على أعتاب الحلم – الجزء 01


إلى أمي

التي رافقتني بتضحياتها الصامتة وإيمانها العميق في كل خطوة اتخذتها.
________________________________________

✍️ كلمةٌ إلى القارئاتِ والقرّاءِ

تدورُ هذهِ الحكايةُ في سوريّا سبعينيّاتِ القرنِ الماضي، في زمنٍ تخبّطُ بينَ تغيُّرٍ اجتماعيٍّ عميقٍ وجمودٍ سياسيٍّ خانق.
وهي تسردُ سيرةَ شابٍّ ريفيٍّ، يَسعى بينَ التقاليدِ والمُعاصَرة، بينَ توقُ العائلةِ وأحلامِ القلبِ، إلى أن يجدَ سبيلَهُ الخاصَّ في عالمٍ كثيرِ التقلّب.

المواضعُ التي تجري فيها الأحداثُ — من دكّانِ الأقمشةِ الصغيرِ في حاراتِ دمشقَ القديمة، إلى الأزقّةِ الضيّقةِ في قريتهِ الأولى — ليست مجردَ خلفيّاتٍ ساكنة، بل مرايا لتوتّراتٍ داخليّةٍ خفيّة.
فالتبايُنُ بينَ المدينةِ والريف، بينَ العلمِ والحاجة، بينَ الحريّةِ والانقيادِ، يُشكّلُ الخلفيّةَ الشعوريّةَ والسياسيّةَ لهذهِ الرواية.

«على أعتابِ الحلم» ليست بيانًا سياسيًّا، لكنّ في ثناياها ارتعاشةً خفيّةً لمجتمعٍ يُربِّي شبابَهُ في ظلالِ القلقِ واللايقين.
إنّها حكايةُ مُتلمِّسٍ للطريقِ، وحكايةُ أملٍ ينهضُ في وجهِ كلّ ما يُحاولُ خنقَهُ وإطفاءَه.

أدعوكم أن تُنصتوا لهذه العوالمِ بقلوبٍ مفتوحةٍ وعيونٍ يقِظة — فقد تجدون فيها صدى لشيءٍ من ذاكرتِكم، بعيدًا… وقريبًا في آنٍ معًا.

–– نُعمان البربري
📖

قبلَ البدءِ 1
________________________________________
عادَ نُعمانُ إلى بيتِهِ بعدَ ما يَزيدُ عَن أُسبوعٍ حافلٍ بالامتحاناتِ، قضاهُ في مدرستِهِ الخاصَّةِ في قلبِ العاصمة دمشقَ، مُثقلًا بتعبٍ ما زالَ عالقًا في عينيهِ، “وكأنَّ الأيّامَ سَلَبَتْ من روحِهِ سَكِينَةً لا يَشْعُرُ بِغيابِها إلّا حينَ يَعُودُ إلى بيتِهِ.”
كَأنَّ عَودتَهُ كانَتْ تَرقُّبًا صامِتًا على أعتابِ لحظةٍ فاصِلةٍ، يُنصِتُ فيها لِصوتِ النَّتيجةِ قبلَ أن يُعلَنَ عنها.
هُنا، على التُّخومِ الفاصلةِ بينَ العاصِمَةِ والرِّيفِ، يتَباطَأُ الضَّوءُ قَبْلَ أن يُشرِقَ، وتَتَردَّدُ الرُّوحُ قَبْلَ أن تَهْوِيَ إلى قَدَرِها.
إنَّهُما مَكانانِ لا تَفصِلُ بَيْنَهُما الجُغْرافيا وَحدَها، بَلْ تَفْصِلُهُما هُوَّةٌ شُعوريَّةٌ سَحيقَةٌ، لا تُرى، ولَكِنَّها تُحَسُّ في كُلِّ نَبْضٍ.
فَالعَاصِمَةُ كَانَت بِالّنسبَةِ لَهُ سَاحَةَ اَلدِراسَةِ وَالامتِحَانِ طِيلَة هَذَا اَلعَام، قَلبَ الصِّراعِ فِي مُجَابَهَةِ وَتَحَدِّي الذّاتِ.
أمَّا الرِّيفُ، فَكَانَ عَودَةً إِلَى الحَنَانِ، إِلَى اَلذّاكِرَةِ، إِلَى اَلجَوهَرِ اَلبَسِيطِ لِلحَيَاةِ.
لَكِنَّ قَلبَهُ فِي هَذِهِ اَلمَرَّةِ كَانَ يَحمِلُ شَيئًا غَرِيبًا، شُعُورًا مُبهَمًا لم يعتَدْهُ مِن قَبلُ؛ مَزِيجًا مِن لَا يَقينٍ مُربكٍ، وأملٍ ناعمٍ يتسرَّبُ كخيطِ ضوءٍ في عتمةِ شكٍّ.
كانَ الغروبُ في مدينتِهِ “دُوما”، الواقعةِ في الرِّيفِ الدمشقيِّ، ينسابُ فوقَ دفءِ المساءِ اللامعِ كأنَّهُ يُمهِّدُ الطريقَ لعودتِهِ. أضواءُ الزُّقاقِ الضيِّقِ تلمعُ الآن بخجلٍ، تُنيرُ دربًا خافتًا نحوَ حيِّ ( السَّاحَةِ ) قَبلَ أَنْ تَتَلَاشَى بِبُطءٍ.
وَرَغْمَ الاِنْهَاكِ الَّذِي يَنْهَشُ تَفْكِيْرَهُ قَبْلَ جَسَدِهِ، كَانَ فِي دَاخِلِهِ لَهْفَةٌ يَصْعُبُ تَفْسِيْرُهَا.
وَمَا إِنْ تَخَطَّى عَتَبَةَ اَلبَيتِ, حَتَّى اِنْسَابَ إِلَى سَمْعِهِ صَوْتُ أُمِّهِ, كَأُغْنِيَةٍ طَالَ اِشْتِيَاقُهُ لَهَا:
“نُعمانُ! أَخيرًا جِئْتَ، يا قُرَّةَ عَيْني… أَخْبِرْني، هَلْ نَالَ التَّعَبُ مِنْكَ بَعْدَ ذاكَ الاِمْتِحانِ؟”
اِرْتَسَمَتْ عَلَى وَجْهِهِ اِبْتِسامَةٌ مُتْعَبَةٌ، لكِنَّ عَيْنَيْهِ لَمَعَتا بِبَريقِ فَرَحٍ دَقيقٍ، كَأَنَّهُ يُخْفيه. وَهَمَسَ بِنَبْرَةٍ واهِنَةٍ:
“نَعَمْ… كانَ مُتْعِبًا يا أُمِّي، ولَكِنْ… لا أَدْرِي، أَشْعُرُ بِأَنَّ شَيْئًا ما قَدْ تَغَيَّرَ فِي داخِلِي… النَّجاحُ أَصْبَحَ قَريبًا، أَشْعُرُ بِهِ!”
أَشْرَقَ وَجْهُها كَما يَشْرُقُ قِنْديلُ زَيْتٍ قَديمٍ في عَتْمَةِ الرُّوحِ، وتَقَدَّمَتْ نَحْوَهُ، تَعانِقُهُ بِكُلِّ ذاكَ الحَنانِ الَّذي لا يُهْدى إِلَّا مِن أُمٍّ.
هَمستْ وهي تحتضنُهُ:
” أنتَ بَطلُنا يَا نُعمَانُ… أَنْتَ فَخْرُنا، تَعِبْنا وَنَحْنُ نَراهُ يَكْبُرُ في أَحْلامِنا، وَصَبَرْنا حَتَّى جاءَت هذِهِ اللَّحْظَةُ.
أُؤْمِنُ بِكَ، وَأَدْرِي أَنَّكَ سَتَصِلُ إِلى شَيْءٍ يَليقُ بِجُهْدِكَ وَنُبْلِكَ.”
كانتْ كلماتُها تنبضُ بذلكَ الإيمانِ الأفلاطونيِّ بالخيرِ المطلقِ؛ حيثُ تتحوَّلُ الأُمُّ إلى مرآةِ الحُلمِ، إلى مِحورِ الأملِ، إلى مركزِ ثِقَلِهِ العاطفيِّ.
في تلكَ اللحظةِ، حينَ عانقتْهُ وقالتْ: “أنتَ بطلُنا”، لم يعُدِ الغروبُ مجرَّدَ خلفيَّةٍ تنعكسُ في الأفقِ البعيدِ، بل صارَ لحظةً وجوديَّةً شعرَ فيها أنَّ للحياةِ معنًى.
كلماتُها انزلقتْ إلى قلبِهِ، هزَّتْهُ بعمقٍ. لطالما آمنتْ بهِ، بقدراتِهِ، بأحلامِهِ.
وضعتْ كلَّ أملِها في هذا الابنِ، رغمَ تعقيداتِ الحياةِ وخشونتِها.
وفي تلكَ اللحظةِ، ظهرَ والدُهُ عندَ بابِ الغرفةِ وقد جذبتْهُ الأصواتُ، يلبسُ ملابسَهُ المنزليَّةَ البسيطةَ، كما اعتادَ في يومِ عُطلتِهِ.
لكنَّ ملامحَهُ كانتْ تنطقُ بفخرٍ ودفءِ أبٍ يرى في ابنِهِ امتدادًا لأملِهِ.
اقتربَ منهُ وقالَ بصوتٍ خفيضٍ يملؤهُ الاعتزازُ:
“أَنا فَخورٌ بِكَ، يا نُعمانُ… وَلَكِنَّنِي أَعْرِفُ أَنَّكَ لَنْ تَقِفَ عِندَ هذا الحَدِّ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟”
رفعَ نُعمانُ نظرَهُ إليهِ، ثمَّ إلى يدَي أُمِّهِ الَّتينِ ما زالتا تحتضنانِهِ، وأحسَّ أنَّهُ يقفُ حقًّا على أعتابِ القرارِ الأهمِّ في حياتِهِ… أنْ يُحقِّقَ حُلمَهُ، وحُلمَ أسرتِهِ.
مرَّتْ لحظةُ صمتٍ كثيفةٌ، ثمَّ قالَ بصوتٍ ملؤهُ اليقينُ:
“أَخِيرًا حَسَمْتُ أَمْري، يَا أَبِي وَ يَا أُمِّي… سَأُكْمِلُ دِراسَتي بَعْدَ النَّتائِجِ، وأَسْتَعِدُّ لِدُخُولِ كُلِّيَّةِ الهَنْدَسَةِ.
لَمْ أَعُدْ مُتَرَدِّدًا… سَأَبْذُلُ كُلَّ مَا فِي وُسْعي، وسَأَكُونُ – يَوْمًا مَا – الأَفْضَلَ فِي هَذَا الطَّريقِ.”
تهلَّلتْ وجوهُهُم فرحًا. كانت لحظةَ إعلانٍ، لا لقرارٍ دراسيٍّ فقط، بل لاستقلالِ الذّاتِ، لنُضجِ الحُلمِ، لولادةِ “الاختيارِ”.
تبادلَ الأبوانِ نظرةً صامتةً، ثمَّ قالَ والدُهُ:
“إِذًا، يا نُعمانُ… نَحْنُ مَعَكَ في كُلِّ خُطْوَةٍ تَخْطُوها. هٰذا حُلْمُكَ، وَنَحْنُ فَخورونَ بِكَ، وَبِكُلِّ ما سَتُصْبِحُ عَلَيْهِ.”
اِبتسمَ نُعمانُ، وفي ابتسامتِهِ ارتجفَ شعورٌ بالنَّجاةِ.
لقد أصبحَ قرارُهُ ملكًا لهُ، وملكًا لقلبَيْ وَالِدَيْهِ فِي آَنٍ وَاحِدٍ. فَفِي عَيْنَيْ كُلٍّ مِنْهُمَا نَشْوَةٌ خَفِيَّةٌ، كَأنَّهُمَا تَلَقَّيَا إِعْلَانَ هَذَا الْقَرَارِ كَمَنْ يُبَلَّغُ بِالنَّجَاةِ مِنَ الغَرَقِ.
إِنَّهُ حُلمٌ يَبْدَأُ مِنْ فَرْدٍ، لَكِنَّهُ يَتَّسِعُ لِيَشملَ الكُلَّ.
وربَّما، سيكونُ هذا القرارُ بدايةً لسلسلةٍ من التحدِّياتِ، للقاءاتٍ تُغيِّرُ مسارَهُ، أو سقوطٍ يُعيدُ تشكيلَ صورتِهِ عن ذاتِهِ.
لكنَّ المؤكَّد أنَّ هذه اللحظةَ كانتْ أولى خطواتِهِ على أعتابِ الحُلمِ، وستبقى دائمًا نقطةً مرجعيَّةً يعودُ إليها ليقولَ:
” هناكَ بدأتُ.”
ثمَّ قالَ:
” شكرًا لكما… كلُّ ما أحتاجُهُ هو دُعاءكما… وتشجيعُكما فقط.”
وفي تلكَ اللحظةِ، وبينَ دفءِ العائلةِ، شعرَ نُعمانُ بأنَّهُ مستعدٌّ ليُغيِّرَ حياتَهُ، لا من أجلِ نفسِهِ فقط، بل ليُشِعَّ ضوءً في سماءِ مَن يُحبُّ، كما اعتادَ دائمًا… حينَ يختارُ أن يسيرَ نحوَ الأفضلِ.

مُقَدِّمَـــــــةٌ 2
________________________________________
يَتَشَكَّلُ الْمَتْجَرُ فِي ذَاكِرَتِهِ لَا كَمَكَانٍ مَادِّيٍّ لِلْعَمَلِ فَحَسْبُ، بَلْ كَبُنْيَةٍ شُعُورِيَّةٍ رَاسِخَةٍ، كَمَعْبَدٍ صَغِيرٍ تَتَرَاكَمُ فِيهِ الذِّكْرَيَاتُ، وَتَنْبُضُ فِيهِ أَنْفَاسُ الذِّكْرَى, التَّارِيخِ وَالْعَمَلِ الدَّؤُوبِ.
كَانَتِ الْأَقْمِشَةُ فِيهِ، بِخُشُونَتِهَا وَنَعُومَتِهَا، بِأَلْوَانِهَا وَخُيُوطِهَا، تُجَسِّدُ اِزْدِوَاجِيَّةَ الْحَيَاةِ الَّتِي عَاشَهَا نُعْمَانُ: بَيْنَ الْحُلْمِ وَالْوَاقِعِ، بَيْنَ الطُّمُوحِ وَالِاضْطِرَارِ.
فِي زَوَايَا ذَاكَ الْمَتْجَرِ الْقَدِيمِ، الْكَائِنِ فِي قَلْبِ دِمَشْقَ، بَيْنَ صَنَادِيقَ خَشَبِيَّةٍ وَكَرْتُونِيَّةٍ اِمْتَلَأَتْ بِالْأَثْوَابِ، مِنْهَا مَا أُحْكِمَ جَمْعُهُ بِنُسُجٍ مِنَ الْخَيْشِ الْخَشِنِ، وَمِنْهَا مَا تَدَلَّى بِنَعُومَةٍ عَلَى أَطْرَافِ الرُّفُوفِ.
هُنَا بَدأَتْ حِكَايَةُ فَتًى فِي مُقْتَبَلِ الْعُمْرِ.
فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمَتْجَرُ، الْوَاقِعُ فِي سُوقِ الْحَرِيقَةِ، مُجَرَّدَ مَكَانٍ لِلْعَمَلِ الصَّيْفِيِّ، بَلْ كَانَ أَشْبَهَ بِمَحَطَّةٍ يَتَزَوَّدُ مِنْهَا بِالْأَمَلِ، لِيُكْمِلَ بِهَا دَرْبًا نَحْوَ مُسْتَقْبَلٍ يَحْلُمُ بِهِ.
كانَ نُعمانُ يَقتربُ من اِتْمَامِ عامِهِ الحادي والعِشرين، فتىً وُلِدَ في قلبِ الرِّيفِ الفقيرِ المُتديِّن، وَكَانَ الأكبَرَ بينَ إخوتِهِ، وَالحفيدَ الأوَّلَ لجَدَّيْهِ، وَالوحيدَ الَّذي تابَعَ تعليمَهُ في بيتٍ لَمْ تَكُنْ فيهِ الدِّراسةُ سَبيلًا مُمَهَّدًا، بلْ رِحلةً في مَضائقِ الحَياةِ وقَسوتِها.لَمْ يَكُنْ وَالِدَاهُ مِنَ الْمُتَعَلِّمِينَ؛ فَوَالِدُهُ الْحَلَّاقُ يَكُدُّ فِي دُكَّانٍ صَغِيرٍ لَا يَكَادُ دَخْلُهُ يَكْفِي لِإِطْعَامِ أَحَدَ عَشَرَ فَمًا.
وَأُمُّهُ تَمْضِي سَاعَاتِ النَّهَارِ بَيْنَ ضَوْءِ الصَّبَاحِ وَظِلَالِ الْمَغِيبِ، مُنْحَنِيَةً عَلَى مَاكِينَةِ تَطْرِيزٍ تراثية “الْأَغْبَانِي”، تَحِيكُ نُقُوشًا دِمَشْقِيَّةً أَصِيلَةً فَوْقَ الْأَقْمِشَةِ، فِي مُحَاوَلَةٍ لِتَأْمِينِ مَا نَقَصَ مِنْ نَفَقَاتِ الْبَيْتِ.
كَانَ يَعْلَمُ، مُنْذَ بَدَايَاتِ وَعْيِهِ، أَنَّ طَرِيقَ التَّعْلِيمِ لَا يُعَبَّدُ بِالنَّوَايَا الطَّيِّبَةِ وَحْدَهَا، بَلْ هُوَ دَرْبٌ وَعْرٌ، تَكْتَنِفُهُ التَّضْحِيَاتُ، وَيُثْقِلُهُ التَّنَوُّعُ وَالْمَزِيدُ مِنَ النَّفَقَاتِ.
فَهُوَ مَسَارٌ مُكْلِفٌ، يَحْتَاجُ إِلَى نَفَقَاتٍ جَمَّةٍ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا فَتًى يَافِعٌ مِنْ أُسْرَةٍ كَادِحَةٍ.
لِذَا، بَدَأَ الْعَمَلَ بَاكِرًا، مَا إِنْ أَنْهَى دِرَاسَتَهُ الْاِبْتِدَائِيَّةَ، لِيُعِيلَ نَفْسَهُ، وَيُؤَمِّنَ لَوَازِمَ دَرْبِهِ الْعِلْمِيِّ.
وَمُنْذُ ذَلِكَ الصَّيْفِ، وَجَدَ نَفْسَهُ مُنْخَرِطًا فِي مِهْنَةٍ لَا تُشْبِهُهُ، وَلَا تَمُتُّ إِلَى أَحْلَامِهِ بِصِلَةٍ، لَكِنَّهَا كَانَتِ الْمَخْرَجَ الْوَحِيدَ أَمَامَهُ، إِذْ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ تَرَفَ اِخْتِيَارِ الْعَمَلِ وَلَا تَنَوُّعِ التَّجْرِبَةِ.
كَانَ مُلْزَمًا أَنْ يَعْمَلَ، لَا بِدَافِعِ الرَّغْبَةِ، بَلْ لِحَاجَةٍ ضَاغِطَةٍ لَا سَبِيلَ إِلَى دَفْعِهَا، لِيَسْتَطِيعَ أَنْ يُتَابِعَ دِرَاسَتَهُ الْإِعْدَادِيَّةَ، وَمِنْ بَعْدِهَا الثَّانَوِيَّةَ.
غَيْرَ أَنَّ هَذَا الصَّيْفِ كَانَ مُخْتَلِفًا بِالنِّسْبَةِ لَهُ؛ فَقَدِ ٱخْتَارَ أَنْ يَعْمَلَ عِنْدَ الْحَاجِّ أَبِي مَحْمُودٍ.
كانَ أَبُو مَحْمُودٍ رَجُلًا طَاعِنًا فِي السِّنِّ، صَارِمًا، قَلِيلَ الْكَلَامِ، لَا يَحيدُ عَنْ رُوتِينِ نِظَامِهِ الْيَوْمِيِّ.
فَهُوَ رَجُلٌ يُقَدِّسُ النِّظَامَ، وَلَا يَرْكُنُ بِسُهُولَةٍ إِلَى الْأَرْقَامِ، وَلَا يَطْمَئِنُّ إِلَى أَيَّةِ عَمَلِيَّةٍ تِجَارِيَةٍ أَوْ حِسَابِيَّةٍ مَا لَمْ تُدَوَّنْ وتنظم بِالقَلَمِ و الوَرَقِ، وَلَوْ كَانَ بِإِمْكَانِهِ حِفْظِهَا أَوْ حَلُّهَا ذِهْنِيًّا فِي لَمْحِ الْبَصَرِ.
كُلَّ صَبَاحٍ، يَدْخُلُ الْمَتْجَرَ فِي تَمَامِ السَّاعَةِ الثَّامِنَةِ، يُعَايِنُ نَظَافَتَهُ، يُرَاجِعُ تَرْتِيبَ الْأَقْمِشَةِ، يُدَقِّقُ فِي التَّفَاصِيلِ، ثُمَّ يُدَوِّنُ وَ يُمْلِي عَلَى عَامِلِهِ بِخُفُوتٍ خُطَّةَ عَمَلِ مَتْجَرِهِ الْيَوْمِيَّةِ.
مَرَّ شَهْرٌ عَلَى بَدْءِ نُعْمَانَ عَمَلَهُ مَعَ الحاج أَبِي مَحْمُودٍ، إِذْ كَانَ هُوَ العَامِلَ الوَحِيْدَ فِي هَذَا المَتْجَر, بَعْدَ أَنْ أَنْهَى اِمْتِحَانَاتِهِ فِي الصَّفِّ الثَّالِثِ الثَّانَوِيِّ، وَكَانَ قَدْ أَظْهَرَ جَدَارَةً لَافِتَةً فِي وَقْتٍ قَصِيرٍ، اِنْتَبَهَ إِلَيْهَا جَمِيعُ مَنْ كَانُوا حَوْلَهُ.
كَانَ دَافِعُهُ الْأَوْحَدُ كَوْنُهُ يَحْمِلُ فِي صَدْرِهِ أُمْنِيَّةً بَسِيطَةً: أَنْ يَنْجَحَ، وَيَتَفَوَّقَ، لِيَبْلُغَ الْجَامِعَةَ، وَيُغَيِّرَ مَصِيرَهُ، وَلَعَلَّهُ يُمْنَحُ أَهْلَهُ وَأُسْرَتَهُ غَدًا أَفْضَلَ.
وَلَمَّا صَدَرَتِ النَّتَائِجُ، كَانَ مِنَ النَّاجِحِينَ.
ما كانَ نُعمانُ مِن أَوائِلِ الطُّلَّابِ، لكنَّهُ اجتازَ الامتحانَ بنجاحٍ.
وإنْ لَمْ يَكُنِ النَّجاحُ كما رَغِبَ وتمنَّى، فقد كانَ كافياً ليَضعَ قَدَمَهُ الأُولى على الدَّرْبِ.
دَخَلَ الْمَتْجَرَ صَبَاحًا يَحْمِلُ كَشْفَ عَلَامَاتِهِ، فِي عَيْنَيْهِ مَزِيجٌ مِنَ التَّوَتُّرِ وَالْفَرَحِ.
يتَرَدَّدُ فِي قَلْبِهِ سُؤَالٌ دَاخِلِيٌّ شَائِكٌ:
“هَلْ هَذَه العلامات كَافية؟ أَمْ هَلْ يُعَدُّ هَذَا النَّجَاحُ نَجَاحًا حَقِيقِيًّا؟ هَلْ هَذِهِ هِيَ النَّتِيجَةُ الْمَقْبُولَةُ لِجَمِيعِ جُهُودِكَ الَّتِي بَذَلْتَهَا حَتَّى الْآنَ؟”
لَكِنَّ صَوْتًا خَافِتًا دَاخِلَهُ هَمَسَ بِدِفْءٍ:
“أَنْتَ الْوَحِيدُ فِي الْعَائِلَةِ الَّذِي تَابَعَ الدِّرَاسَةَ. فَكُلُّ نُقْطَةٍ فِي هَذَا الْكَشْفِ إِنْجَازٌ حَقِيقِيٌّ لَكَ.”
قَرَأَ أَبُو مَحْمُودٍ الْكَشْفَ بِصَمْتٍ، ثُمَّ اِنْفَرَجَتْ شَفَتَاهُ عَنْ اِبْتِسَامَةٍ صَغِيرَةٍ وَقَالَ:
” مُبَارَكٌ النَّجَاحُ.”
ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ إِلَى خَزْنَةٍ حَدِيدِيَّةٍ، وَأَخْرَجَ ثَلَاثَ أَوْرَاقٍ نَقْدِيَّةٍ مِنْ فِئَةِ الْمِئَةِ لَيرَةٍ، وَوَضَعَهَا فِي جَيْبِ نُعْمَانَ قَائِلًا:
” تَسْتَحِقُّ إِجَازَةَ هَذَا الْيَوْمِ… !”. لَكِنَّهُ تَوَقَّفَ قَلِيْلاً ثُمَّ أَرْدَفَ طَالِبَاً مِنْهُ:
” اِذْهَبْ أوْلاً إِلَى دُكَّانِ )السَّيِّدِ أَبِي عَلِيٍّ( فِي سَاحَةِ الْمَرْجَةِ، وَاشْتَرِ طَبَقَيْنِ مِنْ أَفْخَرِ الْحَلْوِيَّاتِ، وَقُلْ لَهُ إِنَّكَ مُرْسَلٌ مِنْ قِبَلِي، لِيَخْتَارَ لَكَ مَا يَلِيقُ بِهَذَا النَّجَاحِ. وَ دَعْنَا نَحْتَفِلْ بِكَ نَحْنُ وَالْجِيرَانُ أَوَلاً، وَخُذِ الْآخَرَ إِلَى بَيْتِكَ، لِتَحْتَفِلَ مَعَ أَهْلِكَ كَمَا يَنْبَغِي.”
كَانَتْ تِلْكَ الْمِئَاتُ الثَّلَاثَةُ تُسَاوِي أَجْرَ شَهْرٍ كَامِلٍ.
وَبَيْنَمَا يَسِيرُ نُعْمَانُ نَحْوَ الْمَرْجَةِ، رَاوَدَهُ تَسَاؤُلٌ دَاخِلِيٌّ: ” أَأُنْفِقُ جُهْدَ شَهْرٍ كَامِلٍ فِي ضِيَافَةِ يَوْمٍ وَاحِدٍ؟”
لَكِنَّهُ مَا لَبِثَ أَنْ أَطْفَأَ صَوْتَ التَّرَدُّدِ، حِينَ تَذَكَّرَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ هُوَ مَنْ قَرَّرَ، وَأَنَّ الِاحْتِفَالَ بِالنَّجَاحِ لَمْ يَعُدْ رَفَاهِيَّةً، بَلْ أَصْبَحَ اِسْتِحْقَاقًا.
عَادَ بِثَلَاثِ عُلَبٍ مِنَ الْحَلْوِيَّاتِ الدِّمَشْقِيَّةِ، وَوَضَعَهَا عَلَى طَاوِلَةِ الْمَكْتَبِ. اِبْتَسَمَ أَبُو مَحْمُودٍ وَقَالَ:
” وَقَبْلَ أَنْ نَفْتَحَهَا… خُذْ هَذِهِ لَكَ.” ….!
وَأَخْرَجَ مِنَ الْخَزْنَةِ ثَلَاثَ أَوْرَاقٍ نَقْدِيَّةٍ أُخْرَى، وَدَفَعَهَا إِلَيْهِ مُبْتَسِمًا.
” لَكِنْ يَا مُعَلِّمِي… هَذَا كَثِيرٌ!” قَالَ نُعْمَانُ بِدَهْشَةٍ.
فَأَجَابَهُ:
” لَا، يَا أُسْتَاذَ نُعْمَانُ، لَيْسَ كَثِيرًا عَلَى مَنْ نَجَحَ وَتَفَوَّقَ. لَقَدْ أَسْعَدْتَ قَلْبِي… كَمْ تَمَنَّيْتُ فِي صِبَايَ أَنْ أُسْعِدَ قَلْبَ وَالِدَيَّ بِنَجَاحِي، كَمَا فَعَلْتَ أَنْتَ الْيَوْمَ، وَلَكِنَّنِي لَمْ أُفْلِحْ.”
لِأَوَّلِ مَرَّةٍ، يَفْتَحُ أَبُو مَحْمُودٍ قَلْبَهُ. خَرَجَ مِنْ صَمْتِهِ الْمَحْسُوبِ، وَكَشَفَ هَشَاشَةً إِنْسَانِيَّةً طَالَمَا أَخْفَاهَا.
حِينَ قَالَ: ” كَمْ تَمَنَّيْتُ أَنْ أُسْعِدَ قَلْبَ وَالِدَيَّ بِنَجَاحٍ يُشْبِهُ بَعْضًا مِنْ هَذَا النَّجَاحِ… وَكَمْ مَرَّةً حَاوَلْتُ! وَلَكِنْ لَمْ أَسْتَطِعْ”، كَانَ يُعِيدُ تَدْوِيرَ الزَّمَنِ. مَرَّ مَاضِيهِ بِخِفَّةٍ دَاخِلَ قِصَّةِ نُعْمَانَ، لِيَرَى فِيهِ نُسْخَةً مِنْهُ لَمْ يَكُنْهَا.
وَهَكَذَا، لَمْ يَكُنْ قَرَارُهُ بِالِاحْتِفَالِ مَجَرَّدَ لَحْظَةِ فَرَحٍ عَابِرَةٍ، بَلْ كَانَ مَشْهَدًا رَمْزِيًّا: حَيْثُ يَتَحَوَّلُ مَتْجَرٌ قَدِيمٌ فِي قَلْبِ سُوقٍ عَتِيقٍ، إِلَى سَاحَةِ اِحْتِفَاءِ بِنُمُوِّ إِنْسَانٍ، لَا بِكَسْبِ صَفْقَةٍ أَوْ رِبْحٍ مَادِّيٍّ.
نَهَضَ أَبُو مَحْمُودٍ قَائِلًا:
” هَيَّا، لِنَدْعُ بَعْضًا مِنَ الْجِيرَانِ، وَلْنَحْتَفِلْ كَمَا يَلِيقُ بِكَ.”
وَفِي أَحَدِ أَيَّامِ صَيْفِ دِمَشْقَ، سَيَحْتَفَلَ مَتْجَرُ الْأَقْمِشَةِ الْعَتِيقُ، لَا بِصَفْقَةٍ رَابِحَةٍ، بَلْ بِحُلْمٍ صَغِيرٍ بَدَأَ يَكْبُرُ… بِنُعْمَانَ، الْفَتَى الرِّيفِيِّ، الَّذِي يَمْضِي خُطْوَةً جَدِيدَةً نَحْوَ مُسْتَقْبَلٍ طَالَمَا اِنْتَظَرَهُ.
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، دَخَلَ رَجُلٌ فِي أَوَاخِرِ الْأَرْبَعِينَ من العمر، يَرْتَدِي بَدْلَةً سَوْدَاءَ، وَقَمِيصًا رَمَادِيًّا، وَرَبْطَةَ عُنُقٍ يَتَدَرَّجُ لَوْنُهَا بَيْنَ الرَّمَادِيِّ وَالْأَسْوَدِ.
كَانَتْ تُرَافِقُهُ فَتَاةٌ نَقِيَّةٌ فِي بَيَاضِ بَشَرَتِهَا، فِي مثل عُمْرِ نُعْمَانَ تَقْرِيبًا، تَرْتَدِي تَنُّورَةً سَوْدَاءَ قَصِيرَةً، وَكَنْزَةً رَمَادِيَّةً بِأَكْمَامٍ قَصِيرَةٍ، وَتَحْمِلُ فِي يَدِهَا قُصَاصَةَ قِمَاشٍ.
قَالَ الرَّجُلُ بِتَحِيَّةٍ هَادِئَةٍ:
” السَّلَامُ عَلَيْكُمْ.”
فَرَدَّ أَبُو مَحْمُودٍ بِصَوْتِهِ الْمَعْهُودِ الرَّصِينِ:
” وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ”، ثُمَّ عَادَ إِلَى مَكْتَبِهِ، بَيْنَمَا كَانَ نُعْمَانُ يَسْتَعِدُّ لِلْخُرُوجِ، لِتَنْفِيذِ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ مَعَ مُعَلِّمِهِ
نَادَاهُ الْحَاجُّ بِصَوْتٍ وَاضِحٍ:
” سَيِّدَ نُعْمَان، لَوْ سَمَحْتَ… اِسْتَقْبِلِ الزَّبَائِنَ وَسَاعِدْهُمْ.”
تَوَقَّفَ نُعْمَانُ وَقَدْ وَصَلَ إِلَى عَتَبَةِ الْمَتْجَرِ، ثُمَّ عَادَ مُسْرِعًا بِخُطُوَاتٍ قَصِيرَةٍ، وَوَقَفَ خَلْفَ طَاوِلَةِ الْبَيْعِ، مُبْتَسِمًا وَهُوَ يُخَاطِبُ الرَّجُلَ:
” أَهْلًا وَسَهْلًا، كَيْفَ يُمْكِنُنِي مُسَاعَدَتُكَ، يَا سَيِّدِي؟”

الفصلُ الأوَّلُ البِدايَةُ 3
________________________________________
كانَتْ كَلِماتُهُ مُوَجَّهَةً إلى الرَّجُلِ، ويَداهُ تَسْتَنِدانِ إلى طاوِلَةِ البَيْعِ الطَّويلَةِ الَّتي تَفْصِلُ بَيْنَهُما.
لَمْ يَكُنْ يَنْظُرُ إلى الفَتاةِ، ولا إلى القُصاصَةِ الَّتي مَدَّتْها إلَيْهِ وهي تَقُولُ بِنَبْرَةٍ واثِقَةٍ وقَدِ التَمَعَتْ عَيْناها بِبَعْضِ التَّحَدِّي:
” نَبْحَثُ مُنْذُ الصَّبَاحِ عَنْ قِطْعَةِ قُمَاشٍ تُطَابِقُ هذِهِ القُصَاصَةَ، لَوْنًا وَخَامَةَ نَسِيجٍ ومَلْمَسًا.”
لَكِنَّ نُعْمانَ، بِثَباتٍ لَمْ يَتَزَحْزَحْ، تابَعَ حَديثَهُ إلى الرَّجُلِ دُونَ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ نَحْوَها:
” عُذْرًا يا سَيِّدي، نَحْنُ نَبِيعُ القُماشَ بِالجُمْلَةِ أَوْ بِنِصْفِ الجُمْلَةِ فَقَطْ، ولا نَبِيعُ بِالمُفَرَّقِ.”
تَدَخَّلَتِ الفَتاةُ وقَدْ أَخَذَتْ تَتَنَقَّلُ بِنَظَرِها بَيْنَ الأَكْوامِ والأَرْفُفِ، وقَالَتْ بِاعْتِراضٍ:
” لَكِنَّ أَحَدَهُمْ أَرْشَدَنا إلَيْكُمْ، وأَكَّدَ أَنَّكُمْ مُتَخَصِّصُونَ بِهذَا النَّوْعِ، وأَنَّنا سَنَجِدُ عِنْدَكُمْ ما نَبْحَثُ عَنْهُ.”
كَرَّرَ نُعْمانُ اعْتِذارَهُ لِلرَّجُلِ، بِذاتِ الهُدُوءِ:
” عُذْرًا، كَما قُلْتُ لَكَ سَيِّدي، نَحْنُ لا نَبِيعُ بِالمُفَرَّقِ.”
امْتَعَضَتِ الفَتاةُ، وبانَ الغَضَبُ في نَبْرَتِها وهِيَ تَقُولُ:
” أَوَلَا يُسْمَحُ لَنا حَتَّى بِالنَّظَرِ؟! فَلَرُبَّما وَجَدْنا حاجَتَنا لَدَيْكُمْ، أَمْ أَنَّ مُسْتَواكُمْ فَوْقَ اعْتِباراتِ النَّاسِ؟!”
لَكِنَّ نُعْمانَ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْها، ظَلَّ مُحافِظًا على وِقارِهِ، وقَالَ مَرَّةً ثالِثَةً مُوَجِّهًا كَلامَهُ لِلرَّجُلِ:
” سَيِّدي، مِنْ فَضْلِكَ…”
قاطَعَتْهُ الفَتاةُ بِعَصَبِيَّةٍ وقَدْ عَلَتْ نَبْرَتُها:
” إنَّهُ هُناكَ! ذاكَ القُماشُ على الرَّفِّ! نَعَمْ! هذا هُوَ تَمامًا! بابا، هذا ما أَبْحَثُ عَنْهُ!”
ورَغْمَ أَنَّها صاحَتْ، ظَلَّ نُعْمانُ يُتابِعُ حَديثَهُ مَعَ الرَّجُلِ بِهُدُوءٍ يَكادُ يُثيرُ العَجَبَ:
” أَعْتَذِرُ مِنْكَ سَيِّدي، لِلأَسَفِ لا نَبِيعُ إِلَّا بِالجُمْلَةِ.”
ازْدَادَتْ حِدَّةُ الفَتاةِ، فَأَشارَتْ بِيَدِها إلى القُماشِ، وهَتَفَتْ:
” أَنْزِلْ لِي ذاكَ الثَّوْبَ! …… هَيَّا! ….. تَحَرَّكْ! ….. ما بِكَ تَقِفُ هَكَذا؟! ….. هَلْ أَنْتَ غَبِيٌّ؟ …. أَلَمْ تَسْمَعْنِي؟!”
مِنْ بَعيدٍ، كَانَ الْحَاجُّ أَبُو مَحْمُودٍ يُرَاقِبُ الْمَشْهَدَ بِصَمْتٍ لَمْ يُخلُّ مِنْ حُكْمَةٍ.
قَالَ نُعْمَانُ بِلُطْفٍ لَمْ يَتَخَلَّ عَنْهُ:
” سَيِّدِيٌّ، يُمْكِنُنِي أَنَّ أَكَتَبَ لَكَ اِسْمَ أحَدِ تُجَارِ الْمُفَرِّقُ الْقَرِيبِينَ مِنْ سُوقِ الْحَرِيقَةِ، وَهُوَ الْوَحِيدُ فِي هَذِهِ الْمِنْطَقَةِ الَّذِي يَشْتَرِي مَنَّا هَذَا النَّوْعِ …. سَتَجِدُونَ عِنْدَهُ طَلَبَكُمْ”.
” هَزَّ الرَّجُلُ رَأْسَهُ مُوَافِقًا، وَقَالَ:
” نَعَمْ، مِنْ فَضْلِكَ”.
” تَنَاوَلَ الْوَرَقَةُ مِنْ يَدِ نُعْمَانِ، وَشَكَرَهُ بِلُطْفٍ، وَأَمْسَكَ يَدَ اِبْنَتِهِ وَهَمَّ بِالْمُغَادِرَةِ، لَكِنَّهَا سَحَبَتْ يَدُهَا بِإِصْرَارٍ وَقَالَتْ:
” عَلَيْنَا أَنْ نَتَأَكَّدُ أَوْلًا !” … ثُمَّ اِقْتَرَبَتْ مِنْ نُعْمَانِ، وصرخت فِي وَجْهِهِ:
” أَنَا مَنْ يَتَحَدَّثُ! .. وَلَيْسَ أَبِي ! هَلْ أَنْتَ أعْمَى ؟! أَمْ لَا تَسَمُّع؟! أَمْ أَنَّكَ لَا تَفهم؟!”
رَغْمَ الإهَانَةِ، ظَلَّ وَجهُ نُعمانَ بَاسِمًا وَمُهَذَّبًا، فَكَأَنَّ رَدَّهُ الصَّامِتَ كانَ أَشَدَّ وَقْعًا مِنْ أَيِّ كَلِمَةٍ.
وَهٰذا مَا أَجَّجَ غَضَبَ الفَتَاةِ، فَاْطَلَقَتْ الشَّتَائِمَ بِلَهْجَةٍ لَمْ يَأْلَفْها مِنْ قَبْلُ؛ كَلِمَاتٌ مُبَعْثَرَةٌ وَمُتَسَارِعَةٌ، لَمْ يَفْهَمْ مُعظَمُهَا، لَكِنَّ وَقْعَهَا كانَ كَصَفْعَاتٍ تُلْقَى عَلَى وَجْهِهِ.
وَمَعَ ذَلِكَ، لَمْ يَفْقِدِ السَّيْطَرَةُ، كَانَ كَجِدَارٍ يَتَلَقَّى نُزُولَ الْمَطَرِ بِصَمْتٍ، وَلَا يَبُوحُ بِوَهْنٍ.
قَالَ بِهُدُوءٍ:
” هَلْ مِنْ خِدْمَةٍ أُخْرَى أَسْتَطِيعُ تَقْديمَهَا لَكُمْ، سَيِّدِيٌّ؟”
هُنَا بَلَغَ الْغَضَبُ بِالْفَتَاةِ ذَرَوْتَهُ، فَالتَّفَتُّتَ نَحْوَ الْحَاجِّ أَبِي مَحْمُودٌ، وَهَتَّفَتْ بِصَوْتٍ حَادٍّ:
” أَلَمْ تَجِدْ عَامِلًا أَذَكَّى مِنْ هَذَا الْغَبِيِّ ؟! هَلْ خَلَّتْ دِمَشْقُ مِنَ الْعُمَّالِ حَتَّى تَسْتَخْدِمُ هَذَا الْأَبْلَهِ؟!”

عِنْدَهَا، تَقْدَمُ الْحَاجُّ أَبُو مَحْمُودٍ بِخُطَاِهِ الْهَادِئَةِ، وَقَالَ بِلُطْفٍ يَحْتَمِلُ الْغَضَبُ:
” أَهَلًّا وَسَهْلًا بِكُمْ! أَظُنُّ أَنَّكُمْ وَصَلْتُم إِلَى دِمَشْقِ بَعْدَ سَفَرٍ طَوِيلٍ، وَرُبَّمَا أَنَّكُمْ مُتْعِبُونَ.
أَتَمَنَّى أَنْ تَقْبَلُوا دَعْوَتَنَا لِكَأْسٍ مِنَ الشَّاي، وَنَرْتَاحُ قَلِيلًا، وَنَتَحَدَّثُ بِهُدُوءٍ.”
قَالَتِ الْفَتَاةُ بِاِنْفِعَالٍ شديد :
” شُكرًا على الاسْتِقْبالِ! واضِحٌ تَمامًا من طَريقةِ تَعامُلِ عامِلِكُمْ معنا كَيْفَ تَسْتَقْبِلون الضُّيوفَ في بَلَدِكُم!”
أجابَ الحاجُّ، وقد ظلَّ مُحْتَفِظًا بِنَبْرَتِهِ اللَّطيفةِ:
” أرْجو ألّا تَتَسَرَّعي في الحُكْمِ، آنِسَتي الكَريمة! هذا الشّابُّ الّذي أمامَكِ هو في الواقِعِ خَلوقٌ ومُهَذَّبٌ، غيرَ أنَّهُ لم يَسْبِقْ له التَّعامُلُ مع الآنساتِ، فَهُنَّ لا يَدْخُلْنَ مَتْجَرَنا، لِأنَّنَا لا نَبيعُ بِالمُفَرَّقِ، كما قالَ لَكِ الأُسْتاذُ نُعمان، وتَعامُلُنا يَنْحَصِرُ مع التُّجّارِ فقط.”
صَرَخَت:
” لا يَعْنيني هذا! أنا أَدْفَعُ من مالي! وأنتَ كَصاحِبِ مَتْجَرٍ، يُفْتَرَضُ بِكَ أن تَحْرِصَ على بيعِ بَضاعَتِك، وهو كَعامِلٍ يَجِبُ أن يَهْتَمَّ بالزَّبائِن!”
أجابَها الحاجُّ بلُطْفٍ:
” كلامُكِ فيهِ شَيءٌ من المَنْطِقِ، لكِنِّي لم أرَ من هذا الشّابِّ سِوى حُسْنِ الخُلُقِ، رغمَ أنّكِ قُلْتِ له ما يُوجِعُ، ومعَ ذلك لم يُخْطِئْ. أَعْتَذِرُ مِنكِ عن سُوءِ الفَهْمِ.”
ثم أشارَ إلى طَبَقِ الحَلْوَيَاتِ وَهُوَ يَقُوْلُ :
“بِالمُناسَبَةِ، اليومُ يَوْمٌ مُميَّزٌ لَنَا فِي هَذَا الْمَتْجَرِ, فَلَقَد نَجَحَ الأُسْتاذُ نُعمان في امْتِحاناتِ الشَّهادَةِ الثّانَويَّةِ الْعَامَةِ بِفَرْعِهَا الْعِلْمِيِّ، وجاءَنا بِهذِهِ الحَلْوَيَاتِ لِنَحْتَفِلَ. وكُنّا سَنَدْعو الجيرانَ لِنَحْتَفِلَ بِهِ، وَلَكِنْ طَالَمَا أنّكُم قد وَصَلْتُم قَبْلَهُم، فَمَرْحَبًا بِكُمْ بَيْنَنا.”
سَكَتَتِ الفتاةُ لَحْظَةً، ثم قالت بِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ:
“لا… لا، شُكرًا. نُريدُ فقط شِراءَ القُماشِ, وسَنُغادِرُ فَوْرًا.”
قالَ الحاجُّ بِهُدوءٍ:
“كما تُريدين!.” ثم عادَ إلى مَكْتَبِه.
تَقَدَّمَتْ نَحْوَهُ قائلةً وقد غَيَّرَتْ من نَبْرَتِها:
“ألن تَطْلُبَ من عامِلِكَ أن يَبيعَنا قِطْعَةً من هذا القُماشِ؟”
” أَمْ هُوَ لَا يَسْمَعُكَ؟ …… أَمْ تَرَاهُ يَنْتَظِرُ أَمْرًا لَا يَأْتِي؟
أجابَها:
“نَعْتَذِرُ. لا نَمْلِكُ سِجِلَّ فَواتيرٍ لِلْبَيْعِ بِالمُفَرَّقِ، كما أنّ الفَضَلاتِ لا تُباعُ لدينا.”
تَمْتَمَتْ وهي تَنْظُرُ إلى نُعمان:
“مِنَ المُؤَكَّدِ أن لا أحَدَ يَشْتَري مِنكُم شَيْئًا… طالَما تَعامُلُكُم على هذهِ الحال…”
ثم الْتَفَتَتْ لِلْحاجِّ وقالت:
“حَسَنًا، سَأَشْتَري الثَّوْبَ كامِلًا. أَنْزِلُوهُ لي.”
طَلَبَ الحاجُّ من نُعمان تَنْفيذَ الطَّلَبِ، فأنْزَلَ الثَّوْبَ ووَضَعَهُ على الطّاوِلَةِ أمامَ مُعَلِّمِهِ، ثم عادَ إلى مَكانِهِ، وقد احْمَرَّتْ عَيْناهُ، كأنّما تُخَبِّئانِ دَمْعَةً تَأْبَى السُّقوطَ.
تَفَحَّصَتِ الفتاةُ القُماشَ، وَلَفَّتْ شَيْئًا مِنهُ على جَسَدِها، ثُمَّ نَظَرَتْ إلى نَفْسِها في مِرآةٍ صَغيرةٍ أَخْرَجَتْها من حَقيبَتِها، وَالْتَفَتَتْ إلى والِدِها بِعَيْنَيْنِ تُخْفِيانِ حَديثًا طَويلًا لَمْ يَسْمَعْهُ سِواه، ثُمَّ قالَتْ لَهُ بِهَمْسٍ:
” هذا هو، بابا… تَمامًا كما أَرَدْتُ.”
أَخْرَجَ الرَّجُلُ مِحْفَظَةً وَقَدَّمَ لِلْحاجِّ رُزْمَةً من المالِ، لكِنَّ الثَّمَنَ كانَ باهِظًا، فَلَمْ يَكُنِ المَبْلَغُ الّذي قَدَّمَهُ كافيًا. طَلَبَ إِرْجاءَ الدَّفْعِ رَيْثَما يَذْهَبُ إلى السَّيّارَةِ وَيَعودُ.
عِنْدَها سَبَقَتِ الفَتاةُ وَقالَتْ لِنُعمانَ بِنَبْرَةٍ آمِرَةٍ:
” احْمِلِ الثَّوْبَ إلى السَّيّارَةِ، وَسَنَدْفَعُ هُناكَ.”
تَجَمَّدَ نُعمانُ لَحْظَةً. كَيْفَ يَفْعَلُ ذٰلِكَ بَعْدَ كُلِّ ما قِيلَ؟
لٰكِنَّهُ كَتَمَ ما بِداخِلِهِ، وَأَخْفى كُلَّ ما يَشْتَعِلُ في صَدْرِهِ.
الْتَفَتَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ بِلُطْفٍ وَقالَ:
” مِنْ فَضْلِكَ، هَلْ يُمْكِنُكَ مُساعَدَتَنا في نَقْلِ الثَّوْبِ؟ لَنْ نُؤَخِّرَكَ، فَالسَّيّارَةُ قَريبَةٌ.”
نَظَرَ نُعمانُ إلى مُعَلِّمِهِ، كَأَنَّهُ يَسْتَأْذِنُهُ لِيَقولَ شَيْئًا. ثُمَّ قالَ بِهُدوءٍ:
” يُمْكِنُكُمْ اسْتِئْجارُ أَحَدِ الحَمّالينَ مِنْ هُناكَ.”
أَوْمى الحاجُّ بِرَأْسِهِ، وَقالَ بِابْتِسامَةٍ:
” لا داعي لِلْحَمّالينَ يا نُعمان، إنَّهُ ثَوْبٌ واحِدٌ، وَهُوَ خَفيفُ الحَمْلِ كَما تَرى… فَقَطْ ضَعِ الثَّوْبَ في السَّيّارَةِ، وَاسْتَلِمْ تَتِمَةَ الْمَبْلَغِ، وَارْجِعْ بِسُرْعَةٍ.”!
ثُمَّ قالَ الرَّجُلُ:
” لَوْ سَمَحْتَ، يا سَيِّدَ نُعمان.”
خَفَضَ نُعمانُ رَأْسَهُ وَهُوَ يُرَدِّدُ بِصَمْتٍ: “فَقَطْ ضَعِ الثَّوْبَ في السَّيّارَةِ… وَاسْتَلِمِ الْمَبْلَغَ… وَارْجِعْ بِسُرْعَةٍ.”
تَرَدَّدَ قَليلًا، ثُمَّ حَمَلَ الثَّوْبَ وَقَدْ أَثْقَلَهُ الصَّمْتُ وَالْحَرَجُ، وَخَرَجَ خَلْفَ الرَّجُلِ بِخُطًى بَطِيئَةٍ، بَيْنَما كانَتِ الفَتاةُ قَدْ سَبَقَتْهُما بِخُطًى واثِقَةٍ، وَكَأَنَّها تَقولُ بِعَيْنِ الانْتِقامِ: “اتَّبِعْني…” كانت تمشي أمامه، كمن تجرّ وراءها ما تراه ملكًا لها.
الفصلُ الثاني شَيء فوق الاحتمال 4
________________________________________
دقَّتِ السَّاعةُ الثَّانيةَ بعدَ الظُّهرِ، وَلَمْ يَعُدْ نُعمانُ إِلَى الْمَتْجَرِ بَعْد. كانَ وقتُ القَيْلولَةِ قَدْ حَلَّ، فَأَغْلَقَتْ مَتاجِرُ الجُملةِ أَبْوابَها، كَما هِيَ العادَةُ في ذاكَ السُّوقِ العَريقِ مِن دِمَشْقَ.
مَضَتْ ثَلاثُ ساعاتِ اسْتِرَاحَةِ الْغَدَاءِ ثَقِيلَةً عَلَى الْحَاجِ أَبِي مَحْمُود، انْقَضَتْ خِلالَها اسْتِراحَةُ الغَداءِ، وَبَدَأَتِ المَتاجِرُ تَسْتَعيدُ نَبْضَها شَيْئًا فَشَيْئًا.
نزل من علّيّته، فوجد الباب ما زال موصدًا، كأنّ الغياب قد طال عمرًا. اسْتَوْقَفَهُ المَشْهَدُ لَحْظَةً، ثُمَّ اقْتَرَبَ وَفَتَحَهُ بِيَدِهِ، وَمَدَّ رَأْسَهُ خارِجًا، يَتَلَفَّتُ يَمينًا وَيَسارًا، كَأَنَّهُ يَبْحَثُ عَنْ شَبَحٍ غادَرَ لِلتَّوِّ.
ثُمَّ دَخَلَ بِخُطًى بَطيئَةٍ، يُفَتِّشُ في الزَّوايا وَغُرْفَةِ الخَدَماتِ، يُنادِي دُونَ صَوْتٍ، إِذْ لا أَثَرَ لِنُعمانَ.
جَلَسَ خَلْفَ مَكْتَبِهِ، يُقَلِّبُ أَفْكارَهُ، وَيُحَدِّقُ في الصَّمْتِ، لا شَيْءَ يَمْلَأُ المَكانَ سِوى عَقارِبِ السّاعَةِ وَهِيَ تَلْدَغُ الدَّقائِقَ بِبُطْءٍ. اسْتَقْبَلَ بَعْضَ الزَّبائِنِ عَلى مَضَضٍ، وَأَخَذَ يُؤَجِّلُ تَنْفيذَ طَلَباتِهِمْ رَيْثَما يَعودُ عامِلُهُ، كَأَنَّهُ لا يُريدُ أَنْ يُنْجِزَ شَيْئًا في غِيابِهِ.
طالَ الانْتِظارُ، وَكَأَنَّ السّاعاتِ تَنْهَشُهُ، حَتّى دَلَفَ نُعمانُ أَخِيرًا.
دَخَلَ بِخُطًى مُثْقَلَةٍ، وَقَدْ لَفَحَتْ وَجْهَهُ شُحوبَةٌ غَريبَةٌ، كَأَنَّ دَهْرَاً مِن أَيّامِ العُمْرِ قَدْ عَبَرَ فَوْقَهُ وَأَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا لا يُسْتَرَدُّ.
لَمْ يَكُنِ التَّعَبُ وَحْدَهُ ما يُثْقِلُهُ، بَلْ شُعورٌ دَفينٌ بِالْمَهانَةِ ظَلَّ يَضْرِبُ قَلْبَهُ وَعَقْلَهُ عَلى السَّواءِ.
كانَ التَّعَبُ الجَسَدِيُّ يَسْكُنُ المَلامِحَ، أَمَّا في داخِلِهِ فَكانَ جُرْحٌ غَيْرُ مَرْئِيٍّ لا يَزالُ يَنْزِفُ، بَلْ وَيَلْتَهِبُ اشْتِعالًا.
أَشارَتِ السّاعَةُ إِلى السّابِعَةِ وَالنِّصْفِ مَساءً، حينَ وَضَعَ المالَ فَوْقَ طاوِلَةِ المَكْتَبِ أَمامَ مُعَلِّمِهِ بِصَمْتٍ.
رَفَعَ الحاجُّ عَيْنَيْهِ إِلَيْهِ وَقَدِ ارْتَسَمَ عَلى وَجْهِهِ مَزيجٌ مِنَ الاسْتِغْرابِ وَالقَلَقِ، وَقالَ بِصَوْتٍ حانٍ:
” أَيْنَ كُنْتَ يا بُنَيَّ؟…. لِمَ تَأَخَّرْتَ كُلَّ هَذَا الْوَقْتَ؟…. ماذا جَرى مَعَكَ؟….”
لَكِنَّ نُعمانَ لَمْ يُجِبْ. مَضى بِهُدوءٍ نَحْوَ البَرّادِ الصَّغيرِ، تَناوَلَ زُجاجَةَ ماءٍ وَشَرِبَها دَفْعَةً واحِدَةً، ثُمَّ جَلَسَ لَحْظَةً دُونَ أَنْ يَنْطِقَ بِكَلِمَةٍ. بَعْدَها، نَهَضَ وَبَدَأَ يَتَهَيَّأُ لِإِغْلاقِ المَتْجَرِ، كَأَنَّهُ يُريدُ أَنْ يُسْدِلَ السِّتارَ عَلى هٰذا اليَوْمِ بِأَسْرَعِ ما يُمْكِنُ.
كانَ يَوْمًا طَويلًا… اسْتِثْنائِيًّا بِكُلِّ ما فيهِ. وَحينَ اقْتَرَبَتِ السّاعَةُ مِنَ الثّامِنَةِ مَساءً، وَدَّعَهُ الحاجُّ، وَغادَرَ عائِدًا إِلى مَنْزِلِهِ، تارِكًا خَلْفَهُ نُعْمانَ يُنْهي تَرْتِيباتِ الإِغْلاقِ.
أَغْلَقَ نُعْمانُ المَتْجَرَ بِعِنايَةٍ، وَقَفَلَ البابَ الأَوْسَطَ، ثُمَّ تَفَقَّدَ الأَقْفالَ الجانِبِيَّةَ مِنَ الخارِجِ. الْتَفَتَ مَرَّةً أَخِيرَةً نَحْوَ الدّاخِلِ، ثُمَّ مَضى في طَريقِهِ، يُجَرُّ قَدَمَيْهِ الْمُتْعَبَتَيْنِ نَحْوَ مَوْقِفِ الباصِ.
صَعِدَ الحافِلَةَ، وَجَلَسَ قُرْبَ النّافِذَةِ، يُحَدِّقُ بِصَمْتٍ في العَتْمَةِ مِن خِلالِ الزُّجاجِ المَخْدوشِ، كَأَنَّهُ يُفَتِّشُ في الظَّلامِ عَنْ صُوَرٍ تَمْلَأُ رَأْسَهُ وَلا يَراها سِواهُ. وَبَيْنَما كانَ السّائِقُ يَسْتَعِدُّ لِلِانْطِلاقِ، صَعِدَ الحاجُّ أَبو مَحْمودٍ فَجْأَةً، وَكَأَنَّهُ جاءَ يَبْحَثُ عَنْ أَحَدٍ.
فَنُعْمانُ هُنا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنا فَيَنْتَبِهَ إِلى مُعَلِّمِهِ أَوْ سِواهُ مِمَّنْ هُم عَلى مَتْنِ هٰذِهِ الحافِلَةِ، ما زالَ يَنْظُرُ إِلى العَتْمَةِ الَّتي تَرْتَسِمُ خَلْفَ الزُّجاجِ لا يُحَرِّكُ ساكِنًا.
جَلَسَ الحاجُّ إِلى جانِبِهِ، دُونَ أَنْ يَتَفَوَّهَ بِكَلِمَةٍ.
ظَلَّ نُعْمانُ شارِدًا، عَيْناهُ مُعَلَّقَتانِ بِشَيْءٍ لا يُرَى، شَيْءٍ لا اسْمَ لَهُ وَلا مَلامِحَ. اقْتَرَبَ الجابي لِيَجْمَعَ الأُجْرَةَ، فَأَخْرَجَ الحاجُّ نُقودَهُ بِهُدوءٍ، وَأَشارَ إِلى الجابي قائِلًا:
” راكِبَيْنِ.” وَلَمْ يَزِدْ.
مَضَتْ ساعَةٌ تَقْريبًا، كانَ الصَّمْتُ فيها سَيِّدَ الحافِلَةِ. وَعِنْدَما اقْتَرَبَتِ المَحَطَّةُ الَّتي يَنْزِلُ عِنْدَها الحاجُّ، قالَ بِصَوْتٍ جَهُورِيٍّ لِلسّائِقِ:
” المَوْقِفُ التّالِي، لَوْ سَمَحْتَ.”
الْتَفَتَ نُعْمانُ نَحْوَهُ بِانْدِهاشٍ لَمْ يَسْتَطِعْ إِخْفاءَهُ، فَقَدْ أَدْرَكَ في تِلْكَ اللَّحْظَةِ فَقَطْ أَنَّ مُعَلِّمَهُ كانَ جالِسًا إِلى جانِبِهِ طِوالَ الوَقْتِ. زادَ ذٰلِكَ مِن ارْتِباكِهِ، فَتَحَوَّلَتْ نَظَراتُهُ إِلى سُؤالٍ صامِتٍ لَمْ يَجِدْ لَهُ جَوابًا.
هَمَسَ لَهُ الحاجُّ وَهُوَ يَسْتَعِدُّ لِلنُّزولِ:
” دَفَعْتُ عَنْكَ الأُجْرَةَ…”
ثُمَّ أَرْدَفَ بِلُطْفٍ لَمْ تَخْلُ نَبْرَتُهُ مِن دَفْءٍ:
” لا تَنْسَ أَنْ تَأْخُذَ مَعَكَ طَبَقَيِ الحَلْوَى إِلى البَيْتِ…”
وَهَمَّ بِالنُّزولِ، وَلٰكِنَّهُ تَوَقَّفَ فَجْأَةً، وَالْتَفَتَ إِلَيْهِ بِابْتِسامَةٍ رائِقَةٍ، وَقالَ:
” وَانْتَبِهْ لَهُما جَيِّدًا! كَيْ لا تَنْساهُما… كَما نَسِيتَهُما في المَحَلِّ قَبْلَ قَليلٍ!”
ثُمَّ لَوَّحَ لَهُ بِيَدِهِ مُوَدِّعًا، تارِكًا خَلْفَهُ أَثَرًا دافِئًا يَتَرَدَّدُ في قَلْبِ الشّابِّ كَأَنَّهُ يَعْتَذِرُ لَهُ بِصَمْتٍ لا يُنْسى.

الفصلُ الثالث في أحضانِ الأسرة 5
________________________________________
عادَ نُعْمانُ إِلى بَيْتِهِ كَما اعْتادَ في ساعَةٍ مُتَأَخِّرَةٍ مِنَ المَساءِ، تُحيطُ بِهِ ظِلالُ التَّعَبِ وَخُيوطُ الحَنِينِ، فَاسْتَقْبَلَتْهُ أُمُّهُ عِندَ البابِ بِابْتِسامَةٍ دافِئَةٍ طالَما انْتَظَرَتْ أَنْ تُزْهِرَ عَلى وَجْهِها. كانَتْ تَنْتَظِرُهُ، لا لِتُعاتِبَهُ عَلى التَّأَخُّرِ، بَلْ لِتُهْدِيَهُ فَرَحَ القَلْبِ في لَيْلِ النَّجاحِ.
وَجْهُها الْمُتْعَبُ بدا مُشْرِقًا، كَأَنَّ التَّعَبَ فيهِ زِينَةُ الْمَحَبَّةِ، وَقَدْ أَمْضَتِ النَّهارَ مُنْهَمِكَةً في إِعْدادِ مائِدَةٍ تَلِيقُ بِابْنِها الْمُجْتَهِدِ، ذٰلِكَ الَّذي لَمْ يَهُدَّهُ الجُهْدُ، بَلْ صَقَلَهُ.
الْتَفَّ إِخْوَتُهُ الصِّغارُ حَوْلَها، يُلاحِقُونَ بِعُيُونِهِم خُطُواتِها، وَيَشُمُّونَ رائِحَةَ الطَّعامِ الَّتي كانَتْ تَتَسَرَّبُ مِنَ الأَبْوابِ وَالنَّوافِذِ، كَما لَوْ أَنَّها بُشارَةُ يَوْمِ عيدٍ. لَمْ يَكُونُوا يَنْتَظِرُونَ العَشاءَ وَحْدَهُ، بَلْ لَحْظَةَ اللِّقاءِ، وَفَرْحَةَ انْتِصارِ نُعْمانَ.
دَلَفَ إِلى البَيْتِ بِخُطىً ثَقيلَةٍ، أَلْقَى السَّلامَ بِصَوْتٍ خافِتٍ، مُبَلَّلٍ بِشَيْءٍ مِنَ الإِرْهاقِ وَالْخُذْلانِ… غَيْرَ أَنَّهُ، حينَ الْتَقَتْ عَيْناهُ بِوَجْهِ أُمِّهِ الْمُضِيءِ وَوُجُوهِ إِخْوَتِهِ الطّافِحَةِ بِالْبِشْرِ، شَعَرَ بِدِفْءٍ يَنْسابُ في صَدْرِهِ، يُطْرِدُ عَنْهُ التَّعَبَ وَالْمَرارَةَ. ابْتَسَمَ ابْتِسامَةً خَجُولَةً، وَمَدَّ يَدَيْهِ يُقَدِّمُ طَبَقَيْ الحَلْوَى كَأَنَّهُ يُقَدِّمُ إِلَيْهِم قَلْبَهُ مُحَمَّلًا بِالِامْتِنانِ.
ما إِنْ رَأى الأَطْفالُ الحَلْوَى حَتّى انْطَلَقَتْ صَيَحاتُ الفَرَحِ، وَهَرَعُوا نَحْوَها تارِكِينَ المائِدَةَ الَّتي طالَما انْتَظَرُوها. حاوَلَتِ الأُمُّ أَنْ تَضْبِطَ المَشْهَدَ، رَفَعَتْ أَحَدَ الطَّبَقَيْنِ وَقالَتْ بِرِفْقٍ: “يَكْفِي هٰذا الطَّبَقُ لِلْجَمِيعِ… رُبَّما لِيَوْمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ!”، وَلَكِنَّ الصِّغارَ كانُوا قَدْ غَرِقُوا في عالَمٍ مِنَ السُّكَّرِ وَالدَّهْشَةِ.
طَلَبَ نُعْمانُ مِن أُمِّهِ أَنْ تَتْرُكَ لَهُمْ حُرِّيَّتَهُمْ هٰذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ جَلَسَ إِلى جِوارِها يَتَناوَلُ العَشاءَ بِهُدوءٍ، وَعَيْناهُ تَتَنَقَّلانِ بَيْنَ وُجُوهِ إِخْوَتِهِ الصَّغِيرَةِ، تُضِيءُ في صَدْرِهِ أَنْوارٌ مِنَ الرِّضى.
قالَتْ أُمُّهُ وَهِيَ تُقَطِّعُ لَهُ الخُبْزَ وَتُناوِلُهُ إِيّاهُ:
” سَعادَتِي لا تُوصَفُ يا بُنَيّ، لَقَدْ رَفَعْتَ رَأْسِي عالِيًا.”
أَجابَها مُبْتَسِمًا وَهُوَ يُشِيرُ إِلى إِخْوَتِهِ:
” هُنا، مَعَهُمْ، أَجِدُ السَّعادَةَ الحَقِيقِيَّةَ… انْظُرِي كَيْفَ يُعَبِّرُونَ عَنْ فَرَحَتِهِم!”
ضَحِكَتِ الأُمُّ وَقالَتْ:
” لَقَدِ انْتَظَرُوا الطَّعامَ بِالسّاعاتِ، يَشُمُّونَ رائِحَتَهُ بِأُنُوفِهِم، وَيُراقِبُونَنِي بِأَعْيُنِهِم، ثُمَّ تَرَكُوهُ كُلَّهُ مِن أَجْلِ حَلْوَى نَجاحِكَ.”
تَدَخَّلَتْ أُخْتُهُ الْكُبْرَى بِفَخْرٍ:
” لَكِنَّنِي ساعَدْتُكِ يا أُمِّي، لا تَنْسَيْ!”
وَرَدَّ أَخُوهُ الصَّغِيرُ:
” وَأَنَا ذَهَبْتُ إِلى السَّمّانِ لِأَشْتَرِي زَيْتَ الزَّيْتُونِ!”
ثُمَّ تَناوَبَ الإِخْوَةُ عَلى سَرْدِ مُساهَماتِهِم، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَرْفَعُ رايَةَ الْمُشارَكَةِ عَلى طَرِيقَتِهِ.
ضَحِكَ نُعْمانُ وَقالَ بِعَفْوِيَّةٍ:
” أَنْتُمْ أَطْيَبُ إِخْوَةٍ في الدُّنْيا… شُكْرًا لَكُمْ، وَشُكْرًا لَكِ يا أُمِّي، وَلِأَبِي. لَوْلا دَعْمُكُمْ، وَصَبْرُكُمْ، وَهُدُوؤُكُمْ حينَ كُنْتُ أُذاكِرُ، لَما وَصَلْتُ إِلى ما أَنا عَلَيْهِ. لَكِنْ… انْتَبِهُوا! عَلَيْكُمْ أَنْ تَهْتَمُّوا أَنْتُمْ أَيْضًا بِدِراسَتِكُمْ… وَاتْرُكُوا بَعْضَ الْحَلْوَى لِأَبِي وَأُمِّي!”
احْتَجَّتْ أُخْتُهُ الصَّغِيرَةُ، وَهِيَ تَحْتَضِنُ الطَّبَقَ بِيَدَيْها:
” لا تَقُلْ إِنَّكَ سَتُبْقِي شَيْئًا لِأَوْلادِ الْجِيرانِ أَيْضًا! هُمْ لا يُعْطُونَنا شَيْئًا أَصْلًا!”
أَشارَتِ الأُمُّ بِيَدِها قَائِلَةً بِرِفْقٍ حازِمٍ:
” لا يا ابْنَتِي، نَحْنُ لا نَنْظُرُ إِلى ما في أَيْدِي غَيْرِنا… نَحْنُ نَرْضى، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.”
وَانْطَلَقَتِ الضَّحِكاتُ مِنْ هُنا وَهُناكَ، تَمْلَأُ الزّاوِيَةَ الصَّغِيرَةَ بَهْجَةً، حَتّى قامَتِ الأُمُّ تَجْمَعُ الصُّحُونَ وَتَقُولُ بِنَبْرَةٍ فِيها مَحَبَّةٌ وَحَنانٌ:
” الآنَ، يَغْسِلُ كُلٌّ مِنْكُمْ يَدَيْهِ وَفَمَهُ، وَيُنَظِّفُ أَسْنانَهُ، وَيَذْهَبُ إِلى فِراشِهِ. وَغَدًا… نَسْمَعُ مِنْكُمْ أَحْلامَكُمْ.”
ضَحِكَتِ الصَّغِيرَةُ وَقالَتْ مُداعِبَةً:
” لا يا أُمِّي! أُرِيدُ أَنْ أَنامَ وَطَعْمُ الْحَلْوَى في فَمِي… لِأَحْلُمَ بِها!”
ابْتَسَمَتِ الأُمُّ وَقالَتْ مُمازِحَةً:
” وَهَلْ تُرِيدِينَ أَنْ تَتْرُكِي وَحْشَ التَّسَوُّسِ يَمْرَحُ في فَمِكِ؟ اغْسِلِي فَمَكِ، وَإِلّا… لَنْ نَسْمَعَ حُلْمَكِ صَباحًا بِسَبَبِ الرّائِحَةِ!”
حينَ عَمَّ السُّكُونُ الْبَيْتَ، وَكانَ الْجَمِيعُ قَدْ نامُوا، عادَ الأَبُ مِنْ عَمَلِهِ، بادِيَةٌ عَلَيْهِ أَمَارَاتُ التَّعَبِ. جَلَسَتِ الأُمُّ إِلى جِوارِهِ تُخْبِرُهُ بِكُلِّ ما جَرى، وَقَدَّمَتْ لَهُ طَبَقًا صَغِيرًا مِنَ الْحَلْوَى، وَضَعَتْهُ في صَحْنٍ نُحاسِيٍّ قَدِيمٍ احْتَفَظَتْ بِهِ مِنْ جِهازِ زِفافِها.

سَأَلَ الأَبُ مُسْتَغْرِبًا:
” مِنْ أَيْنَ أَتى نُعْمانُ بِثَمَنِ هٰذِهِ الْحَلْوَيَاتِ الْفاخِرَةِ؟”
أَجابَتْهُ الأُمُّ بِهُدُوءٍ:
” لَمْ أَسْأَلْهُ… هُوَ يَعْمَلُ، وَالْيَوْمُ ناجِحٌ وَسَعِيدٌ، وَلَمْ أَرْغَبْ بِإِفْسادِ فَرَحَتِهِ.”
قالَ الأَبُ وَهُوَ يُطالِعُها بِتَأَمُّلٍ:
” رَأَيْتُ عُلْبَتَيْنِ مِنْ مَحالٍّ مَعْرُوفَةٍ… أُرِيدُ أَنْ أَعْرِفَ كَيْفَ حَصَلَ عَلَيْهِما.”
قالت الأمُّ برقةٍ مطمئنة:
” سأسألهُ صباحًا. دع فرحته تبقى صافيةً الليلة.”
أومأ الأبُ برأسه وقال مبتسمًا:
” فقط لا تنسي أن تُرسلي قليلاً منها لوالديَّ، وإخوتي، وأولادهم، ومن تشائين أن تشاركيه فرحة النجاح.”
أجابت الأمُّ وهمستْ برضا:
” كنتُ سأفعل، ولكن الكمية لا تكفي كل هؤلاء!.”
وبعد أن أنهت أعمالَ المطبخ، تمدّدت بجواره، وغلبَهما صمتٌ ناعمٌ يشبه الدعاء.
قبل الفجر، استيقظ نُعمان، توضّأ، ثم فرشَ سجادته في زاويةٍ بعيدةٍ عن أقدامِ إخوته، وصلّى ركعتين. رفع رأسه نحو والده النائم، وتمتم بصوتٍ منخفض:
” لا تقلق، يا أبي… أنا كما عهدتني، بإذن الله.”
عاد إلى فراشه، قرأ المعوّذتين، ثم أغمض عينيه.
عند أول أذانٍ للفجر، نهض مجددًا، توضأ، وصلّى، ثم أيقظ إخوته بلطفٍ، وساعدهم في تجهيز أنفسهم. جهّز المائدةَ بصمتٍ: خُبز، زيتون، زعتر، لبن، وشاي. ثم أخرج من جيبه ثلاث ورقاتٍ نقدية ومدّها نحو أمّه قائلاً:
” أعطاني معلّمي مئة ليرةٍ لأشتري بها الحلوى، ثم أهداني هذه الثلاث أوراق… قال إنها هدية نجاحي. هذه كلُّ النقودِ يا أمي.”
أخذتها الأمُّ، وقبّلت رأسه:
” هي لك يا ولدي، هذه فرحتك… وفرحتنا بك تكفينا.”
ثُمَّ الْتَفَتَتْ إِلى باقي إِخْوَةِ نُعْمانَ وَقالَتْ بِحَزْمٍ يَشُوبُهُ الْحَنانُ:
” وَأَنْتُمْ، هَلْ تَعِدونَنِي أَنْ تَكُونُوا مِثْلَهُ؟”
هَتَفُوا جَمِيعًا:
” نَعَمْ يا أُمِّي!”
لَكِنَّ نُعْمانَ كانَ شارِدًا، سَأَلَتْهُ الأُمُّ:
” بِمَ تُفَكِّرُ يا بُنَيَّ؟”
أَجابَ بِصَوْتٍ هادِئٍ:
” أُفَكِّرُ أَنْ أَتْرُكَ الْعَمَلَ لَدَى السَّيِّدِ أَبِي مَحْمُودٍ، لِأَسْتَعِدَّ لِتَقْدِيمِ أَوْراقِي إِلى الْجامِعَةِ في دِمَشْقَ… أَوْ إِلى مَعْهَدٍ مُتَوَسِّطٍ عَلَى الْأَقَلِّ.”
قالَتِ الأُمُّ بِصَوْتٍ مُطْمَئِنٍّ:
” سَأَتَحَدَّثُ مَعَ والِدِكَ، وَأَظُنُّهُ لَنْ يُمانِعَ. أَنْتَ أَدْرَى بِمُسْتَقْبَلِكَ، يا نُعْمانُ.”
دَخَلَ الأَبُ الْمَطْبَخَ في تِلْكَ اللَّحْظَةِ وَقالَ:
” صَباحُ الْخَيْرِ!”
رَدَّ الْجَمِيعُ بِصَوْتٍ واحِدٍ:
” صَباحُ الْخَيْرِ يا بابا!”
جَلَسَ إِلى جِوارِ نُعْمانَ، وَرَبَتَ عَلَى كَتِفِهِ:
” مُبارَكٌ نَجاحُكَ يا وَلَدِي!”
قَبَّلَ نُعْمانُ يَدَ أَبِيهِ وَهَمَسَ:
” بارَكَ اللَّهُ فِيكُما يا أَبِي وَأُمِّي.”
ثُمَّ اسْتَأْذَنَ لِلذِّهابِ، فَوَقَفَ الأَبُ مَعَهُ عِنْدَ الْبابِ وَقالَ بِهُدُوءٍ:
” لا تَخَفْ مِنْ شِدَّتِي… أَنا فَقَطْ أَخافُ عَلَيْكَ. سَمِعْتُ حِوارَكَ مَعَ والِدَتِكَ… الْقادِمُ هُوَ مُسْتَقْبَلُكَ، وَأَنْتَ أَدْرَى بِهِ… وَأَنا واثِقٌ بِكَ.”
ثُمَّ رَبَتَ عَلَى كَتِفِهِ وَأَضافَ:
” رافَقَتْكَ السَّلامَةُ.”
غادَرَ نُعْمانُ باكِرًا، مُتَّجِهًا إِلى عَمَلِهِ، بَيْنَما عادَ الأَبُ إِلى سَرِيرِهِ لِيَسْتَكْمِلَ نَوْمَهُ حَتّى الثّامِنَةِ. فِي تِلْكَ السّاعَةِ، بَدَأَ إِخْوَةُ نُعْمانَ اسْتِعْدادَهُمْ لِلذِّهابِ إِلى الْكُتّابِ، تِلْكَ الْبُيُوتِ الصَّغِيرَةِ في الْحَيِّ، حَيْثُ تُعَلِّمُهُمْ امْرَأَةٌ مُسِنَّةٌ تُعْرَفُ بِ” الْخَجا”، تَحْفَظُ مِنْ جُزْءِ “عَمَّ” وَ”تَبارَكَ”، وَتُلَقِّنُهُمْ إِيّاهُ بِصَبْرٍ وَمَحَبَّةٍ.
وَحينَ يَنْقَضِي صَخَبُ الصَّباحِ، وَتَفْرُغُ الأُمُّ مِنْ أَعْمالِها، تَجْلِسُ إِلى ماكينةِ الأَغْبانِي، تُطَرِّزُ بِخُيُوطِ الْحَرِيرِ الْمُلَوَّنَةِ عَلَى قِطَعِ الْقُماشِ، تَنْسُجُ رِزْقَها بِالإِبْرَةِ، كَما اعْتادَتْ مُنْذُ سَنَواتٍ.
كانَتْ تَطْرِيزاتُ الأَغْبانِي مَصْدَرَ رِزْقٍ لَها. تَتَسَلَّمُ الْقِطَعَ وَالْخُيُوطَ مِنْ أَصْحابِ الْعَمَلِ، وَتُعِيدُها مُخَرَّمَةً بِزِينَةٍ رَفِيعَةٍ مِنْ صُنْعِ يَدَيْها، يُرافِقُها أَحيانًا أَحَدُ أَبْنائِها لِحَمْلِ الْقِطَعِ، وَقَدْ كانَ نُعْمانُ يَفْعَلُ ذلِكَ لِسَنَواتٍ، حَتّى صارَ الدَّوْرُ الْيَوْمَ عَلَى أَخِيهِ الْأَصْغَرِ.

الفصلُ الرابع عَوْدةٌ من جديد 6
________________________________________
كانَ الصَّباحُ قد بَزَغَ لِلتَّوِّ على أَزِقَّةِ دِمَشْقَ القَديمَةِ، حينَ دَخَلَ نُعْمانُ مَتْجَرَ الأَقْمِشَةِ كَعادَتِهِ، مُبَكِّرًا، يَسْبِقُ حَتّى هَمَساتِ النُّورِ الأُولَى. فَتَحَ الأَقْفالَ بِيَدٍ خَبِيرَةٍ، ثُمَّ شَرَعَ يُنَظِّفُ الأَرْضِيَّةَ، وَيُعِيدُ تَرْتِيبَ القُماشِ بِحِرْصٍ يُشْبِهُ مَن يُنَقِّبُ عَنْ كَنْزٍ دَفِينٍ.
وَقَبْلَ وُصُولِ مُعَلِّمِهِ، غَلَى الماءَ وَأَعَدَّ لَهُ كُوبًا مِنَ الأَعْشابِ الزَّهْرِيَّةِ، كَما اعْتادَ أَنْ يَفْعَلَ كُلَّ صَباحٍ.
دَخَلَ الحاجُّ أَبو مَحْمُودٍ، صاحِبُ الْمَتْجَرِ، مُرَدِّدًا تَحِيَّتَهُ الْمُعْتادَةَ بِصَوْتٍ ثابِتٍ:
” صَباحُ الْخَيْرِ!”
فَأَجابَهُ نُعْمانُ بِخُفُوتٍ مائِلٍ إِلى الأَدَبِ:
” صَباحُ النُّورِ، يا مُعَلِّمِي.”
غَيْرَ أَنَّ الحاج فاجَأَهُ هَذا الصَّباحَ بِابْتِسامَةٍ خَفِيفَةٍ وَنَبْرَةٍ وادِعَةٍ:
” الْيَوْمَ… أَرْغَبُ في قَهْوَةٍ بَدَلًا مِنَ الأَعْشابِ. وَسَنَشْرَبُها سَوِيًّا. هَلْ تُجِيدُ إِعْدادَ الْقَهْوَةِ؟”
أَجابَ نُعْمانُ وَهُوَ يَتَّجِهُ إِلى الْغُرْفَةِ الصَّغِيرَةِ:
” بِالطَّبْعِ يا مُعَلِّمِي، لَكِنْ… سامِحْنِي، لا أَرْغَبُ بِشُرْبِ الْقَهْوَةِ.”
وَصَلَهُ صَوْتُ الحاج مِنْ خَلْفِ الْبابِ، تَتَدَلَّى مِنْهُ ابْتِسامَةٌ خَفِيَّةٌ:
” سَتَشْرَبُها، وَلَنْ تَرْفُضَ لِي طَلَبًا كَما عَهِدْتُكَ. أَلَيْسَ كَذلِكَ؟”
فَرَدَّ نُعْمانُ بِابْتِسامَةٍ مُتْعَبَةٍ:
” حَسَنًا… كَما تَشاءُ، يا مُعَلِّمِي.”
ثُمَّ تَمْتَمَ في داخِلِهِ:
” وَما طَعْمُ الْقَهْوَةِ دُونَ سِيجارَةٍ؟! إِنَّهُما تَوْأَمانِ لا يَفْتَرِقانِ…”
سَأَلَهُ الحاج عَنْ كَمِّيَّةِ السُّكَّرِ، فَأَجابَهُ نُعْمانُ:
” كَما تُحِبُّها أَنْتَ.”
وَبَعْدَ دَقائِقَ، عادَ نُعْمانُ يَحْمِلُ صِينِيَّةً صَغِيرَةً، عَلَيْها فِنْجانانِ مِنَ الْقَهْوَةِ وَكَأْسُ ماءٍ بارِدٍ. وَضَعَها عَلَى طاوِلَةِ الأَدْراجِ الصَّغِيرَةِ، وَقَدَّمَ الْفِنْجانَ الأَوَّلَ للحاج قائِلًا بِابْتِسامَةٍ مُصْطَنَعَةٍ:
” تَفَضَّلْ يا مُعَلِّمِي…”
رَمَقَهُ بِنَظْرَةٍ مُتَفَحِّصَةٍ ثُمَّ قالَ مُسْتَغْرِبًا:
” أَراكَ عَلى غَيْرِ عادَتِكَ هَذا الصَّباحِ. أَيَجُوزُ لِي أَنْ أَعْرِفَ السَّبَبَ؟”
تنفّس نُعمانُ قليلًا، ثمّ أجاب محاولًا أن يُخفي ما به من توتُّر:
” لا شيء… سوى أني واثقٌ بأنّكَ لستَ من رُفقاءِ القهوة.”
ضحكَ ضحكةً قصيرةً وقال:
” صحيحٌ ما تقول، لكنّني اليومَ أردتُ فنجانًا بصُحبتِكَ، وتفاصيلَ ما جرى مساءَ الأمس. تحدّثْ إليَّ عن فترة غيابك عن المتجر منذ مغادرتك حاملاً ثوب القماش .. حتّى عودتك ما قبل موعد الاغلاق ليلاً.”
نظرَ إليه نُعمانُ مليًّا، ثمّ قال:
” لكن، يا معلّمي… هل ستغضبُ إذا طلبتُ منك ثلاثَ أشياء؟”
رفعَ الحاج حاجبَيْه وقال:
” هذه المرّة فقط… لن أغضب. تفضّل، قُل ما عندك.”
تنحنحَ نُعمانُ وقال:
” أولًا، أعذرني، لا أودُّ الحديث عمّا جرى أمس. ثانيًا، أودُّ إعادة المبلغ الذي منحتني إيّاه، ويكفيني ما تكرّمتَ به ثمَنًا للحلويات.”
ووضعَ ثلاثَ أوراقٍ نقديّةٍ أمامَ معلمه بهدوء.
نظر إليه الحاج قليلًا ثم قال:
” وثالثًا؟”
ردَّ نُعمانُ بصوتٍ يختلطُ فيه العزمُ بالحزن:
” أرجو أن تبحثَ عن عاملٍ جديدٍ للمتجر، وسأبقى في خدمتكَ ريثما تجدُ البديل…”
صمتَ اَلحَاج لحظةً، كأنّه يقرأُ ما بينَ السطور، ثم قال بنبرةٍ أكثر هدوءًا:
” وماذا أيضًا؟”
وفي تلك اللحظة، دَخَلَ المتجرَ رجلٌ بدا عليه الوقار، تقدّم نحوهما ببطءٍ وقال بأدبٍ جمٍّ:
“السّلام عليكم… أرجو المعذرة، هل تسمحان لي بالانضمام إليكما؟”
وقفَ الحاجُّ أبو محمود يُجيبُه مرحّبًا:
” وعليكم السلام ورحمةُ الله وبركاته، أهلًا وسهلًا بك. كُنّا على وشكِ الحديث عمّا جرى مساءَ الأمس… تفضّل بالجلوس.”
في هذه الأثناء، حملَ نُعمانُ الفناجينَ والكأسَ إلى الغرفةِ الجانبيّة، وجلسَ يُكمِلُ فنجانَه بصمتٍ ثقيل، يعتملُ في صدرِه شعورٌ حارقٌ بالرفض، إذ لم يستسغْ قبولَ معلّمه انضمامَ هذا الرجل، الذي لزمَ الصمتَ حين أساءت ابنتُه التصرفَ أمام الناس.
طلبَ الرجلُ من اَلحَاج أن يُحادثه على انفراد، فاستدار الحاجُّ أبو محمود، ونادى بصوتٍ عالٍ:
” أستاذ نُعمان، يا بُنيّ! أحضِر لنا بعضَ الحلويات من المحلّ الذي اشتريتَ منه بالأمس… خُذ النقودَ عن الطاولة.”
غادر نُعمانُ المتجرَ، ثمّ عاد بعدَ نحو نصفِ ساعةٍ يحملُ طبقًا من البقلاوة، وضعَه في صحنٍ صغير، ثم قدّمه لمعلّمه دونَ أن ينطقَ بكلمة، وخرج مسرعًا، ليقفَ على الرصيفِ المقابل، بعيدًا عن أنظارِ من في الداخل، وأشعلَ سيجارةً ينتظرُ أن يغادرَ الرجل.
دخلَ الزبائنُ واحدًا تلو الآخر، اَلحَاج كان يُشيرُ إليهم بالانتظار ريثما يعود نُعمان.
أحدُ الزبائن نادى حمّالًا، وسرعانَ ما وصل الأخيرُ يسأل عن نُعمان، فأشارَ إليه الحمالُ قائلًا:
“إنّه هناك، على الرصيف.”
قال الزبون:
” من فضلك! نادِه، ليُرشدك إلى البضاعة التي جهّزها لي، وانقلها إلى سيارتي. هذا أجرُك سلفًا…”
وأشارَ إلى سيارتِه البيضاء خلفَ شاحنةٍ قريبة، ثمّ تابع:
” البابُ الخلفيُّ مفتوح، فانتبهْ إلى البضاعة.”
استدارَ الحمالُ ينادي:
” يا سيد نُعمان! لا تقطعْ رزقَنا، لدينا عمل!”
دخلَ نُعمانُ بصمتٍ، وأشار إلى صندوقٍ كرتونيّ كبيرٍ:
” احملْ هذا، وضعه في سيارة التاجر أبي سعيد، وارجع إن شئتَ مزيدًا من العمل.”
توالى الزبائنُ بالسؤال، فكان نُعمانُ يُجيبهم بأدبٍ وصبر. أحدُهم أراد ثوبًا أعاده من قبل، فأجابه نُعمانُ معتذرًا:
” للأسف يا أبا زُهير، لقد بِعنا الثوبَ بالأمس.”
رجا التاجرُ أن يؤمَّنَ له واحدٌ بسرعةٍ، فالتفتَ نُعمانُ إلى معلمه، الذي تولّى الحديث مع الزبون ووعدهُ بالمحاولة.
بقيَ الرجلُ الغريبُ في مكانِه يراقبُ نُعمان بصمتٍ ثقيل، فيما هو يتظاهرُ بأنّه لا يراه، ويُطيلُ الوقوفَ عندَ الباب.
ناداهُ الحاجُّ أبو محمود أخيرًا، فاقتربَ نُعمانُ يُجيبُ بلطفٍ:
” نعم يا معلّمي، هل أُحضِرُ لك شيئًا؟”
قال اَلحَاج أبو محمود، مشيرًا إلى الرجل:
” لا… لكنّ السيّد أحمد يريدُ منك أمرًا.”
تنهّدَ نُعمانُ وهو يقول:
” خيرًا إن شاء الله، ماذا يريد بعد؟”
وقفَ اَلحَاج يُعدّلُ ثوبَه ويقول بابتسامةٍ ساكنة:
” حانَ وقتُ الصلاة، سأذهبُ إلى المسجد.”
ثم تناولَ حقيبةَ يدٍ صغيرةً تحتوي على منشفةٍ وشحّاطة، وتوجه نحو الباب مودّعَاً لهما بابتسامةٍ خفيفةٍ وهو يُغادر، تاركًا نُعمانَ على أعتابِ لحظةٍ جديدة… لا تشبهُ ما سبقها من أوقات الظهيرة.

الفصلُ الخامس الاعتذار 7
________________________________________
مدَّ الرَّجلُ يده مُبتسمًا، وهو يقول بصوتٍ هادئٍ:
” السَّلامُ عليكم”.
رفع نُعمانُ بصرَه إليه، وردَّ التَّحيَّةَ باقتضاب، ثمَّ صافحه ببطءٍ، كأنَّ شيئًا في داخله يُثنيه، لكنَّه ما لبث أن لبَّى واجب اللِّقاء.
جلسَ الزَّائرُ وقد رفعَ يديه قليلاً، كأنَّه يطلبُ إذنًا بالجلوس، ثمَّ قال بصوتٍ لم يَخلُ من التَّردُّد:
” أخبرني عنكَ الحاجُّ أبو محمود، صاحبُ المتجرِ، حسبَما فهمتُ… إنَّك شابٌّ ملتزمٌ، إلى حدٍّ لا تنظر فيه إلى أيٍّ من المارَّةَ في طريقكَ، بقدرِ ما ترى غايتكَ التي تمضي نحوها، وهدفكَ الذي تقصده… حدثني عنك كثيرًا. وأجد أن قد حانَ الوقتُ لنتعرَّفَ إلى بعضٍ أكثر عن قرب”.
ثم تنفَّسَ قليلًا، وأضاف:
” لن آخذَ من وقتكَ الكثير، فأنا أدركُ ما لديك من واجبات.
اسمي أحمد عبد الكريم، مهندسٌ إنشائيٌّ، مسلمٌ سنِّيٌّ، في الخامسةِ والأربعين من العمر، من مدينة بيروت. لديَّ مكتبٌ هندسيٌّ هناك، وأُساهِمُ شريكًا في واحدةٍ من كبرى شركاتِ التَّعهداتِ الإنشائيَّة، كان قد أسَّسَها والدِ زوجتي الرَّاحلة رحمها الله منذ زمنٍ بعيد، ثمَّ انضمَّ إلينا لاحقًا زوجُ أختِها، وعددٌ من أقاربها من كبار المهندسين والمتعهدين.”
توقَّف ثوانٍ قليلةٍ، كأنَّه يستجمعُ أنفاسَهُ، ثم تابع بصوتٍ خافتٍ:
” زوجتي وطفلي الصَّغير توفِّيا في حادثٍ أليمٍ منذ نحو عام، في بيروت. بقيتُ أنا وابنتي الوحيدة، “مُنَى”… هي ذاتها التي كانت معي بالأمس”.
سادَ الصَّمتُ برهةً، قبل أن يُتابع بنبرةٍ تَخنقها العاطفة:
” منذ تلك الفاجعة، أوقفْتُ حياتي لها. أفعل ما تطلبه كي لا تشعرَ بغياب أمِّها وشقيقها، أو تتألَّمَ بوحدتها. البارحة… حين أساءت إليكَ، يا نُعمان، أقسمُ أنَّها لم تكن تقصد. لم تنمْ ليلتَها، تحدَّثْتُ إليها بلهجةٍ لم تعهدها منِّي، ونبَّهتُها إلى ما فعلت”.
رفع نُعمانُ رأسه ببطء، وصوته مشوبٌ بشيءٍ من الحزن:
” رحم الله مَن فقَدْتُم، وعوَّضهم الجنَّة… لكن، من فضلك، ما علاقتي أنا؟”
ابتسمَ السيِّدُ أحمد بأسى، وقال:
” معكَ كلُّ الحقِّ أن تستغرب… ما علاقتك بما حدث؟ ولماذا نحن هنا في دمشق؟ ولمَ كنَّا نبحث عن هذا القماش تحديدًا؟ ولماذا غضبت مُنى حين وجدَت القماشَ لديكم، ولم تكن، في نظرها، متعاونًا؟”
تنفَّس بعمقٍ ثم استأنف:
” ما سأقوله لك ليس تبريرًا لِما فعلتْه، ولا لأنَّها فتاةٌ مدلَّلة، أو لأنَّها ابنتي الوحيدة، بل لأنَّها ببساطة… حياتي. فتاةٌ صغيرةٌ، رقيقةُ المشاعر، فقدت أمَّها منذ وقتٍ ليس ببعيد، وما تزال معلَّقة بها”.
ثم صمتَ فجأة، وأخرجَ منديلاً من جيبه، يمسحُ دموعًا اندفعت دون إذن، حتى بدأ بياضُ عينيه يشوبُه شيءٌ من الاحمرار. كان يُحني رأسه، يخفي انفعاله، ثم قال بصوتٍ مخنوق:
” لقد احترقت أمُّها في ذلك الحادث… كما احترق شقيقُها أيضًا.”
ثم تابع بصوتٍ متهدِّج:
” كانت ترتدي فستانًا جديداً صممه لها أمهر الخياطين, كانت ستبدو فيه كملكة في حفل نجاح ابنتنا منى، ….. وكان جدها وجدتها, والدا زوجتي, رحمهما الله, قد رتبا لذلك الاحتفال ليكون مفاجأة لابنتنا الوحيدة يوم حصولها على الثانوية العامة بدرجة ممتازة, ولكنّ الفاجعة أن تعرضت زوجتي وابني الصغير لذلك الحادث خلال انتقالهما مع والديها إلى الفندق الذي سبق أن تم حجزه لهذه المناسبة, وتبقى من ذلك الفستان بعضُ قطع صغيرة لا تكاد تدل على نوعه أو مادته. أمَّا القطعة التي كانت مع مُنى، فهي الأكبر من بين ما تبقَّى. ومنذ شهور، تُصرُّ على أن تشتري قماشًا شبيهًا لتخيط منه فستانًا، ترتديه في ذكرى أمِّها وأخيها وجديّها. كانت منى قد بحثتْ هي وخالاتها في مجملِ محالِّ الأقمشة في لبنان… حتى أخبرهنَّ من صمم الفستان عن التُّاجر الذي ابتاع القماش منه أنَّ هذا النَّوع من القماش كان يأتي من دمشق, بتوصية لمناسبات خاصة جداً. وهكذا جئنا. منذ أسبوعٍ ونحن نبحث يوميًّا، من الصَّباح إلى المساء”.
كان نُعمانُ يصغي في البدءِ ببرود، مسنِدًا ظهره إلى الكرسيِّ باعتدال، لكنَّ ملامحَه بدأت تتغيَّر شيئًا فشيئًا. اقتربَ بجذعه نحو الرجل، ومدَّ يدَه إليه مجددًا، وقال بصوتٍ تغلب عليه حرقة:
” أعتذر يا سيدي، إن كان شيءٌ من سلوكي قد أساء إليكم… لكن، لِمَ تركتُموني خلفكم أمس؟ حتى إنَّكم دخلتم محلات لا حاجة لكم بها… شعرتُ وكأنكم تُعاقبونني! وبدأتُ أظنُّ أنكم تُريدون إذلالي… كنتُ أسير خلفكم كأنِّي عبد. هل كنتُ واهمًا؟ سامحني، فقد اختلطت الأمور في ذهني، وتألمت”.
أطرق برأسه، ثم أكمل محاولا أن يخبره بأن كلّ ما جرى لم يكن كلماتٍ فظة… بل اعتداءً على شيء هشٍّ في داخله، شيءٍ لم يتشكّل اسمه بعدُ:
” كتمتُ كلَّ شيء، حفاظًا على احترامي لِنفسي… واحترامًا لمعلمي. لقد رأى فيَّ صورةً من أحلامه، وحملني أمانةً لم يُنجزْها في شبابه. كان يُراهن عليَّ. لهذا كنتُ أتوسَّل إلى بعض التُّجار والحمَّالين ألَّا يُخبروا معلمي بما رأوه. صحيح أني عاملٌ بسيط، لكنِّي أعرفُ كيف أُفكِّر، وأين أضع قدمي. لذا، من فضلك سيدي… دعني وشأني. بلِّغ ابنتكم اعتذاري، أو أخبرها بالحقيقة، وانقل لها أسفي على فقد والدتها وشقيقها وجدّيها.”
دخلَ الحاجُّ أبو محمود المتجر، فوقف نُعمانُ على الفور، معتذرًا مجددًا من الضيف، ثمَّ استقبل معلمه عند الباب باحترامٍ جمٍّ، وقال:
” تقبَّل الله يا معلّمي”.
ردَّ المعلم بهدوء:
” تقبَّل الله منَّا ومنكم صالحَ الأعمال.”
ثم جلس خلف مكتبه وسأل:
” هل استطعتَ تأمين طلبِ السيِّد أبي زُهير؟ لقد التقيتُه في المسجد، وسألني عنه مجددًا.”
اقتربَ نُعمانُ بخطى خفيفة، وهمس:
” معلّم، الطلب الذي يريده أبو زهير… عند هذا الرَّجل. أرجوك، لا أرغب في الحديث معه مجددًا”.
ثم رفع رأسه وقال بصوتٍ مسموع:
” بعد إذنك، سأذهب لأداء صلاة الظُّهر”.
بقي السيِّد أحمد جالسًا، يُحدِّق في أوراقٍ بين يديه، كأنَّه يبحث فيها عمَّا يتجاوز الحسابات.
عاد نُعمان من صلاته، فإذا بثوب القماش ممدّدٌ على الطاولة، لا أثر لصحابه.
رمقَ معلمه بدهشةٍ، لكنَّ الأخير ابتسم، وقال بنبرةٍ هادئةٍ لا تخلو من الغموض:
” من فضلك، قِس مترين ونصفًا من هذا الثوب، وعدّل بياناته، السيِّد أبو زُهير سيأتي لاستلامه. وأحضر ورق تغليف جيدًا وكيسًا لائقًا… من محلات المفرّق. وثمنُهما هذه المرَّة… من جيبك”.
أضاف، وقد لاحظ علامات الدَّهشة على وجهه:
” وسنتحدَّث لاحقًا.”
نفَّذ نُعمان ما طُلب منه، وعاد بالكيس الأنيق، وسلَّم اللفافة للمعلم:
” تفضل، يا معلّمي.”
دخل التاجر أبو زُهير بعد دقائق، سلّمه نُعمان الثوب، وقبض المعلم الثمن، وغادر التاجر سريعًا.
اقترب نُعمان من معلمه وسأله بصوتٍ حذر:
” من فضلك، كيف حدث ذلك؟”
أجاب المعلمُ مبتسمًا:
” ببساطة، كان هناك رجلٌ اشترى مكرَهًا كمية من القماش، لا يحتاج إلا إلى مترين ونصف، ودفع أكثر مما يُطيق. وفي الوقت نفسه، كان لدينا تاجرٌ بحاجة إلى باقي القماش، بأيِّ حالٍ كان. قضينا طلبَيْهما، واعتبرتُك تاجرَ المفرق الذي باع السيد أحمد … وكلُّ ربحٍ تحقق منه سيعود إليك، دون أن تدري”.
ثم أخرج مبلغًا من المال، وقال بإصرارٍ لطيف:
” هذا هو المال، إنه من حقك”.
قال نُعمان بصراحةٍ لا تخفى:
” عفوًا، يا معلمي… أنا أعمل هنا، وأتلقى أجري بانتظام. لا أظن أني قدَّمت ما يستحق هذا”.
هزَّ المعلم رأسه، وأعاد المال إلى خزينةٍ صغيرة، قائلاً بحزمٍ فيه حنوّ:
” إذن، سأحتفظ به لك، حتى نهاية خدمتك. الآن، اقترب وقت الإغلاق، وسأصعدُ لأتناول طعامي وأستريح. أنت أغلق المتجر… وستجد من ينتظرك عند الباب”.
ثم أضاف بعد برهة، بنبرةٍ منتقاة:
” هي دعوةٌ لتناول الغداء. وأنا مطمئنٌّ لصاحبها، فلا تُحرِجه برفضك. أنا أثق بك وبقرارك, فافعل ما تراه مناسباً … ولكن لا تنسَ أن تفتح المتجر بعد الظهيرة. بأمانِ الله”.
صعد المعلمُ السُّلَّم الجانبيَّ بخطًى ساكنة، يُردِّدُ أدعيةً واستغفارًا، فيما بقي نُعمان واقفًا، تتزاحم في رأسه الأسئلة:
” من هذا الرَّجل؟ ولماذا دعاني؟ أأثق به؟ أم أعتذر بأدب؟”
لكنَّ صوتًا خافتًا في داخله كان يُشجِّعه على القبول… ربَّما فضول، وربَّما شيءٌ آخر… يشبهُ الإِنصاف.

الفصلُ السادس دعوة إلى تناول الغداء 8
________________________________________
أَغلقَ نُعمانُ بابَ المتجرِ من الخارجِ، ووقفَ على الرصيفِ يَنتظر. لم تَكد تمضي لحظاتٌ حتى توقَّفت أمامَه سيّارةٌ سوداء من طراز “بويك”، تشقُّ الطريقَ ببطءٍ وسط زحامٍ خانق. انخفضَ الزجاجُ، وأطلّ وجهُ السيِّدِ أحمد مُبتسمًا، وقد علت نبرته العجلى:
” أَسْرِعْ يا بُني! الشارعُ ضيِّقٌ والسياراتُ خلفي بدأت تُزَمِّر!”
تردَّدَ نُعمانُ برهةً، ثم فتحَ البابَ وجلس إلى جوار الرجل، وأغلقهُ بهدوءٍ قبل أن يُلقي التحيَّة بصوته الخجول. استقبله السيّدُ أحمد ببشاشةٍ صادقة، قائلاً:
” أهلًا بكَ يا سيِّد نُعمان، وشكرًا لقبولك دعوتي… بل شكرًا مضاعفًا، لأنك صدقتني و وثقتَ بي!”
كان الرجلُ يُدركُ تمامًا أن حضورَ نُعمانَ لم يكن ليقع لولا توصية الحاجِّ أبي محمود، ذاك الشيخ الذي يسكنُ في قلب الفتى كجذعٍ من شجرةِ الطفولة.
قال نُعمانُ، بلطفٍ وحرص:
” لكن أرجو أن لا نبتعد كثيرًا، فعليّ أن أكونَ في المتجرِ عند الخامسةِ إلّا ربعًا، لأجهّزَ بعض الأمور قبل أن ينزلَ الحاجُّ.”
ابتسم السيِّد أحمد مُطمئنًا:
” لا تقلق، لقد أخبرتُ الحاجَّ بذلك، ورتّبتُ الأمورَ معه. لن نغيبَ طويلًا… فقط، دعنا ننجُ من هذا الازدحامِ أولًا.”
انطلقت السيّارةُ تشقُّ طرقات دمشق، حتى توقّفت عند مدخلِ فندقٍ أنيقٍ حيث يُقيمُ السيِّدُ أحمد وابنتُه. صعدا معًا إلى الغرفةِ التي كان قد حجزها مسبقًا، وما إن دخلا حتى أشار له أن يجلس على أريكةٍ وُضِعت بمحاذاةِ النافذة، ثم نادى بنبرةٍ دافئة:
” مُنَى! حبيبتي… لقد وصلنا، ومعي السيِّد نُعمان، الذي أصرّ على مرافقتي ليعتذر منكِ!”
تجمّد نُعمانُ في مكانه، وحدَّقَ في الرجلِ باستغرابٍ لم يُخفه، وقال:
” أعتذر؟! ماذا تقصد يا سيدي؟”
لوّح السيِّد أحمد بيدهِ إشارةً غامضة، وهمس بنبرةٍ شبه مازحة:
” لا تُدقِّق كثيرًا يا سيّد نُعمان… فقط، تعاونْ معي، هذه المرّة… أرجوك.”
لكنّ نُعمان لم يرضَ بهذه اللعبة. وقفَ فجأةً، وصوتهُ يحملُ شيئًا من الألم:
” أنا آسف… لا يمكنني أن أكونَ طرفًا في تمثيلية. ما حدث البارحة كان كافيًا، ولا أرغبُ في تكراره. سأعودُ إلى عملي… السَّلامُ عليكم.”
تحرّك نحو الباب بخطًى ثابتة، غير أنّ السيّد أحمد لحق به، وأمسك بذراعهِ بلُطفٍ، وهمسَ برجاءٍ صادق:
” لو سمحت، ابقَ… فقط هذه المرة. أنا من يعتذر إليك، لم أطلب منك شيئًا مستحيلًا… فقط امنحها فرصة… أرجوك.”
بدتِ ومضات الرجاءِ تظهر لمعاناً في عينيه وهو يُمسك بذراع نُعمان، كأنما يتمسّكُ بخشبةِ نجاة. وفي تلك اللحظة، جاء الصوتُ من داخل الغرفة، حادًّا، غاضبًا:
” أنا لا أريد رؤيته! اطردْهُ يا أبي! لا أريد رؤية ذلك المعتوه!”
كان صوتُ مُنى. ومع ذلك، لم يُفلِت السيِّدُ أحمد ذراعَ الفتى، بل أشار إليه أن يرافقه إلى قاعةِ الاستقبال في الطابق الأرضي، حيث يمكنُ لهما أن يتحدّثا بهدوء.
جلسا في زاويةٍ هادئةٍ من القاعة، وقال السيِّد أحمد بصوتٍ خفيضٍ فيه مزيجٌ من الأسى والتوسُّل:
” دعنا ننسَ ما مضى، ونبدأ من جديد. لقد أخبرتُك عن الحادثة، لكنني لم أُخبرك كيف تركتْ في نفسِ مُنى جُرحًا لا يندمل. أن تفقدَ فتاة في مثل سنها أمّها وأخيها وجديها دفعةً واحدة… شيءٌ لا يَحتمِلُه عقل ولا يقوَ عليه قلب. تحوّلت بعد تلك الحادثة إلى إنسانةٍ أخرى. لم تعد تثق بأحد، وأيُّ تصرُّفٍ تراه مساسًا بذكرى والدتها، تراه عداءً شخصيًّا.”
صمتَ قليلًا، ثم تابع وهو ينظرُ في عيني نُعمان:
” تصرفكَ البارحة… هدوؤكَ، وضبطكَ لنفسك، كان نُبلًا ما بعده نُبل. لكن مُنى رأته تجاهلًا، وإهانةً مبطّنة. تلك القطعةُ التي كانت تحملها… كانت لأمّها، ولم تُفارِقها منذ رحيلها. إنّ ما تمرّ به من غليانِ الذكرى، يجعلها ترى في كلّ اقترابٍ تهديدًا، وفي كلّ طيْبةٍ خداعًا. لقد صارت، بعد وفاة أمّها، كمن يسيرُ فوق جرحٍ مكشوف، يجرحُ ويُجرَح، دون أن يدري.”
مسح دمعةً انسابت على وجنتِه، وتنهَّد قائلًا:
” لم أطلب منك أن تعتذر لأنك مخطئ، بل فقط لنُخفّف عنها، ونُعينها على الخروج من ظلال المأساة التي لا تفارقها. صدّقني، هذه ليست المرة الأولى التي تخسرُ فيها صديقًا وتكسب عداوةً بسبب طريقتها في التعبير. لقد خسرنا أقرباءنا في بيروت… لذلك جئنا إلى دمشق، نبحثُ عن بدايةٍ جديدة, كما نبحثُ عن قماشٍ دمشقيٍ أصيل.”
ثم ابتسم ابتسامةً متعبة، ومدَّ يده إلى نُعمان، قائلاً:
” هل نُصافحُ من جديد؟ أنا بحاجةٍ إلى صديقٍ مثلك… وأشعر أن الله أرسلك إليَّ. لا أدري لماذا ارتحتُ لحديثي معك… لكن يا لثقلِ ما أحمِل، ويا لِمرارةِ ذلك الحادث الذي غيّرني أكثر ما غير ابنتي إلى الأبد. منذ فقدتُ زوجتي وطفلي، باتت مُنى هي كلّ حياتي… بل أراها امتدادًا لروحي، ولا همَّ لي الآن إلّا حمايتُها.”
ورغم انفتاحه على الناس، فإنّ في قلب السيّد أحمد وِجْسًا مقيمًا، يمنعه من الاقترابِ التام. الخوفُ من انفجارِ غضب مُنى، من أن يخذلها، من أن يُخطئ بحقها، يحكمُ تصرّفاته. ذلك الذنبُ القديم، الذي لا يُغادره، جعله يُضحّي بكبريائهِ أمامَ نُعمان، لعلّه يُنقذها.
نظر نُعمان إلى اليدِ الممدودة، ثم صافحها بهدوءٍ وقال:
” تُسعدني صداقتك يا سيّدي… وسأكون في خدمتك ما استطعت. أمّا ابنتك… فذاك أمرٌ آخر. لا أستطيع أن أقيم معها علاقة… لا حوارًا، ولا حتى نظرة. أرجوك، تفهّم موقفي.”
ابتسم السيّد أحمد بإشفاق، وقال:
” معك حقٌّ يا بُني… ومع ذلك، شكرًا لك. فقط… دعني أدعوك غدًا إلى غداءٍ بسيط.”

الفصلُ السابع مجازفة 9
________________________________________
في اليومِ التالي، أَغلقَ نُعمانُ المتجرَ عندَ الظَّهيرة، ومَا إنْ خَطا إلى الرصيفِ الخارجيّ، حتَّى أبصرَ السَّيِّدَ أحمَدَ يَنتظِرُهُ على مَقربةٍ، مُتكئًا إلى سيارتهِ وكأنّهُ يُراقبُ الوقتَ لا الطريق.
ركبا معًا، وانسابتِ السيارةُ بينَ شوارعِ دمشقَ، حتّى بلغَا مَوْقِفَاً للسَّيَّاراتِ في وسطِ المدينة. ألقى السَّيِّدُ أحمَدُ نَظرةً حذِرَةً حولَهُ، ثمّ قالَ ضاحكًا:
” هذِهِ مَدينتُكَ… أتعرفُ مطعمًا شاميًّا طَيِّبًا؟”
ابتسمَ نُعمانُ بهدوءٍ، وهزَّ رأسَهُ قائلاً:
” صَدِّقني يا سَيِّدي، لا أعرفُ في دمشقَ سِوى طريقِ المتجر.”
قهقهَ الرَّجُلُ، ثمَّ تقدَّمَ نحوَ أحدِ المتاجرِ الصغيرةِ يسألُ عمَّا يُرضي الذَّوق، وعادَ بعد لحظةٍ وأمسكَ بِيَدِ نُعمان قائلاً بحماسةٍ:
” تعالَ… دلَّني أحدُهم على مطعمٍ قَريب.”
سارا معًا، ينعطفانِ يمينًا ويسارًا كمن يتلمّسانِ سبيلًا في ذاكِرةٍ غريبة، حتَّى تردَّدَ نُعمانُ وسألَ متوجّسًا:
” إلى أينَ نَحنُ ذاهبَان؟”
ابتسمَ السَّيِّدُ أحمَدُ ابتسامةً غامضةً وقال:
” ها قد وصلنا!”
وقفا أمامَ بابِ مَطعمٍ أنيق، تَنبعثُ من نافذتِه رائحةُ توابلٍ دافئةٍ تُحاكي الذِّكرى. استقبلهما نادلٌ باسِم، وقادهما إلى طاولةٍ ظن للوهلة الأولى أنها لم تُرتَّبْ بعد؛ لكن …. لا تزالُ عليها محفظةٌ نسائيةٌ سوداءُ وبعضُ البقايا المُتناثرةِ.
جلسَ نُعمانُ مُترددًا، بعد أن لاحظَ تلكَ المحفظةَ وجعل يدقق فيها، لكنَّهُ لم يُعلّق. ومعَ ذلك، سَبقَه لسانُهُ إلى القولِ بخجلٍ:
“كما تَشاءُ يا سَيِّدي… أو كما كنتم قد اتفقتم مسبقاً مع الأنسة, وحضَّرتُموه على أنه …. أو كان يجب أن يبدو الأمر على أنه دون تحضير أو اتفاقٍ مسبق.”
انفجرَ السَّيِّدُ أحمَدُ ضاحكًا:
” لقد كَشفنا السَّيِّدَ نُعمان!”
وقبلَ أن يَردَّ، اقتربت فتاةٌ ترتدي بِنطالًا أسودَ وكنزةً رماديةً ذاتَ أكمامٍ طويلة، وقالت وهي تُخاطبُ والدها:
” تأخّرتُم كثيرًا يا أبي… أكَلتُ نصفَ المُكسَّراتِ من شدّةِ الجوع!”
أشارَ والدُها إلى نُعمان قائلاً:
” تَعرّفي عليه جيداً … هذا هو الشّابُ الواعي الذَّكيُّ الذي حدَّثتُكِ عنه.”
ردَّت بلهجةٍ لا تخلو من لا مبالاةٍ وهي تلوّح للنادل, (أو هكذا أحس الضيف الصامت):
” دَعني آكُل أوّلًا… الحديثُ لاحقًا.”
وصلَ الطّعام، وأخذُوا يأكلونَ في صَمتٍ، ونُعمانُ لا يَتناولُ سوى لُقيماتٍ قلائلَ من صَحنِه، دونَ أن يَرفعَ نظرَه.
أومأ السَّيِّدُ أحمدُ إلى النّادلِ أنِ اعتنِ به، فامتلأتِ الطاولةُ أمامهُ بأطباقٍ متنوِّعةٍ.
وخَلفَ مذاقِ الطَّعام، كانت الأفكارُ تَطوفُ في رؤوسهم كأشباحٍ صامتة. هيئ له أن منى كانت تأكُلُ بنَهَمٍ، وكأنَّ الجوعَ يُنهِكُ أعصابَها، لكن شيئًا فشيئًا، بدأت ملامحُها تَهدأ، وتَخِفُّ القسوةُ المرسومةُ على وجهِها.
لاحظَ نُعمانُ ذاك التَّحوُّل الذي بدأ يشعر به، لكنَّهُ ظلَّ مُلتزمًا بوقارِه، مُعلِّقًا نظرَهُ على حافَةِ الصّحنِ لا يَتجاوزُها إلا إلى وجه منى, الجالسة أمامه بنظرة سريعةً. وهي، وقد لمحتْ نظرة له خلف ذاك التَّحفّظ، أرسلت إليه نَظرةً خاطِفةً، كأنَّها تَسألُ:
” أتتجاهلُني؟ أم تخشَى الحَرج؟”
نظر نعمان إلى نفسه مجدداً وأغرق بضع ثوان يفكر… شيئٌ ما, أو ربما شخص ما يخاطبه … يريد أن يتحاور معه بصمت وسط هدوء داخله.
“نعمان، أنت أيها الشاب الريفي المتزمت، عندما دخلت دمشق، بدأت تتخلخل قناعاتك دون أن تشعر. فالمدينة، والمتاجر والأسواق بزحامها وضجيجها وألوانها الكثيفة، أصبحت تهزّ في داخلك ركائز كنت تظنها ثابتة”.
وفي لحظةِ صَمتٍ بينَ لُقمَتَين، همست:
” يبدو أنَّك لا تُحِبُّ الحديثَ أثناءَ الطَّعام… أليسَ كذلك؟”
نظر فإذا هي تخفي عينيها، خلف ستار التعب والجوع، برقٌ خافت من شيء آخر… شيء يشبه الاعتذار دون البوح له به.
لم يكن نعمان بحاجة إلى كثير من الذكاء ليدرك أنّ هذه الفتاة القاسية لم تعد هي ذاتها. شيء ما قد انكسر داخلها، أو ربما لانَ تحت وطأة التعب، أو تحت وقع حضوره الصامت الذي لم يطالبها بشيء، ولم يبادل فظاظتها إلا بسعة صدرٍ نادرة.
كانت منى، بطريقتها المتعثرة في الحديث، تحاول أن تقول:
” أنا لست كما تراني…”
وكان نعمان، ببصيرته الهادئة، يسمع هذا الصوت الخفي، فيبتسم، ولا يزيد على أن يملأ لها كأس الماء دون سؤال.
رفعَ نُعمانُ رأسَهُ ببطء، وتوقّفَ عن تناول الطعام للحظة، ثمّ ابتسمَ وقالَ بلُطف:
” ليس تمامًا… بل أظنُّ أني لا أُجيدهُ كما ينبغي، لا سيّما في أوقاتٍ مفاجئةٍ كهذه.”
ابتسمتْ، بخفةٍ كأنَّ شيئًا هشًّا تَصدّعَ داخلها، لم تَتوقّع أن يردَّ بهذه الرّصانة، دونَ غضبٍ، دونَ تحفظٍ، فقط ذلك اللُّطفُ المتوجِّس.
كان الصمت خفيفًا بينهما بعد صمت انتهى إاى حوار، كأنَّه نُسِجَ من ندفات قطنٍ تتساقط على استحياء.
منى، التي كانت فيما مضى سريعة الاشتعال، بدت هذه المرة وكأنها تتلمس كلماتها بحذر، كما يتلمس المرء طريقه في عتمة قلبه.
تدخَّلَ السَّيِّدُ أحمَدُ، وقال ضاحكًا:
” منى، لا تُحرجي ضَيفَنا… هو صبورٌ، لكنَّهُ لا يُحبُّ المفاجآت، كما رأينا يوم أمس وما قبله!”
ضحكوا جميعًا بخفّة، حتّى منى، وإن بدا في ضحكتِها شيءٌ من التردُّد.
نظرت إليه وقالت، لكن هذه المرة دون حدّة:
” كنتُ غاضبةً يوم أمس وما قبله… جدًا. وأعترف أنني لم أُحسنِ التصرّف.”
وأخذ يراجع موقفه مع منى, فرغم شعوره الأول بالمهانة, ورغم أنها كانت أول صدمة شخصية تهزّ كبرياءه الصامت. لكنه … وخاصة بعد ما رآه من لمحات إنسانية حقيقية في منى (تعبها، قسوتها المغلفة بخوف خفي، عجزها عن التعبير بلين)، (إلى جانب حديث والدها عن مأساتها) كل ذلك جعل شيئاً في قلبه يتحرك… ليس من باب الضعف أو الهوان، بل من باب الإحساس العميق بالإنسانية المشتركة.
أيضًا اليوم، فمنى منذ أن دخل هذا المطعم لم يكن ليتجسد له فيها تلك الفتاة القاسية كما اعتادها أن تكون. كانت مجهدة، مكسورة الحدة، وهو الشاب الذي تربى على احترام “الضعف الإنساني” حتى لو كان في خصمٍ له. لهذا لم يستطع أن يدير ظهره لها.
حاول أن ينهي هذا الصراع الذي نشأ قبل أن يستفحل داخله, بين الماضي المتزمت ورغبته الفطرية في التماس الأعذار, أملاً في حدوث تغيير لدى الناس. فمنى الآن تمثل هذا التناقض الحاد الذي وجده في نفسه، لذا وجد نفسه ينصت لها، لا لأنه تخلى عن قناعاته القديمة تمامًا، ولكن لأن الحياة كانت تعلّمه درسًا جديدًا:
(إنّ القلوب ليست بيضاء أو سوداء، بل درجات متداخلة من الألوان)”. كما قال معلمه ذات يوم
فأجابها عن اعتذارها بإيماءةِ احترامٍ:
” وأنا أعتذرُ أيضًا… إن بدا لي أنني قلّلتُ من قيمةِ شيءٍ عزيزٍ عليكِ… لم أكن أقصد.”
سكتوا لحظةً، لكن الصَّمتَ هذه المرَّة كانَ هادئًا، خفيفًا، كأنَّ شيئًا صَغيرًا تصافحَ بينَ قلبين.
اقتربَ النَّادلُ وسأل إن كانوا يرغبونَ بالقهوة. قالت منى:
” إن لم يكن السَّيِّدُ نُعمان يُمانع، فأنا أُفضِّل القهوةَ المُرّة.”
قال نُعمانُ بابتسامةٍ هادئة:
” وأنا أيضًا أُحبّها… وإن كنتُ أُكثِرُ من شربِها حلوةً.”
أشار السَّيِّدُ أحمَدُ للنّادل:
” إذًا، قهوةٌ مُرّةٌ بثلاثةِ فناجين… واتركوا لي أمرَ التَّحلية.”
ضحكت منى وقالت لوالدها:
” لا شَكّ أنّك ستطلبُ لنا كُنافةً أو شيئًا من ذاك القبيل… كعادتك.”
غمز لها وقال:
” بل لأجلكِ… ولأجلِ إصلاح ذات البَين… فالحَلْوى تُصلحُ ما أفسدَته الكلمات.”
ثم التفت إلى نُعمان وقال بلُطفٍ أبويٍّ:
” ما رأيكَ؟ ألسنا على بدايةِ طريقٍ طيّبة؟”
ردَّ نُعمانُ بابتسامةٍ صافية:
” إنْ صَفَتِ القلوبُ… فكلُّ طريقٍ طيّب.”
ثمّ استأذن لغسلِ يديه، ولَحِقَ به السَّيِّدُ أحمد. وبينما الماءُ يَنسابُ على الأصابع، قالَ الأخير:
” بعد غدٍ يومُ الجُمعة… يومُ عطلة، فهل نُمضيه معًا؟ دمشقُ فيها أماكنُ تستحقُّ أن تُرَى.”
أجابه نُعمانُ وهو يُجفِّفُ وجههُ بمنشفةٍ ورقيّةٍ:
” عندي بعضُ الالتزاماتِ بعدَ غدٍ، ……..”
قاطعه السَّيِّدُ أحمد، مُبتسمًا:
” فلتُؤجِّلها إذن… سأراكَ عندَ التاسعةِ صباحًا في الموقفِ المعتاد. لا ترفُض، أرجوك, ألم ترَ كيف سررنا بلقائك اليوم.”
هزَّ نُعمانُ رأسَهُ موافِقًا، بصمت، وهما يعودان إلى الطاولة.
حينَ أوصلوهُ إلى مَقربةٍ من “الحَريقة”، وقبلَ أن يَترَجِّلَ نعمان من السيارة، استجمعت “مُنى” شجاعتَها، وقالت بصوتٍ خافتٍ لا يكادُ يسمَعه إلا نعمان:
” مضى مسرعاً … وكأنما ما كان قبل قليل .. هو الوقتُ الوحيدُ الذي يُشبهُ الصِّدق…”
وتابعت بصوت مسموع:
” –شُكرًا على لُطفِكَ اليوم… وعلى صَبرِكَ، أيضًا.”
التفتَ نُعمانُ إليها، وفي عَينَيه دفءٌ خفيفٌ لم يكنْ هناكَ من قبل، وقالَ بنبرةٍ وادعة:
– “لا شُكرَ على واجبٍ… أو بالأدق فإني أنا من كنت ضُيفكمُ اليوم, ومن الواجب أن أتقدم لكم أنا بالشكر, لا أنتم”.
ثمَّ أَغلقَ البابَ بلُطف، ومَضى بخُطًى هادئةٍ، لكنَّ خُطواتِه كانت أخفَّ من العادةِ، وكأنَّ شيئًا في قلبِه بدأ يتحرّكُ في صمتٍ لا يُرى ولا يُقال.
دخلَ نُعمانُ المتجرَ بخُطًى أكثرَ سكونًا من المعتاد، وألقى التحيَّةَ بصوتٍ رَخيمٍ فيه شيءٌ من الحُلم، ثمّ اتَّجهَ نحو طاولةِ العرضِ، كأنّهُ يَتلمّسُ طريقَهُ في غابةٍ من الأفكارِ التي لم تَهدأ. لا تزالُ كلماتُ “منى” تَتردَّدُ في أُذنِه:
” مضى مسرعاً … وكأنما ما كان قبل قليل .. هو الوقتُ الوحيدُ الذي يُشبهُ الصِّدق…”
كان الحاجُّ “أبو محمود” يُرتّبُ بعضَ الفواتيرِ خلفَ مكتبٍ صغيرٍ في الزاوية، التفتَ إليهِ وابتسمَ قائلاً:
” – تأخَّرتَ قليلًا يا بُني… لكنَّ وجهَكَ يقولُ إنّ هذا الوقتَ لم يَذهَبْ سُدًى”.
أجابهُ نُعمانُ وهو يفتحُ بابَ الواجهةِ الآخر:
– “نعم… كانَ لقاءً مختلفًا. كأنّي التقيتُ بشخص وزرت مكانًا لا يُشبهُ المعتاد”.
اقتربَ الحاجُّ منه، ووضعَ يدَهُ على كَتِفِه بلُطفٍ وقال:
” – بعضُ اللقاءاتِ تُشبهُ المطرَ يا نُعمان، لا تدري متى يَهطِل، لكنَّهُ يترُكُ فيكَ شيئًا لا يُنسى.”
أطرقَ نُعمانُ رأسَه، ثم قالَ بنبرةٍ دافئةٍ يُخالِطُها شجن:
– “ما أَغرَبَ هذهِ الحياة… أحيانًا يكونُ الغريبُ أكثرَ قربًا من القريب”.
ضحكَ الحاجُّ “أبو محمود” ضحكتَهُ الهادئةَ، وقالَ مُداعبًا:
– “وهل بدأتَ ترى ما كنتَ لا تراه؟ أم أنَّ عينيكَ صارتا أَليَن؟”
لم يُجبْ نُعمانُ فورًا، بلِ استندَ إلى الطاولةِ وبدأَ يطوي بعضَ الأقمشةِ بهدوءٍ، كما لو أنَّهُ يطوي بها شيئًا من تردُّدِه. وبعد لحظةِ صمتٍ ناعمٍ، قال:
– “مُنى”… “كانت مختلفةً اليوم. أقلَّ قسوةً… كأنَّ شيئًا ما تَغيَّر.”
ردَّ الحاجُّ وهو يُعيدُ ترتيبَ بعضِ الأوراق:
– “وربَّما أنتَ مَن تَغيَّر، يا نُعمان. أحيانًا، حينَ نَهدأُ من الداخلِ، نَسمعُ صوتَ الآخَرِ بطريقةٍ جديدةٍ.”
سادَ صمتٌ قصيرٌ، لم يقطعهُ إلّا صوتُ القماشِ وهو يُطوَى بدِقَّةٍ متناهية.
ثمَّ رفعَ نُعمانُ رأسَهُ، وحدّقَ في الضَّوءِ المُنعكِسِ من زُجاجِ الواجهة، وقالَ كأنَّهُ يُحدِّثُ نفسه:
” – لا أَعلمُ ما الذي تَغيَّر تمامًا… لكنِّي لم أعدْ أَنظُرُ إليها كمن تسبّبتْ لي بالأذى. هناك شيءٌ ما… شيءٌ يُشبهُ النَّدمَ في عينيها، أو ربّما أنا… أنا الذي بدأتُ أقرأُها بطريقةٍ أُخرى”.
اقتربَ الحاجُّ “أبو محمود” منه، ووضعَ يدَهُ على كَتفِه بحنوٍ وهمسَ بصوتٍ أقربَ إلى الحِكمة:
– “لا تَخَفْ مِن أن تَشعُر، يا بُني. القَلبُ الذي لا يَلين… يَشيخُ باكرًا”.
ثمَّ عادَ إلى عملِه، وتركَ نُعمانَ في شُرودِه، يطوي آخرَ قِطعَةِ قُماشٍ أمامَه، لكنَّهُ هذهِ المرّة أطالَ النظرَ إليها، ربّما لأنَّ لونَها… كان يُشبهُ الكنزةَ الرَّماديّةَ التي ارتدَتْها “مُنى” اليوم.
وبينما هو غارقٌ في ذاكَ السُّكونِ المُخمليّ، رنَّ الجرسُ الموضوع أعلى الباب، فدخَلَ أحدُ الزبائن، وانتفضَ نُعمانُ بلُطف، وعادَ إلى واجهةِ المتجرِ ببَسمتِه المُعتادة…
لكنَّ قلبَه، لم يَكُن كمَا كانَ، قبلَ هذا اليوم.
كان الزبونُ رجلاً أربعينيًّا أنيقًا، يحملُ في ملامحِه مسحةَ تعبٍ مألوفةٍ لنُعمان؛ كأنَّه جاءَ من يومٍ طويلٍ لم يُمهِله ليَلتقطَ أنفاسَه. حيّاهُ نُعمانُ بودٍّ، وأشارَ له وهو يلتف خلف طاولةِ العرض:
– “تحتَ أمرك… ماذا تحبُّ أن ترى؟”
أجابَ الرجلُ وهو يُقلِّبُ بعينيه الأقمشةَ المُنسَّقة:
– “أبحثُ عن قماشٍ يُشبهُ الصَّيف… خفيفٌ، لكن فيه وَقار”.
ابتسمَ نُعمانُ، وكأنّ الطلبَ لامسَ وترًا في داخله:
– “هناكَ نوعٌ جديدٌ وصلَ قبل أيام… خفيفٌ، لكنَّهُ يحتفظُ بشكلِه، مثل من يعرفُ قدرَ نفسِه ولا يتصنّع”.
أخرجَ ثوب قماشٍ بلونٍ سماويٍّ باهت، ونشرها على الطاولةِ برفقٍ. امتدّت يدُ الزبونِ إلى القماش، لمسهُ بإعجابٍ صامتٍ، ثم قال:
– “كأنَّهُ ظلُّ غيمةٍ على بحر”.
أومأَ نُعمانُ برأسِه، لكنه لم يُعلّق. شعرَ بشيءٍ يجعل معانٍ للكلماتِ التي يسمعها, وأن فهماُ لها داخله يعيد ترتيب أماكن قائلها في داخله من جديد. هذه اللحظة، بكلِّ بساطتها، كانت تُشبِه الحكايات التي تبدأ بلا ضجيج.
بينما انشغلَ الزبونُ باختيارِ الألوان، دخلَ صوتُ الحاجِّ “أبو محمود” من الخلف:
– “لا تُقلِّل من شأنِ اللحظاتِ الصغيرة، يا نُعمان… هي التي تَصنَعُ الفرق بين يومٍ عاديٍّ ويومٍ يُحكى”.
ردَّ نُعمانُ دون أن يلتفت:
– “هل يُمكن للحياةِ أن تتغيّرَ بسببِ نظرةٍ؟ أو كلمةٍ قيلَت دونَ ترتيب؟”
ضحكَ الحاجُّ وهو يقتربُ من الواجهة:
– “الحياةُ نفسُها قد تبدأُ بخطأِ طباعة… أو بنُقطةٍ في غيرِ محلّها”.
ثمّ نظرَ إلى الزبونِ وقالَ ممازحًا:
“– وأحيانًا، تبدأُ بدُرزةٍ غيرِ متقنة.”
ضحكَ الجميعُ، وصار الجوُّ أليفًا. الزبونُ اختارَ الكمية التي يحتاجها من أثواب قماشَه، وسدد ثمنها, وترك العنوان مكتوباً على بطاقة صغيرة. وغادرَ وهو يلوّحُ بيده ويقول: “أنتظر أن تصلني بضاعتي غذاً”.
عادَ الهدوءُ إلى المتجر، لكنّه كان هدوءًا مختلفًا… مُشبَعًا برائحةٍ جديدة، كرائحة المطر بعدَ أوّل نَسمةٍ تُلامسُ الأرضَ اليابسة.
جلسَ نُعمانُ خلفَ الطاولة، وبدأَ يدوّنُ شيئًا في دفترٍ صغيرٍ يُخفيه في الدُّرج السفليّ. كتبَ بخطٍّ مائل:
“اليومُ، شعرتُ أنّ القلوبَ لا تُشفى وحدها… لا بُدّ أن يَمُسّها أحد، بكلمةٍ، أو بلُطفٍ غيرِ متوقَّع.”
أغلقَ الدفتر، وأسندَ ظهرَهُ إلى الحائط. وفي عينيه… كان شيءٌ من حُلمِه قد بدأ يُورِق.

في صباح اليوم التالي، كانت الشمسُ قد شرعت في تسلُّق كبد السماءِ، والهواءُ لا يزال يحتفظ بشيءٍ من نسمات الصباح الباردة. وقف نعمانُ أمام واجهة متجر الأقمشة، يُنظِّم القطع برفقٍ، حين دخل صبيٌّ صغير، يتأبَّطُ مغلَّفًا أنيقًا بيده النحيلة.
اقترب الصبيُّ بحذرٍ وقال بصوتٍ خفيض:
– “عمو… في وحدة عطتني هالرِّسالة وقالت جيبها إلك”.
مدَّ نعمانُ يده وتناول المغلَّف بدهشةٍ، ثم سأل الصغير:
– “من أعطاك إيَّاها؟|
أجاب الصبيُّ بعفوية:
– “بنت طويلة شوي، شعرها أسود ومربوط… كانت واقفة عند زاوية الشارع. ما قالت اسمها، بس قالت رح تعرف مين هي”.
شكر نعمان الصغير، ومدَّ له قطعة حلوى من فوق الطاولة، ثم فتح المغلَّف ببطءٍ، فوجد بداخله ورقة صغيرة مكتوبًا عليها بخطٍّ أنيق:
“ليست كلُّ بداياتنا مثالية… لكن بعض اللحظات تُعيد ترتيب دواخلنا. شكرًا لأنك لم تكن قاسيًا. – م”
لم يحتجِ القلب إلى توقيعٍ صريحٍ؛ كان يعرف جيدًا إلى أين تشير الحروف. طوى الورقة بعنايةٍ، وحدَّق عبر زجاج المتجر نحو الزاوية المُشار إليها… كانت خاليةً إلا من ظلِّ شجرةٍ يُراقصه النسيم.
عاد إلى طاولته، وجلس على الكرسيِّ الخشبيِّ، يحملقُ في الرسالة، وابتسم لأول مرَّةٍ ذلك الصباح… ابتسامةً خفيفةً دافئةً، فيها امتنانٌ شفيف.
في تلك اللحظة دخل الحاجُّ أبو محمود، فانتفض نعمانُ وأخفى الورقة بسرعةٍ.
– “صباح الخير يا حاجّ!”
– “صباح القلوب المرتاحة! ما بالك تبتسم وحدك؟! أيقظك حلمٌ جميل؟”
ضحك نعمان بخجلٍ وقال:
– “ربما… أو لعلَّه يومٌ جديد يستحقُّ أن نبتسم له”.
اقترب الحاجُّ وربتَ على كتفِه وقال:
– “لعلك بدأت تكتب فصلًا جديدًا، بني… اكتبْهُ بحذرٍ، لكن لا تتردَّد”.

الفصلُ الثامن على ضفاف بردى 10
________________________________________
في صباح الجمعة، حين يغطُّ الجميع في نومٍ طويلٍ، كان نعمان، كعادته، يُوقظ إخوته لأداء صلاة الفجر. وبعد الصلاة، اجتمعوا حول مائدة إفطارٍ هادئةٍ تفوح منها رائحة الخبز الطازج والشاي المعطر.
ما إن انتهوا، حتى اقترب نعمان من والدته، يطلب منها بإلحاحٍ هادئ إذنًا بالذهاب إلى دمشق. نظرت إليه الأم بعينين مستغربتين، دافئتين، وقالت:
– “إلى دمشق؟ هل هناك أمرٌ مهم؟”
أجاب بنبرةٍ خجلةٍ مترددة:
– “سأحدِّثك لاحقًا، أعدكِ أن أخبرك بكل شيءٍ بالتفصيل.”
تأملته الأمُّ طويلًا، ثم ابتسمت ابتسامةً رضيةً، وما هي إلا لحظات قليلة حتى سمحت له.
بحلول الثامنة، أذنت أبواب الرحيل.
كان نعمان قد ارتدى أجمل ما لديه من ثيابٍ، وسرَّح شعره بعنايةٍ، وبدت على وجهه ملامحُ الترقب والفرح. ودَّع والدته التي لَمَعَت عيناها بمزيجٍ من الفخر والقلق، وانطلق إلى دمشق.
مرَّ أولًا بمنزل معلمه، الذي كان قد أفضى إليه يوم أمس بأسراره. استقبله المعلمُ عند الباب، وضع في يده خمس ورقاتٍ نقديةٍ من فئة المئة ليرة، وهمس:
– “لا تناقشني… خذها، وكن اليوم صاحب الدعوة. عِشْهُ كما لو أنه وعدٌ لا يتكرر.”
شكره نعمان بحرارةٍ، ومضى مسرعًا للحاق بالباص.
عند وصوله إلى دمشق، لمح سيارة البويك الرمادية واقفةً إلى جانب الطريق، والسيد أحمد خلف المقود، ينتظره.
ركب السيارة وقال بتحيةٍ مشرقة:
– “صباح الخير! أرجو ألَّا أكون قد أخَّرتك. أو تأخرت عليك؟”
ابتسم السيد أحمد وردَّ:
– “وصلتُ للتو… ويقي دقيقتان على التاسعة. هل ننطلق؟”
– “إلى أين؟”
أجاب السيد أحمد وهو يقود السيارة:
– “منى تنتظرنا… هي من خططت لقضاء هذا اليوم. ما رأيك؟”
تردد نعمان قليلًا، ثم قال:
– “ألا نشاركها التخطيط؟”
ضحك السيد أحمد ولم يُجب، وكأنَّه يترك للمفاجآت أن تتكلم.
وصلا إلى الفندق حيث يقيم السيد أحمد وابنته، أوقف السيارة، وتوجها إلى المصعد. جلس نعمان في ردهة الفندق بينما أجرى السيد أحمد اتصالاً، ثم عاد إليه قائلاً:
– “سنصعد إلى غرفتنا أولًا، تعال معي”.
في الطابق العلوي، مرّا عبر ممر طويل حتى وصلا إلى باب إحدى الغرف. طرق السيد أحمد الباب ففتحت منى، بثياب النوم، وآثار النوم لا تزال على وجهها. همست لوالدها بشيء ثم انسحبت عائدة الى الداخل, دعاه السيد أحمد للدخول، ريثما يعود, لكن نعمان تردد، فعادت منى إلى الباب قائلة:
– “تفضل، أبي ذهب لإحضار شيء من السيارة، وسيعود حالًا”.
لكنه بقي خارجًا حتى عاد السيد أحمد، الذي اعتذر له ودعاه للدخول مجددًا.
دخلوا إلى غرفة جلوس أنيقة أشبه بشقة صغيرة. قال السيد أحمد مناديًا:
– “منى! هل عندك شيء نشربه؟”
رد صوتها من الغرفة المجاورة بنعاس:
– “في المطبخ كل شيء… دعني أنام قليلاً فقط”.
التفت السيد أحمد إلى نعمان مبتسمًا:
– “سنصنع القهوة بأنفسنا، أتساعدني؟”
دخلا المطبخ معًا، وأعدّ السيد أحمد المستلزمات، ثم أعدا القهوة بعناية، ثم جلسا ينتظران عودتها.
بعد قليل، انضمت إليهما منى، مرتدية فستانًا صيفيًا بسيطًا، لكنه هذه المرة ليس أسوداً ولا رمادياً, وشعرها الطويل قد ربط على عجل. جلست بهدوء، لكنها بدت أكثر انفتاحًا من لقائهما الأول. قالت بنبرة مرحة:
– “أظن أن القهوة جاهزة… أم أنكما أعددتماها لتبرد؟”
ضحك السيد أحمد وقال:
– “نعم، نعمان أعدها كمن كان يحضر لامتحان”.
جلسوا يرتشفون القهوة في جوٍّ من المزاح الخفيف، والضحكات تنساب كأنها أنغامٌ عذبةٌ.
وبدأ الجليد بين منى ونعمان يذوب تدريجيًا. تحدثوا عن أمور بسيطة: الطقس، ازدحام المدينة، والذكريات الطفولية.
اقترحت منى بعد القهوة:
– “ما رأيكم أن نذهب إلى مطعمٍ على ضفاف بردى؟”
وافقا على الفور، وانطلق الثلاثة بسيارة السيد أحمد إلى المطعم، حيث استقبلهم المكان برائحة الخبز الطازج وصوت المياه المتدفقة.
جلسوا على طاولة قريبة من النهر، وكان المشهد ساحرًا.
لكن شيئاً جديداً كان قد حصل هذا اليوم؛ هو شعور نعمان في هذه المرة؛ بأنه هو صاحب هذه الدعوة؛ فقد مارس هذا الشعور بمرونة واندفاع؛ واستعداد نفسي جيد، ولم يجرِ حواراته المعتادة مع نفسه؛ بخصوص التقنين في الإنفاق، وبدا يؤكد على جودة كل ما يُطلب من النادل والإسراع في تلبية الطلبات.
كانت الجلسة على طاولة قريبة من النهر، بظلال شجرة ياسمين متفرعة تملأ المكان بعطرها. الهواء ناعم، والماء يتمايل برقة على وقع الحديث, والموسيقى الهادئة التي تنبعث من جهاز عالي الأداء في الزاوية.
بدت منى في ذلك اليوم أكثر ارتياحًا، وقد بدّل حديثها نغمه المعتاد، لتضيف عليه نكهات الدعابة اللطيفة، والتعليقات الذكية.
قالت وهي تنظر إلى طبق الفتوش:
– “كيف لشيء بسيط مثل هذا أن يحمل كل هذا الجمال؟ يبدو كأنه لوحة رسمها فنان جائع!”
ضحك نعمان بحرارة، وقال:
– “ربما لأن الجائع يرى أي طعام أطيب مما هو عليه… أو ربما لأن من يقوم على إعداده، يفعل ذلك بروح مختلفة”.
أجابته بعينين متلألئتين:
– “بل لأننا مجتمعون، والمذاق لا يصنعه الطعام وحده”.
أحضر الطعام، وتفننت منى في مداعبة الأسماء، تعلق مازحة:
– “شيخ المحشي” يبدو وكأنه شيخ حقيقي، ربما سيعظنا قبل أن نأكله!”
ضحك نعمان من قلبه، ولأول مرة شعر أن المسافة بينه وبينها تتلاشى. كانت تتحدث بخفة ظل، وعيناها تلمعان بحياة جديدة. أخبرته عن بعض مغامراتها الصغيرة، وعن هوايتها القراءة و كتابة الخواطر، فسألها بإعجاب:
– “هل تكتبين فعلًا؟ لم أكن أتوقع ذلك.”
أجابت بخجل:
– “أحيانًا، حين أشعر أن العالم يضيق بي، أهرب إلى الورق”.
رد بلطف:
– “الورق صديق مخلص… لا يسأل ولا يحكم.”
كان لقاء اليوم؛ لا يشبه إلا إلى حد غير قريب لقاء يوم أمس؛ الذي جمعهم على الغداء في أحد مطاعم المدينة؛ إذ لم تكن هناك أي حوارات جماعية، فقد اقتصر لقاء الأمس، على سؤال سريع من أحدهم، وجواب مختصر من آخر.
أما اليوم فقد جرت أحاديث كثيرة بينهم، كان أهمها, عن البوح بهواية القراءة عند كليهما و المعطلة عند منى منذ فترة. بدا واضحًا أن الحواجز بدأت تتهاوى، وأن شيئًا من الألفة يتسلل رويدًا رويدًا إلى ما بينهم. تحدّث السيد أحمد عن زيارته الأولى القديمة إلى دمشق أيام دراسته الجامعية، وما وجد من فوارق في دمشق بين الزيارتين, وأضفى حديثه عن دراسته ما قبل الجامعية على اهتمام خاص من نعمان, وكيف كان يقطع مثله كنفس الطريق الذي يسلكه نعمان كل يوم إلى مدرسته، حتى شعر أن القدر يعيد نفسه في صورة شاب مختلف.
بينما ذهب السيد أحمد ليحضر كميرا من سيارته كي يلتقط صوراً ومشاهد, منها ما كان للذكرى, ومنها ما سيرسلها إلى بيروت لتطمئن خالة منى عنها, ويخبرها كيف حدث هذا التغيير سريعاً في سلوك وتفكير منى, بينما انشغل الأب بما هم به من متابعة لتسجيل هذا الحدث, وقد حاول أن يبقى بعيداً بشكل يساعده على ما يقوم به دون انتباه من كليهما, كانت منى تتحدث عن هواية القراءة، وكيف كانت تذهب بها إلى عوالم أخرى خارج عالمها المقيد بحدود البيت والمدرسة والدراسة, وتحدثت منى كيف فتحت لها هواية القراءة أن تكتب خواطرها حين تضيق بها الدنيا, وحين تصفو لها الحياة أيضاً.
أعجب نعمان بها، وشجعها أن تواصل الكتابة، فهي صديقة الورق كما هو.
في ختام النهار، اقترحت منى لعبةً صغيرةً: أن يقول كلٌّ منهم شيئًا لا يعرفه عنه الآخرون.
قال السيد أحمد:
– “كنتُ أعزف على العود أيام الجامعة… ثم هجرتُ العزف بعد أول خيبة”.
وقال نعمان:
– ” لا أحد يعرف أنني كنت أكتب الشعر خفية في الدفتر نفسه الذي أكتب فيه تلخيصاً للكتب التي كنت أقرأها “.
شهقت منى بدهشة:
– ” شاعر؟ حقًا؟ وماذا كنت تكتب؟”
رد مبتسمًا:
– ” أشياء لا ينفع أن تُقرأ أمام الغير … لكنها كانت تريحني.”
قالت منى:
– ” أرجوك، في اللقاء القادم، اجلب دفتراً واحداً فقط … واختر منه نصًّا تقرأه لنا”.
وافق بخجل، فيما نظر السيد أحمد إليهما بابتسامة تحمل في طياتها شيئًا من الرضا العميق.
حين مالت الشمس إلى المغيب، وتمشَّوا على ضفاف النهر، كانت الضحكات تتناثر مع النسيم كأغنياتٍ خفيفة.
وفي طريق العودة، سأل نعمان السيد أحمد:
– “لماذا اهتممتَ بي إلى هذا الحد؟”
أجابه الرجل بنبرة فيها مزيج من الحنان والجدية:
” بصدق… لأنني رأيت فيك شيئًا من نفسي.. أو لأنني رأيتُ فيك شبابي الذي تمنيتُ لو انتبه إليه أحد”.
كان هذا الاعتراف كفيلًا أن يُسقط آخر الحواجز من قلب نعمان.
وبينما كانت الشمس تميل للغروب، اقترحت منى أن يكتب كلٌّ منهم جملة تصف هذا اليوم. كتبت منى: “يومٌ بدأ رماديًا، وانتهى بلون الياسمين.”
وكتب نعمان: “اليوم… التقيتُ دمشق الحقيقية، لا شوارعها بل وجوهها.”
أما السيد أحمد فكتب ببساطة: “ضحكتكما… كانت أجمل ما في هذا اليوم.”
دون أن يشعر أحدهم كان الوقت يمر مسرعاً, فانتبه نعمان إلى صوت يأتي من شخص على طاولة قريبة يقول: “منتصف الليل سيحين قريباً, هل سنبقى حتى الصباح” هنا وقف مسرعاً وذهب نعمان إلى قسم المحاسبة، يسدد قيمة الفاتورة من المبلغ الذي كان قد نقده إياه معلمه وعند عودته قال مبتسماً: أما حان وقت العودة؟ فقد تأخر الوقف كثيراُ”, وقف الجميع واستعدوا للمغادرة.
حين أوصله السيد أحمد إلى موقف الحافلات كانت منى تجلس في المقعد الخلفي شبه نائمة، لكن الحافلة التي يجب أن يستقلها لم تكن هناك، لقد غادرت عند منتصف الليل تماماً, ولن تأتي قبل الصباح الباكر. اقترح السيد أحمد إيصاله إلى المنزل إذ لا مجال إلا لذلك.
تردد نعمان، متحججًا بأن منى قد تحتاج إلى النوم في سريرها، فتنبهت قائلةً:
– “لا تقلق, إني لم أعتد النوم باكراً”.
اضطر نعمان للموافقة. كانت الطريق صامتة أول الأمر، ثم كسرت منى الصمت :
– “هل نام رفيق الرحلة؟ أم أن كثرة الكلام هذا اليوم بلغت ذروتها حتى لم تبق مكانا لكلمات جديدة”
ضحك نعمان وأجاب:
– “لا ليس الأولى، فقط أستمتع بهدوء بما تركته لدي من ذاكرةٍ تلك الثانية”.
– “وأنا أيضاً أستمتعُ بذكريات هذا اليوم”.
وأردفت برقة:
– “شكرًا لأنك لم تحكم عليَّ من أول لقاء”.
ردَّ عليها:
– “الحكم الأول لا يصنع صداقةً… بل التأني والتيقن …”
تسارعت الكلمات على شفتيها وهي تقول: “أتقصد أننا أصبحنا أصدقاء؟”
ابتسم وقال:
– “الصداقة تعرف طريقها إلى القلوب من تلقاء نفسها”.
حين الوصول، ودَّعه نعمان قائلًا:
– “شكرًا لكم… سأحفظ هذا اليوم في قلبي طويلًا”.
عاد نعمان إلى بيته، حيث كانت أمه بانتظاره. جلس بقربها يرواد عن عينيه النوم, إذا هي أصرت أن تعرف الآن كل شيء لكنها تفاصيل نهاره كانت بادية على وجهه فاكتفت بأن أثنت عليه, ونصحته بالتيقظ والحذر.
أوى إلى فراشه. ومع أن التعب كان يغلبه، إلا أن الأفكار كانت تداعب جفونه ، مرددًا في قلبه:
“إنَّ الشمس ستسطع من جديد… حتمًا.”
حتى استسلم أخيرًا لنوم عميق, أيقظه منه صوت أمه قبل الخافت: ” قم يا بني إلى الصلاة قبل أن يمضي وقت صلاة الفجر”.

على أعتاب الحلم – الجزء 02