روايـــة أقنعة العقل

كانَ يَظُنُّ لِسَنَوَاتٍ طَوِيلَةٍ أَنَّ الصَّمْتَ مُجرَّدُ فَرَاغٍ يَلتَهِمُ الأَصْوَاتَ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ ــ مُتَأَخِّرًا ــ أَنَّهُ مَسْرَحٌ يَخرُجُ فِيهِ كُلُّ مَا ظَنَّ أَنَّهُ دُفِنَ:
وَجْهُ الطِّفلِ الَّذِي كَانَهُ، الصَّوتُ الَّذِي هَرَبَ مِنهُ، وَظِلُّهُ الَّذِي تَقَلَّبَ سِنِينَ طَوِيلَةٍ يَطلُبُ مَنْ يَرَاهُ.

لَمْ يَكُنْ يَدرِي مَتى بَدَأَ كُلُّ شَيءٍ؛
أَعِنْدَ تِلكَ اللَّحظَةِ الَّتي أَلقَى فِيهَا جُمْلَةً لَمْ يَجْرُؤْ أَنْ يَقُولَهَا؟
أَمْ عِنْدَ ذَاكَ الْيَوْمِ الَّذِي تَشَقَّقَتْ فِيهِ ابتِسَامَتُهُ الأُولَى؟
أَمْ يَومَ كَتَبَ ــ للمرَّةِ الأُولَى ــ: “إِلَيكِ… يا مَنْ لَمْ تَأتِ”؟

كُلُّ مَا يَعْرِفُهُ الآنَ أَنَّهُ لَمْ يَعُدْ وَحِيدًا فِي الغُرفَة.
هُناكَ مَن يَجلِسُ قُبَالَتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ جَسَد.
هُناكَ صَوتٌ يَصعَدُ مِنْ صَدْرِهِ لَا مِنَ الجِدار، وَظِلٌّ يَمُدُّ يَدَهُ كَمَنْ يُحاوِلُ أَنْ يَرْفَعَ سِتارًا ثَقيلًا عَنِ الحَقِيقَة.

وَكُلَّما فَتَحَ دَفتَرَهُ العَتِيقَ، أَحَسَّ كَأَنَّهُ يَفتَحُ بَابًا لِغُرفَةٍ أُخرى دَاخِلَهُ:
الغُرفَةِ الَّتي يَرْكُضُ فِيهَا الطِّفلُ فِي المَطَرِ،
والغُرفَةِ الَّتي يَقِفُ فِيهَا مُنْكَمِشًا أَمَامَ هُدى،
والغُرفَةِ الَّتي تُقيمُ فِيهَا هِيَ… بِلا وَجهٍ، وَبِحُضورٍ لَمْ يَغبْ قَطّ.

اليَومَ، شَعَرَ بِأَنَّ الغُرفَةَ الدَّاخِلِيَّةَ وَالخَارِجِيَّةَ قَدِ التَقَتَا.
وَأَنَّهُ، لِلْمَرَّةِ الأُولَى، لَا يَستَطِيعُ الهَرَب.

لِذلِكَ نَهَضَ ببطءٍ، سَحَبَ الكُرسيَّ، وَجَلَس.
أَمَامَهُ نَافِذَةٌ تُحرِّكُها الرِّيحُ، وَوَرَقَةٌ بيضاءُ تَنتَظِر، وَظِلٌّ يَتَنفَّس مَعَهُ.

وَقَبْلَ أَنْ يَختُطَّ الكَلِمَةَ الأُولَى، هَمَسَ لِنَفْسِهِ كَمَنْ يَعْتَرِفُ:

“هَذِهِ المَرّة… سَأُكمِلُ القِصَّةَ.
سَأَكتُبُ الحَقَّ كَمَا هُوَ.
وَلَوْ ظَهَرَ كُلُّ مَا هَرَبتُ مِنهُ.”

ومن هنا بالضبط…
تَغْرَقُ الغُرفَةُ فِي السُّكُونِ الشَّفِيفِ،
وَيَبْدَأُ الفَصلُ الأَوَّلُ.

01- الجزء الأول

أقنعة العقل 01 إِلَى الَّتِي لَمْ تَأْتِ

02- الجزء الثاني

أقنعة العقل الجزء 2 الاعتراف