الفصلُ الثلاثون خروجٌ إلى الحياة… من جديد 32
________________________________________
كانَ الوقتُ مساءً دافئًا من مساءاتِ الخريفِ المُبكِّر، حينَ التأمَ الجمعُ الصغيرُ في غرفةِ الجلوسِ في بيتِ السّيِّدِ أحمد.
جلسنا في دائرةٍ من نورٍ خافتٍ، تنبعثُ من مصباحٍ جانبيٍّ موضوعٍ على طاولةٍ من خشبِ الجوز المعتّق.
كانت منى تُقلب بين يديها كتابًا صغيرًا لم تُنهِ قراءتَه بعد، بينما والدها جلس في المقعد الوثير، يقلب جريدةً لم يقرأ منها سوى العناوين.
رفعت منى عينيها فجأةً، كأنها انتبهت لسؤال ظلّ مؤجلاً، ثم قالت بصوتٍ هادئٍ، لكن فيه رغبة صريحة في المعرفة:
ــ “نُعمان… مَتَى خَرَجْتَ مِنَ ٱلْمُعْتَقَلِ؟ وَكَيْفَ؟”
سكتَّ لحظةً. ثمّ نظر إلى والدِها، وقال بصوتٍ خفيضٍ ولكن واضح:
ــ “خَرَجْتُ فِي يَوْمِ ٱلْأَرْبِعَاءِ، فِي ٱلسَّادِسِ عَشَرَ مِنْ تَشْرِينَ ٱلثَّانِي، عَامَ أَلْفٍ وَتِسْعِمِئَةٍ وَأَرْبَعَةٍ وَسَبْعِينَ… كَانَ ذٰلِكَ ٱلثَّلاِثِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَقَدْ كَانَ ذٰلِكَ ٱلْيَوْمُ يُوافِقُ ٱلصِّيَامَ وَقُرْبَ ٱلْعِيدِ, يومٌ لن أنساه، لا بل يكادُ يكونُ فاصلًا بينَ حياةٍ أُغلقتْ عليّ فيها الأبوابُ، وأخرى فُتِحَتْ… لكن ليسَ على مصراعيها.”
رفعت منى حاجبَيْها بدهشةٍ خفيفة، وقالت بنبرةٍ متأثرة:
ــ “قُبَيْلَ ٱلْعِيدِ؟! يَا إِلٰهِي… وَكَيْفَ كَانَ ٱلْخُرُوج؟”
ــ “عَرَضُونِي عَلَى قَاضِي ٱلتَّحْقِيقِ ٱلْأَوَّلِ فِي ٱلْقَصْرِ ٱلْعَدْلِيِّ بِدِمَشْقَ، وَبَعْدَ أَنْ قَرَأَ ٱلْمِلَفَّ، نَظَرَ إِلَيَّ طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ بِجِدِّيَّةٍ بَارِدَةٍ: (لَا أُرِيدُ أَنْ أَرَاكَ هُنَا مَرَّةً أُخْرَى). ثُمَّ مَدَّ لِي بِبِطَاقَةِ هُوِيَّتِي… وَأَخْلَى سَبِيلِي.”
أطرقَ السّيِّدُ أحمد، وقد بان في عينيه أثرُ تأمُّلٍ، وكأنّه استعادَ ذكرى بعيدة. ثمّ قال بنبرةٍ متفحّصة:
ــ “وهل كان الأمرُ قد انتهى عند هذا الحدّ؟”
أجابه وهو يتنفّسُ بعمقٍ، كأنّه يستحضرُ الدقائق نفسها:
ــ “لَا… قَالَ لِي ٱلْقَاضِي: (قَبْلَ أَنْ أَصِلَ إِلَى ٱلْبَيْتِ، عَلَيْكَ أَنْ تُرَاجِعَ شُعْبَةَ ٱلْحِزْبِ فِي مَدِينَتِكَ، وَتَتَقَدَّمَ بِطَلَبِ ٱنْتِسَابٍ إِلَى حِزْبِ ٱلْبَعْثِ، إِنْ أَرَدْتَ ٱلضَّمَانَ لِنَفْسِكَ وَمُسْتَقْبَلِكَ).”
شهقت منى بخفّةٍ، وقالت بصوتٍ يكاد يُشبه الهمس:
ــ “وَهَلْ… فَعَلْتَ؟”
ابتسم ابتسامةً باهتةً، ثمّ تابع:
ــ “كُنْتُ فِي قَاعَةِ ٱلْمَحْكَمَةِ وَجَدِّي لِأُمِّي يَنْتَظِرُنِي، كَأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ ٱلْمَعْرِفَةَ إِلَى مَكَانِي. لَمْ يَتْرُكْ يَدِي، وَسَارَ بِي فِي شَوَارِعِ دِمَشْقَ كَمَنْ يُرَافِقُ طِفْلًا فِي ٱلْعَاصِفَةِ. دَفَعَ أُجْرَةَ ٱلْبَاصِ، وَلَمْ يَفْلِتْ يَدِي حَتَّى نَزَلْنَا. وَذَهَبَ بِي إِلَى دُكَّانِ وَالِدِي… ٱسْتَقْبَلَنِي ٱلْجَمِيعُ بِفَرَحٍ لَا يُوصَفُ.”
أغمضَت منى عينيها لحظة، وكأنّها تُحاول تخيّل المشهد، ثمّ قالت:
ــ “وكيف كان لقاؤك بأمّك؟”
هنا، انخفض صوته من تلقاء نفسه، وكأنّه استعاد تلك اللحظة بكلِّ ما فيها من ارتعاش:
ــ ” كانت تَنْتَظِرْنِي عِنْدَ ٱلْبَابِ, وما إن رأتني حتى ٱنْدَفَعَتْ نَحْوِي كَسَيْلٍ يُفَجِّرُ سُدُودَ ٱلْوَقَارِ. واحتضنتني، ثم جعلت وجهي بين راحتيها، وعيناها تُمطرانِني شوقًا ودعاءً.
… عَانَقَتْنِي، وَبَكَتْ. كَانَتْ تَبْكِي كَأَنَّهَا تَطْمَئِنُّ أَنَّ ٱلْحَلْمَ قَدْ عَادَ.”
وتابع:
– ” خَرَجْتُ مِن قاعَةِ القَصْرِ العَدْلِيِّ في دِمَشْقَ، وَنَفَسِي يَتَرَدَّدُ كَأَنَّهُ يَخْرُجُ عَلَى اسْتِئْذَانٍ. كَانَ الهَوَاءُ يَبْدُو ثَقِيلًا، لا لِكَثَافَتِهِ، بَلْ لِأَنَّهُ مُحَمَّلٌ بِذِكْرَى أَيَّامٍ لَمْ تَكُنْ تَشْبِهُ أَيَّ أَيَّامٍ.
فِي رُدْهَةِ الاِنْتِظَارِ المُتْرَعَةِ بِوُجُوهٍ مُبْهَتَةٍ، لَمَحْتُهُ… جَدِّي لِوَالِدَتِي.
كَانَ وَاقِفًا هُنَا أمام الباب، شَامِخًا كَجَبَلٍ صَبُورٍ، يَتَكِئُ عَلَى عَصًا خَفِيَّةٍ مِنَ الدُّعَاءِ، وَعَيْنَاهُ تَسْبِقَانِ خُطَايَ، كَأَنَّهُ يَتَلَقَّانِي قَبْلَ أَنْ أَصِلَ.
تَقَدَّمْتُ بِخُطًى مُرْتَبِكَةٍ، وَصَدَايَ يَتَرَدَّدُ فِي المَكَانِ كَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْ بَعْدُ أَنَّهُ نَجَا.
لَحْظَاتٌ قَبْلَ ذَلِكَ، كُنْتُ أَمَامَ قَاضِي التَّحْقِيقِ الأَوَّلِ فِي دِمَشْقَ. رَجُلٌ فِي وَسَطِ الخَمْسِينَ، لَمْ تَكُنْ تَظْهَرُ عَلَيْهِ القَسْوَةُ، وَلَا البِشْرُ. نَظَرَ إِلَيَّ كَمَنْ يَرَى شَبَحًا عَادَ مِنْ مَصِيرٍ مَفْقُودٍ.
طَلَبَ مِنِّي أَنْ أَقْتَرَبَ إِلَى حَدِّ طَاوِلَةِ مَكْتَبِهِ، وَقَالَ: ــ “لَا أُرِيدُ أَنْ أَرَاكَ هُنَا مَرَّةً أُخْرَى.” ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ، وَكَانَتْ فِيهَا هُوِيَّتِي الشَّخْصِيَّةُ، يُمْسِكُهَا بَيْنَ سَبَّابَتِهِ وَإِبْهَامِهِ، كَمَنْ يُعِيدُ لِصَاحِبِهَا نَفَسَهُ بَعْدَ اِخْتِنَاقٍ.
أَرْجَعَهَا إِلَيَّ بِحِرْصٍ، وَهُوَ يَتَكَلَّمُ وَجْهًا لِوَجْهٍ، كَأَنَّهُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ قَبْلَ أَنْ يُسْمِعَنِي: ــ “قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَى بَيْتِكَ، عَلَيْكَ أَنْ تُرَاجِعَ شُعْبَةَ الحِزْبِ فِي مَدِينَتِكَ، وَتَتَقَدَّمَ بِطَلَبِ اِنْتِسَابٍ إِلَى حِزْبِ البَعْثِ العَرَبِيِّ الاِشْتِرَاكِيِّ.”
صَمَتَ، ثُمَّ أَضَافَ بِصَوْتٍ هَادِئٍ، لَكِنَّهُ مُثْقَلٌ بِالْمَعْنَى وَفِي صَوْتِهِ نَبْرَةٌ تَتَذَبْذَبُ بَيْنَ التَّوْبِيخِ وَالتَّحَذِيرِ، وَعَيْنَاهُ تَجُوبَان قَاعَةَ المَحْكَمَةِ الصَّغِيرَةَ الخَالِيَةَ إِلَّا مِنْ كِلَيْنَا (هو وأنا), وَبِشِدَّةٍ إِلَى البَابِ المُوصَدِ خَلفِي بِإحْكَامٍ: ــ “إِذَا كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَأْمَنَ عَلَى حَيَاتِكَ… وَعَلَى مُسْتَقْبَلِكَ الدِّرَاسِيِّ، وَالمِهْنِيِّ، وَالاِجْتِمَاعِيِّ… فَهُوَ طَرِيقٌ وَاحِدٌ، يَا وَلَدِي.”
كَانَ صَوْتُهُ يَنْزَلُ عَلَيَّ كَحَجَرٍ فِي بِئْرٍ. رَدَدْتُ بِنَظْرَةٍ صَامِتَةٍ، لَا فِيهَا قَبُولٌ، وَلَا رَفْضٌ… فَقَطْ صَمْتُ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّهُ مَازَالَ فِي عَيْنِ العَاصِفَةِ، وَأَنَّ النَّجَاةَ لَا تَعْنِي الحُرِّيَّةَ، بَلْ مُجَرَّدَ هُدْنَةٍ قَصِيرَةٍ. أما جدي الذي أمسكَ بيدي كما لو أنّهُ يُمسكُ بحلمٍ طالَ انتظارهُ، أو بخوفٍ خشيَ ضياعهُ.
لم يتكلّم كثيرًا، ولم أكنْ أحتاجُ الكلماتِ. كانتْ يدهُ وحدها، المشدودةُ إلى كفّي، تقولُ كلّ شيءٍ.
أمسكَ بيدي طوال الطريق، لم يُفلتها، كأنّهُ يخشى أن أتبدّدَ فجأةً، كما تتبدّدُ الأحلامُ عند الفجرِ.
بينما كنتُ أُحاولُ أن أُقنعَ نفسي أنَّني لم أعد في المعتقل.
عندَ وصولِنا إلى المدينة، قادَني إلى دكّانِ والدي في السوق.
كانَ الدكّانُ يعجُّ بالزبائن، رجالٌ ينتظرونَ دورَهم لحلاقةِ العيد، وأبي خلفَ الكرسيِّ منهمكٌ بمقصّه، حتى التفتَ… فرآني.
تجمّدَ للحظة، ثمّ ابتسمَ كما لم يفعلْ من قبل، ورمَى المقصَّ جانبًا، وهرولَ ناحيتي، احتضنني كما لم يحتضنني من قبل، واعتذرَ إلى زبائنه بصوتٍ متهدّجٍ:
ــ “اسمحوا لي… عيدُنا اليومَ قد بدأ.”
رَافَقَنا جَدِّي إِلَى مَنْزِلِهِ القَرِيبِ، وَهُنَاكَ… عِندَ البَابِ، كَانَتْ أُمِّي تَنْتَظِرُ، وَقَلْبُهَا يَتَقَدَّمُهَا خُطْوَةً.
مَا إِنْ رَأَتْنِي، حَتَّى ارْتَفَعَ صَوْتُهَا بِالنَّشِيجِ… لَا، لَيْسَ بُكَاءً عَادِيًّا، بَلْ صَوْتٌ خَرَجَ مِنْ أَعْمَاقِهَا كَمَا يَخْرُجُ الأَذَانُ فِي لَيْلٍ مُمْطِرٍ؛ نِدَاءٌ يَفْتَحُ أَبْوَابَ القَلْبِ وَيَسْقِي الذِّكْرَى.
اِحْتَضَنَتْنِي، وَوَضَعَتْ وَجْهِي بَيْنَ كَفَّيْهَا، كَأَنَّهَا تُطَمْئِنُهُ أَنَّهُ عَادَ، أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ بِالْكُلِّيَّةِ… وَعَيْنَاهَا تُطْلِقَانِ أَمْطَارًا مِنَ الشَّوْقِ وَالدُّعَاءِ، كَأَنَّهَا تُغَسِّلُنِي مِنْ خَوْفٍ قَدِيمٍ.
وَفَجْأَةً، اِنْطَلَقَتِ الزَّغَارِيدُ مِنْ حَنَاجِرِ النِّسْوَةِ فِي بَيْتِ جَدِّي، كَأَنَّهَا أَجْرَاسُ نَجَاةٍ تُقْرَعُ فِي أُذُنِ الْحَيِّ كُلِّهِ. وَهَرَعَت قَرِيبَاتُ أُمِّي مِنَ المَطْبَخِ، يَتْرُكْنَ مَا فِي أَيْدِيهِنَّ مِنْ طَبْخٍ وَخَبْزٍ وَتَحْضِيرٍ، وَهُنَّ يُرَدِّدْنَ الزَّغَارِيدُ وتضمني خالتي إليها وهي تقول:
ــ “رَجَعْ… رَجَعْ نُعْمَان، رَجَعْ وَاللَّهِ رَجَعْ!”
لَمْ يَكُنْ بَيْتُ جَدِّي وَاسِعًا لِيَحْتَوِيَ كُلَّ ذَلِكَ الفَرَحِ، فَانْشَر عَلَى الأَرْصِفَةِ، وَصَعِدَ مَعَ الدُّخَانِ العَطِرِ، وَطَافَ عَلَى الأَبْوَابِ يَسْتَأْذِنُهَا… أَيُّهَا الجِيرَانُ، نُعْمَانُ قَدْ عَادَ.
الأَيَادِي كَانَتْ تُعِدُّ مَوَائِدَ الإِفْطَارِ، وَالْقُلُوبُ تُصَلِّي فَرَحًا، وَأَنَا؟ كُنْتُ أُحَاوِلُ أَنْ أُصَدِّقَ أَنَّنِي عُدْتُ. كَأَنَّ فِي رُوحِي بَقَايَا قَيْدٍ… لَمْ تُنْزَعْ بَعْدُ.
وَقَبْلَ أَنْ يُؤَذَّنَ المَغْرِبُ، وَنَجْلِسَ لِطَعَامِ الإِفْطَارِ، تَذَكَّرْتُ تِلْكَ الجُمْلَةَ الَّتِي نَطَقَ بِهَا القَاضِي، وَتِلْكَ الَّتِي لَمْ يَقُلْهَا… تِلْكَ الَّتِي وَجَدْتُهَا فِي نَبْرَةِ صَوْتِهِ، وَنَظْرَتِهِ، وَفِي الطَّرِيقَةِ الَّتِي أَمْسَكَ بِهَا بِطَاقَةَ هُوِيَّتِي.
اِلْتَفَتُّ إِلَى وَالِدِي وَقُلْتُ، وَصَوْتِي يَسْتَأْذِنُ كَمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ فَرَحٍ إِلَى وَاجِبٍ:
ــ “أَبِي… القَاضِي أَوْصَانِي أَنْ أُرَاجِعَ شُعْبَةَ الحِزْبِ فِي دُوْمَا، قَبْلَ أَنْ أَذْهَبَ إِلَى البَيْتِ.”
لَمْ يَتَكَلَّمْ. فَقَطْ أَمْسَكَ بِيَدِي، كَمَا فَعَلَ جَدِّي، وَسِرْنَا سَوِيًّا. الطَّرِيقُ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا، وَكُنَّا نَعْرِفُهُ جَيِّدًا؛ فَمَقَرُّ الشُّعْبَةِ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْ بَيْتِ جَدِّي.
لَكِنْ… عِنْدَمَا وَصَلْنَا، وَجَدْنَا الأَبْوَابَ مُغْلَقَةً، وَالمَكَانَ خَالِيًا.
اِقْتَرَبَ مِنَّا أَحَدُ الجِيرَانِ، وَهُوَ يَهُمُّ بِالسَّلَامِ عَلَيْنَا وَقَدْ لَاحَتِ البِشْرَةُ فِي وَجْهِهِ، وَقَالَ مُبْتَسِمًا:
ــ “العِيدُ غَدًا، يَا أَبَا نُعْمَان… الشُّعْبَةُ مُغْلَقَةٌ، سَيَعُودُونَ بَعْدَ اِنْتِهَاءِ عُطْلَةِ عِيدِ الفِطْرِ.”
نَظَرْتُ إِلَى وَالِدِي، فَتَنَهَّدَ، وَقَالَ بِنَبْرَةٍ فِيهَا مَزِيجٌ مِنَ الحَذَرِ وَالتَّسْلِيمِ:
ــ “لِكُلِّ شَيْءٍ وَقْتُهُ… وَاليَوْمُ، يَا بُنَيَّ… يَوْمُكَ. هَيَّا، لِنُسْرِعْ فِي العَوْدَةِ، فَلَمْ يَبْقَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَذَانِ المَغْرِبِ سِوَى دَقَائِقَ قَلِيلَة.” لكنني ما زلت أشعر بأني لم أعدْ في المعتقل… لكنّني لم أخرجْ منه كليًّا بعدُ.”
بَعْدَ الإِفْطَارِ، وَفِيمَا كَانَت أصَواتُ المُآذِّنِ تَتَرَنَّمُ فِي الأُفُقِ كَأَنَّها تُعَلّقُ نَجْمًا جَدِيدًا عَلَى سَمَاءِ العِيدِ، اِسْتَأْذَنَ وَالِدِي بِصَوْتٍ هَادِئٍ لِلْعَوْدَةِ إِلَى دُكَّانِهِ… فَـالزَّبَائِنُ والجِيْرَانِ وبعضُ الأصدقاءِ لَمْ يَغَادِرُوا، وَكُلٌّ مِنْهُمْ كَانَ يَتَسَمَّرُ فِي مَكَانِهِ كَمَنْ يَنْتَظِرُ دَوْرَهُ فِي حِصَّةِ لَيَالِي رَمَضَانَ والعِيْدِ مِنَ الحَدِيثِ وَالحِلاقَةِ وَالشَّاي.
لَمْ أَكُنْ أَدْرِي حِينَهَا أَنَّ الدُّكَّانَ لَدَيْهِ قَلْبٌ آخَرُ… قَلْبٌ يُنَبِّضُ بالحياة لِلآَخَرِينَ فِي جَانِبِهِ المَجَازِيِّ، وَهُوَ ذَلِكَ المَطْعَمُ الصَّغِيرُ الَّذِي يَمْلِكُهُ صَدِيقُ وَالِدِي، “أَبُو رَشِيد الجُوبَان”، الَّذِي كَانُوا يُنَادُونَهُ بِـ”الوَزِيرِ”، لا لِقُرْبِهِ مِنْ سُلْطَةٍ، بَلْ لِحِسِّهِ الفَنِّيِّ فِي تَرتِيبِ الصُّحُونِ وَتَزْيِينِ المَوَائِدِ.
كَانَ “أَبُو رَشِيدٍ” – بِتِلْكَ اللِّحْيَةِ الخَفِيفَةِ، وَالصَّوْتِ الرَّخِيمِ – يُعِدُّ مَائِدَةَ الإِفْطَارِ وَيَحْمِلُهَا كَتُحْفَةٍ، وَيُودِعُهَا فِي دُكَّانِ أَبِي، لِيَأْكُلَ كُلُّ مَنْ يَجْلِسُ هُنَاكَ، دُونَ أَنْ يَتَخَلَّى عَنْ دَوْرِهِ، أَوْ يَفْقِدَ حَظَّهُ مِنْ حِصَّةِ الحِكَايَةِ وَالحُضُورِ.
أَكْوَابُ الشَّايِ؟ آهٍ، تِلْكَ قِصَّةٌ أُخْرَى…
كَانَ شَايُ أَبِي، ذَاتَ نَفْسٍ، يُحَضَّرُ عَلَى مَهَلٍ كَأَنَّهُ طَقْسٌ مِنْ طُقُوسِ العِشْقِ. فَالنَّارُ هَادِئَةٌ، وَالْمَاءُ يُسْكَبُ بِزَوَايَا وَاثِقَةٍ، وَالشَايُ تُضَافُ فِي لَحْظَةٍ تُشْبِهُ التَّعْوِيذَةَ. وَكَانَ كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الشَّايِ يَقُولُ، كَأَنَّهُ يُسَلِّمُ بِحَقِيقَةٍ أَبَدِيَّةٍ:
ــ “مَهْمَا شَرِبْتَ شَايًا، فَلَنْ تَتَذَوَّقَ مِثْلَ ذَلِكَ الَّذِي تَصْنَعُهُ يَدُ أَبِي نُعْمَان.”
وَهِيَ عِبَارَةٌ اتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلَى تَرْدِيدِهَا، كَأَنَّهَا حُكْمٌ جَمَاعِيٌّ لَا يُنْقَضُ، وَمَعَهَا كَانُوا يُثْنُونَ عَلَى صَحْونِ “أَبِي رَشِيد”، وَتَرْتِيبِهِ، وَتَنَاغُمِ مَكَوِّنَاتِهِ: الجُبْنَةُ البَيْضَاء، وَالمُرَبَّى، وَالتَّمْرُ، وَالزَّيْتُونُ، وَشَرَائِحُ البَيْضِ، وَقِطَعُ الخُبْزِ المُحَمَّصِ، وَرَشَّةُ الزَّعْتَرِ عَلَى الطَّرَفِ, إِضَافَة إِلَى صُحُونِ الحُمُّصِّ وَالفُولِ بِتَرَاتِيبِهَا وَتَعَدُّدِ أَنْوَاعِهَا, مُفْردَةً تَارَةً وَمُجَمَّعَةً تَارَةً أُخْرَى.
تِلْكَ كَانَتْ دُكَّانَ أَبِي فِي رَمَضَان… حَلَقَةُ وُدٍّ، وَمَائِدَةُ كَرَمٍ، وَمَجْلِسُ قَصَصٍ… وَكُلُّ مَنْ فِيهِ سَيَنْتَظِرُ أَنْ يَعُودَ شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَك ليُقْسِمُ أَنَّ فِي تِكْرَارِ الحِكَايةِ لَذَّةً لا تَقِلُّ عَنْ تَجْرِبَتِهَا الأُولَى.
ٱسْتَأْذَنْتُ الجَمِيعَ، بِكُلِّ لُطْفٍ، أَنْ أَعُودَ إِلَى بَيْتِنَا، وَأَلْتَجِئَ إِلَى رِحَابِ غُرْفَتِي… فَكَمْ كُنْتُ أَشْتَهِي ذٰلِكَ اللِّقَاءَ الحَمِيمَ مَعَ المَاءِ، وَذٰلِكَ السُّكُونَ العَذْبَ فِي ثِيَابٍ نَظِيفَةٍ، وَسَرِيرٍ يَشْبِهُ الحَنَانَ. كُلُّ خَلِيَّةٍ فِي جَسَدِي كَانَتْ تَصِيحُ: **نَوْمٌ… نَوْمٌ طَوِيلٌ، كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُطْفِئَ فِي الدَّاخِلِ أَصْوَاتَ مَا زَالَتْ تَرْتَجِفُ.**
أَرَادَتْ أُمِّي أَنْ تُرَافِقَنِي، كَمَا تَفْعَلُ كُلَّمَا غِبْتُ عَنْهَا سَاعَةً، فَكَيْفَ وَقَدْ غِبْتُ هٰذِهِ الأيام والليالي العشر؟ لَكِنِّي أَلَحَحْتُ عَلَيْهَا أَنْ تَبْقَى… قُلْتُ لَهَا وَأَنَا أَمْسَحُ عَلَى يَدِهَا:
ــ “بَلْ ابْقَيْ مَعَ وَالِدِكِ، وَإِخْوَتِكِ، وَالنِّسْوَةِ… أَنَا فَقَطْ أُرِيدُ أَنْ أَسْتَحِمَّ، وَأَغْفُو، وَأَظُنُّ أَنَّ نَوْمَتِي سَتَطُولُ حَتَّى ثاني أَيَّامِ العِيدِ بَعْدَ الغَدِ.”
وَ يَا لَحُسْنِ حَظِّي، لَمْ تَأْتِ أُمِّي مَعِي. لَوْ رَأَتْ مَا حصل، وَسَمِعَتْ مَا قيل، لَمَا نَامَتْ لَيْلَتَهَا.
عِنْدَمَا فَتَحْتُ بَابَ البَيْتِ الكَبِيرِ، تَسَلَّلَتْ إِلَيَّ رَائِحَةُ التُّرَابِ المُبْتَلِّ، وَصَدَى أَصْوَاتِ أَطْفَالٍ يَضْحَكُونَ فِي سَاحَةِ البيت. كَأَنَّ البَيْتَ، بِكُلِّ زَوَايَاهُ، كَانَ يُحَاوِلُ أَنْ يَضُمَّنِي إِلَى صَدْرِهِ، كَمَنْ يَسْتَقْبِلُ وَلَدًا تَأَخَّرَ فِي العَوْدَةِ.
رَكَضَ أَبْنَاءُ عُمُومَتِي نَحْوِي، صِغَارٌ تَزَاحَمَتْ عَلَى وُجُوهِهِمْ بَسْمَاتُ العِيدِ، وَتَرَانِيمُ الطُّفُولَةِ تُلَاحِقُ خُطَايَ. وَقَبْلَ أَنْ أَبْتَسِمَ لَهُمْ، أَوْ أَجُثَّوَ عَلَى رُكْبَتَيَّ لِأَحْتَضِنَهُمْ، فُتِحَ بَابٌ آخَرُ، لَمْ يَكُنْ فِي الحُسْبَانِ.
خَرَجَ جَدِّي.
وَجْهُهُ، كَمَا لَمْ أَرَهُ قَطُّ، مُتَجَهِّمٌ كَسَحَابَةِ صَيْفٍ تَكْتُمُ الرَّعْدَ، وَعُرُوقُ عُنُقِهِ تَتَفَجَّرُ غَضَبًا، وَنَظْرَتُهُ نَازِلَةٌ عَلَيَّ كَالسَّهْمِ، تُفْلِتُ مِنْ قَوْسِ صَمْتٍ مُرْعِبٍ.
وَقَبْلَ أَنْ أَسْتَفْسِرَ، أَوْ أَسْتَعِدَّ، هَوَى بِكَفِّهِ عَلَى وَجْهِي.
صَفْعَةٌ… لَيْسَتْ لِلْوَجْهِ، بَلْ لِلرُّوحِ.
صَفْعَةٌ أَيْقَظَتْ فِي أَعْمَاقِي الذِّكْرَى القَدِيمَةَ… صَفْعَةُ “بِنَاءِ الأَمْنِ السِّيَاسِيِّ”.
لَمْ أَسْقُطْ، بَلْ تَزَحْزَحْتُ خَطْوَةً، كَأَنَّ الأَرْضَ تَحْتِي مَالَتْ، وَرَأْسِي دَارَ، وَصَمَتَ كُلُّ مَا فِيَّ مِنْ نَطْقٍ، كَأَنَّ الصَّوْتَ خَافَ مِنْ نَفْسِهِ. وَصَمْتت كُلُّ حَاسَّةٍ فِيَّ عَنْ النُّطْقِ.
لا أدري .. هل كَانَتِ الصَّفْعَةُ سُؤَالًا، وَهل صَمْتِي كَانَ جَوَابًا لَا يُشْفِي لَا يُرْضِي وَلَا يُرِيحُ.
قَبْلَ أَنْ أَسْأَلَ: “لِمَاذَا؟”، جَاءَ عَمِّي “أَبُو صَلَاح”، أَخُو جَدِّي الأَصْغَرُ، وَكَانَ فِي وَجْهِهِ مَا يُشْبِهُ التَّوَجُّسَ، يَجُرُّ يَدَ جَدِّي بِرِفْقٍ يُخْفِي عَاصِفَةً تَكْتُمُ زَئِيرَهَا.
ــ «هَدِّئْ نَفْسَكَ، أَخِي… دَعْنَا نُفْهَمْهُ مَا جَرَى فِي غِيَابِهِ.»
ثُمَّ مَالَ نَحْوِي، وَنَظَرَ فِي عَيْنَيَّ، كَأَنَّهُ يُفَتِّشُ فِيهِمَا عَنْ قَطْرَةِ نَدَمٍ، وَقَالَ بِصَوْتٍ يَسْعَى لِرَأْبِ مَا تَصَدَّعَ:
ــ « تَقَدَّمْ، يَا نُعْمَان… قَبِّلْ يَدَ جَدِّكَ، وَاعْتَذِرْ. لَيْسَ مِنْ أَجْلِ نَفْسِكَ، بَلْ مِمَّا جَرَّهُ غِيَابُكَ عَلَيْنَا.»
وَقَفْتُ، كَأَنَّنِي أَجُرُّ جَبَلًا مِنْ أَسْئِلَةٍ لَا جَوَابَ لَهَا. كُنْتُ أَتَرَدَّدُ بَيْنَ خُطُوَةٍ وَأُخْرَى. كَيْفَ أَعْتَذِرُ عَنْ ذَنْبٍ لَمْ أَقْتَرِفْهُ، وَأَتَحَمَّلُ وَزْرَ خَوْفٍ أَسْكَنُوهُ فِيّ؟
لَكِنِّي تَقَدَّمْتُ. عَيْنَايَ تَطَأْطِئَانِ، وَخُطَايَ تُشْبِهُ مَسِيرَةَ مَنْ يَحْمِلُ وَزْرَ أُمَّةٍ.
مَدَدْتُ يَدَيَّ، وَقَبَّلْتُ يَدَ جَدِّي وَقُلْتُ بِصَوْتٍ خَافِتٍ يَخْنُقُهُ الحَيَاءُ:
ــ «أَعْتَذر مِنْكَ، يَا جَدِّي….»
لَمْ يُجِبْ.
يَدُهُ الَّتِي كُنْتُ أُمْسِكُهَا، انْفَلَتَتْ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِي، كَأَنَّهَا تَتَبَرَّأُ مِنِّي، ثُمَّ صَاحَ بِصَوْتٍ تَصَدَّعَتْ لَهُ جُدْرَانُ البَيْتِ:
ــ «لَمْ يَبْقَ شِبْرٌ فِي هَذَا البَيْتِ، إِلَّا وَدَاسَتْهُ عَسَاكِرُهُمْ، وَنَبَشَتْهُ كِلَابُهُمْ… لَمْ يَحْتَرِمُوا بَيْتًا، وَلَا أَهْلًا، وَلَا نِسَاءً. أَرْعَبُوا أُمَّكَ، وَأَخَافُوا أَخَوَاتِكَ، وَبَكَى أَطْفَالُنَا و علت صرخاتهم مِنْ رهْبةِ ما رَأَوْا مِنْ العبثِ بأمتعتهم وتَشَتُتِ ألْعَابِهِم وأدواتهم وما سمعوا من دَوِيِّ الخبط على الأَبْوَابِ، وَبَقِيَتْ العُيُونُ تُحَدِّقُ فِيَّ كَمَنْ يَنْتَظِرُ تَوْضِيحًا، أَوْ حُكْمًا, حتى الجيران والمارة توقفوا يرقبون من بعيد وكل منهم يتساءل, وما زالوا يسألون ما الذي فعلناه, …. وَكُلُّ ذٰلِكَ… بِسَبَبِكَ!”
وَأَخَذَ عَمِّي “أَبُو صَلَاح”، يَدَ جَدِّي بِلِينٍ، وَوَضَعَهَا عَلَى رَأْسِي، كَمَنْ يَسْتَعِيدُ مَا انْكَسَرَ. مَسَحَ عَلَى وَجْهِي، وَقَالَ بصَوْتٍ يَتَخَلَّلُهُ الأَسَى:
ــ «عَلَيْكَ أَنْ تَعْتَذِرَ لِأُمِّكَ، وَجَدِّكَ، وَكُلِّ مَنْ فِي البَيْتِ، يَا نُعْمَان… الرُّعْبُ الَّذِي عَاشُوهُ فِي سَاعَاتٍ، لَا يُمْكِنُ لِلزَّمَنِ كُلِّهِ أَنْ يُرَمِّمَهُ. هَذَا الأَلَمُ لَيْسَ مِنْكَ، بَلْ عَلَيْكَ. هُمْ شِاهَدُوا مَا حَصَلَ هُنا, فَكَيْفَ يُمْكِنُ لَهُمْ أِنْ يَتَخَيَّلُوا مَا كَانَ يَحْدُثُ لَكَ, فأَنْتَ لَا تُدْرِكُ مَا فَعَلَهُ غيابُكَ فِي أَعْيُنِهِمْ. كُنَّا نَبْتَعِدُ عَنِ السِّيَاسَةِ، وَنَرْكُضُ نَحْوَ خُبْزِنَا، فَمَا الَّذِي جَعَلَكَ تَسْلُكُ طَرِيقَ النَّارِ؟»
تَقَدَّمْتُ نَحْوَ جَدِّي مرة أخرى وَعَيْنَايَ تُطَأْطِئَانِ بَصَرَهُمَا، كَأَنَّنِي أَحْمِلُ خَطِيئَةَ مَا حَدَثَ… وَمَا لَمْ أَحْدُثْهُ.
مَدَدْتُ يَدَيَّ وَقَبَّلْتُ يَدَهُ، يَدًا خَشِنَةً، تَشْهَدُ عَلَى سِنِينَ مِنَ العَمَلِ وَالضَّنْكِ، وَقُلْتُ بِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ:
ــ “سَامِحْنِي، يَا جَدِّي… لَمْ أَكُنْ أَعْلَمُ أَنِّي آذَيْتُكُمْ، وَلَمْ أَكُنْ أَقْصِدُ ذٰلِكَ. فما كُنْتُ ضَائِعًا، وَلكنَّ الخَوْفُ الَّذِي عِشْتُهُ هُنَاكَ كَانَ أَكْبَرَ مِنِّي, عَلِمْت الآنَ كَمْ تألمْتُم! وَكم ضَيَّقْتُ عَلَيْكُم! وَلَكِنَّنِي لَمْ أَكُنْ أَعْنِي ذٰلِكَ… .”
ثُمَّ سَكَتَ، وَأَدَارَ ظَهْرَهُ، وَمَضَى جَارًّا جَدِّي إِلَى غُرْفَتِهِ.
تَبِعْتُهُمَا بِنَظَرِي، وَصَدْرِي يَخْتَلِجُ. كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَصْرُخَ: «لَمْ أَكُنْ أُرِيدُ أَنْ أُؤْذِيكُمْ…»
وَلَكِنَّ الصَّمْتَ بَعْدَ صَفْعَةٍ، يُشْبِهُ دُعَاءً خَجُولًا، لَا يَجْرُؤُ عَلَى سَمَاعِ نَفْسِهِ.
جَلَسْتُ عَلَى حَافَّةِ سَرِيرِي، وَوَجْهُ أَبِي، الغَائِبِ، يَتَلَأْلَأُ فِي خَيَالِي، كَأَنَّهُ يَقُولُ لِي:
ــ «كُلُّنَا أُصِبْنَا، يَا بُنَيَّ… وَلَكِنَّنَا لَا نَكْرَهُ مَنْ نُحِبُّهُ. نُعَاتِبُهُ، لِكَيْ لَا يُؤْذِي نَفْسَهُ ولا يؤذينا مَرَّةً أُخْرَى.»
أَسْدَلْتُ سِتَارَ النَّافِذَةِ، وَخَلَعْتُ قَمِيصَ المَعْتَقَلِ، وَوَقَفْتُ أَمَامَ الْمِرْآةِ…
مَنْ هَذَا الَّذِي يُحَدِّقُ فِيَّ؟
لَا يُشْبِهُنِي.
وَلَكِنْ… فِي عَيْنَيْهِ بَقَايَا نُعْمَانَ الَّذِي كُنْتُهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ جَدَّتِي لتواسيني, وتمسح بيدها ما أرهقني من آلام ، تَخُطُّ خُطَاهَا عَلَى الأَرْضِ كَمَنْ يَحْمِلُ كَفًّا مِنْ سَكِينَةٍ. وَجَلَسَتْ إِلَى جَانِبِي، وَمَسَحَتْ بِرِفْقٍ عَلَى وَجْهِي، وَقَالَتْ:
ــ «أَعْدَدْتُ لَكَ الحَمَّامَ، يَا حَبِيبَ جَدَّتِهِ… قُمْ وَاغْتَسِلْ، وَدَعِ الحُزْنَ يَسْقُطُ مَعَ المَاءِ. فالبيت من دونك كان كأن لا روح فيه.»
ــ “سَأَفْتَحُ صَفْحَةً جَدِيدَةً… لِأُمِّي، ولكِ وَلِجَدِّي، وَلأَبِي وَلِنَفْسِي.”
بعد أن أنهيت حمّامي، وتهيأت للخلود إلى النوم، إذ بطرقات خفيفة على الباب تُنذر بزيارة غير متوقعة. لم يكن في البيت من يطرق بتلك الطريقة إلا هو.
دخل عمي، “أبو صلاح” كما نناديه، المثقف الوحيد في العائلة، والموظف السابق الذي تقلّد منصب مدير للبريد والبرق والهاتف إبّان الاحتلال الفرنسي لسوريا وما بعد, وشهد السياسة واختبر السياسيين.
كان وجهه يحمل دائمًا ملامح زمنٍ مضى، وتغشاه مسحة فخرٍ بتلك المرحلة، ولما يرويه من علاقات وطقوس لم نكن ندرك حقيقتها تمامًا.
وقف عند طرف السرير، وألقى عليّ نظرة طويلة كأنه يُقلّب وجهي في ضوء الذاكرة، ثم قال بصوته الرخيم المتثاقل:
– ” أريد أن أتكلم معك … عن الذي صار، وعن سبب اعتقالك, فقد حضرت اليوم خصيصاً من أجلك لأني أعرف أخي الكبير جيداً, وأعرف كيف يفكر! وكيف يتصرف! وقد خفت أن يسبب لك أذى, لا لأنه يكرهك أو يحقد عليك لا سمح الله لا أبدا. ولكنه رجل اعتاد أن يبحث عن أسباب رزقه منذ ساعات الفجر الأولى وحتى نهاية كل يوم. وهو كذاك منذ أن وعيت عليه في بيت والدنا رحمه الله.”
جلست على طرف السرير، أُصلح طيّة الغطاء كمن يبحث عن ترتيب داخلي بعد فوضى، فيما هو أخذ مكانه على الكرسي الصغير قرب مكتبي. أخرج من جيب سترته علبة سجائره «اللف» ولف واحدة وقدمها لي واخرى أشعلها بهدوء لا يخلو من استعراض متأنٍّ، ثم نفث الدخان في الفراغ كما لو كان يرسم به سيرة قديمة.
– ” هل كنت تتوقع أن يحدث معك هذا؟”
قال وهو يشيح بنظره عني كمن لا يريد أن يراني منكسراً.
– ” ماذا يعني؟” سألت وأنا أحاول أن أبدو صامداً رغم الخدر الذي ما زال يسري في عظامي من الليالي الماضية.
– ” يعني، شغفك المتزايد بالكتب، بالكلام، بالشعر، … كل هذه القصص لها ضريبة، وانت دفعت أول قسط منها”.
سكتَ قليلاً، ثم حدّق في وجهي كأنه يقيس عمر الخوف في عيني، وأضاف:
– ” هل تعلم، أيام كنا تحت الانتداب، كنا نعرف متى نحكي… لكن كنا نعرف متى نسكُت أيضاً. أيام فرنسا كانت القوانين واضحة، العساكر واضحين، حتى السجون كان لها نظام. أما اليوم… ما عدت تعرف عن أحدا أين يبدأ ولا أين يقّف”.
أردت أن أقول شيئًا، شيئًا يُدافع عنّي أو عن الحلم الذي حملته كخيطٍ في متاهة، لكن الكلمات خانتني، تمامًا كما خانني جسدي تلك الليالي حين انفلت من إرادتي وبقي يصارع الظلّ دون صوت.
– ” يعني حضرتك يا عمي ترى أنني ارتكبت خطأ؟”
همستُ كأنّي أبحث عن تبرئة لا عن جواب.
ابتسم، أو هكذا ظننت، وقال:
– ” لا يا بني، ما أخطأت… لكنك حلمت. والحلم في هذه الأيام صار جريمة. أنا لا ألومك، أنا أريد فقط أن تصحو، وتنتبه إلى أن الدنيا ليست دائمًا متل الكتب، ولا الناس من حولك متل الشعراء. نحن صرنا بزمن يلزم المرء أن يخبّئ قلبه تماما متلما يخبّئ سلاحه”.
ثم قام فجأة، كما جاء، ونفث سحابة دخان أخيرة في سقف الغرفة، وقال قبل أن يغادر:
– ” نم، وحاول أن تنسى … لأن التذكّر هو الذيلي يكسر، وليس الضرب.
وبقيت وحدي، أتأمل دخان سيجارته يتلاشى في هواء الغرفة، وأنا أسأل نفسي:
هل كنتُ أحلم… أم كنتُ فقط لا أعرف كيف أُخفي قلبي؟
لكنه بعد أن غادر عاد ثانية. ظل واقفاً عند الباب، يُحدّق في العتمة التي بدأت تزحف على زوايا الغرفة، ثم عاد بخطواتٍ بطيئة إلى الكرسي، جلس، وأطفأ عقب السيجارة في منفضةٍ زجاجية كأنها بقايا مكتبه القديم في البريد.
– ” انظر يا نُعمان…
نحن لسنا أول ناس يُساقوا إلى السجن، ولسنا الآخرين الذين سيحلمون، بكن هذه البلد… الحياة في هذه البلد ليست راحة بل هي مطبات متتالية، ليس لعدم وجود طيّبين، لكن لأنه لا يوجد أمل في العيش إلا بين الجدران العالية.
نظرت إليه، فتابع وكأنّ نهرًا قد انفتح بداخله:
– ” هل تذكر عندما كنت صغيرا وكنت تسألني عن تاريخنا؟ كنت أقول لك: لقد زهق تاريخنا من شعب لا يثبت، لا يتّحد، لا يعرف كيف يحكم نفسه. كنا نصرخ استقلال، لكن عندما خرج المحتل رجعنا نتقاتل، على العلم، على الكرسي، على الكلمة.
صمت قليلًا، ثم قال بصوتٍ أقلّ غضبًا:
– ” هذا الحُكم؟
الحكم الذي كنت معتَقل من أجله؟
هذا ليس حكما، هذا طَبَق فوق طَبَق، جدار فوق جدار، يرجعك ميت وانت تمشي. كل شيء فيه مبني على الخوف، على السمع والطاعة، وليس على القناعة. لا يريدون ناس تفكّر، بل ناس تسير… تمشي، تسكت، تُصفّق.
تنهد ببطء وأشاح بوجهه، كأنما لا يريد أن يسمع صوته:
– ” هذه البلد ستصبح متحفا للأسلاك، مقبرة للأفكار. أنا يا بني صرت أكره نفسي لأني كنت صدّق إن الثقافة تنقذ. اشتغلت بالكتب، بالبريد، بالهاتف، وبالنهاية؟ صرت شاهِدا على انقراض الإنسان الحر.”
– ” إذا يا عمي، وما الذي نعمله؟” سألتُه وأنا أشعر أني أغرق في لجّة سؤاله الكبير.
رفع إصبعه كمن يُلقي حكمة:
– ” نختار… نختار أن نعيش صح أو نعيش سالمين. لكن الجمع بين الاثنين؟ صار مستحيلا. وأنت تعرف ما المؤلم في هذا؟
لأنك إذا اخترت أن تعيش صح، يجب أن تقرر كيف ستدفع وحدك. ولأن الباقي، الباقي سيلومك، أو يسكتوا، أو يشيحوا بوجوههم وكأنهم ما عرفوك.
أحسست بشيء يتحرك في صدري… مزيج من الحزن والحيرة والغضب. قلت له:
– ” لكن نحن شباب! لا بحق لنا أن نُحبَط هكذا من أول مواجهة.
نظر إليّ نظرة طويلة، ثم قال بنبرة فيها رفقٌ مفاجئ:
– ” إي نعم، أنتم شباب. ولهذا من الممكن أن يبقى عندكم أمل… لكن انتبه، لشيئين أولهما من هم خلفك من أهل وأقارب, ثانيهما لا تدع هذا الأمل يتحول وهْما. فلا تعيش من أجل أن تموت بكرامتك، بل لتموت إذا كان ينبغي عليك أن تعيش بكرامة. والفرق وإن كان بسيطاً… لكنه جوهري.
ثم نهض أخيرًا، ووقف عند باب الغرفة، قبل أن يقول كلمته الأخيرة:
– ” هذه البلد لا مكان فيها للذي يصرخ، المكان فيها للذي ينجو وأسرته بأمان”
وترك الباب مواربًا، كما لو كان يدعوني أن أختار بين الخروج أو البقاء.
ظللتُ جالسًا لا أُحرك ساكنًا. كأنما خرج عمي من الغرفة، لكنه ترك صدى صوته يتردّد بين الجدران، يطرق رأسي كما لو كان يوقظ شيئًا نائمًا في داخلي منذ زمن.
” لا تعيش من أجل أن تموت بكرامتك، بل لتموت إذا كان ينبغي عليك أن تعيش بكرامة.”…
ظلّت هذه العبارة تدور كدوامة، تسحبني إلى قاعٍ من الأسئلة.
هل كنتُ واهمًا حين ظننت أن الكرامة لا تُشترى إلا بالصدق؟
وهل يجوز لي أن أحيا حياةً هادئة، مشروطة، خالية من الصراخ… وأزعم أني ما زلتُ نزيهًا؟
نظرتُ إلى يديّ… كانت لا تزال ترتجفان.
الحمّام الدافئ لم يُزل بعد أثر البرد الذي تسلّل إليّ في تلك الليالي الطويلة داخل الزنزانة.
لكنّ الذي ارتجف أكثر… كان قلبي.
قلبي الذي ظنّ أنه سيجد في الحلم عزاء، فإذا به يرى في الحلم فخًّا جديدًا.
هل كنتُ حقًّا حرًّا؟
أم كنتُ فقط فتى صغيرًا اختار أن يكون صادقا، ليُثبت لنفسه أنه موجود؟
كنتُ أظنّ أن الجدران التي بيني وبين العالم خارجية، واضحة، مرئيّة…
لكنني الآن أرى جدرانًا أعمق، تمتدّ في الداخل:
جدار الخوف، جدار الشك، جدار ما قاله عمّي الليلة…
لأوّل مرّة أشعر أنني لا أعرف أي الطريقين أصلح لي:
أن أسير على الحبل المشدود بين الكرامة والسلامة، أم أن أقطع الحبل نفسه، وأهوي؟
لكن إلى أين؟
هل الأحلام والأسئلة، يا ترى، تستحقّ أن نُعتقل من أجلها؟
أم أن الحياة الحقيقية تبدأ فقط حين نكفّ عن الحلم، ونبدأ في الفعل؟
وهل الفعل… فعلٌ واحد، أم خياراتٌ كثيرة، كلها ناقصة، وكلها تكلّفنا جزءًا منّا؟
أغمضتُ عينيّ، واستلقيت.
كنتُ أسمع صوت جدي القديم في الحكايات… وصوت أبي المتعب في آخر زيارة… وصوت أمي عند كل عودة لي… وصوتي أنا حين كنتُ أُقسم، هناك، في العتمة، أنني لن أنكسر.
الليلة، لم أُقسم شيئًا.
الليلة… فقط، كنتُ أستمع. لكني.. مع كل ما بي ….. لم أنم.
الفصلُ الحادي والثلاثين مُرَاجَعَةُ فِرْعِ 33
________________________________________
مَضى العِيدُ كَما يَمضي الحُلمُ في لَيلةٍ صيفيَّةٍ، خَفيفًا، خَاطِفًا، يُلَوِّحُ من بعيدٍ ثمَّ يَغيبُ. ولم يَكد يَنقضي شهرٌ واحدٌ على انقضائِه، وتحديدًا في يَومِ الأحد السَّابعَ عَشرَ من تَشرينَ الثَّاني عامَ ألفٍ وتِسعِمِائةٍ وأربعٍ وسبعين، حتّى وَصلَ شُرطيٌّ إلى بابِ دارِنا في مدينةِ دُوما.
كَانَ جدّي يَجلسُ في دكانه الصغير الملحقة بغرفته، يُقشِّرُ رُمّانةً نَضَجَت على مَهَل. تَقدَّمَ منه الشُّرطيُّ ببطاقةٍ مُغلَّفة، خُطَّ على غلافِها الخارجيّ اسمي وعُنواني بخطٍّ مائلٍ غليظٍ. جَفَّتِ الرُّمّانةُ في يده، وسَألَ بصوتهِ الرّخيمِ المُتحفِّظ:
ـ “ما الأمر؟”
أجابه الشُّرطيُّ بجُملةٍ جافّةٍ، ومَضى دونَ أن يَلتفتَ. فَفَتحتُ البِطاقةَ وأنا أُحاوِلُ كَتمَ وَجَلٍ خَفِيٍّ بدأ يَتَسرَّبُ إلى نَبضي، وإذا بداخلِها كُتِبَ ما يلي:
**”عَلَيْكَ مُرَاجَعَةُ فِرْعِ الأَمْنِ السِّيَاسِيِّ بِدِمَشْق، قِسْمُ المُتَابَعَةِ، فِي اليَوْمِ وَالسَّاعَةِ المُحَدَّدَيْنِ خَلْفًا.”**
تنهَّدتُ، والتفتُّ إلى جَدِّي. هزَّ رأسَه ببطءٍ، ثمّ قال بصوتٍ متهدِّجٍ:
ـ “لا بُدَّ أن تَذهبَ… كَم مِثْلُها مَرَّ.”
ومنذُ ذاكَ اليومِ، صارَ الاستدعاءُ ضيفًا شَهريًّا لا يُخطِئُ العَنوان. في كُلِّ مرّةٍ، أَقطعُ ما بيدي من عملٍ أو دراسة، وأَمْثُلُ أمامَ الفَرع في السَّاعة الثَّامنةِ صباحًا، أَنتظرُ عندَ البَوّابة، حيثُ يُلقي المساعدُ نظرةً خاطفةً على وجهي، يتأكَّدُ من وصولي، ثم يُتركني واقفًا دونَ كلِمة.
في السنواتِ الثَّلاثِ الأُوَلِ، كثيرًا ما كان يَنقضي الدَّوامُ عند السّاعةِ الثَّانيةِ بعد الظّهر دونَ أن يُناديني أحد، فأدخُلُ غرفةَ المساعدِ الأوّلِ بنفسي، أَسألُهُ:
ـ “ماذا يجب أن أفعل؟ لقد انقضى الدّوام.”
فيَردُّ بِكلمةٍ واحدةٍ تُلخِّصُ العبثَ كلَّه:
ـ “اذهب الآن، وسَنَستدعيكَ في الشهرِ القادم.”
ومع تَكَرارِ الأمر، صارَ المساعدُ الأوّلُ وبعضُ الحُرّاسِ يَعرفونني، يُومِئون لي بالدُّخولِ إلى غرفةِ المُحرسِ، أو غرفةٍ جانبيّةٍ أَجلسُ فيها، خاصّةً في أيّامِ الشّتاءِ القارسِ أو صيفِ الشّامِ اللاهبِ. تحوَّلَ الخوفُ إلى عادةٍ، والعادةُ إلى طقسٍ مُمِلّ، كأنّني أعيشُ على إيقاعِ هذا الاستدعاءِ، حتّى صِرتُ أتحسَّسُ غيابه، وأتقصّى أثرَه.
وإنْ تأخَّرَ الاستدعاءُ، سألتُ جميعَ أفرادِ العائلةِ:
ـ “هل استَلمَ أحدُكم بطاقةَ الاستدعاءِ هذا الشهر؟”
فإن أنكروا، رُحتُ بنفسي إلى الفرعِ دونَ دعوة، خوفًا من أن يكونَ أحدُهم قد استلمها وبَصمَ بدلًا عني، ونَسيَ أن يُخبِرني.
في صَيفِ عامِ ألفٍ وتِسعِمِائةٍ وسبعٍ وسبعين، بَعدَ حُصولي على شهادةِ الثّانويّةِ العامّة، جاءَني استدعاءٌ من نوعٍ مُختلِفٍ. لم يَكُن كالسّابق، بل نَظَرَ إليّ المساعدُ الأوّلُ تلك المرّةَ بعينٍ أُخرى، وقال وهو يُناولني ورقةً صغيرة:
ـ “هذهِ ثلاثةُ أسماءٍ من مدينتِك، معروفون بانتمائهم إلى حزبٍ مُعارض… أَريدُك أن تَتقَرَّبَ منهم، وتُظهِرَ الوَلاء، وتَطلبَ منهم ضمَّك إلى صُفوفِهم.”
صَمتُّ. كُنتُ أعرفُ أنَّ الصَّمتَ في هذه الغُرفةِ لا يُعدُّ جُبنًا، بل وسيلةَ النّجاةِ الوحيدة. أَخذتُ الورقةَ دونَ ردٍّ، وغادرتُ الفَرعَ مسرعًا. وفي أوَّلِ لحظةٍ وَصلتُ فيها إلى دوما، توجَّهتُ إلى شُعبةِ حزبِ البعثِ العربيِّ الاشتراكيّ. كانَ الطّلبُ الذي كنتُ قد قدَّمتُهُ سابقًا لا يزال في ذهني، مُعلّقًا في الهواء.
في المكتبِ، تَفَقَّدتُ طلبي. كان “الرّفيقُ أبا مَعروف” يُقَلِّبُ بعضَ الأوراقِ دونَ اهتمامٍ، فقلتُ له:
ـ “هل سُجِّلَ طلبي؟ لقد قدَّمتهُ منذ أشهر.”
أجابَني بلهجةٍ تَخلُو من أيِّ ندمٍ:
ـ “ضاع الطَّلب… اكتب واحدًا جديدًا.”
ثم أَردفَ، كما كانَ يفعلُ دائمًا، بضحكةٍ جافَّةٍ:
ـ “ما عليك… بسيطة!”
( تماماً كما كان يفعل معي في كل مرة كنت أراجعه فيها لأسأل عن طلبي بالانضمام إلى صفوف الحزب)
لَم أَكُن مُتحمّسًا للحزبِ، لا لفكرِه، ولا لمبادئِه، ولا لأهدافِه، لكنّني كنتُ أُريدُ شيئًا واحدًا: أن أَحصَلَ على رقمٍ حزبيٍّ أُريهِ للمساعدِ الأوّلِ في فَرعِ الأمنِ السّياسيِّ، لعلَّهُ يُجنّبُني دوّامةَ الاستدعاءِ الشهريِّ، وتبعاتِه التي كانت تُربكُ دراستي، وتُقلقُ هدوئي، وتَشوِّشُ استقراري، وتُفسِدُ سُلوكي.
في نهايةِ كلِّ مرَّةٍ، كنتُ أعودُ مُثقلًا بالأسئلةِ، أمشي في طُرقاتِ دوما، وفي جَوفي ألفُ حديثٍ لم أَقله، وألفُ خَوفٍ لا يُشبهُ الآخر.
مَضَتِ السّنونُ، لكنَّ ذلك الاستدعاءَ… لم يَمضِ بعد.
وكذلك لم يتم قبولي في صفوف الحزب, لأني بت متيقناً بأن (الرفيق أبا معروف) كان يمزق طلبي بعد مغادرتي باب غرفة مكتبه, لأني ذات مرة عدت إليه بعد أقل من دقيقة, فوجدته يرمي ورقة مزقها في سلة المهملات, وبإلقاء نظرة سريعة على الأوراق التي كانت فوق طاولة مكتبه, كانت كلها كما تركتها, إلا الورقة التي وقعت عليها.
هزّ السيّد أحمد رأسه ببطء، وقال بعد صمتٍ:
ــ ” الحريةُ، يا نُعمان، ليست فقط خُروجًا من جدارٍ وسقف… بل عودةُ الروحِ إلى مَن يُحبُّها.”
في المساءِ، بعد ذهب نُعمان إلى غرفته ليستريح قليلاً، كانت منى قد بقيت في الغرفة، تُرتِّبُ بعض الأوراق على الطاولة، بينما والدُها السيّد أحمد وقفَ أمامَ النافذة، يُحدِّقُ في الظلالِ التي تمدّدت على الجدران بفعل غروب الشمس.
قالت منى بصوتٍ خافت، كأنها تُحدّث نفسها:
ــ ” كَأَنَّهُ عَبَرَ حَدًّا خَفِيًّا… نُعمان.”
استدار والدها ببطء، ثمّ اقترب منها، وجلس إلى الطاولة المقابلة، وقال وهو يُربّت على حافة الكرسي بخشب يده:
ــ ” قَصَّتُهُ… تَحْتَاجُ إِلَى وَقْتٍ لِتُفْهَمَ كُلِّيًّا. لَيْسَ سَهْلًا عَلَى فَتًى فِي عُمْرِهِ، أَنْ يَمُرَّ بِمِثْلِ مَا مَرَّ بِهِ… وَيَبْقَى مُنْتَصِبَ الْقَامَةِ، نَقِيَّ النَّظْرَةِ، صَادِقَ اللِّسَانِ.”
سكتت منى لحظة، ثمّ رفعت عينيها نحوه وسألته بنبرةٍ يغلبها التأمل:
ــ ” أبي… أَتَرَاهُ يَخْشَى ….. الحُبّ؟”
ابتسم السيّد أحمد ابتسامةً خفيفةً، ومال برأسه قليلًا، ثمّ قال:
ــ ” لَا يَخْشَى الحُبَّ، يَا ابْنَتِي، بَلْ يَخْشَى أَنْ يُسِيءَ إِلَيْهِ، أَوْ أَنْ يَأْتِيَهُ وَهُوَ نَاقِصُ الْقُدْرَةِ، نَاقِصُ الْوُضُوحِ، نَاقِصُ التَّصَالُحِ مَعَ ذَاتِهِ.”
همست منى، وهي تُقلِّب نظراتها إلى حيث كان يجلس نُعمان قبل قليل:
ــ ” كَأَنَّهُ يُحَاوِلُ أَنْ يُحِبَّنِي… دُونَ أَنْ يُقَصِّرَ نَحْوَ نَفْسِهِ أو نحو أسرته.”
قال والدها وهو ينهض ويقف خلفها واضعًا كفه على كتفها برفق:
ــ ” وَهَذَا مَا جَعَلَهُ يَسْتَحِقُّكِ. الْحُبُّ يَا مُنَى… لَيْسَ مُجَرَّدَ شَغَفٍ وَعَاطِفَةٍ، إِنَّهُ قَرَارٌ… وَقُدْرَةٌ عَلَى اِحْتِمَالِ الْمَسَافَةِ، وَنَقَاءُ ٱلرُّؤيَة.”
أومأت منى برأسها ببطء، ثم قالت بصوتٍ يحمل من الرجاء قدرَ ما يحمل من اليقين:
ــ “أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ مَسَاحَتَهُ الْآمِنَة… إِذَا خَافَ، وَوَجْهَهُ الْهَادِئَ إِذَا ٱضْطَرَبَ.”
ضحك السيّد أحمد، وقال بنبرةٍ فيها حنوّ أبويّ لا تخطئه الأذن:
ــ ” إِذًا، فَأَنْتِ تُحِبِّينَهُ… بِوُضُوحٍ، وَصِدْقٍ، وَحِكْمَةٍ.”
ابتسمت منى بخجلٍ يشبه الشكر، ثمّ قالت وهي تنهض لتُعيد ترتيب وسادة على الأريكة:
ــ ” الحُبُّ، يَا أَبِي، يَكْبُرُ فِيّ كُلَّمَا سَمِعْتُهُ يَقُصُّ عَلَيَّ شَيْئًا كَانَ يُخْفِيهِ… كَأَنَّهُ يَفْتَحُ نَافِذَةً فِي قَلْبِهِ، وَيَدْعُونِي لِلدُّخُولِ.”
اقترب منها والدها، ثم قال:
ــ ” سَاعِدِيهِ عَلَى أَنْ يُكْمِلَ طَرِيقَهُ… وَإِذَا تَعَثَّرَ، فَذَكِّرِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَمْشِي وَحْدَهُ.”
الليلُ في بيتِ السيّد أحمد بدا ساكنًا، كأنّهُ يُصغي لنبضِ شيءٍ خفيٍّ.
في الجانب ، حيث غرفةُ منى المُضاءَة بنورٍ خافتٍ من مصباحٍ جانبيٍّ، جلست على حافّة سريرها، تُقلّب صفحات دفترها، لا تقرأ. كان وجهها مائلًا نحو النافذة، لكن عينيها تبحثان عن شيءٍ أعمق من المشهد الخارجي… كانت تبحث في نفسها.
نهضت فجأة، وكأنّها سمعت نداءً داخليًّا لا يُحتمل كتمانه. خرجت من الغرفة، ومشت نحو مكتبة والدها في الطابق السفلي. طرقت الباب بلطفٍ، ثم دخلت.
كان والدها جالسًا إلى مكتبه، يراجع بعض أعماله، وحين رآها، رفع حاجبيه:
ــ ” مُنَى؟! أَتُرَكِتِ غُرْفَتَكِ فِي هٰذِهِ السَّاعَةِ؟”
تقدّمت نحوه بخطى مترددة، ثم قالت بنبرةٍ تختلط فيها الحيرةُ بالرجاء:
ــ ” أَبِي… أَتَسْمَحُ لِي أَنْ أُحَدِّثَكَ؟”
ترك الأوراق جانبًا، وأشار إلى المقعد المقابل:
ــ ” طَبْعًا، بُنَيَّتِي، أَيُّ شَيْءٍ يُقْلِقُكِ؟”
جلست، وخيم صمتٌ للحظة على ملامح وجهها، ثم قالت وقد أمسكت طرف كمّ معطفها، كأنها تبحث في قماشِه عن صيغة لما تُريد قوله:
ــ ” أَبِي… أَنَا… أُحِبُّهُ.”
ارتفع حاجباه مجددًا، لكنّه لم يندهش، كأنّهُ كان يعلم.
أومأ برأسه، وهمس برفق:
ــ ” نُعْمَان؟”
أومأت هي أيضًا، وتمتمت:
ــ ” نَعَم… وَلَكِنِّي… لَا أَعْرِفُ كَيْفَ أُخْبِرُهُ. أَظُنُّ أَنَّهُ يَشْعُرُ… وَلَكِنَّهُ يَخْشَى.”
تنهد السيّد أحمد، وقال مبتسمًا بنظرة فيها حنوّ عميق:
ــ ” وَأَنْتِ؟ أَلَا تَخْشَيْنَ أَنْ تَقُولِي مَا فِي قَلْبِكِ؟”
هزّت رأسها نفيًا، وهمست:
ــ ” لَا أَخْشَى، بَلْ أَسْتَحْيِي. كَأَنَّ مَا أَشْعُرُ بِهِ أَكْبَرُ مِنِّي. كَأَنَّهُ سِرٌّ نَبَتَ فِي صَدْرِي، وَصِرْتُ لَا أَعْرِفُ كَيْفَ أُخْرِجُهُ.”
أمسك والدها بكفّها، وقال بصوتٍ دافئ:
ــ ” إِذًا، لِنَقُلْ لَهُ مَعًا… بِطَرِيقَةٍ تُشْبِهُكِ. دَعِينِي أَدْعُوهُ غَدًا لِنَتَعَشَّى جميعاً في مطعم تختارينه. سَأَفْتَحُ أَنَا الْبَابَ، وَعَلَيْكِ أَنْ تَدْخُلِي بِقَلْبِكِ.”
شهقت منى، كأنّها لم تتوقّع هذه المبادرة، ثم ابتسمت ابتسامةً اختلط فيها الحبُّ بالخجل، وقالت:
ــ ” هَلْ تُرَاهُ يَقْبَلُ؟ أَعْنِي… أَنَّنِي أُحِبُّهُ؟”
ابتسم السيّد أحمد، وأجاب بثقةٍ عميقة:
ــ ” لَوْ لَمْ تَكُونِي فِي قَلْبِهِ، مَا كَانَ لِيَسْمَحَ لِنَفْسِهِ أَنْ يُبْصِرَكِ بِكُلِّ هٰذَا النُّبْلِ. هُوَ يَخَافُ، نَعَمْ… وَلكِنَّ الْخَوْفَ يَسْبِقُ الْعَشْقِ أَحْيَانًا، حَتَّى يُثْبِتَ نَفْسَهُ.”
سكتت منى، ثم تمتمت بصوتٍ خافتٍ يشبه دعاء:
ــ ” رُبَّمَا يَكُونُ الْوَقْتُ قَدْ حَان…”
ردّ والدها:
ــ ” بَلْ الْقَلْبُ هُوَ الَّذِي حَنَّ. وَذٰلِكَ أَصْدَقُ مِنَ السَّاعَاتِ كُلِّهَا.”
الفصلُ الثاني والثلاثين مرآةٍ للبوح 34
________________________________________
في مساء الليلة التالية، بعد أن انتهى الجميع من طعام العشاء, قال السيّد أحمد:
– ” كنا نفكر أن نتناول العشاء غدا في أحد المطاعم, ما رأيكم أن تختاروه معا وتخبروني”.
ثمَّ استأذن تاركًا الباب مواربًا، جلست منى قُبالة نعمان. كانت عيناها تبحثان عن جملةٍ لا تُقال، بل تُلَـمَّح. وكانت يداها تتشابكان في حضنها، كأنّهما تحميان سرًّا قد حان وقتُ البوحِ به.
نعمان، وقد جلس على طرف المقعد، ما زال يتردّد في النظر مباشرة إليها. الهواء ساكن، والدفء يتسرّب من المدفأة القديمة، ينسلُّ مع الضوء الخافت في الغرفة المصمّمة للمذاكرة، لكنّها الآن تحوّلت إلى مرآةٍ للبوح، لا للمعلومات.
سألته منى بصوتٍ يكاد يكون همسًا:
ــ ” أَلَمْ تَقُلْ لي يومًا… إنّ الحُرِّيَّةَ هي أوَّلُ ما يَحْلُمُ بِهِ مَنْ يَفْقِدُهَا؟”
أومأ برأسه، لكنّهُ لم يتكلّم.
فابتسمت، وأضافت بصوتٍ عميقٍ فيه رجعُ نَفَسٍ طويل:
ــ ” الحُرِّيَّةُ، يا نُعمان… لَيْسَتْ خُرُوجًا مِنْ جِدَارٍ وَسَقْفٍ… بَلْ عَوْدَةُ الرُّوحِ إِلَى مَنْ يُحِبُّهَا.”
تنهّدَ نعمان، وكأنّ شيئًا ما كان قد انفكَّ في داخله. نظر إليها هذه المرة دون حواجز، ثم قال:
ــ ” كُنْتُ أَظُنُّ أَنِّي هَرَبْتُ مَرَّةً مِنْ نَفْسِي… وَلَكِنَّنِي كُنْتُ فَقَطْ أَبْحَثُ عَنْهَا فِي مَكَانٍ آخَر….”
سكتت منى، ثمّ قالت وقد لمعت عيناها قليلاً:
ــ ” أَيْنَ؟”
فأجابها، بنبرةٍ حملت كلّ ما لم يقله من قبل:
ــ ” وَجَدْتُهَا… في دفء حنان أمي وهُنَا فِي نَظْرَتِكِ، فِي تَفَاصِيلِ صَوْتِ كلٍ منكما حِينَ تَتَحَدَّثِينَ عَنِ الأَدَبِ, وحين تحدثني بصدق ، فِي قَلَقِكِ عَليَّ وفي خوفها عليَّ… وَفِي صَمْتِكُما، حِينَ يكُونَ الصَّمْتُ أَحْنَ مِنْ كُلِّ كَلَامٍ.”
ارتعشت شفتاها، ثم تمتمت:
ــ ” إِذًا… هَلْ تَثِقُ بِي؟”
فقال:
ــ ” بِكُما… أَثِقُ، وَبِنَفْسِي إِذَا كُنْتِ فِي جِوَارِ أيٍ مِنْكُمَا.”
في الغرفة التي بدأت رائحةُ الكتب فيها تختلط بنبضٍ جديد، جلست منى قُبالة نعمان، ويدها لا تزال تمسّد حوافّ كتابٍ مفتوح، كأنّها تُهيئه ليكون شاهداً على حديثٍ لا يقال كلّ يوم.
الهدوء خيّم. وحده تنفّس نعمان كان يسمع، متردداً… كأنّه ما زال يبحث عن صيغةٍ يقول فيها
” أنا أُحبّك”، دون أن تزلّ به قدم العبارة.
لكنّ منى قرّرت أن تكسر الصمت، بنبرةٍ رصينة تومض من خلفها لمعة قلق:
ــ ” تُرى… هل مَنْ يُحبّ، في بلدٍ كهذه، يُعتَبر حُرًّا؟”
رفعَ نعمان رأسه نحوها، مستغربًا السؤال، ثمّ قال بهدوء:
ــ ” أُحبُّ سؤالكِ يا منى، لكنّه مؤلمٌ أكثر مما يبدو… لأنّ الحُبَّ هنا… يبدأُ بِالْهَمْسِ، ويخاف أن يُعلن عن نفسه… تمامًا كما نفعلُ مع الرأي، ومع الحلم، ومع أبسط أشكال الحياة.”
قالت منى بعد لحظة صمت، كأنّها تختبر وقع كلماته:
ــ ” كُلُّ شيءٍ في هذا البلد، حتى الحبُّ، يحتاجُ إذنًا أو تمريرًا أو حيطة… نعيشُ في دائرةٍ… تُشبهُ دائرةَ السجن، لكنها بلا جدران.”
أومأ نعمان برأسه وقال بصوتٍ فيه نبرة إعياء:
ــ ” الحرِّيَّةُ، يا منى، لا تُقاس فقط بخروجِ الإنسانِ من باب السجن… بل بخروجهِ من خَوْفِهِ. وأنا… حتى الآن، ما زلتُ أَحْتَفِظُ بجُزءٍ كبير من هذا الخوفِ في صدري.”
نظرت إليه مطوّلًا، وقالت:
ــ ” لكنك خرجتَ، وتكلّمتَ، وعُدتَ إلى الدرسِ والكتابة، وإلى أمك أيضًا… أفلا يعني هذا أنك بدأت تحرّر نفسك؟”
ــ ” أُحاولُ، لكن الطريق طويل. أنا ابنُ بيئةٍ ترى في السؤال تهديدًا، وفي التفكير خروجًا عن الطاعة. لقد عشتُ طفولتي لم أسمع عن الحكومةَ و الأمنَ شيئاً, لكن عندما كبرت, وجدت أن من يتكلم عنهم يختفي.”
قالت منى، وهي تلتفت إلى النافذة:
ــ ” وما زالوا يختفون، يا نعمان… بأجسادهم، أو بأصواتهم، أو بأحلامهم. لكننا، إنْ لم نقل ما نشعر به اليوم، فمتى؟”
اِقْتَرَبَ مِنْهَا أَكْثَر، وَهَمَسَ بِصَوْتٍ كَأَنَّهُ يُنْقِّبُ فِي أَعْمَاقِ صَدْرِهِ عَنْ كَلِمَاتٍ دُفِنَتْ مُنْذُ زَمَنٍ:
ــ “أَحْيَانًا… أَشْعُرُ أَنَّ قَوْلَ الحَقِيقَةِ فِي بِلَادٍ مِثْلَ بِلَادِنَا… هُوَ نَوْعٌ مِنْ أَفْعَالِ الحُبِّ.
لأَنَّكَ تُحِبُّ نَفْسَكَ، وَتُحِبُّ هَذِهِ الأَرْضَ، فَتَرْفُضُ أَنْ تَرَى كُلَّ هَذَا الجَمَالِ يُدْفَنُ بِالصَّمْتِ.”
صَمَتَتْ “مُنَى”، وَكَأَنَّ فِي صَمْتِهَا نَغْمَةً حَزِينَةً. تَنَفَّسَتْ بِعُمْقٍ، ثُمَّ قَالَتْ بِنَبْرَةٍ تَسْكُنُهَا مَسَافَاتٌ طَوِيلَةٌ مِنَ الأَلَمِ:
ــ “وَأَنَا أُحِبُّكَ… لأَنِّي رَأَيْتُكَ تُحِبُّ الحَقِيقَةَ، رَغْمَ خَوْفِكَ.
كِلَانَا يَعْرِفُ أَنَّ الحُبَّ بِلَا حُرِّيَّةٍ… لَيْسَ حُبًّا، بَلْ حَنِينٌ تَائِهٌ، لَا يَعْرِفُ الطَّرِيقَ.”
رَفَعَ يَدَهُ نَحْوَ خَدِّهِ، كَأَنَّهُ يُحَاوِلُ لَمْسَ ذِكْرَى، أَوْ قَسَمٍ قَدِيمٍ، ثُمَّ قَالَ وَعَيْنَاهُ تَلْمَعَانِ بِمَا فَاتَ:
ــ “أَلَمْ تَقْرَئِي مَا كَتَبْتُهُ لَكِ ذَاكَ اليَوْمَ… نَثْرًا وَشِعْرًا؟”
أَوْمَأَتْ “مُنَى” بِإِيجَابٍ، وَفِي عَيْنَيْهَا بَرْقٌ مِنْ تَذَكُّرٍ صَامِتٍ، فَتَابَعَ وَكَأَنَّهُ يَنْقُبُ فِي جُرْحٍ لَمْ يَلْتَئِمْ:
ــ “يَوْمَهَا… شَعَرْتُ أَنِّي لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَفْهَمَكِ كَمَا كَانَ يَنْبَغِي لِي أَنْ أَفْهَمَكِ.
لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَكْتُبَ لَكِ: «إِنِّي أُحِبُّكِ»،
مَعَ أَنَّكِ كُنْتِ فِي قَلْبِي، وَفِي عَقْلِي، وَفِي كُلِّ مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُسَمِّيهِ وُجُودًا.
وَجَدْتُ نَفْسِي عَلَى حَافَّةِ هَاوِيَةٍ، عِنْدَمَا تَرَكْتِنِي وَهَرَبْتِ مِنِّي.
الحُبُّ ــ يَا مُنَى ــ قَرَار،
وَلَا يَجِبُ أَنْ نَهْرُبَ، أَوْ أَنْ نَتَخَلَّى عَنْ هَذَا القَرَارِ،
مَهْمَا كَانَتِ الأَسْبَابُ، وَمَهْمَا اسْتَدْعَتْهُ الظُّرُوفُ.
أَنَا لَا أُرِيدُ أَنْ أُعَاتِبَكِ، وَلَا أَنْ أَلُومَكِ…
بَلْ كُنْتُ أَجْدَرَ بِاللَّوْمِ، وَأَحَقَّ بِالْعِتَابِ.
أَنَا الَّذِي تَكَلَّمْتُ كَثِيرًا، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ أَقُلْ لَكِ مَا يَجِبُ،
يَوْمَ قُلْتِ لِي إِنَّكِ ارْتَدَيْتِ ذَاكَ الزِّيَّ مِنْ أَجْلِي… فَقَطْ.”
سَكَتَتْ “مُنى” طَوَالَ كَلَامِهِ، كَأَنَّهَا تَسْتَمِعُ بِقَلْبِهَا، لَا بِأُذُنَيْهَا.
تَحَرَّكَتْ مَلامِحُهَا بِبُطْءٍ، وَفِي عَيْنَيْهَا نُقْطَةُ ضُوءٍ تَتَّسِعُ كُلَّمَا أَوْغَلَ فِي اعْتِرَافِهِ.
عِنْدَمَا فَرَغَ، تَقَدَّمَتْ نَحْوَهُ خُطْوَةً خَفِيفَةً، وَجَلَسَتْ بِقُرْبِهِ عَلَى الطَّرَفِ الآخَرِ مِنَ الْأَرِيكَةِ. لَمْ تَقُلْ شَيْئًا فِي البِدَايَةِ، بَلْ بَسَطَتْ كَفَّهَا نَحْوَ يَدِهِ، وَأَطْبَقَتْ عَلَيْهَا بِلُطْفٍ. ثُمَّ تَكَلَّمَتْ بِنَبْرَةٍ وَاقِعِيَّةٍ وَهَادِئَةٍ، كَأَنَّهَا تُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَ الْكَلِمَاتِ تَشْفِي لَا تُعَاتِب:
ــ “نُعْمَان… أَنَا لَمْ أَكُنْ أُرِيدُ أَنْ أُعَاقِبَكَ.
كُنْتُ أُرِيدُكَ فَقَطْ أَنْ تَرَانِي كَمَا أَرَاكَ.
كُنْتُ أَحْتَاجُ أَنْ تَقُولَ مَا قُلْتَهُ الآن، لَكِنْ يَوْمَهَا… يَوْمَهَا كَانَ صَمْتُكَ أَشْبَهَ بِبَابٍ يُغْلَقُ فِي وَجْهِي.”
تَنَهَّدَتْ، ثُمَّ أَضَافَتْ بِنَبْرَةٍ دَاخِلُهَا مَزِيجٌ مِنَ العِتَابِ وَالْحَنِينِ:
ــ “كَانَ يُمْكِنُنَا أَنْ نَكُونَ سَوِيًّا، أَنْ نُوَاجِهَ الخَوْفَ وَالتَّوَجُّسَ، وَنَخْتَارَ الحُبَّ، لَوْ قُلْتَ لِي ذَلِكَ الْيَوْمَ: «لَا تَرْحَلِي».
لَكِنَّكَ لَمْ تَقُلْهَا.
وَأَنَا… كُنْتُ فَتَاةً خَائِفَةً مِنَ الصَّمْتِ أَكْثَرَ مِنْ خَوْفِهَا مِنَ الرَّفْضِ.”
اِنْخَفَضَ صَوْتُهَا، وَكَأَنَّهَا تَسْتَدْعِي ذَاكِرَةَ قَلْبِهَا، ثُمَّ قَالَتْ:
ــ “أَتَدْرِي؟ الحُبُّ عِنْدِي لَيْسَ وَعْدًا، وَلَا هَدَايَا، وَلَا رَسَائِلَ مُعَطَّرَةً…
الحُبُّ هُوَ ذَلِكَ اللَّحْظَةُ الَّتِي تَقُولُ فِيهَا لِشَخْصٍ: أَنْتَ لَا تَخَافُ مَعِي، وَلَا تَجْعَلُنِي أَخَافُ مَعَكَ.”
أَطْبَقَتْ صَمْتًا قَصِيرًا، ثُمَّ نَظَرَتْ فِي عَيْنَيْهِ، وَكَأَنَّهَا تَسْتَفْهِمُهُ:
ــ “فَهَلْ أَنْتَ اليَوْمَ… تُحِبُّنِي بِمَا يَكْفِي لِكَيْ نَبْدَأَ؟”
تَرَاجَعَ “نُعْمَانُ” بِجِذْعِهِ قَلِيلًا، كَأَنَّهُ يَبْحَثُ فِي جَوْفِه عَنْ إِجَابَةٍ قَدِيمَةٍ نَجَتْ مِنَ الغُرْبَةِ وَالخَوْفِ.
تَأَمَّلَ وَجْهَهَا، فَرَآهُ كَمَا يرَاهُ كلَ مَرَّةٍ… سَاكِنًا، وَاسِعًا كَسُهُوبِ الْبَادِيَةِ، وَلَكِنَّهُ يَخْفِي عَطَشًا طَوِيلًا.
قَالَ بِنَبْرَةٍ وَاطِئَةٍ، لَا خُشُوعَ فِيهَا وَلَا ادِّعَاء:
ــ “نَعَمْ، أُحِبُّكِ… وَقَدْ تَأَخَّرْتُ كَثِيرًا فِي قَوْلِهَا، لَكِنِّي لَمْ أَتَأَخَّرْ يَوْمًا فِي الإِحْسَاسِ بِهَا.”
تَمَالَكَ صَوْتَهُ، وَأَضَافَ:
ــ “كُنْتُ أَخَافُ أَنْ أَقُولَ لَكِ ذَلِكَ، فَيَتَغَيَّرَ شَيْءٌ فِي عَيْنَيْكِ.
كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَحْفَظَكِ كَمَا كُنْتِ فِي ذَاكِرَتِي: نَقِيَّةً، قَرِيبَةً، بَلْ بَعِيدَةً بِقَدْرِ مَا يُبْقِينِي ذَلِكَ خَالِيًا مِنَ الأَلَمِ.”
نَظَرَ نَحْوَ السَّقْفِ لَحْظَةً، كَأَنَّهُ يُفَكِّرُ بِكُلِّ مَا ضَاعَ. ثُمَّ عَادَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا:
ــ “الْآنَ أُرِيدُكِ أَنْ تَكُونِي قُرْبِي، وَلَا أُرِيدُ لِلْخَوْفِ أَنْ يَسْرِقَنَا مَرَّةً أُخْرَى.
فَإِذَا كُنْتِ تَسْتَفْهِمِينِي: «هَلْ أُحِبُّكِ بِمَا يَكْفِي لِنَبْدَأَ؟»
فَإِنِّي أَقُولُ: نَعَمْ. نَبْدَأُ، وَإِنْ كَانَتِ الرِّيَاحُ فِي الظَّهْرِ، وَالطَّرِيقُ طَوِيلًا.”
كَأَنَّ الغُرْفَةَ بَاتَتْ أَكْثَرَ ضِيقًا عَلَى كِلَا القَلْبَيْنِ، فَقَامَتْ “مُنى”، وَتَقَدَّمَتْ نَحْوَهُ، وَضَعَتْ رَأْسَهَا عَلَى كَتِفِهِ بِهُدُوءٍ. لَمْ تَقُلْ شَيْئًا، وَهُوَ لَمْ يَقُلْ، لَكِنَّ نَبْضَهُ تَغَيَّرَ.
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، لَمْ يَعُدِ الحُبُّ سُؤَالًا، وَلَا إِجَابَةً…
بَلْ صَارَ سُكُونًا يُشْبِهُ الْبَدَايَةَ.
وَفَجْأَةً… صَدَرَ طَرْقٌ خَفِيفٌ عَلَى بَابِ الغُرْفَة.
اِرْتَبَكَ نُعْمَانُ، وَارْتَفَعَ رَأْسُ “مُنى” بِهُدُوءٍ، كَأَنَّهُمَا عَادَا فِي لَحْظَةٍ إِلَى سَطْحِ الوَاقِعِ.
صَوْتُ وَالِدِهَا، “السَّيِّدِ أَحْمَد”، جَاءَ وَقُورًا كَعَادَتِهِ، لَكِنَّ فِيهِ نَبْرَةَ تَرَقُّبٍ:
ــ “هَلْ يُمْكِنُنِي الدُّخُولُ؟”
تَبَادَلَا نَظْرَةً سَرِيعَةً، ثُمَّ أَجَابَتْ مُنى بِنَبْرَةٍ مُتَمَالِكَة:
ــ “تَفَضَّلْ يَا أَبِي.”
فُتِحَ الْبَابُ، وَدَخَلَ “السَّيِّدُ أَحْمَد”، بِعَيْنَيْهِ اللَّتَيْنِ تَحْمِلَانِ كُلَّ مَا لَا يُقَال.
جَلَسَ قُرْبَهُمَا عَلَى الْكُرْسِي الْمُجَاوِرِ، وَقَالَ وَهُوَ يُقَلِّبُ نَظَرَهُ بَيْنَهُمَا:
ــ “سَمِعْتُ طَرَفًا مِمَّا قِيلَ، وَلَكِنِّي لَمْ أَأْتِ لِأُقَاطِعَ، بَلْ لِأَسْمَعَ حَتَّى آخِرِ الجُمْلَة.”
صَمَتُوا جَمِيعًا لِثَوَانٍ، ثُمَّ قَالَ نُعْمَانُ، وَهُوَ يُوَاجِهُ وَالِدَهَا بِكُلِّ مَا فِيهِ:
ــ “أُحِبُّ ابْنَتَكُمْ، يَا سَيِّدَ أَحْمَد، وَقَدْ قُلْتُ لَهَا ذَلِكَ، لَا كَلَامًا يُقَالُ فِي الْخَفَاء، بَلْ قَرَارًا أُرِيدُ أَنْ أَمْشِيَ فِيهِ حَتَّى النِّهَايَة.”
تَأَمَّلَهُ الرَّجُلُ طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ بِلُغَتِهِ الْهَادِئَةِ كَمَنْ يَخْرُجُ مِنَ التَّأَمُّلِ:
ــ “الْحُبُّ، يَا بُنَيَّ، لَيْسَ مَا نَقُولُهُ، بَلْ مَا نَفْعَلُهُ حِينَ تَأْتِي اللَّحْظَةُ الَّتِي تَتَطَلَّبُ مِنَّا أَنْ نُضَحِّي.”
ثُمَّ نَظَرَ نَحْوَ ابْنَتِهِ:
ــ “وَأَنْتِ، يَا مُنى، هَلْ أَنْتِ مُسْتَعِدَّةٌ لِهَذِهِ اللَّحْظَةِ؟ هَلْ تَعْرِفِينَ أَيَّ طَرِيقٍ هُوَ هَذَا الَّذِي تَسِيرِينَ فِيهِ؟”
هَزَّتْ رَأْسَهَا بِهُدُوءٍ:
ــ “أَعْرِفُ، وَخَائِفَة… لَكِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَمْشِيَ فِيهِ مَعَهُ.”
سَكَتَ الرَّجُلُ قَلِيلًا، ثُمَّ قَالَ:
ــ “وَهَلْ فَكَّرْتُمَا فِي أَنَّ الْبِلَادَ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا، قَدْ لَا تَسْمَحُ لِمَنْ يُحِبُّ أَنْ يُكْمِلَ طَرِيقَهُ بِسَلَام؟ أَنَّ كَثِيرِينَ قَبْلَكُم خَسِرُوا كُلَّ شَيْءٍ لِأَنَّهُمْ قَالُوا كَلِمَةً فِي الْهَوَاءِ، أَوْ رَفَضُوا أَنْ يَنْحَنُوا؟”
جَاءَ صَوْتُ نُعْمَانَ هَادِئًا، وَلَكِنَّهُ مُمْتَلِئٌ بِالْوُضُوحِ:
ــ “وَهَلْ نَبْقَى صَامِتِينَ؟ نَنْحَنِي كَيْ نَعِيشَ؟ إِذًا فَلْنَمُتْ بِكَلِمَةٍ تُشْبِهُنَا، خَيْرٌ لَنَا مِنْ حَيَاةٍ نَتَذَرَّعُ فِيهَا بِالصَّمْتِ.”
يَنْظُرُ السَّيِّدُ أَحْمَد إِلَيْهِ طَوِيلًا، كَمَنْ يَسْتَعِيدُ فِيهِ شَبَابَهُ الْبَعِيد
ثُمَّ يَقُولُ بِصَوْتٍ كَأَنَّهُ يُمْلِي وَصِيَّة:
ــ “إِذًا، فَلْتَمْشُوا فِي هَذَا الطَّرِيقِ… لَكِنْ لَا تَنْسَوْا: الْحُبُّ لَيْسَ نَقِيًّا إِلَّا إِذَا نَجَا مِنَ الْخَوْفِ، وَالْحَقُّ لَا يَكُونُ حَقًّا إِلَّا إِذَا دَفَعْنَا ثَمَنَهُ.”
كَانَ يُفَاجَأ، كُلَّ شَهْرٍ، بِذَاتِ البِطَاقَةِ الصَّامِتَةِ:
*“عَلَيْكَ مُرَاجَعَةُ فِرْعِ الأَمْنِ السِّيَاسِي بدمشق، قِسْمُ المُتَابَعَةِ. في اليوم والساعة المحددين”*
تَصِلُ الْبِطَاقَةُ فِي مِظْرُوفٍ أَسْمَرَ، دُونَ خَتْمٍ، دُونَ تَوْقِيعٍ، وَدُونَ تَارِيخٍ… كَأَنَّهَا مِنْ زَمَنٍ خَارِجِ التَّقْوِيم.
كَانَ يُدْرِكُ نُعْمَانُ أَنَّ الدَّائِرَةَ لَمْ تُغْلَقْ بَعْدُ، وَأَنَّ الْبَابَ الَّذِي فُتِحَ أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي لَيْلَةِ التَّحْقِيقِ الأُولَى، مَا زَالَ يُفْتَحُ لَهُ كُلَّ شَهْرٍ، بِنَفْسِ الِابْتِسَامَةِ الْبَارِدَةِ، وَنَفْسِ السُّؤَالِ الَّذِي لَا يَكْتُبُونَهُ، بَلْ يُلْقُونَهُ كَنَظْرَةٍ:
ــ “هَلْ ما زِلْتَ تُفَكِّر؟”
فِي كُلِّ زِيَارَةٍ، كَانَ يَجْلِسُ فِي غُرْفَةٍ تَشُفُّ أَجْدِرَتُهَا عَنْ رُطُوبَةٍ قَدِيمَة، يَتَسَرَّبُ فِيهَا الْخَوْفُ كَرَائِحَةٍ خَفِيَّةٍ مِنْ جِدَارٍ لَمْ يُطْلَ بِالطِّلَاءِ مُنْذُ عُقُود.
يَجْلِسُ فِي مُقَابِلِ الرَّجُلِ نَفْسِهِ. المُحَقِّقُ الَّذِي يَبْتَسِمُ بِهُدُوءٍ، وَيَسْأَلُهُ بِكُلِّ لُطْفٍ عَنْ أَخْبَارِهِ، وَعَنْ دِرَاسَتِهِ، وَعَنْ تَطَوُّرِ أَفْكَارِهِ.
ــ “هَلْ قَرَأْتَ كِتَابًا جَدِيدًا، يَا نُعْمَان؟”
ــ “قَرَأْتُ… كِتَابًا عَنْ الصَّمْتِ.”
ــ “جَيِّد. الصَّمْتُ فَنٌّ… وَأَنْتَ تَعْرِفُ أَنَّ بَعْضَ الفُنُونِ يُنْقِذُ أَصْحَابَهَا.”
تَتَكَرَّرُ اللَّقَاءَاتُ، كَأَنَّهَا تَمْرِينٌ عَلَى التَّكَيُّفِ. يَسْأَلُهُ الرَّجُلُ نَفْسُهُ، وَيُقَلِّبُ مَلَفَّهُ كَمَنْ يَفْتِّشُ فِي يَوْمِيَّاتٍ شَخْصِيَّة.
فِي آخِرِ كُلِّ لِقَاءٍ، يَقُولُ لَهُ الجُمْلَةَ نَفْسَهَا، كَأَنَّهَا نَافِذَةٌ تُفْتَحُ لِلتَّهْدِيدِ وَالتَّذْكِيرِ:
ــ “نُحِبُّ مَنْ يُفَكِّرُ… لَكِنَّنَا نُرَاقِبُ مَنْ يُفَكِّرُ كَثِيرًا.”
فِي طَرِيقِ الْعَوْدَةِ، كَانَ نُعْمَانُ يَسِيرُ بَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ يَحْمِلُ فِي صَدْرِهِ شَيْئًا لَا يُقَال. يَرَى المَارَّةَ يَبْتَسِمُونَ، وَيَسْتَمِعُونَ لِلْمُغَنِّي يَصْدَحُ مِنْ رَادْيُو سِيَّارَةٍ قَدِيمَة، وَيَتَسَاءَلُ:
*هَلْ كُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ، هِيَ أَيْضًا، تَتَلَقَّى بِطَاقَاتٍ صَامِتَةً كَخَطَابِ قَدَر؟*
فِي زِيَارَتِهِ الشَّهْرِيَّةِ التَّالِيَةِ، لَمْ يَبْدُ عَلَى المُحَقِّقِ تِلْكَ الِابْتِسَامَةُ الَّتِي أَلِفَهَا. بَدَا وَكَأَنَّهُ نَامَ عَلَى مِلَفٍّ ثَقِيلٍ، وَصَحَا عَلَى أَسْئِلَةٍ أَكْثَرَ صَلَابَة.
تَفَحَّصَ بَعْضَ الْوَرَقَاتِ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ نَظَرَهُ، وَيَسْأَلَ بِنَبْرَةٍ مَسْكُوتٍ عَنْهَا:
ــ “نُعْمَان… مَا طَبِيعَةُ عَلاَقَتِكَ بِأُسْرَةٍ لُبْنَانِيَّةٍ تُقِيمُ فِي دِمَشْق؟”
تَجَمَّدَ لَحْظَةً، كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعِ السُّؤَالَ جَيِّدًا. كَانَ يُحَاوِلُ أَنْ يَتَذَكَّرَ: *أَيُّ لُبْنَانِيِّينَ؟ مَتَى؟ فِي أَيِّ سِيَاق؟*
ــ “أَقْصِدُ، وَفْقَ الْمَعْلُومَاتِ، أَنَّكَ تكاد تكون مقيماً في مَنْزِلٍ فِي حَيِّ المزة، وَأَنَّ هُنَاكَ صِلَةً بَيْنَك وَبَيْنَ شَابَّةٍ لُبْنَانِيَّةٍ… اسْمُهَا منَى؟ هَلْ يَبْدُو لَكَ ذَلِكَ غَرِيبًا؟”
ــ “منىَ؟… نَعَم… كَانَتْ تُقِيمُ مَعَ عَائِلَتِهَا فِي البَيْتِ الَّذِي اسْتَأْجَرْتُ فِيهِ غُرْفَةً بَعْدَ تَسْجِيلِي فِي الْجامعة.”
رَفَعَ المُحَقِّقُ حَاجِبَيْهِ:
ــ “تُقِيمُ… أَم تُرَاسِلُ؟”
ــ “لَا أَرْسِلُ إِلَيْهَا شَيْئًا… كَانَتْ تَتْرُكُ أَحْيَانًا كُتُبًا عَلَى الطَّاوِلَةِ، وَكُنَّا نَتَحَادَثُ… ذَاتَ مَرَّةٍ قَرَأْنَا مَعًا *الطَّاعُون* لِكَامِي… ثُمَّ سَافَرَتْ.”
تَصَفَّحَ المُحَقِّقُ وَرَقَةً، ثُمَّ نَقَرَ بِقَلَمِهِ عَلَى الطَّاوِلَةِ:
ــ “وَهَلْ تَعْلَمُ أَنَّ أحد أقاربهَا كَانَ صِحَافِيًّا فِي بَيْرُوت؟ وَأَنَّ لَهُ صِلَاتٍ بِجِهَاتٍ مَشْبُوهَةٍ؟”
صَمَتَ نُعْمَانُ. كَانَ يَشْعُرُ أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ عَادِيٌّ يُمْكِنُ أَنْ يُجَيَّرَ لِيُصْبِحَ شُبْهَةً. بَلَعَ رِيقَهُ ببطء، وَقَالَ بِنَبْرَةٍ صَافِيَة:
ــ “يَا سَيِّدِي، أَنَا طَالِبٌ فَقَط… أَحْلَمُ بِكِتَابٍ وَمُسْتَقْبَلٍ، وَقَدْ كَانَ ذٰلِكَ نِقَاشًا فِي سَاحَةٍ مُشْتَرَكَةٍ، لَا أَكْثَر.”
أَغْلَقَ المُحَقِّقُ المِلَفَّ بِهُدُوءٍ، وَقَالَ وَهُوَ يَنْظُرُ فِيهِ:
ــ “نُؤْمِنُ بِالْمُصَادَفَاتِ، لَكِنَّنَا نُفَضِّلُ أَنْ نَكُونَ مُتَأَكِّدِينَ.”
خَرَجَ نُعْمَانُ فِي ذٰلِكَ الْيَوْمِ وَكَأَنَّهُ حَمَلَ مَعَهُ جَمْرَةً. كَانَ السُّؤَالُ كَفِخٍّ. وَفِي دَاخِلِهِ، دَوَّى صَوْتٌ خَفِيٌّ:
إِذًا… حَتَّى الكَلِمَاتُ الَّتِي قُلْتَهَا عَلَى الدَّرَجِ، وَالضَّحِكَةُ الَّتِي لَمَعَتْ بَيْنَ كِتَابَيْنِ، وَالزِّيَارَةُ الَّتِي تَبَدَّتْ فِي نِهَايَةِ شَتَاءِ خَفِيف… كُلُّهَا تُسَجَّل؟
كانَ المقهى دافئًا، يضجُّ بأحاديثٍ خافتةٍ، وبخارِ فناجينَ يتصاعدُ كأنّه أنفاسُ أمكنةٍ متعبة. جلستْ منى قبالةَ نافذةٍ صغيرةٍ، تنتظر عودة نعمان من المقابلة, تراقبُ المارّة بنظرةٍ حائرةٍ، وقد علِمت من والدها، دونَ تفاصيل، أن شيئًا ما حدث مع نُعمان في زيارته الأخيرة.
دخل نُعمان بخطواتٍ متردّدة، كأنّه لا يريدُ أن يُحدثَ صوتًا، ولا أن يوقظَ في قلبها السؤالَ الذي يعرف أنه سيأتي لا محالة.
رفعتْ عينيها، وتأمّلته لحظةً، ثمّ قالت بصوتٍ خافت:
ــ “هَلْ كَانَتْ قَصِيرَةً؟”
ابتسمَ مُرغمًا، وجلس، ثم هزّ رأسه دون أن ينظر إليها:
ــ “قَصِيرَةٌ… وباردة.”
مرّت ثوانٍ من الصمت. ثم قالت وهي تُقلّب ملعقتها في الفنجان:
ــ “أَبِي قَالَ لِي… إِنَّ نُقْطَةً سَوْدَاءَ ظَهَرَتْ فِي مِلَفِّكَ.”
ارتجفَ صوته وهو يردّ:
ــ “رُبَّمَا… لَكِنَّهَا لَيْسَتْ مِنِّي.”
رفعت نظرها إليه فجأة، بنظرةٍ تمزجُ القلقَ بالعتب:
ــ “نُقْطَةٌ لَيْسَتْ مِنْكَ؟ أَم مِنْ من؟”
أطرقَ رأسه، ثم قال بنبرةٍ هادئة:
ــ “منى؟ لَيْسَ بيننا سِوَى صَداقَة كِتَابٍ… سَكَنَّتْ فِي الْبَيْتِ نَفْسِهِ، تَحَدَّثْنَا، قَرَأْنَا.”
سكت، ثم أكمل وهو ينظر في عينيها:
ــ “كُنْتُ أُفَكِّرُ فِيكِ، أَنْتِ… لَيْسَ فِيهم.”
سحبَت يدها ببطء من الفنجان، وقالت وهي تشيح بنظرها:
ــ “لَكِنَّهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ الْقَلْبَ، يُفَتِّشُونَ فِي الأَسْمَاءِ وَالزِّيَارَاتِ وَالْكُتُبِ، وَيَجْعَلُونَ كُلَّ بَسَاطَةٍ… خَيْطًا فِي شَبَكَةِ شُبْهَاتٍ.”
قال بنبرةٍ حزينة:
ــ “هَذِهِ الْبِلَادُ لَا تَخَافُ مِنَ الْكَرَاهِيَةِ، بَلْ مِنَ الْحُبِّ… خَاصَّةً إِذَا مَرَّ فَوْقَ حُدُودِهَا.”
صمتت. كانت تنظر إليه الآن بنظرةٍ جديدة، تجمعُ الحنانَ بالخوف، وكأنّها تسأله بلا صوت: *هل سَيُتْرَكُ لنا ما نَبْنِيه، أم سيُهَدَّمُ حتى قبلَ أن نَبْدَأ؟*
مدّت منى يدها نحو يده، ولم تلمسها، بل اكتفت بأن تترك أصابعها قريبة، كأنّها تسأل الإذن قبل الاقتراب.
ــ “نُعمان… لَا أُرِيدُ أَنْ تَشْعُرَ بِأَنَّنِي أُحَاسِبُكَ، أَو أُرَاقِبُ خُطَاكَ. أَنَا فَقَطْ… خِفْتُ عَلَيْكَ.”
نظر إليها طويلًا، كأنّه يبحث عن صيغةٍ جديدة للصدق، ثم قال بصوتٍ خافت:
ــ “وَأَنَا… خِفْتُ عَلَيْنَا.”
رفّت عيناها، وسألته برقة:
ــ “مِمَّاذَا؟”
ــ “مِنْ أَنْ نُصْبِحَ مِثْلَ كَثِيرِينَ، يُحِبُّونَ بَعْضَهُم… وَيَخَافُونَ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ بِصَوْتٍ عَالٍ.”
تنهدت منى، ثم همست وكأنّها تُسلّم بسرٍّ قديم:
ــ “الْحُبُّ فِي بِلَادِنَا… يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شُجَاعًا. وَإِلَّا انْكَسَرَ فِي نِصْفِ الطَّرِيق.”
ثم قالت بعد لحظة صمتٍ، وهي تُحاول أن تضحك دون أن تنجح تمامًا:
ــ “حَتَّى أَبِي، بِكُلِّ هُدُوئِهِ وَوَعْيِهِ… لَمْ يُخْفِ قَلَقَهُ مِنْ مَجِيئِكَ إِلَى الْبَيْتِ بَعْدَ تِلْكَ الزِّيَارَةِ لِفَرْعِ الْأَمْنِ.”
ابتسم نُعمان بمرارة:
ــ “هُوَ أَذْكَى مِمَّا نَظُنّ. يَعْرِفُ مَتَى يَسْكُتُ، وَمَتَى يَتَحَدَّثُ. وَلَعَلَّهُ يُرِيدُنِي أَنْ أَتَكَلَّمَ أَكْثَرَ، لِيَفْهَمَ أَكْثَرَ.”
ــ “أَوْ… لِيَرَى هَلْ تَسْتَحِقُّ أَنْ تَبْقَى فِي حَيَاتِي.”
نظرت إليه نظرةً طويلة، ثم تمتمت:
ــ “وَأَنَا… أَرَاكَ تَسْتَحِقُّ. لَكِنْ يَجِبُ أَنْ تَفْتَحَ لِي أَبْوَابَك، كَمَا فَتَحْتَ قَلْبَكَ لِهٰذِهِ الْبِلَادِ.”
تنهّد، ثم قال:
ــ “تَعَالَي إِذًا… وَلْتَرَيْ كَيْفَ أَخْفَيْتُ فِيكِ كُلَّ أَجْزَائِي. كَيْفَ كَتَبْتُ عَنْكِ، حَتَّى فِي أَوْجِ الْخَوْفِ. تَعَالَي وَاسْأَلِينِي… وَسَأَقُولُ لَكِ كُلَّ شَيْء.”
ارتعشت الأصابع فوق الطاولة قليلًا، لا خوفًا، بل شوقًا لأن تُمسكَ يدًا صادقة.
في الخارج، كان المطر قد بدأ يهطل خفيفًا، يلمع على زجاج المقهى مثل دمعٍ مؤجل.
كان السّيِّد أحمد جالسًا إلى مكتبه، يتأمّل صورةً قديمة التُقِطت له في فرنسا، وهو يقف أمام بوّابة الجامعة، مرتديًا معطفًا ثقيلاً ونظّاراتٍ سوداء، يشعّ من عينيه آنذاك شيء من العناد والنبوغ. بجوار الصورة دفترٌ جلديّ أسود، قديم الطراز، يضمّ ما كتبه في سنوات ما بعد العودة.
طَرَقَت منى البابَ بخفّة، ثمّ دخلت دون أن تنتظر الإذن.
ــ “مساء الخير، بابا.”
رفع رأسه عنها ببطء، وأشار بيده إلى الكرسي المقابل:
ــ “مساءُ الوضوح، يا منى… تفضّلي.”
جلستْ وقد وضعت يديها في حضنها، نظرت إليه نظرة فيها تردّدٌ خفيف.
ــ “تحدّثنا كثيرًا عن نُعمان… لكن، أظنّ أن عليّ الآن أن أقول لك ما لم أقله من قبل.”
أغلق السّيِّد أحمد الدفتر، ووضع نظّارته جانبًا:
ــ “أنتِ حرّة، يا ابنتي، لكنّني أرجو أن تكوني أيضًا… صادقة مع نفسك.”
ــ “أنا أحبّه، يا أبي.”
ظلّ صامتًا لحظة، كأنّه توقّع الجملة منذ زمن، ثم قال:
ــ “أعرف.”
ارتبكت منى، لكنها تابعت:
ــ “لكنّي ما زلتُ أرى في عينيه ظلَّ تردُّد… شيءٌ من الخوف، لا أدري إن كان خوفًا منّي أم عليّ.”
ابتسم والدها ابتسامة هادئة، وقال:
ــ “ليس خوفًا منكِ، بل من حظّك. هو قادمٌ من عالمٍ آخر، تعلّم أن لا يُظهر مشاعره إلا على ورقٍ، أو في زاوية مظلمة. ومِن عادته ألّا يتكلّم إلّا حين يُضطَرّ.”
ــ “لكنه يتكلّم إليّ، ويكتب لي، ويصمت فجأة… ثم يعود فيكتب أكثر.”
ــ “ذلك يا منى، لأنّه يحبّك بطريقةٍ لا تُشبه زمننا.”
صمتت لحظة، ثم قالت:
ــ “وقد استُدعِيَ من جديد إلى الأمن السياسيّ… نفس الأسئلة القديمة، لكن هذه المرّة سُئل عنّي.”
ــ “ومن المؤكد أنه قد سُئل عنِّي أيضاً، ربّما. ليس غريبًا يا منى. هذه البلاد لا تُحبّ من يُفكِّر… ولا من يُحب.”
حدّقت منى في عيني والدها، ثمّ سألته بهدوء:
ــ “أتوافق على علاقتي به؟”
أطرق الرجل لحظةً، ثم أجاب، وكأنّه يُنقّب في قلبه عن الجواب:
ــ “إذا أردتِ الصدق: لا يهمُّ إن كنت أوافق… ما دمتِ ترين فيه رجلاً يصونك ويكبر بكِ. لكنني أطلب منك فقط شيئًا واحدًا: لا تتركيه وحده في اللحظة التي يظنّ أن لا أحد معه.”
ابتسمت منى، ومدّت يدها نحو يد والدها:
ــ “ذلك ما أردت أن أسمعه… وما أردت أن أفعله.”
غادر الضوء بلطفٍ حوافّ الغرفة، فيما انفتح بين الأب وابنته حوارٌ صامت، عميق، لا يحتاج إلى كلماتٍ أخرى.
الفصلُ الثالث والثلاثين البحث عن تهمة 35
________________________________________
قَلَّبَ المُحَقِّقُ الأوراقَ بِبُطْءٍ، ونَظَرَ إلى نُعمانَ بنَظرةٍ تَحْمِلُ التَّوَجُّسَ:
– “طيب يا أستاذُ نُعمان، نُرِيدُ أن نَتَحَدَّثَ بِصَراحةٍ. مع منى؟، عن ماذا تَتَحَدَّثُ في العادة؟ عن الحُبِّ أم عن أمرٍ آخر؟”
تَرَدَّدَ نُعمانُ قليلاً، ثم قالَ بثباتٍ:
– “نَتَحَدَّثُ عن كلِّ شيءٍ… عن الكتب، والدِّراسة، وعن الوطن، وما يَجري حَولَنا.”
رَفَعَ المُحَقِّقُ حاجِبَهُ باستِهزاءٍ:
– ” عن الوطن؟ أي وطن تقصد؟ وطنكم، أم فرنسا؟ أم أولئك الذين يحلُمون بالحُكم من وراء البحار؟”
لم يُجِب نُعمانُ، فَتَفَحَّصَهُ المُحَقِّقُ بتمعّنٍ، ثم سأل:
– ” هل تتحدَّث منى عن والدها؟ ما رأيُه فينا؟ وماذا يَظُنُّ عنا نحن؟”
حاوَلَ نُعمانُ استعادة رباطة جأشه، فأجابَ بهدوءٍ:
– “السيد أحمد رجل مُثَقَّف، له رأي، لكنّه لا يُدلي بأيّ كلامٍ ضدّ الوطن.”
ضحكَ المُحَقِّقُ ببرودٍ:
– “لا يُدلي… لكنك تسمع، وتكتب. صحيح؟ تُسجِّل أفكارَه وترسلها إلى الخارج؟”
هَزَّ نُعمانُ رأسَهُ نفيًا، لكنّ المُحَقِّقَ لم يُمهله، وتابع:
– “وقريب عَمِّها في لبنان؟ ماذا يعمل؟ مع الميليشيات أم مع السفارة؟ وقريب خالُّتها الذي لديه مطبعة؟ هل تطبعون منشورات أم روايات رومانسيّة؟”
قال نُعمانُ بهدوءٍ:
– “لا أعرفُ تفاصيلَ عن عائلتهم، وليس لي شأنٌ بهذه الأمور.”
وقفَ المُحَقِّقُ وتقدّم نحوهُ وقال بنبرةٍ تُخفي غضبًا مكبوتًا:
– ” لكنّكَ تعرف، وتحدّث، وتسجّل كلّ شيء. هكذا كُتِبَ عنكَ: صاحبُ ذاكرةٍ حادّةٍ، يحفظ ما يُقال، وينقله بأسلوبٍ أدبيّ! ممتاز.”
سحب ورقةً من الملفّ، وقرأَ بصوتٍ مصطنع البرود:
– في أحد لقاءاتك مع الآنسة المذكورة، عبّرتَ عن اعتقادك أنّ قول الحقيقة في هذا الوطن صار فعلًا من أفعال الحُبّ، لأنّكَ ترفض أن يُدفَن الجمال بالصمت… تحبّون الجمال كثيرًا، أليس كذلك؟”
أجاب نُعمانُ بصوتٍ خافتٍ:
– ” قلتُ الكلام أمامها… ليس منشورًا ولا بيانًا.”
ضحكَ المُحَقِّقُ مستهزئًا:
– ” لا داعي للنشر، وجودك، وكلامك، وكلامها، هو النشر ذاته… هو المرض.”
عمَّ الصمتُ للحظة، ثم عاد يسألُهُ بنبرة أخفّ:
– ” آخر سؤالٍ لهذا اليوم… لو خُيّرت بين حُبِّها وولائك للوطن، ماذا تختار؟”
نظر نُعمانُ إليه مليًا، وقال بثبات:
– ” إن كان الولاء يعني الكذب، فأنا لا أصلح لا للحُبّ ولا للوطن.”
سادَ الصمتُ ثانيةً، أعاد المُحَقِّقُ الملفَّ إلى مكانه، طرَقَ بأصابعه على الطاولة، وقال بحزم:
– ” انتهينا لهذا اليوم، لكنّنا سنلتقي قريبًا، الشهر القادم. أو ربما قبل فلا تنسَ”.
عاد نُعمان إلى البيت متأخّرًا، خطاه مثقلة بثقل ما سمعه، وعيناه تحملان ظلال قلق عميق. دخل غرفة منى، التي كانت تجلس بجوار النافذة، تنظر إلى الحديقة بصمت غير مريح.
نظرت إليه منى، وابتسامة باهتة ارتسمت على شفتيها، ثم قالت بصوت متردّد:
ــ ” كيف كان التحقيق؟”
تنفّس نُعمان بعمق، وجلس بجانبها، يمد يده ليأخذ يدها بين يديه، قائلاً بنبرة رقيقة لكنها متألمة:
ــ ” كان كما توقعت، أسئلة عنك، عن عائلتك، عن كل شيء… عن البلد، عن كلامنا، عن… كل التفاصيل.”
ارتعشت شفتي منى قليلاً، وضعت يدها على قلبها، وقالت:
ــ ” هل خفت؟ هل قالوا شيئًا عنّا؟”
ابتسم نُعمان ابتسامة ضعيفة، وأجاب:
ــ ” الخوف… موجود، لكن الخوف من أن نخسر بعضنا أكبر. هم يشكون في كل شيء حتى في الحقيقة ذاتها، لكننا لا نستطيع.”
نظرت منى إليه، وعينيها تلمعان بالدموع، وهمست:
ــ ” أنا قلقة عليك… وقلقة علينا. ماذا لو لم أعد أستطيع حمايتك؟”
مسح نُعمان دمعة هادئة على وجهها، وقال:
ــ ” بل ماذا لو لم أعد أستطيع أنا على حمايتك؟.”
تنهدت منى بعمق، وقالت بحزم:
ــ “هل تعدني ألا تتركني… مهما كانت العواقب.”
شدّ نُعمان يدها، وقال:
ــ “بت أشك في قدرتي على أن أعدك… كما بت أشك في قدرتي بل في قدرتنا على مواجه كل شيء معًا.”
غمر الصمت اللحظة، لكن بين الكلمات كان هناك شعور بالوحدة في مواجهة عالم يفرض على الحب ثمناً باهظاً.
تَصاعَدَت وتيرةُ التحقيقِ مع كلِّ زيارةٍ جديدة، وكأنّها موجةٌ لا تهدأُ، تَرتفعُ في عنفوانِها وتَشتدُّ. في اللقاءِ الأخيرِ، استَهَلَّ المحققُ حديثَهُ بنظرةٍ مُتَّسِمةٍ بالشكِّ:
– ” نُعمان، أخبرني عن والد منى… كيف كان عملُه في بيروت؟ وماذا تغيّر حين انتقل إلى دمشق؟ ولماذا؟”
تَنَفَّسَ نُعمان ببطءٍ، وأجابَ محاولًا التهدئة:
– “والدها كان يعمل في شركةٍ خاصةٍ للعائلة كمندسٍ، انتقل للعمل في دمشق لأسبابٍ عائليةٍ بحتة.”
تابع المحققُ، وهو يدوّن في دفتره:
– “وماذا عن دخله الشهري؟ وهل تغيّر مستواه بعد الانتقال؟”
هزّ نُعمان رأسه بتؤدةٍ:
– ” الدخل تغيّر قليلاً، لكن ليس بدرجةٍ كبيرة.”
ثمّ أضاف المحققُ بلهجةٍ حادةٍ:
– ” هل تعلم أن عقدَ المنزل باسمك؟ وأن هناك مبالغَ طائلةً تُدفعُ وتُحصَلُ بشكلٍ غير مُبرر؟ كيف حصلت على هذه الأموال؟ ومن أين لك بها؟”
شعر نُعمان بقلبه يسرعُ، وارتجف صوته قليلاً:
– ” أنا… لم أستخدم هذه الأموال. لا أعرفُ مصدرها بدقة, إنما هو عمل والد منى في مجال التعهدات والبناء.”
عاد المحققُ ليتحدثَ عن تلك الاتهامات، وهو يتحدثُ بهدوءٍ كأنه يُوجّه إدانةً مُبطّنة:
– ” هذه الاتهاماتُ ليست بسيطة، قد تَجلبُ الضررَ لك ولعائلتك، بل ولعائلة منى أيضًا.”
في تلك اللحظة، كان نُعمان يفكر في والد منى، الرجل الحكيم الذي يحملُ ثقلاً كبيرًا في حياته.
اتصل نُعمان بوالد منى في محاولةٍ لشرح الوضعِ وطلب النصيحة، واجتمع الرجلانُ في هدوءٍ على ضوءٍ خافتٍ، وسط همسات القلق والخوف من المُستقبل:
قال والد منى بحزمٍ:
– ” هذه المواقفُ خطيرةٌ يا نُعمان، لكن الصبرُ والحكمةُ هما سلاحُنا الآن. لا تجعل قلبك يخونك، ولا تكشف لهم كل ما تعرف!.”
أجابه نُعمان:
– ” أشعرُ أن الخناقَ يضيقُ حولنا أكثر فأكثر، لكني لن أستسلم.”
أكّد والد منى:
– ” علينا أن نحمي أنفسنا وأهاليْنا. لا مجال للاندفاع، ولا للحديث مع من لا يفهم.”
ابتسم نُعمان بتثاقل، وكان يعلم أن معركة الحقيقة والمحبة لن تكون سهلة، وأنها تتطلب صبرًا ومتانةً لا حدود لها.
الفصلُ الرابع والثلاثين الهروب 36
________________________________________
وفي إحدى الأمسيات, جلس نُعمان ووالد منى في غرفةٍ مُعتِمة، يختلط فيها نورُ المصباح الخافت بظلٍّ ثقيلٍ يلفّ المكان. تنفّس الأبّ بعمقٍ قبل أن يبدأ الكلام:
ــ ” يا بني أنا لا خوف علي, لكني بت أخاف عليك أكثر من أي وقت مضى, فهؤلاء لا تعرف كيف ينبشون, ولا تعرف إلامَ يتطلعون!”
نظر نُعمان إليه بعينين متسائلتين:
ــ ” هل ما يدعونه يجعلك هدفًا للشكوك؟”
أجاب والد منى بنبرة جادة:
ــ “بلا شك. كل تحرك، وكل تعامل، يُراقب بدقة. وخاصة المبالغ التي تُحوَّل أو تُصرف.”
ــ ” وماذا عن العقد الذي يحمل اسمي؟” سأل نُعمان، معبّرًا عن قلقه.
ــ ” العقدُ ليس حصنا. لكن علينا أن نكون حذرين، فكل ورقة وكل توقيع يُمكن أن يُستخدم ضدّنا.”
أومأ نُعمان، ثم قال بحزم:
ــ ” يجب أن نُجهّز أنفسنا لأي مواجهة، وأن نُبقي على تواصل دائم. لا يمكننا ترك الأمور تتحكم بها الخوف والشك.”
ابتسم والد منى، وهو يمدّ يده في إشارة إلى اتفاق غير مكتوب:
ــ ” اتفاقنا صادق، يا نُعمان. سنواجه معًا، ونبقى صامدين.”
شعر نُعمان بنبضات قلبه تهدأ قليلاً، مع هذه الكلمات التي تُعيد إليه بعض الأمل في عتمة المجهول.
جلس نُعمان في غرفة التحقيق، حيث كان المحقق ينتظره بوجهٍ صارمٍ يحمل في طياته تحديًا وخبثًا. بدأ المحقق بقلب الأوراق ببطء، ثم قال بصوتٍ منخفضٍ لكنه يملؤه الضغط:
ـ ” يا أستاذ نُعمان، صار عنا معلومات جديدة عن عمل والد منى، وعن أسباب انتقاله من بيروت إلى دمشق، وعن دخله الشهري. هل تستطيع أن تشرح لنا كيف تمكّنت من تدبير أمر العقد الذي باسمك؟ ومن أين لك بهذه الأموال الطائلة؟”
تنفس نُعمان ببطء، محاولًا المحافظة على رباطة جأشه، وأجاب بثبات:
ــ ” العقد كان من أجل سكن البيت لعائلة السيد أحمد. أما المال، فهو من حسابه الخاص ومن دعمٍ عائلي له من عديله.”
ارتسم على وجه المحقق ابتسامة ساخرة، وقال:
ــ ” وماذا عن علاقتك بأسرة منى؟ وما هي التوجهات السياسية لأفرادها الذين لا يزالون في لبنان؟”
أومأ نُعمان بصمت، ثم قال:
ــ ” ليس بيننا علاقة عائلية، ولا أعلم شيئا عن توجهات سياسية لأحد منهم، لأنني لا أتدخل في شؤونهم.”
زاد المحقق حدّةً، ونظر إليه قائلاً:
ــ ” هذه الأمور مهمة لنا، أيُّ كلمة تخفيها تُحسب عليك. فلا تستخف.”
في منزل منى، اجتمع والدها ونُعمان حول الطاولة. كان الجو متوترًا، والهموم تلوح في الأفق. قال والد منى بجدية:
ــ ” علينا أن نكون مستعدين. الأسئلة تتصاعد، والخطر يزداد. لا بدّ أن نحمي بعضنا البعض.”
نظرت منى إلى نُعمان بنظرة دافئة:
ــ ” نحن معك يا نُعمان، لا تخف. سنصبح أسرة واحدة والأسرة تبقى سندًا.”
أخذ نُعمان نفسًا عميقًا، وقال:
ــ ” سأكون حذرًا، ولكننا لن نستسلم للخوف. الحقّ هو دربنا، مهما كانت التضحيات.”
ارتسمت على وجوههم ملامح العزم، وكأنهم يشدون العزائم استعدادًا لأي محنة قد تأتي.
تحتَ أضواءٍ باردةٍ تُسلَّطُ الضوء على تفاصيلِ بيتِ العائلة، حيثُ ارتسمت ملامحُ القلقِ على وجهِ المحقق، كانت الأنظارُ تنصبُّ على ما يملكهُ السيدُ أحمدُ، والدُ منى، من ثروةٍ ماليةٍ لفتت انتباهَ الأجهزة الأمنية.
جاء المحقّقُ ذاتَ مساءٍ مُحمّلاً بوجهٍ مُتشددٍ وابتسامةٍ لا تخلو من تهديد، وقد أحضرَ معه جهازَ تسجيلٍ صغيرًا مموهًا بقلم حبر بين يديه، واستدعى نُعمان إلى الخارج وقال له بنبرةٍ حذرةٍ ملؤها تهديدٌ مبطّن:
ــ ” يَا نُعمان، حرصًا على سلامتك، وحرصًا على عدم تورطك في اتهاماتٍ استخباراتيةٍ قد تُحملُ أعباءً كبيرةً، أُعطيكَ هذا الجهازَ. ستبقى قريبًا من السيد أحمد ومن منى، وتسجّلُ كلّ ما يُقالُ، لتكونَ عونًا لنا، وضمانةً لأمن وطنك.”
قال نُعمان بعد لحظة صمتٍ ثقيل:
ــ ” وهل هذه هي ثقةُ الدولة؟ أن تتحولَ بيوت الناس إلى مركز مراقبةٍ وتسجيلٍ؟”
ردّ المحقّق بهدوءٍ قاتل:
ــ ” ليس هذا طلبًا، يا نُعمان. إنه أمرٌ لازمٌ من أجل حماية الجميع. لا تدع الخوف يُسيطر عليك، ولا تجعل الحرص على وطنك يقلقك.”
عاد نُعمان و جلس على الكرسي، وأدرك أن اللعبةَ أكبرُ مما ظنّ، وأنه صار جزءًا من شبكةٍ معقدةٍ من المراقبة والخوف، حيثُ المالُ والحبُّ والحريةُ تُحتجزُ جميعها بين جدران هذا البيتِ، تحت رقابةٍ صارمةٍ لا ترحم.
جلس صامتا وهو يحمل الجهاز الصغير بين يديه، كأنه ثقلٌ لا يُطاق.
ثم غادر إلى الحديقة وحفر حُفرة فيها ودسه في التراب وعاد. وأخبرهن بما حصل! فنظرت إليه منى بعينين تختلط فيهما الحيرة بالخوف، وقالت بصوت منخفضٍ:
ــ ” هل تظنُّ أنَّ هذا الأمر سيُغيّر شيئًا؟ أهو فقط من أجل الحماية، أم بدايةُ خيانةٍ مُريرة؟”
ارتسمت على وجه والدها تعابيرُ جديّةٍ، قال بحزمٍ لكن بلهجةٍ ملؤها الحذر:
ــ ” هذا واقعُنا الآن، يا منى. لا يُمكننا تجاهل ما يجري من حولنا. المالُ الذي أملكهُ صارَ بؤرة اهتمامٍ للمراقبة، وهذا الجهازُ… أداةٌ لتسلطهم علينا، أو على الأقلّ محاولةٌ لذلك.”
تنفّس نُعمان ببطء، محاولًا استيعاب ثقل الكلام، ثم قال:
ــ ” لكن هل يمكن أن تبقى هذه الكلماتُ، هذه الحواراتُ التي تجمعنا، تُسجّل وتُراقب؟ أليسَ هذا خنقًا للحرية؟”
ابتسم والد منى ابتسامةً مريرة، وأجاب:
ــ ” نعم، يا نعمان، هذا خنقٌ، لكنه خنقٌ لنا جميعًا. وفي بعض الأحيان، علينا أن نتظاهر بالرضا لنبقى على قيد الحياة.”
رفعت منى يدها لتلمس كتف نعمان، وأضافت برقة:
ــ ” نحن بحاجة لأن نكون أقوى من الخوف، لنقف معًا، لا لنخضع للأصوات التي تراقبنا من الظل.”
نظر إليها نعمان بعينين غارقتين في العزم، وقال:
ــ ” لن أفعل ما يطلبون، حتى لو كان ذلك محفوفًا بالمخاطر.”
كان الليل يوشك أن ينقضي حين التفتَ نُعمان إلى السيد أحمد، وقال بصوتٍ خافتٍ كمن يدفعُ عن أحبّته ظلال كارثةٍ وشيكة:
ــ ” غدًا باكرًا… يجب أن يُباع البيت، وتُصفّى كلّ أعمالك هنا، وترجع مع منى إلى بيروت. هذه دمشق لم تَعُد آمَنة لك ولا لمنى، والخطر يقترب أكثر ممّا نظنّ.”
صمتٌ ثقيل خيّم على الغرفة. منى جلست قرب النافذة، عيناها الشاخصتان نحو العتمة تذرفان الدموع، كأنها تُصغي لصوتٍ لا يُسمع، ثم التفتت ببطء إلى أبيها تنتظر منه جوابًا, أو حلا لما يمرون به.
أما السيد أحمد، فقد ضمّ يديه إلى بعضهما وأطرق رأسه قليلًا، قبل أن يرفع عينيه نحو نُعمان قائلًا بنبرة العارف المُنكسر:
ــ ” أتظنّ أن الرحيل إلى بيروت يُخرجنا من الخطر؟ يا ولدي، مَن يُمسك بزمام الأمن هنا، هو ذاته من يُمسك به هناك. الحدود لم تعد تفصل بين السكين والرقاب، بل تُمسي جسرًا للشكّ والرصدِ والولاء القسري.”
قالت منى وقد بدا الوجع واضحًا في صوتها:
ــ ” أيعني هذا أن لا ملاذ لنا؟ لا بيت؟ لا وطن؟”
أجاب والدها، وكأنما يُحدّث نفسه:
ــ ” يعني… أن علينا أن نُفكّر بحلٍّ أوسع، لا يُخرجنا وحدنا، بل يُخرج الحقيقة من هذا الحصار. أن ننجو جميعًا، لكن لا سبيل إلا بالهرب، فلا حكمة سواها تَقي وتُفهم وتُراوغ.”
تقدّم نُعمان نحو الطاولة، وضع يده على أوراقٍ مترامية تخصّ البيت والمكتب، وقال:
ــ ” لكن الوقت لا يرحم. كل يومٍ يمضي، يجعلهم يقتربون أكثر. المخابرات طلبت منّي أن أُسجّل لكم… أن أسمعكم. وأنقل لهم, وأنا…”
قاطعته منى وهي تنهض فجأة:
ــ ” وأنت لم تفعل، أليس كذلك؟ لن تفعل!”
نظر إليها مليًّا ثم قال:
ــ “وماذا كنت تظنين؟ طبعاً لم أفعل… ولن أفعل.”
أطرق والدها، وساد الصمت من جديد. ثم قال بصوتٍ هادئٍ، حاسم:
ــ ” إذن نُفكّر معًا. لا نبيع شيئًا. لا ننهِ شيئًا. نحتاج إلى مهرب لا يلفت الأنظار، وخطة لا تفضحنا. نحتاج… إلى وقتٍ، ولو كان على حساب الخوف.”
قال نعمان:
– ” ولكن أظن أن كسب الوقت لن يكون بوجودكم هنا في دمشق”
لم يكن الوقت في صالحهم. كلّ دقيقة تمضي كانت تُضاعف القلق، وتدفع الظلال لتتسلل أكثر إلى وجوههم وأفكارهم. على الطاولة، تكدّست أوراق البيع، عقود المكتب، باتوا فجأة ثقلاً يجب التخلّص منه دون ضجّة.
قال السيد أحمد بصوتٍ منخفض، وهو يُقلّب إحدى الأوراق:
ــ ” إذا عرفوا بأننا نحضّر للرحيل، سيعتبرونه فرارًا… وستُفتح أبواب الشكّ على مصراعيها.”
ردّ نُعمان، محاولًا التماسك:
ــ ” أعرف. لكنّهم باتوا يعرفون أكثر, مما سيدفعهم إلى الابتزاز على الأقل لتتقي أنت به شراً يخططون له أو يصنعونه… هم يراقبون، يسألون عنك، عن أموالك، عن خالك في لبنان، عن تلك المطبعة الصغيرة التي طبعت كتابًا عن الجمال والحرية منذ عشرين عامًا، فعدّوه منشورًا سياسيًّا.”
ضحك أحمد بمرارة:
ــ ” الجمال؟ صار تهمة؟”
فأجابه نُعمان كمن يُجاهر بما في قلبه:
ــ ” نعم، تهمة! لأنّهم يخافون من كل ما لا يُشترى… من كل ما لا يَصدر إلا بأمرٍ مكتوب ضمن نطاق سلطتهم وإلا فسيُختم بالشمع الأحمر.”
اقتربت منى من والدها، وضعت يدها على كتفه، وقالت بهدوءٍ يشبه الرجاء:
ــ ” نحن لا نريد أن نكون أبطالًا، يا أبي… فقط نريد أن نعيش بسلام.”
أومأ برأسه، ثم قال وهو ينظر إليها كأنما يستودعها شيئًا أكبر من الكلمات:
ــ ” وأنا لا أريد أن أدفعكِ ثمن هذا الحلم المكسور. سنبحث عن طريقٍ لا يفضي إلى هاوية. فقط… علينا أن لا نُخطئ في الخطوة القادمة.”
أجاب نُعمان:
ــ ” إن شئت، أُقابلهم مرةً أخرى، لأفهم إلى أي حدّ بلغ الأمر عندهم.”
قال السيد أحمد متأمّلًا:
ــ ” لا تتعجّل. ولا تُقابلهم قبل أن نُحدّد نحن ما نريد. هذه ليست لعبة… إنها مصائر.”
ساد السكون من جديد. ثم هبّت ريحٌ خفيفة من نافذة لم تُغلق جيدًا، فتراقصت الأوراق على الطاولة، كأنها تهمس بأن المقام بات شيئاً تذروه الرياح.
بقيت أعينهم معلّقة بذلك الارتجاف الصامت، وقد أدرك كلّ منهم أن الطريق الذي بدأوه لن يُفضي إلى المألوف، وأنّ الحياة، كما الحريّة، لن تُمنح لهم إلا بثمنٍ باهظ.
في صباحٍ رماديٍّ خافت، كانت دمشق تتهيّأ ليومٍ جديد، لكنّ البيت في حيّ “المزة فيلات” بدا وكأنه يُطوى على عُجالة، كصفحةٍ لا يُراد لها أن تُقرأ مرةً أخرى.
لَقَدْ قَرَرُوا الذَّهَابَ وَالمُغَادَرَةَ بَعِيداً.
كان السيّدُ أَحمد قد أمسكَ بالسماعةِ بالفعل عندما تقدّمتِ الساعةُ نحو يومهِما الأخير.
بصوتٍ خافتٍ تُغلّفه العَجَلةُ، راحَ يُحدّثُ أحدَ أقاربه البعيدين، ذاكَ الذي يملكُ نُفوذًا في أماكنَ لا يَصلُها العاديّون.
رجاهُ أن يؤمّنَ ثلاثَ مقاعدَ على أوّلِ طائرةٍ تُغادرُ دمشق — لا يهمُّ إلى أين، المهمُّ أن يكونَ الرحيلُ قبلَ بزوغِ الفجرِ التَّالِي: واحدةٌ له، وأخرى لابنته، والثالثةُ لِنُعمان.
كان نُعمانُ واقفًا جانبًا، جبهتُهُ تستندُ إلى الزجاجِ البارد.
وحينَ نطقَ السيّدُ أحمد بالأسماءِ، استدارَ نُعمانُ ببطءٍ كأنّ شيئًا داخلهُ قد انكسر.
قالَ بصوتٍ خفيضٍ اخترقَ سكونَ الغرفةِ كحدِّ السكين:
ــ “لا أستطيعُ أن أُغادرَ مَعَكُم… لا أستطيعُ أن أتركَ أمي… ليسَ الآن.”
سادَ الصمتُ، صمتٌ كاملٌ لا يُسمَعُ فيه إلّا خريرُ الخطِّ البعيد.
نظرت إليه منى، وكأنّ الأرضَ قد سُحِبَتْ من تحتِ قدميها.
ارتجفتْ شفتاها، وكادت أن تتكلّم — اعتراضًا، أو رجاءً — لكنّها لم تفعل.
بدلَ ذلك، تقدّمت نحوه ببطءٍ، وأخذتْ يدَهُ بكفٍّ خفيفةٍ مرتعشة.
همستْ:
ــ “أفهمُكَ.”
لكنَّ عينيها كانتا تمتلئان بدموعٍ مُعنّدة، لا تريدُ أن تنساب.
ظلّ السيّد أحمد صامتًا، يرمقُهما بنظرةٍ طويلةٍ، ثمّ أومأ برأسِه إيماءةً بالكادِ تُرى.
عادَ إلى الهاتفِ، وتنهّدَ تنهيدةً كانت أبلغَ من أيّ كلام:
ــ “تذكرتان فقط… من دمشقَ إلى عمّان… ومن هناك — فرنسا، أو ربّما أستراليا.
لا يهمُّ إلى أين. المهمُّ أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ فِي أَقْرَبِ وَقْتٍ مُمْكِنٍ”.
بَدَأت منى ترتّب حاجياتها بصمت، تلفّ الكتب بشيءٍ من الوجل، تضع بينها ملاحظاتٍ قديمة بخطّ نُعمان، ورسائل قصيرة لم تُرسل، ورسمًا بالقلم الرصاص لوجه أمّها، تركته ذات مساء فوق دفتر المحاضرات.
أما السيّد أحمد، فكان منشغلًا بترتيب الوثائق، يطوي كلّ ورقة مرتين، كمن يُحاول محو أثرها، فيما ظلّ الهاتف الأرضيّ ساكنًا كقنبلةٍ أُفرغت من فتيلها، لا يرنّ، ولا يُستعمل، ولكنّه حاضر، كعَينٍ ثالثة تترصّد الهمس.
اتصل نعمان مع المكتب العقاري وبلطف طلب من صاحبه الحضور فوراً إذا لم يكن مرتبطاً بموعد, فحضر الرجل على الفور بينما كان نعمان قد أقنع السيد أحمد ببيع الشقتين معاً وكونهما باسمه فذلك سيسهل عليهما السفر دون حاجة لانتظار مواعيد الفراغ والتسجيل لدى الدوائر الحكومية, وما عليه إلا يخبر عديله وخالة منى بأنهما اضطرا للبيع لأسباب سيشرحها لهما لاحقا, وإنه سوف يجري تحويل قيمة الشقتين فور بيعهما.
وعندما وافق السيد أحمد ومنى كان صاحب المكتب العقاري قد وصل فاستقبلوه ودخل غرفة المكتب.
قال نعمان:
– ” إن السيد أحمد مضطر للسفر سريعاً وإنه يريد أن يبيع شقته وشقة عديله, فهل تبحث له عن مشتر يدفع القيمة التي تستحقها الشقتين معاً”.
فابتسم صاحب المكتب قائلاً:
– ” يا سبحان الله!”.
وطلب الإذن بالمغادرة للحظات, وعاد برفقة الجار التاجر الذي في الطابق الأعلى فقد كان قد طلب منه منذ أشهر أن يجد له شقتين قريبتين منه لأقارب له, فاتصل هذا الجار بأقاربه وحضروا على الفور, وتم البيع وتوقيع العقود اللازمة, وبقي على نعمان أن يحضر يوم الفراغ إلى الدائرة المختصة ليتم استكمال نقل الملكية.
غادر المشترون لساعة تقريباً وعادوا من جديد ليحمل كل منهم حقيبة من النقود لكن بعملة أجنبية, وكم كانت سعادة السيد أحمد بذلك حتى لا يضطر إلى عملية التصريف, وحاول الشاري أن يبقي شيئاً من النقود حتى يتم الفراغ, فقام نعمان بإعطائه هويته الشخصية كدليل على مصداقية ما وعدهم به, لكن الجار التاجر كان يعرف نعمان وقد خَبِرَهُ عن قرب لذلك أقنع قريبه أن لا حاجة لأن يحتفظ بشيء وأن يسلم المبلغ نقدا بشكل كامل. وأخذ صاحب المكتب عمولته المتعارف عليها ومضى إلى مكتبه وهو يحمد الله ويشكره على رزق جاء على أهون سبب وأسرع طريق.
بعد أن اتفقوا أن يتم تسليم المفاتيح صباحاً للجار وأن يبقى كل شيء في الشقتين على حاله عدا ما يخص السيد أحمد وابنته وخالتها من حاجيات خاصة, وغادر الجميع.
حاول السيد أحمد أن يقنع نعمان بأن يقبل إحدى هذه الحقائب الثلاثة ذي المبالغ الطائلة كهدية له, لكن نعمان أشعرهما بأنهما بذلك يخسرانه نهائيا, فألغيا هذه الفكرة واعتذرا عنها
وقف نُعمان عند الباب، لم يعرف ما الذي ينبغي قوله. الكلمات كثيرة، وكلّها غير كافية.
قال أخيرًا، وهو ينظر إلى منى:
ــ ” في آخر لحظة قبل أن تفتح الطائرة أبوابها، أخبريني…بواسطة الهاتف, فقط كلمتان قصيرتان، لا حاجة للكلمات… يكفيني أن أعرف أنّك بخير, لذلك قولي (نحن بخير).”
أومأت برأسها بصمت، ثم اقتربت منه تود عناقه. بكنه مد إليها يده، فصافحها مودعاً كما لو أنّه يودّع وطنًا لا يعرف إن كان سيعود إليه يومًا.
ــ ” هل ستعودون إلى هناك؟” سألها، دون أن يحدّد مكانًا.
قالت بنبرةٍ فيها من الطفولة ما يكفي لكسر القلب:
ــ ” بل إلى حيث نستطيع أن نكون بشرًا دون خوف. وإن عدنا… فلن يكون الآن.”
تقدّم السيّد أحمد منه، صافحه بوقارٍ فيه تقدير وحذر, ثم ضمه إلى صدره وهو يقول:
ــ ” لقد كنتَ كريمًا… وشجاعًا أكثر مما ينبغي. ابقَ على حذرك، ولا تَسمح للظلال أن تبتلعك. هذه البلاد تحتاج من يحفظ وجهها الجميل، وإن خذلها الجميع.”
ردّ نُعمان بصوتٍ متماسك:
ــ ” أعرف الطريق، وسأحاول أن أبقى في الضوء، ما استطعت… وأن أكتب فقط، لا أن أُعلن.”
ثم نظر إلى منى، وقال همسًا:
ــ ” إن كتبت شعراُ يوما فلك وعنكِ… وإلا فسيكون نصًّا لا يُنشَر حتى نهاية العمر. وسيبقى بيني وبين الحلم.”
لوّحت له بيدها المرتجفة، ثم أدارا ظهريهما، ومضيا.
ظلّ نُعمان واقفًا وحده، في البيت, ينتظر اتصالهما ليسلم المفاتيح لصاحبها الجديد ويعود إلى بيته.
يتأمّل السور الذي يأبى أن يتصدّع أمام البيت، وباب الحديقة الصغيرة، وشجرة النارنج التي تساقطت أوراقها باكرًا هذا العام.
تنفّس بعمق، ثم قال في سرّه:
“بعض الوداع، لا يُقال فيه شيء. فقط… يُعاش.”
المشهد: بعد أسبوعٍ على مغادرة العائلة،
في مساءٍ رماديّ كئيب، استُدعي نُعمان إلى الفرع مجددًا.**
لم يكن الطريق إلى هناك جديدًا عليه، لكنّه هذه المرّة بدا أطول، كأنّ الأرصفة تنأى بنفسها عنه، وكأنّ الجدران أُدركت أكثر، واستحالت إلى وجوهٍ بلا أعين.
في الغرفة ذاتها… نفس الطاولة، نفس الكرسي المعدني البارد، ونفس العيون التي لا تُخطئ الارتباك.
دخل المحقّق، أكثر أناقةً من السابق، يحمل ملفًا رقيقًا بيده، وابتسامةً لا معنى لها على فمه.
قال وهو يُقلب بعض الأوراق:
ــ ” هل غادروا؟ …. أتظن هذا أقلّ تعقيدًا؟……. ألم أَطْلُب مِنْكَ متابعة كُلَّ تَفَاصِيْلَهُم؟”
لم يُجِب نُعمان.
تابع المحقّق، وكأنّه يُلقي موعظة:
ــ ” لكن… ماذا لو قلتُ لك إنّهم لم يذهبوا بعيدًا؟ وإنّ أحدًا ما قد ترك خلفه أثرًا يُقلق السيادة؟”
نُعمان (بلهجة حذرة):
ــ “أيّ أثر؟”
فتح المحقّق الملف وأخرج صورة مطويّة. فردها على الطاولة ببطء.
ــ “هل تعرف هذا؟”
وأردف
– ” إنها صورة لحقيبة جلدية صغيرة، مألوفة… ربما كانت لمنى، أو لوالدها. لا ندري”
تابع المحقّق، وعيناه تستقرّان على عينيه:
ــ “عُثِر عليها قرب الحدود… وبداخلها شريحة ذاكرة. يبدو أنّها تحتوي شيئًا… رسائل؟ تسجيلات؟ أسماء؟ من يدري؟”
صمت قليلًا، ثم اقترب ببطء وهمس:
ــ ” وكل هذا… كان في البيت الذي …..، قبل أن يُباع.”
ابتلع نُعمان ريقه. وهو يضحك بصمته, لأن هذا المحقق لم يكن يعرف شيئًا، فقط يريد أن يثبت شيئاً لنفسه أو أنه أراد أن يُقنع نفسه, لقد غادروا بالطائرة, بشكل نظامي.
رفع المحقّق مسجّلًا صغيرًا، ووضعه على الطاولة.
ــ ” هل تذكّر هذا الجهاز؟ إنه من ذات النوع الذي أعطيتك إياه. في بيتهم, هل استخدمته؟ هل سجّلت شيئاً كما طلبت منك؟ يمكنك أن تخبرني بكلّ أريحيّة… فنحن صرنا أصدقاء، أليس كذلك؟”
هزّ نُعمان رأسه نفيًا، ثم قال بثبات:
ــ ” لم أسجّل شيئًا. ولا سلّمتكم شيئًا. ستجد الجهاز المزعوم في حديقة ذلك المنزل, مدفوناً إلى جوار الجذع الغربي لشجرة التِّين العتيقة الواقفة هناك”
ابتسم المحقّق بخبث، وأغلق الملف.
ــ ” جميل… جميل. نحن نُحبّ الصادقين. ولا حاجة لي بقلم فاسد, لكن أحيانًا… الحقيقة تحتاج إلى وقتٍ لتخرج.”
ثم أردف بنبرة باردة:
ــ ” بالمناسبة… الأستاذ القادم من بيروت, لم يرجع إليها, و لن يعود إلى هنا ثانية. لا تقلق عليه, هو وابنته الآن بخير, سَافَرَا إِلَى (استراليا).
لكنك ستُستدعى مجددًا. طبعًا. فَالوَطَنُ لَا يَنْسَى أَصْدِقَاءَه.”
الفصلُ الخامس والثلاثين لن تعود إلى الأبد 37
________________________________________
بعد ساعات طوال خرج نُعمان من غرفة التحقيق التي كشفت أوراقها أمامه بكل صدق هذه المرة.
” فَلَمْ يَكُنْ يَحْمِلُ فِي قَلْبِهِ، وَلَا فِي عَيْنَيْهِ، شَكًّا فِي مَنْ أَحَبَّهُمْ؛ وَلكِنَّ رَحِيلَهَا تَرَكَ فِي صَدْرِهِ غُصَّةً تَأْبَى أَنْ تَفْتُرَ.”
أخرج من جيبه، ورقةٌ تركتها على وسادتها قبل أن تسافر، مكتوب عليها بخطّ يدها:
“اطْمَئِن, فأَنّا بخَيْرٍ مَا دُمْتَ نَبْضًا فِي قَلْبِي، وَصَدَى فِكْرٍ يُنِيرُ رُوْحِي”
(لا تَخُطّْ تِلْكَ الرِّوَايَةِ)
رِوَايَةِ الحُلْمِ
مَهْمَا اِسْتَطَعْتَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًاً
إِلَّا إِنْ خَـرَجَـتْ هِـيَ وَحْـدَهَا مِـنْـك
بعد أسبوعين من مغادرتهما. استفاق نُعمان باكرًا، رغم قلّة النوم. لم يكن له في الأمر فضيلة الاجتهاد، بل ذلك الفراغ الذي يُوقظه قبل الموعد، ثم لا يمنحه سببًا للنهوض.
فتح النافذة، فهبّت نسمات ريفية باردة، تُخَبِئُ رَغْمَ دِفئِها شيئاً من البرودة, وشيئًا من الغياب، كأنّها تقول له هذا الصباح:
” مرّت من هناك… ولن تعود.”
خرج إلى كليته، يحمل كتبه ودفاتره كما لو كانت بقايا معركة. في الردهة الطويلة، لمح الوجوه المعتادة، الضحكات المتعجّلة، والأحاديث السطحية التي كانت تُغرقه بالضيق أكثر من الوحدة.
جلس في مقعده، وبجانبه الكرسيّ الذي كان لها. ظلّ فارغًا، كأنّه ينظر إليه ويقول:
“احكِ لي شيئًا… كما كنت تفعلين.”
سأله زميله بصوت خافت، وهو يشير إلى الورقة التي بين يديه:
ــ “ما رأيك؟ هل سننجح هذا العام بتفوق مثل العادة؟ أو نؤجل إلى عام آخر؟”
أومأ نُعمان موافقًا دون أن يرى. عيناه كانتا تقرآن في مكانٍ آخر. في المساحات الخضراء، كان يرى خطواتها… ويسمع في الصوت المنكسر، صوتًا لم يكسره التحقيق الأخير.
بعد المحاضرة، قصد المكتبة. جلس في الزاوية التي كانت منى تفضّلها. سحب رواية “الطاعون” لكامو، فتحها من منتصفها.
كأنّ الحروف كانت تعرفه. في سطرٍ على الهامش، بخطّ صغير مألوف، كُتِب:
” أحيانًا، يقاوم الإنسان المرض بالكلمات. وأحيانًا، يموت منها.”
تأمّل العبارة طويلًا. ثم أغلق الكتاب ببطء، وأخفى وجهه بين يديه.
قال في نفسه:
” تركتِ الحبر في كلّ مكان… يا منى. حتّى في الكتب التي لن أنتهِي من قراءتها.”
في مساء ذلك اليوم، عاد إلى البيت. كانت الأضواء مطفأة، كما تركها. جلس إلى الطاولة، نظر إلى الزاوية حيث كانت تجلس مرّة، تدوّن بعض الملاحظات، وتضحك إذا ما علّق على خطّ يدها.
أخرج مغلفًا صغيرًا من درج المكتب. فيه صورتان: واحدة لهما في حديقة الكلية، والأخرى لورقة صغيرة… كتب فيها:
“سيجيء يومٌ… لا يكون الحُبّ فيه جريمة…. ليتنا التقينا في وَطَنٍ آَخَر.”
ثم أطفأ الضوء. وبقي الليل يحرس وجعه، ويعدّ أنفاس بلدته… في انتظار استدعاءٍ جديد.
الفصلُ السادس والثلاثين عبدٌ فقيرٌ من عبادِ الله 38
________________________________________
قال نعمان: ()
( ” في أحدِ أيّامِ عامِ ألفٍ وتسعمئةٍ وتسعةٍ وسبعين، عقب سفر منى و والدها بشهرين تقريباً إلى قارة بعيدة.
كنتُ قد عدتُ من الجامعةِ بعدَ نهارٍ دراسيٍّ طويل، ودخلتُ دكّانَ والدي حيثُ كان يقصُّ شعرَ أحدِ زبائنه، كما اعتادَ منذ سنين. وقفتُ عند الباب برهةً ثم قلتُ له بصوتٍ هادئ:
– ” هل تحتاجُ إلى شيءٍ يا والدي؟ إنِّي ذاهبٌ إلى المنزل.”
رفعَ رأسَه من فوق رأس الزبون، ونظرَ إليَّ بعينين فيهما لمعةُ ارتياح، وقال:
– ” اجلسْ قليلًا… لا تتعجّل.”
أطعتُه وجَلَسْتُ على أحدِ الكراسي الخشبيّةِ القريبةِ من المرآة. كان في صوته ما يُشبه الرغبةَ في أن أبقى، لا لمجرّدِ الحاجةِ بل لأمرٍ آخر. ثمّ عادَ يُتابعُ حديثه مع الزبون، فاسترعى انتباهي أمرٌ لم أكن معتادًا عليه؛ لقد سمعته ينادي الزبون بـ”رفيق”.
رفعتُ حاجبيَّ دهشةً. لم يكن من طباعِ أبي ولا من قاموسِه مطلقاً أن يستعمل هذه الكلمة، بل كنتُ أحسبُه ينأى بنفسِه عن كلّ ما يمتُّ إلى الخطابِ الحزبيّ بصلة. فأصغيتُ أكثرَ دون أن أتدخّل، وقد تملّكني الفضول.
أنهى والدي القصّة، وربّت على كتفِ الزبون قائلًا:
– ” نعيـمًا.”
ابتسم الرجلُ، ثم تقدّم وجلسَ بجانبي. نظر إليّ نظرةً متفحّصةً مليئةً بالهدوء، ثم قال بنبرةٍ تشي بالاطمئنان:
– ” حدِّثني… ما قصّتُكَ؟”
استغربتُ سؤاله المفاجئ! تردّدتُ لحظةً، ثم سألتُه بلُطف:
– ” مَن تكونُ حضرتُك؟”
ابتسم ابتسامةً غامضة، وقال:
– ” عبدٌ فقيرٌ من عبادِ الله… احكِ لي كلَّ شيء، ولا تخف.”
تبادلتُ نظرةً خاطفةً مع والدي، ثمّ شرعتُ في السردِ، كأنّما انفكّت عقدةُ لساني دفعةً واحدة. رويتُ له الحكاية من بدايتها: من السادسِ من تشرينَ الأوّل عامَ ١٩٧٤، مرورًا بأيّامي في المعتقل، ومهزلةِ المحكمة، واستدعاءاتِ شعبةِ الأمنِ السياسي، ومواظبتي على مراجعةِ شعبةِ الحزب، ومماطلةِ “الرفيق أبي معروف” المتكرّرة، حتى تلك اللحظة.
أصغى إليَّ بكلّ تركيزٍ دون أن يُقاطعني، ولم تظهر على وجهه علاماتُ مللٍ أو استعجال، بل كان يُومئُ برأسه بين الحينِ والآخر وكأنّه يُدوِّن ملاحظاتٍ صامتة.
وحين انتهيت، سألني بنبرةٍ هادئة:
– ” هل تعرفُ مبنى القيادةِ القُطرية لحزبِ البعثِ العربيِّ الاشتراكيّ في دمشق؟ في شارعِ المهدي، بعدَ مبنى الأركان العامة؟”
قلتُ متردّدًا:
– ” نعم، أظنُّني أعرفُه… وإن لم أكن، فبوسعي أن أصلَ إليه.”
قال:
– ” غدًا، في تمامِ الساعةِ الثامنةِ صباحًا، ستجدني هناك بانتظارِك.”
في صباحِ اليومِ التالي، وصلتُ إلى المكانِ قبلَ الموعدِ بربعِ ساعة. أوقفتُني بوابةٌ حديديّة وحارسٌ تبدو عليه ملامحُ البساطة.
قال لي:
– ” ماذا تريد؟”
أجبته، متلعثمًا قليلًا:
– ” أنتظرُ الرفيق… ”
ثم صمتُّ فجأة. لقد نسيتُ أن أسأله بالأمس عن اسمِه! فاستدركتُ قائلًا:
– ” هو قادمٌ الآن… لقد وعدني أن ألقاه هنا عندَ تمامِ الثامنة.”
وما إن دقّتِ الساعةُ تمامًا، حتّى رأيتُه يُهرولُ نحوي من بعيد، ويُشيرُ إلى الحارسِ بإذنِ الدّخول. تبعته عبرَ ممرٍّ طويلٍ مُزخرف، حتى بلغنا بابًا فخمًا، نُقِشت على خشبِه رسوماتٌ دقيقة، وارتفعَ حتى لامسَ سقفَ الرُّدهة.
نقرَ على الباب، فجاء صوتٌ داخليٌّ يقول:
– ” تفضّل.”
أدخلني أمامه، وإذا بي أمامَ غرفةٍ أنيقة، يملؤها عبقُ الخشبِ العتيق والمكتباتِ المصفوفة. كانت الطاولةُ في صدرِ المكان، خلفَها رجلٌ في أواخرِ الخمسين، نهضَ حين رآني، مدَّ يده لمصافحتي بحرارة، ثم أشار إليّ بالجلوس على مقعدٍ جلديٍّ مريح، وجلس هو قبالتي، بينما قال الرجلُ الذي جاء بي:
– ” هذا هو نُعمان الغالي، يا رفيقَنا الكبير. أرجو أن تُنصفَه كما وعدتني.”
هزَّ الرجلُ رأسَه، ونهض إلى مكتبه، ثم أخرج ورقةً مطبوعةً تشبهُ تمامًا تلك التي كنتُ أملؤها كلَّ مرّةٍ دون جدوى.
ناولني إيّاها وهو يقول:
– ” هل تعرفُ كيف تملؤها؟”
ابتسمتُ ابتسامةً مائلةً إلى السخرية، وقلت:
– ” لقد كتبتُ مثلَها مرّاتٍ لا أُحصيها.”
قال:
– ” إذاً، املأها، ووقّعها.”
فعلتُ ما طُلِبَ منّي بهدوء، ثم سلّمتُه الورقة. ناولها لمرافقي وقال له:
– ” سجّلها في الديوان، وأعطها رقمًا وتاريخًا. وهذه ورقةٌ فيها رقمُ الجلسة وتاريخُها.”
وبينما غادر صاحبي، نادى على أحدِ السُّعاة، وطلب له ولي كأسين من الشاي. التفتَ إليّ وسألني:
– ” كيف تُحبُّ الشاي؟”
أجبتُ بابتسامةٍ خفيفة:
– ” بسكرٍ زائد.”
وأثناءَ ارتشافِنا للشاي، بدأ يسألني عن هوايتي، وعن الكتبِ التي قرأتُها، وكان في حديثِه ما يُشعرني بشيءٍ من الدفء، على غير ما اعتدتُ في السنواتِ الماضية من برودةِ وجفاء.
عاد صاحبي بعد قليلٍ، وقدّم الورقة. قرأها المسؤولُ ثم نظرَ إليَّ وقال:
– ” غدًا، تُراجعُ شعبةَ الحزب وتسألُ عن طلبِك.”
صافحني مودِّعًا بحرارةٍ فاقتَ تلك التي استقبلني بها. وعُدتُ يومَها إلى البيت، وفي صدري طمأنينةٌ لم أذقْها منذُ خمسِ سنين.
في مساء اليومِ ذاته، كنتُ لا أزالُ غارقًا في نومٍ عميق، حين أيقظني صوتُ جدِّي يُناديني من خلف الباب:
– ” نُعمان! أحدُهم على البابِ يريدك.”
فركتُ عينيّ، وسألتُ:
– ” مَن يكونُ يا جَدّي؟”
ردّ بهدوءٍ فيه بقايا دهشة:
– ” قال لي إنّ اسمَه… أبو معروف!”
…………………………………….” ).
الفصلُ السابع والثلاثين الأخير اَلْحُــــلُم 39
________________________________________
لَمْ يَكُنِ الحُلْمُ الَّذِي عَادَ بِهِ نُعْمَانُ مِنَ الامْتِحَانَاتِ يُشْبِهُ ذَاكَ الَّذِي يُوقِظُهُ كُلَّ صَبَاحٍ. فَبَيْنَ وَعْدٍ لِعَائِلَتِهِ وَاعْتِرَافٍ هَامِسٍ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، تَشَقَّقَتِ الطُّرُقُ، وَضَاعَتِ الخَرَائِطُ.
طَرِيقُ الهَنْدَسَةِ ضَاقَ بِهِ، فَمَالَ عَنْهُ إِلَى الدِّيكُورِ، ثُمَّ تَاهَ فِي دَوَائِرَ الذَّاتِ حَتَّى وَجَدَ نَفْسَهُ فِي الكَلِمَاتِ. لَمْ يَكُنْ هَرَبًا مِنْ فَشَلٍ، بَلْ مِنْ خَوْفٍ خَفِيٍّ، وَجُرْحٍ لَا اسْمَ لَهُ.
تَغَيَّرَ الحُلْمُ: مِنْ بِنَاءِ جُدْرَانٍ إِلَى سَعْيٍ لِبِنَاءِ المَعْنَى. فَكُلُّ زَاوِيَةٍ، كُلُّ لَمْسَةٍ، أَصْبَحَتْ نَصًّا يُقْرَأُ، وَكُلُّ مَادَّةٍ تُخْفِي أَثَرًا.
أَرَادَ أَنْ يَفْهَمَ العَالَمَ لِيَبْنِي نَفْسَهُ، لَا بِعَيْنِ الرُّؤْيَا، بَلْ بِبَصِيرَةٍ تَخْتَرِقُ الظِّلَالَ وَتَسْبُرُ المَعَانِي.
فَهِمَ أَنَّ الفِكْرَ وَالدِّينَ كِلَيْهِمَا تَسَلَّلَ إِلَيْهِمَا نَفَسٌ سُلْطَوِيٌّ، يُقَسِّمُ الحَقَّ وَيَسْتَحْوِذُ عَلَى المَعَانِي، كَمَا تَفْعَلُ السِّيَاسَةُ فِي جُغْرَافِيَا القَهْرِ.
وَبَيْنَ مَا كَانَ يَنْهَدِمُ فِي دَاخِلِهِ، وَمَا كَانَ يُبْنِيهِ فِي صَمْتٍ، كَانَ نُعْمَانُ يَغْرِفُ مِنْ جُرْحِهِ لِيَكْتُبَ، وَيَنْظُرُ مِنْ نَافِذَةٍ صَغِيرَةٍ فِي قَلْبِهِ نَحْوَ ضَوْءٍ بَعِيدٍ.
وَكَأَنَّهُ، كُلَّمَا عَادَ إِلَى نَفْسِهِ، عَادَ إِلَى الحُلْمِ مِنْ طَرَفٍ آخَر، أَنْقَى، وَأَعْذَب، وَلَا يُرِيدُ لَهُ أَنْ يَصْحُوَ.
كَانَ نُعْمَانُ يَغْرِفُ مِنْ جُرْحِهِ لِيَكْتُبَ، وَيَنْظُرُ مِنْ نَافِذَةٍ صَغِيرَةٍ فِي قَلْبِهِ نَحْوَ ضَوْءٍ بَعِيدٍ.
ثَمَّةَ شَيْءٌ كَانَ يُنَادِيهِ: أَنْ يُصْبِحَ معَلِّمَاً.
لَا لِأَنَّهُ كَانَ يَسْتَشْعُرُ بِتَّفَوُّقِهِ فِي هَذِهِ المِهْنَة، بَلْ لِأَنَّهُ ذَاقَ الضَّيَاعَ وَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ خَرِيطَةً لِمَنْ سَيَأْتُونَ بَعْدَهُ.
أَرَادَ لِلْكَلِمَةِ أَنْ تَكُونَ مَلْجَأً، وَلِلصَّفِّ أَنْ يُصْبِحَ مَسْرَحًا لِلنَّهْضَةِ الصَّغِيرَةِ فِي دُخُولِ النُّفُوسِ إِلَى نُورِهَا.
وَكَأَنَّهُ، كُلَّمَا عَادَ إِلَى نَفْسِهِ، عَادَ إِلَى الحُلْمِ مِنْ طَرَفٍ آخَر، أَنْقَى، وَأَعْذَب،
حُلْمٍ يُنْبِتُ حُلُمًا، وَمِحْبَرَةٍ تَسْقِي الغَدَ.
________________________________________
خاتمة الكاتب
لم تكن هذه الصفحات مجرّد سردٍ لحكايةٍ شخصيةٍ عابرة، بل شهادة قلبٍ عاش في الخوف، وتكوَّن من وجع المنفى، واستحالَ على أعتابه الحلمُ حنطةً من نار.
لقد نشأتُ في وطنٍ أحببتُه حتى الألم، ثم رأيته ينقلب على ناسه، ويستحيل قفصًا كبيرًا يُلاحق فيه الحرفُ ويُذلّ فيه الصوت. أكثر من نصف قرنٍ من القهر لم تكن كافية لتطفئ هذا النور فينا، لكنها دفعت بثلثينا إلى مصائر لا تليق بإنسان: قتيلًا أو معتقلًا أو مطرودًا من داره ومن روحه.
وها أنا، إذ أضع النقطة الأخيرة في هذا العمل، أجدني واقفًا على عتبة أخرى: عتبة الامتنان.
إنني أتوجّه بخالص الشكر والامتنان إلى جمهورية ألمانيا الاتحادية، وإلى الشعب الألماني، الذين فتحوا أبوابهم وقلوبهم لضحايا الظلم والدمار، فكانت أرضُهم لنا ملاذًا لا يشبه المنفى، بل يشبه بداية ثانية للحياة.
لم تكن استضافتهم مجرّد فعلٍ سياسي، بل كانت إنسانيةً عميقة، أعادت لكثيرٍ منّا حقّ الحياة بكرامة، ومنحتني أنا على الأقل، فرصة أن أكتب، أن أقول، أن أحلم، بعدما خُنقت الأحلام في الزنازين وتحت سقوف القهر.
هذه الرواية، في وجهٍ خفيٍّ منها، هي رسالة وفاء لهذا الوطن البديل، الذي لم يسألني من أين جئت، بل سألني: ماذا يمكنك أن تصير؟
فشكرًا لألمانيا حكومةً وشعبًا.
وشكرًا لكل من آمن أن الحلم، حتى وإن اعتلَ العتبة متردّدًا، لا بدّ أن يعبر.
حين أسدل الغروب ستاره الأخير على تلك المرحلة
وانقشعت عن قلبي غشاوة الخوف من أن يُستَضعف أحدٌ ممّن أحب
آنَ لي أن أُوقن بأنني كتبتها كما عشتها، سطرًا بسطر، ونبضًا بنبض.
BACKNANG – DEUTSCHLAND
الخميس 22 أيّار 2025
نُعمَـان البَربَـرِي
على أعتابِ الحُلم
الخوفُ، الإيمانُ، الصمتُ
حينَ يَحكمُ الخوفُ، يغدو العيشُ نفسُهُ ضربًا من التخفّي.
“على أعتابِ الحُلم” هي سيرةُ شابٍّ لا يتأرجحُ فحسب بينَ القريةِ والمدينة، بينَ الجذورِ والآفاق،
بل يتقلّبُ قبلَ كلِّ شيءٍ بينَ الحقيقةِ والبقاء.
فخلفَ كلِّ قرارٍ، خلفَ كلِّ صمتٍ، يكمنُ ضغطٌ خفيٌّ لا يُرى:
خوفٌ من سُلطةٍ لا تغيب،
سُلطةٌ لا تكتفي بالحُكم، بل تُطالِبُ بأن تُؤمَنَ بها.
تُقنّعُ أيديولوجيّتَها بثوبِ العقيدة،
وتجعلُ من الشكِّ خيانةً لا تُغتَفَر.
نُعمانُ يريدُ أن يدرُس، أن يحلمَ، أن يُحِبّ.
لكن في وطنٍ يُراقبُ أبناءَهُ قبلَ أن يُربّيهم،
يُصبحُ كلُّ حُلمٍ فعلًا سياسيًّا،
ويغدو كلُّ قولٍ خاطئٍ خطرًا لا يُحتمل.
روايةٌ عن المنفى الداخليّ في ظلّ حُكمٍ استبداديّ،
عن فنِّ ألّا تضيعَ ذاتكَ،
حتى وأنتَ مضطرٌّ إلى التخفّي.
لِلقارئاتِ والقرّاءِ الذين يُدرِكونَ أنّ المقاومةَ تبدأُ أحيانًا… بهمسَة.