رسائل للذّات
إنه عمل أدبي يتتبع، بلغة شعرية آسرة، رحلة امرأة داخلية – رحلة عودة إلى ذاتها.
بينما تجد بطلة الرواية نفسها عالقة بين الأمومة وتوقعات المجتمع وفقدان اسمها، تكتب لذاتها التي صمتت في ضجيج الحياة اليومية.
على شكل مونولوجات داخلية ورسائل خيالية وحوارات رقيقة، تتكشف فسيفساء متعددة الأصوات من وجهات نظر أنثوية.
هذا الكتاب ليس رواية كلاسيكية، بل هو تأمل أدبي في الهوية والأنوثة والقوة الهادئة للقاء الذات.
كتاب نثري عميق للقراء الذين لا يرغبون في قراءة الأدب مجرداً، بل في تجربته الواقعية.
مثالي لعشاق الأدب الحديث ذي النهج التأملي النسوي.
هو نسيج أدبي ينتهي بقصة قصيرة
أعده لكم:
نعمان البربري
————————————————
كانت تُدعى “سُوبِينَـا”
اِسمٌ لم يَكنْ صُدفةً خَطّتْها يدُ موظّفٍ على شهادةِ الميلاد، ولا مجموعةَ حروفٍ متراصّةٍ تُنادى بها في الطابورِ الصّباحي، بل كان لَحنًا عَميقًا، تُردِّده رُوحُها كلّما مَسَّها الغياب، وتَتمايَلُ عليه خُطاها منذُ أوّلِ وَقفةٍ على رصيفِ الدُّنيا. أحبّت اسمَها كما تُحبُّ الأمُّ طفلَها الأوّل: بشَغفِ الاكتشاف، وخوفِ الفقد، وعُمْقِ الانتماء. رأت فيه ظِلًّا لذاتها، رمزًا لا يُشبه أحدًا، ونافذةً تُطِلُّ منها على العالم وهي تقول: “هٰاأنا ذا”
وحين تزوّجت، وآنَسَتْ في رحمِها نَبضًا صغيرًا يُوشك أن يتشكَّلَ إنسانًا، اتَّسَعَ الكونُ لِفَرحتِها، وتحرّكتْ أحلامُها كأنَّها أجنحةٌ نَسيتْ كيف تُحلّق. وحين وَضَعَتْ بنتًا، ولمستْ كفَّها الدّافئة بأصابعٍ مرتجفةٍ من الدّهشة، لم تَدرِ لمَ خَطر في بالِها شيءٌ واحدٌ فقط:
«سَتَحمِلُ هذهِ الصّغيرةُ شيئًا مِنِّي… ظلًّا مِن اسمي… صدى نبضي»
ومنذ تلكَ اللّحظةِ، بدأت تُنقّب في معاجمِ الأسماء كما يُنقّبُ شاعرٌ عن بيتٍ يُشبه نبضَه، تُقارن كلّ اسمٍ بوجدانها، وتَسألُ: «هل يُشبِهُني؟ هل يليقُ بظلِّي؟»
حتى اهتدتْ إلى اسمٍ لم يَكنْ مُجرّدَ اقتراحٍ، بل كأنّه خرجَ من ضلعِ اسمِها: « سُولِينَا» نغمةٌ أخرى، من ذاتِ المقطوعة. ابتسمت، وهمست في سرّها: «سُوبِينَا… وسُولِينَا… نَغمانِ في لَحنٍ واحِد.»
لكنّها ما إنْ كَبرتْ، حتى عاد صوتٌ قديمٌ في داخلها يُناديها… صوتُ تلكَ المرأةِ الّتي كادت تنساها، المرأةِ التي ضاعتْ بين أدوارٍ لم تخترها، بين أطباقٍ تُرتّبُ، وعيونٍ تُراقب، وزوجٍ يتصرّف وكأنّها إحدى ممتلكاته.
وفي مساءاتِ الوحدة، كانت تَجلسُ أمام مِرآتها… تُحدِّقُ طويلًا… ترى سيدةً غريبةً تُشبهها، لكنها ليست هي… فتُسائلُ صورتها: « أينَ ذهبتِ؟ متى صِرتِ ظلًّا بلا صوت؟»
وبَينَ ليلةٍ وأُخرى، صعد في داخلِها صُراخٌ لم يسمعْهُ أحد، لكنّه كان كافيًا ليقودها إلى عتبةِ الطّلاق. ما كانت تُريدُ تمرُّدًا أجوف، ولا تحرّرًا هشًّا… كانت تُريد شيئًا أبسط من كلّ شعارات الحرية: أن يُصغي إليها أحد… أن يُصدّق دمعتها قبل كلماتها… أن يرى أنوثتها بكلّ ما فيها من لَوعةٍ وشوق، لا كسلعةٍ ولا كخطرٍ، بل ككائنٍ يبحثُ عن الأمان.
سُوبِينَا، تلكَ الّتي في داخلها، ما كانت تطلبُ خلاصًا جسديًّا، بل كان كلُّ ما تَطمح إليه أن يقول لها رجلٌ ذات مساء: ” أنا أراكِ.” أن يَراها وهي تكتبُ في الظلّ رسائلَ لا تُقرأ، بل تُكتَب فقط كي لا تَضيع. أن يَفهم أنّ تلك النظرةَ الّتي تُلقيها على المرآة ليست نرجسية، بل محاولةً للعثور على المرأة التي كانتها.
وكانت أولى رَسائلها لِنفسها… في مساءٍ بلا موعد، وعبر حوارٍ افتراضيٍّ تخاطبُ فيه ذاتَها، كتبت:
“مَنْ هِيَ الأُنثى؟ هَلْ هِيَ جسدٌ يُشتهى؟ أمْ رُوحٌ تُنصِتُ لِمَن يَفْهَمُها؟ أمْ مَخاوفُ صغيرةٌ نُخفيها بِزينةٍ مُتقَنة؟ أمْ هِيَ… أنا؟”
فكتبت في دفترها “رَسَائِلُ إِلَى الذَّاتِ” تحت عنوان
“مَنْ هِيَ الأُنْثَى؟”
في زاويةٍ دافئةٍ من قَلْبٍ صغيرٍ، تجتمع سبعُ نساءٍ في داخلي لا تجمعهنَّ الأعمارُ ولا الأمكنة، بل تلك الأسئلةُ التي لا تنام، وتلك الأصواتُ التي تتردّدُ في دواخلِهنَّ كأصداءِ رسائلٍ لم تُكتَبْ بعد.
تبادلتْ سارةُ النّظرات مع صديقاتِها، ثمّ همستْ بصوتٍ ناعمٍ فيه مسحةُ شكٍّ وتأمُّل:
فسَارَةُ تسأل:
ـ ” مَن هِيَ الأُنثى؟ أَهِيَ جَسَدٌ يَمْشِي فِي الزَّحَامِ؟ أَمْ هِيَ رُوحٌ تَخْتَبِئُ فِي ظِلِّ نَغْمَةٍ، تَتَنَفَّسُ فِي أَلْوَانِ السَّمَاءِ، وَتَشْرِقُ كَالشَّمْسِ فِي سَمَاءِ الوُجْدَانِ؟”
ليسودَ الصمتُ لحظةً، كما لو أنّ الحروفَ قرّرت أن تُنصِت قبل أن تُقال، ثمّ ترفعَ مريمُ رأسَها، بنبرةٍ مثقّفةٍ، تتلو حُكمًا صاغته تجاربُ السنين:
ـ ” الأُنثى لَيْسَتْ لَفْظًا فِي قَامُوسِ الأَجْسَادِ، بَلْ هِيَ قَصِيدَةٌ تُكْتَبُ بِالحَيَاةِ، تَنْبُضُ فِي كُلِّ نَبْضَةٍ، تَحْتَرِقُ أَحْيَانًا، وَتُلَامِسُ السَّمَاءَ أُخْرَى”.
أرى رقية هناك قد أطرقتْ برأسها، ثمّ رفعتْ نظرتها الوادعة، وتكلّمتْ بهدوءِ من شهدت الحياة بأكثرِ ممّا قيل عنها:
ـ ” هِيَ زَهْرَةٌ تَتَفَتَّحُ فِي صَمْتٍ، تَصْمُدُ فِي وَجْهِ الرِّيحِ، تَحْمِلُ فِي عَيْنَيْهَا قِصَصًا لَمْ تُرْوَ بَعْدُ… وَفِي كُلِّ شَيْبَةٍ مِنْهَا، حِكَايةُ نُورٍ وَظِلٍّ”.
إلى زاوية غير بعيدة شاهدت ليلى تحك رأسها وتهز كتفَيها، كما لو كانت تُحاول أن تنتزعَ من داخلِها صوتًا ظلَّ يهمسُ طويلاً:
ـ ” وَهِيَ الأُمُّ الَّتِي تَنْبُتُ فِي أَكْفَانِ التَّعَبِ، وَالابْنَةُ الَّتِي تُطْعِمُ الصَّبَاحَ بَسْمَةً، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي تُنَاضِلُ بِصَمْتٍ فِي سَاحَاتٍ لَمْ تُعْطِهَا اسْمَهَا”.
ضحكت هديلُ بخفّة، وأزاحتْ خصلةً من شعرِها عن جبينِها، وقالت:
ـ ” كَفَى مَنْ يَظُنُّهَا ضَعِيفَةً! هِيَ مَنْ تَلِدُ الأَمَلَ، وَتَحْمِلُ الحَنَانَ فِي كُلِّ نَظْرَةٍ، وَتَبْنِي الجُسُورَ فَوْقَ أَنْهَارِ الخَوْفِ”.
كانت سميرةُ تُمسِكُ بكوبِ الشاي وكأنّها تحتضنُ دفءَ قلبٍ غائب، ثمّ همستْ بشيءٍ من الحنين:
ـ ” فَمَنْ هِيَ الأُنْثَى؟ هِيَ أَنْتِ، وَأَنَا، وَكُلُّ امْرَأَةٍ تَنْقُبُ فِي الحَيَاةِ عَنْ نَبْضِهَا. تُحِبُّ، وَتُجَاهِدُ، وَتُبْدِعُ، وَتُضِيءُ بِنَفْسِهَا جَبِينَ العَالَمِ”.
أطرقت ريم، ثمّ نظرتْ إلى سميرةِ بعينين فيهما ضوءُ سؤالٍ لا يهدأ:
ـ ” أَتُرَانَا نَكْتَفِي بِهَذِهِ التَّعَارِيفِ؟ أَمْ أَنَّ الأُنثى تُكْتَبُ بِالأَفْعَالِ؟ فِي الإِصْرَارِ؟ فِي الثَّبَاتِ؟”
لمست نُهى يدَها برقةٍ، كأنّها تُطمئنها، ثم قالت:
ـ ” هِيَ أَكْثَرُ مِنْ كَلِمَاتٍ. هِيَ نَفَسٌ نَعِيشُهُ، وَشُعُورٌ نَسْكُنُ فِيهِ. حَتَّى فِي لَحْظَاتِ الضَّعْفِ، تَكُونُ هُنَاكَ… تُقَاوِمُ فِي صَمْتٍ”.
هزّت زينب رأسها، وقالت بصوتٍ مُفعمٍ بإيمانٍ عميق:
ـ ” وَالأُنثَى أَيْضًا رُوحٌ تُشِعُّ بِالإِيمَانِ، تَسْتَمِدُّ قُوَّتَهَا مِنَ اللهِ، وَتَسْخَرُ مَا فِي الدُّنْيَا لِزَرْعِ الخَيْرِ فِي قُلُوبِ الآخَرِينَ”.
تأمّلت ليلى السقفَ لحظة، ثمّ سألت وكأنّها تُخاطب ظلَّ المدينةِ التي تُحبُّها وتخافُها:
ـ ” وَفِي زِحَامِ الوَاقِعِ، وَبَيْنَ كَثَافَةِ السِّيَاسَةِ وَالضُّغُوطِ، هَلْ تَبْقَى الأُنثى كَمَا هِيَ؟ أَمْ تَتَغَيَّرُ؟”
جاء صوتُ دُرّة عبر الهاتفِ، من مكانٍ بعيدٍ، يحمل نبرةَ امرأةٍ لم تهزمها المسافات:
ـ ” حَتَّى فِي أَقْسَى الظُّرُوفِ، تَبْقَى الأُنثَى نَبْعًا مِنَ الحَنَانِ وَالثَّبَاتِ”.
قالت حَسْنَى التي تميلُ إلى الواقعية:
ـ ” كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَّا فِيهَا أُنثى تُشْبِهُهَا، وَلا نَمُوذَجَ وَاحِدٌ لِلْكَمَالِ”.
أضافت ياسمين بابتسامةٍ دافئة:
ـ ” وَالصَّدَاقَةُ، أَحْيَانًا، تُعِيدُ لَنَا مَا فَقَدْنَاهُ مِنْ ذَوَاتِنَا”.
ضحكت مريم، وقالت، وهي تُشير إليهنّ جميعًا:
ـ ” الأُنثَى هِيَ “الأُخْرَى” الَّتِي فِي كُلِّ امْرَأَةٍ. هِيَ الجَارَةُ، وَالصَّدِيقَةُ، وَالأُخْتُ الَّتِي تُصَارِعُ لِتَكُونَ نَفْسَهَا”.
تنهّدت سارة، ثم قالت كمن يُلقي حجَرًا في ماءٍ راكد:
ـ ” فَهَلْ الأُنثَى تَبْدَأُ مِنَ الدَّاخِلِ؟ أَمْ أَنَّ المُجْتَمَعَ هُوَ مَنْ يَخُطُّ مَعَالِمَهَا؟”
ابتسمت رُقيّة، وقالت:
ـ ” هُمَا مَعًا. الأُنثَى تَتَشَكَّلُ فِي مَفَاتِنِ ذَاتِهَا، وَفِي مِحْنَةِ المُجْتَمَعِ. هِيَ كَائِنٌ مُرَكَّبٌ… نَبْعٌ لا يَنْضَبُ مِنَ الحَيَاةِ”.
وهكذا، في تلك الجلسة المسائيّة، لم يَصِلْنَ إلى جوابٍ قاطعٍ، لكنّهنَّ أَيقَنَّ أنّ الأُنثى ليست سؤالًا يُجابُ عنه، بل حياةٌ تُعاش، وتُكتَبُ كلّ يوم، على دفاترٍ لا يجب أن تُغلَق.
فلخصت ما كانت سمعته وجمعته ليشكل رسالتها الأولى من مجموعة ” رسائل للذات “
مَن هِيَ الأنثى؟
هَلْ هِيَ جَسَدٌ يَمْشِي بَيْنَ النّاسِ، أَمْ هِيَ رُوحٌ تَنْبُضُ بِالحَيَاةِ، تَسْكُنُ بَيْنَ الأَلْوَانِ، وَتَشْرِقُ كَالشَّمْسِ فِي سَمَاءِ الوجْدَانِ؟
الأنْثى لَيْسَتْ مُجَرَّدَ كَلِمَةٍ، بَلْ هِيَ قَصِيدَةٌ تُكْتَبُ عَلَى صَفَحَاتِ الزَّمَنِ، هِيَ حُلْمٌ وَأَمَلٌ، هِيَ قُوَّةٌ هَادِئَةٌ لا تُرَى، لَكِنَّها تُحَسُّ فِي كُلِّ نَبْضَةِ قَلْبٍ.
هِيَ زَهْرَةٌ تَتَفَتَّحُ فِي صَمْتٍ، تَصْمُدُ فِي وَجْهِ العَوَاصِفِ، تَحْمِلُ فِي عَيْنَيْهَا قِصَصًا لَمْ تُرَوَ بَعْدُ، وَحِكَايَاتٍ مِنْ نُورٍ وَظِلٍّ.
هِيَ الأُمُّ الَّتِي تَمْنَحُ بِلَا حُدُودٍ، وَالابْنَةُ الَّتِي تُعَانِقُ الفَجْرَ بِابْتِسَامَةٍ، وَالصَّدِيقَةُ الَّتِي تُضِيءُ دُرُوبَكَ حِينَ تَنْطَفِئُ الأَنْوَارُ.
الأنْثى لَيْسَتْ مَخْلُوقًا ضَعِيفًا كَمَا يَظُنُّ البَعْضُ، بَلْ هِيَ القُوَّةُ الَّتِي تَلِدُ الأَمَلَ، وَالْحَنَانُ الَّذِي يُذِيبُ الجَلِيدَ، وَالْعَزِيمَةُ الَّتِي تَبْنِي الجُسُورَ بَيْنَ المُسْتَحِيلِ وَالْمُمْكِنِ.
فَمَن هِيَ الأنْثى؟ هِيَ أَنْتِ، هِيَ أَنَا، هِيَ كُلُّ امْرَأَةٍ تَنَاضِلُ مِنْ أَجْلِ ذَاتِهَا، تُحِبُّ وَتُعْطِي وَتُبْدِعُ، هِيَ الحَيَاةُ بِكُلِّ أَلْوَانِهَا، هِيَ سِرُّ الوُجُودِ، وَبَهْجَةُ الكَوْنِ.
في إحدى الأماسي الهادئة، اجتمعت مجموعة من النساء في صالون أدبي دافئ، على إحدى القنوات التلفزيونية حيث تلاقت الأرواح قبل الكلمات، وتبادلت الحكايات قبل التحليلات. كانت الجدران تهمس بأسرار الحكايات، والأنفاس تتراقص على نغمات الشاي الساخن.
تقدَّمت سارة، عيناها تلمعان بشغف المعرفة:
” مَا تَكُونُ الحُرِّيَّةُ بالنسبة لِلأُنثَى؟ أَهِيَ فِكْرَةٌ نَسْتَحْضِرُهَا فِي اللَّيَالِي، أَمْ هِيَ نَبْضٌ يَسْكُنُ أَعْمَاقَنَا؟”
أجابت مريم، بصوتٍ يحمل حكمة السنين:
” الحُرِّيَّةُ لِلأُنثَى هِيَ القُدْرَةُ عَلَى اخْتِيَارِ مَصِيرِهَا، عَلَى أَنْ تَكُونَ مَا تُرِيدُ، بِلَا قُيُودٍ تُقَيِّدُ رُوحَهَا.”
رفعت رقية رأسها، وعيناها تلمعان بعزة:
” الكَرَامَةُ لِلأُنثَى هِيَ أَنْ تَحْفَظَ نَفْسَهَا مِنَ الانْكِسَارِ، أَنْ تَسِيرَ فِي طَرِيقِهَا بِثِقَةٍ، وَأَنْ تَرْفُضَ كُلَّ مَا يُهينُهَا.”
ابتسمت هديل، وقالت بنبرةٍ دافئة:
” العَاطِفَةُ لِلأُنثَى لَيْسَتْ ضَعْفًا، بَلْ هِيَ قُوَّةٌ تَسْكُنُ القَلْبَ، تَجْعَلُهَا تُحِبُّ، تُعْطِي، وَتُضِيءُ حَيَاةَ مَنْ حَوْلَهَا.”
قالت سميرة، بصوتٍ يحمل صدى التجارب:
” العِزَّةُ لِلأُنثَى هِيَ أَنْ تَرْفَعَ رَأْسَهَا فِي وَجْهِ الصِّعَابِ، أَنْ تَكُونَ قَوِيَّةً فِي ضَعْفِهَا، وَأَنْ تَسِيرَ فِي طَرِيقِهَا بِلَا خَوْفٍ.”
تبادلت النساء النظرات، وكلٌّ منهن ترى في الأخرى مرآةً لذاتها، وتدرك أن الحُرِّيَّةَ، الكَرَامَةَ، العَاطِفَةَ، والعِزَّةَ ليست مفاهيمَ مجردة، بل هي حياةٌ تُعاش، وتُحكى، وتُروى.
في ذلك الصالون، لم تكن الكلماتُ مجردَ حروفٍ، بل كانت نبضاتِ قلوبٍ، تروي حكايةَ الأنثى في سعيها نحو ذاتها، في عالمٍ يتغير، لكنها تبقى فيه النورَ الذي لا ينطفئ.
الأنثى والنُّور
في صالةٍ دافئةٍ منسيّةٍ بين أروقةِ كتابٍ أدبيّ، جلس جمعٌ من الرجالِ والنساء، يحيطون بطاولةٍ تتناثرُ عليها كؤوسُ القهوةِ، ودفاترُ ملوّنةٌ بالذكرياتِ والحبرِ. كانت الأضواءُ خافتةً، لا تُزعجُ الحروفَ حين تهمس، ولا تُربكُ الوجوهَ حين تنكشف. هناك، في ذلك الركن، بدأ الحديثُ عن الأنثى.
قال إياد بصوتٍ عميقٍ: ـــ ” ٱلأُنثى نُورٌ لا يُشبِهُ ٱلضِّياءَ ٱلعابِر، إنّها ٱلنُّورُ ٱلّذِي يَنبُتُ مِنَ ٱلدّاخلِ… مِنْ حيثُ لا يَبلُغُ ٱلبَصَرُ، ولا تُدرِكُهُ يَدُ ٱلتّحليلِ ٱلبارِد .”
قاطعته لُجين وهي تميلُ بجسدِها إلى الأمام: ـــ “أتقصدُ أنّ النورَ الذي فيها ليسَ مرئيًّا؟ بل شعورٌ؟”
أومأ برأسه ثم تابع: ـــ ” في عينيها قَبَسُ حياةٍ، وفي قلبِها مِصباحٌ لا يَخبو. وإذا مشتْ في العتمةِ، أضاءتْ لا الأرضَ فقط، بل مَن حولَها، ومَن خلفَها… بل ربّما أضاءتْ ذاكرةَ الزّمانِ نفسِه.”
هنا علّقت سلمى وهي ترسمُ دائرةً بإصبعها على حافّةِ فنجانها: ـــ ” وكأنك تُعيدنا إلى لحظةٍ أولى… لحظةٍ خُلِقَ فيها الضوءُ أنثى.”
ابتسمتْ ميساء وأضافت: ـــ ” لكنّها لا تُضيءُ لأنّها تُجيدُ ٱلاِبتِسامَ، بل لأنّ في داخلِها واحَةً لا تَجِفُّ، تُسقِي ٱلعابِرينَ بِظِلِّها، وتُخبِّئُ ٱلنُّورَ لِمَن أضاعوه.”
ارتفعَ همسُ الإعجابِ بين الحضور، وتابع إياد بعد لحظةِ تَأَمُل: ـــ ” ٱلنُّورُ فِيهَا لَيسَ لَونًا، بَل صِفَةٌ، وَجَوهَرٌ، وَخُلُقٌ… هيَ ٱلنُّورُ حينَ تَحتَضِنُ طِفلًا، وَحينَ تَسْهَرُ عَلى حُلْمٍ، وَحينَ تَفهَمُ مِنْ دُونِ أَنْ تُسأَلَ، وَتَعفُو مِنْ دُونِ أَنْ تُرجَى.”
قالت ندى من آخرِ الطاولة، بنبرةٍ فيها تأنٍ: ـــ “ولا شيء يُضيءُ كما تَفعلُ رُوحُ الأُنثى…”
همسَ رامي الجالسُ قربها: ـــ “ولا لَيلَ يَستَعصِي عَلى عَينَيها.”
تابعت ندى وهي تنظر في عينيه: ـــ ” فإذا قالتْ: أنا هنا، انشقَّ الظلامُ عن دربٍ لا يُخطِئُ القلبُ اتّباعَه…”
ارتفعتْ أصواتُ الاستحسانِ، لكنّ يُمنى رفعتْ يدها قائلةً: ـــ ” وهل تضيءُ دومًا؟ ألا تنطفئُ فينا أحيانًا؟”
سكنَ الجميعُ لحظةً، قبل أن يُجيب إياد هامسًا: ـــ ” تَخبو إذا جُرِحَتْ، لكنّها لا تَطفُؤ”.
وقبل أن يُكمل، اقترحت رُبى: ـــ ” فلنترك لكلٍّ منّا أن يحكي عن نورٍ أنثويٍّ في حياتِه… عن أمٍّ، أو أختٍ، أو حبيبةٍ، أو صديقةٍ، أنارتْ له دربًا أو سَكَنًا.”
أُطفئتْ بعضُ الأضواءِ، وسادَ سَردٌ ناعمٌ، كأنّ المكانَ نفسَه قد أنصتَ… وانفتحَ فصلٌ جديدٌ من الحكايات.
ما إن هدأتْ همساتُ السَّرد الأوّل، حتى تنبّه الحضورُ إلى تغيّر النبرة في عيني ميساء، كانت تحدّق في فراغٍ ما خلف النافذة، كأنها تستدعي ذكرى دفينة.
قالت بصوتٍ خافت: ـــ ” ٱلأُنثى حِينَ تُحِبُّ، تَحتَضِنُ ٱلكَونَ بِأَجمَعِهِ. تَجعَلُ مِنْ نَفسِها وَطَنًا، مِن حِضنِها سَكَناً، وَمِنْ صَبرِها دِثارًا يَلتَفُّ عَلَيكَ فِي ٱلمَساءَاتِ ٱلبَارِدَة.”
همهم الحاضرون بإيماءةٍ خفيفة، كأنّ في كلماتها دفءَ أمهاتهم.
أضافت لُجين، بنبرةٍ من يعرف التجربة: ـــ ” وتُتقنُ الاحتواءَ حتى وهي مكسورةٌ… تُخفي شُروخَها تحتَ ابتسامةٍ هادئة، وتقول: أنا بخير كي لا تُقلِق أحداً.”
ردّ عليها إياد وهو ينظر إلى فنجانه: ـــ ” لكنّها ليست بخيرٍ دومًا… وأحيانًا ننسى أنها تحتاج إلى من يحتويها، كما تحتوي الجميع.”
قالت ندى بصوتٍ فيه شيءٌ من الحنين: ـــ ” أنا أتذكّر أمّي… لم أسمعها تشتكي يومًا، كانت تَضمُّنا إلى صدرِها حتى حين كنّا نحنُ المخطئين، كأنّها تَغفرُ لنا قبل أن نطلبَ الغفران.”
أومأ رامي مؤيدًا: ـــ ” وإذا أحبّتْ، أحبّتْ بكلِّ ما فيها… بلا مقياس، ولا تردّد، ولا نِصفِ حضور.”
دخلت رُبى إلى الحديث بنبرةٍ جازمة: ـــ ” الاحتواءُ الأنثويُّ ليس ضعفًا… إنّه قوّةُ من يعرفُ كيف يُسكِتُ العاصفةَ بحضنٍ، لا بحجّة.”
ضحكت يُمنى: ـــ ” ولا حاجةَ أن تشرحَ لها ما بك، يكفي أن تنظر إليك فتفهم… وربّما تُحضّرُ لكَ كوبَ شايٍ دون أن تطلب، وتقول: تفضّل… فكّرت أنّك قد تحتاجه.”
قال إياد وكأنه يهمس لنفسه: ـــ ” كيف تُتقنُ هذا الفنّ؟ كيف تجمعُ بين العقلِ والعاطفةِ في معزوفةٍ لا نشازَ فيها؟”
أجابت سلمى: ـــ ” لأنّها خُلقتْ على إيقاعٍ آخر… تُصغي لما لا يُقال، وتربّتُ على الجُرحِ دون أن تُنكر وجودَه.”
نظر الحاضرون إلى بعضهم، كأنّ الحديثَ أيقظهم ووجههم إلى مايحتويهم في داخلهم.
قالت ميساء، وكأنها تختم الفصل: ـــ ” ٱلأنثى تَحتَويكَ حين تَضِيع، وَتَضمُّكَ حِينَ تَخاف، وَتَغفِرُ لَكَ حِينَ تُخطِئ… وَإِنْ سَكَتَت، تَكُونُ قَدِ ٱحتَوَتكَ بِصَمتِهَا.”
ثمّ مضى وقتٌ قصير، لا يخلو من رهبة، كأنّ الجميعَ أدركوا لتوّهم أنّهم مرّوا يومًا بجانب هذا الاحتواء، دون أن يدركوا حجمه إلا بعد أن ابتعدوا عنه…
الارتباكُ
الأنثى، حين تُحِبّ، لا تسيرُ على خيطٍ مستقيم أبداً، ترينها قلباً يركضُ في حقولٍ من التردُّد، تُمسكُ بالحنينِ بيدٍ، وبالخوفِ بالأخرى، وتتساءلُ في سرّها: “هل يُعقلُ أن أُحِبّ إلى هذا الحدّ؟ وهل يُغفَر لي أن أُبْقي شيئًا لنفسي؟”
الأنثى لا ترتبكُ لأنّها ضَعفت، بل لأنّها تُحِسُّ بعمقٍ لا يُرى، ولأنها تعرفُ أنّ العاطفةَ، إن اندلقتْ بلا تروٍ، قد تُغرقُ مَن تُحبّ، بدلَ أن تُرويه.
الارتباكُ العاطفيّ عند الأنثى, ليس عطبًا في شعورها، بل هو الدّليلُ على شفافيّتِها، فتظهر حيناً كأنها لا تُجيدُ التمثيلَ، ولا تُحسِنُ بإبداع أن تَمنحَ وجهًا وتُخفي آخر.
هي تريدُ أن تُحبَّ بكلِّها، لأنّها تخشى أن يُؤخذَ منها كلُّها، ولذا تمشي على رؤوسِ مشاعرها، تتلعثمُ وهي تُخفي الحنين، وتتألمُ وهي تبتسمُ في وجهِ الغياب.
الأنثى تُحبُّ، لكنّها في ارتباكِها تحمي ما تبقّى من ذاتِها، تحمي التوازنَ بين العطاءِ والكرامة، وتبحثُ عن حُضنٍ يفهمُ صمتَها، عن يدٍ لا تُطالبُها بأن تكونَ دائمًا واثقة، بل تقولُ لها: “ارتبكي كما شئتِ، أنا هنا… لا أخافُ من عمقكِ، ولا من ارتجافِ قلبكِ.”
السُّكوتُ
ليسَ صمتُ الأنثى خواءً، ولا سُكوتُها غيابًا… بل هو في الغالبِ، فائضُ شعورٍ لم تجدْ لهُ شكلًا يُشبِهُ صدقَه.
الأنثى حين تسكُتُ، فإنّها تُخفي عاصفةً لا تُريدُ لها أن تؤذي، تُرتّبُ في داخلِها الكلماتِ التي إن خرجتْ، قد تُكسِر، أو تُشوّه، أو تجرَح من تُحبّ.
هي لا تسكُتُ لأنّها لا تُجيدُ الكلام، بل لأنّها تُتقنُ الإصغاءَ إلى نفسها أولًا، ولأنّها تحترمُ للوجعِ مقامًا، وللعتبِ حدودًا، وللخوفِ حقَّه في أن يُقالَ بهدوءٍ، أو لا يُقال.
سكوتُ الأنثى العاطفيُّ ليس انسحابًا، بل حماية… حمايةٌ للحبِّ من فوضى انفعالاتها، وحمايةٌ للكرامةِ من سُوءِ الظنّ، وحمايةٌ للمسافةِ بين قلبينِ من أن تضيقَ في لحظةِ تعب.
وقد تسكُتُ، لأنّها اختبرتْ مرارًا أنّ بعضَ البَوْحِ يُسمَعُ على نحوٍ يُوجِع، وأنّ الصراحةَ الجميلةَ، إن لم تجدْ صدرًا يُنصتُ بلين، تصيرُ طعنةً تُحسبُ عليها لا لها.
الأنثى، حين تسكُتُ عاطفيًّا، فلا تُهملْ سُكوتَها، بل اقتربْ منه كأنّه سرٌّ، واقرأْ عينيها، ففي صمتِ العاشقة، ألفُ كتابٍ لا يُكتب، وألفُ جملةٍ لا تُقال… إلّا لمَن يُجيدُ الإصغاءَ إلى النبضِ، لا إلى اللغة.
الفقد
الفقدُ عند الأنثى ليس لحظةً تُقطَع من الزمن…
بل امتدادٌ خفيٌّ يظلُّ يتموّجُ في أعماقها كلّما ابتسمَت.
الأنثىُ لا تفقدُ كما يفقدُ الآخرون…
هي لا تكتفي بالدمعِ ولا بالنسيان، بل تحفظُ تفاصيلَ الفقدِ في أماكنَ لا يصلُها الضوء:
نبرةُ صوتٍ، رائحةُ قميص، ظلُّ وداعٍ عالقٌ عند الباب.
عاطفةُ الأنثى في الفقدِ ليست ضعفًا، بل وفاءٌ مؤلم…
وفاءٌ يتسلّلُ إلى نومِها، إلى صمتِها، إلى حُنوِّها على الآخرين دون أن يشعروا أن الحنانَ الذي تهبه لهم
هو جزءٌ من حنانٍ قديمٍ لم تعُد تعرفُ لمن تمنحه.
هي تُربّي حزنَها كما تُربّي وردةً في النافذة:
تسقيه، تُحادثه، ثم تُخفيه عن العيون كي لا يُؤذى.
وقد تُحِبُّ بعد الفقد، لكن شيئًا منها يظلُّ هناك…
عالقًا في لحظةٍ لم تكتمل، أو كلمةٍ لم تُقَل، أو حضنٍ تهاوى قبل أن يُغلقَ تمامًا.
الأنثى، في الفقد، لا تُجيد أن تَنسى، لكنّها تُجيد أن تَعيش، أن تبتسمَ بحذر، وتُحبَّ ببطء، وتحتمي بنفسها حين تهتزّ الأرض من جديد.
الفقدُ علّمَها أنّ البُعد لا يُقاسُ بالمسافة، وأنّ الرحيلَ الحقيقيّ هو غيابُ مَن لا يزالُ في الذاكرة حيًّا.
صمت العاطفةُ
الأنثىُ لا تُفصحُ دومًا عمّا في قلبِها… لا لأنّها تجهلُ التعبير، بل لأنها تُجيدُ الصّون. في داخلِها، عاطفةٌ تمشي على رؤوسِ الكلمات، خفيفةً، مُرتجفةً، ولكنّها لا تقع.
عاطفتُها لا تُنادى بالأسماء، ولا تُعلّقُ على الجدران، هي موجودةٌ في طيّةِ نظرة، في ارتعاشةِ يد، في تأنّيها حين تُحضّرُ فنجانَ القهوة، في الدعاءِ الصامتِ قبلَ النوم.
الأنثى لا تُجيدُ الزيفَ في المشاعر، فإمّا أن تُحبَّ بكلِّها، أو تلوذَ بصمتِها، وذاك الصّمت… ليس جفافًا، بل ماءٌ خفيٌّ يسقيكَ دون أن تدري، حنانٌ لا يُقال… لأنّ نُطقه يُضعفه.
قد تمرُّ بها، وتظنّها باردة، لكن لو اقتربتَ قليلًا… لو أنصتَّ إلى سكونِها، لرأيتَ كم من قلبٍ فيها يخفق، وكم من دفءِ انتظارٍ تُخفيه تحت وسادتِها.
العاطفةُ الصامتةُ عند الأنثى ليست نقصًا في الحبّ، بل سموٌّ فيه. هي تُحبّك دون أن تُربكك، تشتاقُ إليك دون أن تُقيدك، وتُؤمنُ أنّ الصدقَ، لا يحتاجُ دائمًا إلى صوت.
البوحُ المؤجَّل
الأنثىُ لا تُفصحُ دومًا حين تشعر، ولا تُسرعُ إلى البوحِ كما يظنُّ الذين يجهلون نَفَسها الطويل. هي تُخزّنُ الكلماتِ في قلبِها كما يُخزَّنُ العطرُ في قارورةٍ لا تُفتحُ إلاّ في اللحظةِ التي تستحقّ. البوحُ عندها لا يُقالُ لتملأ به فراغًا، بل لتمنحَه لمكانٍ آمن، لأذنٍ لا تحاكم، لقلبٍ لا يخذل.
هي تعرفُ جيّدًا ما تشعر، ولكنها لا تقول، إلا حين تتيقّن أن الكلمة لن تُهدَر، أنّ الشعور لن يُختزل، أنّ قلبَها لن يُستصغر في عيون من لا يُجيدون الإنصات.
الأنثى تُؤجّلُ البوح، لا خوفًا، بل لأنّها تعرفُ ما يليقُ بعاطفتِها. لأنّها حين تُحبّ، تُحبّ بعُمقٍ لا يُقالُ في أوّلِ لحظة، وحين تشتاق، تشتاقُ بصمتٍ لا يليقُ أن يُنطقَ على عَجَل.
البوحُ المؤجَّلُ عندها… ليس تردُّدًا، بل حُرمةٌ للمشاعر، حُسنُ توقيتٍ للنبض، ورغبةٌ صافيةٌ في أن تكونَ كلمتُها هديةً لا اعترافًا، أن يُقابلَ صوتُها قلبًا لا صدى.
هي تَصمت، ثم تكتب، ثم تمزّق ما كتبت، ثم تكتفي بنظرةٍ، أو لمسةٍ عابرةٍ على حافّةِ الكلام. وهكذا تبوحُ… دون أن تقول، وتُحبُّ… دون أن تُربك، وتنتظر… دون أن تُثقِل.
الحدس
الأنثىُ لا تنتظرُ الحقيقة كي تُدركها، إنّها تُحسُّ بها قبل أن تقع، وتقرأ النوايا قبل أن تُنطق، وتتلمّس التغيُّر في الصوتِ، في النظرةِ، في غيابِ التفاصيل الصغيرة.
في داخلها شيءٌ يشبه الرادار القديم، لا تراه… لكنّه يعمل. إنه الحدس، ذاك الذي وُلدَ معها، لا تدرّبَت عليه. تشعر به إذا التوى الشعور، إذا تغيّر الإيقاعُ الخفيُّ في المعنى، إذا خفتَ الحضورُ رغم البقاء.
الحدسُ عند الأنثى ليس خيالًا، بل يقينٌ بلا برهان. يُوقظها ليلًا دون سبب، ويجعلها تُمسك بالهاتف حين تكون الرسالة في طريقها. يجعلها تعرف أنك لست بخير… حتى وإن قلتَ لها إنّ كلَّ شيءٍ على ما يُرام.
الأنثىُ حين تبحثُ طويلًا في العيون، فهي تسمعُ ما وراءها، وتُحسُّ ما لم يُقَل. وما إن يهتزَّ شيءٌ في قلبِها، حتى تنصتَ لذلك الارتجاف، تُصغي له، تُصدّقه، ثم تبتسم… كما لو كانت تعرف دائمًا.
الحدسُ ليس سحرًا، بل حكمةُ القلبِ حين يكون نقيًّا، وحدسُ الأنثى… هو ذلك الضوءُ الخافتُ الذي لا يُضيءُ الغرفة، لكنّه يُنيرُ الداخل. ومن صدقِ حدسِها، تُحبّ قبل أن تُحبَّ، وتُسامح قبل أن تُؤذى، وتبتعد… قبل أن تُقالَ لها كلمةُ الرحيل.
الحنينُ
الأنثىُ هي ذلك النهرُ الذي لا يجفُّ، يحمل في أعماقه ذكرياتِ من أحبّت، وحكاياتِ أيامٍ مضت، وبصماتِ أقدامٍ تركت أثرًا لا يُمحى.
الحنينُ لديها ليس لحظةً عابرةً، بل رحلةٌ طويلةٌ عبر الزمان، يغمرها كلما غابتْ الشمسُ، ويسكنها حين تتوارى الأصوات.
هي تشتاقُ بصمتٍ، لكل ما كان، لأوقاتٍ حَضَنَتْها، للكلماتِ التي لم تُقال، وللحظاتٍ بكتها العيون دون أن تُبكي الشفاه.
في قلب الأنثى حنينٌ لا يُطفئه بُعدُ المسافات، ولا يلينُ برّحيل الوجوه. هو حنينُ الروح، لذاكرةٍ تحترق في داخلها، تسافر في ظلالها كلما نامت، تعودُ إلى أول لقاء، إلى أول ضحكة، إلى أول همسة.
هي تحملُ ذلك الحنين الطويل كأمانةٍ، تُعيدُه كلّ صباحٍ، وتُرسلهُ مع نسيم الليل، كأنّها تقولُ للحياة: “أنا هنا، مع ذلك الحنين الذي يصنعني.”
الحنينُ ليس ضعفًا، بل قوّةٌ تُشعل في الأنثى نارَ الأمل، وتحميها من برودة النسيان. هو ذلك النبضُ الذي يُعلّمها كيف تُحبّ، وكيف تبقى على العهد، حتى وإن فرّ الزمانُ من بين يديها.
الغياب
هناك غيابٌ لا يُرى، لا يُقاس بالمسافات أو بالساعات، غيابٌ يعيشُ داخل الأنثى، كالظلّ الذي لا يفارقها، كالصدى الذي يعودُ بلا نهاية.
هو غيابٌ لذيذٌ ومريرٌ في آن، غيابُ من لم يغادر، ومنهمكٌ في مكانٍ قريبٍ لكنه بعيد، يُخيّم في صمتٍ على أركان قلبها، يملأ فراغًا لا يُسمَع، ويترك أثرًا لا يُمسَح.
الأنثى تشعرُ بذلك الغياب كما تشعر بالهواء، لا تراه، لكنها تراه في عتمة عينيها، تلمسه في صمت الكلمات، وتشعر به في لحظات الوحدة التي لا يعلم بها أحد.
ذلك الغياب يُعلمها الصبر، ويزرع في قلبها نبتة الأمل، لكنّه أيضًا يُثقلها بحزنٍ صامت، يُجبرها على الابتسامة حين يريد الدمع أن يسكبَ في العيون.
الغياب هو اختبارٌ يومي، مفاجأةُ الوحدة وسط الجمع، ودرسُ القوة حين لا تجد من يسمع، أو من يرى ما لا يُقال.
ورغم كل ذلك، تظلّ الأنثى تُحافظ على حضورها، تُخبّئ ذلك الغياب في أعماقها، تُزرع نبتة الصبر، وتنتظر اللحظة التي يُشرق فيها حضور من غاب، ليملأ الفراغ، ويزيل الصمت.
التوق للحماية
الأنثىُ ليست فقط رمزًا للقوةِ والصلابة، هي أيضًا زهرةٌ تُحلمُ بيدٍ تلمسها برفق، بقلبٍ يضمّها حين تهبّ الرياحُ بقوة، وبظلٍّ يحميها من حرّ الأيامِ ولهبها.
في داخل الأنثى توقٌ لا يُقالُ، لحنُ أمانٍ ينبضُ في أعماقها، صوتٌ صامتٌ يطلبُ العونَ دون أن يُخفي قوّته، ذلك التوق للحماية ليس ضعفًا، بل رغبةٌ طبيعيةٌ في أن تُشارك رحلتها، في أن تجد من يُنير دربها عندما تعتريها الظلمات.
حين تهتزّ في داخلها شجرةُ العزّة، تتطلّع لأن تكون بجانبها يدٌ تواسي، وصوتٌ يُطمئن، وحضنٌ يزرعُ فيها الطمأنينةَ رغم كلّ العواصف.
الأنثى التي لا تتوقُ للحماية، هي التي تعرفُ كيف تُقاتل، لكنها أيضًا تعرف متى تستسلم للحبّ، حين تكون يدُ الحبيب ملاذًا لا قيدًا، وحين يكون حضنه وطنًا لا سجنًا.
هي الحلمُ الذي يتوقُ إلى أمانِ قلبٍ يراعيها، والعين التي تسهرُ على راحتها، والكلمة التي ترفعُها بدل أن تُنزلها، والصمت الذي يتحوّل إلى دثارٍ من حنانٍ لا يُرى.
وفي هذا التوق تكمن أنوثتها، قوّةٌ لا تُقاسُ بالبأس، بل بصدق الحاجةِ إلى من يُحميها من ذاتها، ويُسكن قلبها بالطمأنينةِ التي تستحقّها.
الدهشة
الأنثى هي ذلك البريق الذي ينبعث في عينيها حين تُكتشف الحياة للمرة الأولى، حين تفتح الأبواب المغلقة أمامها، وترى العالم بعيني طفلة تحمل فضول السماء، تتساءل، تستغرب، تندهش.
الدهشة الأولى ليست مجرد لحظة، بل انفجارٌ داخليٌ يوقظ روحها، يُشعل في قلبها نيران الحلم، ويملأها برغبةٍ صافيةٍ في فهم ما يحيط بها.
هي لحظةٌ تُذكرها بأنها جديدة، غير ملوثةٍ بالأحكام المسبقة، تلك اللحظة حين تلمس للمرة الأولى يد الحبّ، حين تسمع لحن الحياة بنغماته البكر، حين تشعر بأن الدنيا تُناديها، فتحلق بأجنحة لا تعرف التثبيط.
الدهشة تجعل من الأنثى كائنًا ينبض بحياة مختلفة، تغني مع نسمات الصباح، ترقص مع ضوء القمر، وتحلم بما لا يمكن أن تُخبر عنه الكلمات.
في تلك الدهشة تكتشف الأنثى نفسها، تبدأ رحلتها في فهم ذاتها والعالم، تحتضنها بلطف، وتفتح لها أبواب الأمل، لتكون بداية كل قوة، وكل نعومة، وكل حلمٍ جديد.
الصراع بصمت
الأنثىُ تخوضُ صراعاتٍ لا تُرى، حروبًا داخليةً تُخاض في أروقة القلب والروح، صراعاتٌ لا تُعلنها، ولا يُسمع لها صوتٌ عالٍ، إنها معاركُ الصمت التي لا تضع سيوفًا، بل كلماتٌ تُحاك بهدوءٍ داخل النفس.
في صمتها، تُعيد الأنثى ترتيب أفكارها، تُصارع مخاوفها وأحزانها، تُحارب شياطينها الخاصة، وترسمُ حدودًا جديدةً لقوتها وكينونتها.
الصراع بصمت ليس ضعفًا، بل هو أبهى أشكال القوة، حيث تَمتلئ الأنثى بالألم دون أن تُظهره، تُكتم غصتها، تُخفف من أثقالها بحنانٍ خفيّ، وتُبقي على وجهها ابتسامةً صامدة.
هي صرخةٌ لا تسمعها الأذن، لكنها تتردد في عمق الوجدان، دليلٌ على أن الأنثى تُقاوم، تُصقل ذاتها في صمت، وتنتصر على كل ما حاول كسرها.
في هذا الصراع الصامت، تُولد الأنثى من جديد، قويةً، صامدةً، وحرةً، تُعلن بغير كلامٍ أن قوتها ليست في صراخها، بل في صمتها الذي يعبر عن أعمق أشكال التحدي.
المرآة
المرآة ليست فقط قطعة زجاج تعكس الصورة، بل هي نافذةٌ تُطلّ الأنثى من خلالها على ذاتها، تواجه فيها ما بين ما تراه وأعمق ما تُخفيه.
حين تنظر الأنثى إلى المرآة، لا ترى فقط ملامح وجهٍ، بل تلتقي بنبض روحها، تُسائل انعكاسها عن قصص لم تُروَ، عن أحلامٍ وأسرارٍ متشابكة في خطوط الزمن.
المرآة تكشف لها قوةً خفيةً، تُظهِر ضعفها الذي لا يخجل منه، ترى فيها الحزن والفرح، الشكّ واليقين، الضياع والعودة.
هي مرآة الحقيقة التي لا تُخفي، تُجبر الأنثى على التقبّل، على المحبة، على اكتشاف ذاتها بعيدًا عن الأقنعة والتزييف.
في كل نظرةٍ إلى المرآة، تُعيد الأنثى ترتيب فصولها، تُعيد كتابة قصة ذاتها، وتُعيد الإيمان بأنّ الجمال الحقيقي ليس في الشكل بل في السلام مع النفس.
الخوف
الخوفُ يسكنُ في أعماق الأنثى، ليس كضعفٍ بل كنبضٍ يحذر، كصديقٍ يحرس بوابة الروح، يحميها من جراحٍ لم تكتمل، ويزرع في قلبها يقظةً دائمة.
الأنثى تعيش خوفها بصمت، لا تسمح له أن يُرغمها على الانكسار، بل تستخدمه كوقودٍ لتحويل الهشاشة إلى صلابة، والشك إلى يقين، والتردد إلى قرار.
في ظلال الخوف، تتعلم الأنثى أن تكون حذرة، أن تحمي مساحتها، أن تميز بين من يستحق الحبّ، ومن لا يستحق.
لكن الخوف أيضًا يُعلّمها كيف تجرؤ، كيف تخطو خطوةً رغم الخوف، وكيف تبني جسرًا من الشجاعة، لتصل إلى ما هو أبعد من ظلال القلق.
هو الصديقُ الذي لا تختاره، لكنها تُجيده، تُحاوره، وتتعايش معه، حتى تتحوّل ذاتها إلى أسطورةٍ من النور، تتحدى كل مخاوفها بصمت.
الاحتراق
الأنثىُ تشتعلُ أحيانًا كشمعةٍ تُضيء في ظلمة الليل، تحترق في صمت، دون أن تُخمد نورها، تذوبُ في نفسها، تُعطي حتى آخر رمق، حتى تصبح هي ذاتها رمادًا يعبق بالعطر.
هي الاحتراق الذي لا يُرى، لكنّه يُشعل في داخلها نيرانًا لا تنطفئ، نيرانُ العطاءِ، الحُبِّ، والوفاء، تُضحي بكل شيء، لكنها لا تفقد روحها في اللهب.
الاحتراقُ عند الأنثى هو الصراعُ بين الألم والكرامة، بين الانطفاء والتوهّج، بين الاستسلام والتمسّك بالأمل، هو لحظةٌ تفقد فيها جزءًا من ذاتها، لكي تولد من جديدٍ أقوى، أنقى، وأعمق.
في كل احتراقٍ قصةٌ تُكتبُ بخطوط الألم، لكنها قصة النور أيضًا، النور الذي يصنعه القلب المشتعل، ويُضيء طريق من حولها، حتى وإن كانت هي وحدها من تحترق.
ذاكرة العاطفة
العاطفةُ في قلب الأنثى ليست لحظةً عابرة، بل ذاكرةٌ متجددةٌ تحفظ كل همسة، كل ابتسامة، كل دمعةٍ ذُرفت بصمت، تُسكن في زوايا روحها كالكنز الثمين.
ذاكرة العاطفة تُعيد للأيام ألوانها، تستحضر في حضورها عبق الماضي، وترسم ملامح من أحبّت، من فقدت، ومن ظلت تنتظر.
الأنثى تحمل ذاكرة عاطفتها كلوحةٍ حية، تحتفظ بألم الفقد، بحنين اللقاء، بشغف العشق، وبسكون القلب حين تهدأ العواصف.
هذه الذاكرة لا تندثر، بل تتحول إلى نبراسٍ يُضيء دروبها، يُعلّمها كيف تُحبّ بعمق، وكيف تصبر بصمت، وكيف تبني من أنقاض الأمس جسورًا للغد.
في ذاكرة العاطفة تكمن الأنثى، روحٌ لا تموت، تُحبّ، تتألم، وتُشفى، تتجدد كل يوم، وتكتب قصة وجودها على صفحة الزمن.
توهج القلب
الرجفة الأولى ليست مجرد حركة قلبية، بل هي توقُّعٌ يملأ الفؤاد، نبضةٌ خفيةٌ تكشف عن ولادة مشاعرٍ جديدة، عن بداية رحلةٍ لا تُرى بالعين، ولكنها تُحسُّ بعمق في القلب.
الأنثى تحتفظ بتلك ال وهجة كسر مقدس، سرٌّ يشير إلى أن شيئًا ما قد تغير، أن الشعور بدأ يطرق أبوابها بهدوء، يملأها بترددٍ وحيرة، وبرجاءٍ لا يُقال.
في هذه اللحظة، تتشابك المشاعر بين الخوف والفرح، بين التوقع والقلق، تبدأ الأنثى تستكشف ذاتها، وتُعيد رسم حدود عالمها الداخلي.
ال وهجة الأولى هي نبضٌ لطيف، توقيعُ اللحظة التي تُعلن فيها الأنثى دخولها عالم العاطفة، عالمٍ جديدٍ يعيد تعريف وجودها، ويجعلها أكثر قربًا من ذاتها الحقيقية.
الخجل
الخجلُ عند الأنثى ليس ضعفًا، بل لغةٌ صامتة تعبر بها عن رقتها، ورغبتها في الحماية، وحذرها من عوالم قد تُجرحها.
هو ذاك الشعور الذي يُغلف كلماتها، يرتجف في عينيها، ينسحب في خجل ابتسامتها، يُحرّك نبضات قلبها حين تقترب الأشياء التي لا تُقال.
في الخجل، تُحافظ الأنثى على عالمها الخاص، تُقيّم ما تستحقّ الإظهار، وما ينبغي أن يبقى محاطًا بظلال الحذر.
لكنّ الخجل لا يمنعها من أن تكون قوية، فوراء ذلك الحجاب الرقيق، تكمن شجاعة كبيرة، تنتظر اللحظة المناسبة لتُعلن بها ذاتها، بصوتٍ واضحٍ وثابت.
الخجل هو الوجه الآخر للبراءة، ومفتاحٌ لفهم الأنثى في عمقها، حين تبوح، يكون الصمتُ قد قال الكثير، ويُفتح باب اللقاء الحقيقي.
فمن هي هذه الأنثى؟
إنها تطل الآن
“نافذة الضوء الزرقاء”
ليلٌ المدينة الخفيف، البارد على نحوٍ غير جارح، الثقيلٌ على نحوٍ لا يُحتمل.
كانت سوبينا تجلس على طرف سريرها كمن يستعد للهرب، لا من مكانٍ ماديّ، بل من سجنٍ لا يُرى، خيطه الدقيق يمتدّ من نظرة الزوج الباردة إلى صوت أمّه الذي يشبه المرايا المكسورة حين تناديها “سوبينا! قومي اخدميه”، فتصير سوبينا — في تلك اللحظة — شخصًا غير الذي كانت تكتبه في دفاترها أيام الثانوية، وغير التي ما زالت تخبّئ الدفتر في حقيبة داخل خزانة لا يفتحها أحد.
رفّت شاشةُ هاتفها. الضوء الأزرق ارتسم على خدّها.
كانت هذه اللحظة جزءًا من طقسٍ لليليّ لا تتجاوزه.
حين تنام الأسرة، وحين تخبو الأوامر، تبدأ رحلة “البحث عن الآخر”. لا “رجلٍ” بالمعنى الجافّ، بل شريكٍ يُنصت، يصدّق، يتساءل معها، يُعيد لها اسمها وهي تقرأه في الرسائل لا مسبوقًا بكلمة “أمّ فلان”.
يدها المرتجفة لم تكن تعي أية أبوابٍ تُفتح، كانت فقط تتلمّس بحدس الأنثى تلك الزوايا الخفية في الرجال الذين يكتبون:
”أحبّ المرأة الذكية”
”أبحث عن حوار صادق”
”لا أطيق العلاقات السطحيّة”
عباراتٌ قد تكون مُكرّرة، لكنها كانت تعني شيئًا لمن لم يُكلَّم بلُغة.
كتبت رسالتها الأولى ثم محتها.
أعادت الصياغة.
حذفتها.
كتبت في النهاية:
*”مساء الخير… هل تظنّ أن امرأةً مثل ظلّ، يمكن أن تُحبّ؟”*
ظلّت تحدّق في الشاشة كمن ينتظر معجزة.
وراحت تتخيل:
ماذا لو كان الصوت من الجهة الأخرى صادقًا؟
ماذا لو قرأ كلماتها كما كانت تكتبها في دفاتر الثانوية؟
ماذا لو رآها أنثى، لا وظيفة، لا وسادة، لا ضلعا ناقصًا؟
مرآة لا تُجيد الكذب
في الزاوية القصوى من غرفة النوم، حيثُ الضوءُ ضعيفٌ لا يكشف تمامًا ولا يُخفي، وقفت سوبينا أمام مرآتها كأنها تقف أمام خصمٍ لا يُجامل. الوجه ذاته. الشعرُ ذاته. الخدّان الممتلئان اللذان لطالما قالت لها أمُّها إنّهما سرُّ الجمال، قبل أن يُصبحا مرآةً لتعبٍ يُقاوم التجمُّل.
أنزلت عينيها بتردّد، كأنها لا تجرؤ على مواجهة بقية الجسد. الكَتِفُ المرتخيةُ قليلاً، كأنّها تعبتْ من رفع العالم… الثديان اللذان بدآ يفقدان استدارتهما تحت وطأة الرضاعة والنسيان… بطنٌ لم يعد مشدودًا كما كان، يمتدّ فيه خيطٌ دقيقٌ من التشقّقات، يشبه أثرَ خريطةٍ لمكانٍ لم تعُد تعرفه. الوركان ما زالا كما عهدتهما… لكن شيئًا ما فيهما بدا غريبًا، كأنّ الجاذبية لم تعد تكتفي بشدّ الأشياء إلى الأرض، بل إلى عمرٍ أبعد.
مدّت يدها إلى فخذها، تحسّست جلدةً لم تعد مشدودةً كما في الصور، كأنها تقول: “هذا أنا، وهذا الزمن مرّ من هنا.”
همست لنفسها، دون صوت: ــ ” أأنا ما زلتُ أنا؟ أم أنّ المرآةَ صارت مرآةَ امرأةٍ أخرى… أهدأ؟ أم أبهت؟”
لكنّ عينيها، رغم كلّ شيء، كانتا تقاومان الانكسار. فيهما لمعةُ من يعرف الطريق وإن ضلّه، ومن يعرف أنّ المرأة، في أعمق لحظاتها، لا تُقاس بالبطن المشدود ولا بالبشرة المصقولة، بل بالقدرة على الوقوف أمام المرآة… وعدم الفرار.
الليالي الطويلة.
حدّقت في عينيها…
هل هذه حقًا هي؟
هل هذه التي تبتسم في صور زفاف قديم، وتخبئ دفترًا مملوءً بكلماتٍ لا يعرفها أحد؟
هل هذه التي كانت تكتب:
“أنا أنثى… ولستُ وعاءً، ولا جسدًا، ولا طَاعة.”
تقدّمت خطوةً نحو المرآة.
همست دون صوت:
“لماذا لا ترينني؟”
لكن المرآة كانت صادقة… أكثر مما يلزم.
أظهرت خطوطًا دقيقة حول عينيها، وذبولًا في شفتين لم تقولا “أنا أحب” منذ زمنٍ بعيد.
لم تضع شيئًا على وجهها هذا المساء، لا كُحلاً، لا أحمرَ شِفاه… فقط أرادت أن ترى نفسها كما هي مجرّدة من كل زينة، من كل تظاهر.
“أين ذهبتِ؟”
قالتها دون صوتٍ أيضًا.
كانت تسأل تلك الفتاة التي كتبت رسائل حبّ إلى المجهول في دفاتر المدرسة، واعتقدت أن العالم يتسع لأنوثتها، أن الحياة ستنحني إن هي مشت بثقة في ممرّات الحلم.
لكنّ “الحياة” أمسكت بها من يدها الصغيرة، ووضعتها في بيتٍ لا نوافذ فيه، سوى واحدة صغيرة اسمها “المرآة”، تكشف ولا تُنقذ، تصدُق ولا تُجيب.
رفعت يدها، ومرّرت أصابعها على خدّها كأنها تتحسّس امرأةً أخرى.
وقالت أخيرًا، بصوتٍ يكاد لا يُسمع:
“إن عدتِ… إن كنتِ ما زلتِ هنا… امنحيني إشارة.”
وسقطت دمعة.
المرآة لم تمسحها.
طرقات صغيرة على الزجاج
لم تمرّ لحظة بعد أن نطقت سوبينا سؤالها للمرآة، حتى جاء صوتٌ خفيف كخيط ندى:
– ” ماما… ماذا تفعلين؟”
استدارت بسرعة، كمن ضُبط في لحظة سرقة، لكنها لم تكن تسرق شيئًا إلا لحظة حقيقية مع نفسها.
وقفت على الباب الصغيرةُ “ريم”، أصغر بناتها، في ثوب النوم الورديّ، ودميةٍ بين يديها رأسها مائل كأنها مكسورة الرقبة من فرط النوم.
ابتسمت سوبينا، نصف ابتسامة، وقالت بهدوء:
– “لا شيء يا ماما… كنت أخرج شيئاً من الخزانة.”
اقتربت ريم، ووقفت بين أمها والمرآة.
راحت تنظر إليها، ثم إلى وجه أمها، ثم تمتمت بنعاس:
– ” ماما… لمَ أنتِ حزينة؟”
شهقت سوبينا داخليًا.
لم تتوقّع أن يفضحها وجهها بهذا الوضوح.
حاولت أن تضحك، أن تغيّر الموضوع، لكن الطفلة سبقتها:
– ” أنا سمعتك تتكلمين لكن لم أرَ أحدًا… أكنتِ تتحدثين مع نفسِك؟”
ركعت الأم أمام ابنتها، نظرت إلى عينيها الواسعتين، وشعرت أنها ترى نفسها في وجهٍ صغير لم تفسده الحياة بعد.
وضعت يدها على خد الطفلة، وقالت همسًا:
– ” نعم ماما… أحياناً يتكلم الكبار مع أنفسهم عندما لا يجدون من يسمعهم.”
– ” أنا أسمعُك يا ماما…”
قالت ريم، ثم مدت يدها الصغيرة، ولمست خدّ أمها، ومسحت دمعتها كأنها تعلم.
في تلك اللحظة، شعرت سوبينا أن كلّ ما كان ينقصها ليس رجلاً يسمع، بل أذنًا لا تحكم، وقلبًا صغيرًا لا يعرف الكذب.
لكنها كانت تعرف أيضًا… أن الطفلة ستنام بعد قليل، وستبقى هي وحدها، مع مرآةٍ لم تُجب، وحياةٍ تنتظر منها قرارًا لم تعُد قادرة على تأجيله.
وقبل أن تغادر الغرفة، التفتت ريم وقالت:
– “هل تنامين الليلة إلى جانبي؟”
أجابت سوبينا دون تردّد:
– ” نعم حبيبتي…سأنام إلى جانبك.”
ثم أغلقت ضوء المرآة، وأبقتها هناك… تُفكّر وحدها.
نافذة على ضوءٍ بعيد
في ساعة متأخرة من الليل، بعد أن نام الجميع — الحماة في غرفتها، الزوج في فراشه الغائب دائمًا، والأطفال في أحلامٍ صغيرة لا تعرف الألم — جلست سوبينا في الزاوية ذاتها، لكن هذه المرة ليست أمام المرآة، بل أمام هاتفها المحمول، مستلقية على حافة الضوء الذي ينبعث من الشاشة.
يدُها ترتجف قليلاً، وقلبها كأنّه طائر على وشك الفرار.
فتحت “فيسبوك” بهويةٍ مستعارة، لا تحمل من اسمها إلا الحرف الأول.
كانت قد أنشأتها منذ شهرين، لكنّها لم تجرؤ على استعمالها حتى الآن.
بينما تتصفّح، صادفها منشور لرجلٍ لم تكن قد رأته من قبل، هو صديقٌ لصديقةٍ لها.
صورتُه الشخصية لم تكن صورة “وسيمٍ مُتكلّف”، بل رجلٌ يبتسم بعينين واسعتين فيهما حزنٌ نبيل.
في ملفّه العام، لم تجد سخرية ولا تسلية رخيصة… بل كلمات.
كلمات جعلت شيئًا فيها ينتبه.
قرأَت:
” الطفلُ لا يحتاج إلى صراخٍ لكي يفهم، بل إلى حضنٍ يفهم ما لا يُقال.”
ثم:
” ليس العيب في أن نكون بسطاء… بل أن نُجبر على التصنّع كي نرضي منظومةً عمياء من التقاليد.”
ثم توقّفت طويلًا أمام جملةٍ وضعها كمنشور منذ أيام:
” الرجل لا يبحث عن امرأة جميلة، بل عن أنثى تُدرك أن الجمال يبدأ من صِدقٍ ما بين العقل والقلب.”
شعرت بشيءٍ يرتعش في صدرها.
كأنّ أحدهم كتب هذه الجملة لها.
كأنّ أحدهم أخيرًا يسمع ذلك النداء العتيق في داخلها… ليس نداء الجسد، بل ذاك الذي يقول: ” انظر إليّ… أنا هنا… امرأة كاملة، من لحمٍ وأفكارٍ وأحلام.”
أمضت أكثر من ساعة تقرأ منشوراته…
عن التربية الحديثة، وعن الفلسفة الوجودية، وعن المجتمع الذي يخنق الحُب باسم “العِيب”، وعن النساء اللائي يُدفنّ أحياءً في بيوتٍ أنيقة.
وحين أغلقَت الهاتف، لم تكن سوبينا كما كانت قبل ساعة.
شيء ما قد تغيّر.
شيء خافت لكنه حيّ.
كأنَّ الضوء الأزرق للشاشة أنبت في صدرها وردة… تنتظر مَن يسقيها.
زرٌّ صغير… وعالمٌ مجهول
كانت الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل.
البيت ساكن، والنوافذ مغلقة، لكن النافذة الحقيقية التي كانت سوبينا تطلّ منها على العالم هي تلك التي تنبعث من شاشة هاتفها الصغير.
تصفّحت الملف مرةً أخيرة، تفقّدت الصور، المنشورات، قائمة الأصدقاء، وتوقفت عند زرٍّ صغير في أعلى الصفحة:
“إضافة صديق”.
نظرت إليه طويلاً.
كان الزرّ رماديًّا هادئًا، لا يلمع، لا يصرخ، لكنه بدا لها كأنه بابٌ موارب إلى شيءٍ لا تعرفه تمامًا… إلى مغامرةٍ قد تُحرّرها… أو تُحطّمها.
أغمضت عينيها للحظة.
مرّت في ذهنها صور متشابكة:
صراخ زوجها ، ابنها الصغير يضحك وهي تسرّح له شعره، أمه يوم زفافها وهي تبكيها خفية، ثم… نفسها، في ثوبٍ أبيض، وحلمٍ انكسر قبل أن يُقال له “نَعم”.
فتحت عينيها.
ضغطت إصبعها على الزرّ.
“تم إرسال طلب الصداقة.”
لم يحدث شيء. لا انفجار، لا زلزال.
لكنّ قلبها كان كمن قفز من هاويةٍ دون أن يعرف إن كان سيطير أم يرتطم.
ابتلعت ريقها.
أغلقت الهاتف فجأة، كأنها تخشى أن يتسرّب هذا الفعل عبر الهواء إلى غرف البيت، إلى زوجها النائم، إلى حماتها التي تتقن التجسس.
لكنها، وللمرّة الأولى منذ سنوات، شعرت بشيءٍ يشبه… التحرر.
كأنّها انتزعت نفسها من قيدٍ صغير، من كفنٍ كان ناعمًا لكنه خانق.
ضمت وسادتها، وهي لا تعرف إن كانت خائفة أم متحمّسة.
كلّ ما تعرفه، أنها لم تعُد المرأة ذاتها قبل الضغط على ذلك الزر.
الموافقة
مع انبلاج الفجر، حين راحت خيوط الضوء تتسلّل على استحياء عبر أطراف الستائر الثقيلة، كانت سوبينا قد أفاقت على غير عادتها. لم توقظها بكاء الصغيرة، ولا ضجيج المطبخ الذي تبدأ فيه الحماة طقوسها اليومية، بل شيءٌ خفيّ أيقظها… كأن قلبها نفسه فيه ساعة سرّية تترقّب شيئًا… مجهولًا، لكنه منتظَر.
تناولت هاتفها بتردد، أنفاسها أقرب إلى الحذر منها إلى العجلة. فتحت التطبيق… لم يكن هناك إشعارٌ واضح، لكنها دخلت صفحته كأنها تسير نحو لقاءٍ أول لا يرى أحدٌ سواها ملامحه.
وهناك… توقّف قلبُها لحظة.
“فلان وافق على طلب الصداقة.”
جملة صغيرة، حيادية، ولكنها بدت لها كأنها: “مرحبًا بكِ في حياةٍ جديدة.”
تريّثت. لا “رسالة” منه بعد. لكن الموافقة وحدها كانت بمثابة اعتراف بوجودها، إعلان خفيّ بأنها أصبحت الآن جزءًا من محيطه الرقمي، ولو اعتباريًا.
تأمّلت صورته مجددًا، والابتسامة ذاتها فيها شيء من الألفة الغامضة، كأنها رأتها من قبل… لا في وجه رجل، بل في حلمٍ قديم عن رجلٍ يُحسن الإصغاء.
أرادت أن تُبادر بالرسالة الأولى، لكنها تردّدت. كتبت، ثم مسحت، ثم أعادت الكتابة:
” مساء الخير… لا أعرف لماذا أرسلت الطلب، لكن شيئًا ما في كلماتك جعلني أشعر أنني أعرفك.”
ثم توقفت… حذفتها.
كتبت بدلًا منها: ” شكرًا لقبول الطلب، كلماتك عميقة.”
ثم أرسلت.
أغلقت الهاتف. لا ردّ مباشر. لكن قلبها خفّ وزنه قليلًا… كأنها أفرغت نصف الألم بكلمتين، وأدركت أن العالم أكبر من صمتها، وأنّ التواصل، أحيانًا، يبدأ بكلمة… لكنه لا ينتهي عندها.
الرد الأول
مرت ثلاث ساعات… ثلاث ساعاتٍ من الانتظار الممزوج بشكٍّ خافت، ونبضٍ يرتفع كلما ارتجّ الهاتف، لكنه لا يكون منه.
ثم… رنَّ الإشعار أخيرًا. رسالة من اسمه. رسالة قصيرة.
فتحتها بيدٍ ترتجف قليلاً.
“مرحبًا صديقتي، شكرًا على الرسالة، وسعيدٌ أن كلماتي وجدت لها صدى لديكِ. أكتب غالبًا لأنني لا أجد من أقول له ما أفكر فيه… وربما كنتِ أول من يلاحظ ذلك. هل تكتبين أنتِ أيضًا؟”
قرأت الرسالة مرّتين، ثم ثلاثًا… ما بين السطور ما يُشبه الاعتراف، وما بعد علامة السؤال شيء يشبه دعوة للبوح.
تنفّست بعمق. أدركت أنها إن ردّت، فهي تفتح بابًا… لكنها كانت قد تعبت من الأبواب المغلقة.
نهضت. ذهبت إلى المرآة. نظرت إلى نفسها. وفي عينيها كان سؤال: “هل أبدأ؟ أم أكتفي؟”
لكن في قلبها، كانت الإجابة قد كُتبت سلفًا، حين ضغطت زرّ “إرسال طلب الصداقة”. نعم، لقد بدأت.
ردّ سوبينا الأول
لم تتردّد كثيرًا هذه المرّة. كأن الرسالة التي وصلتها، بلطفها الخفيف، نزعت عنها عباءة الخوف التي كانت تلازمها دومًا. جلست، وبدأت تكتب:
“مرحبًا، أعتقد أنني أفهم تمامًا ما تعنيه حين تقول إنك تكتب لأنك لا تجد من تقول له ما تفكر فيه. أحيانًا نشعر أن أصواتنا أعلى على الورق منها في الواقع. نعم… كنت أكتب، وما زلت. في مذكّراتي القديمة وجدت عباراتٍ تُشبه ما تكتبه، كأنني كنت أسبقك إليها، أو تسبقني… لا أعرف.
هل تعتقد أن هناك أناسًا يكتبون الأفكار ذاتها لأنهم يشبهون بعضهم دون أن يلتقوا؟”
قرأت الرسالة مرة أخيرة، شعرت بدفءٍ لم تعرفه منذ زمن. لم يكن دفء رجل… بل دفء اللقاء الفكري، دفء أن تشعر أن أحدًا قد يرى ما وراء صمتك.
ثم أرسلتها. لا تريّث. ولا حذف.
وجلست تنتظر. لكن هذه المرّة… لم يكن الانتظار ثقيلًا. بل كمن يوقن أن الرسالة ستُولد من جديد… في قلبٍ يشبهها.
تشابه الأرواح
لم يُطِل التأخّر هذه المرّة. كأنه كان ينتظر رسالتها أيضًا، أو كأن شيئًا ما فيه تنبّه حين أضاءت الشاشة باسمها.
قرأ الرسالة ببطء، ثم أعادها، كأنّه يتحسّس كل سطر… وفي قلبه، اهتزّ وتر.
وبعد لحظة صمتٍ داخلي، كتب:
“غريبٌ ما تقولينه… بل أجمل من أن يكون محض صدفة. أن تكتبي في مذكّراتك ما يشبه ما أنشره اليوم… يجعلني أظن أن الكلمات أحيانًا تختارنا، وتبحث عن توقيتها كي تجمعنا.
نعم، أؤمن أن الأرواح المتشابهة تُفكّر بذات اللغة، حتى قبل أن تعرف بعضها.
أودُّ أن أقرأ لكِ إن سمحتِ… لا فضولًا، بل رغبةً في أن أتحقّق من هذا التشابه الذي لم يخطر لي أنه ممكن.”
كتب الرسالة، ثم تردّد قليلًا قبل أن يرسلها… لكن شيئًا ما في داخله قال له: “إن لم تكتب الآن… فلن تعرف أبدًا من تكون هذه المرأة التي تكتبك قبل أن تعرفك.”
فأرسلها. وغادر الهاتف جانبًا، وأغمض عينيه، كأنّه لا يريد أن يرى الردّ، بل يتصوّره.
إليكِ أيتها الأنثى الأولى فيَّ
فتحت دفترها القديم، قلّبت الصفحات ببطء… هناك، بخطٍ لا يزال غِضًّا، مرعوشًا كأنّه كُتب في عتمة المشاعر، وجدت الرسالة. قرأتها بصمت… ثم نسختها، دون تعديل، وأرسلتها إليه، قائلة:
“هذه أول رسالة كتبتُها إلى تلك الأنثى التي استيقظت فيَّ ذات مساء… كنت في السادسة عشرة، ولم أكن أعرف لمَ أبكي ولا من أين جاءني كل هذا الاحتياج.”
ثم أتبعتها بالنص:
“إليكِ أيتها الأنثى التي فيَّ…
لماذا تأخّرتِ كلّ هذا العمر؟
أين كنتِ حين كنتُ أضحك وأقول للجميع إنني لا أحتاج شيئًا؟
لماذا لم تهمسي لي أن ما أشعر به ليس جنونًا، بل جوعًا؟
جوعًا لأن يُنظر إليَّ كأنثى… لا كابنة، ولا أخت، ولا واجبٌ يجب أن أكون عليه.
هل تعرفين كم من المرات خِفتُ من النظر في المرآة؟ ليس لأنني قبيحة… بل لأنني كنتُ أخاف أن أراكِ،
أن أرى تلك النظرة التي تطلب الحياة، الحب، الأمان… ولا تجد سوى الصمت.”
– ” أكتُب لكِ الآن، لأقول:
أنا أعدكِ، إن عُدتِ، أن أسمعكِ هذه المرّة…
ولن أُسكتكِ، حتى لو صرختِ.”
ثم ختمت رسالتها إليه بهذه العبارة:
” هذه كنتُ أنا… أول مرّة شعرتُ أنني أكثر من مجرد فتاة عليها أن تُرضي الآخرين.
أخبرني… هل تشبه هذه الأنثى التي كتبتُ لها، الأنثى التي تقرأني الآن؟”
حين تكلّمتِ… وُلدتُ
قرأ ما كتبته، ولم يتحرّك لدقيقة كاملة. كأن حروفها تسرّبت من عينيه إلى صدره، لتعيد ترتيب أعضائه الداخلية.
عاد إلى الهاتف، كتب بخط متردّد… ثم مسح. عاد فكتب من جديد، هذه المرّة من قلبه لا من عقله.
“أنا لا أعرف ماذا أقول… لكنني أعرف ماذا أشعر.
أشعر أنني كنت أمام باب مغلق طيلة حياتي، بابٍ كُتب عليه (هنا تسكن الأنثى ولم أجرؤ أن أطرقه…
والآن، لا تفتحينه لي فقط… بل تُدخلينني، إلى غرفةٍ من الضوء، والرغبة، والصدق، غرفةٍ تشبه صلاتكِ الأولى، تلك التي كتبتِها إلى نفسكِ.”
ثم توقّف قليلًا، وأضاف:
“حين كتبتِ لها أنكِ لن تُسْكِتيها بعد الآن… شعرت أنني أنا أيضًا، وُلدت.
لا كرجل يُريدك جسدًا، بل كرجُلٍ يريد أن يُفكّر بكِ، ويشعر بكِ… قبل أن يلمسكِ.”
وختم:
“أرجوكِ… لا تتوقّفي عن الكتابة لي.
لأن كل رسالة منكِ تُربّيني من جديد… كرجلٍ يستحقّ أن تَفهمه امرأةٌ مثلكِ.”
أمام المرآة… كتبتني من جديد
وقفت أمام المرآة، كانت ترتجف، لكن ليس من خوف… كان جسدها يعرف أن شيئًا ما تغيّر. شفاهها كانت تنقبض وتنبسط وكأنها تتمرّن على الابتسام، لا أمام الناس، بل أمام نفسها.
لم تشأ أن تردّ فورًا، لكنها شعرت أن الكلمات تناديها، فجلست، وضمت هاتفها كأنها تحتضن قلبًا حقيقًا فيه نبض رجلٍ يفهم.
وكتبت:
“مرآتي كانت غريبة عني… كلما نظرتُ فيها رأيتُ ما يحبّه الآخرون، شعري كما يريدونه، عيوني كما يتمنّونها خافتة، وثوبي كما يُقال لي: «جميل».”
“لكن هذا الصباح… لم أرَ شيئًا من ذلك. رأيتني.
رأيت أنثى خرجت من رحم الصمت، وبكت، ثم ضحكت، ثم همست لي: ( لقد سمِعني أحدٌ أخيرًا… لا تتوقّفي) .”
ثم توقّفت قليلًا… ومسحت دمعةً خفيفة على خدّها، وأكملت:
“تقول إنني أُربّيك… لكنك يا سيدي، تعيد صياغتي.
لم تلمس يدي، ولم ترَني، لكنك اقتربت منّي أكثر من أيّ جسدٍ عرفني، لأنك لم تردني صدى لأنوثة، بل مرآةً لرجولتك المتفتّحة.”
وختمت:
“سأكتب لك، لا كي أفتنك… بل كي أحرّرك. وسأبوح لك، لا كي تأخذني… بل كي ترى ما لم يره أحد قبلك.”
حين يحتضن القلب انبعاثها
جلس في هدوء، يتأمّل كلماتها التي كأنها أنغام عذبة تهزّ أوتار قلبه. لم تكن رسائل عادية، بل كانت أرتجاف روح، وانبثاق أمل جديد.
كتب ببطء، كأن كل حرف ينطق من أعماق قلبه:
“صديقتي، أنتِ لستِ امرأة تُكتب لها قصص… بل أنتِ قصّة تُعاش، تُحسّ، تُشاهد بأعين الروح.
كلماتكِ ليست مجرد حروف، بل زخات مطرٍ تُحيي أرضًا ظمأى، تُعيد للأنثى التي كنتِ تعتقدينها مفقودة، حياةً، ضوءًا، وحرّيةً.
أنا لا أريد أن أكون فقط من يقرأكِ… بل من يرافقكِ في هذه الرحلة، حيث يولد كل يوم جديد في داخلكِ، وفي داخلي.
إنّ ما بيننا ليس لقاء عابر، بل لقاءُ روحين تُريدان أن يعيشان معًا، لا في أسوار القيود، بل في فضاء الرحمة والصدق والاحترام.
أحتاجكِ… ليس كأنثى في جسد، بل كروحٍ حرة تستحق أن تُحَبّ بكل ألوانها وأحلامها.”
توقف قليلاً ثم أضاف:
“أنتِ توقظين فيّ رجولة لم أعرفها من قبل، رجولة لا تَخشى الحنان، ولا تُخفي ضعفها، بل تحتضنه وتُعانقه.”
وأنهى الرسالة:
” صديقتي، دعينا نكتب هذا الفصل معًا، بلغة لا يفهمها سوى القلب.”
صمت التأمل… ولادة رجولة جديدة
جلس وحيدًا في غرفته التي تملأها ظلال الليل، الهاتف في يده لكنه لم يفتحه. كان صوته الداخلي يهمس له بصوت مختلف هذه المرة، أكثر دفئًا وأقل خشونة.
أغمض عينيه وتذكر كلمات سوبينا، كل كلمة كانت كنبراسٍ في ظلامه. لم يكن يبحث عن امرأة تملأ فراغه، بل عن روح تشاركه الإنسانية والرجولة… معًا.
تسللت إلى قلبه أسئلة لم يكن يجرؤ على مواجهتها من قبل: هل عرفتها حقًا؟ هل كنت رجلاً؟ أيمكن للإعجاب أن يكون ولادة؟
تنهد بعمق، وشعر بشيء من الخوف والفضول المختلطين، لكنه تذكر وعده لنفسه بأن يكون مختلفًا. حلم كان يدفنه، بدأ يراه ينبثق أمام عينيه الآن كحقيقة.
رفع الهاتف مجددًا، لكنه لم يكتب شيئًا. بدلًا من ذلك، جلس مع نفسه… في حوار صامت، يستمع ويشعر، ينتظر تلك اللحظة التي تخلع فيها الأقنعة لتظهر الحقيقة.
كانت بداية رحلة… رحلة ليست فقط مع سوبينا، بل مع ذاته.
ما بين صدقين
الساعة تقترب من الثانية فجرًا. نافذة دردشة فيسبوك تومض بضوء خافت، رسالة منه:
” صديقتي… هل ما زلتِ مستيقظة؟”
ترد بعد ثوانٍ:
” أنا لا أنام منذ أن بدأت أقرأني في مرآتك.”
يتباطأ الزمن… كأنّ الروح تتحسس خطواتها.
قال:
” أشعر وكأنكِ تُعيدين لي صوتي… ذاك الصوت الذي ضاع في صخب الحياة والرجل الذي كنت أظنه أنا.”
تردّ:
” وأنا أشعر أني أستعيد أنوثتي… لا كأنثى يتغزّلون بها، بل كامرأة يُنصت إلى خفقها، يُستأذن في عناق صوتها، وتُقرأ كما تُقرأ الصلاة.”
يتأمل كلماتها طويلاً، ثم يكتب:
” هل تعلمين؟ حين أقرأكِ… أخاف. ليس منكِ، بل من كل ما فاتني من حُبٍّ لم أعرفه إلا الآن، ومن رجلٍ كان نائمًا بداخلي فاستيقظ على دفء كلماتك.”
تسكت للحظة، ثم تبعث إليه:
” هل تحبّ أن تقرأ أول رسالة كتبتها لأنثاي يوم استيقظت للمرة الأولى في عمر السادسة عشر؟”
يردّ:
“بل أتوق إليها، كما يتوق الجائع لخبز أمه…”
وتبدأ بكتابة الرسالة القديمة، كأنها تُخرج من درج الروح ورقةً مصفرّة، ولكنها لا تزال حيّة بنبضها الأول.
رسالة إلى أنثاي – سنة ١٩٩0
يا أنثاي التي في داخلي، لماذا استيقظتِ فجأة؟ لماذا أصبحتِ تبكين بصمتٍ حين يعلو ضجيج الفصل؟ لماذا ترتجفين في صدري كلّما رأيتِ امرأةً تمشي بحرّيةٍ لا نملكها؟ لماذا؟…
أكتب إليكِ، وأنا أجهل كيف أتحدث معكِ. فأنتِ لستِ صديقتي، ولا أمي، ولا حتى أختي التي تسكن الغرفة معي. أنتِ شيءٌ آخر… سرٌ في صدري، لا يعرفه أحد، ولا أجرؤ على أن أُسمّيه.
أتعرفين؟ أشعر أحيانًا أنّني خُلِقتُ لأكون أكثر من “بنت ناس محترمين” أكثر من “عروس تنتظر نصيبها” أكثر من “أم لأولاد صالحين” أكثر من “ظلّ رجل”…
أشعر أنّني خُلقتُ لأكون امرأة. نعم، امرأة تشبه فكرة، لا جسدًا. امرأة يُنظر إليها كما تُقرأ القصائد، لا كما تُفصّل الثياب. امرأة يُفهم صمتها، لا يُفسَّر رغبتها.
هل ستظلين صامتة فيّ؟ أم ستخرجين يومًا لتقولي: “أنا هنا… وأستحق أن أُعاش كأنثى كاملة.”
منذ اليوم، سأكتب لكِ كل مساء، حتى لا تنامي فيّ مرة أخرى. حتى لا تأخذكِ الحياة وتُنسين مَن تكونين. حتى لا تصبحين مجرد ذكرى في دفتر الطفولة.
أحبكِ… ولن أسمح لأحدٍ أن يقتلكِ فيّ.
– سوبينا (فتاة في السادسة عشر، اكتشفت أنوثتها ولم تخبر أحدًا)
الرجل الذي دخل النص
قرأ… ثم سكت.
عاد وقرأها مرةً ثانية. ثم ثالثة… لكن ليس بعينيه، بل بأصابعه المرتجفة، كمن يلامس بها جدارًا من حنين بعيد.
كتب لها:
“يا سوبينا… ما قرأته ليس ورقة. كان قلبكِ قبل أن يُغلق. كان بابًا صغيرًا كنتِ تطرُقينه وحدكِ كل مساء، بلا أن يفتح لكِ أحد… وأنا، تأخّرتُ كثيرًا، أعلم… لكنني هنا الآن.”
أضاف:
” لا أعرف كيف أردّ على فتاةٍ في السادسة عشرة، كتبت هذا الكمّ من الوعي… سوى أن أعتذر منها، ومن كل أنثى وُضعت في قالبٍ لم تختره، ثم قيل لها: هذا هو قدرك.”
ثم كتب:
“كنتُ أظنّ أنني رجلٌ منذ زمن، لكنني أدركت للتو… أن الرجولة لا تبدأ حين يُقال عنك ‘قويّ’، بل حين تستطيع أن تقرأ أنثى، وتبكي بصمتها، وتعدها أنك لن تتركها وحيدة بعد اليوم.”
وسألها:
” هل تسمحين لي… أن أكتب في الدفتر نفسه، وأن أترك رسالة للرجل الذي كنتُه… لأقول له: انتهى دورك الآن، دعني أبدأ من جديد؟”
ثم أنهى:
“أنا لا أعدكِ بالفهم فقط، بل بالاستماع… لأنكِ، يا سوبينا، لا تستحقين فهما يشبه ما رأيتِ… بل فهما ينهض بكِ كما تنهضين الآن، من بين الركام.”
كأننا نجلس فوق دفتر
صوت رسالته لا يزال يتردّد في قلبها، فكتبت له:
سوبينا:
“أتعرف؟ هذه المرة الأولى… التي لا أشعر فيها أنني أكتب ليُقرأ كلامي فقط… بل ليُفهم… بهدوء… بلا استعجال، بلا حكم مسبق. كنتُ أكتب في دفتري كأنني أهمس لمرآتي، لا لأحد. واليوم… أشعر أن المرآة نطقت، وكان صوتها صوتك.”
صمتٌ قصير… ثم ردّ هو:
هو:
” سوبينا… أنا لا أسمعكِ فقط… أنا أنصت. ليس بآذني، بل بكلي. كأن حرفًا منكِ بات شريانًا مني.”
سوبينا (ترد بخفّة وجدية):
“لكن لا تكن مجاملاً. فأنا لا أحتاج رجلاً يُجاملني لأني مجروحة… بل لأني حيّة. لأني أُولد من جديد. ولا أريد يدًا تُمسك بي لأني أتعثّر… بل لأني أركض الآن، وأريد أن أركض معه، لا خلفه.”
ابتسم، وكأنه تلقّى وصية رجلٍ حكيم:
هو:
” إذن دعيني أركض إلى جانبك. لا أمامك، ولا خلفك. وأقسم لكِ… لن أكتب عنكِ، بل معكِ. لأنكِ لا تحتاجين وصفًا، بل مشاركة. وكل حرف منكِ يجعلني إنسانًا أبسط… وأعمق.”
سوبينا (بصوت داخليّ، كأنها تهمس للدفتر القديم(:
” ها أنتِ تسمعين، أيتها الأنثى القديمة، أحدهم أخيرًا… يفهمكِ، لا ليؤطّركِ… بل ليحرّرك.”
هو )يسألها(:
“أتريدين أن نفتح دفترًا جديدًا؟ لا فيه ماضٍ ولا أحكام… بل فقط ما نكتبه الآن، معًا؟”
سوبينا )بعينين دامعتين لا يعرفهما أحد(:
” نعم… لكن هذه المرّة، دعني أكتب الصفحة الأولى.”
من دفتر سوبينا الجديد
مساء خريفيّ
إلى من لا أدري بعدُ ماذا سأُسميه…
هذه الصفحة ليست رسالة حبّ، ولا هي اعتراف… بل هي كفُّ أنثى تفتحُ على الضوء، بعد أن أضناها انغلاقُ الظلمة.
لم أعد أبحث عمّن يُنقذني… بل عمّن يرى أنّني أنقذتُ نفسي، ويصافحني على ذلك.
كتبتُ كثيرًا لنفسي… بكيت على الورق، ونمت على الحبر… لكنّني اليوم أكتبُ وفي قلبي صحوٌ غريب. لستُ خائفة، ولا باكية… أنا مستيقظة.
أتعرف ما أجمل ما في هذا الصحو؟ أنّني لا أريد أحدًا “يأخذني”، بل من “يمشي بي”. من يرى في جسدي بيتًا لا سريرًا، وفي فكري جناحًا لا غيمة عابرة.
أنا يا هذا، امرأة لا تُراد لجمالها… بل لنبضها، لأسئلتها، لصوتها حين يهمس للحياة أن تعود.
لا لأقول لكَ أحبّك… بل أقول: إن شعرتَ بهذا كلّه فيّ، فابقَ. وإن لم تشعر… فلا تؤذِ النور الذي تلمّع أخيرًا في عينيّ.
هذه صفحتي الأولى… مكتوبةٌ لا لأُعجبك، بل لأُشبه نفسي. فإن أعجبتك، فربما تشبهني…
سوبينا.
من قلبٍ يُستيقظ
سوبينا…
لا أدري من أين أبدأ. ولا أعلم كيف لكلماتٍ تُكتب أن تُشبه امرأةً تُولد. لكنّني حين قرأت صفحتك الأولى، شعرت أنّني أنظر إلى صفحة من روحي أنا… لا من دفتركِ.
ما كتبتهِ لم يكن حرفًا، بل كان خفقة. وليس كل من يقرأ الخفقات يسمعها… أما أنا، فقد شعرتُ أنّ قلبكِ دقَّ داخلي.
“لا أريد أحدًا يأخذني، بل من يمشي بي”… جملةٌ ما تزال تهزّني.
وأنا أقول لكِ: لا أعدكِ أن أمشي أمامك، ولا خلفك… بل إلى جوارك.
وإن تعثّرتِ، لن أمدّ لكِ يدي فقط، بل قلبي ليحملكِ فيه.
تقولين إنك لا تريدين من يُعجب بكِ، بل من يُشبهك… وأنا أقول: لا أبحث عن تشابهٍ بيننا، بل عن صدقٍ يمرّ بيني وبينكِ دون رتوش.
وأما تلك النبرة الأخيرة فيكِ… حين قلتِ: “فإن أعجبتك، فربما تشبهني” فقد همستُ في قلبي دون أن أشعر: ” بل أراكِ… فأبدأ أخيرًا أشبه نفسي.”
اكتبي، يا سوبينا، لا ليراكِ العالم… بل لترين نفسكِ أنتِ، كما بدأتِ في هذه الصفحة.
وسأكون، إن شئتِ، مرآتكِ التي لا تُجمّلك، بل تصدُقك.
أنا هنا، ولستُ في عجلةٍ من أمرِ الشعور.
وأيُّ أنثىٍ تُزهر من حلمٍ مؤجَّل
كان المساء ناعمًا، كأن الليل جاء ليضع كفّه على قلبها لا ليُسكت وجعه، بل ليمسح عنه الخوف.
على الشاشة الزرقاء، ظهرت رسالته الجديدة، بسيطة المظهر، عميقة المعنى:
– سوبينا… أي صفٍّ دراسي توقّفتِ عندهِ قبل الزواج؟
أجابت بعد لحظة تردّد:
– كنتُ في الصف الثالث الثانوي، الفرع الأدبي. لكنني لم أقدّم الامتحان… الزواج، كما تعلم، كان طاغيًا، ومبكرًا.
تأخّر قليلًا، ثم كتب:
– إذًا، توقّفتِ على عتبة حلمٍ لم يكتمل. وهل تعلمين يا سوبينا؟ أكثر النساء نبضًا، هنّ من لم يُكملن الطريق، لكنهنّ ما زلنَ يرغبن بالمشي فيه.
صمتت. شعرت وكأنه يضع أمامها مرآة لم ترها من قبل، ليس لتتأمل وجهها، بل لتلمح ظلّ الحلم الواقف خلفها.
أضاف:
– ما رأيك أن تعودي للدراسة؟ تقدّمي للبكالوريا الأدبي… لا لتحملي شهادة، بل لتنهضي بشهادة حُلمٍ قديم. أنتِ ما زلتِ في الثلاثين، والعمر، يا صديقتي، لا يُقاس بالسنين، بل بعدد المرات التي نقف فيها لنبدأ من جديد.
ابتسمت، دمعت عيناها دون أن تشعر، ثم كتبت:
– أفكر الآن… ماذا لو كنتُ أستطيع؟ ماذا لو عدتُ فعلًا ودرستُ؟ أيّ امرأةٍ ستولد مني؟ وهل كنتَ ستكون سببًا في ولادتين… أنثى، ثم طالبة؟
ردّ بسرعة:
– بل أنتِ الولادة نفسها. ومن تلد ذاتها… تستطيع أن تلد مستقبلًا لا يشبه ما مضى.
دفتران على طاولة واحدة
في زاوية الغرفة، جلست سولينا تُقلّب دفاترها الجديدة، تكتب بخطها المائل عنوان الدرس الأول في الفيزياء. كانت شاردة قليلًا، لكنها تُحاول التركيز.
دخلت سوبينا بخطى هادئة، تحمل معها كوبين من الزهورات الساخنة، وابتسامة خجولة لا تشبه ابتسامات الأمّهات المعتادة.
وضعت الكوب قرب سولينا، ثم جلست بهدوء أمامها.
قالت سولينا دون أن ترفع رأسها:
– شكرًا ماما… الجو بارد قليلاً.
ابتسمت سوبينا، ثم همست:
– سولينا…
– نعم ماما؟
– فكّرت أن أدرس معكِ هذه السنة.
رفعت سولينا نظرها بسرعة، وفي عينيها اندهاش يشبه ضوءًا مباغتًا في غرفة مظلمة.
– تدرسين ماذا؟!
ضحكت سوبينا بخجلٍ خفيف:
– البكالوريا… أدبي.
– إنتِ؟! ماما! عن جد؟!
هزّت الأم رأسها بهدوء، وكأنها تقرأ على نفسها إعلانًا رسميًّا لبدء حياةٍ جديدة:
– نعم أنا… – منذ زمن وأنا أفكّر، لكن لم يكن لدي من الجرأة ما يكفي… – هذه المرة… شجّعني أحد ما… ليس ضرورياً أن تعرفي من، المهم إنه شجّعني، وأنا أحب أن أجرّب.
سكتت سولينا لحظة، ثم ابتسمت ابتسامة خفيفة خبيثة:
– ممتازة ماما، عندما تدرسين، عديني أنك لا تغشين!
ضحكتا معًا، ضحكة صغيرة فيها شيء من الطفولة المشتركة، وكأنهما صارتا صديقتين في صفٍّ واحد.
قالت سوبينا بعد أن هدأت الضحكة:
– ما رأيك أن ندرس معاً؟ – كل واحدة في دفاترها، وكل يوم نراجع معا.
أومأت سولينا بحماس مفاجئ:
– موافقة! ونعمل جدولاً دراسياً معاً، ونحلّ الأسئلة المشتركة! – لكن أنتِ يجب أن تحصلي مجموعا عاليا، لا أريد أن أخجّلِك!
مدّت سوبينا يدها على الطاولة، ولامست دفتر ابنتها، ثم همست:
– سولينا… هل تعلمين؟ – كم كان ينقصني صديقة مثلك… ليس بنتا فقط.
نظرت سولينا إلى أمّها، ثم اقتربت وعانقتها عناقًا دافئًا، كأنها تشجّعها من القلب، وتهمس لها بلا كلام: ” ابدئي… وأنا سأكون معك.”
حين كتبتُ اسمي مجددًا
رسالة منها:
” تعرف ما الذي فعلته اليوم؟ عدت كتبت اسمي من جديد… على ورقة التسجيل في مركز تعليمي للبكالوريا.
كدت أنسى شكل خطي الرسمي. وأنسى كيف يضع المرء هدفه على سطر ويمشي. لكن وأنا أوقّع… أحسست إني أوقّع ولادة جديدة، ليس تسجيل دراسة فقط.”
ردّه، وقد شعر بالدمعة الحارّة تقترب من حدقة روحه:
” سوبينا…
لا أعرف كيف أصف هذا الشعور، لكنكِ اليوم أنقذتِ شيئًا بداخلي أيضًا.
أن تكتبي اسمكِ بيدكِ… بعد كل تلك السنوات التي كتبوا فيها عنكِ، لا لكِ…
أن تختاري، بنفسك، طريقًا جديدًا… لا مفروضًا، لا مُشوّهًا، لا مُختلسًا من أنوثتك…
فهذا ليس تسجيلًا في صفّ، بل اعترافٌ منكِ بأنكِ وُجدتِ.”
رسالة منها، وقد امتلأت عيناها بما يشبه الحياء لأول مرة، لا من ضعفٍ… بل من اعترافٍ مؤجل:
” كلّ هذا… كلّ ما أنا عليه الآن، سببه جملة واحدة قلتها لي أول مرّة: (أنا لا أعدكِ بالفهم فقط، بل بالاستماع.)
كان ممكن أكمّل حياتي صامتة. لكن … ربما… صوتي، الذي كنت أظنه اختفى، كان ينتظر أحدا… يسمعه.”
ردّه، بصوت مكتوب يلامس وجدانها:
” ولأن صوتكِ خرج… فأنا أعدكِ الآن بوعدٍ جديد:
لن أمشي قبلكِ، ولا خلفكِ، بل إلى جانبك.
كلّما فتحتِ صفحة، سأكون الهامش…
وكلّما وضعتِ فاصلة، سأنتظر سكونك…
لأقول لكِ: اكتبي، فأنتِ الآن أنتِ.”
لحظة الولادة
جلسَت سوبينا في هدوء، بين يديها دفترٌ جديدٌ ذا غلافٍ بسيطٍ لكنه صلب، يحمل على غلافه خطًّا مزخرفًا عنوانًا واحدًا: “هذه أنا”
كان القلم في يدها يرتجف قليلاً، وكأنّه يخشى أن يخطئ أولى الكلمات. تنفّست بعمق، وأغمضت عينيها للحظة، مسترجعة كلمات ذلك الرجل، ووعوده بالاستماع والحضور إلى جانبها.
فتحت صفحة جديدة، وبدأت تسطر: “أنا لست فقط امرأةً تُطالب بحقوقها، بل أنا صوتها… أمانتها… حلمها… وأول خطوةٍ في طريقها.”
ثم ابتسمت، وكتبت بخطٍّ أكثر ثقةً: ” اليوم، ولدتُ من جديد… هذه أنا.”
أسماء تحكي قصة
جلست سوبينا في غرفة المعيشة، تحيط بها بناتها الأربع، أقدامهن ملتفة تحتهن على السجادة الناعمة، وعيونهن تترقبها بفضول وحذر.
قالت سوبينا بابتسامة دافئة: “تعرفنّ، كل واحدة منكن تحمل جزءًا من اسمي…”
نظرت إلى سولينا، الكبرى، وقالت: “سولينا، أنتِ الأمل النقي، بداية الحكاية… كحرف الـ (س) في اسمي.”
ثم أومأت لبينا، الطيبة والهادئة: “بينا، قلب العائلة وروحها، كحرف (ب) الذي ينبض بداخلي.”
نظرت إلى ندى، ذات الحساسية العالية والأحلام الواسعة: ” ندى، صوت الأحاسيس والعذوبة، كحرف (ن) الذي يعانق روحي.”
وأخيرًا إلى نايا، الصغيرة والحيوية: “ونايا، زهرة الحياة، كحرف (ي) الذي يضيء دربي.”
تنهّدت، ثم قالت بصوت خافت: “والآن… بعد كل هذه السنوات، حان وقت أن أكتب قصتي… قصتي أنا، التي لم تكتمل كما كنت أريد لها.”
نظرت البنات إلى بعضهنّ، وكل واحدة منهن تحمل بين عينيها سؤالًا مختلفًا، وأملًا خفيًا، وربما خوفًا من الجديد.
قالت سولينا بصوت مشجع: ” ماما، نحن معكِ… مهما كان الطريق.”
بينا أضافت: “الكتابة تفتح أبواب القلب، ونحن نريد أن نعرفك أكثر.”
ندى همست: “وأنا أؤمن بأنكِ تستحقين أن تحلمي أكثر.”
أما نايا، بابتسامة بريئة، قالت: “وأنا سأكون أول من يقرأ دفتر قصتك!”
ابتسمت سوبينا بامتنان، وشعرت بأن هذه اللحظة ليست فقط بداية جديدة لها، بل ولهم جميعًا.
رفض قاطع
كانت سوبينا تجلس في غرفة الجلوس، عيناها متقدتان بحلم جديد ونورٌ خافت ينبعث من داخلها، حين دخل زوجها بهدوء، وجهه جاد، لا يحمل أي أثر للابتسامة.
جلس مقابلها، وصوتُه قاسٍ وهو يقول: “سوبينا، كل شيءٍ عندنا موجود… المال، البيت، الأولاد. ماذا تريدين أكثر؟”
رفعت سوبينا عينيها إليه، محاولةً أن تشرح، لكن صوته قطعها: ” لا أريدكِ أن تفكري في الدراسة أو تفتحين دفاتر أو تكتبين عن شيءٍ لا يفيدنا.”
تمتمت ببطء: ” لكنني أحتاج أن أعيش… أن أكون أكثر من مجرد امرأةٍ في البيت.”
شعر الزوج بالضيق يتصاعد، ورفع صوته قليلاً: ” هذا بيتكِ، أولادكِ، وزوجكِ… لا وقت لديكِ لأوهام لن تغير من وضعنا شيئًا.”
تجمعت دموع في عيني سوبينا، لكنها رفضت أن تتراجع، وقالت بثبات: ” الأوهام هي ما يعيد لي روحي… وبدونها، لا شيء يبقى مني.”
أومأ زوجها برأسه، وقال: “إذن، لا مكان لمثل هذه الأفكار هنا.”
وقف، ومشى باتجاه الباب، تاركًا سوبينا وحيدةً مع دفاترها، وسط صمتٍ ثقيلٍ ينبض بالخوف والتحدي.
صوت ينبض بالحياة
جلست سوبينا وحدها في زاوية الغرفة، والدفتر الجديد مفتوح أمامها، لكن قلبها كان يزأر بصمت، يدفعها للنهوض من جديد.
تنفست بعمق، وقالت لنفسها: ” أنا لستُ مجرد ممتلكة أو عبء… أنا إنسانَةٌ تستحق أن تعيش وتتنفس.”
وقفت ببطء، نظرت إلى المرآة التي تعكس صورتها المتعبة، ثم لمعت في عينيها شرارة حديدية. همست بصوتٍ حازم: “سأكمل دراستي، سأُنهِي البكالوريا الأدبي، وسأفتح أبوابًا جديدة، ليس فقط لي بل لأولادي، ليكونوا فخورين.”
رفعت القلم، وبدأت تكتب في دفترها: ” لن أسمح لأحد أن يسرق مني أحلامي، هذه أنا… وهذا صوتي الذي لن يُخمد.”
أغلقت الدفتر بقوة، وأيقنت في تلك اللحظة أن الرحلة قد بدأت فعلاً، وأنها لن تتراجع مهما كانت العواصف.
بين الحلم والواقع
كان المساء ناعمًا على نافذة المحادثة. أرسلت له سوبينا كلماتها بعد أن هدأ المنزل، وأطفأت الأضواء، وبقي ضوء الشغف متّقدًا في عينيها.
سوبينا: ” أخبرته أنني قررت العودة للدراسة… فغضب. قالها صراحة: “عندي كل شيء، ولا ينقصني زوجة تُوزّع وقتها في دفاتر وامتحانات!” كأنني أثقلت عليه بمجرد أن حلمت.”
لم تتأخر إشارته في الظهور… نقطة خضراء نُقشت على القلب قبل الشاشة.
هو: ” كان متوقعًا أن يرفض، لأنه يرى فيكِ فقط دورًا واحدًا. لكنّكِ أكبر من دور، أنتِ حياة بأكملها، سوبينا. اسمعيني… لن نكسر الجدار، بل نلج من فتحاته.”
سوبينا: ” وكيف؟ هو لا يقبل أن أخرج من البيت وحدي… ولا أن أختلط بأحد…”
هو: ” إن كنتِ جادّة في رغبتك بالدراسة، فالباب لا يزال مفتوحًا، وإن ضاق. نبحث عن معهدٍ خاص، أو مدرسةٍ حرة ببرامج مخففة، بل حتى مراجعات منزلية إن لزم الأمر. المهم أن نبدأ، ولو بخطوة صغيرة: طالبة حرّة مثلًا، تنجحين أولًا، ثم تفتحين الطريق بجدارتك.
أما زوجك… فأنتِ أدرى بخيوط علاقاته ومصالحه. فتّشي في دوائره القريبة، في أولئك الذين لا يستطيع أن يردّ لهم طلبًا، حتى دون أن يدرك تأثيرك. هناك، في الظلال، تُصنع القرارات الحاسمة.”
سكتت قليلًا. كانت دموعها تتجمع، لا من ضعف، بل من فرح مفاجئ.
سوبينا: ” أنا لم أعرف أن أحدًا يمكن أن يخطط لأجلي بهذا الشكل. كنتُ أخشى فقط أن أحلم…”
هو: ” حلمي الآن أن تحلمي. لن نعلن الحرب على بيتك، بل سنوقظ فيه امرأة لا أحد يراها… إلا أنا.”
في غرفتها بعد منتصف الليل
كان الصمت يلفُّ المنزل بعباءته الرمادية. انتهى الجميع من يومهم، وانسحبت الضوضاء إلى زوايا النسيان، لكن ضوءًا خافتًا ظلّ مشتعلًا في غرفةٍ وحيدة.
جلست سوبينا إلى طاولتها الصغيرة، تضع أمامها دفترًا جديدًا، وكتاب الأدب العربي للصف الثالث الثانوي… فتحته بحذر، كما لو كانت تفتح بوابة زمنٍ عائدٍ من الغياب.
مرّت أناملها على الكلمات كمن يتحسّس جرحًا قديمًا طال التئامه… ثم كتبت بخطّها المرتبك:
“الصفحة الأولى: ليس الدرسُ ما أقرأه، بل ما أستعيده من نفسي.”
لم تكن سهلة تلك العودة. عناوين، فصول، أسماء… أزمنة مضت، لكنها لم تُمحَ من الذاكرة تمامًا. بدأت تقرأ مقطعًا من “في مدخل الحمراء كان لقاؤنا”، توقفت عند بيتٍ، وعيناها تغرورقان:
“وأعذبُ الشِّعرِ ما جَرَى بهِ القَلَمُ”
– ” هل أستحقّ أن أكتب من جديد؟” همست لنفسها.
راحت تقرأ بصوت خافت… تحفظ، تعيد، تكتب على الهامش:
” سؤال الامتحان سيكون عن صورة المرأة في النص… وأنا؟ ما صورتي في حياتي؟”
رنّ هاتفها برسالة من صديقها، كأنه شعر بحيرتها دون أن تُرسل شيئًا.
هو: ” كيف تسير أول رحلة؟”
سوبينا: ” أشعر كأنني أرتّب طفولتي التي أُجلِت… وأحاول أن أُقنع نفسي أن الحلم ليس جريمة.”
هو: ” الحلمُ هو التوبة الأجمل من حياةٍ لم تكتب لكِ… ادرسي، وسأكون الورقة التي تسبق كلّ درس.”
ابتسمت. وضعت الهاتف جانبًا، وسطّرت بخط أنيق تحت عنوان الدرس: “بداية جديدة.”
ثم همست: – “أنا سوبينا… لا أنثى الأمس، بل تلميذة الغد.”
رسالة صوتية ثم نصية
صوت سوبينا، ناعمٌ وفيه نبرة خفيفة من الانبهار والحنين:
” عبير… لا أدري إذا كنتِ ستضحكين منيّ، لكن وأنا أمسك دفتر الأدب وأدوّن ملاحظاتي، أحسست فجأة إنّي لا أقعد على طاولة في غرفة نومي… أحسست ببساطة طالبة مدرسة، تستعد لفحص باكرا، وبيدي قلم حبر جديد يترك خطه كأنه يكتبني من الأوّل ليضيف جديد.
كنتِ دائمًا تقولين لي: سوبينا، أنتِ أكبر من كل الظروف، وأنا كنت أضحك وأصمت… لكن اليوم، وأنا أدرس، أحسست فعلاً إنّي ما كنت أكذب على نفسي، بقدر ما كنت أنتظر هذه اللحظة.
الآن وصلت، عبير… يمكن أن يكون وصولي متأخراً، لكن وصلت.
تخيلي… مررت على تعريف الاستعارة المكنية، وكتبت إلى جانبه: “أنا استعارةٌ مكنية… حذفوا المرأة، وأبقوا الصفات.”
أحبك… وأعرف إنك أول من ستفهم ماذا أقول. سامحيني على الوقت الذي ضيّعته، لكن أنا رجعت… وعدت طالبة، ليس كأم فقط”.
ثم كتبت بعدها نصًا سريعًا أرسلته:
” عبير… أنا حقا أريد أن أدرس! والله! ومسرورة… أدرس من أجل البكالوريا ليس من أجل أحدٍ، من أجل سوبينا. لو تري فرحتي وأنا أحاول فهم نص وتحليله! أعرف، أن الطريق طويلة، لكن قلبي قد سبقني ولا أتمكن من أن أكمل لأن زوجي لم يوافق أن أكمل دراستي.”
كانَ مساءُ الخَميسِ يُداعِبُ دفءَ خَفيفٍ يَليقُ بِخَريفِ مُتأخِّرِ، حينَ طَرَقَتْ عبيرُ بابَ سوبينا، حاملةً صندوقين من حلاوةِ القِشطةِ والنابلسيةِ، مُزيَّنَينَ بشريطٍ زهريّ اللونِ. استقبلَتْها سوبينا بِوَجهٍ يَشمُخُ بِحياءِ المراهقاتِ ونُضجِ الأمهاتِ، وعَينَينِ تَرتويانِ من سَهرِ اللذّةِ مع كُتبِ البلاغةِ وقَواعِدِ النحوِ.
دخلَت عبيرُ الغُرفةَ وهي تَبتسِمُ بفرحٍ صادقٍ، وقالت: — واللهِ ما كنتُ سأصدّقُ إنَّك تَدرُسينَ لو لم أر الآن بأم عيني يا بِنْت! انظُري إِلى هذِهِ الإشراقةِ!
ضحَكَت سوبينا بِخجلٍ ناعِمٍ، وقالت: — صدّقيني يا عبير… هذِهِ الكُتُبُ أحنُّ إليّ مِن كَثيرٍ مِن الناسِ. عندَمّا فتَحتُ دَفترَ العربيّ، أحَسَسْتُ كأنّي أَتنفّسُ مِن جَديدٍ.
جلَسَتا على الطاوِلةِ، تحيطُ بهِمّا رائحةُ الوَرَقِ والمِرّيانِ المغلّى. مَدَّت سوبينا يَدَها تَنهَضُ نَحوَ المطبخِ قائلةً: — سَأُجهّزُ لكِ شايَ المِيرميةِ… كَما العادَةِ.
قالت عبيرُ، مُقاطِعةً بِلطافة: — لا تُحضري شيئًا… فقط اذهبي واجلِبي صَينيةَ الضيافةِ واسترخي. اليومَ عِندي أمرٌ أهمُّ مِن الشاي.
حينَ اختفَت سوبينا في المطبخ، كان الزوجُ يجلس في الصالون، يتظاهرُ بتقليبِ هاتفِه، لكنَّ شيئًا من التوتّرِ بدا في طرفِ حاجِبِه.
قالت عبيرُ بصوتٍ ناعِمٍ خفيض، مرفَقٍ بابتسامةٍ هادئةٍ: — أستاذُ أبو نزار… أَعرِفُكَ رَجلًا مُرتّبًا، وكلامي سيكونُ مُباشرًا، كَما العادَةِ.
رفع الزوجُ نظرَهُ، وقال: — تفضّلي.
تابعت عبيرُ: — ما المانعُ مِن أن تكمِلَ سوبينا دِراستَها؟ أليس ذلك من حقِّها؟
تنهّدَ الزوجُ قليلاً، وقال بنبرةٍ تحملُ انزعاجًا مُضمَرًا: — أنا لستُ ضدَّ الدراسةِ، لكنَّ للبيتِ أولويّاتٍ… والبناتُ بحاجةٍ إلى رِعاية.
ابتسمت عبيرُ، وقالت: — وهي لم تُقصّر. وأنتم تعلم…
وتابعت بنبرة تحمل شيئا من التحدي
– مُنذُ فترةٍ كنتَ قد طلبتَ من الأستاذِ رياض – صديقِ والدي – أمرًا ولم يوافق على تنفيذه، أليس كذلك؟
انكمش الزوجُ قليلًا، وقال: — قد يكون… ولكن، ما دخلُ ذلك؟
قاطعته عبيرُ بابتسامةٍ ثابتةٍ: — الدَّخلُ كثيرٌ. لأنه كان عندنا بالأمس، وأخبرني كم كــــــااااان يحترمك، وقال بالحرف: “أبو نزار رجل كريمٌ، ولكن عليه أن يعلمَ أن طلباته بعد الآن مرفوضة، ولن أقدم له مساعدة تخصه أو تخص عمله”, — وعندما لاحظ النظراتِ السريعة التي جرت بيني وبين أبي, استدرك قائلاً – ” إلا إذا تدخلتَ أنتِ أو أبيكِ لمصلحتِه.”
تنهدَ الزوجُ، ونظرَ إلى الأرضِ، وقال: — إذًا، أنتِ تَعتقدينَ أن الدراسةَ ستغيّر شيئًا؟
ردّت عبيرُ بهدوءٍ ووضوح: — تَغيّرُ كلَّ شيء… لكن لأجلك أنتَ، ولأجل بيتك، وأيضًا لِتكونَ أنتَ صاحبَ القرار. لا أحد يُجبرك، ولا تُضغط من أحدٍ. قُل لها أنتَ بنفسك: ” أكمِلي، وأنا معك.”
دخلت سوبينا تحملُ الصينية، ووضعتها على الطاولة دون أن تلاحظَ شيئًا ممّا دار.
قالت سوبينا وهي تُوَزّعُ الأكوابَ: — هل تحدثتم عن شيءٍ؟
نظر إليها الزوجُ، وتلعثم قليلاً، ثم ابتسمَ بخجلٍ نادرٍ: — تحدثنا. وأنا… أريد أن أقول لكِ شيئًا: كمّلي دراستكِ، يا سوبينا. وأنا معكِ… ولكن بشرط، ألا تنسي البيتَ.
حدّقت فيه بدهشةٍ، ثم دمعَت عيناها بخفّة: — حقًا؟
صفّقت عبيرُ بخفةٍ وقالت: — نعم! هل ترين؟ الضيافة اليوم مختلفةٌ عن كلِّ مرّة…
همست سوبينا: — شكرًا… على كل شيء.
وفي آخر محادثة لهما بعد أن أخبرته بما تحقق لها كتب لها:
” وداعاً …. فلا خوف عليكِ بعد الآن … لأن من يعرف كيف يقرأ سيعرف كيف يعيش!”
(ولكن سأبقى متحفزاً لا للقتال، بل للإصغاء)
مالت قليلاً للأمام، مسحت زوايا فمها بإبهامها، كأنّها تمحو ابتسامةً مُزيّفة
أو تُعيد رسم ابتسامتها.
نظرت إلى المرآة من جديد
رَفَعَتْ كَتِفَيْها بِخِفَّةٍ مَحسُوبَةٍ
كَأَنَّها تُنصِتُ لِصَوْتٍ داخِلِيٍّ يُعيدُ تَشكيلَ الجَسَدِ في وَضْعِيَّتِهِ.
لَمْ تَكُنْ الأَجْمَلَ في المِرآةِ…
وَلَكِنَّها كانَتِ الأَصْدَقَ.
وهذا وحده… صار كافيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــًا.
عنوان الكتاب: رسائل للذات
إعداد: نعمان البربري
الإِهْدَاءُ:
إلى رُوحِ أُمِّي…
التي عَلَّمَتْنِي
كَيْفَ تمضي الحياة؟ وكَيْفَ يجب أن نفَكِّر فيها؟
مَتَى يَجِبُ أَنْ نَصْمُتُ؟ وَمَتَى نَكْتُبُ؟
نعمان
التقديم
هذا الكتاب ليس رواية بالمعنى التقليدي، ولا مجموعة تأملات فكرية خالصة، بل هو مزيج حميم من السرد، والبوح، والفلسفة الوجدانية، كتب بلغة الأنثى التي تتكلّم بصمت، وتبحث عن نفسها عبر الكلمات. إنه رحلة داخلية تبدأ من “سوبينا”، المرأة التي تمثل كل امرأة.
الفهرس
1. سوبينا: البذرة الأولى
2. من هي الأنثى؟
3. صالون المساء: نقاشات عن الحرية والكرامة
4. الأنثى والنور
5. الارتباك
6. السكوت
7. الفقد
8. صمت العاطفة
9. البوح المؤجل
10. الحدس
11. الحنين
12. الغياب
13. التوق للحماية
14. الدهشة
15. الصراع بصمت
16. المرآة
17. الخوف
18. الاحتراق
19. ذاكرة العاطفة
20. وهجة القلب
21. الخجل
22. نافذة الضوء الزرقاء
23. مرآة لا تجيد الكذب
24. طرقات صغيرة على الزجاج
25. نافذة على ضوء بعيد
26. زر صغير… وعالم مجهول
27. الموافقة
28. الرد الأول
29. تشابه الأرواح
تلخيص سريع
1. سوبينا: البذرة الأولى
(بداية القصة مع سوبينا، نشأتها، وعلاقتها باسمها، مرورًا بولادة ابنتها سولينا. يليه تطورها النفسي، شعورها بالاغتراب، ونشوء أول صوت داخلي تطلب فيه أن تُرى لا أن تُستخدم.)
(يتبع باقي الفصول بنفس الترتيب أعلاه، كل فصل يبدأ بعنوان فرعي واضح، ثم يليه النص المتعلق به.)
29. تشابه الأرواح
(خاتمة قصصية شعورية تعبّر عن بداية رحلة جديدة عبر الكتابة والمراسلة الواعية والهادفة، التي تفتح باب الأمل في التعافي الداخلي، لا بالهروب، بل بإعادة صياغة الذات من رمادها).
كلمة الختام
“رسائل للذات” ليس بحثًا عن الحب، بل عن الاعتراف. عن أن ترى المرأة ذاتها في المرآة، لا بعيون الآخرين، بل بنظرة تنبع من قلبها، وتصدقها. كل نص هنا هو رسالة معلّقة بين الصمت والكلام، بين الاحتراق والبعث، بين السؤال واليقين.
ولعلّ سوبينا، في رحلتها هذه، إنما تبحث عنها أو عنكِ… أو عنكَ.
نعمان البربري