الفصلُ العشرون متابعات في مادة النحو 22
________________________________________
فِي إِحْدَى الأَيامِ، وَبَعْدَ أَنْ انْتَهَتْ مُحَاضَرَةُ النَّحْوِ، ظَلَّ نُعْمَانُ فِي مَكَانِهِ، وَبَدَا كَأَنَّ فِي صَدْرِهِ سُؤَالًا يَأْبَى أَنْ يَبْقَى فِي الظُّلُمَاتِ.
لَمْ يَخْرُجْ مَعَ الطُّلَّابِ، بَلِ الْتَفَتَ نَحْوَ الأُسْتَاذِ عَاصِم وَقَالَ بِصَوْتٍ هَادِئٍ، لَكِنَّهُ مَشحُونٌ بِعَزْمٍ دَفِين:
“أُسْتَاذِي، أَسْمَحْ لِي… هَلْ يُمْكِنُ أَنْ أَسْأَلَكَ سُؤَالًا خَارِجَ المُقَرَّر؟”
رَفَعَ الأُسْتَاذُ نَظَرَهُ، وَقَرَأَ فِي وَجْهِ نُعْمَانَ تَوَقًّا لَا يَخْطِئُهُ المَعْنَى، فَقَالَ:
“فِي العِلْمِ، لَا يُوجَدُ شَيْءٌ خَارِجُ المُقَرَّرِ إِذَا كَانَ السُّؤَالُ صَادِقًا.”
قَالَ نُعْمَانُ:
“كُنْتُ أَتَفَكَّرُ… هَلِ النَّحْوُ مُجَرَّدُ قَوَاعِدَ لِكِتَابَةٍ صَحِيحَةٍ؟ أَمْ أَنَّهُ شَيْءٌ أَكْبَرُ؟ شَيْءٌ يُشْبِهُ خَرِيطَةَ أنَفْسِنَا نَحْنُ العَرَب؟”
صَمَتَ الأُسْتَاذُ قَلِيلًا، كَأَنَّهُ سَمِعَ مَا كَانَ يَرْجُوهُ مُنْذُ سِنِين، ثُمَّ قَالَ:
“يَا نُعْمَان، النَّحْوُ لَيْسَ لُغَةً فَحَسْب… إِنَّهُ مِرْآةُ العَقْلِ وَخَارِطَةُ التَّفْكِيرِ. إِذَا تَعَلَّمْتَ أَنْ تُنَظِّمَ جُمْلَةً، فَقَدْ تَعَلَّمْتَ أَنْ تُنَظِّمَ فِكْرَكَ، وَإِذَا أَجَدْتَ فَهْمَ الإِعْرَابِ، فَأَنْتَ تَفْهَمُ كَيْفَ تَقِفُ الكَلِمَةُ فِي مَكَانِهَا، كَمَا يَجِبُ أَنْ يَقِفَ الإِنْسَانُ فِي زَمَانِهِ.”
كَانَتْ مُنَى تَسْتَمِعُ وَهِيَ تَسْنُدُ ظَهْرَهَا إِلَى جَانِبِ الطَّاوِلَةِ، وَعَيْنَاهَا تَلْمَعَانِ بِفَخْرٍ، كَأَنَّهَا تَرَى نُعْمَانًا يُولَدُ مِنْ جَدِيد.
تَسَاءَلَ نُعْمَانُ:
“وَلِمَاذَا لَا يُقَالُ لَنَا هَذَا فِي البِدَايَةِ؟ لِمَاذَا نَتَعَامَلُ مَعَ النَّحْوِ كَعَقَابٍ؟”
أَجَابَهُ الأُسْتَاذُ:
“لِأَنَّ كَثِيرِينَ يُعَلِّمُونَ اللُّغَةَ كَمَنْ يُعَلِّمُ جَسَدًا دُونَ رُوحٍ. أَمَّا أَنْتَ، فَقَدْ بَدَأْتَ تَسْمَعُ نَبْضَهَا.”
كَانَتِ القَاعَةُ نِصْفَ مُمْتَلِئَةٍ، وَالأُسْتَاذُ عَاصِم يُرَتِّبُ أَوْرَاقَهُ عَلَى الطَّاوِلَةِ، وقبل أن يغادرَّ نَظَرَ إِلَى الطُّلَّابِ وَقَالَ بِصَوْتِهِ الَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَ الجِدِّ وَالفَكِاهَة:
“سَنَقُومُ الْيَوْمَ بِتَجْرِبَةٍ صَغِيرَةٍ… سَأَعْطِيكُمْ جُمْلَةً مِنَ الحَيَاةِ، لا مِنَ الكِتَابِ، وَمَنْ يُعْرِبُهَا بِعُمْقٍ، فَلَهُ عِنْدِي قلم.”
تَضَاحَكَ البَعْضُ، وَارْتَفَعَتِ الهَمْهَمَاتُ.
كُتِبَتِ الجُمْلَةُ عَلَى السَّبُّورَة:
“تَسْكُتُ الْحَقِيقَةُ أَحْيَانًا، لِكَيْ لا تُرْهِقَ القَلْبَ الضَّعِيفَ.”
نَظَرَ نُعْمَانُ إِلَى الجُمْلَةِ كَمَنْ يُحَاوِلُ فَكَّ شِيفْرَةٍ عَاطِفِيَّةٍ، أَمَّا مُنَى، فَأَمْسَكَتْ قَلَمَهَا وَكَبَحَتِ ابْتِسَامَةً، ثُمَّ رَفَعَتْ يَدَهَا بِخِفَّةٍ.
قَالَ الأُسْتَاذُ:
“تَفَضَّلِي يَا مُنَى، أَنْقِذِينَا مِنْ هَذِهِ الجُمْلَةِ المُرْهِقَة.”
بَدَأَتْ تَقُولُ:
“تَسْكُتُ: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ وَعَلَامَةُ رَفْعِهِ الضَّمَّةُ الظَّاهِرَةُ.
الْحَقِيقَةُ: فَاعِلٌ مَرْفُوعٌ، وَهِيَ العَاقِلَةُ السَّاكِتَةُ، لا المَسْكُوتُ عَنْهَا.
أَحْيَانًا: ظَرْفُ زَمَانٍ نَصْبٌ، يُشِيرُ إِلَى تَقَلُّبِ الوَقْتِ وَخِيَانَةِ اللَّحْظَة.
لِكَيْ: لامُ التَّعْلِيلِ، وَكَيْ تُفِيدُ السَّبَبَ، وَهِيَ أَدَاةُ رِقَّةٍ، لَيْسَتْ قَسْوَةً.
تُرْهِقَ: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بِلِكَيْ، وَعَلَامَةُ نَصْبِهِ الفَتْحَةُ.
القَلْبَ: مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلٌ.
الضَّعِيفَ: نَعْتٌ مَنْصُوبٌ.”
صَمَتَتْ، ثُمَّ أَضَافَتْ:
“وَكُلُّهُ لِيُقَالَ: الحَقِيقَةُ تُؤْثِرُ الرَّحْمَةَ عَلَى الفَضْحِ.”
صَفَّقَ الطُّلَّابُ، وَهَمَسَ نُعْمَانُ فِي نَفْسِهِ:
“يَا لَهَا… لَا تُعْرِبُ كَلِمَاتٍ، بَلْ تَكْشِفُ نَفْسًا.”
كَانَ المَسَاءُ يُلْقِي بِظِلِّهِ عَلَى نَوَافِذِ بَيْتِ مُنَى، وَفِي الزَّاوِيَةِ هُنَاكَ، تُشْعِلُ مِصْبَاحًا صَغِيرًا يُنِيرُ كُتُبَ اللُّغَةِ وَوَرَقَاتِ التَّمَارِينِ الَّتِي تَمُوجُ بِالْأَلْوَانِ وَالمُلاحَظَاتِ.
جَلَسَ نُعْمَان أَمَامَهَا، يَشْرَبُ الشَّايَ بِحَذَرٍ، كَأَنَّهُ يَخْشَى أَنْ تَسْقُطَ مِنْهُ كَلِمَةٌ خَاطِئَةٌ فِي مَحْضَرِهَا.
قَالَتْ وَهِيَ تُقَلِّبُ دَفْتَرَهَا:
“تَمْرِينُ اليَوْمِ يَخْتَلِفُ… سَأَضَعُ أَمَامَكَ جُمْلَةً، وَنُحَاوِلُ مَعًا أَنْ نُسْقِطَ مِنْهَا كَلِمَةً، ثُمَّ نُعِيدُ بِنَاءَهَا نَحْوِيًّا وَمَعْنَوِيًّا… كَأَنَّنَا نُرَمِّمُ قَصِيدَةً مَشْرُوخَةً.”
تَأَمَّلَ نُعْمَانُ الفِكْرَةَ وَقَالَ بِتَرَدُّدٍ لَطِيفٍ:
“وَإِذَا خَرَّبْتُ القَصِيدَةَ كُلَّهَا؟”
ضَحِكَتْ، وَقَالَتْ:
“أُعِيدُ بِنَاءَهَا مَعَكَ… لَسْتَ وَحْدَكَ فِي هَذِهِ اللُّغَة.”
كَتَبَتْ عَلَى وَرَقَةٍ:
“يَصْنَعُ الإِنسَانُ مَجْدَهُ بِالصَّبْرِ وَالْمَعْرِفَةِ.”
قَالَتْ:
“لْنُسْقِطِ (المعرفة)… مَا الَّذِي يَحْدُثُ؟”
صَمَتَ نُعْمَانُ، ثُمَّ قَالَ:
“يُصْبِحُ المَجْدُ لِمَنْ يَصْبِرُ، لا لِمَنْ يَعْرِفُ، وَهُنَا يُمْكِنُ أَنْ نَقُولَ: (يَصْنَعُ الإِنسَانُ مَجْدَهُ بِالصَّبْرِ وَالبَصِيرَةِ)… كَتَبْدِيلٍ لَطِيفٍ.”
قَالتْ وَعَيْنَاهَا تَشُعَّانِ بِالإِعْجَابِ:
“ذَكِيٌّ جِدًّا… أَنْتَ لا تُجِيدُ الإِعْرَابَ فَقَط، بَلْ تَجِيدُ أَنْ تُفَكِّرَ مِثْلَ لُغَوِيٍّ حَيّ.”
تَلَمَّسَ نُعْمَانُ صَدْرَهُ، وَقَالَ نِصْفَ هَازِلٍ نِصْفَ جَادٍّ:
“إِذَنْ… لَا بَأْسَ أَنْ تَطْمَئِنَّ عَلَيَّ، يَا أُسْتَاذَةَ مُنَى.”
فَأَجَابَتْهُ وَهِيَ تُنَاوِلُهُ كُوبَ شَايٍ جَدِيد:
“فَقَطْ إِذَا وَعَدْتَنِي أَنْ تَسْقِينِي قَهْوَةَ الإِعْرَابِ، بعد المُحَاضَرَةِ القَادِمَة.”
وَضَحِكَا… وَالضَّوْءُ يُرَافِقُهُمَا فِي لَيْلِ التَّعَلُّمِ وَالمَعْرِفَةِ.
في صَباحٍ دافِئٍ من صَبَاحاتِ الجَامِعَةِ، دَخَلَ نُعمانُ ومُنى المَدرَّجَ الرابِعَ، لَكِنَّ هذِهِ المَرَّةَ، لَم يَكُن يَزحفُ في الظِّلِّ كما اعتادَ. كانَ في خُطوتِه شَيءٌ جَديدٌ… شَيءٌ لا يُشبهُ خُطواتِ الأمسِ.
جلس و مُنى في الصَّفِّ الأوَّلِ، كعادَتِهما، وبِنَظرةٍ خاطِفَةٍ نَحوَه، رَمَقَتْهُ بِعَينَينِ تَقولانِ: “أَرِهِم مَن تَكونُ.”
دَخَلَ الأُستاذُ عاصِمُ بَيطارٌ، نَثَرَ نَظَراتِهِ كعادَتِهِ في وُجوهِ الطُلابِ، ثمّ وَقَفَ خَلفَ المَنصَّةِ، وقالَ بِصَوتِهِ الجَهوريِّ الصارِمِ:
“مَن مِنكُم يَتَبَرَّعُ اليَومَ بِإِعْرابِ هذِهِ الجُملةِ؟”
كَتَبَ على اللَّوحِ:
“إنَّ النَّجاحَ لا يُهْدى، بَلْ يُنْتَزَعُ انْتِزاعًا.”
سادَ الصَّمتُ… وتَراخَت بَعضُ الرُّؤوسِ، وانْخَفَضَت عُيونٌ إلى دَفاتِرِها، كَأَنَّ الكَلِمَةَ سَهْمٌ.
لَكِنَّ نُعمانَ… رَفَعَ يَدهُ.
ارْتَفَعَ حاجِبا الأُستاذِ، وأَشارَ إليهِ دونَ تَعليقٍ. وَقَفَ نُعمانُ بِبُطءٍ، وكلُّ خُطوةٍ نَحوَ السَّبُّورَةِ كانَ يَسمَعُ فيها صَوْتَ قَلبِهِ يُعْرِبُ عَنْ تَوَتُّرِهِ… لَكِنَّه تَذَكَّرَ كَلِماتِ مُنى:
“كُن صادِقًا مَعَ العِلمِ….”
وَقَفَ بِثباتٍ أَمامَ الجُملةِ، وقالَ:
“إِنَّ: حرفُ توكيدٍ ونصبٍ.”
ثم التفت إلى الأستاذ، كأنه يطلب الإذن أن يُكمل، فأشار له أن تابع.
“النَّجَاحَ: اسمُ إنَّ منصوبٌ، وعلامةُ نصبِه الفتحة.”
“لَا: حرفُ نفيٍ.”
“يُهدى: فعلٌ مضارعٌ مبنيٌّ للمجهول مرفوع، والفاعلُ ضمير مستتر تقديره هو.”
بدأت بعض الرؤوس تلتفت نحوه… لم يكن ذلك الطالب المتردّد الذي يتهرّب من الأسئلة.
“بَلْ: حرفُ عطفٍ وإضرابٍ.”
“يُنتَزَعُ: فعلٌ مضارعٌ مبنيٌّ للمجهول مرفوع.”
“انتزاعًا: مفعول مطلق مؤكِّدٌ للفعل لأنه مصدرٌ وهو منصوبٌ بالفتحة الظاهرة على آخره.”
أَنهى، وَصَمَتَ… نَظَرَ الأُستاذُ إِلَيهِ نَظرةً طَويلةً.
ثُمَّ قالَ، بِبُطءٍ:
“جَيِّدٌ، يا نُعمانُ… بَلْ أَفضَلُ مِن قَبلِ.”
وانطَلَقَت ضَحكَةٌ خافتةٌ مِن مُنى، وَهي تُخفي وَجهَها خَلفَ كِراسَتِها.
رَجَعَ إِلَى مَكانِهِ، لا يَحِسُّ أَنَّه يَمشي عَلَى الأَرضِ، بَلْ عَلَى سَطْرٍ مِن أَبياتِ نَصرٍ.
هَمَسَ لَهُ زَميلٌ بِجانِبِهِ:
“مَن دَرَّبَكَ؟”
فَأَجابَهُ نُعمانُ، وَهُوَ يَنظُرُ حَيثُ مَقعَدُ مُنى:
“النَّحو… حِينَ يَكونُ عَلَى أَمْهَرِ الأَساتِذَةِ، يُصبِحُ مَفهُوماً.”
بَعدَ مُرورِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِن مُتابَعَةِ مُنى ونُعمانَ ليلًا نَهارًا جادِّينَ في سَبيِلِ تَنفيذِ الخُطَّةِ المَرسومَةِ مِن قَبلِ أُستاذِ مادَّةِ النَّحوِ.
كَتَبَ الأُستاذُ عَلَى السَّبُّورَةِ بَيتًا مِنَ الشِّعرِ وَطَلَبَ مِنَ الجَميعِ إِعْرابَهُ إِعْرابَ مُفرَداتٍ وجُمَلٍ عَلَى وَرَقَةٍ مُفرَدَةٍ، إِعْرابًا دَقِيقًا وَمُفَصَّلًا، مَعَ ذِكرِ كُلِّ قاعِدَةٍ إِعرابِيَّةٍ تَردُّ أَوْ يَنطَبِقُ عَلَيهَا مِثالٌ في هذَا البَيتِ، وَالشَّاهِدُ عَلَى هذِهِ القاعِدَةِ مِنَ الشِّعرِ الجاهِلِيِّ أَوِ القُرآنِ الكَريمِ.
عَلَى أَنْ يَكتُبَ كُلُّ طالبٍ اِسمَهُ في رَأسِ الوَرَقَةِ، لِأَنَّ الإِجَابَةَ الصَّحِيحَةَ وَالدَّقِيقَةَ وَالكامِلَةَ، مُنذُ هذَا اليَومِ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِن هذِهِ الأَوراقِ سَتُمنَحُ صاحِبَها عَلامَةً وَاحِدَةً مِن أَصلِ ٢٠ دَرَجَةً في حَلْقَةِ البَحثِ المقرَّرَةِ لِهذَا العَامِ:
إِعْرابُ البَيتِ إِعْرابُ مُفرَداتٍ وَجُمَلٍ:
قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ وَمَنزِلِ بِسِقطِ اللِوى بَينَ الدَخولِ فَحَومَلِ
كَتَبَ الجَميعُ، وَبَعدَ مضْيِ الوَقتِ سَلَّمُوا أَوراقَهُم. وَعِندَما خَرَجُوا مِنَ المَدرَجِ بَدَأت تَدورُ بَينَهُم الحِواراتُ وَالتَّساؤُلاتُ……
فَهذَا يَقولُ: “قِفا: فِعلُ أَمرٍ مَبنيٌّ عَلَى السُّكونِ، وَالوَاوُ ضَميرٌ مُستَتِرٌ في مَحلِّ رَفعٍ نائِبِ فاعِلٍ، مَعناهُ “قِفُوا””. وَآخَرٌ يُصَحِّحُ: “قِفا: فِعلُ أَمرٍ مَبنيٌّ عَلَى حَذفِ النونِ.”
وَأُخرَى تَسأَلُ: “كَيْفَ أَعربتَ بَينَ؟” لِتُجِيبَ زَميلَتُها: “بَينَ: حَرفُ جَرٍّ يُجرُّ الاسمَ الَّذي بَعدَهُ”.
وَتَرُدُّ تِلكَ: “بَلْ هِيَ ظَرفُ مَكانٍ مَنصوبَ”. ………………
وَهَكَذا دَامَ حِوارٌ طَويلٌ وَتَفاعُلٌ بَينَ مُؤيِّدٍ وَمُخالِفٍ مِنَ الطُّلابِ، حَتى حَضَرَ الأُستاذُ عاصِمُ يَومَ مَوعِدِ المُحاضَرةِ التّالِيَةِ لِمادَّةِ النَّحوِ، يَحمِلُ بِيَدِهِ الأَوراقَ وَقَد قَرَأَها جَميعًا، فَرَفَعَ الطُّلابُ أَيديَهُم لِلسُّؤالِ وَالاِستِفسارِ، لَكِنَّ الأُستاذَ أَخرَجَ وَرَقَةً وَاحِدَةً مِن بَينِ الأَوراقِ وَقَرَأَ عَلَى مَهَلٍ مِنها، بَعدَ أَن طَلَبَ مِنَ الجَميعِ أَن يَكتُبوا عَنهُ حَرْفِيًا.
وَعِندَما اِنتهى مِن القِراءةِ، أَضافَ:
– ” لَن أُعلِنَ عَن اِسمِ صاحِبِ الوَرَقَةِ الَّتي حَمَلَت وَحدَها الإِجَابةَ الَّتي اِنْتَظَرْتُها، لِكَي لا يَغتَرَّ بِنَفسِهِ، فَهذِهِ العَلامَةُ الأُولى مِن عِشرينَ.”
وَبَدَأتِ الوُجوهُ تَنظُرُ إِلَى بَعضِها البَعضِ، أَيُّهُم هُوَ صاحِبُ هذِهِ الإِجَابَةِ، لَكِنَّ صاحِبَ الإِجَابَةِ ظَلَّ صامِتًا، لَم يَعرِفْهُ إِلّا أُستاذُهُ وَمَن كانَ قَد تحاور معها فيمَ كَتَبَ كل منهما.
الفصلُ الحادي والعشرون في الأدب الجاهلي 23
________________________________________
كَانَتْ مادَّةُ الأدبِ الجاهليِّ من أكثرِ الموادِّ إثارةً لاهتمامِ الطّلّابِ في السنةِ الأولى من الدراسةِ الجامعيّة، لا سيّما وأنَّ الأستاذَ الدكتور وهب روُميّة، بعذوبةِ صوتهِ ورصانةِ فكرِهِ، كان يتولّى تدريسَها. وقد اعتمد كتابَهُ الشّهير “الرِّحلة في الأدبِ الجاهليّ” مقرَّرًا أساسِيًّا، لا يُدرَسُ فحسب، بل يُعاشُ بكلِّ ما فيهِ من رؤًى وتجارب.
في إحدى الجلساتِ المسائيّة، وبينما كانت مُنَى تُقلِّبُ صفحاتِ الكتابِ ببطءٍ كأنّها تُنقّبُ عن سرٍّ دفين، قالت وهي ترفعُ عينيها إلى نُعمان:
ــ أتعلم؟ كأنّ هذا الكتابَ لا يتحدَّثُ عن شعراءَ في الصّحراءِ، بل عنَّا نحن… عنِّي وعنك.
ابتسمَ نُعمان وهو يُقَلِّبُ دفترَ ملاحظاتهِ:
ــ ربّما لأنّنا نحنُ أيضًا في رِحلةٍ… رِحلةٌ من نوعٍ آخر، لا نعرفُ بعدُ متى تبدأُ ومتى تنتهي.
كان كتابُ الدكتور وهب رُوميّة أكثرَ من دراسةٍ أدبيّة؛ لقد بدا كأنّهُ بوابةٌ سِرّيّة تُفْتَحُ على عالمٍ كاملٍ من الشِّعرِ والوجود. منذ الصفحاتِ الأولى، أعلنَ المؤلِّف أنّ الرِّحلةَ في الأدبِ الجاهليِّ ليست مجرَّدَ انتقالٍ من مكانٍ إلى آخر، بل هي تجربةٌ إنسانيّةٌ شاملةٌ، تتجسّدُ في النّصوصِ بوصفِها نمطًا من أنماطِ الوجودِ الشِّعريّ والفكريّ.
في أحد الأحاديث بينهما، بعد أن أنهيا مراجعةَ الفصلِ الأوّل، همست مُنى وهي تُدوِّن عبارةً في دفترها:
ــ “الرِّحلة ليست مكانًا، بل سؤالٌ يُسافِرُ فينا”… هذه العبارةُ وحدَها تستحقُّ كتابًا كاملًا.
أجابها نُعمان، وهو يُقَرِّبُ نظّارته من عينيه:
ــ أو تستحقُّ أن نكتبَ بها عن نفسِنا، إنْ تجرّأنا!
توزّعت محاورُ الكتاب على عدَّةِ فصولٍ، تناولَ أوَّلها مفهومَ الرِّحلةِ في الأدبِ الجاهليّ، حيثُ رأى الدكتور رُوميّة أنّ الرِّحلةَ لم تكن خيارًا للعربيّ القديم، بل ضرورةً فَرضَها واقعُ الصحراءِ القاسي. ورغم بدايتِها الماديّة، كانت دائمًا ما تنزاحُ نحوَ الرمزِ والمعنى: الوجود، التّيه، البحث، التحدّي، والانتصار على المصير.
أمّا الفصلُ الثاني، فقد خصَّصه لأنواعِ الرحلاتِ في الشِّعر الجاهليّ، بدءًا من الرِّحلة الذاتيّة التي تتجلّى في الوقوفِ على الأطلالِ والتّأمُّل، إلى رِحلةِ العاشقِ في طلبِ المحبوبة، إلى رِحلاتِ الصيدِ والحرب وما تحملهُ من فخرٍ ومهارةٍ وشجاعة.
أطالت مُنَى النّظرَ إلى مشهدٍ مصوّرٍ في الكتابِ لجملٍ يسيرُ في الصّحراء وحيدًا، وقالت:
ــ هل كان عنترةُ يشعرُ بالوحدةِ حقًّا، أم كانت عبلةُ ترافقُهُ في كلّ غزوةٍ بقلبهِ؟
ــ ربّما كان يقاتلُ من أجلِ أن يرى عينيها في عيونِ الأعداء… وربّما كان يهربُ من ضعفِه، كما نهربُ نحن من أشياءَ لا نجرؤُ على تسميتِها.
في الفصولِ اللاحقة، راح الدكتور روُميّة يُفكّكُ البنيةَ الجماليّةَ والفكريّةَ للرّحلة، مُعتَمدًا منهجًا تأويليًّا فلسفيًّا، يُقاربُ القصيدةَ بوصفِها كائنًا حيًّا يَسري فيهِ المعنى، ويُفكِّر. كان يرى أنّ الرّحلةَ في الشّعرِ الجاهليّ ليست حدثًا، بل بنية رمزيّة تعبّرُ عن الانشطارِ بين الثّباتِ والحركة، بين الذّاتِ والعالم، بين الحنينِ والمصير.
توقّف نُعمان عند صفحةٍ تحلِّلُ معلقة طَرَفَة بن العبد، وقال:
ــ لعلّ هذا ما يجعلُ الشِّعرَ الجاهليّ خالدًا… بساطتهُ المزعومة تخفي أعماقًا لا قرارَ لها.
أجابت مُنَى وهي تشيرُ إلى الهامش:
ــ تمامًا. هنا كتب: “الشاعر لا يصفُ المكان، بل يَسكُنه.” أليس هذا ما نفعلهُ حين نقرأ؟ نحن نسكنُ القصيدة.
حين اقتربَ موعدُ الامتحان، كان نعمان ومُنى قد حفِظا العشراتِ من الأبياتِ والمقاطع، يستشهدانِ بها، ويستعرضانِ تحليلاتهما في جلساتٍ خاصّةٍ داخل غرفة نعمان في المنزل، أو في مقصفِ الكلية، أو على درجِ القاعةِ المزدحمة.
وفي الامتحانِ النهائيّ، طُلب من الطلّاب أن يختاروا بين موضوعين، فاختار نعمان أن يكتبَ عن الرّحلةِ في شِعرِ عنترة العبسيّ، الفارسِ العاشقِ الذي كان يهدي انتصاراتهِ لعبلة، بينما اختارت مُنَى أن تكتب عن رِحلاتِ امرئ القيس في معلّقاتِه، بين الأطلالِ والصّيدِ والتّيهِ والمطر.
بعد أسبوعٍ من إعلانِ النتائج، كانا يجلسان على مقعدٍ خشبيٍّ في الحديقةِ الخلفيّة للمعهد، قالت مُنَى وهي تُمسكُ الورقة:
ــ لقد حصلنا على درجةِ الامتياز… كلانا!
ضحك نُعمان وهو يُقلِّبُ دفترَه:
ــ يبدو أنَّنا اجتزنا أولى رِحلاتنا بنجاح.
نظرت إليه مليًّا وقالت:
ــ بل بدأتِ الرحلةُ الآن.
المكان: غرفة الدراسة في الجناح المخصص لنعمان من بيت السيّد أحمد.
الزمان: مساء خريفي، بعد انتهاء امتحانات الدورة الثانية التي تنتهي عادة في شهر أيلول من كل عام .
الجو: دافئ، تعبق الغرفة برائحة الكتب والمطر، ومصباح خافت ينشر ضوءً ذهبيًّا فوق وجهي نعمان ومنى الجالسين على طرفي الطاولة الخشبية، التي اعتادا المذاكرة عليها.
الوضع النفسي: ارتخاء بعد توتّر الامتحانات، وانفتاح على الحوار بعد صمتٍ طويل.
منى، وقد أغلقت دفتر الملاحظات بعد أن كتبت بعضاً مما ارتسم شعاعاً وامضاً في ذاكرتها, ونظرت إليه بعينين تلمعان ببريقٍ غير معتاد:
ــ ” نُعمان… انتهت الدورة الامتحانية الثانية، وأنتَ أصررتَ أن نؤجّل تقديم الأدب الجاهلي. هل كنت محقًّا؟ أم أنك فقط كنتَ تحتاجُ وقتًا أطول مع القصائد؟”
ــ “كُنتُ أحتاجُ وقتًا أطولَ، نعم… لكنْ ليسَ لأفهمَ القصائدَ فقط، بَلْ لِيَفْهَمَ كلٌّ مِنَّا نفسَهُ، ويُعطيَها وقتًا، وهُوَ يَقرأُ شِعرًا مثلَ هذا، شِعرًا يَحتاجُ إلى جُملةٍ مِنَ المعارفِ والإمكاناتِ التي لا بُدَّ منها.”
أمالتْ منى رأسَها قليلًا، ورفعتْ حاجبَيْها باستفهامٍ صادقٍ:
ــ “مِثل ماذا؟”
نظرَ نُعمانُ إليها، وعيناهُ تتقدانِ ببريقِ المتعةِ، كمن يتذكّرُ شيئًا ثمينًا، ثمّ قال:
ــ “مُنى… أَلَا تَذْكُرِينَ الدُّكتورةَ الفاضلةَ، الأستاذةَ عزيزة مريدن، التي دَرَّسَتْنا مادَّةَ المكتبةِ العربيَّة؟”
هزّتْ رأسَها وهي تبتسمُ بارتياحٍ:
ــ “بلى، أذكرها جيِّدًا… ما بها؟”
أخذَ نفسًا عميقًا، كأنّه يستعيدُ معها طيفًا من تلكَ المحاضرات:
ــ “ألمْ تُلاحِظي كيفَ كانتْ، في كلِّ محاضرةٍ، تَعرِضُ علينا نَصًّا أدبيًّا صغيرًا، وربّما لا يتجاوزُ السُّطورَ؟ لكنّنا لكُنّها تدعونا لنَغوصَ فيهِ حتى ينتهي الوقتُ، ولا نُدرِكُ كيفَ مرَّ… كانتْ تُقرِّئُنا النصَّ أدبيًّا، على الرّغمِ من أنَّ الدُّكتور وهب هو مَن يُدرِّسُ الأدب… وتُفتِّحه لغويًّا، كأنّها تُكملُ عن الأستاذِ عاصم في القواعد… ثمّ تُطلُّ علينا منهُ بإضاءةٍ فكريّةٍ عميقة، كأنّها تستعيدُ دروسَ الدكتور أسعد أحمد علي من كتابهِ «فنّ الحياة»…”
توسّعتْ عينا منى دهشةً، فتَلقَّفتْ منهُ الخيط:
ــ “والبديع؟ هل كانت تطرقُهُ أيضًا؟”
ــ “بَلَى… كأنّها تَستحضرُ الدكتور محمد علي سلطاني في البديع… ولا تَنسَيْ العَروض، إنْ كانَ النصُّ شِعرًا، فإنّها تُلَمِّحُ إلى موسيقاهُ، كما كان يفعلُ أستاذُ موسيقى الشِّعر… حتّى إنّها كانت تُوقظُ في النَّصِّ ما فيهِ من رائحةِ التَّاريخ، دونَ أنْ تَخرجَ عن صَفّ المعنى.”
سكتَ لحظةً، ثمّ أكملَ، وهو يمرّر يده على الغلافِ برفقٍ:
ــ “حينها فَهِمتُ يا منى، أنَّ النصَّ الأدبيَّ، سواءٌ أكانَ نثرًا أو شعرًا، لا يُقْرَأُ بعينٍ واحدة… بل يحتاجُ إلى عينٍ لغويَّةٍ، وأخرى أدبيَّةٍ، وثالثةٍ فكريَّةٍ، ورابعةٍ موسيقيَّةٍ… كأنّكَ تحتاجُ إلى مجلسِ خُبراءِ كي تُقْرِأَ بيتًا واحدًا قراءةً تُشبِهُ الحقيقة.”
أطرقتْ منى مفكّرة، ثمّ قالت بصوتٍ خافتٍ وفيه شيءٌ من اللومِ العذب:
ــ “فَهِمتُ الآن لِمَ كنتَ حريصًا على أن يكونَ امتحانُ الأدب الجاهليّ آخرَ ما نُقدّمُه… لكن، لِمَ لَمْ تُنبّهْني إلى هذا من قبل؟”
ضحكَ نُعمانُ، وأشاحَ ببصرِه عنها بدلالٍ، كأنّه يُخفي نواياه:
ــ “لأنَّكِ لا تحتاجينَ إلى تنبيه، يا منى… لقد أبليتِ بلاءً أحسنَ مني في كثيرٍ من الموادِّ الامتحانيّة… أفلَا تَدَعينِي أَتَفَوَّقُ عليكِ، ولو مرَّةً واحدة؟”
أطلقتْ منى ضحكةً قصيرةً، فيها مزيجٌ من الفخر والمودَّة:
ــ “أراكَ الآن قد فهمتَ معنى الرحلةِ في الأدبِ… وربّما الرحلةَ في الحياةِ أيضًا، يا نُعمان.”
منى، تضع كفّها تحت خدِّها، وتنظر إليه بشيء من الدهشة:
ــ “ولذلك تبدو وكأنَّكَ كنتَ تُسافرُ معهم، أولئك الشُّعراء؟”
نعمان، يُومئ برأسه:
ــ “تمامًا… شعرتُ أني أركض خلف عبلة كما عنترة، وأنّي أجرُّ خطايَ فوق أطلالٍ لا أعرفها… كأنّ كلُّ بيتٍ من الشعر كان مرآةً لحالةٍ مررتُ بها. هل تذكرين كم مرةً كنتُ أُعيد قراءة وصف الناقة، لا لأنّني أريد حفظه، بل لأنّه صار رمزًا لِما أُحاول حمله من تعبٍ، ومن حُلم,
هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ؟
أَمْ هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ؟
يفتتح عنترة معلقته بهذا التساؤل البلاغي الذي يستبطن التحدي، فكأنه يقول: هل بقي شيء من معاني الغزل والوقوف على الأطلال لم يتطرق له الشعراء؟
وهذا الأسلوب يُبرز الزهو بقدرته الشعرية، مع نَفَسٍ من التواضع الظاهري، وكأنه يعترف أن السُّبُل قد سُبِق إليها.
السؤال هنا إنكاري، يستخدمه ليُمهّد لدخوله الساحة الأدبية بقوة.
في قوله “مترَدَّم”: صورة جميلة تعني الموضع المهلهل المتهدِّم، أي الموضع الذي تكررت عليه الوقفات من الشعراء، وهو كناية عن كثرة ما قيل.
توهم: فيها تشكيك في الإدراك، وكأن الآثار القديمة لم تعد واضحة، صورة تدل على اندثار الزمان والمكان.
يا دارَ عَبلَةَ بِالجَواءِ تَكَلَّمي
وَعِمي صَباحاً دارَ عَبلَةَ وَاسلَمي
يُخاطب “دار عبلة” كما لو كانت كائناً حياً، يستنطقها ويحييها. وهذا ليس لأنه من التقاليد الشعرية الجاهلية فقط، لأنه يُضيف إليه لمسة عاطفية نابعة من ولهه بعبلة، ومحبته العميقة لها، فيجمع بين الأسلوب التقليدي والتجربة الذاتية الخاصة.
“تكلّمي: استعارة مكنية، شبَّه الدار بإنسان ينطق.
عِمي صباحاً: وإن كانت تحية جاهلية تعني “صباح الخير”، لكنها تنمّ عن علاقة حنين ودفء بالمكان.
التكرار في “دار عبلة”: يعكس شدة التعلّق والهيام.”
منى، تبتسمُ بهدوء، ثمّ تقول بصوتٍ أشبه بالهمس:
ــ “أنا أيضًا شعرتُ أن امرأَ القيس كان يُشبهني في بعضِ وجوهِهِ… في تردده، في رحلاته في الصحراءِ، وبين الشوقِ والحيرةِ، وبين المطرِ والانتظارِ. لكنّني في الامتحان، لم أكتبْ عنه كما تُكتَبُ التقارير، بل كأنني كنتُ أكتبُ رسالةً طويلةً له.”
نعمان، يُضيّق عينيه بشيءٍ من الفضول:
ــ “وكأنّكِ تُعاتبينه؟”
منى، تضحك وتُومئ:
ــ “نعم، وأحيانًا أواسيه. قلتُ له في الختام: إنّ الشعرَ لا يُنقذنا من التيهِ، لكنه يُعطينا خريطةً لنفهمَ كيف ضَعْنَا فيه.”
نعمان، وقد اتّكأ على الطاولة واقترب قليلًا، بصوتٍ أقرب إلى البوح:
ــ “أنا كتبتُ عن عنترة… عن رحلته لا كفارسٍ فقط، بل كمُحبٍّ يُقاتل ليُهدي النصر لامرأةٍ لم تمنحه يومًا اعترافًا واضحًا بحبّها.”
منى، وقد شدّها ما قاله، تميلُ نحوه قليلًا:
ــ “هل كنتَ تتحدّثُ عن عبلة… حقاً؟”
نعمان، يبتسمُ من دون إجابة، ينظرُ إلى البخار المتصاعد من فنجان القهوة، ثمّ يقول:
ــ “في كلّ رحلةٍ هناك وجهة، وفي كلّ وجهةٍ احتمالُ خُذلان… لكنّي قرّرتُ أن أكتبَ عن الحبّ، حتى لو انتهى في الصحراء.”
منى، تميلُ إلى الخلف وتضعُ يدها على قلبها، كأنّها تلمس أثر كلماته في داخلها، ثمّ تقول بصدقٍ:
ــ “وهل تعلم؟ حين قرأتُ إجابتك بعد أن عرضتها عليّ، شعرتُ أنّك كتبتَ عن رجلٍ كان يعبرُ الصحراء حافيًا، لا ليصل، بل لئلّا يتوقّف.”
نعمان، ينظر إليها طويلاً، ويهمس:
ــ “أحيانًا، لا نملكُ أن نصلَ… لكن نملك أن نواصل.”
منى، تُمسك بكفّه بلطف، وتقول بعينين دافئتين:
ــ “أعتقد أنّنا لم نقدّم امتحان الأدب منفردين… بل قدّمناه معًا، كتابةً وشعورًا، على مدار أشهر. والعلامةُ التي نلناها كانت مستحقّة… لأننا فهمنا الشعر لا بعقلنا فقط، بل بقلوبنا.”
صوت السيّد أحمد، من خلف الباب، بعد طرقٍ خفيف:
ــ “منى؟”
منى، تنظر إلى نعمان، ثم تنهضُ وتفتح الباب لأبيها، تقول له برفقٍ:
ــ “أبي… كُنّا نتحدّث عن امتحان الأدب الجاهلي… وعن الرحلة في القصيدة الجاهلية.”
السيّد أحمد، يدخل الغرفة وهو يُربّت على كتف نعمان ويبتسم:
ــ “جميلٌ… لكن لا تنسوا أن بعض الرحلات تحتاجُ إلى دليلٍ حكيم.”
نعمان، يضحك بخجلٍ ويقول:
ــ “وأنا أظنّ أنّنا وجدنا خير دليل لنا، ليس فقط في الشعرِ… وإنما في الحياة, وجدناه في أقربِ النَّاس لنا.”
التفتَ السّيِّدُ أحمدُ إلى نُعمانَ ومنى، وقد لمعتْ في عينيه فكرةٌ أرادَ مشاركتَهما إيّاها.
قالَ بهدوءِ من يُخطّطُ لشيءٍ محبّب:
ــ “مادُمتُما قد أنهيتُما امتحاناتِكما، ولديكما مُتّسعٌ من الوقتِ قبلَ بدءِ العامِ الجديدِ… فأنا، في الحقيقةِ، بحاجةٍ إلى مَن يُساعدُني في إنجازِ بعضِ الرسومِ الهندسيّةِ. فما رأيكما؟”
التفتَ نُعمانُ نحوه بانتباه، بينما رفعتْ منى عينيها عن المفكّرةِ التي بين يديها، وقد ارتسمتْ على وجهِها لمحةُ فضول.
أردف السيّد أحمد، وهو يُخرجُ ورقةً صغيرةً من محفظتِه: “هذا هو الكروكي!”
الفصلُ الثاني والعشرون من ذاكرة الطفولة 24
________________________________________
اعْتادَ الجَميعُ أَنْ تَجْرِيَ بَيْنَهُمْ حِواراتٌ وَنِقاشاتٌ مُطَوَّلَةٌ في مَجالاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ؛ عَلى المُسْتَوى الشَّخْصِيِّ، وَفي الثَّقافَةِ العامَّةِ، وَالخِبْراتِ المُكْتَسَبَةِ، في أَوْقاتِ الفَراغِ أَوِ السَّهَراتِ الجَماعِيَّةِ.
يُخْبِرُهُم نُعْمانُ، خِلالَ تِلْكَ السَّنَواتِ الثَّلاثِ الَّتي جَمَعَتْهُم عَلى التَّعاوُنِ وَالمَحَبَّةِ وَالصِّدْقِ، عَنْ حَياتِهِ. تارةً عَنْ طُفولَتِهِ، وَتارَةً عَنْ مَراحِلِ دِراسَتِهِ، وَأَحْيانًا عَنْ عَمَلِهِ، وَكَثيرًا عَنْ هِوايَةِ المُطالَعَةِ الَّتي أَدْمَنَها حَتّى صارَتْ جُزْءًا مِنْهُ.
كانَ نُعْمانُ قَدِ الْتَحَقَ بِدَوْرَةٍ سَريعَةٍ في الرَّسْمِ الهَنْدَسِيِّ وَالمِعْمارِيِّ، ما أَهَّلَهُ لِتَقْديمِ العَوْنِ في إِنْجازِ الرُّسومِ الفَنِّيَّةِ المُرْتَبِطَةِ بِمَشاريعِ مَكْتَبِ السَّيِّدِ أَحْمَد، ذاكَ المَكْتَبُ الَّذي يُديرُ مِنْهُ أَعْمالَهُ المُمتَدَّةَ إِلى لُبْنانَ، وَهُوَ في دِمَشْقَ.
وَرُغْمَ انْفِصالِ جَناحِ نُعْمانَ، إِلّا أَنَّ الأَمْسِيّاتِ وَالصَّباحاتِ كانَتْ تَجْمَعُهُمْ عَلى مائِدَةِ الإِفْطارِ وَالعَشاءِ، تَلِيها سَهَراتٌ تَطولُ أَحْيانًا في نِقاشٍ أَوْ حِوارٍ أَوْ ذِكْرَياتٍ دافِئَةٍ.
قالَ نُعْمانُ ذاتَ لَيْلَةٍ جَمَعَتْهُ بِمُنى وَوالِدِها:
” سَأُخْبِرُكُم عَنْ فَتْرَةٍ مِنْ حَيَاتِي بِالتَّفْصِيلِ المُمِلِّ، لَكِنْ أَرْجُو أَلَّا أَكُونَ مُمِلًّا فِي سَرْدِ قِصَّتِي.”
قاطَعَتْهُ مُنى بِلَهْفَةٍ:
” وَأَنَا لَطالَمَا انْتَظَرْتُ مِنْكَ أَنْ تَفْتَحَ لَنَا قَلْبَكَ، حَتّى نَعِيشَ مَعَكَ أَدَقَّ تَفَاصِيلِ حَيَاتِكَ… تَحَدَّثْ وَأَعِدُكَ أَلَّا أُقَاطِعَكَ أَبَدًا، لَكِنْ لَا تَبْدَأْ حَتَّى أُحْضِرَ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَنَحْنُ نَسْتَمْتِعُ بِالاستِمَاعِ إلى حَدِيثِكَ.”
وَعِنْدَ عَوْدَتِهَا، قَالَ وَهُوَ يَبْتَسِمُ، وَيُشِيحُ بِنَظَرِهِ نَحْوَ النَّافِذَةِ، كَأَنَّهُ يَسْتَعِيدُ شَرِيطًا بَعِيدًا مِنَ الطُّفُولَةِ:
” لَيْسَ فِي حَيَاتِي شَيْءٌ مُمَيَّزٌ… سِوَى أُمِّي.”
ثُمَّ صَمَتَ بُرْهَةً، وَقَدِ انْسَدَلَ صَوْتُهُ عَلَى الْكَلِمَاتِ كَمَا يَنْسَدِلُ الْمَطَرُ عَلَى زُجَاجِ نَافِذَةٍ شِتَائِيَّةٍ.
سَأَلَتْهُ مُنَى، وَهِيَ تُمِيلُ رَأْسَهَا نَحْوَهُ بِرِفْقٍ:
” أُمُّكَ؟… فِيمَ تَحْدِيدًا؟”
أَجَابَ بِنَبْرَةٍ دَافِئَةٍ كَمَنْ يَكْتُبُ رِسَالَةَ امْتِنَانٍ فِي دَفْتَرِ الْقَلْبِ:
” أُمِّي هِيَ السَّبَبُ الَّذِي جَعَلَ وَالِدِي، بَلْ وَجَدِّي أَيْضًا، يُوَافِقَانِ عَلَى تَسْجِيلِي فِي الْمَدْرَسَةِ. لَوْلَاهَا، لَكُنْتُ الْيَوْمَ فِي مَكَانٍ آخَرَ… تَمَامًا.”
كَانَ الأَبُ يُصْغِي بِخُشُوعٍ، عَاقِدًا يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فِيمَا بَدَا عَلَى وَجْهِهِ أَثَرُ ذِكْرَى قَدِيمَةٍ.
تَابَعَ نُعْمَانُ، مُبْتَسِمًا كَمَنْ يُحَدِّثُ طِفْلًا دَاخِلَهُ:
” أَتَذَكَّرُ ذَلِكَ الْيَوْمَ الأَوَّلَ جَيِّدًا… يَوْمَ رَافَقَنِي أَبِي إِلَى الْمَدْرَسَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ. فالْمَدْرَسَةُ لَمْ تَكُنْ تَبْعُدُ كَثِيرًا، رُبْعُ سَاعَةٍ مَشْيًا عَلَى الأَقْدَامِ، لَكِنَّ الطَّرِيقَ كَانَ آنَذَاكَ يَبْدُو أَطْوَلَ بِكَثِيرٍ… كَأَنِّي أَمْشِي إِلَى مَدِينَةِ الْحُلْمِ ذَاتِهَا.”
ضَحِكَتْ مُنَى بِخُفُوتٍ وَقَالَتْ:
” وَهَلْ كُنْتَ مُتَحَمِّسًا لِذَلِكَ الْحَدِّ؟”
” كُنْتُ أَعُدُّ الأَيَّامَ، بَلِ السَّاعَاتِ، بِلَهْفَةٍ لَا تُوصَفُ. طَالَمَا مَرَرْتُ أَمَامَ بَابِهَا الْخَشَبيِّ وَأَنَا أُحَدِّقُ فِيهِ كَأَنَّهُ بَوَّابَةُ سِرٍّ، أَتَمَنَّى فَقَطْ أَنْ يُفْتَحَ لِي يَوْمًا.”
تَدَخَّلَ وَالِدُ مُنَى قَائِلًا وَهُوَ يُومِئُ بِرَأْسِهِ:
” أَكْثَرُ الأَحْلَامِ بَسَاطَةً فِي الطُّفُولَةِ… تَحْمِلُ أَعْمَقَ الْمَعَانِي حِينَ نُدْرِكُهَا لَاحِقًا.”
أَوْمَأَ نُعْمَانُ مُوَافِقًا، ثُمَّ أَرْدَفَ:
” كَانَ إِمَامُ الْمَسْجِدِ الْقَرِيبِ مِنَ الْمَدْرَسَةِ، شَيْخًا جَلِيلًا، مِنْ أَصْدِقَاءِ جَدِّي، وَ هوَ من كَانَ وَالِدِي قَد تَتَلمَذَ عَلَى يَدَيهِ في حِفظِ آيَاتٍ من القُرآنِ الكَرِيمِ حين كَانَ فِي مِثلِ عُمرِي أَيضاً. لَا أَدْرِي تَمَامًا لِمَ تَعَلَّقْتُ بِهِ؟ … فَقَد كُنْتُ أُتَرَقَّبُهُ كُلَّ مَسَاءٍ قَبْلَ الْمَغِيبِ، وَحِينَ يَمُرُّ أَمَامَ دُكَّانِ جَدِّي ذَاهِبَاً إِلَى اَلمَسجِد، يُمْسِكُ بِيَدِي، وَنَذْهَبُ سَوِيًّا إِلَى الْمَسْجِدِ.”
سألَت منى، وقد شَغفها المشهد:
” أوَلَم تكُن تخَف؟ صَغِيرٌ، وَفِي طَريقٍ إلى أَو مِن مَسجِدٍ فِي لَيلٍ مُظلِمٍ, ودراسةِ القرآن؟”
أجابَ، وكأنّهُ يُنصتُ لصوتٍ قديمٍ داخله:
” لَمْ أَكُنْ أَخَافُ… كُنْتُ أَشْعُرُ أَنِّي أُؤَدِّي مَهَمَّةً مُقَدَّسَةً. كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَفِي الْوَقْتِ بَيْنَهُمَا نَتَعَلَّمُ تِلَاوَةَ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَحِفْظَهَا غَيْبًا. كَانَ الشَّيْخُ يُصْلِحُ نُطْقِي بِصَبْرٍ… وَيُعَلِّقُ بِيَدِهِ عَلَى كَتِفِي كَأَنَّهُ يَزْرَعُ فِيَّ شَيْئًا لَا يُرِيدُ لَهُ أَنْ يَزُولَ.”
تَنَفَّسَ بِعُمْقٍ، ثُمَّ أَضَافَ:
” وَعِنْدَ وُصُولِنَا، يُسَلِّمُنِي بِيَدِهِ إِلَى جَدِّي، وَيَقُولُ لَهُ تِلْكَ الْعِبَارَةِ الَّتِي لَنْ أَنْسَاهَا قَطُّ : هَذِهِ أَمَانَتُكُمْ، رُدَّتْ إِلَيْكُمْ.”
عَمَّ الْمَكَانَ صَمْتٌ قَصِيرٌ، لَمْ يُقَاطِعْهُ أَحَدٌ. ثُمَّ قَالَتْ مُنَى، بِنَبْرَةٍ مُتَهَدِّجَةٍ:
” كَمْ مِنْ أَمَانَاتٍ تُرَدُّ… وَلَكِنْ لَا تَعُودُ كَمَا كَانَتْ.”
هَزَّ وَالِدُهَا رَأْسَهُ مُوَافِقًا، وَقَالَ بِهُدُوءٍ:
” وَلَكِنَّ أَمَانَةَ الْقَلْبِ… حِينَ تُحْفَظُ كَمَا حَفِظَهَا ذَلِكَ الشَّيْخُ، تُثْمِرُ رِجَالًا مِثْلَ نُعْمَانَ.”
قَالَ نُعْمَانُ بِصَوْتٍ خَفِيضٍ، وَهُوَ يُقَلِّبُ ذِكْرَيَاتٍ لَمْ تَبْهَتْ رَغْمَ مُرُورِ السِّنِينَ:
” كُنْتُ أَسْمَعُ بَعْضَ الْحِوَارَاتِ الَّتِي تَدُورُ بَيْنَ وَالِدِي وَجَدِّي، وَأَحْيَانًا بَيْنَ وَالِدِي وَأُمِّي… وَكَانَتْ كُلُّهَا تَدُورُ حَوْلِي, فَقَد كُنتُ أَفهَمُ شَيئاً مِنها, وَيَمتَنِعُ كثير منها عَلَى فَهمِي.”
رَفَعَتْ مُنَى حَاجِبَيْهَا بِاسْتِغْرَابٍ خَفِيفٍ، وَسَأَلَتْ:
“حَوْلَكَ؟ وَ بِمَ كَانُوا يَتَحَاورُون؟”
ابْتَسَمَ نُعْمَانُ ابْتِسَامَةً مَزِيجُهَا الْحَنِينُ وَالْوَجَعُ، ثُمَّ قَالَ:
” كَانَ جَدِّي يَرَى أَنَّ ذَهَابِي إِلَى الْمَسْجِدِ وَتَعَلُّمَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَلَى يَدِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ يَكْفِينِي، وَيَقُولُ إِنِّي صَغِيرٌ عَلَى الْمَدْرَسَةِ، وَإِنَّ بُنْيَتِي ضَعِيفَةٌ، وَجَسَدِي لَا يَحْتَمِلُ بَرْدَ الشِّتَاءِ وَلَا حَرَّ الصَّيْفِ.”
هَزَّ وَالِدُ مُنَى رَأْسَهُ بِتَعَاطُفٍ، وَقَالَ:
” ذَلِكَ جِيلٌ كَانَ يَخْشَى الْمَرَضَ أَكْثَرَ مِنَ الْجَهْلِ… وَرُبَّمَا عَنْ حَقٍّ أَحْيَانًا.”
أَرْدَفَ نُعْمَانُ، وَكَأَنَّهُ يَشْرَحُ شَيْئًا عَايَشَهُ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ:
” فِي الۡحَقِيقَةِ… لَمْ يَكُنْ يَمْضِي شَهْرٌ دُونَ أَنْ أُمضِي أُسْبُوعًا أَوْ أَكْثَرَ طَرِيحَ الْفِرَاشِ.
حَرَارَةٌ مُرْتَفِعَةٌ تُدَاهِمُنِي فَجْأَةً، وَبُرُودَةٌ تَخْتَرِقُ عِظَامِي، حَتَّى أَرْتَجِفَ مِنْ أَطْرَافِي كَأَنِّي وَسْطَ عَاصِفَةٍ جَلِيدِيَّةٍ.”
تَدَاخَلَ صَوْتُ مُنَى بِخُفُوتٍ قَلِقٍ:
” وَكَيْفَ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ مَعَ تِلْكَ النَّوْبَاتِ؟”
أَجَابَ نُعْمَانُ وَهُوَ يُطَأْطِئُ رَأْسَهُ قَلِيلًا:
” فِي كُلِّ مَرَّةٍ كَانَ وَالِدِي يُسْرِعُ بِي إِلَى الطَّبِيبِ، وَأَحْيَانًا كَانَتْ إِحْدَى قَرَابَاتِ أُمِّي، مِنْ أُولَئِكَ الْعَجَائِزِ الْحَكِيمَاتِ، تَأْتِي وَتَجْلِسُنِي عَلَى الْكُرْسِيِّ، ثُمَّ تُدْخِلُ سَبَّابَتَهَا الطَّوِيلَةَ وَالْخَشِنَةَ فِي حَلْقِي، وَتَضْغَطُ عَلَى لَوْزَتَيَّ وَاحِدَةً تِلْوَ الأُخْرَى.”
شَهِقَتْ مُنَى، وَقَالَتْ بِنُفُورٍ طُفُولِيٍّ:
” يَا إِلٰهِي! هَلْ كَانَتْ تُؤْلِمُكَ؟”
ضَحِكَ نُعْمَانُ ضَحْكَةً قَصِيرَةً، ثُمَّ قَالَ:
” كَانَتْ تُؤْلِمُنِي طَبْعًا… وَلٰكِنَّهَا كَانَتْ تُخْرِجُ قَيْحًا غَرِيبًا، وَتَقُولُ لِي بِثِقَةٍ : (هذا هُوَ السَّبَبُ فِي كُلِّ مَا تُعَانِيهِ).”
قَالَ وَالِدُ مُنَى، وَقَدِ ارْتَسَمَتْ عَلَى وَجْهِهِ ابْتِسَامَةٌ مُتَأَمِّلَةٌ:
” كَانَتِ الأُمَّهَاتُ وَالْجَدَّاتُ يَعْرِفْنَ الْكَثِيرَ مِمَّا لَا يُدَرَّسُ فِي كُلِّيَّاتِ الطِّبِّ.”
تَابَعَ نُعْمَانُ، بِنَبْرَةٍ أَشَدَّ حُزْنًا:
” أَحْيَانًا، كُنْتُ أُصَابُ بِالْحُمَّى فَجْأَةً، تَفْقِدُنِي وَعْيِي تَمَامًا… وَأَسْقُطُ أَرْضًا دُونَ مُقَدِّمَةٍ، كَأَنَّنِي شَمْعَةٌ أُطْفِئَتْ فِي لَمْحِ الْبَصَرِ.”
سَادَ الصَّمْتُ قَلِيلًا، ثُمَّ قَالَتْ مُنَى، وَكَأَنَّهَا تُخَاطِبُ الطِّفْلَ الَّذِي كَانَهُ:
” يَا نُعْمَان… كَمْ كُنْتَ هَشًّا، وَكَمْ كُنْتَ قَوِيًّا أَيْضًا.”
ابْتَسَمَ نُعْمَانُ ابْتِسَامَةً لَمْ تَصِلْ إِلَى عَيْنَيْهِ، وَقَالَ بِهُدُوءٍ:
” الْهَشَاشَةُ لَا تُلْغِي الْقُوَّةَ، يَا مُنَى… بَلْ قَدْ تَكُونُ طَرِيقَتَهَا الْخَاصَّةَ فِي الْبَقَاءِ.”
قَالَ نُعْمَانُ، وَقَدْ بَدَا فِي صَوْتِهِ ظِلُّ ابْتِسَامَةٍ مَكْسُوَّةٍ بِالِامْتِنَانِ:
” أَمَّا أُمِّي… فَقَدْ كَانَتْ تَرَى مَا لَا يَرَاهُ أَحَدٌ سِوَاهَا.”
نظرتْ مُنى إليه في تأمُّلٍ صامت، وكأنّها تسمعُ الآن النبضَ الأوّلَ لحلمه القديم، بينما قال والدُها بنبرةٍ هادئة:
“تلك هي الأمُّ… قلبُها دائمًا أبصرُ من العيونِ كلّها.”
تابعَ نُعمان، يُشكّل الحروف كما لو كان يعيد ترتيبَ ذاكرته أمامهم:
” كانت أمّي تُلحُّ دومًا على والدي:
يَنبغي أن نُسرعَ في تسجيلِ ولدِنا في المدرسة، لا يجوزُ أن يتأخّرَ أكثرَ. إنْ فاتَه هذا العامُ، ضاعَ عامٌ آخر، وسنظلُّ نُكرِّرُ المسألةَ كلَّ سنةٍ في موعدِ التسجيل، وسيبقى متأخّرًا عن أقرانِه…”
سكتَ لحظة، كأنّ صوت أمّه في داخله قد عاد حيًّا، ثمّ تابع:
” وكانت تقول لهُ أيضًا:
( أمضَينا عُمرَنا لا نقرأُ ولا نكتبُ، عُميانًا في وضحِ النهارِ… ألا يستحقُّ أولادُنا أن يتعلَّموا؟ يتعلّموا و يُعلِّمونا الحياة. أن يصيروا مرآتنا إلى الحياة؟ الحياةُ ليست فقط طعامًا وشرابًا وأولادًا… بل فَهمٌ وتعلُّمٌ وارتقاء.”
علّقَ والدُ منى وهو يهزُّ رأسه بإعجاب:
” أمّك كانت تفكّر كأنّها تُعلِّمُ المستقبلَ أن يكتبَ نفسَه.”
وأردفت منى، وهي تُلقي بنظرةٍ جانبية على والدها:
” أُعجبتُ كثيرًا بجملتها تلك: ( ليتعلّموا و ليُعلِّمونا الحياة). كم تحملُ من عمق!”
أكمل نُعمان، وكأنّ ذاكرته تسترسل وحدَها:
” لكنّ أبي… كان متردّدًا، يُحبُّني حدَّ الخوفِ، ويخافُ عليّ حدَّ الشلل. كان كلُّ ما يخشاهُ أن أُصابَ بنوبةِ حُمّى في المدرسة، أو في الطريقِ إليها … فمالَ إلى رأي جدّي، وتأرجحَ فيه ما يقاربُ العامين.”
تنهّدَ ثم قال:
” ظلَّ يؤجّلُ تسجيلي مرّةً بحجّةِ إقناعِ نفسِه، وأُخرى لإقناعِ والده، وكان يظنُّ أنّه كلّما تأخّرتُ نضجتُ وتعافيتُ، وأنّ المدرسةَ ستكونُ أقلَّ قسوةً عليّ حينها.”
سكتَ نُعمان لحظةً، ثم أضاءَ في عينيه شيءٌ من فخرٍ صامت، وأردف:
” لكنّ أُمّي كانت أذكى. اقترحتْ عليه أن أُتابعَ الذهابَ إلى المسجدِ كما يُحبُّ جدّي، وأتعلّمَ التلاوةَ والقرآنَ الكريمَ على يدِ الشيخ، حتى إذا ما أنهيتُ الختمةَ، يكونُ الأمرُ قد نضجَ طبيعيًّا في عيونِ الجميع.”
سألت منى وقد أخذها الفضول:
” وهل وافقَ جدُّك؟”
أجاب نُعمان بنبرةٍ خفيفة:
“وافق! … بل شعرَ أنّه انتصر.”
ضحكوا معًا، ثمّ أردف نُعمان:
“أما خوفُهم من نوباتِ المرضِ، فقد أوجدتْ له أمّي حلًّا لطيفًا. طلبت من ابنِ خالتي أحمد، وكان يكبرني بعامينِ ونصفٍ، أن يُلازمني في المدرسة، وأن يرافقني في طريقِ العودة… وقد فعل.”
قال والدُ منى، وقد بان التأثُّرُ في صوته:
” أمُّك كانت مدرسةً كاملةً في قلبِ امرأةٍ واحدة.”
وأردفت مُنى، مبتسمةً في ودّ:
” ولو لم يكن في حياتك كلّها غيرُها، لكانت كافيةً لتجعلَ الحلمَ يستحقُّ أن يُكتَب.”
قالَ نُعمانُ وهو يُقلِّبُ في ذاكرته كما لو كان يستعرضُ مشاهدَ من فيلمٍ قديم:
” تقبَّلَ والدي اقتراحَ أمّي دونَ نقاشٍ، بدا كأنَّه ارتاحَ لفكرةٍ تُرضي الجميع، وأقنعَ بها جدّي أخيرًا، بعد طولِ ممانعةٍ وصمتٍ طويل.”
أومأت مُنى برأسها بحنينٍ صامت، وسألت برفق:
” وهل كانت لحظة دخولِك المدرسة… كما تخيّلتها؟”
ابتسم نُعمان، بعينٍ يلمعُ فيها ظلُّ ذاك الطفلِ الخائف:
” كانت مزيجًا من الفرحِ والتوجُّس… دخلتُ المدرسةَ الابتدائيّةَ أخيرًا، وقد كانت في ذلك الوقت دارًا عربيّةً قديمةً، مستأجرةً لتكونَ مقرًّا للدراسة، تتوسَّطُ باحتَها بحيرةٌ دائريةُ الشّكلِ، تتدفَّقُ مياهُها من نافورةٍ صغيرةٍ في المنتصف، تصدرُ خريرًا خافتًا يُشبهُ نَفَسًا باردًا في صدرِ النهار.”
علّق والدُ مُنى بإعجاب:
” حتّى المدرسةُ لديكَ لها ملامحُ حيّة… أعرفُ هذا النمط من البيوتِ الدمشقيّةِ القديمة، جدرانٌ من اللبنِ والتبن، وسقوفٌ خشبيّة، لها رائحةُ الزمنِ إذا مشيتَ تحتها.”
تابع نُعمان، متجاهلًا لحظةَ التوق التي دبّت في قلبه:
” أول مرّةٍ اجتزتُ ذلك البابَ الخشبيَّ الكبيرَ، شعرتُ أنّني أعبرُ نحو عالمٍ لا يشبهُ شيئًا مما عرفته. دخلنا غرفةَ المديرِ، وقدّمَ والدي أوراقي الثبوتيّةَ بيدٍ فيها بعضُ الرجفة. لكنّ المديرَ رفع حاجبَه قائلًا بصوتٍ حازم:
( لقد مضى وقتٌ طويلٌ على انتهاء التسجيلِ… لقد بدأت السنةُ منذ أشهر(.
نظر أبي إليه برجاءٍ صادق، ظلَّ يَطلُبُ مِنهُ بلُطفٍ أن يقبلَ بتسجيلي، وأنا أُراقِبُ المَشهَدَ بِعَينَينِ تَملؤُهُما اَلحَسرَةُ والرجاءُ … كُنتُ أَرمُقُ اَلمُدِيرَ بِنَظَرَاتٍ صَامِتَةٍ، كَأنّي أَرجُوهُ أَن يُسَامِحَ أبِي عَلَى هَذَا اَلتَأخِيرِ اَلذِي لَم يَكُن ذَنبهُ.”
قَالَت مُنَى، وَهِيَ تَمسَحُ بِسبَابَتِهَا عَلَى حَدّ اَلطَاوِلَة:
“أَعرِفُ هَذَا اَلشُعُورِ… حِينَ يُكَافِحُ اَلكِبَارُ بِصَمتٍ لِتَأمِينِ مَقعَدٍ صَغِيرٍ فِي اَلعَالَمِ لِأَطفَالِهِم.”
وَاصَلَ نُعمَانُ حَدِيثَهُ:
“وَفِيمَا كَانَ اَلتَوَتّرُ يَسُودُ اَلغُرفَةَ، دَخلَ أَحَدُ اَلمُعَلّمِينَ، أَلقَى اَلتَّحِيّةَ، وَطَلَبَ مِنَ اَلمُدِيرِ سِجِلًّا وَبِطَاقَةَ اِستِدعَاءِ لِأَحَدِ اَلتَلَامِيذِ اَلكُسَالَى. ثُمَّ التَفَتَ، وَكَأنّهُ تَفَاجَأَ بِوجُودِ أَبِي، اِقتَرَبَ مِنهُ وَسَلَّمَ عَلَيهِ بِحَرَارَةٍ وَسَألَهُ عَن سَبَبِ حُضُورِهِ. رَدَّ أَبِي تَحِيّتَهُ، وَطَلَبَ مِنهُ أَن يُسَاعِدَهُ بِإِقنَاعِ اَلمُدِيرِ… فَدَارَ بَينَهُمَا حَدِيثٌ لَم نَسمَع مِنهُ سِوَى هَمَسَاتٍ خَافِتَةٍ.”
هُنَا قَالَ وَالِدُ مُنَى:
” إِنَّهَا مُصَادَفَاتُ اَلقَدَرِ اَلتِي تُغيِّرُ مَصَائِرَ كَامِلَةً.”
قَالَ نُعمَان وَهُوَ يُومِئُ مُوَافِقًا:
“بِالفِعلِ… بَعدَ لَحَظَاتٍ، أَخَذَ اَلمُدِيرُ اَلأورَاقَ مِن يَدِ أَبِي، ثُمَّ اقتَرَبَ مِنّي ذَلِكَ اَلمُعَلّمُ، أَمسَكَ بِيَدِي، وَقَالَ جَازِمًاً:
( أَنا سَأَصطَحِبُ نُعمَانَ إلى صَفِّي، وَسَأَتكَفّلُ ِبَتعوِيضِ مَا فَاتَهُ مِن دُرُوسٍ).
كُنتُ كَمَن تَلَقّى مِنحَةً سَمَاوِيَةً. عَرَفتُ فِيمَا بَعد أَنَّ ذَلِكَ اَلمُعَلّم كَانَ أَحَدَ أَقَارِبِ جَدّي لأُمّي، وأَنّ جَدّي وَجَدَتّي كَانَا فِي تِلكَ اَللَحظَةِ فِي زِيارَتِنَاِ، كَعَادَتِهِمَا كُلَّ يَومِ اثنَين، اَلذِي يُعدُّ َيومَ عُطلَةِ الحَلّاقِين… وكانت أُمّي قد أخبرتهما أنّ والدي ذهبَ بي إلى المدرسةِ، لكنها تخشى أن يُرفض المُدِيرُ تسجيلي بسبب تأخّرنا أو كِبرِ سنّي، فقد صَارَ أَقرَانِي فِي اَلصَّفِّ الثَّالِثِ أَو اَلرَابِعِ… أَمَا أَنَا، فَكُنتُ مَا أَزَالُ عَلى أَعتَابِ اَلصَّفِّ اَلأوّلِ.”
قالت مُنى، وهي ترفعُ بصرها نحوه متأثرة:
“ربّما كانت يدُ المعلّمِ تلك، أولَ يدٍ امتدّتْ لتفتحَ لك بابَ الحُلم…”
أجاب نُعمان بصوتٍ خفيضٍ يشوبه شيءٌ من العرفان:
“نعم… وربّما كانت تلك اليد، أوّلَ سطرٍ في قصّتي كلِّها.”
قال نُعمان وهو يتركُ لحديثه أن يسيرَ على مهلٍ، كأنّه يسحبُ خيطًا من وشاحٍ قديمٍ:
” كان جدّي يعلمُ أن أحدَ أقاربهِ يُدَرِّسُ في تلك المدرسة، فهرعَ على الفورِ إليها، كأنّ القلقَ الذي راودَه في بيتِنا قد تحوَّل إلى طاقةٍ لا تُطيقُ الجلوسَ، دخلَ المدرسةَ وسأل عن قريبه، ثم التقاهُ وتحدّث إليه بصوتٍ خفيضٍ، لا أعرفُ إن كان فيه عتابٌ أم استعجال.”
سألت مُنى، وهي تتابعُ ملامح وجهه بتركيزٍ طفوليٍّ ناعم:
” هل كنتَ لا تزال في غرفةِ المديرِ حين وصلَ جدُّك؟”
أجاب نُعمان مومئًا:
” نعم، ولم أكن أعلمُ بقدومه… لحظاتٌ وظهر المعلّمُ نفسهُ في غرفةِ الإدارة، وقد بدا عليه شيءٌ من الدهشةِ حين رأى والدي، لكنّه لم يُطِل النظرات، بل أخذَ يدي وقال بلُطف:
تعالَ يا نُعمان، سأريكَ صفك…
غادرتُ معه، وأنا ما أزالُ أُحدّق في الأرضِ، كأنّي أسترقُ مشهدَ العالمِ الجديد من تحتِ قدمي. وبينما كنّا نمرُّ بجانب أحدِ الصفوف، سُمِعَ صوتُ بكاءٍ شديدٍ، حادٍّ كأنّه شقَّ جدارَ الصمتِ.”
هنا قاطع والدُ مُنى متجهِّمًا:
“بكاء؟! من تلميذٍ؟”
أومأ نُعمان ببطء:
“نعم… توقّفتُ عن السيرِ وحدّقتُ نحو مصدر الصوت… كان طفلٌ صغيرٌ يجلسُ على كرسيّ الخيزرانِ الذي عادةً ما يجلسُ عليه المعلمُ، واثنان من زملائه يُمسكانه بقوّةٍ، بينما يقفُ أمامه رجلٌ ضخمٌ، قويُّ البنيةِ، ينهالُ عليه ضربًا بعصا غليظةٍ على كفَّي قدميه… مشهدٌ لم يَمحُه الزمنُ، علمتُ لاحقًا أن ذلك الرجلَ كان معلّمَ الصف.”
وضعت مُنى يدَها على صدرها، وقالت هامسة:
” يا إلهي… هذا تعذيبٌ، لا تعليم.”
تابع نُعمان، وصوتُه منخفضٌ كأنّه يخشى أن يُوقظَ ألمَ الطفولةِ من مرقده:
“أفزعني المشهدُ… وجعل الدمَ يتجمّدُ في عروقي. سحبتُ يدي من قبضةِ المعلّمِ وهربتُ باكيًا، لا أدري إن كنتُ أركضُ أم أتعثّرُ… كلُّ ما أتذكّره أنّ دموعي كانت تتناثرُ من عينيّ كما لو أنّني صرتُ ينبوعًا من الخوف. صِحتُ بأعلى صوتي:
لا أريدُ المدرسة! لا أحبّها! أريدُ العودةَ إلى البيت!
رأيتُ جدّي واقفًا عند بابِ المدرسةِ الخشبيِّ، بدا كأنه سمعني من بُعدِ المسافةِ والمكانِ، فهرع نحوي. ووالدي، الذي كان خارجًا لتوّه من غرفةِ المدير، أسرعَ بدوره نحوي.”
هزَّ والدُ مُنى رأسه حزنًا وقال:
“مشهدٌ كهذا قد يقتلُ الحُلمَ في مهده… لا عجبَ أن تبكي هكذا.”
أكمل نُعمان:
“لحقَ بي المعلّمُ الذي كنتُ برفقته، أمسك بيدي من جديد، يُهدّئني، يربّت على ظهري، ويطلب من والدي وجدّي أن يُغادرا المدرسةَ بسرعةٍ، كأنّه أراد أن يفصلني عن صورة الرعبِ تلك، قبل أن تستقرَّ في داخلي إلى الأبد.”
صمتَ لحظةً، ثم استأنف، والابتسامةُ تلوّحُ على حافةِ وجهه:
“لكنْ، وسطَ هذا الرُّعبِ الذي انتابني، لم أفلتْ يدي من حزامِ محفظتي… تلك المحفظةِ العتيقةِ التي اشترتها لي أُمّي قبل عامين، وأعدّتْ لي فيها كلَّ ما قد أحتاجه في يومي المدرسيّ الأول… كأنّني كنتُ أتشبّثُ بها بوصفِها آخرَ خيطٍ يربطني بأمّي… أو بالحُلم.”
قالت مُنى، وعيناها تلمعان:
” المحفظةُ كانت ذاكرتك الآمنة… حنينك المتحرّك.”
تابع نُعمان حديثه، وقد غمر صوته دفءٌ خافتٌ كأنّه يستدعي ظلًّا حنونًا من الماضي:
” أنهيتُ عامي الأوّل بتفوُّقٍ، لا عن عبقريّةٍ ولا حُبٍّ للدّرس، بل عن خوفٍ غائرٍ في القلب… كنتُ أتهيبُ كلَّ لحظةٍ من أن أُقصى، أن يُقالَ لي ( أنتَ لا تصلح!) ,أو أن أكونَ، لا سمح الله، ذاك التلميذَ الذي يُطرَحُ على كرسيِّ الخيزرانِ وتُهوي عليه العصا… لقد حكيتُ لأُمِّي عمّا رأيتُه في يومي الأول، عن خوفي الذي كان يُوقظُني من نومي كما لو كان حلمًا ينهشُ صدري، فأدركتْ أُمّي أن الحلَّ ليس في الهربِ، بل في أن أمضيَ في طريقي، لكن دون أن أكونَ وحدي.”
سألت مُنى، وهي ترفع حاجبًا صغيرًا وقد بدت متأثرة:
” هل كانت أمّك تتابع دراستك بنفسها؟”
ابتسم نُعمان، وقال وهو يغالب ابتسامةً من نوعٍ آخر:
“كانت تُديرها كأنّها تُديرُ بيتًا من الطينِ على وشكِ الانهيار، بخفّةِ أناملٍ لا تُخطئُ موضعَ القشِّ بين الطين… وضعتْ لي من ذلك اليومِ خطةً لا تتغيّر، صارت طقسًا مقدّسًا نُمارسه كلَّ مساء.”
قال والدُ مُنى، وقد بدا إعجابه واضحًا في نبرته:
” خطة؟ ما نوعها؟”
أجاب نُعمان، وعدّدها كما لو أنه يعودُ إلى تلك الأرضيةِ الباردةِ التي شكّلت ذاكرته المدرسيّة:
“أوّلًا، أخلعُ ثيابَ المدرسةِ، ثم نتوضّأ للصّلاة. بعد الصلاةِ، نتناول الغداء، ثم نغسلُ أيدينا وأفواهنا… ثم نتمددُ على الأرضِ، أنا وأمّي، بشكلٍ متوازٍ، أمامنا كتابٌ ودفتران. أمسكُ قلمي الرصاص، وهي تمسكُ بالمبراةِ، كأنّها تُبقي السلاحَ مشحوذًا.
ثم تبدأ المهامُّ، واحدةً تلو الأخرى، وكأنّنا في درسِ حياةٍ لا درسِ مدرسة:
● المَهمّةُ الأولى : تهجئةُ وقراءةُ كلماتِ الدرسِ من الكتاب، كلمةً كلمةً، على طريقةِ إمامِ المسجدِ الذي كان يُعلّمُنا بين صلاتي المغربِ والعشاء… كانت أمّي تُقلّده في نبرتها، فأشعرُ أحيانًا أنّها تحفظُ القرآن، أو أنّني أنا أحفظُ قلبي معها.
● المَهمّةُ الثانية: قراءةُ الدرسِ مرّاتٍ عدّة، حتى يُصبحَ لساني مألوفًا للكلماتِ، لا يتعثّرُ ولا يخاف، كأنّي أُعيدُ للغةِ طمأنينتها.
● المَهمّةُ الثالثة: رسمُ الكلماتِ على الدفترِ الأوّل، مسودةٌ كنتُ أتمرّنُ فيها على أن أُحاكي رسمَ الكلمة كما وردَ في الكتاب، لا فرقَ بين النّقطةِ والنّقطة.
● المَهمّةُ الرابعة : كتابةُ ما أتقنته في دفتر الوظائفِ، ذاك الذي سيطّلع عليه المعلّم، وكان بالنسبة إليّ نافذتي إلى العالَم الخارجي، نافذةٌ كنتُ أُحبّ أن تكونَ نظيفةً ومُضيئة.”
قالت مُنى، وقد لمعت في عينيها صورةٌ لأمٍّ تُراقب ابنها في صمتٍ محبّ:
“ما أروع هذا التفاني… أمّك لم تكن تُتابعك فحسب، كانت تُشكّلك!”
أومأ نُعمان، وواصل بصوته المنخفض:
“استمررتُ على هذا النّحو، يومًا بعد يومٍ، تحت إشرافِها الحاني، حتى غدوتُ قادرًا على إنجازِ واجباتي وحدي، دون خوفٍ من الخطأ، كأنّها زرعتْ فيّ ثقةً لم أعهدها من قبل… وكانت، رغم انشغالها بواجباتِ البيت، تُجري مقارنةً دقيقةً بين المسوّدةِ والكتاب، ثم تُنصت لتهجيتي، وتنبهني للفظِ الحروف، وتُعيد الاستماعَ لقراءتي كاملةً قبل أن تسمحَ لي بكتابة الدرسِ في دفتر المدرسة.
كنّا نستريحُ قليلًا، أحيانًا نشربُ الشاي، أو نضحكُ على كلمةٍ نطقتُها خطأً، ثم نعودُ للعملِ دون أن نشعر بثقلِه… وهكذا حتى نهايةِ عامي الثاني.”
قال والدُ مُنى وهو يضع يده على ذقنه:
“واضحٌ أنّك نشأتَ على الحُبّ والنظامِ معًا… وهذا نادر.”
أكمل نُعمان، وقد تلوّنت نبرته بشيءٍ من الفخرِ الطفولي:
” في الصفِّ الثالثِ، جلبتُ لأوّل مرةٍ من مكتبةِ المدرسةِ قصةً مصوّرة… قرأتُها على مسامعِ أمي، ثم جلستُ أشرحُ لإخوتي ما فهمتُه، وأريهم الصُّوَر المُلوّنة. كانت أُمّي تبتسمُ وتقول لي:
اقرأ لهم كما لو كنتَ حكواتي الحارة…
ومنذ ذلك اليوم، صرتُ من روّادِ مكتبةِ المدرسةِ، وكان أستاذُ اللغةِ العربية يُساعدني في اختيارِ القصص، يُرشدني إلى ما يناسبني، ويُشجّعني على أن أعودَ بالكتابِ لا بالحقيبةِ فقط… لقد اكتشفتُ في القراءةِ شيئًا يُشبه الوطن، شيئًا لا يُخيف.”
عند هذا الحدِّ من السَّرد، رفعت منى كفَّها برفقٍ، كأنّها تُوقِفُ موجةً متدافعةً من الصور، وقالت بصوتٍ خافتٍ، فيه شيءٌ من التردُّد:
” لحظةً، نُعمان… هل يمكنُ أن تتوقّفَ قليلًا؟ هناك أمرٌ يُحيّرني…”
تطلّع إليها نُعمان باستغرابٍ لطيف، فأضافت تُحاول أن تجدَ الكلمات:
” بعضُ ما ترويه… طريقتك في وصفِ الأحداث وكأنّها كانت عادية، مألوفة، يُثيرُ لديّ استغرابًا… أشعرُ وكأنّ ثمّة ما هو ناقصٌ في الحكاية، شيءٌ لا يُقال مباشرةً.”
ابتسم نُعمان، تلك الابتسامة التي تُشبه اعتذارًا هادئًا، ثم قال بنبرةٍ واثقةٍ وناعمة:
” ستفهمين، يا منى… كُلُّ ما بدا لكِ غامضًا الآن، سيتّضحُ حين تربطين بين الأحداث… الأمرُ يُشبه قراءةَ روايةٍ مترامية الفصول؛ لا يُمكن فهمُ فصلٍ منها وحده، لا بُدّ أن تَخيطِي السُّطورَ بالخيطِ الصّامتِ بينَها.”
تدخّل والدُ منى، وقد بدا أنّه يستشعرُ عمقَ ما خلف الكلمات، وقال مبتسمًا:
” أمّا أنا… فأستطيع أن أتفهّمَه جيّدًا.”
رمقته منى بنظرةٍ مازحة، ثم قالت وهي تهزُّ رأسَها برضًا:
” طالما أنّكما اتّفقتما، فلكَ أن تُتابع، نُعمان.”
تنفّس نُعمان بعمقٍ، وكأنّه يغوصُ إلى قاعِ ذكرى جديدة، وقال:
” حصلتُ على وثيقةِ إتمامِ المرحلةِ الابتدائيّة… كانت ورقةً عاديةً في ظاهرِها، لكنّني كنتُ أراها جسرًا، أو قلْ: جناحين صغيرين لفتى يحلُمُ أن يُحلّق.
وما إن انتقلتُ إلى المرحلةِ الإعداديّة، حتّى أصبحتُ من روّادِ مكتبةِ المركزِ الثقافيِّ في البلدة… كنتُ أدخلُها كما يدخلُ العطشانُ إلى نبعٍ نقيٍّ، أنهلُ من كتبها ما أودُّ معرفتَه، أو تعلُّمَه، أو حتى مجرّد الاطلاعِ عليه. كنتُ أشعرُ وأنا أجلسُ بين رفوفها الخشبيّة، أنني أُصافحُ العالمَ من أطرافِ الكتبِ.
ورغمَ انغماسي بذلك، لم أغفلْ يومًا عن دراستي… كنتُ أتابعُ دروسي المدرسيّةَ بتركيزٍ واهتمامٍ كبيرَين، كأنّني أسابقُ شيئًا لا أراه، أو كأنّ وراءَ كلِّ سؤالٍ في الكتابِ بابًا أبحثُ عن مفتاحه.”
قاطعه والدُ منى، وقد لمعتْ في عينيه بادرةُ إعجاب:
” مكتبةُ المركزِ الثقافيّ؟ لا أظنُّ كثيرين في مثل سنّك كانوا يعرفون طريقَها، دعك من ارتيادها!”
هزَّ نُعمان رأسه موافقًا، وقال بنبرةٍ يشوبها ظلُّ دهشة:
” نعم… لم تكن مألوفةً للكثيرين من أبناءِ البلدة، لكنّني كنتُ أشعرُ أنّها بيتي الآخر… ثم جاءتني المفاجأة، لا من الكتابِ هذه المرّة، بل من البيتِ ذاته.”
قالت منى بفضولٍ وقد اقتربت قليلًا كأنّها تستعدُّ لالتقاطِ سرٍّ:
” مفاجأة؟ ماذا حدث؟”
أطرق نُعمان لحظةً، كأنّه يستحضرُ ذلك المشهدَ القديم، ثم قال بصوتٍ منخفض:
” بعد نجاحي في الصفِّ السادسِ، دعاني والدي إلى لقاءٍ مع جدّي… لم يكن أمرًا معتادًا، لم أكن أُستدعى عادةً إلى لقاءٍ كهذا. حينها، لم أفهم ما ينتظرُني، لكنّني شعرتُ من نبرةِ والدي، ومن سُكونِ البيت، أنّ ما سيُقالُ في ذلك اللقاء سيُغيّرُ مسارًا ما…”
سادَ صمتٌ قصير، وكان في صمتِ منى ووالدِها ما يُشبه الإصغاءَ العميقَ لأبوابٍ تُوشك أن تُفتَح… ” لم يطلِ الانتظارُ طويلًا حتّى بدأ جدّي الحديثَ بصوته الوقور، ذاك الذي يحملُ نبراتِ الحكمةِ حينًا، وظلالَ الحسمِ حينًا آخر، فقال وهو يُصلحُ وضعَ عِمامته فوق رأسه:
” يا بُنَيَّ، والدُكَ رجلٌ فقيرٌ، لا يقوَى على تحمُّلِ أعباءِ الدِّراسةِ ونفقاتِها. لديه أبناءٌ آخرون غيرُك، وعليه أن يُؤمِّنَ لهم، كما أمَّنَ لك، ما استطاعَ إليه سبيلًا.
لقد كنتَ، لسنواتٍ، تُعينُني في الدُّكّانِ خلال عُطلتِك الصيفيّة، وكنتُ أُعطي أجرَك لوالدِك كي يشتري لك ثيابًا ودفاترَ وأقلامًا.
ولهذا… اقترحتُ عليه أن تعملَ معه، وتتعَلَّمَ مِهنةَ الحِلاقة. غير أنّ والدَك، يا ولدي، لا يُريدُ لك أن تذوقَ مرارةَ هذه الحِرفةِ الشّاقّةِ، قليلةِ العائدِ. ولذلك، ارتأينا أن نتحاوَرَ معك، لعلّنا نجدُ مهنةً تُعينُ بها نفسَك وأسرتَك.”
لم يكن الحديثُ مفاجئًا، تمامًا كما توقّعتْه أمّي من قبل، وأشارت عليَّ أن أتهيّأ لساعةٍ كهذه. التفتُّ إليهما بوقارٍ، وقلتُ وأنا أشدُّ قامتي في جلستي، كأنّي أقدِّمُ حُجّتي أمامَ محكمةٍ ناعمة:
” هل تأذنا لي أن أُقدِّمَ اقتراحًا؟ خيارًا يُرضيني ويراعي ظروفَكما معًا؟”
رمقني جدّي بنظرةٍ يعلوها شيءٌ من الفضول، ثمّ مال إلى الوراء مبتسمًا:
” هاتِ ما عندَك، يا فتى.”
قلتُ بثقةٍ تشوبها لمعةُ رجاءٍ:
” لديّ زميلٌ في المدرسة، سليم، ابنُ جارِنا. دعاني قبل يومين للعملِ معه… العملُ مُجزٍ، وأجرُه يغطي نفقاتي الشخصيّةَ لعامٍ كاملٍ، ويكفي حاجاتي المدرسيّة.”
بدت الحماسةُ على ملامحِ أبي، فانحنى قليلًا وسألني بلهفةٍ:
” وما هو هذا العمل؟! ومن يكونُ زميلُك؟!”
أجبتُ ببساطةٍ ووضوحٍ:
” زميلي هو سليم، تعرفانه جيّدًا… أمّا العملُ، ففي ورشةِ بناء، كحدّادِ بيتون.”
سكنت الغرفةُ لحظةً، قبل أن يقطّب والدي حاجبيه، وتلوحَ في نبرته غمامةُ قلق:
” حدّادُ بيتون؟! هذا العملُ شاقٌّ يا نُعمان… يتطلّبُ قوّةً جسديّةً كبيرة، وقدرةً على التحمُّل تحت حرِّ الشّمسِ ولسعاتِ الحديد. لا… لا أظنّه مناسبًا لك!”
نظرتُ إليه بعينين واثقتين، ثم قلتُ بإصرارٍ خافتٍ لا يخلو من الرجاء:
” دعوني أُجرِّب. فإن وجدتُني غيرَ قادرٍ على الاستمرار، أتركه. لكن في الوقتِ الحالي، لا أرى عملًا آخرَ يضمنُ لي كِفافَ دراستي، كما يفعلُ هذا.”
لم تَقُل منى شيئًا، لكنّ وجهَها كان يرقبُ بانتباهٍ مزيجٍ من الإعجاب والحيرة، ثم التفتت إلى والدِها وكأنّها تسأله بعينيها:
” هل كنتَ لتمنعَه، لو كان ابنكَ؟”
لم يُجِبْ، لكنّه اكتفى بنظرةٍ عميقةٍ إلى نُعمان، كأنّه يرى فيه صبيًّا يُحاول أن يُصبح رجلًا قبل أوانه. ” بعدَ نقاشٍ هادئٍ دار بيننا، بقلوبٍ مفعمةٍ بالتفاهم، توصّلنا إلى اتّفاقٍ صامتٍ أكثرَ مما هو مُعلن. لم تكن هناك وعودٌ كبيرة، بل فقط نظراتٌ متبادلةٌ حملت في طيّاتها الموافقةَ والرضا.
ومع أوّلِ ضوءٍ من صباحِ اليومِ التالي، كنتُ قد بدأتُ عملي.
العملُ كان قاسيًا… نعم، قاسيًا على جسدِ صبيٍّ بالكادِ نجا من طفولتِه، لكنّي لأسبابٍ لا أزالُ أجهلُها حتى الآن قرّرتُ أن أحتفظَ بمرارته لنفسي. لا شكوى، لا تنهيدة، لا تلميح. كنتُ أعودُ في كلّ مساءٍ، وأغسلُ عن جسدي غبارَ الحديدِ وآثارَ العرقِ، ثم أدوِّن أجرتي في دفترٍ صغير، تحت إشرافِ أمّي.
كانت أمّي تخبِّئُ المالَ في ركنٍ سريٍّ من غرفتِنا الوحيدة، تلك التي منحَنا إيّاها جدّي، وكأنّها قطعةُ أملٍ صغيرة وسط ضيقِ الحياة. وكانَ بيني وبينها عهدٌ صامتٌ: هي تخبئ، وأنا أجمع… وكأنّنا ننسجُ معًا عباءةً دافئةً نلتحفُ بها مع أولِ أيامِ المدرسة”.
توقّفَ نعمان لحظةً، كأنّه يستعيدُ مشهدًا من فيلمٍ قديم، ثم تابعَ بنبرةٍ أكثر حنوًّا:
” وفي إحدى الأمسيات، نظرتُ إلى وجهِ أمي، وقد بدت عليه علاماتُ التعب، فقلتُ لها بلطفٍ:
( أمِّي، هل تحتاجين شيئًا؟ صار لديَّ ما يكفيني للعامِ الدراسيّ المقبل، ويمكنني الاستغناء عن أجرةِ الشهرِ القادمِ لأجلكِ.)”
قالت منى، وقد لمعت في عينيها دهشةٌ رقيقة:
” كنتَ تفكّر بهذه الطريقة وأنتَ في ذلك العُمر؟! هذا كثيرٌ على فتى صغير…”
ابتسمَ والدُها، وهزّ رأسه موافقًا:
” في مثل هذه البيوت، يكبرُ الأولادُ سريعًا يا منى… الحُلمُ وحده لا يكفي، لا بدّ من تعبٍ يُمهّدُ الطريق.”
أكمل نعمان:
” ابتسمت أمي، ابتسامةً تشبهُ المطرَ حين يتهادى على غُصنٍ عطِش، ثم أحضرتِ النقودَ وعدّتها أمامي.
كنتُ أراقبُها، فإذا بالمبلغِ أقلَّ ممّا كنتُ قد سجّلتُه. لم أنبسْ ببنتِ شفة، لكنّها لحظتْ التردّدَ في عيني، وسألتني برقةٍ لا تُشبِهُ الاتّهامَ في شيء:
” هل أخذتَ شيئًا دونَ علمي؟”
أجبتها وأنا أُلوّحُ بيدي نافيًا:
” ما كنتُ لأفعل، ولا أعلم أصلًا أين تُخبئينه.”
تغيّرت ملامحُها فجأة، وغرقتْ في صمتٍ ثقيلٍ ثم انهمرتْ دموعُها، دموعٌ صامتةٌ كأنّها تسقطُ في داخلي لا على وجهها.
اقتربتُ منها، ومسحتُ دموعَها بكفّي المرتجفة، وقلتُ بحرقةٍ:
” باللهِ عليكِ، يا أمّي، لا تُحمّلي قلبَك فوق طاقته! مالُ الدنيا كلّه، لا يُساوي دمعةً واحدةً من عينيكِ!”
أطرقَت منى رأسَها في صمت، وقد تأثّرتْ بالكلمات، ثم تمتمت:
” أتحمّلُ كلّ هذا وحدك؟!”
تابع نعمان:
” في اليومِ التالي، أنهيتُ عملي باكرًا، ومضيتُ إلى السوق، أبحثُ عن شيءٍ يطمئنُ قلبَ أمي، ويحفظُ تعبَنا.
اشتريتُ صندوقًا حديديًّا صغيرًا، له قفلٌ محكم. حين عدتُ إلى البيت، وكان خاليًا من الجميع، أسرعتُ إلى الحديقةِ الخلفيّة، وأحضرتُ سلّمًا، وأداةَ حفرٍ صغيرةً، ووعاءً.
أغلقتُ البابَ خلفي، وأسندتُ خزانةَ إخوتي الصغيرةَ إليه، ثم وضعتُ السلمَ تحت الفتحةِ العاليةِ في الجدارِ الجنوبي، تلكَ التي تدخلُ منها أشعةُ الشمسِ كأنّها خيطٌ من ذهبٍ معلقٌ بالسماء.
صعدتُ، وحفرتُ حفرةً تُناسب حجمَ الصندوق وسط أرضية النافذة، ثم وضعتُ فيه المالَ، مغلفًا بقماشٍ وجلدةٍ طرية، وردمتُ الحفرةَ بعناية.
أعدتُ كلَّ شيءٍ إلى مكانه، نزلتُ بهدوء، اغتسلتُ، وارتديتُ بيجامتي، وجلستُ إلى المائدةِ بانتظار عودةِ أمّي وإخوتي.
حين عادت، نظرتُ إليها بعينين تملؤُهما ثقةٌ وامتنان، وأعطيتُها مفتاحًا للصندوق، واحتفظتُ بالآخر.
قلتُ لها، وكأنّي أُقدِّمُ هديّةً غالية:
” هكذا، إذا احتجتِ مالًا في غيابي، تجدينه دون حاجةٍ إلى الاستدانة من أحد.”
نظرتْ إليّ طويلًا، ثم همستْ دون أن تنبسَ بكلمةٍ واحدة، فقط همسةٌ واحدةٌ خرجت من عينيها: الله يرضى عليك، يا ابني…
تابعتُ دراستي الإعداديّةَ بعزمٍ لم يَفْتُر، كأنَّ داخلي مشتعِلٌ بنارٍ هادئةٍ لا تنطفئ. اجتزتُ الصفّينِ السابعَ والثامنَ دون أن أخسرَ شيئًا من شغفي، أُوازنُ بينَ دفاترِ المدرسةِ، وكتبِ المطالعةِ، وشقاءِ العملِ الصيفيِّ الذي كانَ لي كجسرٍ أُعبرُ عليه نحو شيءٍ من الاستقلال.
كانَ ذلك العملُ الصيفيُّ رغمَ قسوته نَسغًا في عروقي، يُعينني على متابعةِ حُلُمي، ويمنحُني جرعةَ احترامٍ لذاتي. لم أكنْ أمدُّ يدي لأحد، بل كنتُ أمدُّ قلبي لما أُحبّ.
وحين حلَّ صيفُ الصفِّ التاسعِ، الصيفُ الذي كنتُ أتهيّأ فيه لنيلِ شهادةِ الكفاءة، راودني شعورٌ غريب… شيءٌ يشبهُ النضجَ المبكّر، أو ربّما الرغبةَ في أن أُثبتَ لنفسي أنني أستطيعُ أن أختار.
عندها، اتفقتُ مع أحدِ زملائي في الورشةِ أن نتركَ العملَ كأجيرينِ تحت يدِ غيرنا، وأن نأخذَ على عاتقِنا تنفيذَ أعمالٍ لحسابِنا الخاصّ. عقدنا شراكةً بسيطة، شفهيّة، نقتسمُ فيها ما نكسبه مناصفةً: الجهدُ علينا، والرزقُ على الله.
قالت منى، وقد لمعت في عينيها ملامحُ الإعجاب:
” وهل وثقتَ به؟ أعني… لم تكن الشراكات دائمًا ناجحة!”
ابتسم نعمان وهو يومئ برأسه:
” كانت بيننا كِلْمة اتفاق… وتلكَ، يا منى، كانت أقوى من أيّ عقد.”
استأنفَ حديثه:
” مضتْ ثلاثُ عطلاتٍ صيفيّةٍ ونحن نعملُ بهذه الطريقة. نكدُّ ونتعبُ، ونتقاسمُ التعبَ كما نتقاسمُ الحُلُم… الحُلُمُ الذي كان يشبهُ قطعةَ خبزٍ ساخنة، نقضمُ منها سويًّا دون أن يشعرَ أحدُنا بالجوع وحده.
لكنْ، بعد أن اجتزتُ امتحانَ البكالوريا، شيءٌ ما داخلي طلبَ التوقّف. لم يكن تعبَ الجسدِ وحده، بل كان العقلُ أيضًا يطالبُ بهُدنةٍ صغيرة.
حينها، قرّرتُ أن أُهيّئ نفسي للمرحلةِ المقبلة: الجامعة. فتوقّفتُ عن مهنةِ الحدادة، تلك التي كانت تلونُ أيّامي بوهجِ الحديدِ ولهيبِ الشمس، وتتركُ على يديّ أثرًا لا يُمحى.
لحُسن الحظ، كنتُ قد ادّخرتُ ما يكفيني. كنتُ أُعدُّ العُدّة بصمت، تمامًا كما تُنقّبُ الجذورُ في الأرضِ قبل أن تُنبتَ الشجرة. اشتريتُ الكتبَ الجامعيّةَ، وكلَّ ما سأحتاجُه في سنواتِ الدراسةِ كلّها، دونَ أن أُرهقَ نفسي بمتاعبِ العملِ الصيفيّ من جديد”.
قال السيد أحمد، وهو يُقاطعُه باستغرابٍ خفيّ:
” لحظة… قلتَ إنّ والدكَ كانَ فقيرًا للغاية، أليس كذلك؟ لكنّي علمتُ أنّ جدّكَ، والدَ والدكَ، كان ثريًّا جدًّا… وكنتم تسكنون معًا في بيتٍ واحد؟ بيت جدّك؟ فكيف لم يكن بمقدورِه أن يتكفّلَ بمصاريفِك، أو على الأقلّ بمصاريفِ دراستك؟”
ابتسم نعمان، تلك الابتسامة التي تتسلّل من مكانٍ بعيدٍ في القلب، ثم قال:
” سؤالٌ وجيه، يا عمّ أحمد… لكنّ الحقيقةَ غالبًا لا تُروى في سطرٍ واحد. نعم، كان جدّي ثريًّا، وكان البيتُ بيتَه، ونحنُ نسكنُ في جناحٍ صغيرٍ منه. لكنّ والدي… والدي كان رجلاً من نوعٍ آخر. لم يُحبَّ أن يُلقي همَّه على أحد، حتى ولو كان أباه. وربّما وهذا ما أدركتُه لاحقًا لم يكن بينهما وِفاقٌ كامل. أبي اختار أن يكونَ فقيرًا نزيهًا على أن يكون غنيًّا ذليلًا… وأنا احترمتُ هذا القرار، حتى حين أوجعني.”
ساد صمتٌ قصير، كأنّ الكلمات نفسها أُصيبت برهبةِ المعنى، قبل أن تقول منى بصوتٍ خفيضٍ:
” أظنّني الآن أفهم أكثر… الحُلُمُ حين يُروى هكذا، لا يعودُ مجرّدَ فكرة، بل يصبحُ شخصًا نُحبّه.”
قالَ نُعمان وهو يُحدِّق في المكانِ كأنّما يُعيدُ استحضارَ ذاكرةٍ تلبّست اللحظة:
” نعم… معكُم حقّ. لكنْ دعاني أروي لكُما حكايةً أخرى… واحدةً تبدأُ من عتبةِ الوعيِ نفسِه، حين بدأَت الحياةُ تَفْتحُ عينيها في داخلي.”
أسند ظهرَه إلى المقعد، واسترسلَ بنبرةٍ أقربَ إلى السّرْد منها إلى الكلام:
” كانَ ذلكَ في ظهيرةِ يومٍ قائظٍ من صيفٍ بعيد… أدخلتني والدتي إلى الحمّام، تُغسلني برفقٍ يقطُرُ منه الحنان. كانتْ تمسحُ على جلدي الصغير بالماءِ والصابون، غير أنّ رغوةَ الصابونِ البيضاءَ، حين انسابتْ على وجهي، تسلّلتْ إلى عينيّ… وأطلقتُ عندها صرخةً عاليةً، باكيةً، من شدّةِ الحرقة.
ما كانَ من أمّي إلّا أن أسرعتْ، تمسحُ وجهي بيديها المرتجفتَينِ عطفًا، وتُقبّلني كأنها تُريدُ أن تُطفئَ تلك اللذعةَ بشفتيها.
قالت منى، وقد اشتدّ في عينيها الوهج:
” يا إلهي… لا شيء يُشبه لمسةَ الأُمّ حين يكون الوجعُ في العين!”
ابتسم نُعمان، وتابع:
” بعد الحمّام، ألبستني ثيابًا صيفيّةً اختارتْ ألوانَها بعنايةٍ، كأنها كانت ترسمني بريشةِ ألوانٍ ناعمة. سروالٌ قصيرٌ، بلونِ أزهارِ شجرةٍ صغيرةٍ كانت قد نبتتْ قرب بابِ مطبخنا، يتّصلُ بحمّالتينِ رفيعتين، وحزامٍ بلونِ أوراقِ الشجرةِ ذاتها. أمّا القميصُ، فقد زُيِّن بأزرارٍ صيفيّةٍ صغيرة، تُخفي بعضها ربطةً عريضةً فاتحةَ اللون، كأنّ أمّي وضعتْ زهرةً على نافذةِ غرفةِ الطعام.”
ضحك والد منى ضحكةً قصيرة، وقال:
” والله كأنّي أراها أمامي! أمّك كانت رسّامةً بالأقمشة!”
هزّ نعمان رأسَه موافقًا:
” بل كانت رسّامةً بالحبّ. حتى الحذاءُ… كانَ خفيفًا، ذا ساقٍ قصيرة، فيه عُقدتان صغيرتانِ على الجانبين، تُكملان هيئةً لا تُشبه الأطفالَ فحسب، بل تُشبه الصباحَ حينَ يضحك.”
ثمّ تنفّس ببطءٍ، وعادَ إلى الحكاية:
” سكبتْ من زجاجةٍ صغيرةٍ قطراتٍ من عطرٍ خفيفٍ على كفّيها، ثمّ مرّرته على شعري وثيابي. عطستُ مرارًا، فضحكتْ ومسحتْ وجهي بقطعةِ قماشٍ ناعمةٍ كانت قد أعدّتْها سلفًا.”
قالت منى بخفّة:
” واضح أنّك كنتَ طفلًا مدلّلًا يا نعمان!”
أجابها باسِمًا:
” في حضنِ أُمّي، كان العالمُ كلّه يتدلّلُ معي.” وتابع:
“ثمّ حملتني إلى البابِ الخارجيّ، وقالت بصوتٍ مشبعٍ بالرقة:
( اِجْلِسْ هنا، وانتظرْ قليلاً… سيأتي من أرسلَه والدك ليأخذك إليه)
جلستُ على كرسيٍّ خشبيٍّ صغير، وضعتْه أُمّي بعنايةٍ أمامَ الباب، بينما كانت تراقبني من خلاله بعينَين مشوبتَينِ بالانتظار… عينينِ لا تزالان في الذاكرة، كما لو أنّهما لم تُغلِقا يومًا.
لم تمضِ دقائقُ قليلةٌ، حتّى توقّفت أمامي سيّارةُ والدي “الطويلة”، تلك التي كنتُ أراها كأنّها سفينةٌ من الخيال. ترجل السائق بخفّةٍ، وابتسم وهو يقول:
(معلّمتِي… نُعمان بأمانتي.)
ثمّ حملني بين ذراعيه، وأجلسني على كرسيٍّ خاصٍّ أعدّه والدي لي داخل السيارة، كأنّه يعرفُ أنّني سأنامُ بعد لحظات.”
قال والد منى:
” واضح أنّ أباك كان يهيّئ لك المكانَ حتّى في تفاصيل السيارات!”
ضحك نعمان وقال:
” كان يعتبرني نُقطةَ الضوء الوحيدة في منتصفِ يومه الطويل , انطلقت السيارة تشقّ الطريقَ بسلاسةٍ، ولم ألبثْ أن استسلمتُ للنوم. وعندما أفقت، وجدتُ نفسي بين ذراعي والدي، يمسحُ وجهي بيده المبلّلةِ بقليلٍ من الماء، يُداعبني كأنّي كنزُهُ الصغير.
كان متجرُ والدي يقعُ في قلبِ المدينة، في شارعِ الجلاء، قبالةَ الجامعِ الكبير. متجرٌ واسع، يعجُّ بالحركةِ والحياة. رأيتُ عمّالًا منشغلين بإنزالِ صناديقَ خشبيّةٍ ضخمةٍ من سيارةِ نقلٍ طويلة، يُصفّونها بانتظامٍ إلى جوارِ الجدارِ الأيمن.
وفي الداخل… كانت صفوفٌ من الأدوات وماكيناتِ الخياطةِ والتطريزِ بأحجامٍ مختلفة، جميعها تحملُ اسمًا واحدًا محفورًا بفخرٍ على هيكلِها. كأنّها تُنادي: (هذا المكانُ لنا… وهذا الولدُ سيَصيرُ شيئًا مهمًّا يومًا ما).”
قال نُعمان، وقد تلوّن صوته بشيءٍ من البهجة الدفينة، كأنّه يُزيح الستارَ عن مشهدٍ محفورٍ في الذاكرة:
” أتذكّرُ تمامًا تلكَ اللحظة… حينَ أجلسني والدي على كُرسيٍّ خشبيٍّ صغيرٍ، ورفعني لأكون فوق سطح مكتبه الكبير. كان الكرسيُّ يهتزُّ تحت جسدي النحيل، كأنّه لا يعرفُ بعدُ كيف يحملُني.”
قالت منى مبتسمةً، تميلُ نحوه بجسدِها كما لو أنّها تُعيد ترتيبَ المشهدِ في خيالها:
” أجلِسَكَ على المكتب؟! كأنّه أرادكَ شريكًا صغيرًا منذ البدايات.”
هزّ نُعمان رأسه موافقًا، وقال:
” ربّما كانَ يرى فيّ امتدادًا لحلمه. أمامي، وُضعَ هاتفٌ أسودُ، ذو قرصٍ دوّارٍ، بدا لي وقتها آلةً سحريّةً تُصدر طنينًا مُبهمًا. وإلى جواره، كانت هناك خزنةٌ حديديّةٌ ضخمةٌ، تُشبه الخيال… بدا لي وكأنّها صندوقُ أسرارٍ لا يُفتح إلّا بعين والدي.”
أومأ والد منى، وقال متأمّلًا:
” في الخزنات الكبيرة، تسكن الأحلام الصغيرة أحيانًا.”
تابع نعمان وهو يحدّق في نقطةٍ ما في الجدار، كأنّه يُعيد قراءة الزمن على وجهه:
” إلى يسار المكتب، كان ثمّةَ مكتبٌ أصغر، تغمرُهُ أوراقٌ مبعثرة، ودفاتر قديمة، وراءه جلسَ رجلٌ في سنِّ والدي، منهمكٌ في تدوينِ أرقامٍ على صفحاتٍ متآكلة، يُقلّبها بحرصٍ كأنّه يُعيد ترتيبَ ذاكرته.”
” وبين المكتبين، كان ممرٌّ ضيّقٌ يسمحُ للحركةِ أن تنسابَ دون ضجيج. أمّا سيّارةُ والدي، فقد كانت مركونةً إلى الرصيف المجاور، فخمةً، جامدةً كأنّها تراقبُه هو أيضًا.”
قالت منى هامسةً:
” كأنّ كلّ شيءٍ في المتجرِ كان يَنتظرُه، حتى الأشياء الجامدة…”
ابتسم نعمان، وأكمل بنبرةٍ هادئةٍ:
” راقبتُه وهو يتنقّلُ بخفّةٍ بين حديثٍ مع العمّال، وإشاراتٍ سريعةٍ يُبادلها مع الرجلِ الجالس إلى جواره، واتصالاتٍ يُجريها عبر الهاتفِ ذي القرصِ الدائريّ.”
” كنتُ أتبعهُ بعينيّ، أُلاحقُهُ في حركاته، وأُشير بين الحين والآخر نحو السيّارة، ظنًّا منّي أنّه سيلحظُني ويأخذني معه… لكنّ انشغالهُ كان كثيفًا، ساحقًا، فما لبثتُ أن غفوتُ مجدّدًا.”
“وحين أفقت، وجدتُ نفسي في حضنِ أمّي، تضمّني إلى صدرها، تحملني عبر ممرٍّ معتمٍ نحو سريري، في غرفةٍ ساكنةٍ، مظلمةٍ، تفوحُ منها رائحةُ طُمأنينتها القديمة.”
سادت لحظةُ صمتٍ بين الثلاثة، قبل أن يقول والد منى:
” جميلٌ كيفَ تصبح لحظاتُ الغياب الصغيرة… مدخلًا لذاكرةٍ لا تُنسى.”
أومأ نُعمان، ثم قال:
” وذاتَ يومٍ، جاء شابٌّ بسيطٌ، يحملني بين ذراعَيه، ويخترق بي حاراتٍ ضيّقة، يردّد كلماتٍ لم تألفها أذناي، شيءٌ منها يشبه الأذان، وشيءٌ آخر كأنّه غناءٌ شعبيٌّ مجهول.”
ضحكت منى وقالت:
” أهذا أوّلُ لقاءٍ لك مع الحارات؟”
أجابها:
” أوّلُ لقاءٍ مع الصغرِ حين يُقذَفُ إلى واقعٍ لم يعتدْه بعد.” وتابع وهو يلتفت نحوها:
” بلغنا دُكّانًا صغيرًا. كانَ والدي واقفًا فيه، إلى جوارِ كُرسيٍّ مرتفعٍ، يجلسُ عليه رجلٌ أمامَ مرآةٍ واسعة. بيدِ والدي مقصٌّ ومشطٌ، فيما رجالٌ آخرون جلسوا على كراسيّ خشبيّة، ينتظرون دورهم.”
قال والد منى بدهشة:
” هل كان والدك حَلّاقًا أم تاجراً؟!”
هزّ نعمان رأسه مبتسمًا:
” كان كلَّ شيء. تاجرًا، حلاقًا، صانعًا… لا لشيء، إلّا لئلّا أحتاجَ إلى أحدٍ حين أكبر.”
” وضعني الشاب على كُرسيٍّ صغيرٍ بجوارِ طاولةٍ متواضعةٍ، عليها هاتفٌ قديمٌ بقرصٍ دوّارٍ، وإلى جواره بابورُ كازٍ عتيق، وإبريقان من الشاي، وصينيّةٌ مكتظةٌ بالكؤوسِ الزجاجيّة.”
“تدورُ الأحاديث في المكان، تتخلّلها ضحكاتٌ خافتةٌ، وصمتٌ كثيفٌ، كأنّ الجميعَ يحتفظُ بأسرارٍ تحت قمصانه.”
“وما إن يُنهي والدي قصَّ شعر أحد الزبائن، حتّى يُسرع الشاب نحوه، يلوّحُ بمنفضةٍ صغيرة، ويقولُ بصوتٍ اعتادَه المكان:
(نَعيمًا يا سيّدي!)
ثمّ يشرعُ في كنسِ الأرضِ من بقايا الشَّعرِ المقصوص.”
“وكان الزبون، ما إن يرتدي سترته، حتّى يمدّ يدَه إلى جيبِه، فيُخرج منها قطعةً نقديّةً صغيرة، يضعُها في يدِ والدي، ثمّ يُعطي أُخرى للشاب المكافح.”
سألت منى وقد بدا التأثّر في صوتها:
” هل كنتَ تشعرُ بالفخر؟ أم بالغرابة؟”
قال نُعمان هامسًا:
” كنتُ أشعرُ أنني أنتمي… إلى دكّانٍ، وإلى مقصّ، وإلى رجلٍ يصنعُ لي مجدًا صغيرًا، دون أن يَسأل إن كنتُ أفهم.”
سكنت الجلسة لبرهة، كأنّها تتهيّأ للعبور إلى طورٍ آخر.
كانت الكلمات التي نثرها نُعمان تحمل شيئًا من الغبار، ذاك الذي لا يتبدّد بسهولة، بل يترك على الروح أثرًا لا يُمحى.
التفت والدُ منى إليه، وعيناه تشعّان بوميضٍ غامض، كأنّ فكرة ما بدأت تكتمل في ذهنه.
قال بهدوءٍ مشوبٍ بالحذر:
” نعمان… هل تذكر اسم ذلك الرجل الذي كان يجلس خلف المكتب الآخر؟ ذاك الذي قلت إنه يُدوّن ويفرز الأوراق؟”
تردّد نعمان لحظة، ثم قال:
” نعم أعرفه جيداًّ! إنه (—–) لم أكن أفهم حينها من هو، لكنّه كان كثير الحديث مع والدي في الحسابات.”
انفرجت شفتا الأب كمن وجد القطعة الأخيرة في صورةٍ مبعثرة، وقال ببطء، موجهًا كلامه لابنته:
” كنتُ أظنّ ذلك… كلّ شيءٍ تطابق. الاسم، الدور، وحتى طريقة الغياب.”
رمشت منى بدهشة:
” ما الذي تعنيه يا أبي؟”
اعتدل في جلسته، ووضع كفّه على حافة الطاولة أمامه، كأنّه يستعدّ لإلقاء سرٍّ ظلّ حبيسَ صدره طويلًا.
” أعني أنّ والد نُعمان، لم يكن حلاقًاً من الأساس. كان أحد كبار تجّار البلد في سنواتٍ مضت… متجره في شارع الجلاء, في مدينة دوما, كان من أشهر تجار الأدوات المنزلية, وله تعاملات مع شركة كنت أعمل بها عندما كنت شاباً في بيروت، تعاملت معه .. نعم أذكر ذلك جيداً .. كنت أؤمن له سيارات النقل الكبيرة لتنقل له البضائع من بيروت إلى سورية.”
التفت إلى نعمان، ثم أردف بصوتٍ أكثر خفوتًا:
” والمحاسبُ الذي ذكرتَه… (—–)، كان أحد أشهر من تورّطوا في عملياتِ سرقة ونصب. الرجل اختفى من البلاد فجأةً في نهاية الخمسينات، ومعه اختفت حسابات كاملة لم تُفلح المحكمة ولا الأجهزة الأمنيّة في تتبّعها.”
شهقت منى:
” تُقْسم أنّه هو؟!”
قال أبوها مؤكدًا:
” بكلّ يقين. ما سمعته من نُعمان، على مدى جلساتنا الأخيرة، جعلني أربط بين الوقائع. كنتُ أسمع منه دون أن أقاطع، أحتفظ بكلّ تفصيلةٍ في ذهني، حتى اكتملت الصورة اليوم.”
نظر إلى نعمان بعينٍ يملؤها التقدير والأسف معًا، وقال:
” والدك، يا بنيّ، لم يسقط لأنّه فشل، بل لأنّه طُعِن من أقرب من وثق بهم. لولا خيانة ذلك المحاسب، لبقي على رأس تجارته. لكنّه خسر كلَّ شيءٍ في لحظةٍ واحدة: رأس المال، الثقة، الحسابات… وتحول من دائنٍ إلى مدينٍ.”
سكت قليلًا، ثم أضاف بنبرةٍ أكثر عمقًا:
” ولمّا لاحقته البنوكُ، لم يهرب… بل آثر أن يبقى، وأن يُسدّد دينه قرشًا بعد قرش. ومضى يشتري كرامته بمقصّ الحلاقة ومشطٍ صغير.”
أخفض نعمان رأسه، وعيناه تُقاومان دمعةً حارّة، لم يدرِ إن كانت من الفخر أم من الحزن.
همست منى بصوتٍ مشوبٍ بالرقة:
” أبي… لماذا لم تخبرنا من قبل؟”
أجابها مبتسمًا بأسى:
” لأنّني لم أكن متيقّنًا. لكنّي الآن أعلم. أعلم أنّنا نجلس مع ابن رجلٍ صنع من يده سلّمًا ليصعد به فوق الجراح. لم ينتحب، ولم يشكُ، بل اختار أن يبدأ من جديد، في صمت، كما يفعل الكبارُ حين ينكسرون ولا ينهزمون.”
مدّ يده نحو نعمان، ووضعها على كتفه بحنوٍّ بالغ:
” لقد أخفى عنك الكثير، يا بنيّ، لا خوفًا، بل كي لا تَحمل ما لم تُخلق له بعد.”
ارتجفت شفتا نعمان، ولم يقل شيئًا… كان الصمت أبلغ.
أما منى، فقد نظرت إلى أبيها ونعمان نظرةً جديدة، فيها شيءٌ من الدهشة، وشيءٌ من الإجلال… وشيءٌ آخر لا اسم له، لكنّه كان واضحًا في عينيها تمام الوضوح.
أرادت منى، وقد لمحت الذهول يستبدُّ بالوجوه، أن تُعيد النبض إلى الجلسة، فابتسمت لنعمان برقةٍ وقالت:
” تابِع، يا نعمان… لعلَّ الحديث يُخفِّف عنّا وقع المفاجأة.”
تنفَّس نعمان ببطء، كأنّه يسترجع شيئًا بعيدًا وعزيزًا، ثم قال بصوتٍ كأنّه يُصغي إلى داخله:
” ذاتَ صيفٍ جديدٍ، بدأتُ أخرج إلى الباب الخارجيِّ خُفيةً عن أمّي، أتحيَّن لحظةً يأتيني فيها مَن يأخذ بيدي، ويقودني نحو والدي.
وحين يطولُ الانتظارُ، ولا أحد يجيء… كنتُ أتسلَّل وحدي، أخطو بتردُّدٍ، كأنّي أمشي في حلمٍ تائه.”
أطرق برأسه لحظة، ثم تابع، وعيناه تلمعان:
” تحت وَقْعِ الحَرِّ اللاهبِ، كنتُ أستندُ إلى حجرٍ كبيرٍ أمام باب دارِ إحدى قريبات أمّي. لم يكن الحجرُ غريبًا، ولا الباب. كنتُ قد رافقتها إلى هناك مرّة، في زيارةٍ قصيرةٍ لا أذكر من تفاصيلها إلا وجهَها وهي تُضحِك النسوة في الليوان.
يُغالِبني النُّعاسُ من شِدَّةِ التَّعَب، فأغفو فوق ذاك الحجر، لا أدري كم مضى من الوقت… إلى أن تَجِيءَ يَدٌ دافئةٌ، تُوقِظُني بلُطف، فأراها نفس المرأة تحتضنني وتُدخلني دارها، تفرش لي أريكةً تحت ظلِّ شجرةِ تينٍ سامقةٍ، تمتدُّ أغصانُها داخل الفناء.”
هنا، قالت منى، وقد أشفقت في صوتها حنانٌ لا يُخفى:
” كنتما فقراء إذن، لكنك تصف الفقر كأنّه حلمٌ جميل.”
ابتسم نعمان ابتسامةً باهتة، ثم قال:
” لم أكن أعلم! معنى الفقر أم .. أكُنّا فقراء؟ أم لا؟ لكننا لم نكن مهزومين.”
نظر والد منى إلى ابنته بإعجابٍ صامت، وكأنّه يقرأ في كلمات نعمان ما يتجاوز الحكاية.
وأكمل نعمان:
” أنامُ هناك ساعاتٍ طويلة، ثم أفتحُ عينيّ، وكأنّي ما غادرت بيتنا قط. كلّ شيءٍ كان يشبه ما أعرفه، سوى أنّ والدي لم يكن هناك…
وفي مساءٍ باردٍ، من نهايات الخريف الذي أعقب ذلك الصيف، كنتُ قد أتممتُ الرابعة. حضرت شاحنةٌ كبيرة، حملت سريري، وأثاثَ بيتنا، حتى أواني المطبخ لم تُترَك خلفها.
ركب والدي إلى جانب السائق، يحتضنُ والدتي، وأُختي الصغيرة، وأخي الرضيع الذي بالكاد تفتَّحت عيناه. دعوني لأجلس معهم في المقعد الأمامي، لكنّي أصررتُ على البقاء في الخلف، إلى جانب سريري.”
هنا، قطب والد منى حاجبَيه قليلًا وسأل:
” كنتَ ترفض القُرب منهم؟”
هزّ نعمان رأسه وقال:
” كنتُ فقط أريد أن أبقى حيث أجد نفسي… داخل أشيائي الصغيرة، وفي عالمٍ أعرفه.”
ثم أردف بصوتٍ خافت:
” لَفَّني أبي بلِحافٍ سميكٍ، خشيةَ بردِ الليل. أسندتُ رأسي إلى وسادتي الصغيرة، وغفوتُ على أنين ارتجاجِ السيارة.
وحين استفقتُ مع خيوط الفجر الأولى، وجدتُنا جميعًا نائمين في غرفةٍ غريبةٍ عن عيني وروحي.
تردَّدتُ في مغادرة فراشي، ظننتُ أنّني أحلم. مددتُ يدي إلى أُختي، أيقظتُها هامسًا:
‘ أين نحن؟’ ”
غمغمت بنعاس:
” لا لعلف…”
وعادت تغطُّ في النوم.
أدركتُ أن الجميع هنا… فاطمأن قلبي، وبقيتُ تحت لحافي، أراقب والدتي حين استيقظت وشرعت ترتّب بعض الأثاث المبثوث بعشوائية.
ناديتها بخفة:
” أمي، هل أساعدكِ في شيء؟”
التفتت إليَّ وهي تزفر تنهيدةً طويلةً، وقالت:
” لن تقدر على فعل شيء حتى يجهز بيتنا الجديد!”
تلفّتُّ حولي، وقد ملأتني الحيرة:
” أتقصدين أن هذا البيت المهترئ… سيكون بيتنا!؟”
ابتسمت ابتسامةً باهتة، وأجابتني بحزمٍ:
” بل هو بيتنا الجديد… فلا تُكثر الكلام، وعُد إلى النوم!”
ساد صمتٌ قصير، كأنّ الجدران نفسها تنصت.
قالت منى بصوتٍ منخفضٍ، وهي تنظر إلى والدها:
” تخيَّل يا أبي… أن يبدأ الإنسان رحلتَه من فوق حجر، ثم يستيقظ فجأةً في بيتٍ لا يعرفه.”
همس والدها، كأنّما يكلم نفسه:
” ليست البيوتُ ما يضيع يا ابنتي… بل يقينُ الإنسان بمكانه في الدنيا.”
الفصلُ الثالث والعشرون أمَا آنَ أوانُ حديثِكِ، يا مُنى؟ 25
________________________________________
نظر ثلاثتهم إلى بعضهم، وفي العيون مزيجٌ من الأسى والفخر، وفي القلب رعشةٌ خفيّةٌ لا تشبه شيئًا سوى ما يُقال حين يوقظك الحنين من حلمٍ قديم.
توقّفَ نُعمانُ عن السَّردِ حين أوشكَ صوتُهُ أن يَخونَه، وغمغمَ في داخلهِ خشيةَ أن ترى “مُنى” أو والدُها ارتجافَ دمعٍ كادَ أن يفيضَ من عينيهِ. تَجمَّدَ لحظَاتٍ، ثمّ التفتَ إليها قائلاً بصوتٍ خافتٍ يحملُ من التوقِ ما لا يُخفى:
” أمَا آنَ أوانُ حديثِكِ، يا مُنى؟”
قالها، وهو يُحاولُ أن يخفّف من ثقل اللحظة، لكنّه شعرَ بشيءٍ غريبٍ يعتصرُ قلبه، وكأنّ الكلمات قد توقَّفت في حلقه.
أجابته “مُنى” بعد لحظة صمتٍ، وكأنَّها تتلمّس كلماتها في الهواء، ثمّ شرعتْ تتحدّث عن والدتها، وعن جديها لوالدتها، وكيف كان تعامل الجميع معهم. كانت تتحدَّث بإسهاب، وبلغةٍ تنبضُ بحبٍ عميقٍ وتقديرٍ، وذكرياتٍ لا تُمحى. استرسلتْ قائلة:
” أمي… لم تكن أمًّا فحسب. كانت عالَماً بأسره. كانت تُدرّسُ العربيّةَ في الجامعة، وتُحيي الشِّعرَ في قلوبِ الطُّلاب، وتجعَلُ النّحوَ يغنّي، والبلاغةَ تتدلّى من أطرافِ الجملِ مثلَ عناقيدِ ياسمينٍ في شُرفةِ بيروتيّة.”
ثمّ توقّفت لحظة، وكأنّ الكلمات تُثقِل لسانها، فأضافت بتنهيدةٍ عميقة:
” لكنّها، في البيت، كانت أمًّا كما ينبغي أن تكون… رقيقةً، حازمةً، رفيقةً، وعميقةَ الفِكرِ والخوفِ والحُبّ.”
كانت عينا “مُنى” تغرقان في الحنين، فرفعتْ نظرها إلى السّقفِ، ثمّ عادتْ لتلتقي بعينيّ نُعمان، وابتسمت ابتسامةً شاحبة، كأنّها تزيل بها ضبابًا تراكم خلف جفنيها. ثمّ استأنفت حديثها بنبرةٍ تحملُ الكثيرَ من الذكريات المؤلمة، لكنها استجمعتْ قوتها، وقالت:
” عاملَتني كمشروعِها الأجمل، لا كطفلةٍ فقط، بل كصديقةٍ تُصغي وتُعلِّم. كأُنثى تُربّي أُنثى أخرى على الحياة. لم تكن تُعاقب، بل تُحاور. كانت تقول لي دومًا: ‘الحُريّةُ لا تُعطى يا مُنى… تُدرَّبُ عليها.’”
كان لحديثها سحرٌ خاص، وقد احترقَ صمتُ نُعمان بين كلماتها. ازداد السكون ثقلاً، بينما كانت عيناها تغرُورقان بالدموع التي لم تَسقط بعد. لم تُستسلم، وقالت بصوتٍ متماسكٍ وفيه رجفةُ الفقدِ:
” حين ماتت… أحسستُ أنّ جزءًا من روحي سُحِبَ بلُطفٍ مؤلم، كأنّني فُصِلتُ عن نورٍ كنتُ أتنفّسه. كلُّ ما أنا عليه اليوم، هو امتدادٌ لها… أنا، في الحقيقة، لستُ سوى ظلٍّ دافئٍ لصوتِها، ونُسخةٍ باهتةٍ من قلبِها الكبير.”
لم يُقاطعها نُعمان، بل أنصتَ في صمتٍ مطبقٍ، وكأنّ لسانه قد تجمّد أمام عمق معاناتها. كان يلتقط كلَّ كلمةٍ بعنايةٍ كما لو كانت سرًّا يُستمع إليه لأول مرّة. في عينيه، كان هناك وقارٌ غير معهود، بينما كان صدره يتّسع تدريجيًا لحجم الإدراك الجديد: أن يكونَ الإنسانُ أثرًا من حبٍ راحل.
قال في سرّه، متأمّلاً:
“ما أندر الذين يُربَّونَ بالمحبّةِ الخالصة، وما أطهر أولئك الذين يَحملونَ في قلوبِهم دفءَ الغائبين.”
كانت “مُنى” قد أتمّت حديثها، وما زال السكون يملأ المكان. هو لم يَستطع أن يعبّر عن تأثير كلماتها، لكنّ عينيه قالتا ما عجز لسانه عن قوله.
نظرتْ إليه، ثمّ قالت بهدوءٍ أكثر:
” لم تكن أمي فقط. كانت مرآتي، دليلي، صديقتي، و… كانت تسبقني دائمًا بخطوة. تعرفُ ما أفكّر بهِ قبلَ أن أتفوَّه. وبعد رحيلِها… كنتُ مضطرّةً أن أكون الأمّ. لكن… لمن؟ فقد أخذت أخي الصغيرَ معها، ذاكَ الذي كنّا نُحبّه… كأنّها لم تترك لي إلّا قطعةَ قماشٍ بالية، كنتُ أعتقدها مجرّدَ ذكرى، لكنّي أدركتُ لاحقًا… أنّها كانت (تصر حتى بعد رحيلها) على أن تُعلّمني بها القوّة.”
أسندَ نُعمان ذقنهُ إلى كفّه، وقال بصوتٍ أشبهَ بهمسِ القلب:
” جميلٌ أن يُربّى الإنسانُ على هذا النّوع من الحُب… حُبٌّ يمنحهُ جناحين، وإن كسَرَ الموتُ أحدَهما، ظلّ يُحلّقُ بالآخر.”
ثمّ سألها بعد تردّدٍ قصير:
” منى… هل تكتبين؟”
أجابت بدهشة:
” أكتب؟”
قال مبتسمًا:
” أقصد… هذا السّرد، طريقتكِ في الوصف، في الحنين، في استحضارها… إن دوَّنتِ هذا، سيهتزُّ له الكثيرون.”
لأوّلِ مرّة، ارتسمتْ على شفتيها ابتسامةٌ نقيّة، صافية، ليست مصطنعةً ولا بلهاء، بل تلك التي تُولد حين يُشعِركَ أحدٌ بقيمةٍ داخلكَ لم تكن تراها.
قالت:
” ربّما… ربّما سأبدأ بها. فهي أولى أن أُكتب عنها من أيِّ شيءٍ آخر.”
نهضَ نُعمانُ بخفّةٍ إلى غرفةٍ جانبيّة، وعادَ بدفترٍ صغيرٍ مغلَّفٍ بجلدٍ داكن، وقدّمه لها قائلاً:
” ابدئي بهذا، الآن.”
تردّدتْ لحظة، ثمّ أخذتهُ من يده، دون كلمة، لكنّ عينيها قالتا الكثير… كانت لحظةً خافتة، لكنها، في قلبِ كلٍّ منهما، كانت بدايةً لشيءٍ جديد… شعورٍ لم يُعلنْ نفسَه بعد، لكنّه وُلد.
في الرُّكنِ المُقابِلِ، لم يَحتمِلِ السَّيِّدُ أَحْمَدُ ذَاكَ الكَمَّ مِنَ الصِّدْقِ وَالعَاطِفَةِ… فَانْسَحَبَ بِهُدُوءٍ، وَتَرَكَهُمَا يَرْمِّمَانِ بَعْضًا مِمَّا أَفْسَدَهُ الزَّمَانُ عَلَيْهِمَا.
“أَمَّا السَّيِّدُ أَحْمَدُ، فَكَانَ يُشَارِكُهُمْ فِي كُلِّ أَمْسِيَةٍ شَيْئًا مِنْ اهْتِمَامَاتِهِ العِلْمِيَّةِ وَالمِهَنِيَّةِ، وَيَتْرُكُ لِمَلَامِحِهِ أَنْ تَبُوحَ عَنْ ذَاكَ الحُبِّ الكَبِيرِ الَّذِي احْتَلَّ حَيَاتَهُ، وَكَانَتْ مُنَىٰ أَجْمَلَ ثَمَارِهِ.”
“وَكَانَتْ تَرَاوِدُ ذَاكِرَتَهُ دَوْمًا قِصَّةً، بِكَلِمَاتٍ قَلِيلَةٍ تَخْتَصِرُ حَيَاتَهُ كُلَّهَا…”، سَيَرْوِيهَا لَهُمَا ذَاتَ يَوْمٍ، حِينَ يَأْتِي أَوَانُهَا، فَقَدْ وُلِدَ أَحْمَدُ فِي إِحْدَى الحَارَاتِ الضَّيِّقَةِ، حَيْثُ البُيُوتُ مُتَلَاصِقَةٌ كَأَسْرَارِ النَّاسِ، وَحَيْثُ الحُلْمُ لَا يُفْصِحُ عَنْ نَفْسِهِ إِلَّا هَمْسًا. كَانَ أَصْغَرَ إِخْوَتِهِ، يَحْمِلُ فِي عَيْنَيْهِ نَظْرَةً غَرِيبَةً، لَا تَشْبَهُ نَظَرَاتِ أَتْرَابِهِ. فِي طُفُولَتِهِ، لَمْ يُعْرَفْ عَنْهُ كَثْرَةُ اللَّعِبِ، بَلْ كَانَ يُرَىٰ غَالِبًا تَحْتَ ضَوْءِ الفَانُوسِ، يَتَصَفَّحُ كِتَابًا مُسْتَعْمَلًا، يَرَقُّ أَوْرَاقَهُ كَأَنَّهُ يُلَامِسُ حُلْمًا هَشًّا.
كَانَ يَخْطُو إِلَىٰ المَدْرَسَةِ بِثِيَابِهِ المُهْتَرِئَةِ، لَكِنَّهُ يَعُودُ كُلَّ يَوْمٍ بِكَلِمَاتِ ثَنَاءٍ تُدَوَّنُ فِي دَفْتَرِهِ أَكْثَرَ مِمَّا تُقَالُ فِي الصَّفِّ. تَفَوُّقُهُ لَمْ يَكُنْ ضَجِيجًا، بَلْ دَأْبًا صَامِتًا، مُضِيئًا كَفَتِيلٍ فِي عَتْمَةِ الفَقْرِ. وَلِأَنَّ الحَيَاةَ لَمْ تَكُنْ تَفْرِشُ الأَرْضَ لِأَحْلَامِهِ بِالْيَاسَمِينِ، عَمِلَ أَحْمَدُ مُنْذُ الصِّغَرِ: يُوَزِّعُ الخُبْزَ، وَيَنْسَخُ الأَوْرَاقَ عَلَى الآلَةِ الكَاتِبَةِ فِي مَكْتَبٍ صَغِيرٍ، وَيُسَاعِدُ شَيْخًا ضَرِيرًا فِي تَرْتِيبِ مَكْتَبَتِهِ مُقَابِلَ سَاعَاتٍ مِنَ القِرَاءَةِ المَجَّانِيَّةِ.
وَبَيْنَ العَمَلِ وَالدِّرَاسَةِ، ارْتَفَعَ أَحْمَدُ كَقَنْدِيلٍ فِي لَيْلَةٍ رِيفِيَّةٍ مُعْتِمَةٍ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ الثَّانَوِيَّةَ، صَارَ اسْمُهُ يَتَرَدَّدُ فِي المَدَارِسِ المُجَاوِرَةِ. وَمِنْحَةٌ دِرَاسِيَّةٌ كَانَتْ أُوَلَى بِشَائِرِ العَدَالةِ فِي حَيَاتِهِ — مِنْحَةٌ حَمَلَتْهُ إِلَى فَرَنسا، إِلَى جَامِعَاتِهَا العَرِيقَةِ، وَهُنَاكَ… انْفَتَحَتْ أَمَامَهُ أَبْوَابٌ لَمْ يَكُنْ يَتَخَيَّلُهَا.
فِي إِحْدَى قَاعَاتِ المَكْتَبَاتِ، التَقَى بِهَا. كَانَتْ مَايا، ابْنَةَ العَائِلَةِ الثَّرِيَّةِ، جَمِيلَةً لَا بِالتَّكَلُّفِ، بَلْ بِشَيْءٍ دَاخِلِيٍّ يَشْبِهُ الوُضُوحَ. كَانَتْ تَهْتَمُّ بِدِرَاسَتِهَا كَأَنْهَا تُرَمِّمُ شَيْئًا هَشًّا فِي رُوحِهَا. هُوَ، الشَّابُّ القَادِمُ مِنْ حَيٍّ مُتَوَاضِعٍ، لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ شَيْئًا لِيُبْهِرَهَا سِوَى نُبُوغِهِ، وَصِدْقِ حَدِيثِهِ، وَنَظْرَةِ عَيْنَيْهِ الَّتِي تَقُولُ مَا لَا يُقَالُ.
تَعَارَفَا… ثُمَّ أَحَبَّا.
وَلَمْ يَكُنْ حُبُّهُما نَزْوَةَ صَيْفٍ فِي بَارِيسَ، بَلْ نَبْتَةً نَمَتْ بَيْنَ دَفَاتِرِ الدِّرَاسَةِ، وَفِي الزَّوَايَا الصَّامِتَةِ مِنَ المَكْتَبَةِ، وَعَلَى الأَرْصِفَةِ الَّتِي عَرَفَتْهُمَا قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَا نَفْسَيْهِمَا.
عَرَّفَتْهُ إِلَىٰ وَالِدِهَا، الرَّجُلِ الَّذِي لَا يَثِقُ إِلَّا بِمَنْ تُبَرْهِنُهُ الأَفْعَالُ. وَكَانَ أَحْمَدُ أَهْلًا لِذَٰلِكَ. فَحِينَ عَادَ إِلَىٰ بَيْرُوتَ، وَالْتَحَقَ بِشَرِكَةِ البِنَاءِ الَّتِي يَمْلِكُهَا وَالِدُهَا.
“وَيَا لَلْمُفَارَقَةِ… فَقَدْ كَانَتْ تِلْكَ الشَّرِكَةُ ذَاتَهَا الَّتِي مَنَحَتْهُ البَعْثَةَ لِمُتَابَعَةِ دِرَاسَتِهِ، دُونَ أَنْ يَدْرِي أَحَدٌهُمَا أَنَّ خُيُوطَ القَدَرِ كَانَتْ تُنْسَجُ بِهُدُوءٍ مُنْذُ ذَٰلِكَ الحِينِ.”
لَكِنَّهُ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ غَيَّرَ مَلَامِحَهَا. أَدْخَلَ إِلَيْهَا مَا اخْتَزَنَتْهُ رُوحُهُ مِنْ عِلْمٍ وَفَهْمٍ، وَتَابَعَ المَشَارِيعَ بِحَمَاسٍ نَادِرٍ، وَسَهِرَ عَلَىٰ التَّفَاصِيلِ كَأَنَّهُ يَبْنِي بَيْتًا لِأُمِّهِ.وفي كل ذلك، لم يكن ينسى مايا، بل كانت هي السبب، والرفيقة، والنور الذي يتّبعه. حُبُّه لها لم يكن كلمات، بل كان سلوكًا ملموسًا، اهتمامًا يوميًا، وفاءً لا يلين، وتفانيًا نادرًا مع والدها، الذي لم يمضِ وقت طويل حتى صار ينظر إليه “…لا كمجرد شابٍ ملتزم ببنود منحة دراسية، بل كصهرٍ مستقبلي يُعوَّل عليه، ثم كابنٍ لم تلده يداه.”
17
ذَاتِ مَسَاءٍ فِي مَشْهَدٍ يَجْمَعُ بَيْنَ “حَدِيثِ الشُّرُوقِ” وَبَيْنَ مُنَى وَأَبِيهَا،
كانت الشَّمْسُ تَطِلُّ بِبُطْءٍ مِنْ خَلْفِ التِّلاَلِ، وَالسَّمَاءُ تَنارُ بِأَلْوَانٍ لَا تُسَمَّى. جَلَسَتْ مُنَى فِي الشُّرْفَةِ، تَتَأَمَّلُ صَمْتَ الأشْجَارِ وَاسْتِيقَاظَ الكَوْنِ، فِيمَا كَانَ وَالِدُهَا يَقِفُ عِندَ الحَافَّةِ، يَحْتَسِي قَهْوَتَهُ بِصَمْتٍ يَعْرِفُهُ جَيِّدًا. لَمْ تَكُنْ لَحْظَةَ صَمْتٍ عَادِيَّةً… بَلْ كَأَنَّ بَيْنَهُما شَيْئًا يُرِيدُ أَنْ يُقَالَ.
قالت مُنَى، بِصَوْتٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ التَّرَدُّدِ وَشَيْءٌ مِنَ الفَضُولِ:
” بَابَا… كَمْ أُحِبُّكَ! وَأُحِبُّكَ أَكْثَرَ وَأَكْثَرَ عِندَمَا تُحَدِّثني عَنْ ماما؟”
استدار نَحْوَهَا، نَظَرَ فِي عَيْنَيْهَا، وَابْتَسَمَ… تِلْكَ الابْتِسَامَةُ الَّتِي لَا تُرَى عَلَى الشِّفَاهِ بَلْ تُحَسُّ فِي الأعْمَاقِ.
” آه يا مُنَى! وَمَا الَّذِي لَا تَعْرِفِينَهِ عَنْهَا؟ أَمْ تُرِيدِينَ أَنْ تَعْرِفِي عَنْهَا شَيْئًا مُحَدَّدًا يَا بُنَيَّتِي؟”
” كُلُّ شَيْءٍ… لَكِنْ تَحْدِيدًا: كَيْفَ التَقَيْتُمَا؟ وَلِمَاذَا أَحْبَبْتُمَا بَعْضَكُمَا؟ وَمَا الَّذِي دَفَعَهَا لِتَخْتَارِكَ مِنْ بَيْنِ كُلِّ مَا كَانَ أَمَامَ عَيْنَيْهَا؟”
ضحكَ بِرِفْقٍ، ثُمَّ جَلَسَ قُبَالَتَهَا، وَوَضَعَ فِنْجَانَهُ عَلَى الطَّاوِلَةِ الصَّغِيرَةِ الخَشَبِيَّةِ، وَقَالَ:
” هِيَ لَمْ تَخْتَرْنِي مِنْ بَيْنِ الكُلِّ… وَأَنَا لَمْ أَخْتَرْهَا أَيْضًا، مَا كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَنَا هُوَ الَّذِي اخْتَارَ، فَقَدْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ، كُنْتُ أَنَا نَفْسِي أُحَاوِلُ أَنْ أَفْهَمَهُ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ الأَسْرَعَ فِي فَهْمِهِ وَتَفْسِيرِهِ وَتَبْرِيرِهِ وَالأَسْرَعَ فِي وَضْعِهِ فِي حَيِّزِ التَّنْفِيذِ. رُبَّمَا كَانَ نُبُوغِي، رُبَّمَا كَانَ صِدْقِي، أَوْ رُبَّمَا… لِأَنِّي كُنْتُ فَقِيرًا، “لَكِنَّ فَقْرِي لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَنْتَصِرَ عَلَيَّ، وَلَمْ يَقْدِرْ يَوْمًا أَنْ يَكْسِرَنِي.”
صَمَتَ لَحْظَةً، وَعَيْنَاهُ تَسْرَحَانِ فِي البَعِيدِ كَأَنَّهُ يُحَادِثُ ظِلَّ مَاضٍ لَا يَزَالُ دَافِئًا فِي قَلْبِهِ.
” اِلتَقَيْتُهَا فِي مَكْتَبَةِ الجَامِعَةِ فِي بَارِيسَ. كُنتُ عَائِقًا بَيْنَ رُفُوفِ الكُتُبِ، أَبْحَثُ عَنْ شَيْءٍ أَوْ عُنْوَانٍ يَرْبِطُ الهَنْدَسَةَ بِالفَلْسَفَةِ، لَمَّا سَمِعْتُ صَوْتَهَا وَهِيَ تَسْأَلُ عَنْ كِتَابٍ يَرْبِطُ بَيْنَ آدَابِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ بِالفَلْسَفَةِ. ضَحِكْنَا مَعًا فَقَدْ عَرَفَتْ أَنَّنِي أَدْرُسُ الهَنْدَسَةَ، وَعَرَفْتُ أَنَّهَا تَدْرُسُ اللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ، “…لَكِنَّ كُلًّا مِّنَّا كَانَ يَبْحَثُ عَنْ العُمْقِ البَعِيدِ فِي دِرَاسَتِهِ. وَتَعَارَفْنَا أَكْثَرَ حِينَ جَمَعَتْنَا لُغَةُ الوَطَنِ، وَجِرَاحُ الغُرْبَةِ الَّتِي كَانَتْ تَلِدُ لُغَةً أُخْرَى بَيْنَنَا. كَانَتْ بِنْتَ بَيْتٍ كَبِيرٍ، غَنِيَّةً، لَكِنَّهَا كَانَتْ مِنْ دَاخِلِهَا تَحْمِلُ النَّقَاءَ وَالبَسَاطَةَ الَّتِي لَا تَعْرِفُ وَلَا تَغْرُهَا المَظَاهِرُ.”
” وَجَدْتُ نَفْسِي أُحِبُّهَا بِسُرْعَةٍ؟”
قالت مُنَى وَهِيَ تَمِيلُ بِرَأْسِهَا:
” لَا، إِنَّهُ مَا كَانَ حُبًّا مِنْ نَظْرَةٍ أُولَى… بَلْ كَانَ حُبًّا مِنْ أَوَّلِ احْتِرَامٍ. أَوَّلِ إِعْجَابٍ بِالاهْتِمَامِ، بِالْهُدُوءِ، بِشَغَفِ كُلٍّ مِنْكُمَا بِالدِّرَاسَةِ.”
سَأَلَتْهُ بَعْدَ بُرْهَةِ صَمْتٍ:
” وَهِيَ؟ كَيْفَ حَبَّتْكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَعْرِفُ أَنَّكَ فَقِيرٌ؟”
تَرَاجَعَتْ مَلَامِحُهُ لِحَظَاتٍ، وَتَجَمَّعَتْ فِيهِ بُقَعَاتُ الزَّمَنِ التَّالِي، قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ بِصَوْتٍ هَادِئٍ، كَأَنَّمَا تَحْتَ سَطْوَتِهِ مَزَجٌ بَيْنَ الحَنَانِ وَالْتَحَفُّزِ:
” كَانَتْ تَعْرِفُ. وَوَجَدَتْ أَنَّهَا تُحِبُّنِي، دُونَ أَنْ يُصَرِّحَ بَعْضُنَا لِلْآخَرِ. قَالَتْ لِي مَرَّةً: ‘أَنتَ غَنِيٌّ، لَكِنْ بِطَرِيقَتِكَ.’”
وَجَمَعَ صَوْتُهُ هَجِيرًا مِنْ حُبٍّ وَحِسٍّ عَمِيقٍ وَهُوَ يَتَابِعُ:
” غِنَايَ كَانَ نُبُوغِيَّ، وَكَلِمَتِي، وَقَلْبِي. وَقَدَرْتَنِي… وَهَذَا كَانَ كُلَّ شَيْءٍ.”
سَكَتَ لِحَظَاتٍ، وَعَيْنَاهُ تَسْرَحَانِ فِي بَعِيدِ الذِّكْرَى، كَأَنَّهُ يَحْتَسِي لَحْظَاتٍ مَحَفَّةٍ بِالرَّوْعَةِ، قَبْلَ أَنْ يُحَدِّثَ بِصَوْتٍ أَخْفَضِ:
” مُنَى… ماما كَانَتْ هِيَ حُلْمِي، وَأَنَا كُنتُ حُلْمَهَا. وَالتَقَى حُلْمَانَا مَعًا بِوُجُودِكِ أَنْتِ، فَيَوْمَ قُدُومِكِ إِلَى هَذِهِ الدُّنْيَا، حَانَ هُوَ اليَوْمُ الحَقِيقِيُّ الَّذِي أَثْمَرَ فِيهِ حُبُّنَا، وَهُوَ الحَقِيقَةُ الوَحِيدَةُ الَّتِي جَمَعَتْ هَذَيْنِ الحُلْمَيْنِ.”
ابْتَسَمَتْ مُنَى، وَقَدْ بَلَّلَتْ عَيْنَاهَا بَعْضَ الضَّوْءِ الغَائِمِ. مَدَّتْ يَدَهَا نَحْوَ يَدِ أَبِيهَا، وَأَمْسَكَتْ بِهَا.
” وَأَنَا فَخُورَةٌ بِكُمَا. وَأَتَمَنَّى، إِذَا أَحْبَبْتُ يَوْمًا، أَنْ يَشْبِهَ حُبِّي حُبَّكُمَا.”
عَلَتْ وَجْهَ أَحْمَدَ ابْتِسَامَةُ سَعَادَةٍ، وَوَضَعَ كَفَّهُ عَلَى رَأْسِهَا بِحَنَانٍ:
” وَإِذَا صَارَ، فَسَتَكُونِينَ أَذْكَى مِنَّا كُلِّنَا، لِأَنَّكِ ابْنَتُنَا، وَابْنَةُ حُبٍّ لَمْ نَخَشْهُ يَوْمًا، بَلْ آمَنَّا بِهِ حَتَّى النِّهَايَةِ.”
صَمَتَتْ مُنَى لِحَظَاتٍ، وَفِي جَوِّ سَاكِنٍ غَارَقٍ فِي ضِياءِ الذِّكْرَى، تَفَجَّرَتْ فِي قَلْبِهَا حُسْنَ الأَمَلِ وَفَخْرَ الحُبِّ.