على أعتاب الحلم – الجزء 05

على أعتاب الحلم – الجزء 05
في مساءٍ هادئٍ من أمسياتِ الخريف، حيث كانت الرياح تُداعب أوراق الأشجار المصفرة، جلسَ نُعمانُ ومُنَى إلى الطاولةِ الخشبيةِ في زاويةِ المكتبةِ الصغيرةِ. كانت الأضواءُ خافتةً، وكأنَّ الليلَ نفسه ينسجُ صمته بعنايةٍ. أمامهما كانت أوراقُ الملاحظاتِ مفتوحةً، وبين يديهما أكوابٌ من القهوة الداكنة التي تعبّر عن مزاجٍ متأمِّلٍ، كما لو أنَّ كلَّ رشفةٍ تُصَفِّي الذهنَ وتُعِيدُ ترتيبَ الأفكار.

كان كلٌّ منهما يحملُ دفترًا خطَّ عليه رؤيتَه الخاصةَ لعملٍ روائيٍّ أثار إعجابهما: *”آنا كارِنينا”* لتولستوي. أدارَ نُعمانُ عينيه بحذرٍ بين الصفحاتِ، ثم بدأَ وهو يُقلِّبُ الصفحاتِ ببطءٍ وتؤدةٍ:

” عَنوَنتُ ملاحظاتي ب:

” آنا كارِنينا”* تأليف: ليو تولستوي، النشر: عام ١٨٧٧، التصنيف: دراما اجتماعية – تحليلٌ نفسيٌّ داخل مجتمعٍ أرستقراطيٍّ روسيّ.”

توقّف لحظةً، ثم تابع بصوته الواثق الذي يبعثُ على الاهتمام:

” تدور الروايةُ في فضاءٍ يموجُ بالتقاليدِ والرياء، وتتركّزُ على حكايةِ امرأةٍ متزوِّجةٍ تُدعى آنا، تقعُ في غرامِ ضابطٍ وسيمٍ يُدعى فرونسكي، فتمضي معه في طريقٍ محفوفٍ بالعارِ والعُزلةِ… حتى نهايتِها التراجيدية تحت عجلاتِ القطار.”

قاطعته منى بنبرةٍ دافئة، وكأنَّ كلماتها كانت حافزًا لفتح أفق جديد في الحديث:

” لكنّها ليست قصّة آنا وحدها، بل هي حكايةُ قلوبٍ متقاطعةٍ… أضفتُ ملحوظةً عن خطٍّ موازٍ لا يقلُّ أهمية: ليفين وكيتي. ليفين، تلكَ الشخصيةُ التي تقفُ كظلٍّ متأمّلٍ خلفَ كلِّ مشهد، رجلٌ يبحثُ عن المعنى وسطَ الضوضاءِ، يجدُ في كيتي مرافقةً تمسكُ بيده نحو صفاءِ الريف والإيمان.”

أومأ نُعمانُ برأسه موافقًا، ثم استأنفَ بتركيزٍ وهو يوجه نظراته إلى صفحاته:

” في قراءتي، شعرتُ أنّ تولستوي لم يكتبْ عن *خيانة*… بل كتبَ عن مأساةِ روحٍ لا تجدُ مكانَها. آنا ليست خائنةً، بل إنسانةٌ مُمزَّقةٌ بين الواجبِ والعاطفةِ، بين أن تكونَ أُمًّا وزوجةً، أو أن تحيا كامرأةٍ تُحِبُّ.”

وقفت منى، تناولت ورقتها، وأخذت تقرأ بتأمُّلٍ عميق، وكأنّ الكلمات تتسلل من بين شفتيها وتحمل معها عواطف مشبعة بالتعقيد:

” آنا امرأةٌ ذكيَّةٌ، آسرَةُ الحضور، لا تليقُ بها الحياةُ الباردةُ التي فرضها عليها زواجُها من كارِنين. سعتْ خلفَ حُلمِ الحبِّ، ولكنّها دفعت ثمنَه: نُبذًا، وغيرةً، وانهيارًا نفسيًّا تدريجيًّا… حتى سقطت تحت القطار، كما يسقطُ من لا يجدُ مَخرجًا من بين القضبان.”

رفع نُعمانُ إصبعه مشيرًا إلى صفحةٍ أخرى من دفتره، وأضاف بنبرةٍ متأملة:

” وأضفتُ تحليلاً عن فرونسكي… فارسُ الطبقةِ العليا، الذي ظنَّ أن الحبَّ نزهةٌ عاطفية، ثم ارتبكَ حين صارَ مسؤولًا عن حياةِ امرأةٍ نُبذتْ من أجلِه. لم يكن شريرًا، بل كان هشًّا، ضاعَ بين الشهوةِ والمجتمع، فخابَ وخابت معه آنا.”

سكت الجميعُ للحظاتٍ، وكان المكانُ كأنّه يطفو على أصداء كلماتهم، وكأنّ الحكاية كانت تُروى أمامهم للمرة الأولى. كانت منى تتأمل في كلمات نُعمان، بينما كان والدها، الذي كان يستمع باهتمام، يغمض عينيه برهة، وكأنّ الجمال يكمن في استيعاب المعنى أكثر من مجرد طرحه. سألته منى بعد فترة صمت:

” أبي، هل تعتقد أنَّ آنا كانت تستطيع أن تجد طريقًا آخر؟ هل كانت تستطيع أن تعيش حياتها خارج هذا الصراع؟”

أجاب والدها، وقد بدا وكأنّه يزن كلماته بعناية، وهو يبتسم ابتسامةً مختلطةً بالتفكير العميق:

” ربما، ولكنَّ صراعها كان صراعًا إنسانيًّا بحتًا… بين الخوف من المجهول، والجرأة على التغيير. قد تكون قد اختارت الطريقَ الذي يجعلها تواجه حظّها بنفسها، ولكنّ الحقيقة أنّها كانت تبحث عن شيءٍ أعمق، ولم تجد إلا الفجوة بين تطلعاتها وواقعها.”

صمت الجميع، وحين كانت القهوة قد قاربت على الانتهاء، كانت عيونهم قد امتلأت بشيءٍ من التفاهم العميق، وكأنّ كلَّ كلمة قد أضاءت جانبًا خفيًّا في نفوسهم، لتزيدهم إدراكًا لحقيقة الحكاية المخبأة وراء السطور.ابتسمت منى، وأشارت بقلمها قائلة: ” أما زوجُها كارِنين، فكانَ البردُ ذاته… لا يُحِبُّ، لا يَكره، يزنُ الأمورَ بعينِ المجتمعِ لا القلب. عجزَ عن احتواءِ آنا، ولم يُنقذها يومَ استطاع، لكنه أيضًا لم يُدمّرها عن قصد.”

ثم أضافا سويًّا، وهما ينظران إلى خلاصةٍ مشتركة:

ثم همست منى، كأنّها تستعيدُ نغمةً خفيَّةً من الرواية: ” ليفين كان شيئًا آخر… أقربَ إلى تولستوي نفسه. رجلٌ يسأل: “لماذا نحيا؟”، فيكتشفُ الجوابَ في زرعِ الأرضِ، وفي حبٍّ متواضعٍ، وإيمانٍ لا يحتاجُ إلى خطبٍ ولا كنائس.”

سكتَ الاثنان لحظةً، تأمّلا خلالها خريطةَ الرموزِ التي شكّلاها سويًّا:

🚂 القطار: رمزٌ للقدرِ، للحداثةِ التي لا ترحم، وللشغفِ الذي يدهسُ كلَّ شيءٍ. 🌿 الريف مقابل المدينة: المدينةُ مكانُ الزيفِ والضجيج، والريفُ حقلُ الطمأنينةِ والصدق. ♻️ الثنائيات المتقابلة:

أغلقت منى دفترها، وقالت بهدوءٍ: ” ليست روايةَ خيانةٍ فقط… بل مرآةٌ واسعةٌ للروحِ الإنسانيَّة… كأن تولستوي يهمس: أن تحبَّ، معناه أن تمشي على حدِّ السيف… وأن تسأل: لماذا نحيا؟”

أجابها نُعمان بابتسامةٍ تأمُّلية: ” وعلى أعتابِ هذا السؤال، تبدأ كلُّ روايةٍ… وربّما تبدأ الحياة.”

في زاويةٍ نائيةٍ من المقهى، حيثُ كانت شجرةُ جوزٍ عتيقةٌ تَبسُطُ ظلَّها كأنّها تحنو عليهما، جلسا متقابلَينِ، بينَهما فنجانانِ من القهوةِ لم تَبرُد بعد، وصمتٌ طيّعٌ يسمحُ للأسئلةِ أن تولدَ بلا عوائق. نظرت إليه مُنى بعينينِ نصفِ عاتبتين، نصفِ مازحتين، ثم سألت، وفي صوتِها ما يُشبهُ الرِّيشةَ وهي تختبرُ سطحَ الماء:

” وهل قرأتَ من هو تولستوي؟”

لم يُخطِئ نُعمانُ نبرةَ الامتحانِ الخفيفِ في سؤالِها، ولا تلكَ اللمعةَ المُشاغبةَ التي لم تكن تخفي إعجابًا خفيًّا، بل تفتحهُ كما تُفتَحُ نافذةٌ نحو الريح. ابتسم، ثم ارتشفَ رشفةً صغيرةً من قهوته، كأنّه يستدعي عبرها طيفًا بعيدًا، وقال بصوتٍ هادئٍ كأنّه يُزيحُ الستارَ عن مشهدٍ يُحبُّه:

” ليو تولستوي، أو بالحريّ ليف نيكولايفيتش تولستوي، ليس مجرّدَ كاتبٍ روسيٍّ عظيم… بل هو نَفَسٌ من أنفاسِ الأدبِ الإنسانيِّ كله. كأنّهُ رَجُلٌ كُتِبَ له أن يعيشَ أكثرَ من حياةٍ، في حياةٍ واحدةٍ.”

أسند ظهرَه إلى الكرسيّ، وبدا كأنّه يُحدّثُها ويحدّثُ نفسَه في آنٍ، ثم تابعَ بنبرته التي تجمعُ بين الحماسةِ والسكينة:

” وُلِدَ عامَ ١٨٢٨م، وتُوفِّي في ١٩١٠م. كان روائيًّا، وفيلسوفًا، ومُصلحًا اجتماعيًّا. تمرَّد على طبقته الأرستقراطيّة، ونزلَ إلى الأرضِ يبحثُ عن البساطةِ والمعنى في العملِ اليدويِّ، في الترابِ، في العرقِ لا الياقاتِ. وفي آخرِ أيامهِ، تركَ ثروتهُ ومجدَه الأدبيّ، وغادرَ بيتَه سرًّا، وماتَ في محطّةِ قطارٍ نائيةٍ… كأنّهُ أرادَ أن يُغادِرَ الحياةَ بلا ألقابٍ، بلا ضجيجٍ، فقط بِقُربِ الأرض.”

أحسّت منى برجفةٍ خفيفةٍ تمرُّ على جلدِ ذراعِها، لم تكن من البرد، بل من وقعِ السرد. همست وكأنها تستوضح:

” وهل كان سعيدًا، وهو يتركُ كلَّ ذلك؟”

أجابها دونَ تردُّد، بصوتٍ أخفض قليلاً:

” لا أدري… لكنّه بدا وكأنّه يُريدُ أن يموتَ في سلامٍ، لا في انتصار.”

أخذَ نَفَسًا خفيفًا، وراحَ يُحرِّكُ أصابعه على طاولةِ الخشبِ، كأنّهُ يُنقِّبُ في درجٍ قديمٍ من الذكريات، ثم قال:

” أشهرُ أعماله؟ الحربُ والسَّلام، تلك الملحمةُ التي تَصِفُ روسيا في زمنِ نابليون، وآنا كارنينا، الروايةُ التي جعلتني أكرهُ القطارَ قليلًا، والبعث، حيثُ أرادَ أن يُبعثَ هو نفسُه، لا فقط شخصياته. وله أيضًا قصصٌ قصيرةٌ مثل موت إيفان إيليتش، وكم يعيشُ الإنسان، والشيطان…”

قاطعتهُ مُنى، وقد بانَ الفضولُ في صوتها كأنّه طفلٌ يركضُ خلف فراشة:

” وماذا أحببتَ أكثر؟ أيُّ عملٍ بقيَ فيك؟”

ابتسم ابتسامةً هادئةً، ونظر إليها كأنّه يعترف:

” ربما موت إيفان إيليتش… لأنّه يُعلِّمنا أن نموتَ بصدقٍ، لا بإنكارٍ.”

ثم عاد ينظر إليها مليًّا، بعينينِ تتحدّثانِ من غيرِ كلمات، وقال:

” لكنّ الأهمَّ، هو أنّه في أواخرِ عمره، آمنَ بشيءٍ أسماه (المسيحيّة الأخلاقيّة البسيطة… (دعوةٌ إلى الزهد، واللاعنف، والعملِ باليد، ومقاومةِ الشرِّ بالخير. وقد أثّرَ بفكرِه ذاك على غاندي، ثم على مارتن لوثر كينغ. كتبَ أدبًا، ثم عاشَ دعوته، ثم مات كما عاش: في الهامش، لا في القصر.”

مالَ برأسه قليلًا نحوها، وقد لانت ملامحُه بجرعةٍ من الدعابة، وختم:

” فهل تظنّينني قرأتُ ما يكفي يا عزيزتي؟ أم كنتِ تختبرينني؟”

ضحكت منى، وضحكتها كانت تُشبهُ المطرَ الأولَ في موسمٍ قاحل، رقراقةً، خفيفةً، صادقةً. ثم نظرت إليه، وقالت، وعيناها تتلألأُ بدهشةٍ راضية:

” بل قرأتَني، قبل أن تقرأَ لي، يا نُعمان…”

قالتْ مُنى، وهي تُقلّب بين أصابعها ملعقةً صغيرةً، كأنّها تُنقّب في ذاكرتِها:

” حَسَنًا، إذًا… فَهَلْ لكَ أَنْ تُذَكِّرَني بِأَهَمِّ الكُتّابِ الرُّوسِ العالَمِيِّين؟”

ابتسم نعمان لِسُؤالِها، كأنّهُ نداءٌ قديمٌ يعرفُهُ جيّدًا. نظر في عينيها، ثمَّ قال، وكأنّه يستعرضُ قاعةً فَخْمَةً من العظماء:

” بِكُلِّ سُرورٍ… فَهُم عالَمٌ لا يُملُّ من زيارَتِه.”

أسند وجهَه إلى راحةِ يدِها، وأصغَتْ بكاملِها، فتابع:

” فيودور دوستويفسكي (١٨٢١–١٨٨١) ” هو فيلسوفُ النفسِ المُعَذَّبة، وسيِّدُ الأسئلةِ الكبرى. كتبَ الجريمةَ والعِقابَ، والأخوةَ كارامازوف، والأبلهَ. لا أحدَ كما أظنُّ نَبَشَ في أعماقِ الإنسانِ كما فعل.”

” ليو تولستوي (١٨٢٨–١٩١٠ (الفيلسوفُ الرُّوائي، الذي نَثَرَ الفِكرَ والأخلاقَ في الأدب. من الحربِ والسَّلام إلى آنا كارنينا، ومرورًا بموتِ “إيفان إيليتش”، كانت روحُه تتقلّب بين الإيمانِ والتمرُّد، بين الزهدِ والتأمُّل.”

” أنطون تشيخوف (١٨٦٠–١٩٠٤) ” الطبيبُ الذي شَفَى بالكلماتِ جُروحًا صامتة. كتبَ بُستانَ الكرز والنُّورس ومئاتِ القصصِ القصيرة. ببساطتِه العميقةِ طرحَ أسئلتَنا نحن، دون أن يدَّعي الإجابة.”

” نيقولاي غوغول (١٨٠٩–١٨٥٢( “أبُ السُّخريةِ السوداء. تخيَّلي أنّه كتبَ عن أنفٍ يفِرُّ من وجهِ صاحبه، وعن معطفٍ يُغيِّر مصيرًا. من النفوسِ الميتة إلى عبثِ الحياة، مزَجَ بين الخيالِ والوجع.”

” إيفان تورغينيف (١٨١٨–١٨٨٣) ” الرُّومانسيُّ الحزين، أكثرهم انفتاحًا على الغرب. في الآباءِ والبنون، سجَّلَ صراعَ الأجيالِ كما لم يفعل أحد. كانَ شاعرًا حتّى حين يكتبُ نثرًا.”

” ألكسندر بوشكين (١٧٩٩–١٨٣٧) ” مؤسِّسُ الأدبِ الرُّوسيّ الحديث، شاعرٌ ومسرحيٌّ وناثر. أثرُهُ يسبقُ عُمرَه. يكفي أنْ تقرئي يفغيني أونيغين لتعرفي أنّهُ من منحَ الرُّوس لغتَهم الأدبيّةَ الحيَّة.”

” ألكسندر سولجينيتسين (١٩١٨–٢٠٠٨) ” الصوتُ الجريءُ في زمنِ الخوف. كتبَ يومًا في حياةِ إيفان دينيسوفيتش، وفضَحَ بجرأةٍ في أرخبيل غولاغ أهوالَ المعسكراتِ السوفيتية. وقد نالَ على ذلك جائزةَ نوبل للآداب.”

رفع حاجبَيَّه قليلًا ثم أردف، كمن يُلخِّصُ قرنًا كاملًا في سطرٍ واحد:

” هؤلاءِ لم يكتبوا لِيُسلُّوا فقط، بل لِيَسألوا: لماذا نحيا؟ ولمن؟ وكيف نُحِبُّ ونحنُ مُثقلونَ بهذا العالم؟”

ابتسمتْ منى، ثم قالت برفقٍ:

” أَتَعْلَم؟ لعلَّ هذا ما يجعلُ أدبَهم يَبْقَى… لأنَّهُ يَسْأَلُنا، لا يُجيبُ عنَّا”

في مساءٍ لم يكنَ مساءً استثنائيًّا في دمشق، لكنّ بعضَ الأمسياتِ – وإن تشابهَتْ تفاصيلُها – تُخفي بينَ طيّاتِها ما لا يُقال، وتُسطِّرُ ما لا يُكتَب.

عادَ نُعمانُ من معهدِه، حيثُ يدرسُ الرَّسمَ الهندسيَّ والمعماريَّ، بخطواتٍ ثقيلةٍ، كأنَّ اليومَ علّقَ أثقالَه في كعبِ حذائِه. كانت رائحةُ الورقِ والحِبرِ ما تزالُ عالقةً بكفِّه، وصوتُ الدكتورِ المُهندسِ يُلاحقُه في ذهنِه، يُردِّدُ تعليماتٍ لا تنتهي، ومَهامًّا تَلتَهِمُ الوقتَ كحطبٍ في موقدِ الشتاءِ.

جلسَ في الصالة، والبيتُ غارقٌ في هدوءٍ ناعم، لا يُكسرهُ إلّا ضوءٌ أصفرُ خافتٌ، ينسكبُ من مصباحٍ قديمٍ في الزاوية، ويمنحُ الأشياءَ ظلًّا يشبهُ الذكرى.

تمدَّدَ على الأرِيكةِ، وأمسكَ بالروايةِ التي تركَها صباحًا على الطاولة: آنا كارِنينا. فتحَ الصفحةَ حيثُ توقّفَ، وأخذَ يُقلِّبُ العباراتِ بعينيه، لا بعقلِه، كأنَّهُ يقرأُ صورًا معلّقةً على جدارِ الذاكرةِ، لا سطورًا على ورق.

في تلكَ اللحظةِ بالضبط، أطَلَّت مُنى من بابِ المطبخِ، تمسحُ يديها بطرفِ المِئزر. توقَّفَتْ حينَ رأت عينيه غارقتَينِ في الصفحات، لم تَقُل شيئًا، اقتربَتْ فقط، وجلسَتْ قريبةً منه، كأنّها تنتظرُه أن يُنهيَ جملةً… أو تنهيدة.

همسَت، بصوتٍ أقربَ إلى النَّفَس، لا يُخاطبُه بل يُخاطبُ الروايةَ التي بينَ يديهِ:

” نُعمان… هل كنتَ ستتهربُ منّي لو كنتُ مثلَ آنا كارِنينا؟”

رفعَ عينيهِ عنها ببطءٍ، كأنّهُ يعودُ من عالَمٍ بعيدٍ ما زالتْ ظلالُه تُحيطُه، ثمّ قال، وصوتُه يحملُ بقايا الحبرِ والرُّؤية:

” هجرَها مَن حولَها، يا مُنى… هي فقط لم تجدْ من يحتضنُ خوفَها.”

اقتربَتْ أكثر، وتطلّعتْ إلى غلافِ الرواية بينَ يديهِ، كأنّها تُحاولُ أن تُمسكَ بخيطِ تلكَ المرأةِ الورقيّة:

” لكنَّها هربَتْ… من ابنِها، من زوجِها، من كُلِّ شيء. أما تظنُّ أنّها كانت أنانيّة؟”

تنفّسَ نُعمانُ ببطءٍ، كمن يُعيدُ ترتيبَ أفكارِه بينَ ضلعَيه، ثمّ قال:

” ربّما… لكنَّ الألمَ، أحيانًا، يجعلُ الأنانيّةَ تبدو كأنّها نَجاة. كانتْ تبحثُ عن دفءٍ لم تعرفْه، عن عينٍ تُراها، عن صوتٍ يُخاطبُها لا يُحاكمُها.”

خفضَت منى رأسَها، وهمسُها اختلطَ بنبضِها، كأنّها تسألُ العالمَ لا نُعمان:

” وهل نحنُ النساءُ لا نُرى، إلّا إذا تمرّدنا؟”

في تلكَ اللحظة، أطلَّ والدُها من الممرِّ بصمتٍ خفيف، يحملُ بيدهِ كوبَ شايٍ، توقّفَ عندَ البابِ، يتأمّلُ ما يدورُ، دونَ أن يقاطع. كان يصغي بعينَينِ تعرفانِ تمامًا أنّ الحديثَ ليس عن روايةٍ فحسب، بل عن شيءٍ أعمق.

نظرَ نُعمانُ في عينيها طويلًا، ووضعَ الروايةَ جانبًا، ثمّ قال بهدوءٍ مُمتزِجٍ بالصدق:

” لا… بل أظنُّ أنّ بعضَ المجتمعاتِ تُتقِنُ إغماضَ عينَيها عنكنّ، حتى تصرخنَ… وعندها فقط، تراكنّ كتهديدٍ، لا ككائنٍ يُريدُ أن يُحَب.”

هزَّ والدُ منى رأسَه بتنهيدةٍ خفيفة، ثم جلسَ قبالتهما بصمتٍ. سألَها، وقد لاحظَ ارتعاشةً صغيرةً في صوتِها:

” تخافينَ من مصيرها؟”

أجابتْ مُنى، وصوتُها يحملُ وجعًا شفيفًا:

” أجل، أخافُ منه… ليس لأنّها انتهتْ تحتَ القطار، بل لأنّها لم تجدْ من يُمسِكُ يدَها قبلَ أن تقفِز.”

قال نُعمانُ، بنبرةٍ دافئةٍ، تمسحُ على قلبِها:

” لو كنتِ آنا، لكنتُ ليفين… ذاكَ الذي يبقى، لا فرونسكي المُتعب من الحبِّ والعجز.”

ابتسمَت منى، وفي ابتسامَتِها ظلُّ وجومٍ، كما لو أنّها تقرأُ نهايةَ كتابٍ وتخشاها، ثمّ قالت:

” إذن… اقرأني كما تقرأُ هذه الصفحات، لكن… لا تترك نهايتي مفتوحة.”

مدَّ نُعمانُ يدَه نحو يدِها، بصمتٍ طويلٍ، ثمّ قال بصوتٍ يشبهُ المطرَ على زجاجٍ:

” الحبُّ لا يُكتَبُ بنهاية… نحنُ مَن يضعُ النُّقطةَ، أو يُبقيها معلّقةً.”

تبادلَ الثلاثةُ نظراتٍ صامتةً، لكنّ الصمتَ لم يكن فراغًا. كان لحظةً مُمتلئةً بما لا يُقال، كما لو أنّ الجُملةَ التاليةَ قد انكتبت، لا بالحبرِ، ولا بالورقِ… بل من نظرةٍ، ونَفَسٍ، وقلبٍ يعرفُ أنَّ الحياةَ، مثلَ الرواياتِ العظيمة، لا تنتهي حين نُغلقُ الصفحة.

بينَما كانتِ النَّسائِمُ النّاعِمَةُ تَتَسَلَّلُ عَبْرَ نافِذَةِ الغُرْفَةِ، وَيَشْحَبُ ضَوْءُ القَمَرِ حَزينًا بَيْنَ غَيْماتٍ مُتَفَرِّقاتٍ، وَتَقْبَعُ أَسْئِلَةٌ حَيْرَى مِنْ وُضُوحِ بَعْضِ التَّفاصِيلِ، كانَ نُعمانُ يَنْسَحِبُ بِهُدُوءٍ إِلى غُرْفَتِهِ، بَعْدَ أَنْ وَدَّعَ مُنى بِابْتِسامَةٍ خَفيفَةٍ.

أَغْلَقَ البابَ خَلْفَهُ، وَأَخَذَ نَفَسًا عَميقًا، وَكَأَنَّهُ يُفْضي إِلى نَفْسِهِ بِشَيْءٍ مِنَ السَّلامِ. جَلَسَ عَلَى حافَّةِ السَّريرِ، وَأَرْخى جَسَدَهُ المُتْعَبَ، مُحاوِلًا أَنْ يُفَرِّغَ عَقْلَهُ مِنْ تِلْكَ الأَفْكارِ الَّتي كانَتْ تَدُورُ طِوالَ الوَقْتِ في مُحيطِهِ، كَأَنَّها دَوّامَةٌ لا تَنْتَهي.

نُعمانُ في نَفْسِهِ:

” هَلْ كانَتْ كَلِماتُها تَعْني شَيْئًا آخَر؟”

ثُمَّ ابْتَسَمَ ابْتِسامَةً عابِرَةً:

” بالطَّبْعِ… إِنَّها مُنى، لا تَتْرُكُنِي أَبَدًا دُونَ أَنْ تَذْرَعَ فِيَّ زَخَمًا مِنَ التَّساؤُلاتِ، وَكَأَنَّ حَديثَها يُثيرُ فِيَّ أُفُقًا جَديدًا لِلنَّظَرِ في كُلِّ شَيْءٍ.”

أَغْمَضَ عَيْنَيْهِ لَحْظَةً، وَعادَ يَتَذَكَّرُ حِوارَهُما عَنِ الكُتّابِ الرُّوسِ. تِلْكَ الأَسْماءُ الَّتي سَقَطَتْ مِثْلَ قَطَراتِ المَطَرِ في فِكْرِهِ، فَكانَ يَلْتَقِطُها واحِدًا تِلْوَ الآخَرِ، ثُمَّ يُواصِلُ سِباحَتَهُ في أَعْماقِهِم. تَذَكَّرَ عِباراتِ تولستوي عَنِ الخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَعِشْقِهِ لِفَهْمِ النَّفْسِ البَشَرِيَّةِ. ثُمَّ تَساءَلَ في سِرِّهِ:

” هَلْ كانَ كُلُّ هؤُلاءِ يَبْحَثُونَ عَنِ نَفْسِ الجَوابِ الَّذي أَبْحَثُ عَنْهُ؟ هَلْ نَحْنُ جَميعًا نُحاوِلُ أَنْ نَحُلَّ لُغْزَ الحَياةِ بِنَكْهَةِ الأَدَبِ؟”

ثُمَّ تَذَكَّرَ كَلِماتِ مُنى، وَهي تَسْأَلُهُ عَنِ الكُتّابِ الرُّوسِ. كانَ صَوْتُهُ في أُذُنِهِ الآنَ يُجيبُها، يَتَدَفَّقُ بِارْتِياحٍ عَلَى لِسانِهِ:

” الكُتّابُ الرُّوسُ لَمْ يَكْتُبُوا لِلتَّرْفيهِ فَقَط، بَلْ طَرَحُوا أَسْئِلَةَ الوُجودِ، أَسْئِلَةً تَخُصُّنا جَميعًا… نَحْنُ مَنْ يَقْرَؤُهُمْ، وَنَحْنُ مَنْ يَسْتَمِرُّ في البَحْثِ.”

وَلَكِن… هَلْ كانَ صَوْتُهُ يُعَبِّرُ عَنْ قَناعَةٍ تامَّةٍ؟ أَمْ أَنَّهُ كانَ يَعْكِسُ صُورَةً مِثاليَّةً عَنْ أَنْفُسِهِم، عَنْ شَخْصِيّاتِهِمُ الأَدَبِيَّةِ الَّتي أَصْبَحَتْ في نَظَرِهِ أَكْثَرَ مِنْ مُجَرَّدِ أَسْماءٍ؟

عِنْدَما اسْتَلْقى عَلَى السَّريرِ، كانَ الضَّوْءُ الخافِتُ لِلْمِصْباحِ بِجانِبِهِ يُشَكِّلُ لِظِلالِهِ الرّاقِصَةِ عَلَى الجِدارِ أَشْكالًا غَريبَةً، وَكَأَنَّها تَسْرَحُ في أَفْكارٍ لَمْ تُكْتَبْ بَعْدُ. سَحَبَ غِطاءَ السَّريرِ عَلَيْهِ بِبُطْءٍ، وَشَعَرَ بِشَيْءٍ مِنَ الهُدُوءِ يَتَسَلَّلُ إِلى قَلْبِهِ، وَلَكِنَّ أَفْكارًا أُخْرى لا تَلَبَثُ أَنْ تَعودَ.

نُعمانُ في نَفْسِهِ:

” هَلْ سَأَظَلُّ دائِمًا في هَذا البَحْثِ المُسْتَمِرِّ؟”

تَنَهَّدَ، ثُمَّ أَكْمَلَ التَّفْكيرَ:

” هَلْ وَصَلْتُ إِلى مَرْحَلَةٍ أَصْبَحَ فيها الحُلْمُ أَكْثَرَ مِنْ مُجَرَّدِ طُموحٍ؟ إِنَّهُ حاجَةٌ ماسَّةٌ، حاجَةٌ لأَنْ أَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ مُجَرَّدِ شابٍّ يَرْكُضُ خَلْفَ الحَياةِ… أُريدُ أَنْ أَفْهَمَ! أُريدُ أَنْ أَكُونَ… شَيْئًا آخَرَ، شَيْئًا أَفْضَل!”

في تِلْكَ اللَّحْظَةِ، صَوَّبَ نَظَرَهُ نَحْوَ سَقْفِ الغُرْفَةِ، حَيْثُ كانَتْ هُناكَ لَوْحَةٌ تُمَثِّلُ الغُروبَ عَلَى الجُدْرانِ، كَأَنَّها تُحاكي مَعالِمَ رِحْلَةٍ طَويلَةٍ كانَ قَدْ مَرَّ عَلَيْها. وَتَساءَلَ في سِرِّهِ:

” هَلْ هَذا هُوَ ما يَتَبَقّى بَعْدَ أَنْ يَمُرَّ العُمْرُ؟ أَسْئِلَةٌ لا تَنْتَهي، وَلا أَجْوِبَةَ واضِحَة؟”

وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ أَنْ يَسْتَسْلِمَ لِلنَّوْمِ أَخِيرًا، إِذْ تَلاشَى الأُفُقُ بِبُطْءٍ في رَأْسِهِ، وَتَرَكَتْ لَهُ الأَضْواءُ الباهِتَةُ عَلَى الجُدْرانِ ذُهولًا هادِئًا.

أَمَّا في غُرْفَةِ مُنى، فَكانَتْ تُطْفِئُ ضَوْءَ المِصْباحِ الخافِتِ بِجانِبِ سَريرِها، وَتَسْتَلْقِي عَلَى الوِسادَةِ بَعْدَ يَوْمٍ طَويلٍ. كانَتْ أَفْكارُها تَتَنَقَّلُ بَيْنَ ما قالَهُ نُعمان، وَبَيْنَ الهَمَساتِ العَميقَةِ الَّتي عَكَسَتْ مَشاعِرَها تِجاهَ حَديثِهِ.

تَذَكَّرَتْ تَفاصيلَ تَعْبيراتِهِ حِينَما ذَكَرَ أَسْماءَ الكُتّابِ الرُّوسِ، تِلْكَ الَّتي جالَتْ في ذاكِرَتِها أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ. وَلكِنْ، ما كانَ يُثيرُها أَكْثَرَ، هُوَ ذَلِكَ البَريقُ في عَيْنَيْهِ حِينَما تَحَدَّثَ عَنْ فَلْسَفَاتِهِم.

مُنى في نَفْسِها:

” هَلْ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ لِهَذا الشَّابِّ كُلُّ هذِهِ الأَفْكارِ الَّتي تَحْتَفِظُ بِها ذاكِرَتُهُ؟”

ثُمَّ ابْتَسَمَتْ بِخَجَلٍ:

” رُبَّما كُنْتُ أُخْطِئُ في تَقْديرِهِ… إِنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ مُجَرَّدِ شَخْصٍ طَموحٍ… إِنَّهُ إِنْسانٌ مَلِيءٌ بِالأَحْلامِ، يَعُجُّ بِأَفْكارٍ غَيْرِ مَأْلُوفَةٍ.”

تَذَكَّرَتْ ضِحْكَتَهُ حِينَما قالَتْ:

” الكُتّابُ الرُّوسُ لَمْ يَكْتُبُوا لِلتَّرْفيهِ فَقَط…”

وَكانَ صَوْتُهُ في أُذُنِها يُعيدُ نَفْسَ الكَلِماتِ، كَما لَوْ كانَتْ تَتَرَدَّدُ داخِلَ رَأْسِها. كانَتْ تَشْعُرُ بِأَنَّ حَديثَهُ عَنْهُم كانَ نَوْعًا مِنَ الهُرُوبِ إِلى عالَمٍ أَكْثَرَ اتِّساعًا، عالَمٍ بَعيدٍ عَنِ الأَجْواءِ اليَوْمِيَّةِ، وَلَكِنْ في ذاتِ الوَقْتِ، كانَ يَتَحَدَّثُ وَكَأَنَّما يُشيرُ إِلى نَفْسِهِ أَيْضًا.

مُنى في نَفْسِها:

” أَهُوَ حَقًّا يَبْحَثُ عَنْ نَفْسِهِ في الأَدَبِ كَما يَقولُ؟ أَمْ أَنَّهُ يُحاوِلُ أَنْ يَجِدَ مُبَرِّرًا لِكَيْ يَحْيا؟”

ابْتَسَمَتْ، ثُمَّ أَغْمَضَتْ عَيْنَيْها:

” رُبَّما… رُبَّما تَكُونُ إِجابَةُ كُلِّ شَيْءٍ في تِلْكَ الحُرُوفِ، في تِلْكَ الكُتُبِ…”

وَأَخِيرًا، راحَتْ تَتْرُكُ نَفْسَها لِلرّاحَةِ الَّتي طالَما كانَتْ تَنْتَظِرُها.

هَكَذا كانَ اللَّيْلُ يَنْسَحِبُ في هُدُوءٍ، كُلُّ واحِدٍ مِنْهُما يَغْرَقُ في أَفْكارِهِ، كُلٌّ يَبْحَثُ عَنْ ذاتِهِ في الحُلْمِ، وَعَنْ سُبُلٍ جَديدَةٍ لِلْخُروجِ مِنْ دَوّامَةِ الحَياةِ، مُنْتَظِرًا فَجْرًا جَديدًا قَدْ يَأْتِي بِالإِجابَةِ.

في غرفته أغمضَ نُعمانُ عينيه، واستسلمَ للنومِ، لكنّه لم يغرقْ في سكونٍ تامٍّ، بل انفتحَ أمامهُ مشهدٌ غريبٌ، كأنّهُ واقفٌ على شُرفةٍ عاليةٍ تُطِلُّ على مدينةٍ مغمورةٍ بالضبابِ. كانَ كلُّ شيءٍ من حولِه رماديًّا، والناسُ يسيرونَ في دوائرَ متقاطعةٍ، لا ينظرُ أحدٌ إلى أحدٍ. في يدِه كتابٌ مفتوحٌ، ولكنَّ الحروفَ كانت تنسابُ منهُ كالماءِ، تختفي، ثمّ تعود، ثمّ تتبعثرُ من جديدٍ. حاولَ أن يقرأَ، أن يفهمَ، أن يُمسكَ بجملةٍ واحدةٍ، لكنَّ الصفحاتِ كانت تُقَلَّبُ من تلقاءِ نفسِها، بسرعةٍ تُربكُ البصرَ، كما لو أنّ الزّمنَ يُخاصمُ الفهمَ.

وفجأةً، ظهرتْ مُنى من بينِ الجموعِ، ترتدي وشاحًا أحمَرَ، وتنظرُ إليه من بعيدٍ، دون أن تقتربَ. أرادَ أن يُناديَها، لكنَّ صوتَه خذلَه، وأرادَ أن يركضَ نحوَها، غيرَ أنَّ قدميهِ غاصتا في الأرضِ، كأنّهما تَجَذَّرَتا في الخوفِ.

وبينما هو يُقاوِمُ، سمعَ صوتًا ناعمًا يأتي من خلفِه، يقولُ: “لَيسَ كُلُّ مَن قرأَ، فَهِمَ… ولَيسَ كُلُّ مَن فَهِمَ، نَجا…” التفتَ، فلم يَرَ أحدًا، بل رأى مرآةً كبيرةً تقفُ حيثُ كانَ الصوتُ، يرى فيها صورتَه تتشظّى إلى وجوهٍ عدّةٍ، بعضُها يُشبهُه، وبعضُها لا.

مدَّ يدَه إلى المرآةِ، فإذا بها تتشقّقُ، وتسقطُ به في هوّةٍ سحيقةٍ لا قعرَ لها، تتردّدُ فيها ذاتُ العبارةِ القديمةِ: “أأَنتَ تَبحثُ عن الحياةِ؟ أم تَهربُ منها؟”

وفي غرفةٍ أُخرى، كانَ السُّكونُ قد احتضنَ مُنى، وأغمضتْ عينيها بعدَ يومٍ ثقيلٍ، غيرَ أنَّ الحلمَ فَتحَ لها بابًا آخرَ. رأتْ نفسَها تسيرُ في ممرٍّ طويلٍ تَحُفُّهُ الكُتبُ من الجانبينِ، كُتبٌ مُعلّقةٌ في الهواءِ، تدورُ من حولِها كما تدورُ الكواكبُ في مداراتِها. كلُّ كتابٍ كانَ ينفتحُ من تلقاءِ نفسهِ، وتخرجُ منهُ صورٌ مشعّةٌ: تولستوي يمشي وحيدًا في حقلٍ مُبلّلٍ بالصّمتِ، دوستويفسكي يُحادثُ سَجّانًا في زنزانةٍ ضيّقةٍ، وتشيخوف يبتسمُ لطفلٍ مريضٍ بابتسامةٍ مائلةٍ نحوَ الحزنِ.

وفي نهايةِ الممرِّ، رأتْ نُعمان جالسًا تحتَ شجرةٍ عظيمةٍ، يَخطُّ شيئًا في دفترٍ صغيرٍ. بدا وجهُهُ هادئًا، وعيناهُ تلمعانِ كمن وجدَ ما كانَ يبحثُ عنه. اقتربتْ منه، وهمَّتْ أن تسألهُ عمّا يكتُبُ، لكنَّه رفعَ عينيهِ إليها وقالَ بصوتٍ خافتٍ، رقيقٍ: “الأسئلةُ لا تُجابُ بالكلماتِ وحدَها… أحيانًا نحتاجُ أن نَحياها.”

ثمّ تلاشى، كما لو أنّهُ لم يكنْ، وبقيَ الدفترُ مفتوحًا على العُشبِ، فيه سطرٌ واحدٌ، كُتِبَ بخطٍّ يشبهُ خَطَّها: ” رُبّما نَكتُبُ لِنُضيءَ الطريقَ لبعضِنا، لا لِنَعرفَهُ تمامًا…”

وهكذا انسحبَ الليلُ برفقٍ، على جسدَيهما المُتعبَينِ، في حينِ ظلَّتْ أرواحُهما تُسافرُ في فضاءِ الحلمِ، حيثُ لا حدودَ بينَ المعنى والخيالِ، ولا فَصلَ بينَ الأدبِ والاعترافِ. كلٌّ منهما كانَ يغرقُ في تأمُّلاتِه، في رموزٍ تتراقصُ بينَ الحروفِ والظلالِ، باحثًا عن ذاتهِ في مرآةِ الآخرِ، منتظرًا فجراً قد يجيءُ يومًا، حامِلًا الجوابَ.

بينَ طَرفَي الليلِ والفجرِ، وفي تلكَ اللحظةِ الهشَّةِ التي يتأرجحُ فيها الوعيُ بينَ النومِ والصَّحوةِ، راودَ كلًّا من نُعمانَ ومُنى حلمٌ واحدٌ، كأنّ الروحَينِ قد اتَّحدتا في فضاءِ لا يُشبهُ هذا العالمَ، لا زمانَ لهُ ولا مكانَ، فقط حُضورٌ خالصٌ لظلّينِ يسيرانِ جنبًا إلى جنبٍ.

رأيا نفسَهُما في بُستانٍ غريبٍ، الأشجارُ فيه ناحلةُ الجذوعِ، عاليةُ الأغصانِ، أوراقُها تتدلّى كأنّها أسرارٌ لم تُكشَفْ بعد. كانَ الهواءُ نقيًّا إلى حدٍّ يُربكُ الحواسَّ، والضوءُ خافتًا كضوءِ صلاةٍ أولَ الفجرِ. كانا يمشيانِ صامتَينِ، لا حاجةَ بينهما إلى الكلامِ، فكلُّ فكرةٍ في رأسِ أحدِهِما، كانت تنبضُ في قلبِ الآخرِ. قالَت مُنى وهم يمرانِ تحتَ قوسٍ من الياسمينِ: ” كأنّنا جئنا إلى هذا المكانِ من قبلُ…” فأجابَها نُعمان دونَ أن يلتفتَ: “لأنّه الحلمُ الذي كنّا ننسُجهُ منذُ التقَينا…”

جلسا على صخرةٍ بيضاءَ تطلُّ على نهرٍ ساكنٍ، ماءُه يَفيضُ من الكتبِ المفتوحةِ، وكلُّ كتابٍ يحملُ عنوانًا مألوفًا، وكلّ صفحةٍ تَروي جزءًا من حكايتِهما. حين مدّت منى يدَها نحوَ أحدِ الكتبِ، وجدتْ فيه سطورًا بخطِّ نعمان، كتبَ فيها: “كنتُ أبحثُ عن ذاتي، فوجدتُها بينَ سُطورِ عينيكِ…” فابتسمتْ، وكأنّها تعرفُ تمامًا ما سيقولُ، وأجابتْ بصوتٍ يشبهُ النسيمَ: “وأنا كنتُ أركضُ خلفَ الحُلمِ، فاستدارَ إليّ وارتدى هيئتَك…”

ثمّ تغيّرَ المشهدُ فجأةً، ووجدا نفسَيهما في قطارٍ يمضي بهما في دروبٍ من ضبابٍ، لا يرى فيهما الراكبُ سوى ملامحَ الآخرِ. جلسا متقابلَينِ، لكنّ الزجاجَ العاكسَ خلفَ نُعمان كان يُظهرُ صورةً واحدةً لهما، كأنّهُما وجهانِ لمرآةٍ واحدةٍ، أو قصيدتانِ تُنشدُهما لغةٌ واحدةٌ لا تُقالُ، بل تُحَسُّ. سألَها نُعمانُ وهم على حافةِ هذا الحلمِ المُرهَفِ: ” هل تَظنّينَ أنَّ الحُلمَ يَجمعُ الجسدَينِ كما يجمعُ الأرواحَ؟” فأجابتْهُ دونَ تردُّدٍ: ” ربّما لا… ربّما الحلمُ لا يريدُ للأجسادِ أن تَتلاصقَ، بل أن تَتسامى، أن تَتلاقى في نقطةٍ أعمقَ من العناقِ…”

وفي لحظةٍ خاطفةٍ، التفتَتِ السّماءُ إلى لونِ الفجرِ، وبدأ النورُ يتسلّلُ رويدًا، يَمسحُ ظلالَ الحلمِ، ويُذيبُ ملامحَ المشهدِ كما تذوبُ الحروفُ في نهرِ النسيانِ. فتحَ نُعمانُ عينيه ببطءٍ، وكانت الغرفةُ تُضيءُ شيئًا فشيئًا، وأولُ ما خطرَ في بالِه، هو أن يسجّلَ ما رآه، لكنَّهُ ابتسمَ، واكتفى بأنْ يتنفّسَ بعمقٍ. وفي اللحظةِ نفسِها، كانت مُنى تفتحُ عينيها أيضًا، تحدِّقُ في السقفِ بثباتٍ، ثمّ وضعتْ يدَها على صدرِها، وكأنّها تتحسّسُ الحُلمَ لا يزالُ حيًّا ينبضُ هناك.

سألَ كلٌّ منهما في سرِّه: ” هل كانَ ذلكَ حُلمًا؟ أم أنّ أرواحَنا قد التقتْ حقًّا في مكانٍ آخر؟” ولم يكنْ هناكَ جوابٌ. لكنَّ شيئًا دافئًا كانَ يَسري في القلبِ، أشبهَ بيقينٍ لطيفٍ، يقولُ لهما: ” إنّ ما جَمعَهُ الحُلمُ، لا يُفرّقُهُ الشكُّ…”

وهكذا استقبلَا الفجرَ، لا وهما ولا يقظةً كاملةً، بل بينَ بينَ، حيثُ يولدُ الحُبُّ الذي لا يطلبُ تملُّكًا، بل يكتفي بأنْ يكونَ حضورًا مُضيئًا، وحلمًا متكرّرًا في هيئةِ قلبَينِ منسجمَين.

حينَ تسلَّلَ أوّلُ شُعاعٍ للشَّمسِ عبرَ نوافذِ البيتِ الممتد، كانت رائحةُ القهوةِ تفوحُ في أرجاءِ المطبخِ الصغيرِ، تحملُ معها وعدًا بلقاءٍ لا يُشبِهُ ما سبقه. جلسَ نُعمانُ عند الطاولةِ الخشبيّةِ، وأمامه فنجانٌ بخارُه يصعدُ كأنّه يُدوِّنُ على صفحةِ الهواءِ ما لم يُقالْ بعد. دخلتْ مُنى بخطًى هادئةٍ، عيناها مثقلتانِ بنومٍ خفيفٍ، لكنّ بريقًا غير مألوفٍ كانَ يشعُّ فيهما، كأنّ الليلَ لم يكنْ ليلًا عاديًّا. جلستْ قُبالتَهُ دونَ أن تتحدّثَ، واكتفتْ بابتسامةٍ حيِيَّةٍ تُشبهُ مطلعَ قصيدةٍ تنتظرُ من يُكمِلُها.

قالَ نُعمان، وعيناهُ لا تزالانِ مُعلَّقتينِ بضوءِ الصباحِ المنسكبِ على حافةِ الكوبِ: “رأيتُنا معًا… في حلمٍ لا يُشبهُ الأحلامِ التي تمرُّ عابرةً. كنّا في مكانٍ غريبٍ، نُشبهُ فيه أنفسَنا، ولا نُشبهُها… كأنّنا نعيشُ خارجَ الزمنِ.”

شهقت مُنى بصوتٍ خافتٍ، ووضعت يدَها على صدرِها، كأنّ كلماتهِ لامستْ شيئًا دفينًا داخلَها. ” بُستانٌ؟ وأشجارٌ تتدلّى كأنّها تُخفي شيئًا؟ ونهرٌ يفيضُ من الكتب؟” سألتهُ وهي تَحدّقُ في عينيه بدهشةٍ عميقةٍ.

ابتسمَ نُعمان، وقالَ بذهولٍ: “نَعم… نعم تمامًا. وكنتُ أكتبُ لكِ شيئًا في كتابٍ مفتوحٍ، وأنتِ… قرأتِه!”

أطرقت مُنى للحظةٍ، ثم رفعتْ نظرَها إليه، وعيناها تتلألآنِ بما لا يُمكنُ تسميتُه، وقالت بصوتٍ هامسٍ كأنّه يُخرِجُ سرًّا: ” لقد رأيتُه أيضًا يا نُعمان… كلَّ تفاصيلِه. كنتُ هناك، وأنتَ كنتَ تقولُ لي: الحُلمُ لا يريدُ للأجسادِ أن تَتلاصقَ، بل أن تَتسامى…”

سادَ بينهما صمتٌ طويلٌ، صمتٌ لا يُثقِلُ اللحظةَ، بل يُجلِّيها، كأنَّ الزمنَ وقفَ يستمعُ لما لا يُقال.

ثم همست منى، وهي تُقلّبُ فنجانَ القهوةِ بين يديها: ” هل يُمكنُ لروحَينِ أن تلتقيا في الحُلمِ بذاتِ الشكلِ، دونَ موعدٍ؟ هل يكونُ الحُلمُ رسالةً تتنقّلُ في الخفاءِ بين قلبَينِ؟”

أجابَها نُعمان، وعيناهُ تترقرقانِ بنورِ تأمُّلٍ عميقٍ: “ربّما يكونُ ما رأيناهُ هو أكثرُ ما يقتربُ من الحقيقةِ، لأنّه نابعٌ منّا، لا من الخارجِ. وربّما نحتاجُ إلى الحُلمِ، كي نُفصحَ عمّا نخافُ أن نهمسَ به في اليقظةِ…”

ثم مالَ قليلًا نحوها، بصوتٍ منخفضٍ، لا يصلُ إلى أحدٍ غيرِها: “كنتُ في الحُلمِ أبحثُ عن ذاتي… ووجدتُكِ.”

أطرقت مُنى، وارتجفتْ شفتاها، وكأنّها تخشى أن تتكلمَ فيفسدَ الكلامُ سحرَ ما تشعرُ به. قالت أخيرًا، بصدقٍ رقيقٍ: “وأنا… كنتُ أركضُ وراءَ الأملِ، فوجدتُك تنتظرُني.”

كانت القهوةُ تبردُ ببطءٍ، لكنّ حرارةَ الحضورِ بينَهما كانت تشتعلُ، لا حاجةَ لوالدِها هذه المرةِ، لا حضورَ آخرَ في هذا الصباحِ، سوى للحلمِ الذي تمدَّدَ على الطاولةِ بينَهما، يحرسُهُ الضوءُ، ويؤكّدُهُ صمتُ المكانِ.

وهكذا جلسا، يتبادلانِ الحلمَ كما لو كانا يرويانِ ذاكرةً مشتركةً، حديثًا لا حاجةَ فيهِ لشرحٍ أو تبريرٍ، فقط كلماتٌ تُشبهُ أغصانَ الياسمينِ حينَ تتشابكُ دونَ أن تُفكّر، لأنّها خُلقتْ لتتآلف.

في ذلكَ الصباحِ، لم تكنِ القهوةُ مجرّدَ شرابٍ، بل طقسًا سرّيًّا جمعَ بينَ منى ونُعمان، في لحظةٍ خارجةٍ عن كلّ ما اعتاداه، لحظةٍ لم تَشهدها العيونُ من قبل، لكنّ القلوبَ… عرفَتها.

استمرَّ الصمتُ بينهما للحظاتٍ أخرى، لكنَّ كلَّ كلمةٍ كانت تذوبُ في الهواءِ كما لو كانت تلمسُ شيئًا غامضًا في الأرواح، تنقلها الرياح الخفيفة عبر النوافذ المفتوحة. كانت منى تتأملُ في فنجانها، وكأنَّ السائلَ الأسودَ يُخبئُ لها أسرارًا جديدة. تخلّصتْ من أفكارها للحظة، ورفعتْ نظرها إلى نعمان، وكأنَّها كانت قد أدركتْ شيئًا لم تدركه من قبل.

“أتعلم، نُعمان… ما رأيته في حلمك، ما شعرتهُ في تلك اللحظاتِ، كأنّه يُجسِّدُ ما كنّا نبحثُ عنه طوالَ الوقت. كما لو كان كلُّ شيءٍ واضحًا، لكنّه مُخبّأ في طيّاتِ الروحِ.”

ابتسم نعمان برقةٍ، ثم أمسكَ بفنجانهِ، ينظرُ في السائلِ الذي يرقصُ ببطءٍ داخل الكوب، وكأنّه يُعبّرُ عن أفكارٍ شاردةٍ، وقال: ” هذا هو جمال الحُلم، يا منى… هو لا يمنحكِ إجابةً مباشرةً، بل يشبهُ الخيوطَ المتشابكةَ التي تُحاولُ فهمَ الصورةِ الأكبرِ.”

وبعد لحظاتٍ من الصمتِ المملوءةِ بالثقلِ، أضاف نعمان قائلاً: ” لا أعتقدُ أنَّنا قادرون على إدراكِ كلِّ شيءٍ دفعةً واحدة… ربما لأنَّ الحُلم وحدهُ هو ما يستطيعُ أن يربطَ بينَ الحاضرِ والمستقبلِ.”

نظرَتْ منى في عينيه بعمق، كأنَّها تبحثُ عن سرٍّ قد يكونُ مخفيًّا في معاني كلماته. تذكّرتْ كيف كانت تجلسُ في مكانٍ آخر، بعيدًا عن هذه اللحظة، وتستمعُ إليه كما لو كان يروي قصةً غريبةً، كانت قد مرّتْ في حياتها لكنّها نسيتْها.

“هل تعتقد أنّنا نعيشُ الحُلمَ؟ أم أنّنا نعيشُ الواقعَ بما يفرضه علينا؟” سألته، وقد تكوّرتْ الأسئلةُ داخل عقلها كطائرٍ صغيرٍ يريدُ أن يطيرَ.

أجابها نعمان وهو يرفعُ نظره نحوها، ثمّ يبتسم ابتسامةً داكنةً، وكأنّه يتأملُ في عالمٍ أوسعَ من هذا المطبخ الذي يجمعُ بينهما الآن: ” أحيانًا، أعتقدُ أنّنا نعيشُ الحُلمَ أكثر مما نعيشُ الواقع. لأنَّ الحُلمَ يفتحُ لنا الأفقَ على الاحتمالاتِ… بينما يقيّدُنا الواقعُ بما هو مُحدّد.”

اختلستْ منى نظرةً إلى الفنجانِ، ثم أومأتْ برأسها وكأنَّها تعترفُ، في سرّها، بحقيقةٍ ما. كانت تسأله عن شيءٍ أبعدَ من الحلمِ، شيءٍ يخصُّها هي، ولكنّها لم تُردْ أن تُعلنهُ علنًا.

“أحيانًا أشعرُ أنّ الحلم هو الذي يمنحُني المعنى الذي أبحثُ عنه. ليس فقط في الأدبِ، بل في الحياةِ ذاتها.” قالت بصوتٍ رقيقٍ، وكأنَّها تخشى أن تُفرغَ مكنونَ قلبها.

كانت نظراتُهما تلتقي، تنسابُ الأفكارُ بينَهما كما لو كانت حروفًا غير مرئيةٍ، تتشكّلُ في الهواءِ. كان كلّ منهما يشعرُ بالضوءِ الجديد الذي بدأَ يتسللُ إلى قلبه، كما لو أنَّ شيئًا جديدًا قد بدأ ينمو في داخلهما. شيءٌ يُشبهُ حلمًا، أو ربما أكثر من حلم، يترنّحُ بينَ اليقظةِ والخيال.

” ماذا لو كان الحُلمُ هو أكثرُ ما نحتاجُ إليه؟” قالت منى، ثم ألقتْ نظرةً إلى السماء الزرقاء التي بدأت تتسعُ في الخارج.

” ربما… لكنّ الحقيقةَ تكمنُ في العيشِ بينهما، بين الحُلمِ واليقظة.” قال نعمان بهدوءٍ، كما لو كان يوجّهُ هذه الكلماتَ إلى نفسهِ أيضًا.

في تلك اللحظة، كان كلُّ شيءٍ حولهما يبدو ساكنًا، صامتًا، لكنّ الأفكارَ والمشاعرَ كانت تتراقصُ بينَهما كأنَّها لم تكتملْ بعد. لم يكن هنالك حديثٌ عن المستقبل، ولا عن المصير، بل كان هنالك فقط ذلك الارتباطُ الطفيفُ بينَ روحيهما، وهو ما جعلَ اللحظةَ تُمضي كأنّها أبديةٌ.

تبعثُ الشمسُ في السماء إشراقةً جديدة، تملأ المكانَ بحالةٍ من الانتظارِ، وكأنّ هذا الصباحَ هو بدايةٌ لشيءٍ ما، لشيءٍ لا يمكنُ أن يوصفَ بالكلماتِ. لكنّ القلبينِ كانا يعرفانِ، في أعماقهما، أنّ شيئًا ما قد تغيّرَ بينهما، ولم يكن إلا بداية.

كان الضوء الذي بدأ يتسلل عبر نافذة المطبخ يرقصُ برفق على وجهيهما، وكأنّه يغازلُ ما بينَ ظلال أفكارهما وأحلامهما المتشابكة. كان كلُّ شيءٍ حولهما يتنفسُ الهدوء، لكن في قلبيهما كان هناك ضجيجٌ خفيٌّ، شوقٌ لشيءٍ غير معروف، شعورٌ يجرُّهما نحو بعضهما كما لو أنّهما يسيران في نفس الدرب، لكن دون أن يدركا بعدُ أين سينتهي بهما.

” نعمان، هل تعتقد أنّنا… نستطيعُ أن نعيشَ الحلمَ كما نريد؟” قالت منى بصوتٍ منخفضٍ، تقتربُ قليلاً من طاولة المطبخ، تتأملُ تلك الحوافَ البيضاءَ على فنجانها وكأنّها تبحثُ عن جوابٍ في صمتِ الزمانِ والمكان.

توقف نعمان عن احتساء قهوته لحظةً، نظرَ إليها بعينينِ مليئتينِ بالتساؤلات، ثم قال ببطءٍ، كما لو أنّه يزنُ كلماته: ” أعتقدُ أننا نعيشُ الحلمَ في لحظاتٍ كثيرة، يا منى. ولكنّنا أحيانًا نُضيّعُه عندما نتوقفُ عن السعي وراءه.”

نظرتْ إليه منى، تراقبُ تلك النظرة التي تحملُ في طيّاتها جزءًا من حلمٍ بعيدٍ، ثم ابتسمتْ بابتسامةٍ خافتةٍ، وقالت: ” أنتَ مُحقّ. أحيانًا، نحاولُ أن نعيشَ الحلمَ كما لو أنّه شيءٌ خارجيٌّ، شيءٌ نصلُ إليه… بينما هو في الواقع في داخلنا، يكمنُ في قلوبنا.”

سكتَ نعمان للحظة، ثم أدركَ أنَّها لم تكن تسأله فقط عن الحلم كما تتصورهُ العقولُ، بل كانت تسأله عن الحقيقة التي تتماهى مع هذا الحلم. الحقيقة التي قد لا تكون مرئية في العالم الخارجي، بل هي مرسومةٌ على جدرانِ الروح.

“نعم…” قال، ثم اقترب منها ببطءٍ، وكانت المسافة بينهما تبدو وكأنها تضيق، ليُكمل: ” ربما نكونُ نبحثُ عن تلك اللحظة التي تلتقي فيها الأحلامُ مع الواقع. في تلك اللحظة، يصبحُ كلُّ شيءٍ ممكنًا. كلُّ شيءٍ.”

وكانت منى تراقبُ كلماته تتساقطُ منه بلطف، وكأنّها تُنيرُ الطريقَ الذي لم يسلكاهُ بعدُ. ثم أجابته بنبرةٍ رقيقة، غارقةٍ في عمق المشاعر التي كانت تكمنُ في قلبها: ” لستُ متأكدةً إذا ما كانت اللحظةُ الحقيقيةُ التي نبحثُ عنها موجودةً في الواقع، أم أنّها مجرد حلمٍ مستمرٍّ فينا.”

أخذ نعمان نفسًا عميقًا، ثمَّ نظرَ في عينيها، ورأى فيها شيئًا يتخطى الكلمات. كان يعرفُ أنَّ تلك اللحظاتِ التي يقضيها معها ليست مجرد كلماتٍ تُقال، بل هي لحظاتُ تحولٍ عميقٍ في عالمهِ الداخليّ.

” هل يمكنُ أن نكونَ معًا في هذا الحلم، يا منى؟” سألها بصوتٍ خافت، وكأنّه يتحدّث إلى نفسه قبل أن يتحدّث إليها.

أحست منى بشيءٍ غريبٍ يتسللُ إلى قلبها، ذلك الشعورُ الذي كان يخبّئه الزمنُ بين طيّاتِ أوقاتِهما. وتساءلت في نفسها: “هل كان هذا الحلم الذي يعيشهُ نعمان يشملُني بالفعل؟ هل كنتُ جزءًا من هذا الحلم؟”

لكن قبل أن تجدَ الجواب، وقبل أن تفسحَ لها الكلماتُ المجالَ للخروج، ابتسمتْ ورفعتْ رأسها نحو السماء التي بدأت تُزهرُ بألوان الفجر، وقالت: ” نعم، ربما نعيشُ الحلمَ معًا، ولكننا بحاجةٍ للبحثِ عنه معًا أيضًا.”

كان هذا التصريحُ بمثابةِ إعلانٍ غير مباشرٍ عن بدايةٍ جديدة، بدايةٍ لتجربةٍ قد تغيّرُ كلَّ شيءٍ بينهما. ولم تكن تلك اللحظةُ سوى بدايةٍ للعديد من اللحظاتِ التي ستجمعُ بينهما، لحظاتٍ ستكونُ مليئةً بالأسئلة، بالأحلام، بالمشاعر التي تعجزُ الكلماتُ عن التعبير عنها.

أما في تلك اللحظة، فقد كانت الحياةُ قد قررتْ أن تكتبَ فصلاً جديدًا في قصةِ منى ونعمان، فصلاً قد يجمَعُ بين الحلمِ واليقظةِ، بين الحروفِ والأملِ، وبين الأرواحِ التي تلتقي في غمرةٍ من الفهمِ العميق.

في صباحٍ هادئ، تجمعت خيوط الشمس الأولى على أروقة الكلية، كانت منى ونعمان في طريقهما إلى محاضرة الأدب الأندلسي، كلٌّ منهما يحاول أن يضع نفسه في أفقٍ جديد، حيث يلتقي التراث مع الحاضر، وتكتمل صورة العالم من خلال شعر الأندلس الذي كان لهم فيه بمثابة مرآةٍ تعكس مكامن الروح.

بعد أن انتهت المحاضرة، اختار نعمان ومنى أن يجلسا في زاوية هادئة من المقهى الصغير في الكلية، حيث كانت الأجواء مشبعة بالسكينة والتأمل. قدما لهما فناجين القهوة الساخنة، لكن عيونهما كانتا بعيدتين عن الكؤوس وأحاديث اليوم، فقد كان كلٌّ منهما يحمل في صدره شوقًا مُلحًّا للحديث عن ذلك التراث العظيم الذي استمعا له للتو، في محاضرة الأدب الأندلسي.

كان الهواء مثقلًا برائحة الكتب التي أضاءت سماء العقول، وكان الصمت الذي يلف المكان لا يخلو من هيبة تلك اللحظات التي عاشاها في محاضرة كانت كالنزهة الفكرية بين الماضي والحاضر.

منى، التي كانت دوماً تميل إلى تأمل المعاني العميقة في الشعر، نظرت إلى فنجانها وقالت بصوتٍ هادئ ولكن حزين:

” هل تُصدِّق يا نعمان أن الشعر الأندلسي لم يكن مجرد زخرفة لغوية أو تلاعب بالألفاظ؟ بل كان صرخةً من أعماق الأرض، كان الشِّعر الذي يروي لنا قصة حضارة ضاعت في الزمن، لكن ما أودعته تلك الأبيات من وجدان، ما زال يَحيا فينا، ويُنبِّئنا بحكمةٍ تُجاوز العصور.”

ابتسم نعمان بابتسامةٍ خفيفة، ثم قال:

” أنتِ على حق. لكن الشعر الأندلسي، إضافةً إلى كونه مرآةً للحضارة، كان مرآةً لأحوال الناس. كان يعبّر عن قلوبهم المثقلة بالحنين، ولهفتهم على الزمن الذي مضى، وكانت تلك المشاعر هي نواة ما سطره الشعراء في قصائدهم.”

ثم أخذ نفسًا عميقًا، وكأنه يستشعر وقع الكلمات قبل أن يلفظها، وألقى على مسامع منى أبياتًا للشاعر الأندلسي ابن زيدون، وكان في صوته لمحة من الحنين:

“أَضْحَى التَّنَائِي بَدِيلًا مِنْ تَدَانِينَا

وَنَابَ عَنْ طِيبِ لِقَائِهِ تَجَافِينَا

وَمَا كُنْتُ إِلَّا كَالَّذِي لَمْ يَزَلْ فِي أَمَلٍ

وَفِي الْقَلْبِ مِنْ بَعْدِ الْفِرَاقِ يُحْيِينَا”

أغلقت منى عينيها قليلاً وهي تلمس عمق الأبيات، كأنما كانت تمثل حالةً متشابهة في قلبها، تمامًا كما في قلب نعمان، فقد شعرت بمرارة الحنين التي تُشبه الحروف التي قرأها. وكان ذلك الشعور يلوح في الأفق، محاطًا بتلك الذكريات غير المنطوقة. شعر كأن الكلمات قد جعلت القهوة أكثر مرارة، رغم أنها كانت لا تزال في فنجانها، إلا أن نكهة الحنين التي غلفت اللحظة كانت أغنى من أي مذاق.

ثم ردت منى، مُحاولةً استيضاح أعمق لفهم تلك الأبيات:

” لقد تجسد فيه الأمل والألم معًا، وفي هذا التوازن تكمن قوة الكلمات. إن الشاعر يتأمل الفراق، ولكنه يبقى مشدودًا إلى الأمل، وتحت هذا السقف من الحنين لا ينطفئ الضوء، ولا يطوي الزمن أثره.”

وتابعت، مُسترجعةً ما قرأته ذات مرة، وهي تروي له بعضًا من أفكار شعراء الأندلس:

” لكنني أرى أن الشعر الأندلسي ليس فقط تعبيرًا عن الحزن، بل هو أيضًا مساحات من التفاؤل. الشعراء كانوا ينشدون الجمال في الطبيعة، وفي اللحظات اليومية التي تمر سريعًا. كما في شعر ابن خفاجة، الذي تحدث عن الأندلس في جمالٍ فريد، حين قال:

” لَعَمْرُكَ ما النَّاعِسَاتُ اللَّوَاتِ

إِلَّا فِي رُوحِي سَبَقُوكِ اللَّهُمِّ عُزَّنَاتِي”

ابتسم نعمان قليلًا، وأصغى بكل جوارحه لما تقول، ثم صمت للحظة قبل أن يضيف قائلاً:

” نعم، إن هذا الشعر يعبق بروح الأندلس، روحٌ كانت تبتسم رغم الآلام، تبكي ومع ذلك لا تنسى الجمال. وهذا يذكرني بكلمات ابن زيدون، حين كان يصف حاله في حبِّه لولادة بنت المستكفي، فتلمس تلك الرغبة العميقة في الأمل رغم الفراق.”

ثم قرأ بصوتٍ شجيٍّ أبياتًا شهيرة من قصيدته:

“يَا مَنْ لِعَيْنَيْهِ مِنَ الْقَلْبِ مُرْتَهَنُ

قَلْبِي فِدَاهُ، وَإِنْ جَافَى، وَيَسْتَكِنُ

يَا رُبَّ قَافٍ عَلَى شَفَتَيْكِ مُتَلَهِّفٍ

يَرْجُو الْوِصَالَ، وَفِي الْآمَالِ يُفْتَتَنُ”

ثم أضافت منى، وهي تُتابع كلامه بعينٍ لامعة:

” أما في النثر، فقد قرأت **طوق الحمامة** لابن حزم، ذلك الكتاب الذي يُعدُّ مرجعًا في فهم الحب والعلاقات الإنسانية.”

أجاب نعمان بفضول:

” وأنتِ، كيف ترين هذا الكتاب؟”

ابتسمت منى، وقالت:

” إنه يعدُّ من أرقى ما كُتب في الحب العربي، فهو لا يتحدث فقط عن الحب العذري، بل يعرج على كل جانب من جوانب العلاقات الإنسانية، ويفصل بين الحب الطاهر والشهوة، ويسرد قصصًا حقيقية من الأندلس، مما يجعله أقرب إلى الواقع من أي تصور شعري.”

وتابع نعمان باندهاش:

” أذكر أن هذا الكتاب يُعد مرجعًا عالميًا في أدب الحب، ويشبه إلى حدٍ ما فن الحب لأوفيد، في تناوله لآلام وآمال العشاق.”

كانت تلك اللحظات بين نعمان ومنى، لحظات لا تُنسى، يتداخل فيها الأندلسي القديم مع الحاضر، وتتلاقى فيها أرواحهم في صورةٍ أدبية تتجاوز الكلمات، كما يتجاوز النهر ضفافه إلى بحرٍ أرحب..

في ظهيرةٍ رماديةٍ خفيفة، حيث ندى الخريف يُداعب نوافذ مكتبة الكُلّية، كانا يجلسان إلى طاولةٍ خشبيّةٍ مطلّةٍ على ساحة الحرم الجامعيّ، تتناثر حولهما الكتب وأوراقٌ بعثرتها الريحُ ثم رتّبتها الأيدي الحائرة في البحث.

قال نُعمان، وهو يُقلّب صفحةً في ديوان نزار قبّاني وقد انعكس على عينيه بريقٌ طفوليّ من الفضول:

” ما أكثر ما تغيّر الغَزَل يا مُنى… من ابن زيدون إلى نزار، كأنّ القصيدة نفسها قد تبدّلت ملامحها، ولبست ثوبًا آخر.”

ابتسمت مُنى، وقد مالت نحوه بشيءٍ من الحماسة، وأجابت:

” لكنّ الرُوح، يا نُعمان… الرُوح باقية. هي ذاتها، شوقٌ إنسانيٌّ دفين، فقط… اختلفت اللغة وتحرّر الإيقاع.”

كانا قد كُلِّفا ببحثٍ في “مُقارنة الغَزَل بين الشِّعر العموديّ والتّجديديّ”، وها هما الآن يغوصان في المراجع بين دفّتي الزمان.

قالت مُنى، وهي تقرأ من ورقةٍ خطّتها بقلمها الأزرق:

” الشِّعر العموديُّ، كما ترى، قائمٌ على بحور الخليل وقافيةٍ منتظمة، وفي الغزل يجنح إلى الرّموز الطّبيعيّة: القمر، الزهر، النسيم… حبٌّ عذريّ، شفيف، لا يبوح إلّا بعِفّة الوجدان.”

ثم استشهدت بأبياتٍ من ابن زيدون، بصوتٍ رخيمٍ، وكأنّها تستحضر بها ظلّ الزهراء:

” إنِّي ذكَرتُكِ بالزّهْراءِ مُشتاقًا

والأُفُقُ طَلقٌ، و وجه الأرضِ قد راقَا”

همس نُعمان:

” كأنّه يرسم مشهدًا بلَوْن الحنين… الأُفُقُ والأرضُ… كلاهما يُشبهان قلب المُحبّ حين يشتعل بالذكرى.”

هزّت مُنى رأسها، ثمّ أضافت بشيءٍ من التحليل:

” تأمّل الوزن، كيف يسير كنبضٍ مُنتظمٍ، واللغة، كم هي جزلة ونقيّة… لكنّها تُبقي المشاعر خلف ستارٍ شفاف.”

ثم انتقلت إلى الورقة الأخرى، وقالت:

” أمّا نزار… فشاعرٌ خرج من قفص الوزن والقافية، وجعل القصيدة تمشي حافيةً في أزقّة المدينة، تحمل رائحة القهوة وتنهّدات العشّاق.”

ضحك نُعمان بخفوت، وقال:

” بل جعلها تكتب على الجدران، وتُعلن الثورة من على شرفات القلب.”

قرأت مُنى من “قارئة الفنجان”:

” سَتَفتِّشُ عنها يا وَلَدي في كُلِّ مكان

وسَتسْألُ عنها موجَ البحرِ

وتَسْألُ فَيروزَ الشّطآن”

قالت، وعيناها تغوصان في المدى:

” لا بحر ولا شاطئ… وحده الحبّ صار قلقًا يتجوّلُ في الأسئلة.”

أجابها نُعمان، وقد أخذ القلم وكتب بخطّه على الهامش:

” غزلُ نزار لا يتوارى خلف الصور، بل يخلع القناع، ويتحدّث باسم القلب العاري.”

أشار بإصبعه إلى الفرق بين اللغتين، وقال:

” بينما يُغنّي العموديّ: *يا دارَ عبلةَ بالجَواءِ تَكلّمي*، يأتي نزار ليقول: *أُحبّكِ… والبقيّةُ تأتي*.”

ضحكت مُنى، ثمّ علّقت:

” الفرق ليس في اللغة وحدها، بل في الجرأة… نزار لا يكتفي بالشوق، بل يطالب بالوصال، يتحدّى، يُصارح.”

أضاف نُعمان وهو يُقلب دفتر ملاحظاته:

” انظري إلى هذا الجدول… الشعر العموديُّ يُقدّس الوفاء والتذكّر، ويُصوّر الحُبّ كحالةٍ سماويّة، أمّا شعر نزار، فهو يُقدّس الجسد، الحريّة، ويُحارب القُيود.”

ثمّ أشار بإصبعه إلى عنوان الفصل الأخير:

” الغَزَل كقضيّة وجوديّة.”

هنا صمتا لحظةً… كان في الأفق شيءٌ من تأمّلٍ شخصيّ.

قالت مُنى، وقد فاجأها صوتها الداخلي:

” ربّما لأنّ الحُبّ لم يعُد رفاهيةً شعريّة… بل سؤالًا نُحاول الإجابة عليه كلّ يوم.”

همس نُعمان:

” ونحن نكتبه، في صمتنا، وخوفنا، وانتظارنا لما لا نعرف إن كان سيأتي.”

ثم أردفت مُنى، وهي تُخرج من حقيبتها كتابًا صغيرًا بعنوان *طوق الحمامة*:

” لستُ أنسى ما قاله ابن حزم: *الحبّ هو اتحاد الأرواح التي تتشابه في صفاتها.* أحيانًا أظنّ أنّنا نبحث في الشعر عن أنفسنا، لا عن الحبيب.”

نظر إليها نُعمان طويلًا، ثمّ قال، وكأنّه يُفكّك قصيدةً في صدره:

” وأحيانًا، نكتب هذا البحث… لنهرب من كتابة مشاعرنا على الهامش.”

كانت الشمس قد بدأت تميل، والمكتبة تمتلئ بضوءٍ ذهبيّ حالم، فيما ظلّ الاثنان على “أعتاب الحُلم”، يُراوغان الشعر كما يُراوغُ العُشّاقُ البَوْح.

كان ضوء الصباح ينساب بهدوء عبر الأشجار المرتفعة، بينما كانت نسمات الهواء اللطيفة تحمل معها رائحة الأرض الرطبة. في الشرفة الخلفية، حيث تتناثر الورود وتزهر النباتات، جلس نعمان ومنى معًا، كلٌّ منهما ممسكًا بفنجان قهوته، وعيناهما تتأملان الأفق البعيد.

منى بابتسامةٍ خفيفة: ” صباح الخير، كيف كان نومك البارحة؟ هل كنت تفكر في شيءٍ خاص قبل أن تغفو؟”

نعمان وهو يرفع فنجانه، يستنشق رائحة القهوة وكأنها تفوح بعطر جديد: ” صباح النور، كان النوم هادئًا رغم كل الأفكار التي كانت تدور في رأسي. لكنني شعرتُ بأنني بحاجة إلى ذلك الصمت الذي يأتي بعد حديث طويل. وأنتِ؟”

منى وهي تضع فنجانها على الطاولة، تتأمل الزهور أمامها: “كنت أفكر في حديثنا البارحة. تلك الأسماء التي ذكرناها… فيودور، تولستوي، تشيخوف… يبدو أن الفكر الروسي له نكهة خاصة. أتساءل، هل نحن بحاجة إلى مثل هؤلاء المفكرين في هذا الزمان؟”

نعمان وهو يحدق في الأفق، صوته مملوء بالتفكير: ” أعتقد أننا نحتاجهم أكثر من أي وقتٍ مضى. قد لا يكون لدينا أولئك الذين يتحدثون بعمقٍ عن النفس البشرية كما فعلوا، لكننا بحاجة إلى تلك الأسئلة الكبرى التي طرحوها. أسئلة عن الخير والشر، عن الحياة، عن المعاناة… في زمننا هذا، يبدو أن الجميع يهرب من الأسئلة العميقة.”

منى: ” هل تعتقد أن العالم اليوم لا يتقبل هذه الأسئلة؟ أن الناس أصبحوا أكثر انشغالًا بالسطحيات؟”

نعمان بابتسامة مُرَتَّبة، وكأنه يحاول فك شفرة الواقع: “ربما… لكنني أعتقد أن الأجوبة تأتي من الداخل. أعتقد أننا نحاول الهروب منها، لكنهم هناك، هؤلاء الكتاب الروس، كانوا يواجهونها بلا رحمة. كانوا يصرخون في وجه الحياة، يسألون: ماذا يعني أن نعيش؟ هل كان تولستوي يبحث عن معنى الحياة حين ترك كل شيء وراءه؟ هل كان دوستويفسكي يتساءل عن معاناتنا اليومية؟”

منى بعد أن أخذت رشفة من قهوتها: “أعتقد أنهم كانوا يبحثون عن أنفسهم من خلال ما يكتبون. لكن… هل نحن في حاجة إلى أن نتعذب لنجد جوابًا؟”

نعمان وهو يبتسم بشكلٍ خفيف، يتأمل القهوة في فنجانه قبل أن يجيب: ” ربما ليس بالضرورة أن نعيش المعاناة كما فعلوا. لكن… ربما نحن بحاجة إلى لحظات من الصمت العميق، مثل تلك التي نعيشها الآن، لنتمكن من مواجهة الأسئلة الصعبة. أحيانًا، يكون الجواب في السؤال نفسه.”

منى وهي تضع يديها على الطاولة، تنظر إلى نعمان: ” لذا، أنت ترى أن الأدب هو مفتاح الفهم؟”

نعمان: ” بالطبع، الأدب وما نم عنه من فلفسة للحياة هما ذلك الفضاء الذي يمكننا فيه أن نرى العالم من خلال عيون الآخرين. هو دعوة لنعيش أكثر، لنفكر أكثر، وأحيانًا لنشعر أكثر.”

منى بعد لحظة صمت، تغلق عينيها كما لو أنها تستشعر كلمة قالها للتو: “قد يكون هذا ما كان ينقصنا… أن نعيش أكثر. أن نلتقط اللحظات الجميلة بعيدًا عن الضجيج.”

نعمان مبتسمًا، وهو ينظر إليها في صمتٍ يعكس عمق ما قاله: “أعتقد أنكِ على صواب. الحياة ليست مجرد سلسلة من الأيام المليئة بالأحداث، بل هي تراكم لحظات نختار أن نعيشها بكل تفاصيلها.”

في تلك اللحظة، تجمّدت الكلمات بينهما، كما تجمّدت قطرات الندى على أوراق الشجر أمامهما. كانت القهوة قد اقتربت من النهاية، لكن الحديث بينهما بدا وكأنه سيستمر إلى ما لا نهاية، إذ كان كلّ واحدٍ منهما يحاول أن يُبصر طريقًا نحو الإجابة في وسط هذه الحوارات الهادئة، كما لو أن كل فكرة كانت تفتح بابًا جديدًا نحو عالمٍ أعمق.

منى مع ابتسامةٍ هادئة: ” لنشرب قهوتنا حتى آخر قطرة. فكل يومٍ يحمل معه سؤالًا جديدًا.”

نعمان: “بالطبع، وكل سؤال هو بداية لحلم جديد.”

وها هي الشمس قد بدأت في الصعود أكثر في السماء، ليغمر الضوء أرجاء الأمكنة، ويبدأ يوم جديد مليء بالأحلام والتساؤلات.

في مساءٍ من أمسيات الشتاء الهادئة، كانت المائدة الصغيرة قد جمعت ثلاثتهم على طاولةٍ مستديرةٍ يملؤها نور المصباح الخافت، وعطر عدسٍ مطهوّ كما كانت الجدّات يفعلنه ذات حنين. لم تكن دفءَ البيت نارُ المدفأة وحدها، بل كانت أرواحٌ اعتادت الأُنسَ، وجلساتٍ من المعنى تُضيء زوايا القلوب.

جلس السيّد أحمد في صدر المائدة، وعن يمينه منى، وفي مواجهته نعمان، وبينهم صمتٌ أوّل، كأنّما يُفسحُ المجالَ لشيءٍ عميقٍ أن يُولد.

ناول السيد أحمد قطعةً من الخبز، نظر إلى منى نظرة الأب الذي يعرف، ثم التفت نحو نعمان وسأله بنبرةٍ ودودة:

ــ ” يا نعمان، قالت لي منى إنّكما تتحدّثان كثيرًا عن الأدب الروسي… لكن، قل لي، أما قرأتَ لغيرهم؟ أم أنّ الروس سحروك بسردهم؟”

ابتسم نعمان، وبدت في عينيه لمعةُ مَن توقّع السؤال، فرفع رأسه وأجاب بصوتٍ فيه أثرُ حنينٍ طفوليّ:

ــ ” بلى، أقرَأُ لكثيرين. لكنْ يبقى للأدب الإنجليزيّ موقعٌ خاصّ في قلبي. أتذكّر جيدًا أولَ مرّة قرأتُ فيها بيتًا لشكسبير، شعرتُ كأنّي وجدتُ مرآةً قديمة، لا تكتفي بعكس الوجه، بل تكشف عمّا وراءه من خبايا.”

تدخّلت منى برفق، كأنّها تُكمل سطرًا ناقصًا:

ــ ” شكسبير لا يكتب الكلمات فحسب، بل يكتب صدى الإنسان فيها… وكأنّه يضع الحياة على المسرح، بكلّ عبثها وعمقها.”

أومأ نعمان موافقًا، وأضاف:

ــ ” ومن إنجلترا، هناك كثيرون تركوا أثرًا في نفسي: شكسبير، جورج أورويل، ديكنز، جاين أوستن، فرجينيا وولف، وليم بليك، تولكين، وأغاثا كريستي.”

وتابعَ وهو يشرحُ بحماسةٍ متزنة، مزجَ فيها المعلومةَ بالشغف، والواقعَ بالحلم، مستعرضًا ملامحَ كلّ كاتب، ومواضيعهم، ونظرتهم العميقة إلى الإنسان والمجتمع.

رفع السيد أحمد حاجبيه بإعجاب، وقال:

ــ ” تنوّعٌ جميل. أورويل مثلًا… قرأتُ له 1984، كانت صدمة فكرية.”

فابتسمت منى وقالت:

ــ ” أورويل يُخيفنا لأنّه صادق. يُريك كيف يمكن أن تُسحق روحُ الإنسان حين تصير الحقيقة جريمة.”

أكمل نعمان بنبرةٍ تأمّلية:

ــ ” الألمان أيضًا لهم بصمتهم العميقة. الأدب الألماني لا يقلّ غوصًا عن الروسي، لكنّه أكثر تقنينًا في الألم، وأشدّ ارتباطًا بالفكر الفلسفي.”

سأل السيّد أحمد وقد زاد اهتمامه:

ــ ” وهل لك اطّلاعٌ على الكتّاب الألمان؟ من تراه الأبرز فيهم؟”

أجاب نعمان بعد أن ارتشف قليلاً من الماء:

ــ ” في طليعتهم غوته، عملاق الكلاسيكية الألمانية. فاوست ليس مجرّد مسرحية، بل صراع الإنسان مع ذاته وأشباح طموحه. آلام فرتر، منبع رومانسيّة عارمة، والديوان الشرقيّ الغربيّ، لقاءُ الثقافتَين في لغة الشعر. بعده يأتي شيلر، صاحب المؤامرة والفداء، وماريا ستيوارت، وقصيدة أنشودة الفرح التي لحّنها بيتهوفن.”

وتابع:

ــ ” ثمّ في القرن العشرين، يبرز توماس مان، حاصلٌ على نوبل، له آل بودنبروك والموت في فينيسيا والجبل السحريّ. وهناك كافكا، رغم كونه من براغ، لكنّه يُعدّ من أعمدة الأدب الألماني، بأعماله مثل التحوّل والقضية والقلعة.”

أضاءت عينا منى وقالت:

ــ ” كافكا يُشبه الروسيّين في شيء، لكنّه أكثر عُزلةً. شخصيّاته لا تُقاوم، بل تذوب ببطء داخل بيروقراطيةٍ تحكمها عبثيّةُ الوجود.”

أكمل نعمان:

ــ ” ولا ننسى برتولت برشت، رائد المسرح الملحميّ، بأعمالٍ مثل أمّ الشجاعة وحياة غاليليو. ثمّ هاينه، الشاعر السياسيّ، بهدوئه وسخريته، وهيرمان هيسه الذي كتب سدهارتا وذئب البراري، ولعبة الكريات الزجاجية. وأخيرًا ريمارك… ريمارك مختلف.”

سأل السيّد أحمد وقد بدت في عينيه رغبةٌ صادقة في الاستماع:

ــ ” ريمَارك؟ سمعتُ باسمه، لكن لم أقرأ له. ما الذي يجعل أعماله مميّزة؟”

أجاب نعمان بنبرةٍ خاشعة:

ــ ” إنه لا يكتبُ عن الحرب، بل عن إنسانٍ ضاع فيها. كلّ شيء هادئ على الجبهة الغربية ليس سردًا للمعارك، بل مرثيّةٌ للروح، كما لو كان يقول: حين يُقتل الحلم، لا يبقى شيء. الحربُ عنده ليست بطولة، بل نفيٌ للبطولة، وتحطيمٌ للصورة التقليدية للإنسان المقاتل.”

أكملت منى حديثه:

ــ ” وما يميّزه عن الأدب الروسيّ هو اختزال المشهد. بينما الروس يغوصون في النفس لصفحات، يُعبّر ريمارك بجملةٍ قصيرة عن ألمٍ لا يُطاق.”

تأمّل السيّد أحمد الكوب الذي في يده، ثم قال بهدوء:

ــ ” عظيمٌ أن نسمع هذا منكما. لعلّ ما ينقص مدارسنا ليس النصوص، بل الأرواحُ التي تُحييها. الأدب، حين يُدرَّس كأنه واجبٌ ميتٌ، يفقد ما فيه من شعلة.”

قال نعمان، وقد بدا في صوته رجعُ فكرةٍ طالما سكنتْه:

ــ ” الأدب الحقيقيّ لا يعلّمنا كيف ننجو، بل كيف نفهم خساراتنا. كيف نصبح أناسًا رغم كلّ ما يسحقنا.”

نظرت منى إلى والدها وقالت:

ــ ” الأدب لا يُدرَّس، بل يُعاش. وربما لهذا السبب يبدو القارئ – بين أقرانه – غريبًا. لأنّه مشغولٌ بأسئلته، لا بإجاباتٍ جاهزة.”

ساد صمتٌ لحظاتٍ، لم يكن صمتَ فراغ، بل صمتًا نضج فيه الكلام. ثمّ تنفّس السيّد أحمد بعمق، وقال:

ــ ” ما أجمل أن نُحاور شبابًا لا يقرأون الكتب فقط، بل يُنصتون لما فيها من صدى الإنسان.”

أطرق نعمان برأسه، وابتسمت منى، وتسلّل دفءٌ جديد إلى الزوايا، كأنّ الكتبَ التي ذُكرتْ قد فتحت نوافذها، ومرّ منها ضوءٌ غير مرئيّ.

تنفّست مُنى بعمقٍ بعد أن ارتشفت قليلاً من الكوب الذي كان يسعى نعمان أن لا يتركه فارغاً، ثمّ شاركت الحديث قائلة:

” أبي… أظنُّ أنَّ المشكلة ليست في غياب الأدب، بل في تغييبِ أثرهِ. الناسُ تهربُ من الأسئلة العميقة، لأنّ الإجابة تكلّفهم مواجهة أنفسهم. ولهذا، يصبح الأدبُ رفاهيةً لا ضرورة. بل حتى الفتيانُ الذين يقرؤون، كثيرًا ما يُنظرُ إليهم ككائناتٍ غريبةٍ عن السياق!”

ضحك نُعمان، وقال ممازحًا:

“أعرفُ هذا تمامًا… في مدينتي، كان يُقالُ إنّ القراءة مهنةُ العاطلين، وإنّ من يحملُ كتابًا لا يفقهُ في الزراعةِ ولا التجارةِ ولا الزواج!”

ابتسم السيّدُ أحمد بحكمةٍ دافئة، ثم قال:

“ومع ذلكَ، من أمثال هؤلاءِ العاطلين، صُنعت النهضات. الفقرُ الحقيقيّ ليسَ في الجيبِ بل في الخيال. والمجتمعاتُ التي تَخشى القارئ، إنّما تَخشى أن ترى نفسها في مرآته.”

ساد الصمتُ من جديد، لكنّه كان هذه المرّة صمتًا مشبعًا، كأنَّ المائدةَ نفسها قد استمعتْ واستفادت.

تبادل الثلاثةُ نظراتٍ صادقة، وفي الأفقِ الداخليّ لكلٍّ منهم، شيءٌ جديدٌ كان يتشكّل… شيءٌ يُشبه الوعي، ويُشبه الحُلم.

ضحكَ السَّيِّدُ أحمد وهو يهزُّ رأسه، ثم قال: “ما شاءَ الله… يبدو أنني سأحتاجُ إلى دفترٍ لتدوينِ توصياتك، لا إلى سُؤالٍ واحد!”

ضحكت مُنى بدورها، وقد بدا على وجهها ارتياحٌ ناعم، كأنَّها ترى انعكاسَ فكرِها في كلماتِ نُعمان، وهمست: “كنتُ أعلمُ أنّك ستُبهجُه.”

بعدما انفضّ العشاءُ بهدوءٍ يشبه انفضاضَ الحكاياتِ الطويلة، انتقلوا إلى الشُّرفةِ الخلفيّةِ للمنزل. كانت اللّيلةُ معتدلةً، والهواءُ يهبُّ برفقٍ كأنّه يهمسُ بأسرارٍ لم يُفصحْ عنها النهار. جلسوا حولَ طاولةٍ صغيرةٍ من الخيزران، تتوسّطها إبريقُ قهوةٍ نحاسيّ، وفناجينُ ثلاثةٌ تكادُ تبخِّرُ ما تبقّى من التعبِ في الأرواح.

أوقدَ السيّدُ أحمدُ مصباحًا صغيرًا في الزاوية، وأطلقَ زفرةً طويلةً اختلطَ فيها الرضا بالحنين، ثمّ قال وهو يسكبُ القهوةَ للجميع:

” هكذا أشعرُ بالطمأنينة… عندما يجتمعُ الحديثُ الدافئُ معَ رائحةِ البنِّ، بعيدًا عن صخبِ العالم.”

أخذ نُعمان فنجانه، شكرَ السيّد أحمد بصوتٍ خفيض، ثمّ ظلّ يُحدّقُ في سطحِ القهوةِ كما لو كانَ يحاولُ أن يقرأَ شيئًا فيه. داخلهُ كان مضطربًا، كأنَّ حديثَ العشاء حرّك في أعماقهِ إحساسًا بالتناقض. لقد قرأ كثيرًا… لكنّ شيئًا من الوجعِ الذي في عيني السيّد أحمد لا يوجدُ في الكتب. كان يرى في هذا الرّجل بقايا جيلٍ آمن بأنَّ الفِكرَ لا ينفصلُ عن الحرفة، وأنَّ العائلةَ ليست مجرد رابطة دم، بل مشروعُ معنى.

سألَ نُعمان فجأةً، كأنّهُ يُلقي بسؤالٍ كان مختبئًا في صدرهِ منذ أيام:

” عمي أحمد… هل شعرتَ يومًا أنَّ ما قرأتَهُ لم يُنقذك؟”

أجالَ السيّد أحمد نظرهُ بينهُ وبين مُنى، ثمّ ارتشفَ شيئًا من قهوتهِ وقال ببطء:

” بلى… بل كثيرًا. الكُتبُ لا تُنقذ، يا بُنيّ. لكنّها تُنضجُ حزنك. تُعلّمكَ كيفَ تحتملُ العالم، لا كيف تغيّرُه دفعةً واحدة. الأدبُ أشبهُ بنظّارةٍ ترى بها اتّساعَ الجُرح، لا بلسمًا يُخفيه.”

صمتَ لحظةً، ثمّ أضاف بنبرةٍ فيها رجعُ زمنٍ بعيد:

“حين ماتَ أبي، قرأتُ كلَّ ما كتبَ (أنسي الحاج) عن الفقد، ومع ذلكَ لم أكنْ أملكُ إلّا أن أبكي في الظلّ، وأنا أُقلّبُ صورتهُ القديمة.”

نظرتْ مُنى إلى والدها نظرةً تَفُوحُ منها رائحةُ العَطف، كأنّها تَمدُّ إليه غِطاءً من سَكينةٍ لا تُقال. عيناها كانتا تقولان أكثرَ ممّا تستطيعُه الشِّفاه، لكنّها لم تتكلّم. كانتِ الكلماتُ، في تلك اللحظة، ثقيلةً على طرفِ لسانها، كما لو أنّها تخشى أن تُربِكَ دفءَ اللحظة. وفي داخلها، كانتْ تياراتٌ متشابكةٌ من مشاعرَ تُصارعُ للظهور: حُبٌّ عميقٌ لأبيها، إعجابٌ متجدّدٌ بنُعمان، وحُزنٌ لا تدري إن كانت قد ورثتهُ مع نبرة صوت والدتها، أم نسجَتْهُ وحدها في ليالي الفقد الأولى.

ثم قالتْ أخيرًا، بصوتٍ خفيضٍ كضوءِ قمرٍ خائفٍ أن يوقظَ النائمين:

” أشعرُ أحيانًا… أنّنا نُحبُّ الكُتُب لأنّها تقولُ ما نعجزُ عن قولهِ للناس. نقرأها كما لو كنّا نُرسلُ رسائلَ إلى أنفسنا… لكن عبرَ الآخرين.”

نظرَ إليها نُعمانُ طويلًا، بنظرةٍ يُخفي فيها دهشتهُ من قدرتها على لمسِ المعنى بمثل هذه البساطةِ العميقة. أرادَ أن يقولَ لها شيئًا ظلَّ يؤرِّقُه منذ أيام: إنّها، هي بالذات، قد أصبحتْ منذ زمنٍ كتابهُ المُفضَّل… لكنّه آثرَ الصمت. كان يعلمُ أنّ بعضَ اللحظاتِ أجملُ حين تبقى دونَ جُمل.

فاستدارَ نحو السيّدِ أحمد، كأنّه يعودُ إلى رُكنٍ آمنٍ، وقال:

“أتُصدّق، عمي، أنّني حين قرأتُ روايتين لأورويل حديقة الحيوانات و(1984) ، شعرتُ بأنّني أعيشُ نوعًا آخرَ من الرقابة؟ ليست الدّولةُ وحدها مَن تراقبُنا، بل نحنُ أنفسُنا نُراقبُ أفكارَنا، نُخفي ما نعتقدُه، ونخشى أن نكونَ مختلفين.”

أطرقَ السيّدُ أحمد برأسه، ثمّ هزَّهُ ببطءٍ وقالَ بنبرةٍ فيها من الحزنِ أكثرُ ممّا فيها من اللوم:

” هذه الرقابةُ هي ما يُقلقني على جيلكم… أن يكبرَ شابٌّ مثلك، فيخاف أن يقولَ ما يؤمنُ به، أو يُجبَرَ على التنازلِ عن حُلمهِ، لأنّ المُجتمعَ لا يُحبُّ الحالمين.”

سادَ صمتٌ خفيف، لم يكنْ موحشًا، بل شفافًا كقطرةِ ماءٍ علِقتْ بينَ الضوءِ والذاكرة. غيرَ أنّه، بالنسبة إلى نُعمان، لم يكنْ كذلك. لقد أيقظتْ كلماتُ السيّدِ أحمد بابًا من الذكرى كان قد أوصدَهُ طويلًا.

ارتجفَ داخلهُ شيئًا، لم تَرَهُ مُنى، لكنّ أباها لمحَ ظلَّهُ يتسلّلُ على ملامحه. سأله باهتمامٍ رصين:

” مَا بِكَ، يا نُعمان؟”

أجابهُ نُعمان، كأنّه ينتشلُ صوتَهُ من بئرٍ قديم:

” إنّها واحدةٌ من نتائجِ تلك التّراكمات… تراكماتُ الوعيِ المُبكّر، وتلكَ الجرأةُ في الطرحِ التي لم يكنْ للزّمنِ أن يحتملَها.”

أمالتْ مُنى رأسها قليلًا، وقالت بنبرةٍ رقيقةٍ يَكسوها اهتمامٌ صادق:

“وهل لنا… أن نعرفَ تفاصيلَ تلكَ الذكرى؟ بدقّةٍ وعمقٍ كما ينبغي؟”

نظر إليها نُعمان، ثمّ إلى والدها، فوجد في أعينِهما صدقًا لا يُقاوَم. لكنّ شيئًا في داخلهِ تمنّع، كما لو كانَ الجُرحُ لا يزالُ طريًّا.

طال صمتُه هذه المرّة، حتى ظنّاه لن يتكلّم. ثم قال أخيرًا:

” أفضلُ ألّا أخوضَ في تلكَ الذكرى المؤلمة… التي ما تزالُ تُلاحقُني حتى هذا اليوم، ولا أعلمُ متى تنتهي.”

ولم يُكمل. لكنّه في داخله، كان يرى المشهدَ واضحًا: ذلك اليوم من خريفٍ بعيد، حين وقف في ساحة المدرسة، وسأل راعي الاحتفال وكان هذا الرجل مسؤولا كبيراً في حزب البعث العربي الاشتراكي, هذا الحزب الذي يقود الدولة والمجتمع في سورية ويصنع خططها المحلية والاقليمية والدولية بصوتٍ لا ينساه:

” مِن فضلكَ، أستاذي الفاضل… أُريدُ توضيحًا لتساؤلٍ يدورُ في خاطري!”

قال الرجل يومها:

(تفضّل بالسؤال، وأشكرك على اهتمامك ومشاركتك سلفًا)

لكنّ السُّؤالَ الذي لم يتجاوزْ حدودَ الفكر، كان كافيًا ليُلقيَ به في المعتقل، ويتركَ داخلهُ قيدًا من الخوفِ لا يزالُ يرنُّ في ليله، رغمَ كلِّ الحريّاتِ الظّاهرة.

ولم يحتجِ الثلاثةُ إلى المزيد من الكلمات. كانتِ الشرفةُ صامتة، لكنّها تفهّمت. الليلُ رَبتَ على كتفِ الجرح، وتركَ للأملِ كُرسيًّا فارغًا بجانبهم… كأنّه سيأتي.

عند منتصفِ اللّيل، حينما خفَّت الأصواتُ خلف النوافذ، وانسحبَ الدفءُ من الشرفةِ إلى الغُرف، بقيَ نُعمانُ وحده في العتمة، كأنّ السَّهرَ استعارهُ من النومِ لأجلِ فكرةٍ لم تكتمل.

جلسَ على طرفِ السرير، لا يُريدُ أن يُشعلَ الضوء. يكفيهِ ضوءُ الشارعِ المنعكسُ من بينِ الستائرِ ليُرى ملامحه شبحًا يُفكّر. وضعَ كفَّهُ على جبينه، وأغمضَ عينيه كأنّه يُحاولُ أن يُطفئ داخله شيئًا لم ينطفئ منذ زمن.

لماذا عادَ ذلك اليوم؟ لماذا لم تنفع السنواتُ الطويلةُ في محوِ ذلك الشعور؟ وكيفَ يمكن لذكرى أن تبقى حيّةً كلّما جاء أحدهم على سيرةِ الحُلم؟

لم يكن الحزنُ فقط ما يؤرقه، بل تلك الدهشة القديمة من ظلمٍ لم يفهمه بعد، رغم أنّه عاشه. في المعتقل، لم يُضرب فقط، بل شُكِّكَتْ براءتهُ نفسها، وكأنّ السؤالَ جرمٌ، لا فضول.

رفعَ رأسه، وتمتم بصوتٍ خافت:

” كانَ سؤالًا بريئًا… لا أكثر.”

ثمّ ابتسم بمرارةٍ، وقال وكأنّه يُجيب نفسَه:

” لكنَّ البراءةَ، يا نُعمان، ليست دائمًا فضيلة.”

تذكّر وجهَ أمهِ يومَ خرجَ من المعتقل، كيف كانت تخبّئ دمعها داخل ابتسامةٍ مرتجفة، ويدهُ الصغيرة تُمسكُ بطرفِ ثوبها خائفًا من نورِ النهار.

لم يكن يخشى العالم… بل كان يخشى ألا يفهمه أحد.

نهض من على السرير، واقترب من النافذة. فتح الزجاجَ بصمتٍ، وتنشّقَ الهواءَ الليليّ كمن يُجري مصالحةً باردةً مع الحياة.

تُرى… لو قلتُ لها الليلة كلَّ شيء، هل كانت ستفهم؟ ولو سألني والدها أكثر، هل كنتُ سأجرؤ؟ وإن كتبتُ ذلك في رواية… هل أُشفى؟

راح يُقلّب الأسئلةَ في ذهنه، كأنّه يبحثُ عن جُملةٍ تُنقذُه من سطوة الماضي. لكن لا شيء كان كافيًا.

ثم، فجأةً، خطر له شيء، فالتقط دفتراً قديماً من حقيبته، ذلك الذي يحتفظ به منذ سنوات. فتح صفحةً بيضاء، وكتب:

“الحُرّيّة ليست شعارًا… إنّها امتحانٌ يوميّ. وأنا، مذ كنتُ طفلًا، رسبتُ فيه كثيرًا… لأنّي صدّقتُ أنّ الحُلمَ وحده يكفي.”

توقّف، ونظر إلى السطر طويلًا، ثم أغلق الدفتر. لم يكن يريدُ أن يُكمل الكتابة، بل أراد فقط أن يقولَ لنفسه إنّه لا يزالُ يقدر.

وهكذا، انتهت ليلتُه، لا على قرارٍ، ولا على وعد، بل على صمتٍ جديد، أقلَّ ألمًا من سابقه، لأنّه لم يكن صمتًا من الخوف، بل من إدراكٍ عميقٍ بأنّ بعض الجراح، لا تُشفى بالكلمات… بل بالحياة.

أطلَّ الصَّباحُ على المدينةِ بنعومةٍ رماديَّةٍ، كأنَّ الليلَ ما زالَ يُمسِكُ بطرفِ عباءتِهِ، لكنَّهُ لا يرغبُ في المُغادرةِ تمامًا.

في الحديقةِ الصغيرةِ القريبةِ من البيتِ، كانت عصافيرُ خجولةٌ تُغرِّدُ كمن يتعلَّمُ النَّغمةَ الأولى، تُجالسُ وقعَ أوراقٍ تتساقطُ برفقٍ على الأرضِ، فتُداعبُها دونَ أن تُزعجَها.

خرجَ نُعمانُ إلى الشُّرفةِ يحملُ فنجانَ قهوةٍ لم يذقْهُ بعد. لم تكنِ القهوةُ غايتَهُ الحقيقيَّة، بل تلكَ اللحظةُ الّتي يستطيعُ فيها أن يُراقبَ العالَمَ دونَ أن يُقاطعهُ أحدٌ بالسُّؤالِ المعتادِ: “بِمَ تُفكِّر؟”

لكنَّهُ ما لبثَ أن انتبهَ أنّهُ لم يكُن وحدَهُ.

كانت مُنى هناك، تجلسُ عند طرفِ الطاولةِ، تفتحُ دفترًا صغيرًا، تُقلِّبُ أوراقَهُ كمن يُنقِّبُ في خريطةٍ عتيقةٍ لا يبحثُ فيها عن كنزٍ، بل عن لحظةِ بوحٍ تنتظرُ أن يأتيَ من الجهةِ الأخرى.

رفعتْ نظرَها إليه، ثمّ قالت، بصوتٍ هادئٍ لا يُحدِّقُ في العيونِ لكنَّهُ يصيبُ القلبَ:

” لَم تنَمْ جيِّدًا… أليسَ كذلك؟”

أجابَها بصوتٍ خافتٍ، فيه صدقٌ لا يحتاجُ إلى تبريرٍ:

” أحيانًا… لا يكونُ السَّهرُ خيارًا.”

أغلقتْ دفترَها ببطءٍ، ثم رفعتْ وجهَها نحوهُ، وفي عينيها مزيجٌ من الحنانِ وعتبٍ شفيفٍ:

” كنتُ أتمنّى لو أخبرتني بكلِّ شيء… ألا أستحقُّ أن أعلم؟، ولأنّكَ لا تستحقُّ أن تبقى وحدَك في ذلك.”

تأمَّلها طويلًا. لم يكنْ يتوقَّعُ أن يكونَ الصَّباحُ بهذا الوضوح. شعرَ وكأنَّ جدارًا شفافًا كان يفصلُ بينهُ وبين البوحِ قد تهشَّم، وصارَ ما كان يخشاهُ مرئيًّا على سطحِ قلبِها.

قال وهو يُقلِّبُ الفنجانَ بين يديهِ:

” لَم أخَفْ من الحكايةِ نفسِها… بل من أن تُغيِّرَ صورتي في عينيكِ.”

ابتسمتْ. وابتسامتها كانت كصلاةٍ داخليةٍ تُصغِي إليها الأرواح:

” ما من صورةٍ في قلبي لكَ يمكنُ لشيءٍ أن يُبدِّلها. كلُّ ما فيكَ… هو ما يجعلُكَ أنت، ولا أُريدُ غيرَه.”

كادتْ كلمتُها أن تجرحَهُ من رقَّتِها، لكنّها فعلتْ ذلك كما تَفعلُ نسمةٌ حنونٌ حينَ تمرُّ على جُرحٍ قديمٍ… تُداويهِ دونَ أن تُنكِّئه.

ثم قالت، فجأةً، بمرحٍ خفيفٍ يُخفي أثرَ التأثّر:

” هيا… أخبرني، كيف كنتَ ستُنقذُ العالمَ لو كُنتَ بطلًا في روايةٍ لأورويل؟”

ضحك. للمرّةِ الأولى ذلك الصباح. لم تكن ضحكةً صاخبةً، بل ضحكةٌ تشبهُ أوّلَ قطرةِ مطرٍ بعدَ جفافٍ طويل.

قال:

” كنتُ سأبدأُ بسؤالٍ صغيرٍ… كأن أقول: لِمَ نَخافُ مِمّا نَعرِفُ أنَّهُ حَقّ؟”

مرّت نسمةٌ خفيفةٌ بينهما، كأنّ الحياةَ نفسها قد تنفَّست.

وفي تلكَ اللحظة، أدركَ نُعمانُ أنَّ شيئًا ما قد يتغيَّر فيما بعد. لا في مُنى فقط، بل فيه أيضًا.

وأنّ هذا الصَّباح، مهما بدا عاديًّا، كان ربّما أوَّلَ خُطوةٍ نحو شِفاءٍ بطيءٍ، لا يُشبهُ النِّسيان، بل القَبول.

ثم سأَلها، بنظرةٍ فيها رجاءٌ صامت:

” هل تريدين فعلًا أن تسمعي تفاصيل اعتقالي؟ رغم أنَّ الأمرَ لا يمتُّ إليكِ بصِلةٍ، فأنتِ من بلدٍ مجاورٍ، والسياسة في بلدُكم تختلفُ، وربّما لا يعنيكِ الحديثُ عن في السياسة, فحديثها لا يأتي إلا بألمٍ عميق, ولا يجرُّ إلا ألمًا؟”

أدركت مُنى المعنى العميق الّذي يختبئُ خلفَ سُؤاله، ومع ذلك، قالت بإصرارٍ ناعم:

“نعم.”

قال، وهو يُحاولُ أن يُهيِّئها لما هو آتٍ:

” إذاً، استمعي إليّ كما لو أنّكِ تقرئين روايةً لأورويل أو كونديرا أو سواهم… لا شخصًا عاشَ هذا كلَّهُ على أرضٍ لا تُحبُّ الأسئلة.”

سألتْهُ مُنى بفضولٍ صادق:

” وهل قرأتَ في السِّياسةِ أيضًا؟”

أجابها:

” نعم، وفي الأديانِ، والفلسفةِ، وعلومٍ أخرى…”

فقالت، تُكمِلُ طريقَ السؤال:

” ومَن هُم أولئكَ الكتّاب؟ وما أبرزُ كتبِهِم؟”

ابتسمَ وقال:

” سؤالكِ ممتازٌ، لأنّهُ يتناولُ الأدبَ الذي نَبَتَ تحت ظلِّ أنظمةِ القَمعِ والحكمِ الأحادي… كالشيوعية، والفاشية، والدكتاتوريات العسكرية، أو حتى الثيوقراطية. كثيرٌ من هؤلاء الكتّاب واجهوا الرَّقابةَ، النَّفيَ، أو السّجنَ لأنّهم كشفوا القهرَ الّذي يُمارسهُ النظامُ على الإنسان.”

ثمّ نهضَ إلى غرفتِه، وعادَ بدفترٍ قديمٍ يَحمِلُ آثارَ أصابعِه، قلبَ صفحاتهِ بحُنوّ، وقال:

” سأقرأُ لكِ باختصارٍ بعضًا منهم… كي لا تَمَلِّي، وإن كان في قلبي الكثيرُ عنهم.”

ثم راحَ يقرأ:

” كان الكاتب المصري (نجيب محفوظ) هو أول من قرأت له, في بداية تعلقي بالقراءة, من الكتاب العرب, فقد تحدث في روايتيه *أولاد حارتنا* و*ثرثرة فوق النيل*، عن الكثير من المعاناة التي بعيشها الشعب المصري, و وجَّه انتقاداتٍ غير مباشرةٍ للسُّلطةِ، فتعرضَ لمحاولةِ اغتيالٍ بسببِ أفكاره.

ثم قرأت من روسيا ل (ألكسندر سولجينتسين) *أرخبيل غولاغ* و*يوم في حياة إيفان دينيسوفيتش*، ولأنه كَشفَ عن وجود معسكراتِ الاعتقالِ السوفييتي، نُفي من بلاده.

أما في الصين فقرأت ل (لو شون و لاو شي) *يومياتُ مجنون* و*مدينة القطط*، وهما من الأعمال الرمزيّةٌ تحت رقابةٍ خانقة.

ومن بولندا تعرفت إلى (تشيسلاف ميلوش) من خلال *العقل المستعبَد*، الذي جسد فيه تحليلاً نفسياً لكيفية تكيّفِ الأدباءِ مع الأنظمةِ القمعيّة.”

نظرَ نُعمانُ إليها وابتسامةٌ خفيفةٌ تُداعبُ شفتَيه، وقال بنبرةٍ لا تخلو من المعنى:

” أمّا أورويل… فنحنُ نقرؤهُ لنفهمَ ما نعيشُه، وإنْ لم يَكُنْ قد عاشَهُ هو نفسُه.”

التفتَتْ مُنى نحوه، بعد أن كانت تُصغي بشرودٍ يُشبه النَّومَ واقفًا، وقالت بنبرةٍ فيها دعابةٌ خفيفة:

” ها قد عُدتَ إلى أورويل… أظنُّهُ الكاتبُ الّذي أيقظَ فيكَ تلكَ الذّاكرةَ مساءَ البارحة.”

أغلقَ نُعمانُ دفترَهُ برفقٍ بين يديهِ، والتفتَ إليها سريعًا كمن يحاولُ صرفَ الحديث، وقال:

” وما بأورويل؟”

رمقتهُ بنظرةٍ نصفُها دهشةٌ ونصفُها عتب، وقالت:

” أقصد… أَما حانَ الوقتُ كي تُشاركني معاناتكَ بدلَ أن تُراوغَها بالحديثِ عن الآخرين؟”

سكتَ لحظةً، ثمّ أجابَ بصوتٍ خفيضٍ، وكأنَّهُ يُحدِّثُ نفسه:

“بلى… سأُخبركِ بكلِّ شيء. لكنّني أُشفِقُ على نفسي، تلكَ الّتي أراها تتلألأُ في عينيكِ، من أن تصبحَ قصّةً، ثمّ تتحوّلَ إلى ما لا أُريدُه لها إن جدَّ جديدٌ.”

قالت باستغرابٍ لم تُخفِه:

” ألهذا الحدِّ أصبحتَ تخاف؟”

أومأ برأسه ثم قال، وكأنَّه يُحاول أن يُبدِّدَ جمود اللحظة:

“حسنًا… سأبدأُ الحديثَ ونحن نُعدُّ طعامَ الفطور. أخبري والدَكِ أن ينضمَّ إلينا، فهذا يومُ عطلةٍ، وعليه أن يخرجَ من مكتبِه قليلًا، يُروِّحُ عن نفسِه، ويُشاركنا الطَّعام… والكلام.”

نهضتْ مُنى، وسارت بخفَّةٍ نحو مكتب والدها، بينما توجَّهَ نُعمانُ إلى المطبخ، يُهيِّئُ مائدةً بسيطةً ليُعيد ترتيبَ ذاكرته على نارٍ هادئة.

عَلَى المائدةِ، انتظمتِ الأكوابُ والصُّحونُ في صمتٍ وديع، كأنها تُصغي لما سيتفجَّر من حكايةٍ طالَ اختباؤُها.

جلسوا في دائرةٍ تُشبهُ العائلةَ في عشاءٍ شتويٍّ حميم، لكنّ ما سَيُروى كان أبعدَ ما يكونُ عن الدفءِ.

تنفَّسَ نُعمانُ ببطء، كأنّه يُفرِغُ صدرَهُ مِن حِمْلٍ قديمٍ، ثم قال بنبرةٍ فيها رُطوبَةُ الذّاكرةِ:

” كانَ ذٰلِكَ في السّادسِ مِن تِشْرينَ الأوَّل… أكتوبر، عامَ ألفٍ وتِسعِمِئَةٍ وأَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ. شهرٌ لا يُشبهُ غيرَهُ فِي ذاكِرَتي… فقد وُلِدتُ فيه، وفيه وُلِدَ شيءٌ آخرُ لا يموت.”

نظرتْ مُنى إليه بعينَيْنِ متسائلتَيْن، وهمست:

” شيءٌ آخر… كأنّك تتحدّثُ عن ولادةٍ ثانية؟”

أومأ نُعمان برأسه، وقال:

” بلى هي كذلك… ولكنْ مِن رحمٍ آخر.”

تابع وقد شبكَ يديه على الطاولة:

” قَبْلَ ذٰلِكَ الْيَوْمِ بأُسْبُوعَيْن، اجْتَمَعَ الأُسْتاذَةُ والإداريُّونَ فِي ثانويَّةِ دُوما لِلْبَنين، وَقَرَّرُوا إقَامَةَ احْتِفالٍ بِالذِّكْرَى الأُولَى لِما سُمِّيَ بِحَرْبِ تِشْرينَ التَّحْريرِيَّة، الَّتِي قادها الفريقُ حافظ الأسد، رئيسُ الجمهوريَّة العربيَّة السوريَّة، القائدُ العامُّ للجيشِ والقواتِ المسلّحة.

هزَّ والدُ مُنى رأسَهُ، وقال بتعليقٍ مقتضب:

” أعرف شيئاً عن تلك الأيام…”

ابتسم نُعمانُ وقال:

” كان يجب أن تبقى الرُّوحِ معلَّقةً على أسئلةٍ لا تُسْأَل … بعد أن حصلتِ الإدارةُ على الموافقةِ من الجهاتِ المختصّة، أُبلِغَ جميعُ العاملينَ والطلّابِ بضرورةِ الحضور. زُيِّنَت البّاحاتُ والمداخلُ باللافتاتِ والصورِ والأعلام، وحضرَ الاحتفالَ ممثّلون عن الحزبِ والمنظماتِ الشعبيّةِ والإدارةِ السياسيّة.

بدأ الحفلُ كما جرتِ العادةُ في مناسباتِ الوطن. كلماتٌ تُشيدُ بالنّصرِ العظيم، وأناشيدُ تُعلنُ المجدَ الأبديّ. كان كلُّ شيءٍ يجري كما يُراد له أن يجري… حتى رفعَ أحدُ الطلّابِ يدَهُ، وطلبَ الإذنَ بالسُّؤال. سُمِحَ له، ورُحِّبَ بمشاركته.

رفعتْ مُنى حاجبَيْها وقالت بشيءٍ من الحذر:

” وهل كان مسموحًا بالسؤال؟”

ابتسم نُعمان ابتسامةً حزينة:

” يبدو أنّه لم يكن… وإنْ بدا غيرَ ذلك في البداية.”

ثم غاصَ في السرد:

” قال الطّالب: (في العامِ الماضي، بعدَ نِهايَةِ الحَرْبِ بِشَهْرَيْن، دَخَلَ صَفَّنا طَالِبٌ جَدِيدٌ معَ مُوَجِّهٍ تَرْبَوِيٍّ، وَلم يَكُن فِي الصَّفِّ مَكَانٌ فَارِغٌ سِوى المَقْعَدِ الَّذِي بِجَانِبِي، فَجَلَسَ بَيْنِي وَبَيْنَ زَمِيلِي. تَعَرَّفْنَا عَلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ مِنَ الْجَوْلَانِ، وَإِنَّهُ وَأُسْرَتَهُ نَزَحُوا أَثْنَاءَ حَرْبِ تِشْرين، بَعْدَ أَنْ احْتُلَّتْ قَرْيَتُهُمْ. سَأَلْتُهُ: أَلَيْسَ النُّزُوحُ كَانَ فِي سبعةٍ وَسِتِّين؟ فَقَالَ: لا… نَزَحْنَا فِي الثَّالِثَةِ وَالسَّبْعِينَ. وَمُنْذُ ذٰلِكَ الْيَوْمِ وَأَنَا أَتَسَاءَل: كَيْفَ نُسَمِّيها حَرْبَاً تَحْرِيريةً وَقَدْ خَسِرْنَا فِيهَا مَا تَبَقَّى مِنْ أَرْضِنَا في الجولان, فهل أجدُ لديكم جوابًا؟)

شهقَ والدُ مُنى، وقال:

” يا ولد!… هذا سؤالٌ في بلدكم يُكْتَبُ بالدّم لا بالحبر!”

هزّ نُعمان رأسه بتنهيدةٍ عميقة:

” وهكذا كان… فَما هيَ إِلَّا ثَوانٍ حَتَّى اجْتَمَعَ الطُّلَّابُ وَانْطَلَقُوا فِي مَسِيرَةٍ عَفْوِيَّةٍ، وإذا بمزيد من أعدادٍ الطلابِ تهتف، تتجمهر، وَيَحْمِلُونَ أَحَدَهُمْ عَلَى الأَكْتَافِ، لم يكن أحدٌ يُديرُ المشهد، كأنّ الغضبَ كان قائدهم. إِلَى أَنْ بَلَغُوا بَوَّابَةَ المَدْرَسَةِ، ثُمَّ شَارِعَ الْجَلَاء، فَالسُّوقَ التِّجَارِيَّ.”

” وماذا فعلتَ أنت؟”

سألت مُنى بشغفٍ وهي تميلُ بجسدِها نحوه.

قال نُعمان وهو يُشيحُ ببصره نحو النّافذة:

” كُنتُ بينَهم… أمشي دون أن أشعر أنني أمشي… إلى أن وصلنا إلى مخفرِ الشرطة، فَخَرَجَ رَئِيسُهُ وَبِيَدِهِ بُنْدُقِيَّةٌ رُوسِيَّة، وَأَطْلَقَ النَّارَ فِي الْهَوَاءِ فوق رؤوس الطلاب. تَبَدَّدَ الْهُتَافُ، أصواتٌ، صُوَرٌ تتساقط، الهتافُ يتكسَّر، والمظاهرةُ تتبعثر كأوراقِ خريف..”

تنهَّد، ثم أكمل:

” فِي المَسَاءِ، حِينَ حَلَّ الظَّلَامُ عَلَى المَدِينَةِ، كُنْتُ أَقْرَأُ فِي غُرْفَتِي… وَلَكِنَّ صَوْتَ مَا حَدَثَ فِي النَّهَارِ لَمْ يَكُنْ قَدِ ٱنْتَهَى.

وَإِذَا بِصَوْتِ جَدِّي يُنَادِينِي، ثُمَّ يَسْأَلُنِي، وَفِي صَوْتِهِ نَبْرَةُ رِيبَةٍ وَتَوَجُّسٍ:

” هَلْ ٱرْتَكَبْتَ جَرِيمَةً؟”

فَقُلْتُ لَهُ، وَقَلْبِي يَخْفِقُ عَلَى وَقْعِ المَفَاجَأَةِ:

” لَمْ أَرْتَكِبْ أَيًّا مِمَّا تَقُولُ…!”

وَبَيْنَمَا نَتَحَاوَرُ عِنْدَ بَابِ غُرْفَتِي، دَخَلَ رِجَالُ الشُّرْطَةِ.

أَخْبَرُوا جَدِّي بِأَنَّهُمْ سَيَأْخُذُونِي مَعَهُمْ.

وَقَفَ جَدِّي يُدَافِعُ عَنِّي، وَيَقُولُ لَهُمْ:

” إِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا يَسْتَوْجِبُ أَنْ تَأْخُذُوهُ!”

فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمْ:

” صَحِيحٌ كَلَامُكُمَا، وَلَكِنَّ رَئِيسَ المَخْفَرِ يُرِيدُ أَنْ يَطْرَحَ عَلَيْهِ سُؤَالًا وَاحِدًا. سَنُعِيدُهُ إِلَيْكُمْ فَوْرًا.”

طَلَبَ جَدِّي أَنْ يُرَافِقَنِي، لَكِنَّهُمْ رَفَضُوا، وَطَمْأَنُوهُ:

” لَا حَاجَةَ لِذَلِكَ، فَإِنَّمَا هُوَ سُؤَالٌ وَسَنُعِيدُهُ إِلَيْكُمْ سَرِيعًا…”

سَأَلَ وَالِدُ مُنَى، وَفِي صَوْتِهِ قَلَقٌ قَدِيمٌ:

” وَهَلْ أَعَادُوكَ؟”

ضَحِكَ نُعْمَانُ، وَقَالَ بِسُخْرِيَّةٍ مُرَّةٍ:

” أَعْتَذِرُ مِنْكُمْ… فَشَرُّ البَلِيَّةِ مَا يُضْحِك!”

غَطَّتْ مُنَى فَمَهَا بِيَدِهَا، وَقَالَتْ بِٱنْفِعَالٍ:

” وَكَيْفَ خَرَجْتَ؟!”

فَتَابَعَ نُعْمَانُ، وَصَوْتُهُ يَخْفِتُ وَيَسْتَعِيدُ ظِلَّ الذِّكْرَى:

” سَتَعْرِفِينَ… كَانَ ذَلِكَ قَدْ حَصَلَ مَسَاءَ يَوْمِ السَّادِسِ مِنْ تِشْرِينَ الأَوَّل أُكْتُوبِر، عَامَ أَلْفٍ وَتِسْعِمِئَةٍ وَأَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ لِلسَّنَةِ المِيلَادِيَّةِ، المُوَافِقِ لِيَوْمِ العِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، عَامَ أَلْفٍ وَثَلَاثِمِئَةٍ وَأَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ لِلهِجْرَةِ.”

سألت منى بتعجب:

” وهل مازلت تحفظ التاريخين معاً؟”

أجابها وهو يتنهد بعمق:

” إن ذاكرة تلك الأيام ماتزال محفوظة في الذاكرة الدائمة, َلَكِنَّ المُفَاجِئَ وَمَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ، أَنَّ ٱلإِقَامَةَ لَدَيْهِمْ ٱمْتَدَّتْ حَتَّى يَوْمِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ تِشْرِينَ الأَوَّل أُكْتُوبِر، لِعَامِ أَلْفٍ وَتِسْعِمِئَةٍ وَأَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ، المُوَافِقِ لِلثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ، عَامَ أَلْفٍ وَثَلَاثِمِئَةٍ وَأَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ لِلهِجْرَةِ.

صَحِيحٌ أَنَّهَا كَانَتْ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، وَلَكِنَّ هَذِهِ العَشْرَةَ كَامِلَةً لَا يُمْكِنُ أَنْ تُنْتَزَعَ مِنْ ذَاكِرَةِ الإِنسَانِ، أَوْ أَنْ تَغِيبَ عَنْهُ لَحْظَةً…”

بِصَوْتٍ خَفِيٍّ، وكأنَّهُ يُمْلِي سِرًّا عَلَى الظِّلِّ، قال نُعْمَان:

” بِتْنَا اللَّيْلَةَ الأُولَى فِي مَخْفَرِ (قسم شرطة) دُومَا، بَعْدَ ذٰلِكَ السُّؤَالِ البَسِيطِ، المُزْعُومِ… الَّذِي كَانَ يَخْفِي خَلْفَهُ وَجْهًا قَبِيحًا لِلتَّهْدِيدِ، وَشَكْلًا خَفِيًّا لِلإِهَانَةِ، وَطَعْمًا أَمْرَّ مِنَ الشَّتِيمَةِ…”

أَجْفَلَتْ مُنى، وَقَطَعَتْهُ بِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ، وَعَيْنَيْهَا تَتَفَتَّحَانِ عَلَى صُورَةٍ لَمْ تَكُنْ فِي بَالِهَا:

” كَيْفَ؟! لِمَاذَا؟! هَلْ كَانَتْ لَكُمْ تُهْمَةٌ صَرِيحَة؟”

أَطْرَقَ نُعْمَانُ، كَمَنْ يُرَاجِعُ لَفْظًا قَدِيمًا، ثُمَّ قَالَ:

” كُلُّ مَا سُئِلْنَا عَنْهُ، سُؤَالٌ وَاحِدٌ لَا ثَانِيَ لَهُ: (مَا هُوَ ٱنْتِمَاؤُكُمُ السِّيَاسِيُّ؟ وَمَنْ حَرَّضَكُمْ عَلَى المُشَارَكَةِ فِي مُظَاهَرَةٍ تُهَدِّدُ أَمْنَ الدَّوْلَةِ؟)”

صَفَّرَ وَالِدُ مُنى بِتَعَجُّبٍ وَتَحَسُّرٍ، ثُمَّ هَمَسَ:

” وَكُنْتُمْ طُلَّابًا… لَا أَكْثَر؟!”

أَجَابَ نُعْمَانُ وَبِصَوْتِهِ نُبُوءَةُ مَنْ ذَاقَ الْبَدَايَةَ وَلَا يَعْرِفُ لِلنِّهَايَةِ شَكْلًا:

” نَعَم، أَحَدَ عَشَرَ طَالِبًا، جُمِعْنَا كَمَنْ يُلْتَقَطُ مِنْ هَامِشِ الصُّورَةِ، أَعْرِفُ بَعْضَهُمْ، وَلَا أَعْرِفُ عَنْ كَثِيرِينَ مِنْهُمْ شَيْئًا…”

← العودة إلى فهرس الرواية

Comments

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *