعَ ذَلِكَ، فَمِنَ الأَفْضَلِ — بَدَلَ أَنْ نَتَحَمَّلَ نَحْنُ ذَلِكَ — أَنْ يَتَكَفَّلَ بِهِ أَقَارِبُهَا أَوْ أَصْدِقَاؤُهَا، لِيَكُونُوا بِقُرْبِهَا، يَدْعَمُونَهَا وَيُؤَازِرُونَهَا.
لَا يُمْكِنُكُمْ تَصَوُّرُ مِقْدَارِ الْوَحْدَةِ وَالْعَجْزِ الَّذِي يَشْعُرُ بِهِ مَنْ يَخْرُجُ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ. السَّيِّدَةُ شْمِيتْس تَسْتَطِيعُ أَنْ تَعْتَمِدَ عَلَى نَفْسِهَا إِلَى حَدٍّ مَا، وَيُمْكِنُهَا التَّكَيُّفُ بِوَحْدَتِهَا. يَكْفِي أَنْ تُوَفِّرُوا لَهَا مَسْكَنًا صَغِيرًا، وَعَمَلًا، وَأَنْ تَزُورُوهَا بَيْنَ الْحِينِ وَالآخَرِ فِي الأَسَابِيعِ وَالشُّهُورِ الأُولَى، وَأَنْ تَدْعُوهَا، وَتَهْتَمُّوا بِأَنْ تَتَلَقَّى الْمَعْلُومَاتِ عَنْ فُرَصِ الْجَمَاعَاتِ الْكَنَسِيَّةِ، وَمَرَاكِزِ تَعْلِيمِ الْكِبَارِ، وَغَيْرِهَا.
أَيْضًا، لَيْسَ مِنَ السَّهْلِ أَنْ تَخْرُجَ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ بَعْدَ هَذِهِ السِّنِينَ، لِتَذْهَبَ إِلَى السُّوقِ، أَوْ تُرَاجِعَ الدَّوَائِرَ، أَوْ تَدْخُلَ مَطْعَمًا. يَكُونُ كُلُّ ذَلِكَ أَهْوَنَ إِذَا كَانَ مَعَهَا أَحَدٌ.
لَقَدْ لاحَظْتُ أَنَّكُمْ لَا تَزُورُونَ السَّيِّدَةَ شْمِيتْس. لَوْ كُنْتُمْ تَزُورُونَهَا، لَمَا كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ، بَلْ كُنْتُ سَأَدْعُوكُمْ لِلِقَاءِ خِلَالَ إِحْدَى الزِّيَارَاتِ. أَمَّا الآنَ، فَلَا بُدَّ أَنْ تَزُورُوهَا قَبْلَ خُرُوجِهَا. أَرْجُو أَنْ تَمُرُّوا عَلَيَّ بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ.”
خَتَمَتِ الْخِطَابَ بِتَحِيَّاتٍ دَافِئَةٍ، لَمْ أَرَ فِيهَا تَوَجُّهًا شَخْصِيًّا، وَلَكِنْ أَحْسَسْتُ بِهَا صَادِقَةً، تَنْبُعُ مِنْ هَمٍّ حَقِيقِيٍّ وَعِنَايَةٍ مَحْسُوسَةٍ.
كُنْتُ قَدْ سَمِعْتُ عَنْهَا فِي مَا مَضَى؛ فَمُؤَسَّسَتُهَا كَانَتْ تُعَدُّ نَمُوذَجًا اسْتِثْنَائِيًّا، وَصَوْتُهَا كَانَ لَهُ وَقْعٌ فِي قَضَايَا إِصْلَاحِ السُّجُونِ. أَحْبَبْتُ خِطَابَهَا، لَكِنَّ مَا كَانَ فِي طَيَّاتِهِ لَمْ يُعْجِبْنِي.
كَانَ عَلَيَّ أَنْ أَبْحَثَ لَهَا عَنْ مَسْكَنٍ وَعَمَلٍ، وَفَعَلْتُ. أَصْدِقَاءٌ لِي كَانَتْ لَدَيْهِمْ شَقَّةٌ صَغِيرَةٌ فِي بَيْتِهِمْ، لَا يَسْتَخْدِمُونَهَا، وَلَا يُؤَجِّرُونَهَا، كَانُوا مُسْتَعِدِّينَ لِتَأْجِيرِهَا لِهَانَا بِثَمَنٍ رَمْزِيٍّ. وَالْخَيَّاطُ الْيُونَانِيُّ الَّذِي كُنْتُ أَذْهَبُ إِلَيْهِ أَحْيَانًا لِتَفْصِيلِ مَلَابِسِي، أَبْدَى رَغْبَتَهُ فِي تَشْغِيلِهَا، لِأَنَّ أُخْتَهُ الَّتِي كَانَتْ تُسَاعِدُهُ فِي الْمَتْجَرِ، رَجَعَتْ إِلَى بِلَادِهَا.
كُنْتُ قَدِ اهْتَمَمْتُ مُنْذُ فَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ، وَقَبْلَ أَنْ تَسْتَفِيدَ هَانَا، بِكُلِّ مَا تُقَدِّمُهُ الْجِهَاتُ الْكَنَسِيَّةُ وَالْمَدَنِيَّةُ مِنْ فُرَصٍ تَعْلِيمِيَّةٍ وَاجْتِمَاعِيَّةٍ.
وَلَكِنَّنِي كُنتُ أُؤَجِّلُ زِيَارَةَ “هانا”. وَبِمَا أَنَّهَا كَانَتْ، فِي نَفْسِ الوَقْتِ، قَرِيبَةً وَبَعِيدَةً، بِطَرِيقَةٍ حُرَّةٍ تَفُوقُ المَأْلُوفَ، لَمْ أَرَغَبْ فِي أَنْ أَقْتَرِبَ. كُنْتُ أَشْعُرُ أَنَّ مَا كَانَتْ تُمَثِّلُهُ فِي حَيَاتِي لا يُمْكِنُ لَهُ أَنْ يَبْقَى إِلَّا إِذَا ظَلَّتْ تِلْكَ المَسَافَةُ الحَقِيقِيَّةُ بَيْنَنَا قَائِمَةً.
كَانَ خَوْفِي، أَنْ يَكُونَ ذَاكَ العَالَمُ الصَّغِيرُ، الرَّقِيقُ، الآمِنُ، المُشَكَّلُ مِنَ التَّحِيَّاتِ وَالأَشْرِطَةِ، مُجَرَّدَ هَيَاكِلَ وَاهِيَةٍ، مَعْرُوضَةٍ لِلتَّكَسُّرِ، لَا تَحْتَمِلُ القُرْبَ الحَقِيقِيَّ. “كَيْفَ لَنَا أَنْ نَلْتَقِيَ وَجْهًا لِوَجْهٍ دُونَ أَنْ يَنْهَارَ كُلُّ مَا بَنَيْنَاهُ؟” لِذَلِكَ مَضَى العَامُ كَامِلًا وَأَنَا لَمْ أَزُرِ السِّجْنَ، وَلَمْ أَتَلَقَّ مِنْ مُدِيرَةِ السِّجْنِ شَيْئًا لِفَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ؛ رِسَالَةٌ وَحِيدَةٌ جَاءَتْنِي ردًّا عَلَى خَبَرِ الوَظِيفَةِ وَالسَّكَنِ الَّذَيْنِ كُنَّا نَنْتَظِرُهُمَا لِـ “هانا”. كَانَتْ تَتَوَقَّعُ أَنْ أَزُورَهَا وَأُحَدِّثَهَا، وَلَمْ تَفْهَمْ أَنَّنِي لَمْ أَكُنْ أُؤَجِّلُ الزِّيَارَةَ فَقَط، بَلْ أَكُنْ أَتَفَادَاهَا بِأَكْمَلِهَا.
وَلَكِن، فِي النِّهَايَةِ، تَقَرَّرَ أَنْ تُمنَحَ “هانا” العَفْوَ وَيُفْرَجَ عَنْهَا، فَاتَّصَلَتْ بِي المُدِيرَةُ وَقَالَتْ: “هَلْ يُمْكِنُكَ الحُضُورُ الآنَ؟”
“هانا سَتَخْرُجُ بَعْدَ أُسْبُوعٍ.”
فِي الأَحَدِ التَّالِي، ذَهَبْتُ لِزِيَارَتِهَا، وَهِيَ أَوَّلُ زِيَارَةٍ لِي إِلَى سِجْنٍ. فِي المَدْخَلِ، خَضَعْتُ لِلتَّفْتِيشِ، وَمَرَرْتُ بِعِدَّةِ أَبْوَابٍ تُفْتَحُ وَتُغْلَقُ، كَأَنَّهَا أَسْئِلَةٌ لَا تُجِيبُ. وَلكِنَّ المَبْنَى كَانَ جَدِيدًا، نَقِيًّا، وَفِي الدَّاخِلِ كَانَتِ الأَبْوَابُ مَفْتُوحَةً، وَالنِّسَاءُ يَتَحَرَّكْنَ بِحُرِّيَّةٍ.
فِي نِهَايَةِ المَمَرِّ، كَانَ بَابٌ يُفْضِي إِلَى فِنَاءٍ صَغِيرٍ، فِيهِ أَشْجَارٌ وَمَقَاعِدُ تَتَنَاثَرُ تَحْتَ ظِلِّ الكَسْتَنَاءِ. نَظَرْتُ حَوْلِي، وَأَشَارَتْ إِلَيَّ الحَارِسَةُ نَحْوَ مِقْعَدٍ قَرِيبٍ.
أَتِلْكَ هِيَ “هانا”؟ أَتَكُونُ تِلْكَ المَرْأَةُ الجَالِسَةُ عَلَى المِقْعَدِ “هانا”؟ شَعْرٌ رَمَادِيٌّ، وَجْهٌ تَنْحَتُهُ تَجَاعِيدُ طَوْلِيَّةٌ عَمِيقَةٌ فِي الجَبْهَةِ، وَالخُدُودِ، وَحَوْلَ الفَمِ، وَجَسَدٌ ثَقِيلٌ. كَانَتْ تَرْتَدِي ثَوْبًا أَزْرَقَ فَاتِحًا، يُحَاصِرُ جِسْمَهَا عِنْدَ الصَّدْرِ وَالبَطْنِ وَالفَخِذَيْنِ. يَدَاهَا فِي حِجْرِهَا تُمْسِكَانِ بِكِتَابٍ، وَلَكِنَّهَا لَمْ تَكُنْ تَقْرَأُ فِيهِ، بَلْ كَانَتْ تُحَدِّقُ، عَبْرَ نَظَّارَةِ القِرَاءَةِ، إِلَى امْرأَةٍ تُنَثِّرُ فُتَاتَ الخُبْزِ لِلطُّيُورِ.
ثُمَّ رَأَتْنِي. بَدَأَ وَجْهُهَا يَتَشَكَّلُ فِي مَزِيجٍ غَرِيبٍ مِنَ التَّوَقُّعِ وَالفَرَحِ وَالخَجَلِ. لَمَّا تَعَرَّفَتْ عَلَيَّ، لَمَعَ فِي عَيْنَيْهَا نُورٌ سَرِيعٌ، وَرَأَيْتُ نَظَرَتَيْ عينيهَا تَجُوبَانِ مَلامِحِي، ثُمَّ تَتَرَدَّدَانِ فِي بَحْثٍ مُؤْلِمٍ وَغَيْرِ وَاثِقٍ. وَشَاهَدْتُ نُورَ وَجْهِهَا يَخْفُتُ.
عِنْدَمَا وَصَلْتُ، ابْتَسَمَتْ لِي ابْتِسَامَةً وَدُودَةً، مُتْعَبَةً. قَالَتْ: “لَقَدْ كَبِرْتَ يَا صَغِيرِي.” فَجَلَسْتُ جَانِبَهَا وَأَمْسَكْتُ بِيَدَيْهَا.
كُنْتُ فِي السَّابِقِ أُحِبُّ رَائِحَتَهَا كَثِيرًا. كَانَتْ تَنْضَحُ بِالنَّظَافَةِ, غَسِيلٌ طَازَجٌ، مَلَابِسُ نَقِيَّةٌ، عَرَقٌ نَدِيٌّ، أَوْ رُبَّمَا مَحَبَّةٌ جَدِيدَةٌ. وَأَحْيَانًا، كَانَتْ تَضَعُ عِطْرًا لَا أَعْرِفُ اسْمَهُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ كَفِيلًا بِإِيقَاظِ كُلِّ شَيْءٍ فِيَّ.
وَتَحْتَ كُلِّ ذَلِكَ، كَانَتْ هُنَاكَ رَائِحَةٌ أُخْرَى، دَاكِنَةٌ، لَاذِعَةٌ، تَنْبُضُ بِمَا لَا يُقَالُ. كُنْتُ أَسْتَنْشِقُهَا كَحَيَوَانٍ فُضُولِيٍّ، أَبْدَأُ بِعُنُقِهَا وَكَتِفَيْهَا، أَغُوصُ فِي العَرَقِ الطَّازَجِ بَيْنَ صَدْرَيْهَا، حَيْثُ يَمْتَزِجُ بِعَرَقِ الإِبْطَيْنِ فَتَتَشَكَّلُ رَائِحَةٌ ثَقِيلَةٌ، تُحَاصِرُ الخَصْرَ وَالبَطْنَ، وَتَصِيرُ بَيْنَ الفَخِذَيْنِ نَغْمَةً فَاكِهِيَّةً تُثِيرُنِي. كُنْتُ أَشُمُّ سَاقَيْهَا وَقَدَمَيْهَا، حَيْثُ تَضْمَحِلُّ الرَّائِحَةُ وَتَبْقَى آثَارُ الصَّابُونِ أَوِ الجِلْدِ أَوِ التَّعَبِ.
ظَهْرُهَا وَذِرَاعَاهَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا عِطْرٌ، وَلَكِنْ كَانَتْ فِيهِمَا رَائِحَةُ الحَيَاةِ: حِبْرُ التَّذَاكِرِ، مَعْدَنُ الأَزْرَارِ، بَصَلٌ، سَمَكٌ، دُهْنٌ مَقْلِيٌّ، مَاءُ غَسِيلٍ، حَرَارَةُ مِكْوَاةٍ. وَعِنْدَمَا تُغْسَلُ يَدَاهَا، تَبْقَى تِلْكَ الرَّوَائِحُ، كَمَا يُقَالُ، “تَخْتَبِئُ”، وَلَكِنَّهَا تَعُودُ فِي آخِرِ النَّهَارِ، فِي نَفَسِ المَسَاءِ، فِي لَمْسَةِ العَوْدَةِ إِلَى البَيْتِ.
جَلَسْتُ جَانِبَ “هانا”، وَشَمَمْتُ رَائِحَةَ عَجُوزٍ. لَا أَعْرِفُ مِمَّ تَتَكَوَّنُ هَذِهِ الرَّائِحَةُ، لَكِنَّهَا تَمْلَأُ غُرَفَ الجَدَّاتِ وَدُورَ الرِّعَايَةِ كَـ “لَعْنَةٍ” نَاعِمَةٍ. وَكَانَتْ “هانا” صَغِيرَةً جِدًّا عَلَى ذَلِكَ.
اقْتَرَبْتُ أَكْثَرَ. شَعَرْتُ أَنَّنِي خَذَلْتُهَا مِنْ قَبْلُ، وَأَرَدْتُ الآنَ أَنْ أُصْلِحَ ذَلِكَ.
قُلْتُ: “أَنَا سَعِيدٌ لِأَنَّكِ سَتَخْرُجِينَ.”
فَقَالَتْ: “حَقًّا؟”
قلتُ: “نعم، وأنا سعيدٌ لأنكِ ستكونين قريبةً.”
حَدَّثتُها عنِ المَسكَنِ والعَمَلِ اللَّذَينِ وَجَدتُ لَهُما، عَنِ العُروضِ الثَّقافيَّةِ والاجتِماعيَّةِ في الحَيِّ، وعَن مَكتَبَةِ المَدينَةِ.
سَألتْني: هَل تَقرَأُ كثيرًا؟
أجبت: تَسيرُ الأُمورُ على ما يُرامُ. الاستِمتاعُ وأنا أَقرَأُ لَكَ هو الأجمَلُ .
نَظَرَتْ إِلَيَّ، وقالَتْ: هَل هذا يَعني أَنَّ هذا قَدِ انتَهَى الآنَ، أَلَيسَ كَذلك؟
قُلتُ: لِمَ يَجِبُ أَن يَنتَهِي؟
لكِنَّني لَم أَتَخَيَّل نَفسي أُحَضِّرُ أَشرِطَةَ تَسجيلٍ لَها، ولا أَلتَقِيها لِأَقرَأَ لَها.
كُنتُ سَعيدًا جِدًّا، ومُعجَبًا بِكَ لأَنَّكَ تَعَلَّمتَ القِراءَةَ. وكَم مِن رَسائِلَ جَميلَةٍ كَتَبتَها لي!
كانَ ذلِكَ حَقًّا صَحيحًا؛ فَقَد كُنتُ أُعجَبُ بِها وأَفرَحُ لأَنَّها كانَت تَقرَأُ وتَكتُبُ لي.
لكِنَّني شَعَرتُ بِأَنَّ إعجابي وفَرحَتي ضَئيلانِ مُقارنَةً بِما كَلَّفَها تَعلُّمُ القِراءَةِ والكِتابَةِ، وكَم كانا هَزيلَينِ حينَ لَم يَتمَكَّنا حتَّى مِن جَعلي أُجيبُها، أو أَزورُها، أو أَتَحَدَّثَ مَعَها.
لَقَد مَنَحتُ هانا مَكانًا صَغيرًا في حَياتي، مَكانًا مُهِمًّا لي، أَستَفيدُ مِنه وأَبذُلُ فيه جُهدًا، لكِنَّه لَم يَكُن لَهُ مَوضِعٌ في حَياتِها.
ولكِن لِماذا كانَ يَنبَغي لي أَن أَمنَحَها مَوضِعًا في حَياتي؟
كُنتُ أُقاوِمُ شُعورَ الذَّنبِ الَّذي يُراوِدُني حينَ أُفَكِّرُ أَنَّني قَلَّلتُ مِن شَأنِها إلى مُجرَّدِ زاوِيَةٍ صَغيرَةٍ.
سَألتْني: “هَل فَكَرتَ قَبلَ المُحاكَمَةِ فيما نُوقِشَ فيها؟ أَعني، هَل فَكَرتَ حينَ كُنَّا مَعًا، حينَ كُنتَ تقرَأُ لِي؟”
قُلتُ: “هَل يَشغَلُ بَالَكِ ذلِكَ كَثيرًا؟”
لكِنَّها لَم تَنتَظِر رَدِّي، وأَضافَتْ: “لَطالَما شَعَرتُ بِأَنَّ لا أَحَدَ يَفهَمُني، بِأَنَّ لا أَحَدَ يَعرِفُ مَن أَنا، وما الَّذي دَفَعَني إلى ذلِكَ وهذا. وتَعلَم، إذا لَم يَفهَمكَ أَحَدٌ، فَلا أَحَدَ يَستَطيعُ أَن يُحاسِبَك. حتَّى المَحكَمَةُ لَم تَستَطِع أَن تُحاسِبَني.
لكِنَّ الأَمواتَ يَستَطيعونَ ذلِكَ. هُم يَفهَمونَ. ولا يَحتاجونَ حتَّى أَن يَكونوا مَوجودينَ حينَها، ولكِن إِن كانوا، فَهُم يَفهَمونَ جَيِّدًا. كانوا كَثيرًا مَعي هُنا في السِّجنِ. كانوا يَأتونَ كُلَّ لَيلَةٍ، سَواءٌ أَردتُهُم أَم لا.
قَبلَ المُحاكَمَةِ، كُنتُ أَستَطيعُ أَن أَطرُدَهُم إن أَقبَلوا” .
انتَظَرَتْ إن كُنتُ سَأَرُدُّ، لكِن لَم يَخطُر بِبالي شَيءٌ.
كُنتُ أُريدُ في البِدايَةِ أَن أَقولَ إِنَّني لا أَستَطيعُ الطَّردَ، لكِن هذا لَم يَكُن صَحيحًا؛ فَالطَّردُ قد يَكونُ أَيضًا أَن تَضعَهُ في زاوِيَةٍ.
سَألتُها: “هَل أَنتِ مُتَزَوِّجَةٌ؟”
قالَتْ: :كُنتُ كَذلِكَ. جِيرتْرود وأنا انفَصَلنا مُنذُ سِنِينَ عَديدَةٍ، وابنَتُنا تَعيشُ في المَدرَسَةِ الدَّاخِلِيَّةِ؛ وأَتَمَنَّى أَلَّا تَبقَى هُناكَ لِلسَّنواتِ الدِّراسِيَّةِ الأَخيرَةِ، بَل تَأتي لِلعَيشِ مَعي” .
انتَظَرتُ إن كانَت سَتَقولُ شَيئًا أو تَسأَلُ، لكِنَّها صَمَتَتْ.
قُلتُ: “سَآتي لِأَخذِكَ الأُسبوعَ المُقبِلَ، أَلَيسَ كَذلِكَ؟”
قالَتْ: “نَعَم”
ابتَسَمَت و قُلتُ: “بِهُدوءٍ تامٍّ، أَم يُمكِنُ أَن يَكونَ الأَمرُ أَكثَرَ صَخَبًا وفَرَحًا قَليلًا؟”
أَجَابت: “بِهُدوءٍ تامٍّ” .
قُلتُ: “حَسَنًا، سَآتي لِأَخذِكَ بِهُدوءٍ، بلا موسيقَى ولا شَامبانيا”.
وَقَفتُ، وَوَقَفتْ هي أَيضًا. تَبادَلنا النَّظَراتِ.
رَنَّ الجَرَسُ مَرَّتَينِ، ودَخَلَتِ النِّساءُ الأُخرياتُ إلى البَيتِ.
مَرَّةً أُخرى، استَكشَفَتْ عَيناها وَجهي.
احتَضَنتُها، لكِنَّها لَم تُشعِرني كَما يَنبَغي.
قالَتْ لي: “وَداعًا، أَيُّها الفَتى الصَّغيرُ” .
قُلتُ: ” وأَنتِ كَذلِكَ” .
وهَكَذا وَدَّعنا بَعضَنا، قَبلَ أَن نَفتَرِقَ داخِلَ البَيتِ.
كنت الأُسبوعُ المُقبِلُ مَشغولًا إلى الغايَةِ.
لا أَتَذَكَّرُ إن كُنتُ أَعمَلُ تَحتَ ضَغطِ الوَقتِ على المُحاضَرَةِ الَّتي أُعِدُّها، أَم وَضَعتُ نَفسي تَحتَ ضَغطِ العَمَلِ والنَّجاحِ.
الفِكرَةُ الَّتي بَدَأتُ بِها العَمَلَ على المُحاضَرَةِ لَم تَكُن مُجدِيَةً.
وعِندَما بَدَأتُ أُراجِعُها، وَجَدتُ سِلسِلَةً مِنَ الصُّدَفِ حَيثُ كُنتُ أَتَوَقَّعُ وُجودَ مَعنًى ونِظامٍ.
بَدلًا مِنَ الرِّضى، واصَلتُ البَحثَ، مُستَعجِلًا، مُتَشبِّثًا، خائِفًا، كَأَنَّ تَصَوُّري عنِ الواقِعِ خاطِئٌ، وكُنتُ مُستَعِدًّا لِتَلوينِ النَّتائِجِ، أو المُبالَغَةِ فيها، أو التَّقليلِ مِن شَأنِها.
دَخَلتُ حالَةً مِنَ القَلَقِ الغَريبِ، أَنامُ إذا ذَهَبتُ مُتَأَخِّرًا لِلنَّومِ، لكِن أَستَيقِظُ بَعدَ ساعاتٍ قَليلَةٍ مُتيقِّظًا، حتَّى أُقَرِّرَ القِيامَ لِلقِراءَةِ أو الكِتابَةِ.
قُمتُ بِكُلِّ ما يَتَطَلَّبُهُ تَجْهِيزُ سَكَنِ هانا لِلْحُرِّيَّةِ.
جَهَّزتُ شَقَّتَها بِأَثاثٍ “إيكيا” وَبَعْضِ القِطَعِ القَدِيمَةِ، وَأَبْلَغْتُ الخَيَّاطَ اليُونانِيَّ، وَجَدَّدْتُ مَعْلُومَاتِي عَنِ العُرُوضِ الثَّقَافِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ فِي الحَيِّ، وَعَن مَكْتَبَةِ المَدِينَةِ.
اشْتَرَيْتُ المُؤَنَ، وَرَتَّبْتُ الكُتُبَ عَلَى الرُّفُوفِ، وَعَلَّقْتُ اللَّوْحَاتِ.
دَعَوْتُ بُسْتَانِيًّا لِيَعْتَنِيَ بِالحَدِيقَةِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي تُحِيطُ بِتِرَاسِ غُرْفَةِ المَعِيشَةِ.
كُلُّ هَذَا فَعَلْتُهُ بِانْدِفَاعٍ وَعَصَبِيَّةٍ؛ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ كَثِيرًا جِدًّا عَلَيَّ.
لَكِنَّهُ كَانَ كَافِيًا لِيَصْرِفَ ذِهْنِي عَنْ زِيَارَةِ هانا.
وَلَكِنْ أَحْيَانًا، حِينَ كُنْتُ أَقُودُ السَّيَّارَةَ، أَوْ أَجْلِسُ مُتْعَبًا عَلَى المَكْتَبِ، أَوْ أَبْقَى مُسْتَيْقِظًا فِي الفِرَاشِ، أَوْ أَتَوَاجَدُ فِي شَقَّةِ هانا، كَانَ التَّفْكِيرُ بِهَا يَسْتَحْوِذُ عَلَيَّ، وَتَثُورُ الذِّكْرَيَاتُ.
كُنْتُ أَرَاهَا عَلَى المَقْعَدِ، تُحَدِّقُ بِي، وَأَرَاهَا فِي المِسْبَحِ، تَلْتَفِتُ نَحْوِي، وَأَشْعُرُ مُجَدَّدًا بِأَنِّي خُنْتُهَا، وَأَنِّي مَدِينٌ لَهَا، وَأَحْتَجُّ ضِدَّ هَذَا الشُّعُورِ، وَأَتَّهِمُهَا، وَأَجِدُ كَيْفَ سَرَقَتْ مِنْ ذَنْبِهَا بِطَرِيقَةٍ سَهْلَةٍ وَرَخِيصَةٍ.
أَنْ تَجْعَلَ الأَمْوَاتَ وَحْدَهُم مَنْ يُطَالِبُونَ بِالمُحَاسَبَةِ، وَأَنْ تُخْتَزَلَ الذُّنُوبُ وَالكَفَّارَاتُ فِي نَوْمٍ سَيِّئٍ وَأَحْلَامٍ كَابُوسِيَّةٍ — فَأَيْنَ يَكُونُ مَكَانُ الأَحْيَاءِ؟
وَلَكِنَّ مَا كَانَ يَخْتَلِجُ فِي دَاخِلِي لَمْ يَكُنِ الأَحْيَاءَ، بَلْ كُنْتُ أَنَا بِنَفْسِي. أَلَيْسَ لِي الحَقُّ أَنْ أُطَالِبَ بِالمُحَاسَبَةِ؟ أَيْنَ مَكَانِي فِي هَذِهِ المَوَازِينِ؟
في فترةِ الظُّهرِ، وقبلَ أن أذهبَ لأخذِها، اتَّصلتُ بالسِّجنِ. كان حديثي الأوَّلَ مع المديرةِ:
أنا مُتوَتِّرٌ قليلًا. كما تعلمين، عادةً لا يُفرَجُ عن أحدٍ بعد سجنٍ طويلٍ دون أن يمضيَ ساعاتٍ أو أيّامًا في الخارجِ أوَّلًا. السيدةُ شميت رفضت ذلك. لن يكونَ غدًا سهلًا عليها .
ثمَّ تواصَلتُ مع هانا.
“فكِّري فيما سنفعلُ غدًا. هل تُفضِّلين الذهابَ مباشرةً إلى بيتِكِ، أم نذهبُ إلى الغابةِ أو إلى النهرِ؟”
“سأفكِّرُ في الأمرِ. أنتَ ما زلتَ تُخطِّطُ كثيرًا، أليس كذلك؟”
كان في كلامِها استثارةٌ تُشعلُ سَخَطي، كما لو قالت لي صديقاتي أحيانًا:
“أنتَ لا تتصرَّفُ بعفويَّةٍ كافيةٍ، وتعملُ بالعقلِ أكثرَ من القلبِ” .
لاحظتُ في صوتِها خفَّةَ ضَحكةٍ، وقالتْ بنبرةٍ لطيفةٍ:
“لا تَغضبْ، يا صغيري، لم أَقصِدْ ذلك بسوءٍ” .
كنتُ قد التقيتُ هانا على المقعدِ امرأةً مسنَّةً. بدتْ كهلةً، وكانت رائحتُها تُشبهُ رائحةَ الشُّيوخِ. لكنَّني لم أُعِرْ صوتَها اهتمامًا، إذ ظلَّ شابًّا في كلِّ حينٍ.
وَفِي صَبَاحِ اليَوْمِ التَّالِي، كَانَتْ هَانَا قَدْ مَاتَتْ. شَنَقَتْ نَفْسَهَا عِنْدَ بُزُوغِ الفَجْرِ.
عِنْدَمَا وَصَلْتُ، قَادُونِي إِلَى المُدِيرَةِ.
رَأَيْتُهَا لِلْمَرَّةِ الأُولَى، امْرَأَةً صَغِيرَةً نَحِيلَةً ذَاتَ شَعْرٍ أَشْقَرَ دَاكِنٍ وَنَظَّارَةٍ. بَدَتْ عَادِيَّةً، حَتَّى بَدَأَتْ تَتَكَلَّمُ بِقُوَّةٍ وَدِفْءٍ، بِنَظْرَةٍ صَارِمَةٍ، وَبِحَرَكَاتِ يَدَيْهَا وَذِرَاعَيْهَا الحَازِمَةِ.
سَأَلَتْنِي عَنْ مُكَالَمَتِي الهَاتِفِيَّةِ مَسَاءَ البَارِحَةِ، وَعَنْ لِقَائِنَا قَبْلَ أُسْبُوعٍ: “هَلْ كُنْتَ تَتَوَقَّعُ شَيْئًا؟ هَلْ كُنْتَ تَخَافُ؟”
أَجَبْتُ بِالنَّفْيِ، مَعَ أَنَّنِي كُنْتُ أُكَذِّبُ نَفْسِي حِينَذَاكَ.
” مِنْ أَيْنَ تَعْرِفَانِ بَعْضَكُمَا؟”
“كُنَّا نَسْكُنُ قَرِيبًا مِنْ بَعْضِنَا” .
نَظَرَتْ إِلَيَّ بِتَدْقِيقٍ، وَعَرَفْتُ أَنَّنِي يَجِبُ أَنْ أَقُولَ المَزِيدَ:
” كُنَّا نَسْكُنُ قَرِيبًا، وَتَعَرَّفْنَا وَتَآلَفْنَا .
كُنْتُ شَابًّا طَالِبًا حِينَ حَضَرْتُ المُحَاكَمَةَ الَّتِي أُدِينَتْ فِيهَا”.
” لِمَاذَا أَرْسَلْتَ لِلسَّيِّدَةِ شْمِيدْت أَشْرِطَةَ التَّسْجِيلِ؟ ”
صَمَتُّ لَحْظَةً.
” كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهَا أُمِّيَّةٌ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ كَيْفَ عَرَفْتَ؟ ”
هَزَزْتُ كَتِفَيَّ، غَيْرَ مُبَالٍ بِعِلَاقَةِ قِصَّتِي مَعَ هَانَا بِهَذَا السُّؤَالِ.
كَانَتْ دُمُوعِي تَكَادُ تَغْمُرُ صَدْرِي وَحَلْقِي، وَشَعَرْتُ بِوَحْشَةِ الخَوْفِ مِنْ أَنْ تَعْجِزَ كَلِمَاتِي عَنِ الخُرُوجِ. لَمْ أَرْغَبْ فِي البُكَاءِ أَمَامَهَا، وَلَكِنْ رُبَّمَا لَاحَظَتْ ذَلِكَ.
” تَعَالَ مَعِي، سَأُرِيكَ زِنْزَانَةَ السَّيِّدَةِ شْمِيدْت .”
كَانَتْ تَسِيرُ أَمَامِي، وَتَدُورُ أَحْيَانًا لِتُخْبِرَنِي أَوْ لِتَشْرَحَ شَيْئًا.
” هُنَا كَانَ مَوْقِعُ الهُجُومِ الإِرْهَابِيِّ، وَهُنَا كَانَتْ وَرْشَةُ الخِيَاطَةِ الَّتِي عَمِلَتْ فِيهَا هَانَا، وَهُنَا نَفَّذَتِ اعتِصَامًا طَالَبَتْ فِيهِ بِتَعْدِيلِ إِلْغَاءِ مِيزَانِيَّةِ المَكْتَبَةِ، وَهُنَا مَكْتَبَةُ السِّجْنِ .”
تَوَقَّفَتْ عِنْدَ الزِّنْزَانَةِ.
” السَّيِّدَةُ شْمِيدْت لَمْ تُغَيِّرْ شَيْئًا. هَذِهِ هِيَ الزِّنْزَانَةُ كَمَا عَاشَتْ فِيهَا “.
سَرِيرٌ، خِزَانَةٌ، طَاوِلَةٌ وَكُرْسِيٌّ، وَعَلَى الحَائِطِ فَوْقَ الطَّاوِلَةِ رَفٌّ، وَفِي الزَّاوِيَةِ خَلْفَ البَابِ مَغْسَلَةٌ وَمِرْحَاضٌ. بَدَلَ النَّافِذَةِ كَانَتْ هُنَاكَ كُتَلٌ زُجَاجِيَّةٌ.
كَانَتِ الطَّاوِلَةُ فَارِغَةً إِلَّا مِنْ بَعْضِ الأَشْيَاءِ.
عَلَى الرَّفِّ، كُتُبٌ، وَمُنَبِّه، وَدُمْيَةُ دُبٍّ مِنَ القُماشِ، وَكُوبَان، وَقَهْوَةٌ بُودْرَة، وَعُلَبُ شَاي، وَجِهَازُ تَسْجِيلِ الأَشْرِطَةِ، وَفِي قِسْمَيْنِ مُنْخَفِضَيْنِ، الأَشْرِطَةُ الَّتِي كُنْتُ قَدْ سَجَّلْتُهَا لَهَا.
لَيْسَتْ كُلُّهَا هُنَا .
تَابَعَتِ المُدِيرَةُ بِنَظْرَةٍ تُثْبِتُ مَا كُنْتُ أَرَاهُ.
” كَانَتِ السَّيِّدَةُ شْمِيدْت دَائِمًا تُعِيرُ بَعْضَ الأَشْرِطَةِ إِلَى خِدْمَةِ دَعْمِ السُّجَنَاءِ المَكْفُوفِينَ” .
اقْتَرَبْتُ مِنَ الرَّفِّ.
بْرِيمُو لِيفِي، إِيلِي فِيزِل، تَادْيُوس بُورُوسْكِي، جَان أَمِيرِي — أَدَبُ الضَّحَايَا بِجَانِبِ مذكِّرَاتِ رُودُولْف هُوس، وَتَقْرِيرُ حَنَّة آرِنْدْت عَنْ أَيْخْمَان فِي القُدْس، وَأَدَبٌ عِلْمِيٌّ عَنْ مَعْسَكَرَاتِ الاعْتِقَالِ.
“هَلْ قَرَأَتْ هَانَا هَذِهِ الكُتُبَ؟ ”
“كَانَتْ تَطْلُبُهَا بِحِرْص. مُنْذُ عِدَّةِ سَنَوَاتٍ، كَانَ عَلَيَّ أَنْ أُوَفِّرَ لَهَا بَبْلِيُوغْرَافْيَا عَامَّةً لِمَعْسَكَرَاتِ الاعْتِقَالِ، ثُمَّ قَبْلَ سَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ طَلَبَتْ كُتُبًا عَنِ النِّسَاءِ فِي المعسكرِ، السَّجِينَاتِ وَالحَارِسَاتِ. كَتَبْتُ إِلَى مَعْهَدِ التَّارِيخِ المُعَاصِرِ وَحَصَلْتُ عَلَى بَبْلِيُوغْرَافْيَا مُتَخَصِّصَةٍ. بَعْدَ أَنْ تَعَلَّمَتِ القِرَاءَةَ، بَدَأَتْ تَغُوصُ فِي بُحُورِ كُتُبِ المعسكرِ”.
فَوْقَ السَّرِيرِ، عَلَّقَتْ صُوَرًا صَغِيرَةً وَمُلَاحَظَاتٍ.
رَكَعْتُ عَلَى السَّرِيرِ وَقَرَأْتُ.
كَانَتْ اقْتِبَاسَاتٌ، قَصَائِدُ، أَخْبَارٌ صَغِيرَةٌ، وَوَصَفَاتُ طَبْخٍ، كَتَبَتْهَا هَانَا أَوْ جَمَعَتْهَا مِنَ الصُّحُفِ وَالمَجَلَّاتِ.
“يَطْلِقُ الرَّبِيعُ رِبَاطَهُ الأَزْرَقَ
يَرْتَعِشُ مَرَّةً أُخْرَى فِي الأَفْقِ”،
“ظِلُ السُّحُبِ يَهْرُبُ فَوْقَ الحُقُولِ” —
كَانَتِ الأَشْعَارُ تَمْتَلِئُ بِفَرَحِ الطَّبِيعَةِ وَحُنِينِهَا، وَالصُّوَرُ تَصِفُ غَابَاتٍ مُشْرِقَةً في الْرَبِيعِ، مَرَاعِي مَلَوَّنَةً بِالْأَزْهَارِ، أَوْرَاقًا خَرِيفِيَّةً، وَأَشْجَارًا وَحِيدَةً، وَصَفْصَافًا عِنْدَ الْجَدْوَلِ، وَشَجَرَةَ كَرَزٍ تَحْمِلُ حَبَّاتٍ نَاضِجَةً حَمْرَاءَ، وَكَسْتَنَاءً تَلْتَهِمُ الأَلْوَانَ الصَّفْرَاءَ وَالْبُرْتُقَالِيَّةَ فِي الْخَرِيفِ.
صُورَةٌ فِي جَرِيدَةٍ تُظْهِرُ رَجُلَيْنِ، كَبِيرٍ وَشَابٍ، بِلِبَاسٍ غَامِقٍ، يُصَافِحَانِ بَعْضَهُمَا، وَفِي الرَّجُلِ الشَّابِّ الَّذِي يَنْحَنِي لِلْكَبِيرِ تَعَرَّفْتُ عَلَى نَفْسِي. كُنْتُ طَالِبَ الثَّانَوِيَّةِ وَتَلَقَّيْتُ جَائِزَةً مِنَ الرَّئِيسِ فِي حَفْلِ التَّخَرُّجِ.
كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ فِرَارِ هَانَا مِنَ الْمَدِينَةِ بِوَقْتٍ طَوِيلٍ.
هَلْ كَانَتْ هِيَ، الَّتِي لَمْ تَكُنْ تَقْرَأُ، مُشْتَرِكَةً فِي الصَّحِيفَةِ الْمَحَلِّيَّةِ الَّتِي ظَهَرَتْ فِيهَا الصُّورَةُ؟ عَلَى أَيِّ حَالٍ، لَا بُدَّ أَنَّهَا بَذَلَتْ جُهْدًا لِتَصِلَ إِلَى الصُّورَةِ وَحصلت عَلَيْهَا. وَخِلَالَ هَذَا الْعَمَلِ، هَلْ كَانَتْ تَحْمِلُهَا مَعَهَا؟
شَعَرْتُ بِالدُّمُوعِ تَرْتَفِعُ فِي صَدْرِي وَحَلْقِي.
تَعَلَّمَتْ مَعَكَ الْقِرَاءَةَ. اسْتَعَارَتْ مِنَ الْمَكْتَبَةِ الْكُتُبَ الَّتِي قَرَأَتْهَا عَلَى الشَّرِيطِ، وَتَبَعَتْ كَلِمَةً كَلِمَةً، وَجُمْلَةً جُمْلَةً مَا سَمِعَتْهُ. وَجِهَازُ الشَّرِيطِ لَمْ يَتَحَمَّلْ تَعْدِيدَ التَّشْغِيلِ وَالإِيقَافِ وَالإِعَادَةِ، فَيتَعَطَّل دَائِمًا، وَكَانَ يُصلَحُ دَائِمًا، وَبِسَبَبِ الْحَاجَةِ إِلَى الإِذْنِ لِذَلِكَ، عَرَفْتُ مَا تَفْعَلُهُ السَّيِّدَةُ شْمِيدْت.
فِي الْبِدَايَةِ، لَمْ تُرِدْ أَنْ تُخْبِرَ، وَلَكِنَّ عِنْدَمَا بَدَأَتْ تَكْتُبُ وَطَلَبَتْ مِنِّي كِتَابًا بِالْخَطِّ الْمُتَّصِلِ، لَمْ تَعُدْ تَخَفْ ذَلِكَ. كَانَتْ فَخُورَةً بِمَا أَحْرَزَتْ، وَأَرَادَتْ أَنْ تُبَارِكَ فَرَحَهَا.
خِلالَ كَلاَمِهَا، كُنْتُ رَاكِعًا أَمَامَ الصُّوَرِ وَالأَوْرَاقِ، أُقاوِمُ دُمُوعِي بِصَمْتٍ. وعندما استدرتُ وجلستُ عَلَى السَّرِيرِ، قالتْ: “كَانَتْ تَرْجُو أَنْ تَكْتُبَ لَهَا. كَانَتْ تَتَلَقَّى رَسَائِلَكَ فَقَطْ، وَعِنْدَ توِزْيعِ الْبَرِيدِ، كَانَتْ تَسْأَلُ: ‘لا رِسَالَةَ لِي؟’ وَلَمْ تَقْصِدْ بِالرِّسَالَةِ الطَّرْدَ الَّذِي جَاءَ بِالشَّرِيطِ.”
سَكَتُّ، عَاجِزًا عَنْ النُّطْقِ، خَائِفًا أَنْ تَخْذُلَنِي كَلِمَاتِي وَتَسْرِقَ مِنِّي الصَّبْرَ.
تَجَهَّزَتْ وَتَوَجَّهَتْ نَحْوَ الرَّفِّ، أَخَذَتْ عُلْبَةَ شَايٍ، وَجَلَسَتْ جَانِبِي، ثُمَّ أَخْرَجَتْ وَرَقَةً مُطَوَّاةً مِنْ جَيْبِ بَدْلَتِهَا. قَالَتْ: “تَرَكَتْ لِي رِسَالَةً، نَوْعًا مِنَ الوَصِيَّةِ. سَأَقْرَأُ لَكَ مَا يَهُمُّكَ.” فَفَتَحَتِ الورقةَ، وَنَطَقَتْ بِصَوْتٍ هَادِئٍ: ” فِي عُلْبَةِ الشَّايِ اللَّيْلَكِيَّةِ بَقِيَ بَعْضُ المالِ. أَعْطِهِ لِمِيخَائِل بَيرغ؛ فَلْيُعْطِهِ مَعَ السَّبْعَةِ آلاَفِ مَارْكٍ المُودَعَةِ فِي الصَّنْدُوقِ، لِابْنَتِهِ الَّتِي نَجَتْ هِي وَوَالِدَتُهَا مِنْ حَرِيقِ الكَنِيسَةِ. هِيَ الَّتِي تَقْرِّرُ مَا يَجِبُ فِعْلُهُ بِهَذِهِ المَبالِغِ. وَقُل لَهُ إِنِّي أُحَيِّيهِ. ”
لَمْ تَتْرُكْ لِي رِسَالَةً شَخْصِيَّةً. تَسَاءَلْتُ: هَلْ أَرَادَتْ أَنْ تُؤْلِمَنِي؟ أَمْ كَانَتْ تُعَاقِبُنِي بِصَمْتٍ؟ أَمْ هِيَ نَفْسُهَا مُتْعَبَةٌ جِدًّا حَتَّى اقْتَصَرَتْ عَلَى الأَسَاسِياتِ؟
سَأَلْتُهَا، وَبِصَبْرٍ، انْتَظَرْتُ حَتَّى اسْتَطِيعَ النُّطْقَ: “كَيْفَ كَانَتْ عَلَى مَرِّ السِّنِينَ؟ وَكَيْفَ كَانَتْ فِي أَيَّامِهَا الأَخِيرَةِ؟”
أَجَابَتْ:
“عَاشَتْ هُنَا سَنَوَاتٍ طَوِيلَةً كَأَنَّهَا فِي دِيرٍ. كَأَنَّهَا انْعَزَلَتْ طَوْعًا، وَخَضَعَتْ لِقَواعِدِ المَكَانِ بِارْتِيَاحٍ. وَكَأَنَّ العَمَلَ الرَّتِيبَ القَلِيلَ التَّجَدُّدِ كَانَ لَدَيْهَا تَأَمُّلًا وَسَكِينَةً. بَيْنَ النِّسَاءِ الأُخريات، اللَّوَاتِي كَانَتْ لَطِيفَةً مَعَهُنَّ وَمُتَحَفِّظَةً فِي نَفْسِ الوَقْتِ، كَانَتْ كريمَةً جِدًّا. وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، كَانَ لَهَا سُلْطَةٌ، وَكَانُوا يَسْتَشِيرُونَهَا عِنْدَ المُشْكِلَاتِ، وَعِنْدَمَا تتَدَخَّل فِي نِزَاعٍ، يكونُ قَرَارُهَا مَقْبُولًا.
تَمَتَّعَتْ بِمَكانَتِهَا حَتَّى تَخَلَّتْ عَنْ نَفْسِهَا قَبْلَ بَعْضِ السِّنِينَ. كَانَتْ دَوْمًا تُحَافِظُ عَلَى نَحْوِ قَوَامِهَا القَوِيِّ، وَرَغْمَ قَدَمَيْهَا النَّحِيلَتَيْنِ، كَانَتْ نَظَافَتُهَا مُهَذَّبَةً بِشكل مُبالَغٍ فيه. أَمَّا الآنَ، فَبَدَأَتْ تَأْكُلُ كَثِيرًا، وَنَادِرًا مَا تَغْتَسِلُ، فَأَصْبَحَتْ سَمِينَةً، وَانْتَشَرَت مِنْهَا رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ. وَمَعَ ذَلِكَ، لَمْ تَبْدُ غَيْرَ سَعِيدَةٍ أَوْ مُكْتَئِبَةٍ. كَأَنَّ الانْعِزَالَ فِي الدِّيرِ لَمْ يَعُدْ كَافِيًا لَهَا، وَكَأَنَّ الحَيَاةَ دَاخِلَ الدِّيرِ أَصْبَحَتْ اجْتِمَاعِيَّةً مَلِيئَةً بِالثَّرْثَرَةِ، فَاضْطُرَّتْ إِلَى الخُلوةِ المَنْعَزِلَةِ الَّتِي لَا يَرَاهَا أَحَدٌ، حَيْثُ لَا قِيمَةَ لِلْمَظْهَرِ، وَلَا لِلْمَلابِسِ، وَلَا لِلرَّائِحَةِ.
لا، القَوْلُ إِنَّهَا تَخَلَّتْ عَنْ نَفْسِهَا لَيْسَ دَقِيقًا. بَلْ أَعَادَتْ تَعْرِيفَ مَكانِهَا بِطَرِيقَةٍ تنَاسبُهَا، وَلَكِنَّهَا لَمْ تَعُدْ تُثيرُ إِعْجَابَ النِّسَاءِ الأُخَرِ.”
“وَأَمَّا فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ؟” سَأَلْتُ.
“كَانَتْ كَمَا هِيَ دَائِمًا.”
“هَلْ لِي أَنْ أَرَاهَا؟”
أَوْمَأَتْ، وَلَكِنْ بَقِيَتْ جَالِسَةً.
“هَلْ يَسْتَحِقُّ العَالَمُ أَنْ يُصْبِحَ بِهَذَا السُّوءِ الَّذِي لا يُحْتَمَلُ فِي سَنَوَاتِ الوَحْدَةِ؟ هَلْ يُفَضِّلُ الإنْسَانُ المَوْتَ عَلَى العَوْدَةِ مِنَ العُزْلَةِ إِلَى الحَيَاةِ؟”
التفتتْ نَحْوِي وَقَالَتْ: “لَمْ تَكْتُبِ السَّيِّدَةُ شْمِيتْس سَبَبَ انْتِحَارِهَا. وَأَنْتَ لَا تُخْبِرُنِي مَا كَانَ بَيْنَكُمَا، وَمَا قَدْ دَفَعَهَا إِلَى تَلكَ اللَّيْلَةِ الَّتِي كُنْتَ تَنْوِي أَنْ تَصطَحِبَهَا فِيهَا.”
طَوَتِ الوَرَقَةَ، وَأَعَادَتْهَا إِلَى جَيْبِهَا، وَقَامَتْ، فَمَسَحْتُ ثَوْبَ تَنُّورَتِهَا بَرِقَّةٍ.
“يُؤْلِمُنِي مَوْتُهَا، كَمَا تَعْلَمُ، وَفِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ أَنَا غَاضِبةٌ مِنَ السَّيِّدَةِ شْمِيتْس وَمِنكَ أَيْضًا. لَكِنْ، لِنَذْهَبْ.”
تَقَدَّمَتْ هَذِهِ المَرَّةَ بِصَمْتٍ، وَفِي نَفْسِ الصَّمْتِ كَانَ ثِقْلُ الحُزْنِ وَالصَّدْمَةِ يُغَلِّفَانِ قَلْبَهَا.
كَانَتْ هَانَا مُسْتَلْقِيَةً فِي غُرْفَةٍ ضَيِّقَةٍ بِالْمُسْتَشْفَى، لَا تَتَّسِعُ إِلَّا بَيْنَ الْجِدَارِ وَنَقَّالَةِ الْمَرْضَى. رَفَعَتِ الْمَسْؤُولَةُ الْغِطَاءَ عَنْ جَسَدِهَا، فَكَانَتْ عَلَى رَأْسِهَا قِطْعَةُ قَمَاشٍ مَرْبُوطَةٌ بِإِحْكَامٍ، تَرْفَعُ ذَقَنَهَا حَتَّى تَصْلُبَ الْجَسَدَ. لَمْ يُبْدِ وِجْهُهَا سَكِينَةً خَاصَّةً، وَلَا عَذَابًا ظَاهِرًا، بَلْ كَانَ جَامِدًا، مَيِّتًا بِلَا رُوحٍ. نَظَرْتُ إِلَيْهِ طَوِيلًا، فَتَسَلَّلَتْ إِلَيَّ مَلَامِحُ الْحَيَاةِ شَيْئًا فَشَيْئًا، كَمَا يَنْبْثِقُ الصِّبَا فِي مَلَامِحِ الشَّيْبِ. فَكَّرْتُ:
“لَابُدَّ أَنَّ هَذَا مَا يَشْعُرُ بِهِ الْأَزْوَاجُ الْكِبَارُ فِي السِّنِّ؛ يَبْقَى الشَّابُّ فِي الرَّجُلِ الْعَجُوزِ، وَتَظَلُّ نُعُومَةُ الْمَرْأَةِ الشَّابَّةِ فِي الْمَرْأَةِ الْمُسِنَّةِ.”
تَسَاءَلْتُ فِي سِرِّي:
“لِمَاذَا لَمْ أَلْحَظْ هَذَا الْأُسْبُوعَ الْمَاضِي؟”
لَمْ أَشْعُرْ بِالْحَاجَةِ إِلَى الْبُكَاءِ. وَعِنْدَمَا التَقَتْ عَيْنَيَّ بِعَيْنَيِ الْمَسْؤُولَةِ الَّتِي سَأَلَتْنِي بِصَمْتٍ، أَوْمَأْتُ بِرَأْسِي، فَأَعَادَتِ الْغِطَاءَ فَوْقَ وِجْهِ هَانَا.
تَأَخَّرَ الْوَقْتُ حَتَّى جَاءَ الْخَرِيفُ قَبْلَ أَنْ أُنْجِزَ وَصِيَّةَ هَانَا. كَانَتِ الابْنه تُقِيمُ فِي نَيْوْيُورْكَ، فَاسْتَغَلَلْتُ مُؤْتَمَرًا فِي بُوسْطُنَ لِأُوْصِلَ لَهَا الْمَالَ, شِيكًا بِمَبْلَغِ حِسَابِ التَّوْفِيرِ، وَعُلْبَةَ شَايٍ تَحْتَوِي النُّقُودَ نَقْدًا.
كَتَبْتُ لَهَا مُقَدَّمًا عَنْ نَفْسِي بِوَصْفِي مُؤَرِّخًا قَانُونِيًّا، وَذَكَرْتُ الْمُحَاكَمَةَ، وَطَلَبْتُ مُقَابَلَتَهَا.
دَعَتْنِي لِشُرْبِ الشَّايِ.
سَافَرْتُ بِالْقِطَارِ مِنْ بُوسْطُنَ إِلَى نَيْوْيُورْكَ. كَانَتِ الْغَابَاتُ تَتَلَأْلَأُ بِأَلْوَانِ الْخَرِيفِ, الْبُنِّيِّ، وَالْأَصْفَرِ، وَالْبُرْتُقَالِيِّ، وَالْأَحْمَرِ الدَّاكِنِ، وَالقِرْمِزِيِّ الْمُشْتَعِلِ.
عَادَتْ إِلَيَّ صُوَرُ الْخَرِيفِ الَّتِي رَأَيْتُهَا فِي زِنْزَانَةِ هَانَا. وَعِنْدَمَا غَلَبَنِي الْتَّعَبُ مِنْ اهْتِزَازِ الْقِطَارِ، حَلُمْتُ بِهَا وَبِنَفْسِي فِي بَيْتٍ فَوْقَ تِلالٍ مُتَّقِدَةٍ بِالْأَلْوَانِ، يَمُرُّ الْقِطَارُ مِنْ خِلَالِهَا.
كَانَتْ هَانَا أَكْبَرَ سِنًّا مِمَّا عَرَفْتُهَا، وَأَصْغَرَ مِمَّا رَأَيْتُهَا لَاحِقًا، أَكْبَرَ مِنِّي، أَجْمَلَ مِنْ قَبْلِ، أَهْدَأَ فِي حَرَكَاتِهَا، وَأَرِيحَ فِي جَسَدِهَا.
رَأَيْتُهَا تَنْزِلُ مِنَ السَّيَّارَةِ، تَحْمِلُ أَكْيَاسَ التَّسَوُّقِ عَلَى ذِرَاعَيْهَا، تَمْشِي عَبْرَ الْحَدِيقَةِ نَحْوَ الْمَنْزِلِ، تَضَعُ الْأَكْيَاسَ جَانِبًا، وَتَعْلُو الدَّرَجَ أَمَامِي. صَارَ الشَّوْقُ إِلَيْهَا شَدِيدًا، كَادَ يُؤْلِمُنِي. قَاوَمْتُ ذَلِكَ الشَّوْقَ، وَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ لَهُ: “إِنَّهَا تَمُرُّ بِجَانِبِ حَقِيقَةِ هَانَا وَحَقِيقَتِي، بِحَقِيقَةِ عُمُرِنَا وَظُرُوفِ حَيَاتِنَا. كَيْفَ لِهَانَا، الَّتِي لَا تَتَحَدَّثُ الْإِنْجِلِيزِيَّةَ، أَنْ تَعِيشَ فِي أَمْرِيكَا؟ وَكَيْفَ يُمْكِنُهَا أَنْ تَقُودَ سَيَّارَةً؟”
اسْتَيْقَظْتُ وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ هَانَا قَدْ مَاتَتْ، وَأَعْلَمُ أَيْضًا أَنَّ الشَّوْقَ تَعَلَّقَ بِهَا، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُوَجَّهًا إِلَيْهَا حَقًّا.
كَانَ الشَّوْقُ إِلَى الْعَوْدَةِ إِلَى الْوَطَنِ هُوَ مَا يُلْهِبُ الْقَلْبَ. تَعِيشُ الابْنَةُ فِي نَيْوْيُورْك، فِي شَارِعٍ صَغِيرٍ قُرْبَ سِنْتْرَالْ بَارْك. يَحُدُّ الشَّارِعَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ بُيُوتٌ مُتَرَاصَّةٌ قَدِيمَةٌ مِنْ الحَجَرِ الرَّمْلِيِّ الدَّاكِنِ، تَصْعَدُ إِلَى الطَّابِقِ الْأَوَّلِ سَلَالِمٌ مِنْ نَفْسِ ذَلِكَ الْحَجَرِ. كَانَ الْمَشْهَدُ صَارِمًا: بَيْتٌ وَرَاءَ بَيْتٍ، وَاجِهَاتٌ مُتَشَابِهَةٌ إِلَى حَدٍّ بَعِيدٍ، سَلَالِمٌ تَتَكَرَّرُ، وَأَشْجَارُ شَارِعٍ قَدْ غُرِسَتْ حَدِيثًا عَلَى فَتَرَاتٍ مُنْتَظِمَةٍ، بِأَوْرَاقٍ صَفْرَاءَ مُتَنَاثِرَةٍ عَلَى فُرُوعِهَا الرَّقِيقَةِ.
قَدَّمَتِ الابْنَةُ الشَّايَ أَمَامَ نَوَافِذَ كَبِيرَةٍ تَطِلُّ عَلَى حَدَائِقَ صَغِيرَةٍ بَيْنَ الْبُيُوتِ، بَعْضُهَا أَخْضَرُ زَاهِي الْأَلْوَانِ، وَبَعْضُهَا كَانَ مُجَرَّدَ تَجَمُّعٍ لِفَوْضَى مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُتَرَاكِمَةِ. وَمَا إِنْ جَلَسْنَا، وَصُبَّ الشَّايَ، وَأُضِيفَ السُّكَّرُ وَحُرِّكَ، حَتَّى انْتَقَلْتُ مِنَ اللُّغَةِ الإِنْجِلِيزِيَّةِ، الَّتِي اسْتَهَلَّتْ بِهَا تَحِيَّتِي، إِلَى الأَلْمَانِيَّةِ.
قالَتْ بِصَوْتٍ بَارِدٍ: “مَا الَّذِي أَتَى بِكَ إِلَيَّ؟”
لَمْ يَكُنْ سُؤَالُهَا وُدِّيًّا وَلَا عَدَائِيًّا؛ بَلْ جَاءَ بِنَبْرَةٍ خَالِيَةٍ مِنَ الْعَاطِفَةِ، تَكْتَنِفُهَا أَقْصَى دَرَجَاتِ الْمَوْضُوعِيَّةِ.
كُلُّ شَيْءٍ فِيهَا بَدَا مَوْضُوعِيًّا: وَقَفَتُهَا، إِشَارَاتُهَا، وَلِبَاسُهَا. وَكَانَ وَجْهُهَا غَرِيبًا فِي كَوْنِهِ بِلَا زَمَنٍ.
هَكَذَا تَبْدُو الْوُجُوهُ الَّتِي خَضَعَتْ لِلتَّجْمِيلِ، أَوْ جَمَّدَهَا الْأَلَمُ الْمُبَكِّرُ.
حَاوَلْتُ دُونَ جَدْوَى أَنْ أَتَذَكَّرَ وَجْهَهَا أَثْنَاءَ الْمُحَاكَمَةِ.
رَوَيْتُ لَهَا عَن مَوْتِ هَانَا، وَعَنِ الْوَصِيَّةِ الَّتِي أَوْصَتْنِي بِهَا.
سَأَلَتْ: “لِمَاذَا أَنَا؟”
قُلْتُ: “أَظُنُّ لِأَنَّكِ الْوَحِيدَةُ الَّتِي نَجَتْ.”
رَدَّتْ بِبُرُودٍ: “وَمَاذَا أَفْعَلُ بِذَلِكَ؟”
قُلْتُ: “كُلُّ مَا تَرِينَهُ ذَا مَعْنَى.”
قَالَتْ: “هَلْ هَذَا لِمَنْحِ السَّيِّدَةِ شْمِيتْسِ الْغُفْرَانَ؟”
كَادَ قَلْبِي يَرْفُضُ ذَلِكَ، لَكِنَّ هَانَا كَانَتْ طَالِبَةً الْكَثِيرَ حَقًّا.
لَمْ تَكُنْ سَنَوَاتُ السِّجْنِ مُجَرَّدَ عِقَابٍ مَفْرُوضٍ، بَلْ أَرَادَتْ هَانَا أَنْ تَمْنَحَ لَهَا مَعْنًى بِنَفْسِهَا، وَأَنْ يُعْتَرَفَ لَهَا الْآخَرُونَ بِهَذَا الْمَعْنَى.
قُلتُ لها ذَلِكَ، لَكِنَّهَا هَزَّت رَأْسَهَا فِي صَمْتٍ.
لَمْ أَدْرِ هَلْ تَرْفُضُ تَفْسِيرِي أَمْ تَرْفُضُ أَنْ تَمْنَحَ هَانَا ذَلِكَ الِاعْتِرَافَ؟
سَأَلَتها بِبُرُودٍ: “أَلَا يُمْكِنُكَ مَنْحُهَا الِاعْتِرَافَ دُونَ الْغُفْرَانِ؟”
ضَحِكْت بِخِفَّةٍ، وَقالْتُ: “أَنْتَ تُحِبُّهَا، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ كَيْفَ كَانَ بَيْنَكُمَا الْحَالُ؟”
تَرَدَّدْتُ قَلِيلًا، ثُمَّ قُلْتُ بِصِرَاحَةٍ: “كُنْتُ قَارِئَهَا. بَدَأَ الْأَمْرُ حِينَ كُنْتُ فِي الْخَامِسَةِ عَشْرَةَ، وَاسْتَمَرَّ بَعْدَمَا دَخَلَتِ السِّجْنَ.”
قَالَتْ بِدَهْشَةٍ: “وَكَيْفَ فَعَلْتَ ذَلِكَ…؟”
أَجَبْتُهَا: “كُنْتُ أُرْسِلُ لَهَا أَشْرِطَةً مُسَجَّلَةً. السَّيِّدَةُ شْمِيتْس كَانَتْ أُمِّيَّةً طُولَ حَيَاتِهَا تَقْرِيبًا؛ تَعَلَّمَتِ الْقِرَاءَةَ وَالْكِتَابَةَ فَقَطْ فِي السِّجْنِ.”
سَأَلَتْ بِدَهْشَةٍ أَكْبَرَ: “لِمَاذَا فَعَلْتَ كُلَّ ذَلِكَ؟”
قُلْتُ بِلا تَرَدُّدٍ: “كَانَ بَيْنَنَا عِلَاقَةٌ حِينَ كُنْتُ صَغِيرًا.”
قَالَتْ بِحِدَّةٍ لَا تَخْلُو مِنْ صَدْمَةٍ: “هَلْ تَعْنِي أَنَّكُمَا نِمْتُمَا مَعًا؟”
قُلْتُ: “نَعَمْ.”
رَدَّتْ بِصَرَامَةٍ: “كَانَتْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ قَاسِيَةً حَقًّا. هَلِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَتَحَمَّلَ أَنَّهَا كَانَتْ مَعَكَ وَأَنْتَ فِي الْخَامِسَةِ عَشْرَةَ؟… وَمَعَ ذَلِكَ، تَقُولُ بِنَفْسِكَ أَنَّكَ عُدْتَ لِتَقْرَأَ لَهَا بَعْدَ دُخُولِهَا السِّجْنَ.”
تَغَيَّرَ صَوْتُهَا فَجْأَةً وَسَأَلَتْ: “هَلْ تَزَوَّجَتْ يَوْمًا؟”
أَوْمَأْتُ بِرَأْسِي.
“وَكَانَ الزَّوَاجُ قَصِيرًا وَتَعِيسًا، وَلَمْ تَتَزَوَّجْ بَعْدَهُ، وَالطِّفْلُ، إِن وُجِدَ، فَهُوَ فِي مَدْرَسَةٍ دَاخِلِيَّةٍ”.
وقُلْتُ بِهُدُوءٍ: “هَذَا وَضْعٌ يَنْطَبِقُ عَلَى آلاَفٍ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى وُجُودِ السَّيِّدَةِ شْمِيتْس.”
سَأَلَتْ بِحِدَّةٍ: “هَل شَعَرْتَ فِي السَّنَوَاتِ الأَخِيرَةِ، حِينَ تَوَاصَلْتَ مَعَهَا، أَنَّهَا كَانَتْ تَعْلَمُ مَا فَعَلْتَهُ بِكَ؟”
هَزَزْتُ كَتِفَيَّ بِضَعْفٍ.
“عَلَى الأَقَلِّ، كَانَتْ تَعْلَمُ مَا فَعَلْتُهُ بِالآخَرِينَ فِي الْمَعْسَكَرِ وَفِي الْمَسِيرِ. لَمْ تُخْبِرْنِي فَقَطْ، بَلْ كَانَتْ تُفَكِّرُ فِي ذَلِكَ طِوَالَ السَّنَوَاتِ فِي السِّجْنِ.”
رَوَيْتُ لَهَا مَا أَخْبَرَتْنِي بِهِ مُدِيرَةُ الْمُؤَسَّسَةِ، ثُمَّ وَقَفَتِ الْمَرْأَةُ وَتَمَشَّتْ فِي الْغُرْفَةِ ذَهَابًا وَإِيَابًا بِخُطُوَاتٍ وَاسِعَةٍ.
“كَمِ الْمَبْلَغُ؟”
ذَهَبْتُ إِلَى مَعَاطِفِي، حَيْثُ وَضَعْتُ حَقِيبَتِي، وَعُدْتُ بِشِيكٍ وَصُنْدُوقِ شَايٍ.
“هَا هُوَ.”
نَظَرْتْ إِلَى الشِّيكِ، وَوَضَعتْهُ عَلَى الطَّاوِلَةِ، ثُمَّ فَتَحْت الصُّنْدُوقَ وَأَفْرَغْتُهُ، وَأَغْلَقتهُ مُجَدَّدًا، مُمَسِّكًة بِهِ وَحَدَّقْتُ فِيهِ بِتَرْكِيزٍ عَمِيقٍ.
قَالَتْ: “كُنْتُ فَتَاةً وَأَمْلِكُ صُنْدُوقَ شَايٍ لِكُنُوزِي. لَمْ يَكُنْ مِثْلَ هَذَا، رَغْمَ وُجُودِ صَنَادِيقَ شَايٍ مُمَاثِلَةٍ حِينَئِذٍ، بَلْ كَانَ مُزَيَّنًا بِحُرُوفٍ سِيرِيلِيَّةٍ، وَغِطَاؤُهُ لَا يُدْفَعُ بَلْ يُلْبَسُ فَوْقَهُ. حَمَلْتُهُ مَعِي حَتَّى في الْمَعْسَكَرِ، حَيْثُ سُرِقَ مِنِّي يَوْمًا.”
سَأَلْتُهَا: “مَاذَا كَانَ فِيهِ؟”
رَدَّتْ: “مَاذَا تَتَوَقَّعُ؟ خُصْلَةٌ مِنْ شَعْرِ كَلْبِنَا الْبُودِلِ، تَذَاكِرُ لِحَفَلَاتِ أُوبْرَا اصْطَحَبَنِي وَالِدِي إِلَيْهَا، خَاتَمٌ رَبِحْتُهُ أَوْ وَجَدْتُهُ فِي عُلْبَةٍ – لَمْ يُسْرَقِ الصُّنْدُوقُ مِنْ أَجْلِ مُحْتَوَاهُ. الصُّنْدُوقُ ذَاتُهُ وَمَا يُمْكِنُ عَمَلُهُ بِهِ كَانَ ذَا قِيمَةٍ كَبِيرَةٍ فِي الْمَعْسَكَرِ.”
وَضَعت الصُّنْدُوقَ فَوْقَ الشِّيكِ.
“هَلْ لَدَيْكِ اقْتِرَاحٌ لِكَيْفِيَّةِ اسْتِخْدَامِ الْمَالِ؟ اسْتِخْدَامُهُ فِي شَيْءٍ لَهُ عِلَاقَةٌ بِالْهُولُوكُوستِ سَيَبْدُو لِي وَكَأَنَّهُ غُفْرَانٌ، وَأَنَا لَا أَسْتَطِيعُ وَلَا أُرِيدُ مَنْحَهُ.”
قُلْتُ: “لِلأُمِّيِّينَ الذين يُرِيدُونَ تَعَلُّمَ الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ. بِالتَّأْكِيدِ هُنَاكَ مُؤَسَّسَاتٌ خَيْرِيَّةٌ وَجَمَعِيَّاتٌ يُمْكِنُ تَقْدِيمُ الْمَالِ إِلَيْهَا.”
أَجَابَتْ: “بِالتَّأْكِيدِ تُوجَدُ.”
تَوَقَّفَتْ تَفَكَّرُ، ثُمَّ سَأَلَتْ: “هَل تُوجَدُ جَمَعِيَّاتٌ يَهُودِيَّةٌ مُخْتَصَّةٌ بِذَلِكَ؟”
قُلْتُ: “يُمْكِنُكِ الْاِعْتِمَادُ عَلَى أَنَّهُ حَيْثُ وُجِدَتْ جَمَعِيَّاتٌ لِكُلِّ غَرَضٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ جَمَعِيَّاتٍ يَهُودِيَّةٍ أَيْضًا. وَلَكِنَّ الأُمِّيَّةَ لَيْسَتْ مُشْكِلَةً يَهُودِيَّةً فِي الأَسَاسِ.”
أزاحَتْ إِلَيَّ الشَّيْكَ وَالنَّقْدَ، قَائِلَةً: “فَلْنَفْعَلْ كَذَلِكَ. أَنْتَ تَتَحَرَّى مَا هِيَ المنظماتُ اليَهُودِيَّةُ المُخْتَصَّةُ، هُنَا أَوْ فِي أَلْمَانْيَا، وَتُحَوِّلُ المَالَ إِلَى حِسَابِ المَنَظَّمَةِ الَّتِي تُقْنِعُكَ أَكْثَرَ.”
ضَحِكَتْ قَائِلَةً: “يُمْكِنُكَ، إِنْ كَانَ الاِعْتِرَافُ مُهِمًّا جِدًّا، أَنْ تُحَوِّلَ المَالَ بِاسْمِ هانَّا شْمِيتْس.”
عَادَتْ إِلَى حَمْلِ الصُّنْدُوقِ بِيَدِهَا، وَقَالَتْ: “أَنَا سَأَحْتَفِظُ بِالصُّنْدُوقِ.”
مُنْذُ ذَلِكَ الحِينِ، وَقَدْ مَضَى عَلَى ذَلِكَ عَشَرُ سِنِينَ.
فِي السَّنَوَاتِ الأُولَى بَعْدَ وَفَاةِ هَانَّا، كَانَتْ تُؤْنِيُنِي الأسْئِلَةُ القَدِيمَةُ: “هَلْ أَنْكَرْتُهَا وَخَنْتُهَا؟ هَلْ بَقِيتُ مَقْصِرًا نَحْوَهَا؟ هَلْ كُنْتُ مُذْنِبًا لِأَنِّي أَحْبَبْتُهَا؟ هَلْ كَانَ يَجِبُ عَلَيَّ أَنْ أَنْفَصِلَ عَنْهَا وَأَتَجَرَّدَ مِنْهَا؟”
أَحْيَانًا سَأَلْتُ نَفْسِي: “هَلْ أَنَا مَسْؤُولٌ عَنْ مَوْتِهَا؟”
وَفِي أَحْيَانٍ أُخْرَى، كُنْتُ غَاضِبًا مِنْهَا وَمِمَّا فَعَلَتْ بِي.
حَتَّى انْتَهَى الغَضَبُ وَفَقَدَتِ الأسْئِلَةُ أَهَمِّيَّتَهَا.
مَا فَعَلْتُهُ وَمَا لَمْ أَفْعَلْهُ، وَمَا فَعَلَتْهُ هِيَ لِي — هَذَا هُوَ حَيَاتِي الآنَ.
قَرَّرْتُ بَعْدَ وَفَاةِ هانَّا بِقَلِيلٍ أَنْ “أَكْتُبَ قِصَّةَ هَنَّا وَقِصَّتِي.”
مُنْذُ ذَلِكَ الوَقْتِ، تَكَرَّرَتْ هَذِهِ القِصَّةُ فِي ذِهْنِي مَرَّاتٍ عَدِيدَةً، دَائِمًا بِشَكْلٍ مُخْتَلِفٍ قَلِيلًا، بِصُوَرٍ وَمَشَاهِدَ جَدِيدَةٍ، وَقَطَعٍ مِنَ الأَفْكَارِ وَالأَحْدَاثِ.
لِذَلِكَ، إِلَى جَانِبِ النُّسْخَةِ الَّتِي كَتَبْتُهَا، هُنَاكَ عَدِيدٌ مِنَ النُّسَخِ الأُخْرَى.
وَضْمَانُ صِحَّةِ النُّسْخَةِ المَكْتُوبَةِ هُوَ أَنَّنِي “كَتَبْتُهَا” وَأَمَّا النُّسَخُ الأُخْرَى فَلَمْ “أَكْتُبْهَا.”
النُّسْخَةُ المَكْتُوبَةُ شَاءَتْ أَنْ تُكْتَبَ، وَالنُّسَخُ العَدِيدَةُ الأُخْرَى لَمْ تَرْغَبْ فِي ذَلِكَ.
فِي البَدْءِ، أَرَدْتُ أَنْ أَكْتُبَ قِصَّتَنَا لِكَيْ “أَتَخَلَّصَ مِنْهَا”، وَلَكِنَّ الذِّكْرَيَاتِ لَمْ تَأْتِ لِهذَا الغَرَضِ.
بَعْدَ ذَلِكَ أَدْرَكْتُ أَنَّ قِصَّتَنَا “تَهربُ مِنْ يَدَيَّ”، فَأَرَدْتُ أَنْ “أَسْتَعِيدَهَا بِالكِتَابَةِ”، وَلَكِنَّ ذَلِكَ أَيْضًا لَمْ يُسَاعِدْ عَلَى اسْتِعَادَةِ الذِّكْرَى.
مُنْذُ عِدَّةِ سِنِينٍ، “تَرَكْتُ قِصَّتَنَا فِي سَكِينَةٍ.”
صَالَحْتُ نَفْسِي عَلَيْهَا، وَعَادَتْ إِلَيَّ، تَدْرِيجِيًّا، تَفَصِيلًا بَعْدَ تَفْصِيلٍ، بِشَكْلٍ مُتَكاملٍ، مُغْلَقٍ، مُرَتَّبٍ، لِدَرَجَةٍ أَنَّهَا لَمْ تَعُدْ تُحْزِنُنِي.
طَالَما ظَنَنْتُ أَنَّهَا “قِصَّةٌ حَزِينَةٌ.”
لَيْسَ أَنِّي أَظُنُّهَا الآنَ “سَعِيدَةً”،
وَلَكِنِّي أَعْتَقِدُ أَنَّهَا “صَحِيحَةٌ”، وَأَنَّ السُّؤَالَ عَمَّا إِذَا كَانَتْ “حَزِينَةً أَمْ سَعِيدَةً” لَيْسَ لَهُ أَيُّ أَهَمِّيَّةٍ.
هَذَا مَا أَظُنُّهُ عِنْدَمَا أَتَذَكَّرُهَا بِسُهُولَةٍ.
أَمَّا إِذَا تَأَلَّمْتُ، فَتَعُودُ آلامُ ذَلِكَ الزَّمَنِ، وَإِذَا شَعَرْتُ بِالذَّنْبِ، تَعُودُ مَشَاعِرُ الذَّنْبِ السَّابِقَةُ، وَفِي حُزْنِ الحَاضِرِ وَشَوْقِهِ، أَشْعُرُ بِالشَّوْقِ وَالْحَنِينِ القَدِيمَيْنِ.
طَبَقَاتُ حَيَاتِنَا تَتَرَاكَمُ عَلَى بَعْضِهَا بِشِدَّةٍ، حَتَّى نَلْتَقِي فِي الوَقْتِ المُتَأَخِّرِ بِالمَاضِي،
لَيْسَ كَشَيْءٍ مَاضٍ وَمُنْتَهٍ، بَلْ كَشَيْءٍ حَيٍّ وَحَاضِرٍ.
أَنَا أَفْهَمُ ذَلِكَ.”
رَغْمَ ذَلِكَ، أَجِدُ أَحْيَانًا أَنَّ تَحَمُّلَهَا أَمْرٌ صَعْبٌ.
رُبَّمَا كُنْتُ قَدْ كَتَبْتُ قِصَّتَنَا لِكَيْ “أَتَخَلَّصَ مِنْهَا”، وَرُبَّمَا أَنَا لَا أَسْتَطِيعُ.
فَوْرَ عَوْدَتِي مِنْ نْيُويُورْك، حَوَّلْتُ مَالَ هَانَّا تَحْتَ اسْمِهَا إِلَى “الرَّابِطَةِ اليَهُودِيَّةِ ضِدَّ الأُمِّيَّةِ”.
وَصَلَتْنِي رِسَالَةٌ مُخْتَصَرَةٌ عَلَى اللَّوْحَةِ الإِلِكْتْرُونِيَّةِ، تَحْمِلُ شُكْرَ “الرَّابِطَةِ اليَهُودِيَّةِ” لِلسَّيِّدَةِ هَنَّا شْمِيتْس عَلَى تَبَرُّعِهَا.
وَضعتُ هٰذِهِ الرِّسَالَةِ فِي جَيْبِي، تَوَجَّهْتُ إِلَى المَقْبَرةِ وَوَقَفْتُ أَمَامَ قَبْرِ هَانَّا، وَكَانَتْ هَذِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ أُوَاجِهُهَا فِيهِ.
ملخص رواية” ٱلقارِئ ” (Der Vorleser)
بقلم المترجم نعمان البربري
رِوَايَةٌ تَنْقَشِعُ فِيهَا سُطُورُ الطُّفُولَةِ لِتَكْشِفَ وُجُوهًا جَدِيدَةً لِلْحُبِّ:
وُجْهًا مَشُوبًا بِالأَلَمِ وَٱلذَّنْبِ، حَيْثُ تَتَلاَزَمُ الرَّغْبَةُ بِٱلْخَوْفِ، وَٱلجَسَدُ بِٱلتَّارِيخِ، وَٱلشُّهْوَةُ بِٱلمَسْؤُولِيَّةِ الأَخْلاقِيَّةِ.
تَبْدَأُ أَحْدَاثُ ٱلقِصَّةِ فِي مَدِينَةِ “هَايدِلْبِرْغ” الألمانية، حَيْثُ يَلْتَقِي الفَتَى “مِيشَائِيل بِيرغ” المُتَعَلِّم وَذُو الخَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا، بِٱلمَرْأَةِ الغَامِضَةِ “هَانَا شْمِيتْس”؛ امْرَأَةٍ فِي أَوَاخِرِ الثَّلَاثِينَاتِ، صَمْتُهَا وَصَرَامَتُهَا تُخْفِيَانْ مَاضِيًا قَاسِيًا.
تَشْتَعِلُ بَيْنَهُمَا عِلَاقَةٌ سَرِيعَةُ اللَّهَبِ، تَقُومُ عَلَى ٱلِاجْتِمَاعِ ٱلْجَسَدِيِّ وَعَادَةٍ فَرِيدَةٍ: يَقْرَأُ “مِيشَائِيل” لِـ”هَانَا” قِصَصًا وَرِوَايَاتٍ قَبْلَ كُلِّ لِقَاءٍ بينهمَا.
فَتَصْبِحُ أَذْنَاهُما لِلْكَلِمَاتِ جِسْرًا خَفِيًّا بَيْنَ قَلْبَيْنِ مُمْتَلِئَيْنِ بِالأَسْرَارِ.
وَرَغْمَ أَنَّهَا لَا تَقْرَأُ وَلَا تَكْتُبُ، لَمْ يَدْرِك “مِيشَائِيل” أَنَّ “هَانَا” أُمِّيَّةٌ، وَأَنَّ خَجَلَهَا وَهُرُوبَهَا الْمُفَاجِئَ يَوْمًا مَا كَانَ دَافِعُهُ خَوْفُهَا مِنْ ٱنكِشَافِ ضَعْفِهَا.
تَمْضِي السِّنُونُ، وَيَصْبِحُ “مِيشَائِيل” طَالِبَ قَانُونٍ. وَفِي أَحَدِ مَجَارِي التَّدْرِيبِ الْمِهَنِيِّ، يَحْضُرُ مُحَاكَمَةً لِسِتِّ نِسَاءٍ مُتَّهَمَاتٍ بِٱلدُّخُولِ فِي جَرَائِمِ ٱلْإِبَادَةِ أَيَّامَ ٱلنَّازِيَّةِ.
وَيُفَاجَأُ “مِيشَائِيل” – كَأَنَّ ٱلزَّمَنَ دَارَ بِالظُّلْمَةِ – بَوُجُودِ “هَانَا” بَيْنَهُنَّ.
فِي ٱلقَاعَةِ، يُكْشَفُ السِّرُّ:
“كَانَتْ هَانَا تُفَضِّلُ ٱلْاِفْتِرَاءَ عَلَى نَفْسِهَا عَنِ ٱلِاعْتِرَافِ بِأُمِّيَّتِهَا. فَالْخِزْيُ لَدَيْهَا لَمْ يَكُنْ فِي ٱلْجَرِيمَةِ، بَلْ فِي ٱلْجَهْلِ. وَعِنْدَمَا وَاجَهَتْهَا ٱلْمَحْكَمَةُ بِٱلْخِيَارِ ٱلْمُرِّ، آثَرَتْ ٱلصَّمْتَ وَقَبُولَ ٱلِاتِّهَامَاتِ عَلَى أَنْ تُفْصِحَ عَنْ ٱلضَّعْفِ ٱلَّذِي ظَلَّ يَنْهَشُهَا طُولَ حَيَاتِهَا: عَجْزُهَا عَنِ ٱلقِرَاءَةِ وَٱلكِتَابَةِ.”
يَشْعُرُ “مِيشَائِيل” بِٱلصَّدْمَةِ وَبِعَجْزٍ أَخْلَاقِيٍّ أَمَامَ ٱلْحَقِيقَةِ:
“كَيْفَ يُمْكِنُ لِلْحُبِّ أَنْ يَسْكُنَ قَلْبًا شَارَكَ فِي ٱلرُّعْبِ؟ وَهَلْ ٱلتَّعَاطُفُ يُعْفِي مِنَ ٱلمَسْؤُولِيَّةِ؟”
تَبْقَى ٱلْعَلَاقَةُ بَيْنَهُمَا، وَلَكِنْ فِي هَيْئَةٍ أُخْرَى، يَسْجِلُ “مِيشَائِيل” كُتُبًا مَقْرُوءَةً بِصَوْتِهِ، وَيُرْسِلُهَا إِلَيْهَا فِي ٱلسِّجْنِ، لِيُغَذِّي رُوحَهَا، وَلِتَتَعَلَّمَ ٱلقِرَاءَةَ وَٱلكِتَابَةَ أَخِيرًا وَحْدَهَا.
وَعِنْدَمَا يَأْتِي يَوْمُ خُرُوجِهَا، تَكُونُ ٱلْخَيْبَةُ نِهَايَةً تَأْسِرُ ٱلرُّوحَ:
“هَانَا” تَخْتَارُ ٱلرَّحِيلَ قَبْلَ ٱللِّقَاءِ.
وَتَتَمَخَّضُ ٱلرِّوَايَةُ عَنْ أَسْئِلَةٍ لَا تُجِيبُ عَلَيْهَا، بَلْ تَثِيرُهَا:
“مَا ٱلذَّنْبُ؟”
“مَا ٱلتَّوْبَةُ؟”
وَهَلْ نَغْفِرُ مَاضِيَ مَنْ أَحْبَبْنَا
الجزء الأول من رواية (أقنعة العقل) إِلَى الَّتِي لَمْ تَأْتِ