– الفصلُ التاسع العدسة تلتقط كل لحظة 11
________________________________________
في الصباح، حين لامست أصابعه مزلاج باب المتجر، كانت يده خفيفةً، وكأنها تخشى أن توقظ شيئًا هشًّا يسكن في الداخل.
توقف لحظةً قبل أن يدفع الباب، طرفاه مشدودان كمن ينتظر إشارة خفية.
في عينيه، كان هناك شيء جديد، لم يكن موجودًا يوم أمس الأول. شيء لم يكتمل، لكنه يلمع خافتًا، مثل نجمةٍ تتهيأ أن تنبض.
فتح البابَ ببطءٍ.
دخل، وأغلق خلفه كمن يغلق عالَمًا على سره.
وقف وسط المتجر، نظر إلى الأقمشة المركونة على الأرفف.
لثوانٍ، خُيّل إليه أن الألوانَ أدفأ، أن الروائحَ أعمق، أن المكانَ صار يتنفّس معه.
مرر كفه فوق سطح طاولة البيع، كأنه يلامس ماءً راكدًا.
عقله كان صامتًا، لكنّ قلبه كان يتهامسُ مع حلمٍ صغيرٍ لم يتشكّل تمامًا.
ابتسم… لا يدري لماذا. ابتسامةٌ قصيرةٌ عبرت ملامحه، وانطفأت سريعًا، كفقاعةٍ ارتجفت ثم تلاشت.
دقّت الساعةُ التاسعة ولم يحضر معلمه بعد, فكان يُقلّب بين الأقمشة، يحاول أن يبدو منشغلاً، لكنّ كلّ حركةٍ من حركاته كانت أقلّ حدةً من المعتاد، كأنّه يعيش في نصفِ يقظةٍ.
يمدّ قطعةً من قماشٍ أحمر، ثم يعود ويطويها ببطءٍ، دون سبب.
ينهض ليصفّ الأرفف، ثم يتوقف في منتصف الحركة.
ينظر إلى شيءٍ بعيدٍ كان يحدث بالأمس, مثل هذا الوقت, لا تراه العين.
كانت صورةً ما تومض خلف جفنيه, ظلّ وجهٍ غير واضح، طرف ابتسامةٍ، خفقةَ هدبٍ في الضوء.
قرابة العاشرة رن صوت الهاتف ليسمع منه أن معلمه لن يتمكن من الحضور اليوم.
دخل أحد الزبائن يطلب ثوبين من قماشٍ داكن.
خدمه حسب النظام والهدوء الذي اعتاد مع الزبائن، لكن صوتهُ كان هادئاً أكثر من العادة، فيه نغمةٌ رخوةٌ كمن يتحدث من تحت الماء, حين ناوله ثوبي القماش، انحنى لها بخفةٍ أكثر مما تقتضي العادة، كأنه يعتذر للحياة عن غياب قلبه الآن.
خرج الرجل يلتفت خلفه، وبقي هو لحظةً ينظر إلى الفراغ عند الباب.
مع انتصاف النهار.
جلس خلف طاولة البيع, أراح ذقنه على كفّه، وغاصت عيناه في شقٍّ بين لوحين خشبيين في الجدار.لم يكن يفكر إلا بشيءٍ محدد. إنه الإحساس الذي يسبق الحلم: ضبابٌ دافئٌ يلفّ الروح.
كأنّه في انتظار عودة الساعة إلى مثيلتها يوم أمس، لكنّه واثقٌ أنها لن تعود.
كان يرمش ببطء، حاجباه مسترخيان، وفمه يكاد يبتسم دون أن يقرر.
الساعة تقترب من الثالثة, نسي أن يغلق باب المتجر قبل ساعة فأسرع إلى إغلاقه وتناول شيء يأكله, لكن قطعة قماش بلون زهري مائلٍ إلى البياض جذبته من بعيد.
اقترب منها دون وعي, مد يده إليها، لامسها بأطراف أصابعه, للحظةٍ قصيرةٍ جدًا، أغمض عينيه, كأنّ الملمسَ نقل إليه حكايةً تنسجها له تلك الكلمات التي كانت منى تقولها مثل هذه اللحظات.
أعلنت الخامسة وقت انتهاء فترة استراحة الظهيرة.
باشر يعمل، يبيع، يوزع ابتساماتٍ مقتضبةٍ، يتحرّكُ في المكان كأنه نصفه هنا، ونصفه الآخر في مكانٍ سريٍّ لا تطاله أعين أي ممن هم حوله.
كلما همد الزحام، عاد السكونُ يتسلّل إلى ملامحه.
وفي كل سكون، كانت تزداد ملامح حلمه الغامض وضوحًا:
همسات منى، خطواتها, ما لون عينيها, إنه لا يعرف لونهما بعد.
عند الثامنة, وقف عند الباب، يُغلق الدكّان, يده على القفل، لكن عينه لا تزال مشرّعةً على المساء, شعر بأن قلبه صار خفيفًا، هشًا، مثل قميصٍ معلقٍ على حبلٍ تحرّكه نسمة.
ولم يكن يعرف تمامًا” :أكان هذا بداية الحب؟ أم مجرّد ولادة الحنين؟”
أغلق الباب أخيرًا, ومشى ببطءٍ، كأنّه يمشي نحو مصيرٍ لا يرى ملامحه، لكنه يشعر به يقترب بخطواتٍ واثقةٍ بين العتمةِ والضوء.
– الفصلُ العاشر حديثٌ تنفردُ له الأمُّ فقط 12
________________________________________
عاد نُعمانُ إلى البيتِ مع موعدِ اجتماعِ الأسرةِ حول مائدةِ العشاءِ.
كانت خُطاه أبطأَ من العادةِ، كأنَّ كلَّ خطوةٍ تجرُّ خلفها ذيولَ فكرةٍ تأبى أن تكتمل.
فتح بابَ البيتِ بهدوءٍ، وتسلّل كما يتسلّل العطرُ الخفيفُ في نسيمِ المساءِ.
في المطبخِ، كانت أُمُّه تُجهِّزُ العشاءَ، وعيناها ترمقان الداخلَ عبرَ النافذةِ الخشبيةِ. بين يديها أوعيةٌ تفردها برفقٍ فوق الطاولةِ التي تحلّق حولها أبناؤها بصبرٍ جائع.
رفعت رأسها حين شعرت به، وابتسمت له ابتسامةً صغيرةً، دافئةً، كمن يعرف دون أن يُقال شيءٌ.
ابتسمَ هو الآخر، لكنّه ظلَّ واقفًا مكانه لحظةً، كأنَّه ينقّبُ في صدره عن الكلماتِ المناسبةِ.
ثم دنا منها، وساعدها على إتمامِ إعدادِ العشاءِ لإخوته، قبل أن يأخذ يدَها برفقٍ إلى غرفةِ المعيشةِ.
أجلسها على كرسيِّها الخشبيِّ المعتادِ، وجلس هو أرضًا عند قدميها.
أسند رأسه إلى جانب ركبتيها، كما كان يفعل صبيًّا صغيرًا.
أطلق تنهيدةً طويلةً، لم تكن تنهيدةَ تعبٍ، بل كأنَّه يفرغ صدره مما امتلأ به طوال النهارِ.
قال هامسًا، بصوتٍ مختنقٍ بنعومةٍ:
” أمِّي…”
لم تُجبه، بل وضعت يدها فوق شعره بحنوٍّ عميقٍ، ففهم من لمستها أنَّها تقول: “أنا هنا، من أجلك.”
أغمض عينيه، وبدأ يحدّثها، كأنَّه يحكي لنفسه أكثر مما يحكي لها:
” اليوم… كان غريبًا…”
ثم تابع بصوتٍ منخفضٍ:
” لا أدري… شعرتُ كأنَّ الدنيا تغيَّرت فجأةً…
المحلُّ هو المحلُّ، الأقمشةُ هي الأقمشةُ، والناسُ هم الناسُ… لكنني أنا… لستُ أنا.”
صمت قليلًا.
وأمُّه ظلَّت تمرّر يدها فوق رأسه بحركاتٍ بطيئةٍ، كأنَّها تمشّط روحه، لا شعره. ثم قالت:
” “التغيّرُ يا بنيّ، سنةُ الحياة… لكن قل لي، ما الذي يحزنك؟ ما الذي يخيفك؟”
استطرد بنبرةٍ حالمةٍ:
” كلُّ شيءٍ حولي صار… ربما أحلى.
في الصباحِ، عندما فتحتُ باب المتجرِ، شعرتُ كأنني أدخلُ إلى عالمٍ آخر.
كأنَّ شيئًا في داخلي كان ينتظرني… لم يكن واضحًا… لكنه كان موجودًا…”
ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ خجولةٌ، طفوليةٌ، ثم أكمل:
” حتى الأقمشة… كنتُ ألمسها كأنني ألمس حلمًا…”
رفعت أمه يدها إلى خدّه، تتحسّس حرارة الكلمات الخارجة من قلبه.
نظر إليها، فوجد في عينيها ذلك اللمعانَ العتيقَ، الذي لا يراه إلا حين ينجح، أو يحزن، أو يحلم.
قال لها بصوت منخفض، يكاد يكون سرًّا:
” أمي أشعر … كأني على أبواب شيء كبير.
كأنه… مشروع حياة مختلفة… أو حلم قريباً سيتحقق… لا أدري…”
ضحكت أمه بهدوءٍ، ضحكةً فيها حنان وأمل وخوف خفيّ.
ثم همست له، ومسحة حنان في صوتها:
“الحلم… يا نعمان… يأتيك عندما يكون قلبك جاهزاً لاستقباله … وأنت اليوم… قلبك مفتح متل زهرة, لكن عليك أن تسأله … هل قلبك جاهز لاستقباله.”
ظل ساكنًا مكانه، رأسه إلى جانبها، يسمع دقات قلبها المطمئنة الهادئة، كأنها موسيقى لليل طويلٍ دافئ. وغفى، دون أن يدري، إذا ما استمرت أمه مواصلة تمشيط شعره بأصابعها، أو إذا ما كانت تتابع حديثها, لكن قلبها كان يدعو له بصمتٍ لا يعلمه إلا الله.
مرّت يدُ أمه على خده مرور النسيمِ على وجه الحقلِ عند الغروبِ.
همست، كأنها تخاطب قلبه لا أذنه:
” إذا شعرتَ أن شيئًا ما يتغيّرُ فيك… فذلك لأنّ الله يهيّئك لما هو أجمل.”
لم يفتح عينيه، بل ازداد التصاقًا بركبتيها، كأنما يتشبث بجذور الطمأنينةِ قبل أن تعصف به رياحُ المجهولِ.
وظل ساكنًا، يسمع صدى كلماتها يتردّد في قلبه، حتى خيّل إليه أن أنفاسه نفسها بدأت تتلو حروفها مع كل شهيقٍ وزفيرٍ.
مرت لحظاتٌ لا يُقاسُ وزنها بالزمنِ، بل بثقل المشاعرِ التي ظلّت معلّقةً بين القلبين.
ثم، بهدوءٍ الطفولةِ التي لم يغادرها بعد، رفع رأسه، وقبّل يدها قبلةً طويلةً صامتةً.
ابتسمت له ابتسامةً أكبرَ هذه المرة، وقالت بصوتٍ بالكاد يُسمع:
” اذهبْ، ولا تخفْ. الحلمُ لا يُطرقُ بابه مرتين.”
نهض نُعمانُ كأنما قامَ من صلاةٍ، وعيناه لا تزالان تلمعان بشيءٍ بين الدمعِ والضياءِ.
ودون أن ينطق بكلمةٍ، اتجه إلى غرفتهِ، حيث ألقى جسده فوق سريرهِ، وأغمض عينيه.
لم يكن النومُ بعيدًا عنه تلك الليلة، ولا كانت الأحلام.
رآى نفسَه، في نومه، واقفًا على عتبةِ بابٍ عظيمٍ من نورٍ، تتطاير حوله قطعٌ صغيرةٌ من قماشٍ ملوّنٍ، كأنها فراشاتٌ ترقصُ في مهرجانٍ سرّيٍّ أُقيمَ لأجله وحده.
ومع كل خطوةٍ يخطوها نحو الباب، كان يسمع صدى أمه يهمسُ في قلبه:
” اذهبْ، ولا تخفْ…”
بعد صلاة الفجر, أسند نعمان رأسه إلى جانب ركبتي أمّه، لكن شيئًا من خفّة الطفولة لم يكن في هذه الحركة هذه المرة.
شعرت الأم، وهي تمرر يدها على شعره، أن بين خصلاته حزنًا لم تعرفه من قبل.
توجّست في قلبها، كما تتوجّس الأم إذا ما رأت ظلّ غيمةٍ صغيرةٍ تعبر وجه ابنها.
همسَ، صوته مشوبٌ بتردّدٍ خفيفٍ:
” أمّي… أريد أن أحدثكِ عن شيءٍ…”
شدّت على رأسه براحتها برفق، وكأنها تقول له: “تكلّم… ما هذا الشيء الذي يشغلك منذ مساء الأمس؟.”
أغمض نعمان عينيه قليلًا قبل أن يبدأ:
” يوم الجمعة… ذهبت مع منى و والدها إلى مطعمٍ صغيرٍ على ضفاف بردى. لم يكن شيئًا مخططًا له من قبلي، فقط جلسنا هناك نتناول الطعام ونتحدث…”
توقف لحظةً، كأنه يسترجع المشهد.
” كانت المرة الأولى التي أراها فيها بلا وهج الخيال الذي سبق لي أن رأيتها عليه … رأيتها كما هي. ليست تلك الفتاة الظالمة فقط… بل إنسانةٌ حقيقية، لها قلقها، وأحلامها التي تعبت في بنائها، وخوفها الذي يشبه خوفي.”
تقلّب قلب الأم بين الفرح والخوف؛ فرحٌ لأن ابنها يحيا لحظةً صادقةً، وخوفٌ من أن تصيبه خيبةٌ لا تداويها الكلمات.
تابع نعمان، صوته يهبط ويعلو كأنما يسير فوق جسرٍ معلق بين الرجاء والخذلان:
” كنا نسمع خرير الماء، وأصوات الناس تتلاشى من حولنا… كأن العالم كله ضاق حتى صار مجرد نظرة بيننا. تحدّثنا عن كل شيء: عن الأحلام التي نحملها، عن هواياتنا التي اكتشفنا أن لكلينا نفسها، عن الرغبة بأن نصنع لنا مكانًا ضمن هذه الهوايات، صغيرًا فقط، لكنه يكون لنا وحدنا.”
لم تقل الأم شيئًا، لكنها شعرت بالدمعة تهدد طرف عينها، وخبأتها بأن زادت من ضغط يدها على رأسه، محاولةً أن تمنحه يقينًا لم تعد تملكه هي نفسها.
استمرّ، كأنه يحكي حلمًا، لكنه كان واقعيًّا حتى في رقّته:
” منى كانت مختلفة عما تخيّلتها أول مرة. ليست تلك الصورة الكاملة التي نسجها سلوكها معي أول لقاء … هي أجمل من ذلك في حقيقتها, لأنها هي الحقيقية. بسطت أمامي خوفها كما أبسط لكِ خوفي الآن… ومنحتني فرصة أن أكون أنا، دون تكلّف ولا حذر.”
أحسّت الأم أن يدها ترتجف قليلًا فوق شعره.
همست بصوتٍ بالكاد خرج من بين شفتيها:
” رفقًا بقلبك، يا ابني…”
رفع رأسه ونظر إليها نظرةً طويلةً ممتلئةً بعرفانٍ لا يحتاج إلى كلمات، وقال:
” أعرف، يا أمّي… لهذا أنا أعود إليكِ. هنا فقط… أجد قلبي حين أضيّعه.”
وضمّ رأسه إلى حجرها مرةً أخرى، بينما ظلّ خرير بردى بعيدًا يهمس بما لا يسمعه سواهما.
تنهد تنهيدةً طويلةً، ثم قال:
” منى… ، إنها، شيئٌ جديدٌ في عيني… صحيح أنني أدركت إنها إنسانة من لحمٍ ودم، وليست ظلمًا هابطًا من الخارج.”
تأملته الأم بعينين فيهما قلقٌ دفينٌ، وقالت:
” وهل في هذا ما يُحزنك؟ أن ترى الحقيقة بعين القلب؟”
هزّ رأسه ببطءٍ، ثم رفع عينيه إليها وقال:
” الحقيقة أحيانًا، يا أمّي، ثقيلة… عندما تحدّثنا بم نتحدث طويلاً، لكن والدها كشف لي عن همومها، عن حلمها بأن تدرس الطب بعد أن حصلت نتائج الثانوية, لكنها تركت المدرسة ولم يبق لديها ثقة بأحد بعد وفاة والدتها وأخيها… تحدث عن خوفها من الفشل… عن وحشة الطريق الطويل أمامها دون أمها.”
تغيّرت نظرة الأم، وانسحب ظلّ حنانها إلى عمق قلبها، فقالت بحذر:
” وهل تخشى أن تحمل قلبها فوق قلبك، فلا تقوى على المسير؟”
ابتسم نعمان ابتسامةً باهتةً، وأجاب:
” أخشى أن أغرق قبل أن أتعلم السباحة… وأخشى أن أضيّعها، أو أن أضيّع نفسي.”
سكت لحظةً، ثم قال كمن يزيح سِتْرَ قصةٍ طويلةٍ:
” تعرفين يا أمّي… حكى لي أبو حسن صاحب المتجر المجاور لنا قصةً قبل أيام. قال إن الرياح لا تسبقها عاصفةٌ عظيمةٌ إلا إذا كانت تحمل أمراً جللاً.”
“حكى عن شابٍ تعلّق بفتاةٍ ظنها ملاكًا، حتى إذا اقترب منها عرف أنها كانت تجرُّ وراءها أحمالًا من ألمٍ ومعاناة لا يستطيع تحمله معها. لم يتركها، لكنه أضاع نفسه وهو يحاول أن يكون لها الأرض والسماء معًا.”
ارتجف قلب الأم، فمررت يدها فوق رأسه مراتٍ بطيئة، محاولةً أن تهدّئ نذير القلق الذي بدأ يلسعها.
قالت له، بنبرةٍ تحمل الحنو والخوف معًا:
” يا ابني… هل تخاف من الحب؟ أم تهرب من الحقيقة؟… لكن في كلتي الحالتين اعرف، أن القلبَ الطيب إذا حمل أكثر مما يطيق، انكسر.”
نظر إليها طويلًا، كأنما يغترف من كلامها زادًا لطريقٍ لم تكتمل معالمه بعد، ثم قال:
” لهذا أفردتُ هذا الصباح لك… لأطمئن أني لا أمشي وحدي في هذا الطريق.”
ابتسمت الأم، ابتسامةً شابها الدمع، وقالت:
” لن أدعك وحدك، ما دام لي قلبٌ ينبض.”
ثم احتضنته بذراعيها، وهو يسند رأسه إلى صدرها، كما لو أنه يعود إلى الطمأنينة الأولى، حيث لا عاصفة، ولا ريح، ولا خوف.
الفصلُ الحادي عشر – مستقبل جديد 13
________________________________________
مضى نُعمانُ في حياتِه بهُدوءٍ رتيبٍ، لا يكادُ يُقلقُ صفوَه شيءٌ، بعد أن أزاحَ عن كاهِلِه هَمَّ التفكيرِ فيما قد يُسبِّبُ له أو لعائلتِه ألمًا، أو يُنغِّصُ عليه حياتَه.
وبعد يومين، اقتربَ من مُعلِّمِه مُستأذنًا:
«مُعلِّمي، أودُّ أن أُراجِعَ الجامعةَ لتسجيلِ اسمي، أو ربّما أبحثُ عن معهدٍ يُناسبُ علاماتي».
هزَّ المُعلِّمُ رأسَه مُوافقًا بابتسامةٍ مُشجِّعةٍ، فانطلقَ نُعمانُ برفقةِ زميلِه الخلوقِ، رفيقِ دربِه في الدراسةِ خِلالَ الأعوامَ الفائتة، نحوَ مبنى جامعةِ دمشقَ القديم.
هناك، وقفا أمامَ مكتبِ شؤونِ الطلابِ، ينتظرانِ دورَهما بصبرِ الشبابِ وحماسِ الآمالِ الوليدة.
حصل الاثنانِ على شروطِ القبولِ والتسجيلِ، ثم ودَّع نُعمانُ رفيقَه عند بوابةِ الجامعة، وانطلقَ عائدًا إلى «الحريقة»، يقطعُ الشارعَ المُزدحمَ بالسياراتِ بخفَّةٍ، غافلًا عن صوتٍ يناديه من إحدى المركباتِ العابرة.
وصلَ المتجرَ لاهثًا، ليجدَ الحاجَّ أبا محمودٍ يستقبلُه عند البابِ بابتسامةٍ ودودةٍ، قائلًا:
«ها قد عدتَ، يا بُنيَّ! لقد جاءَ السيِّدُ أحمدُ وابنتُه لوداعِنا، فهم مسافرونَ غدًا صباحًا… سأتركُكما الآن لألحقَ بصلاةِ الجماعة».
تركهما الحاجُّ ومضى مُسرعًا، بينما ظلَّ نُعمانُ واقفًا مُتردِّدًا، مُتلعثمًا في حضرةِ السيِّدِ أحمدَ، الذي قال له بنبرةٍ دافئةٍ:
«أردنا فقط أن نودِّعَك. لقد رأيناكَ تعبرُ الشارعَ، وناديناكَ، لكنكَ لم تلتفِت. حاولنا أن نحضُرَكَ معنا كي لا تتعبَ في هذا الحرِّ… نعلمُ أنك لا تحملُ لنا إلا كلَّ خيرٍ، ونرجو أن تذكرَنا بصورةٍ طيبةٍ لعلَّ الأيامَ تجمعُنا مرةً أخرى».
اختارَ السيِّدُ أحمدُ كلماتِه بعنايةٍ، ورافقها بابتسامةٍ رقيقةٍ طمأنت قلبَ نُعمان، الذي أجاب وهو يتلعثمُ:
«عذرًا، يا سيِّدي! لم أنتبهْ لصوتِكم، وأُقسمُ أنني لا أكنُّ لكم إلا كلَّ مودَّةٍ وخيرٍ. أشكُرُكم على لطفِكم… وأدعو اللهَ أن تبلُغوا بلدَكم وأهلكم وتصلوا بالسلامةِ والسعادةِ».
وغادرا …… مرَّت الأيامُ، واستقرَّ الروتينُ مُجددًا.
وفي ظُهيرةِ يومٍ صيفي حارٍ، وقبيلَ موعد إغلاقِ المتاجرِ لفترة الظهيرة بقليل، توقفت سيارةٌ أنيقةٌ أمام باب المتجر للحظات. ولأن ازدحام السيارات خلفه كان شديداً فلم ترجلَ منها السيِّدُ أحمدُ، ولكنه شرع يبحثُ بعينيه عن نعمان, ولما لم يجده نادى حمّالاً كان قد رآه من قبل. وسلّمه ورقةً صغيرةً مع بقشيشٍ كريمٍ، طالبًا منه أن يُسلِّمَها إلى نُعمان.
” أعتذر منك! فلم أجد مكانًا قريبًا يسمح لي بركنِ السيارة والنزول, ستجدني بعد قليل أنتظرك عند مدخل الحريقة. مع تحياتي م. أحمد”.
وصلت الرسالةُ إلى نُعمانَ، قرأها بسرعةٍ، ثم اتجه إلى علِّيةِ المتجرِ، حيث كان مُعلِّمُه يستعد لتناولُ غداءَه، قائلًا:
« مُعلِّمي، إنها الثانيةُ الآن، سأغلقُ المتجرَ من الخارجِ، وسأغادر لبعضِ الوقتِ، عندي أمرٌ عاجلٌ».
أجابه المُعلِّمُ بموافقةٍ مُتفهمةٍ، فودَّعه نُعمانُ وغادرَ، حيث كان السيِّدُ أحمدُ ينتظرُه.
في السيارةِ، دار بينهما حديثٌ قصيرٌ، ثم انطلقا نحوَ مطعمٍ قريبٍ. وبين لقيماتِ الطعامِ السريعةِ، طلبَ السيِّدُ أحمدُ من نُعمانَ مساعدةً جديدةً:
« هل يمكنكَ أن تبحثَ لي عن شقةٍ مفروشةٍ للإيجار، هنا في دمشق؟ سأمكثُ بعضَ الوقتِ، فقد مللتُ من الإقامةِ في الفنادق».
لم يُفسِّر السيِّدُ أحمدُ الأسبابَ، واكتفى بنظرةٍ غامضةٍ.
توجه نُعمانُ نحو مكتب صاحب المطعم, وطلب منه بلطفٍ أن يجري اتصالاً, واتصل بأحدِ معارفِه، فدلَّه على قريبٍ له يملكُ مكتبًا عقاريًّا.
بعد الغداءِ، توجَّها معًا إلى المكتبِ، حيث استقبلهما صاحبُ المكتبِ بودٍّ ظاهرٍ.
رافقهما إلى شقةٍ قريبةٍ من منطقة الحريقة (بناءً على طلبِ السيِّدِ أحمدَ)، فأعجبت السيِّدَ أحمدَ بموقعِها ومساحتها، واتفقا على العودةِ مساءً لإتمامِ العقدِ مع صاحبِ الشّقةِ.
عاد نُعمانُ إلى متجرِه، فيما بقي السيِّدُ أحمدُ يُديرُ حوارًا مع صاحبِ المكتبِ العقاري.
وعند المساءِ، حضر السيِّدُ أحمدُ إلى المتجرِ مجددًا، وأوضح للحاجِّ أبي محمودٍ ما يحتاجه:
« سأُغادرُ إلى بيروتَ الليلةَ، وأحتاجُ إلى من يستلمُ العقدَ ويدفعُ الإيجارَ مُقدمًا لستةِ أشهرٍ».
سلَّم السيِّدُ أحمدُ نعمانَ مبلغًا كبيرًا من المالِ، بحضورِ الحاجِّ أبي محمودٍ، ثم غادرَ عائدًا إلى لبنانَ.
عند الإغلاقِ، رافق الحاجُّ أبو محمودٍ عامِلَه إلى المكتبِ العقاري، حيث أنجزا المهمةَ بدقةٍ وأمانةٍ، ثم تابعا إلى موقفِ الباصِ مُطمئنين.
في اليوم التالي، حضر السيِّدُ أحمدُ لاستلامِ نسختهِ من العقدِ ومفاتيحِ الشقةِ، فقدمها له نُعمانُ بكلِّ أمانةٍ، وسط كلماتِ شكرٍ دافئةٍ.
وفي عصرِ اليومِ نفسه، عاد السيِّدُ أحمدُ بدعوةٍ لطيفةٍ:
«أتشرفُ بدعوتكما لعشاءٍ خفيفٍ في شقتي الجديدة».
اعتذرَ الحاجُّ أبو محمودٍ بسببِ التزاماتِه، وكاد نُعمانُ يعتذرُ كذلك، لولا إصرارُ السيِّدِ أحمدَ ولُطفُه.
وافق الاثنانِ أخيرًا، ورافقاه بعد الإغلاقِ.
استقبلَهما السيِّدُ أحمدُ بحفاوةٍ، وقدَّم لكلٍّ منهما هديةً صغيرةً جلبها من بيروتَ، مع ضيافةٍ من الكاتو الطازجِ وعصيرِ البرتقالِ الباردِ.
كانت زيارةً قصيرةً ولكن دافئةً، تبادلوا خلالها أحاديثَ خفيفةً. وعند المغادرةِ، أصرَّ السيِّدُ أحمدُ أن يُقلّهما بسيارتهِ.
وعلى الطريقِ، دار حديثٌ لطيفٌ مع الحاجِّ أبي محمودٍ، تمحور أكثره حول نُعمانَ وأمانتِه وروحهِ الطيبةِ.
عند منزلِ الحاجِّ أبي محمودٍ، ترجَّل السيِّدُ أحمدُ ليودِّعَه بحرارةٍ، ثم أصرَّ أن يُوصِلَ نُعمانَ حتى بابِ بيتِه.
هناك، ودَّعَه بابتسامةٍ عريضةٍ، وعاد أدراجَه مسرورًا، يحملُ في قلبِه امتنانًا خالصًا لذلك الفتى الطيبِ.
في صَباحِ اليومِ التالي، توجَّه نُعمانُ إلى مُعلِّمِهِ، يَطلُبُ إذنَهُ بالانصرافِ مُؤقَّتًا، إذ كان عليهِ مُراجعةُ الجامِعةِ لتقديمِ أوراقِ تسجيلِهِ، فَقَد عَقَدَ النِّيَةَ عَلَى أَنْ يَتقدَّمَ للالتحاقِ بكليَّةِ الفنونِ الجميلةِ، مُتطلِّعًا لدراسةِ اختصاصِ هندسةِ الديكورِ لأربعِ سنواتٍ القادمةٍ.
باركَ لهُ مُعلِّمُهُ هذهِ الخُطوةَ، وأعطاهُ الإذنَ بكلِّ سرورٍ.
مضى نُعمانُ بخُطًى حثيثةٍ نحو مبنًى الكليَّةِ، وقدَّم أوراقَهُ، وعادَ حاملًا موعدًا لمُقابلةٍ شخصيَّةٍ، يتبعُها اختبارٌ كتابيٌّ، وفنِّيٌّ، وعمليٌّ، سيُحدِّدُ مصيرَهُ الأكاديميَّ, كان الموعد بعدَ شهرٍ كاملٍ من الآن.
عادَ مُسرعًا إلى المتجرِ، فوجدَ معلمه يتحدث مع أحد الزبائن عند باب المتجر وكأنه, كان ينتظر عودته بفارغ الصبر, ليذهب إلى المسجد لأداء الصلاة, بينما كان السيِّدَ أحمدَ ينتظرُهُ في اَلّداخلِ.
استقبلَهُ الحاجُّ أبو محمودٍ عِندَ اَلبَابِ وَنقلَ إليهِ رِسَالَةً سَرِيعَةً من السَّيِّد أَحمَد قَائِلاً له بِصَوتٍ أَقرَبَ إِلَى اَلهَمسِ:
” الَّسيِّدُ أحمدُ فِي اَلدَاخِلِ يَنتَظِرُكَ, يَرغَبُ بَمرافَقَتِكَ لَهُ بَعدَ الإِغلَاقِ، مَا رَأيُكَ؟”.
فكَّرَ نُعمانُ لحظاتٍ وجيزةً، بَينَمَا يُغَادِرُ اَلمُعَلِّمُ اَلمَتجَرَ يَدخُلُ نُعمَانَ وَيَتَوَجَّهُ حَيثُ يَجلِسُ اَلرَجُلُ فَيَقُولُ بِلُطفٍ بَعدَ أَن يُلقِى اَلتَّحِيَّةَ:
” سَأَذهَبُ إلَيكَ لَألتَقِيكَ فِي شُقَّتِكَ بَعدَ مَوعِدِ اَلإِغلَاقِ… فَلَدَيَّ اَلآنَ بَعضُ اَلأَعمَالِ، عليَّ إِنجَازُهَا أوَّلًاً, وَلَكِن أَستَمِيحُكَ اَلعُذرَ فَرُبَمَا أَخَذَ اِنجَازُهَا مِنِّي وَقتَاً قَد يَمتَدُّ إِلَى أَبعَدَ مِن مَوعِدِ اَلإِغلَاقِ.”
ابتسمَ السيِّدُ أحمدُ وقالَ:
” سأنتظرُكَ أمامَ المتجرِ إذاّ، لَكِن مِن َفضلِكَ! لَا تَتَأَخَّرْ عَلَيَّ.”
ودّعَهُ وغادرَ بخطواتٍ واثقةٍ.
أسرعَ نُعمانُ يقضي شؤونَهُ، وقد امتدَّ بهِ الوقتُ أكثرَ ممَّا توقَّعَ، ورغمَ أنَّهُ أخبرَ السيِّدَ أحمدَ مُسبقًا بتأخُّرِهِ، ظلَّ الرجلُ ينتظرُهُ بصبرٍ أمامَ المتجرِ, حتَّى بَعدَ أَن أُغلِقَ اَلمَتجَرُ بابَهُ, بَل بَقِيَ مُنتَظِرَاً حَتَّى خَرَجَ مِنهُ نُعمَانُ.
وبعدَ نحوِ ساعةٍ، خرجَ نُعمانُ وأغلقَ المتجرَ خلفَهُ، والتحق بالسيِّدِ أَحمَد اَلذِي انطَلَقَ بسيَّارتِهِ، مُتوجِّهاً نحوَ المكتبِ العقاريّ.
دخلَ السيِّدُ أحمدُ، بينما بقيَ نُعمانُ عندَ البابِ يُدخِّنُ سيجارةً، وقد بدت عليهِ علاماتُ الحيرةِ دونَ أن ينبسَ بكلمةٍ.
دخلَ السيِّدُ أحمدُ المكتبَ، وقالَ لصاحبه بهدوءٍ بعد أن ألقى التحيةَ:
” أعتذرُ منكَ سَلَفًا!”
قالها السيِّدُ أحمد بنبرةٍ حاول أن يُخفي فيها الإحراج، ثم تابع:
” فالشقَّةُ التي استأجرتُها لم تُرضِ ابنتي… إنَّها تُفَضِّل شقَّةً أوسع، وفي منطقةٍ أرقى نِسْبِيًّا.”
تناول صاحبُ المكتبِ سمّاعةَ الهاتفِ وأجرى عدَّةَ اتصالاتٍ سريعة، بينما كان السيِّدُ أحمدُ قد خطا نحوَ حيثُ يقفُ نُعمان، وسأله بلطفٍ فيهِ عِتابٌ:
” لِمَ لَمْ تدخلْ معي؟”
أجابه نُعمانُ بهدوءٍ لا يخلو من المسافة:
” وما أدراني بحاجتِكَ؟ لم تُخبرني بشيءٍ، ولا أعرفُ أصلًا ما سببُ وجودي معكَ هنا؟”
في تلك الأثناء، أنهى صاحبُ المكتبِ مكالماته، ثم أشار إلى السيِّدِ أحمدَ ليدنو منه، وقال:
” الشُّقَقُ المفروشةُ في مناطقَ أرقى إمّا غاليةٌ جدًّا، أو غيرُ متوفّرةٍ حاليًّا.”
هزَّ السيِّدُ أحمد رأسَه متفهِّمًا، وقال:
” لا مشكلةَ لديّ في قيمةِ الأُجرةِ إنْ وجدتُ ما يُناسبُ ابنتي، لكن… متى يُمكنني أن أعثرَ على ما أُريد؟ أو… هل تعرفُ أحدًا يُمكنهُ مساعدتي؟”
ثم التفتَ إلى نُعمان، وناداهُ بلهجةٍ أقربَ إلى الرجاء منها إلى الأمر. اقتربَ نُعمان، وسأله:
” ما المدّةُ التي تُفكِّرُ في استئجارِ الشقّةِ خلالها؟”
أجاب السيِّد أحمد:
” لا مُدّةَ مُحَدَّدة… أنا مُستعدٌّ لدفعِ أيِّ مبلغٍ، ما دامتِ الشقّةُ سَتُرضي ابنتي.”
التفتَ نُعمانُ إلى صاحبِ المكتب، وسأله عما إذا كان لديه شقة بنفس المواصفات التي طلبها السيد أحمد للبيع, فأجاب:
” كلُّ ما يَطَلُبُهُ السيِّدُ متوفِّرٌ… إذا أراد الشراء. فهناكَ ثلاثُ شُقَقٍ جديدةٍ في بناءٍ واحدٍ، بموقعٍ راقٍ جدًّا، قريبٍ من المزَّة، وأعمالُ التَّشطيبِ انتهتْ حديثًا..”
ثم أضافَ:
” أوراقُ الملكيَّةِ جاهزةٌ للفراغ، لكنَّها معروضةٌ للبيعِ فقط، لا للإيجار..”
سألَ السيِّدُ أحمدُ عن السِّعرِ التقريبيِّ، فأجابهُ الرجلُ:
“السِّعرُ لا يتجاوزُ خمسةَ عشرَ ألفَ ليرةٍ سوريَّةٍ للمترِ الواحدِ.”
فطلبَ السيِّدُ أحمدُ تحديدَ موعدٍ لرؤيةِ الشُّققِ.
وبعدَ اتصالاتٍ قصيرةٍ، تقرَّرَ أن يكونَ الموعدُ بعد صلاةِ الجُمعةِ، أَي في اليومِ التالي مباشرةً.
دوَّنَ السيِّدُ أحمدُ رقمَ هاتفِ المتجرِ حيثُ يعملُ نُعمانُ وأَعطَاهُ لِصَاحِبِ المَكتَبِ، تحسُّبًا لأيِّ طارئٍ.
وفي طريقِ العودةِ، طلبَ نُعمانُ بتواضعٍ:
” هل لكَ أن تتوقَّفَ قليلًا عندَ البحصةِ؟ أُريدُ شراءَ بعضِ الطعامِ.”
وقفَ السيِّدُ أحمدُ قربَ أشهرِ محلٍّ للفلافلِ، كما أشار له ونزلَ نُعمانُ وعادَ سريعًا بثلاثِ لفافاتٍ كبيرةٍ وثلاثِ زجاجاتٍ لبنِ عيران.
ناولَ السيِّدُ أحمدَ لفافتينِ وزجاجتينِ، واحتفظَ لنفسِهِ بالباقي، مُبتسمًا وهو يقولُ:
” هذا غداؤُنا اليومَ… وأتمنَّى أن تذوقَهُ منى أيضًا.”
ثم ودَّعهُ بلُطفٍ، راجيًا أن ينقلَ سلامَهُ وتحياتِهِ إلى مُنى.
كانت هذهِ المرَّةُ الأولى التي يذكرُ فيها اسمَها دونَ لقبِ “الآنسةِ”، والأولى التي يختارُ لها شيئًا بيدِهِ، رغمَ أنَّهُ لم يلتقِ بها بعدَ عودتِها من لبنانَ.
تساءلَ في نفسِهِ:
” ترى، هل ستقبلُ تذوُّقَ هذا الطعامِ البسيطِ الذي اخترتُهُ لها؟
وهل سأتلقَّى منها، عبرَ والدِها، كلمةَ شكرٍ صغيرةً؟”
عادَ نُعمانُ إلى عملِهِ، وغاصَ، كعادتِهِ، بين صفحاتِ كتابٍ كان يصطحبُهُ معهُ دومًا.
رآهُ مُعلِّمُهُ، فسألهُ:
” ماذا تقرأُ هذهِ المرَّةَ؟”
أجابَ نُعمانُ بهدوءٍ:
” هي روايةٌ عالميَّةٌ مُترجمةٌ إلى العربيَّةِ.”
” وما مضمونُها؟”
” هي تحكي قصَّةَ صراعِ الإنسانِ مع ذاتِهِ، وزمنُها زمنُ الحربِ العالميَّةِ الثانيةِ، تدورُ أحداثُها في قريةٍ أوروبية صغيرةٍ، وأبطالُها أُناسٌ بُسطاءُ، ولكنَّ الكاتب حَمَّلَ أحداثها أعماقًا كبيرةً.”
ابتسمَ المُعلِّمُ وسألهُ:
” ولماذا تختارُ الرواياتِ الأجنبيَّةَ، ولا تقرأُ من أدبِنا المحليِّ؟”
ردَّ نُعمانُ بثقةٍ:
” لقد قرأتُ كثيرًا من المؤلَّفاتِ العربيَّةِ، وأستطيعُ أن أُلخَصَها لكَ، إن رغبتَ، في أوقاتِ فراغِنا.”
سألهُ المُعلِّمُ مجدَّدًا:
” وهل تُطالعُ غيرَ الرواياتِ؟”
” جرَّبتُ بعضَ الكتُبِ العلميَّةِ، لكنِّي وجدتُ فيها صعوبةً بعضَ الشيءِ… أُفضِّلُ ما هو مناسبٌ لقدراتي العلميَّةِ واستيعابي.”
أعجبَ المُعلِّمُ بحماسِهِ وفضولِهِ، وقالَ ممازحًا:
” أخجلُ أن أقولَ إنَّكَ أكثرُ ثقافةً منِّي!”
ثم استدركَ مُبرِّرًا:
” أنا أتلو كلَّ يومٍ جزءًا من المصحفِ الشريفِ، خاصَّةً بعد أن أهداني السيِّدُ أحمدُ نسخةً جميلةً بخطٍّ واضحٍ، لا أحتاجُ معهُ إلى نظَّارتي المُزعجةِ.”
وبمناسبةِ ذِكرِ الهدايا، سألهُ المُعلِّمُ:
” وأنتَ، ما الهديَّةُ التي تلقيتَها من السيِّدِ أحمدَ؟”
ابتسمَ نُعمانُ ابتسامةً خفيفةً وقالَ:
” لم أفتحْها بعدُ… تركتُها في دُرجِ الخزانةِ، ربَّما أضطرُّ لإعادتها لهُ يومًا ما.”
الفصلُ الثاني عشر غريبٌ يَسأَلُ عَن نُعمَانَ
14
________________________________________
وفي صباحِ يومِ الجُمُعةِ، كان نعمان يرتدي ملابسه ويستعد للخروج بعد أن استأذن من والدته حين جاءَ أحدُ أبناءِ عمِّه يركضُ نحوهُ قائلًا:
” هناكَ رجلٌ عندَ البابِ يسألُ عنكَ!”
أسرعَ نُعمانُ إلى البابِ، ليجدَ عمَّهُ يُغلق البابَ خلفهُ قائلًا ببرودٍ:
” لا أحدَ هناكَ.”
تساءلَ نُعمانُ:
” ولكن ابنُكَ قال إنَّ أحدًا ينتظرُني!”
” لقد ذهبَ الرجلُ، نحن لا نعرفُهُ!”
شعرَ نُعمانُ بالغيظِ، لكنَّهُ ضبطَ نفسَهُ، وقالَ بأدبٍ:
” ولكنَّهُ كانَ يسألُ عنِّي، وكانَ قد حضرَ ليصطحبني معهُ؛ لأني كنتُ قد وعدتُهُ أني سأكونُ في انتظارهِ الآن! من فضلكَ يا عمِّي! لماذا لم تسألْني قبل أن تتصرَّفَ بهذا الشكلِ؟”
في تلكَ اللحظةِ، ارتسمَ الغضبُ على ملامحِ عمِّ نُعمانَ، وقالَ بصوتٍ حادٍّ متوتِّرٍ:
” انتبهْ لنفسكَ ولسلوككَ، يا نُعمانُ! أنتَ تنتمي إلى بيتٍ محترمٍ، ونحنُ عائلةٌ معروفةٌ بأخلاقِها وعِفَّتِها. لا يجوزُ أن يدخلَ غرباءٌ كَهَؤُلاءِ بُيُوتَنا هكذا! فَهَل يَعلمُ جدُّكَ أَو وَالدَاكَ شيئًا عن هذا الَّرجلِ؟! ثُمَّ ما الذي يَجمَعُ بَينَكَ وبَينَ مثل هؤُلاءِ؟! ولٍمَاذا نَسمَحُ لَهُ أَن يَصطَحِبَكَ مَعَهُ؟! لَم يَبقَ إِلَّا أَن يَدُوسَ عَتبةَ بَيتِنا أمثالُ هَذَا بِفَضلِكَ! أتُراكَ تُدركُ ماذا سيقولُ الجيرانُ؟! وَكَيفَ سَتُلطَّخُ سُمعَتَنَا بَالأَقَاوِيلِ التي مَا إِن تَبدَأَ فَلَن نَستَطِيعَ إِنهَاءَهَا؟! وَهَل تَعلَم إِلَى أَينَ سَتنتَهِي بِنَا تَصَرُّفَاتُكَ؟ ….. إلى الحضيضِ….. يا نُعمانُ! إلى الحضيضِ!”
صمتَ نُعمانُ، حينَ وجدَ عمَّهُ قد تجاوزَ منه الغضبُ حدَّا لا يَنتَهِي.
وفيما ارتفعتِ الأصواتُ، حضرَ الجدُّ مُستفسرًا، وعَينَاهُ تُراقُبانِ اَلمَشهَدَ بِحِدَّةٍ وَاِنفِعَالٍ.
سَألهُ بِنَبرَةٍ هَادِئَةٍ:
” ما الأمرُ، يا بُنَيَّ؟ ما الذي رفعَ صوتَكَ إلى هذا الحدِّ؟”
سارعَ العمُّ بالشكوى:
” رجلٌ غريبٌ، في مثلِ عُمري تقريبًا بل يَكبُرُنِي، يَرتَدِي ثِيَابًا أَنِيقَةً، وَيَركَبُ سَيَّارَةً فَخمَةً، وَلَهجَتُهُ تَختَلِفُ عَن لَهجَتِنَا! وَتُرَافِقُهُ فَتَاةٌ تَرتَدِي… أَستَغفِرُ اَللهَ اَلعَظِيمَ، جَاءَ يَسأَلُ عَن نُعمَانَ… يَقولُ إنَّهُ عَلى مَوعِدٍ مُهِمٍّ مَعَهُ! بِاللهِ عَلَيكَ، يَا أَبِي، هَل كُنتَ سَتَسمَحُ لِحَفِيدِكَ أن يُرَافِقَ مِثلَ هَذَا اَلغَرِيبِ؟!”
التفتَ الجدُّ إلى نُعمانَ بعينينِ تستجليانِ الحقيقةَ.
فقالَ نُعمانُ بهدوءٍ حزينٍ:
” لقد غادرَ الرجلُ، يا جدِّي، ولا جَدوى مِن الحَديثِ الآن…”
لَكِنَّ اَلجدَّ أَصَرَّ، فَأخَذَ حَفِيدَهُ إِلَى غُرفَتِهِ المُطعَّمةِ بالموزاييكِ وخيوطِ الفضَّةِ، سَكَبَ لَهُ كَأسًا مِنَ الشَّاي، وَدَعَاهُ قَائِلًا بِلُطفٍ:
” احكِ لي كلَّ شيءٍ، يا بُنَيَّ… لا تخشَ شيئًا.”
وبينما كانا يتحدثانِ، أطلتْ والدةُ نعمانَ على استحياءٍ، تُريد أن تأخذَ ابنها معها.
إلَّا أنَّ الجدَّ دعاهما معًا للجلوسِ وتناولِ الشاي.
اعتذرتِ الأمُّ بأسًى، قائلةً بصوتٍ خافتٍ لكنَّهُ حازمٌ:
” أرجوكَ، يا عمِّي! لا أُريدُ أن أتسبَّبَ بمشكلةٍ جديدةٍ مع ابنكَ. لقد صبرتُ كثيرًا، واحتملتُ من أجلِ زوجي واحترامًا لكَ… لكن حين يتعلَّقُ الأمرُ بابني، فلن أسكتَ! لو استمرَّ ابنُكَ في تدخُّلهِ في حياتِنا، فسأغادرُ البيتَ مع أسرتي، حتى لو اضطررتُ إلى استئجارِ غرفةٍ صغيرةٍ. وليعلم ابنُكَ هَذَا وَالجَمِيعُ أَن لَا طَمَعَ لَنَا فِي شَيءٍ مِمَّا يَملِكُهُ وَالِدُهُم!”
ابتسمَ الجدُّ ابتسامةً هادئةً وهو يقولُ:
” حسنًا، تعالي نشربُ الشايَ معًا، وأنا سأتفهَّمُ من نُعمانَ كل شَيئٍ بهدوءٍ.”
وجلسَ الجميعُ، وعكف نعمان يروي لجده, وما إن انتهى حتى دوَّى صوتُ زمورِ السيارةِ من الخارجِ.
قالَ نُعمانُ، وقد تجمَّدتِ الدموعُ في عينيهِ:
” ها هو قد عادَ يا جدِّي… يمكنكَ أن تسألَهُ بنفسِكَ!”
نهضَ الجدُّ، وطلبَ من الجميعِ البقاءَ داخلَ الغرفةِ.
وخرج ليستقبلَ الرجلَ، الذي دخلَ معه حيث يجلسون، وألقى السيد أحمد نظرةً سريعة داخلِ الغرفةِ ومقتنياتها. وبعد حديثٍ قصيرٍ، خاطب الجد حفيده نُعمان قائلاً:
” تعالَ، يا بُنَيَّ، هذا الرجلُ ضيفُنا… وأنتَ سترافقهُ بما تستطيعُ من مساعدةٍ.”
بروحٍ مطمئنةٍ، استأذنَ نُعمانُ والدتهُ وجدَّهُ، وخرجَ بصحبةِ السيِّدِ أحمدَ نحو مدينةِ دمشقَ.
في دمشقَ، التقيا بصاحبِ المكتبِ العقاريِّ، ثم قصدا مسجدًا قريبًا في حي المزة.
وبعد أن أدَّوا صلاةَ الجمعةِ، اجتمعوا عند بابِ المسجدِ، حيث كان صاحبُ البناءِ بانتظارِهم.
انطلقتِ السيارتان تتبعُ سيارة صاحبِ البناءِ، حتى وصلوا إلى شارعٍ فسيحٍ تصطفُّ على جانبيهِ الأشجارُ، وهناك، وقفوا أمام مبنى حديثِ البناءِ، تُحيط به حديقةٌ واسعةٌ خضراءُ.
فتح صاحبُ المبنى البابَ الرئيسيَّ، وقال:
” أيُّ طابقٍ ترغبونَ بمعاينتِهِ؟ الأرضيُّ، أم الأولُ، أم الثانيُ؟”
أجابَ السيِّدُ أحمدُ، بنبرةٍ مهنيَّةٍ رزينةٍ:
” نريدُ الاطلاعَ على كلِّ الخياراتِ، إن أمكنَ.”
لكنَّ صاحبَ المبنى أوضحَ بسرعةٍ:
” الشققُ جميعُها معروضةٌ للبيعِ فقط، (وليستْ للإيجارِ). انتهينا من تجهيزِها مؤخرًا، وأرغبُ ببيعِها لتمويلِ مشروعٍ جديدٍ.”
اقتربَ منه السيِّدُ أحمدُ، وقال:
” أنا مهندسٌ إنشائيٌّ، وقد يكونُ بيننا عملٌ مستقبليٌّ بعد شراءِ إحدى الشققِ.”
ثم فتحوا الشقةَ الأرضيَّةَ أولًا، وترك لهم المفاتيحَ لتفقدِ بقيةِ الشققِ بوجودِ صاحبِ المكتبِ، معتذرًا عن اضطرارهِ للرحيلِ لبعضِ الوقتِ.
همسَ نُعمانُ إلى السيِّدِ أحمدَ، وقد بدتْ عليهِ علاماتُ الحذرِ:
” ألا ترى أنَّ منى ينبغي أن تكونَ معنا لاختيارِ الشقةِ؟ ربَّما كان لها رأيٌ آخرُ…”
وافقهُ السيِّدُ أحمدُ الرأيَ، واستأذنَ صاحبَ المبنى للاتصالِ بابنتِهِ.
رافقهُ صاحبُ المبنى إلى كشكِ هاتفٍ قريبٍ، أجرى منهُ مكالمةً قصيرةً، ثم عاد معتذرًا:
” اسمحوا لي بنصفِ ساعةٍ فقط… سأعودُ مصطحبًا ابنتي.”
جلسَ نُعمانُ على حافةِ المدخلِ، قرب صاحبِ المكتبِ، ينتظرانِ عودةَ السيِّدِ أحمدَ وابنتِهِ، بينما كانتِ الشمسُ تزحفُ نحوَ الغروبِ، تنثرُ ظلالَ الأشجارِ على الرصيفِ كأنَّها تدعوهما إلى صبرٍ قصيرٍ، قبل أن يكتملَ المشهدُ.
بعد مضيِّ نحو نصفِ ساعةٍ، وصلَ السيِّدُ أحمدُ وبرفقتِهِ ابنتُهُ منى، فدلفا مع صاحبِ المكتبِ إلى الشقةِ الأرضيَّةِ، فيما بقيَ نُعمانُ في مكانِهِ، ينتظرُ عودتَهم. غير أنَّ السيِّدَ أحمدَ، عبرَ النافذةِ المُطلةِ على المدخلِ، أشار إليهِ أن يلتحقَ بهم، ليشاركهم الاطلاعَ على تفاصيلِ الشقةِ.
دخلَ نُعمانُ مترددًا، ليجدَ نفسَهُ أمامَ شقةٍ فسيحةٍ، تبلغُ مساحتُها قرابةَ مئتين وخمسين مترًا مربعًا، تتوزعُ الغرفُ على محيطِها بأناقةٍ، وترافقُ كلَّ غرفةٍ حمَّامٌ داخليٌّ، إلى جانبِ مطبخٍ جانبيٍّ واسعٍ.
وفي قلبِ الشقةِ، انتصبتْ غرفةُ معيشةٍ أنيقةٍ تتوسطُها مدفأةٌ جداريَّةٌ، تتصلُ بشرفةٍ فسيحةٍ تنفتحُ على حديقةٍ خضراءَ غنَّاءَ.
كانتِ الأنوارُ الطبيعيَّةُ تتدفقُ عبرَ النوافذِ، فتملأ المكانَ بهجةً ونقاءً.
في صباحِ اليومِ التالي، ظلَّ نعمان مبهورًا؛ لم يتخيَّل يومًا أن أحدًا قد يسكن مثل هذا البيتِ، بتلك المساحاتِ الرحبةِ، والزخارفِ البديعةِ، والتجهيزاتِ التي تخاطبُ أدقَّ الحاجاتِ والكمالياتِ معًا. كتم دهشتهُ بصعوبةٍ، واكتفى بالصمتِ عندما سألهُ السيد أحمد عن رأيه، مكتفيًا بالمراقبةِ والاستماعِ إلى الحوارِ الدائرِ بين السيدِ وابنتهِ، التي لم تخفِ انزعاجها، فتارةً تثورُ، وتارةً تتمتمُ بكلماتٍ مبهمةٍ، كلما تدخل صاحب المكتب العقاري باقتراحٍ أو تعليقٍ.
ما لبثَ السيد أحمد أن طلب من صاحب المكتب متابعة الجولة، فانتقلوا جميعًا إلى الشقة في الطابق الأول، ثم إلى شقة أخرى في الطابق الثاني.
وبعد مرور ساعتين من التجوال، عاد صاحب العقار يسألهم عمّا إذا حسموا أمرهم. أجابه السيد أحمد بأنهم بحاجةٍ إلى مزيدٍ من الوقت، مرجحًا اختيارَ الشقة الأرضية. فطلب صاحب المكتب أن يتواصلوا معه حين ينوون الذهاب إلى مكتبه لإجراء المفاوضات النهائية.
غير أن صاحب المكتب اعتذر عن إتمام الصفقة في ذلك اليوم، مشيرًا إلى التزاماته، خصوصًا وأنه أمضى يومًا مرهقًا، فاتفقت الأطراف على موعد في اليوم التالي، عند الساعة الثانية والنصف بعد الظهر، في المكتب العقاري، مصطحبين معهم كل الوثائق اللازمة.
عند الثانية ظهرًا من اليوم التالي، كان السيد أحمد ينتظر نعمان في سيارته. ما إن ركب الأخير حتى انطلقا معًا نحو المكتب.
استقبلهما صاحب المكتب بترحاب، وأمر أحد موظفيه بتقديم الشاي. جلس خلف مكتبه الفخم، وإلى جانبه خزنة حديدية كبيرة وجهاز تلفاز ضخم يعرض فيلمًا وثائقيًا بلا صوت. وما لبث الشاي أن قدّم إليهم حتى دخل صاحب العقار، يحمل مغلفًا يحوي جميع الوثائق المطلوبة.
بدأ الحوار ثلاثيًا، قاده صاحب المكتب العقاري حول سعر الشقة وعمولة المكتب. طلب مالك الشقة مبلغ خمسة ملايين، بينما عرض السيد أحمد ثلاثة ملايين ونصف. ظلَّ نعمان يراقب المشهد بصمت، متنقلًا بنظره بين الوجوه المتحاورة. طال النقاش، فلا البائع خفّض السعر، ولا الشاري زاد عرضه.
أخيرًا، طلب السيد أحمد من نعمان أن يدلي برأيه. فاقترح نعمان حلاً وسطًا، يكون فيه السعر متوسطًا بين الطرفين. ابتسم السيد أحمد وأعلن موافقته رغم أن السعر كان أعلى مما كان يأمل.
وافق مالك الشقة، بعد اتصالٍ قصيرٍ للتشاور، مشترطًا تسديد المبلغ كاملاً عند تسجيل العقد. رحّب السيد أحمد بالشرط، مقترحًا دفع ربع المبلغ فورًا مع عمولة المكتب، مقابل استلام المفاتيح.
بدَتِ الأمورُ تَسيرُ نَحوَ النهايةِ السَّعيدةِ، لولا تَدخّلُ صَاحبِ المَكتَبِ، مُذَكّرًا أنَّ السَّيدَ أَحمدَ، حسبَ هُويّتِه، لا يَحقُّ له تَملّكُ عَقَارٍ في سوريا.
هُنا التفتَ السَّيدُ أَحمدُ إلى نعمانَ، وطلبَ منه أن تُسَجَّلَ الشقةُ باسمه. تردّدَ نعمانُ قليلاً، لكنَّ السَّيدَ أَحمدَ طمأنَه، فسَلَّمَه بطاقتَهُ الشَّخصيةَ مُبتسمًا.
باشَرَ صاحبُ المَكتَبِ بإضافةِ الشروطِ إلى العقدِ، مِنها غرامةٌ ماليةٌ تَصلُ إلى مليونِ ليرةٍ سُوريةٍ عندَ الإخلالِ بالاتفاق.
غادرَ السَّيدُ أَحمدُ إلى السيارةِ، وعادَ حاملاً حقيبةً سوداءَ، أَخرجَ منها مبلغًا كبيرًا من المال، وَضعَه على الطاولةِ قائلاً:
” هنا مليونٌ ومئتان وخمسة وسبعون ألف ليرةٍ سُوريةٍ: مليونٌ واثنان وستون ألفًا وخمسمائة ليرةٍ دَفعةً أولى، والباقي عُمولةُ المكتب.”
تسلّمَ كلُّ طرفٍ نصيبَه، ووقعَ الجميعُ على العقد: البائعُ، الشاري، ونعمانُ وصاحبُ المكتبِ كشاهدين. أخذَ كلٌّ نسخةَ، وتصافحوا بحرارة. تسلّمَ السَّيدُ أَحمدُ المفاتيح، فيما ظلَّ نعمانُ يتلفّتُ مذهولًا:
” أكان هذا حلمًا أم حقيقة؟”
بعدَ يومين من توقيع العقد، رنّ هاتفُ نعمانَ. كانَ المتصلُ صاحبَ المكتبِ العقاري، يطلبُ حضوره فورًا مع السَّيدِ أَحمد.
استأذن نعمانُ معلمه الحاج أبي محمود لساعتين فقط، إذ كانت الساعة تقتربُ من الثانية عشرة ظهرًا. وافقَ المعلّمُ، وأوصاه ألا يتأخّر عن موعد افتتاح المتجر للفترة المسائية.
ذهبَ نعمانُ إلى بيتِ السَّيدِ أَحمد، وأخبرَه بأن صاحبَ المكتبِ قد اتصلَ به عدةَ مرات، لكنَّ هاتفَه كان مشغولًا، فاضطرَّ إلى الاتصالِ برقمِ المتجر، وطلبَ حضورهما على الفور.
وفعلًا، ركبَا معًا في سيارةِ السَّيدِ أَحمد، وحين وصلا، وجدا صاحبَ الشقة في المكتب بانتظارهما. وبعد تبادلِ التحيات، جلس الجميعُ، وبدأ صاحبُ المكتب يعرض طلبَ صاحبِ الشقة: فسخُ العقد بالتراضي، أو تنازلُ السَّيدِ أَحمد عن العقد الذي وُقع قبل يومين، دون التزامٍ بالشروطِ الجزائية.
لكنَّ السَّيدَ أَحمد طلب توضيحًا للأسبابِ التي دفعت صاحبَ الشقة إلى هذه الخطوة التي فاجأته كثيرًا، فاعتذر الأخير عن شرح السبب.
دار حوارٌ طويلٌ استمر أكثر من ساعة بين السَّيدِ أَحمد وصاحب المكتب من جهة، وبين صاحب الشقة وصاحب المكتب من جهة أخرى. ثم طلب نعمان تأجيلَ اتخاذ القرار لساعتين، مقترحًا على السَّيدِ أَحمد أن يعود إلى المنزل، ويعرض الأمر على ابنته منى، ليناقشها ويستطلع رأيها: هل يتنازل أم يتمسك بالعقد؟
فعلاً، عادَ السَّيدُ أَحمد مع نعمان إلى البيت، والتقى بابنته منى، وأخبرها بما حدث، مضيفًا أن نعمان طلب تأخير القرار حتى تكون هي صاحبة الرأي الأخير.
نظرت منى إلى نعمان الذي كان جالسًا في زاوية الغرفة، يتأمل جهاز العرض الموصول بشاشة التلفاز. كانت تعلمُ أنه لن ينظر إليها ولن يتحدث معها كما في العادة، فقاطعت والدها بهدوء. لكن شيئًا في حديث والدها أوشك أن يجعلها توجه له نظرات حادة من عينيها الملتهبتين، وكلماتٍ كانت على وشك الانطلاق.
مع ذلك، اقتربت من نعمان ببطء، وكأنها مترددة للحظة، ثم انحنت ليصبح وجهها قريبًا من أذنه، وهمست له بنعومة:
“هذه هي المرةُ الثانيةُ التي تجعلني مدينةً لك، وتشعرني بأن عليّ أن أشكرك.”
ظل نعمان مستغرقًا في تأملاته، كأن أحدًا لم يخاطبه.
عادت منى إلى والدها، وأخبرته بأنها لن توافق على التنازل عن الشقة التي أعجبتها كثيرًا، والتي قضت اليومين الماضيين تفكر كيف ستزينها وتفرشها. قالت إنَّها تكررت معها أحاديث مع خالتيها في بيروت عبر اتصالاتٍ مطولة، حتى أن إحدى خالاتها طلبت منها أن تبحثَ مع والدها عن شقة مماثلة لها، جاهزة للسكن، لتقضي مع زوجها وابنتها الصغيرة إجازاتِهم في دمشق مستقبلًا.
ابتسم السيد أحمد مبتهجًا، وسأل منى عن صحة طلب خالتها. أكدت له منى صحة كلامها، قائلةً إن خالتها أخبرتها بذلك مساء الأمس أثناء مكالمتهما الهاتفية.
لم يتردد الأب، وطلب اتصالًا دوليًا. وبعد لحظات، رنّ الهاتف، وأجرى السيد أحمد اتصالًا مع زوج خالة ابنته، وسأله إن كان يرغب فعلاً بشراء شقة في دمشق. أجابه الرجل أن الحوار جرى مساء الأمس مع زوجته، التي أعربت عن رغبتها في امتلاك شقةٍ بالقرب من ابنة أختها منى، لأنها لاحظت تغيرًا كبيرًا في تعامل منى معهم، فقررت البقاء قريبة منها دائمًا حتى تعود إلى سابق عهدها معهم.
أخبر السيد أحمد المتصل أن هناك شقتين جاهزتين للبيع في الطابقين الأول والثاني من البناء الذي حجز فيه شقته الجديدة، وطلب منه الحضور إلى دمشق غدًا صباحًا للمعاينة، مع تحويل مبلغ يعادل خمسة ملايين ليرة سورية، وأغلق الاتصال.
طلب السيد أحمد من نعمان العودة سريعًا إلى المكتب العقاري، وأخذ معه حقيبة النقود التي كانت تحت سرير منى.
لكن نعمان استأذن وغادر عائدًا إلى عمله.
ذهب السيد أحمد وحده إلى المكتب العقاري، فوجد السيدين: صاحب المنزل وصاحب المكتب في انتظاره.
جلس السيد أحمد أمام صاحب الشقة، وسأله:
“كم تريد ثمن الشقة التي في الطابق الأول؟”
أجابه الرجل بصراحة:
” سأكون معك صريحًا، وأتكلم مباشرة. أريد بيع البناء كله دفعةً واحدة، وأنا جاهز لتنفيذ نقل الملكية خلال أسبوع.”
قال السيد أحمد:
” أحاول مع بعض أقاربي شراء البناء، لكن تنقصني بعض السيولة. وحتى الآن، لم يتوفر معي سوى ثمن شقتين.” وأخرج العقد من جيبه الداخلي، وأراه لصاحب البناء، مضيفًا:
“هذا هو العقد. سأضعه بين يديك عندما يكون السيد نعمان حاضرًا، فهو من حقه علينا، وواجبنا نحوه أن يشهد على التنازل عن العقد، كما شهد توقيعه. سأسترد منك فقط المبلغ الذي دفعته قبل يومين، ولن أطالبك بأي شرط جزائي، وسأكون شاكرًا لك.”
قال صاحب البناء:
” هناك شيء أريد قوله لك: أحببت صدقك وتعاملَك، لكنني أريد بيع البناء كاملاً وبسرعة، لأنني على وشك بدء مشروع بناء آخر. فإذا كنت راغبًا في الشراء، ونقل الملكية خلال أسبوع، وتسديد قيمة البناء فورًا، فلا مانع لدي أن أبيعك إياه في هذه الجلسة.”
أجرى السيد أحمد اتصالًا هاتفيًا، ثم أغلق السماعة، وجلس أمام صاحب البناء، وسأله كم يريد ثمن البناء.
بدأ حوارٌ جديدٌ طويلٌ، انتهى بعدم توافق الطرفين على السعر المناسب.
طلب السيد أحمد متابعة جلسة الحوار في اليوم التالي، عند الساعة الثانية والنصف ظهرًا.
عَادَ السيّدُ أحمدُ إلى بيتهِ خائبًا، يُخفي خوفَه من إخبارِ ابنتهِ بما جرى. عندما سألته منى بتوجسٍ، تَردَّدَ، ثم قال لها:
” لقد تركني نعمان عند مدخل البناء، وعاد إلى عمله, ولم يرافقني إلى المكتبِ العقاريّ. وربما لم أستطع متابعةَ شراءِ الشقة لأنني كنت وحيدًا لا أعرف أحداً هنا, ولا أعرف كيف أتصرف!، وربما لن أتمكّن من إتمامِ هذه الصفقة أبدًا إذا لم يكن نعمان معي.”
نظرت إليه منى بنبرةٍ حازمةٍ:
” ولمَ؟ ومن هو حتى يتنمر عليك, مع ذلك فهو وحده يحضرُ في تفكيرَك كيفما توجَّهت؟”
ابتسمَ السيّد أحمد، وأجابها بهدوءٍ:
” إنّه لا بد أن يكون موجودًا، فبحضوره يصبحُ كلُّ شيءٍ أسهلَ مما خططت له، وأبسطَ مما اعتقدتُه معقدًا. أرجوكِ يا ابنتي، جرّبي أن تريَه كما أراه بعيني، وتسمعيه كما أسمعه بأذني. شاهدي كيف تسير الأمورُ بوجوده، ثم قارني كيف تكون في غيابه!
هو شابٌ هادئٌ، رغم أن بركاناً يثور في داخله، أجده مبتسماً دائمًا رغم معاناته التي قد لا تطيقها الجبال”.
وتابع مسترسلاً:
” وفوق كلّ ذلك، هو مثقّفٌ رغم صغر سنّه. ألم تلاحظي منذ متى وأنتِ تبحثين عن قطعة القماش التي كانت من ثياب والدتك؟ وكم بحثتِ عنها في لبنان ودمشق، ولم نجد مثلها إلا عنده، ولم نستطع شراءها إلا عن طريقه؟ ألم يعجبك أسلوبه وحديثه يوم أن تناولنا الغداء معاً على ضفة بردى؟ ما الذي غيركما بعد أن كنتما على وفاق مبدئي؟”
رفعت منى حاجبها قليلاً، وقالت:
” لكن، أليس غبيًّا؟! وألم يتجاهلني ويتحاشى الحديث معي؟ مع أني طلبت أن يحضر دفتر أشعاره الذي زعم أنه يكتبها, لكنه تجاهل طلبي؟! وكم كان باردًا في المرات الأخيرة التي التقينا بها؟ وإني لأظنه كاذبا في كل ادعاءاته”
ضحك أحمد بهدوء، وقال:
” صحيح، لكننا لم نسأله لماذا فعل ذلك. ومن الأفضل أن ننظر إلى الأمور من بعيد لنرى الحقائق بموضوعية، وأن لا نحكم على شيء لم نختبره. هل أقول لك سرًّا؟ لقد حاولت أن أعوّضه عمّا سبّبناه له. طلبت من معلمه أن يعطيه مبلغًا من المال دون أن يعرف أنَّه مني. ومع أن معلمه أخبره أنه قد كسب مالًا بفضلي، إلا أنه رفض أن يأخذ شيئًا. وأنتِ رأيتِ كيف لم يقبل حتى ذلك المبلغ التافه الذي قدّمته له في نهاية ذلك اليوم.”
ثم أضاف:
” وأريد أن أخبرك بشيء آخر، حدثَ ونحن معًا، قبل أن نعود إلى بيروت. عندما اتفقنا ألا نعود إلى دمشق مرة أخرى، طلبت منه أن أوصله صباحًا ومساءً كي أتمكّن من الحديث معه في حواراتٍ خاصّةٍ، أدخله من خلالها إلى حياتنا وأدخل إلى حياته. لكنه كان حذرًا، واعتذر بهدوء، دون أن يزعجني. هو من النوع الذي يبتعد ما أمكن عن أي مستجدّات قد تضعه في مأزق يصعب الخروج منه لاحقًا. وأذكر عندما أقمنا في الفندق يومين دون أن نتواصل معه، رغم علمه بعودتنا إلى بيروت، ثم ذهبت إليه طالبًا المساعدة في البحث عن شقة للإيجار، لم يتردّد لحظة، ورافقني إلى المكتب العقاري، وهو من اختار لنا هذه الشقة كي نبقى قريبين منه. إذن فهو على الأقل لا يكن لأحدنا كرهاً، ولا يحمل علينا، هو يريد أن نبقى بجواره، كما أنه مستعد دومًا لتقديم المساعدة. وقد طلبت من صاحب المكتب أن يعطيه عمولة لقاء جلب المستأجرين الموسميين، لكنه لم يرفض, وأخذ العمولة, وقبل أن يحل الليل أعاد المال لي مبرراً أنه خصم على دفع كامل المبلغ بشكل مقدم، وهذا ما لم يخبرني به صاحب المكتب. نعم يا ابنتي، هو شابّ ملتزم، نزيه، أمين، وصادق. ألا ترين كم هو بهيّ الطلعة، ووسيم؟ …… لكنني أخشى أن كل ما أقوم به من دونه يذهب سدى، فنحن سنخسر الشقة التي حلمنا بها في دمشق. وأصبح وجودنا في سوريا مرتبطًا بوجود نعمان معنا أو بجانبنا. يا ابنتي، أريدك أن تصدقيني، إن لم تتحمّلي وجوده معنا، فمن الأفضل لنا أن نعود إلى بيروت”.
هزّت منى رأسها، وقالت بحزم:
” لا يا أبي، لا أريد العودة إلى بيروت. وأرجوك ألا تسأليني عن السبب، لأنك تعرفه. لكنّي أرى أنك تضع السيد نعمان في مكان يجعلني أشعر أنه يقف بيني وبينك, وكأنما هو ابنك الأفضل”.
تنهد السيد أحمد وقال بحنان:
” لا تنسي أنك أنتٍ ابنتي، وأن وجودنا هنا في دمشق كان وما زال قائماً بناءً على رغبتك”.
التفت اليها مجدداً وتابع:
” أما عن المكانة التي تقولين إنني أضعه فيها، فأقول لكِ إنك بدأتِ تغارين منه. أنا لا أميزه عنك مطلقاً، كما لا أفضل عليكِ أي شخص كائناً من كان, وأنت تدركين ذلك. فمهما كان أنتِ ابنتي الوحيدة”.
قالت:
” أدرك كل ما قلت يا أبي! ومعك حق! لكن لم أستطع حتى الآن أن أتقبله على هيئته, لقد نفذت لك ما طلبت يوم دعوته إلى المطعم, ويوم الغذاء غلى ضفة بردى, وقد شاهدت كم كنت أجامله, وكل ذلك كان من أجلك!”
سألها أبوها:
” هل تريدين أن نعرف رأيه؟ حتى تستليني كيف يفكر! ونرى كيف ستكون ردة فعله. فنحن الآن في مأزق أدبي ومادي, وأخاف أن نفقد صفقة البيت, هل توافقين؟”
قالت منى:
” نعم! ولكن ما خطتك؟”
أجابها بابتسامة:
” سأشرح لك ……. سنذهب إليه معًا …………….”.
في ظهر اليوم التالي، أبلغه الحاج أبو محمود أنه ذاهب لقضاء شيئاً ما, ولن يتمكن من العودة، وبعد مغادرته المتجر, وبينما يتابع نعمان عمله في الداخل. دخلت منى وهي تتردد في الدخول, لكنها بدأت تقترب منه بهدوء، وتشير له بيدها لتلفت انتباهه. اقتربت منه، وقالت بصوت منخفض وهادئ:
” أعتذر منك! وأرجو أن تقبل دعوتي لنتناول فنجاناً من القهوة معي في أي مكان تختاره”.
تجمّد لسان نعمان، ولم يعرف ماذا يقول. خلال اللقاءات السابقة بينهما لم تتحدث معه بمثل هذا الأسلوب قط.
لكنها الآن تتصرّف بأسلوب لم يتوقعه منها. جمع نفسه وأجابها بحدة:
” أعتذر منك يا آنستي، ليس لدي وقت اليوم أو غدا فلا أستطيع أن أغلق المتجر لأن معلمي لديه عمل ما اليوم وقد ذهب قبل قليل ولن يعود اليوم!”
ثم واصل أعماله في المتجر، وتبعت منى خطواته شيئًا فشيئاً، و تحدثت بصوت منخفض وبأسلوب جديد.
ظل نعمان صامتًا، مشغولًا بتحضير البضائع و الفواتير. بعد دقائق، دخل والدها وألقى التحية، فأشارت منى إليه بهدوء:
” بابا، لقد اعتذرت كما طلبتَ مني من السيد نعمان، وطلبتُ منه أن نتحدث معًا قليلًا خلال فنجان قهوة في أي مكان يختاره، رغم أنني دعوته. لكنه رفض بحجة أنه لا يملك وقتًا”.
توجَّهَ السَّيِّدُ أَحْمَدُ إلى نَعْمَانَ قائلاً:
” ما رأيك أن تُحضِرَ فِنْجانَيْ قهوةٍ ريثما أذهبُ لأُحضِرَ شيئاً وأعود؟ لن نأخذَ من وقتكَ كثيراً.”
غادرَ السَّيِّدُ أَحْمَدُ المتجرَ وتوجَّهَ إلى سيارتِه المركونةِ إلى القرب، جلسَ خلفَ المقودِ وبدأ يبحثُ عن شيءٍ داخِلها.
دخل نَعْمَانُ إلى الغرفةِ الجانبيَّة ليعدَّ فنجانَيْ قهوة، وما لبثت منى أن دخلت خلفه، تقتربُ خطوةً تلوَ الأخرى بحجَّةِ المساعدةِ في البحثِ عن الفناجين. وحينَ أحاطت به في زاويةٍ ضيِّقة، ارتفعت بجسمها واقتربت منه لتهمس في أذنهِ بصوتٍ رقيقٍ ناعم:
” يسلِّمُ لي الحلو! الرَّجل الصَّغير العظيم في سلوكِه وأخلاقِه، صاحبُ القِيَم الثابتة، الذي احتلَّ كياني رغمًا عني، ولم أستطع أن أُخرجه من ذاتي، والذي لم أستطع أن أمنع قدراتِه من أن تطغى عليّ، ولم يستوعب بعدُ ما حلَّ بي بسببه!”
احمرَّ وجهُ نعمانَ خجلاً، تائهًا لا يعرفُ كيف يتصرَّف، فتركَ كل شيءٍ في مكانهِ وخرجَ مسرعًا. تبعتهُ منى واقفةً أمامَه تنظرُ إليه بثبات، تقولُ:
” أنا لا أخجلُ مما قلت، وما فعلت, ولن أتراجع عنه”.
ترددتْ لحظةً ثم أضافتْ:
” لا أريدُ أن أفرضَ شيئًا عليك، فقط أردتُك أن تعلم! اليوم قرَّرَ والدي أن نعودَ نهائيًا إلى بيروت، وأنا لا أستطيعُ أن أسافرَ إلى بلدي بعد الآن، وقد جعلتَ قلبي يخفقُ بك. أعلمُ ما يدور في ذهنك، وأدركُه، وأعرفُ أنك لا تجيد الكلام في موضوع كهذا، فهو جديدٌ عليك كما هو جديدٌ عليّ، لكني تجاوزتُ كل العقبات بفتح حواراتٍ مطولة مع والدي، الذي جعلني أتعلق بك أكثر من خلال حديثه عنك نقلاً عن من عرفوك جيدًا. شاهدتُ كل ذلك بعيني، وأدركته بإحساسي. نعم يا سيد نعمان، لا أريد منك شيئًا، ولا أن تبادلني أي شعور إذا لم يكن حقيقيًا. دعنا لا نودِّع بعضنا وفي داخل أيٍّ منا شيءٌ، حتى لو كانت كلمة واحدة، كان يودُّ أو يتمنى قولها قبل أن يرحل الوقت، ونصبحَ بعيدين عن بعضنا تمامًا”.
حينها، دخلَ السَّيِّدُ أَحْمَدُ مبتسمًا:
” أنا أنهيتُ كل شيء، هل أعددتما القهوة؟”
ردّت منى بسخرية خفيفة:
” يبدو أن بعضهم لا يبخل علينا بفنجان القهوة فقط، بل يبخل أن يُسعدنا بكلمة صدق يقولها!”
وقف نعمان بينهما، وصمتُهُ يطغى على الجو، بينما مدَّ السَّيِّدُ أَحْمَدُ يده إلى نعمان وأعطاه بطاقةً قائلاً:
” هذا عنواننا في بيروت، ننتظر زيارتك، إلى اللقاء.”
سأل نعمان السيد أحمد:
” هل أنهيت موضوع الشقة والعقد قبل السفر؟”
نظر السيد أحمد إلى ابنته، وقال:
” كيف نسينا هذا الموضوع!”
أخرجَ العَقدَ من جَيْبِهِ، وطلبَ قلمًا من نُعمان، الّذي قدَّمَ لهُ أحدَ أقلامِ مكتبِ مُعلِّمِهِ. ابتسمَ السَّيِّدُ أحمَد وقالَ: ” سأَتَنازَلُ لَكَ عنْ هذا العَقدِ، وأَرجو أن تُتابِعَ معَ المكتبِ والبائعِ الإجراءَ المُناسِبَ، يُمكنُكَ المُطالبةُ بالشَّرطِ الجزائيِّ معَ الدُّفعةِ الأولى وعمولةِ المكتبِ، أو التَّنازُلُ عنِ العَقدِ دونَ أيِّ التزاماتٍ، أو بيعُ الشقَّةِ بالسِّعرِ الّذي تراهُ مُناسبًا، أو حتّى الاحتفاظُ بحقِّكَ في امتلاكِها ودفعِ التَّتمةِ وَفقَ العَقدِ.”
نظرَ نُعمانُ إلى السَّيِّدِ أحمَد وسألهُ:
” متى الجلسةُ القادمةُ لمتابعةِ طلبِ صاحبِ البناءِ الّذي لم تتوصَّلْ معهُ إلى اتّفاقٍ أمس؟”
قالَ السَّيِّدُ أحمَد:
” لا بُدَّ أَنَّكَ اتّصلتَ بالمكتبِ أو بالبائعِ، فمِنَ المؤكَّدِ أنَّ أَحدَهما أطلَعكَ على ما جرى.”
أجابهُ نُعمانُ بثَباتٍ:
” لمْ أَتَّصلْ بأحدٍ، لكنَّكَ أَنتَ تُخبِرني الآنَ أنَّهُ لمْ يتمَّ الاتّفاقُ إلّا على التَّأجيلِ، وأنَّ العَقدَ ما زالَ معكَ، وأنَّكَ لمْ تَتمكَّنْ من شراءِ شقَّةِ خالةِ مُنى وزوجِها، لأنَّ الزوجَ لمْ يَحضُرْ اليومَ، كما اتّفقتُما، وهو لمْ يَحضُرْ بسببِ طلبِكَ. وأنَّكُما قرَّرتُما العودةَ إلى بيروتَ بشكلٍ مُفاجئٍ، لأنَّ هناكَ شيئًا سيحدثُ بعدَ الثَّانيةِ ظُهرًا، لا تَهتمّا، أَتمنَّى لَكما سفرًا مُريحًا، وسأُنهي موضوعَ العَقدِ قريبًا، وأُرسِلُ لَكَ كُلَّ ما دَفعتَهُ كاملاً، أو حتَّى أَفضلَ رِبحٍ أَتمكَّنُ من تأمينَهُ لَكَ.”
وقَّعَ السَّيِّدُ أحمَد تَنازُلَهُ عنِ العَقدِ وأعطاهُ لِنُعمان، مُعلِنًا أنَّ مَوعدَ الجَلسةِ سيكونُ السّاعةَ الثّانيةَ والنّصفَ. وتوجَّهَ نُعمانُ نحو مُنى، الّتي كانتْ تَنظرُ إليهِ بانبهارٍ، وسألها:
” هل أَنتِ مُتمسِّكةٌ بالشقّةِ، أَم أَنَّكِ حَقًّا ستُسافرينَ وتَتخلّينَ عنْ خُطَطِكِ؟”
تَلعثَمتْ مُنى، كادتْ لا تَستطيعُ التَّعبيرَ… هل تُخبِرُهُ أنَّ كُلَّ ما كانَ تَمثيلًا، إلّا جُزءًا مِنهُ أَصبحَ حَقيقةً جَعَلَ قلبَها يَكادُ يَقفِزُ من صدرِها؟ لكنَّها لا تَعرفُ كيفَ تُعبِّرُ. فَطلبتْ من والدِها أن يُلغيَ فِكرةَ السَّفرِ، مُؤكِّدةً تَمسُّكها بالشقّةِ وبخُطَطِها الّتي صارَتْ حُلمًا تَنتظرُ تَحقيقَهُ.
وفي المَوعدِ المُحدَّدِ، حضرَ السَّيِّدُ أحمَد ونُعمان إلى المكتبِ العقاريِّ، جلسَ السَّيِّدُ أحمَد مُنفردًا على الأرِيكةِ، يُراقبُ عن كثبٍ، ونَجحَ نُعمانُ في التَّوصُّلِ إلى اتِّفاقٍ معَ صاحبِ العقارِ لنَقلِ الملكيّةِ خلالَ يومَينِ، مع تَسديدِ كاملِ الاستحقاقِ، وتأمينِ مُشترينَ للشقّتَينِ المُتبقِّيتَينِ خلالَ هذه المُدّةِ.
غادَرَ الجميعُ الجلسةَ راضينَ، وعادَ نُعمانُ إلى عملِه برفقةِ السَّيِّدِ أحمَد، الّذي ظلَّ يَطلبُ توضيحاتٍ طيلةَ الطريقِ، لكنَّهُ لم يحصلْ عليها، حتّى اتّصلَ بأحدِ تُجّارِ القُماشِ، ممّن كانَ يَثقُ بِهم من خلالِ تَعامُلِه في الفَترةِ السّابقةِ؛ ودَعاهُ للحُضورِ مساءَ اليومِ قبلَ موعدِ الإغلاقِ بقليلٍ.
وعندما حَضَرَ هذا التّاجِرُ، طَلَبَ نُعمانُ منهُ أنْ يَذهَبَ برفقةِ السَّيِّدِ أحمَد إلى بيتِه، ريثما يقومُ هو بإغلاقِ المتجرِ واللّحاقِ بِهِما.
وفي بيتِ السَّيِّدِ أحمَد، يسألُهُ نُعمانُ عمّا إذا كانَ قد اشترى الشقّةَ الّتي حدّثَهُ عنها منذُ فترةٍ قريبةٍ، فأجابَ بالنّفي، ليقولَ لهُ نُعمانُ:
“إنَّ مَثيلتَها، بل أَفضلَ منها، موجودةٌ، وإنَّها بانتظارِ توقيعِك، لكنَّها قد تَجدُ راغبًا لَها خلالَ يومٍ واحدٍ؛ إذا لم يتمَّ كتابةُ عَقدِها سريعًا”.
فَعِندَما أبدَى التّاجِرُ اهتمامَهُ بالشّقَّةِ، طَلَبَ أن يُعايِنَها بِنَفسِهِ.
فاِتَّجَهَ نُعمانُ إلى الهاتفِ، واتَّصَلَ بصاحِبِ المكتبِ لِيُنسِّقَ معَ البائِعِ، ويُحدِّدَ موعِدًا مُبَكِّرًا في صباحِ اليومِ التّالي، معَ تَرجِيهِ أن يُبلِغَ السَّيِّدَ أَحمَد، لِيكونَ رفيقَ المشتري في زيارَتِهِ المُرتَقَبَةِ.
أمّا في صباحِ اليومِ المُحدَّدِ، فَقَدِمَ السَّيِّدُ أَحمَدُ مُبَكِّرًا كعادَتِهِ، واصطحَبَ التّاجِرَ إلى المكتبِ، وهو يُطمئِنُهُ:
ـ “كُلُّ شَيءٍ جاهِزٌ، سَنُنجِزُ الأمرَ اليومَ كما يُرادُ له.”
أومَأَ التّاجِرُ برأسِهِ، وفي عينيهِ لمعةُ رضى مكتومٍ.
تَمَّ الاتّفاقُ على جَلسَةِ البيعِ في السّاعةِ الثّانيةِ والنّصفِ ظُهرًا، حَيثُ اجتَمَعَ الحاضرونَ في جوٍّ يملؤُهُ التَّرَقُّبُ، وتَمَّ توقيع العقود لنَقلِ المِلكيّةِ وسَدادُ الالتِزاماتِ في الأوقاتِ الّتي كانَ قد جَرَى التَّوافُقُ عليها بدقّةٍ.
في نِهايَةِ اليوم، وَقَفَ نُعمانُ على بُعدِ خُطوَاتٍ من المَكتبِ، يُراقِبُ وجوهَ الحاضِرينَ وهي تَخْرُجُ تباعًا، تتبادَلُ كلماتِ الشّكرِ والتَّقديرِ.
تَنَفَّسَ بعمقٍ، كأنَّما يَسْتَرجِعُ أنفاسَهُ الّتي أنفَقَها على مدارِ الأيّامِ الماضيةِ، وهمسَ في سرِّه:
ـ “قد وَفَيتُ بوَعدي.”
كانَ ذلكَ اليومُ خِتامَ سَعيٍ طويلٍ، ويومًا جديدًا في سِجلّ الثّقةِ الّذي يَكْتُبُه نُعمانُ في صمتٍ، وبامتيازٍ لا يحتاجُ إلى إعلانٍ.
في مساءٍ دافئٍ من مساءاتِ الشّتاءِ الأولى، وبعد أنِ استقرَّت الحياةُ في البناءِ الجديدِ، وصارَ للبيتِ نَفَسٌ وأثاثٌ وذاكرةٌ وليدة، همسَتْ مُنى في أُذُنِ والدِها قائلةً:
ـ “بابا… هل تُجري مكالَمةً صغيرة؟ اِتَّصِلْ بنُعمان، وادعُهُ إلى العَشاءِ عندنا الليلة.”
ابتسمَ السَّيِّدُ أحمَدُ بودٍّ، ولم يُعلِّق، كأنَّهُ توقَّع الطّلبَ قبلَ أن يُقال، ثم أمسكَ سَمَّاعَةَ الهَاتِفِ واتَّصل.
وبعدَ أقلَّ من ساعةٍ، كانَ نُعمانُ يقرعُ البابَ. فُتِحَ لهُ على اتّساعِه، ووقفَ السَّيِّدُ أحمَدُ بنفسِه في الاستقبال، يُصافِحُه بحرارةٍ، ويقودُه إلى الغُرفًةٍ حًيثٌ المَائِدَةِ الّتي كَانَتْ مُنى قد أعدَّتها بعنايةٍ خاصّةٍ، كَمَا لَو أَنَّهَا تُحَضِّر شَيئًا أَكْبَرَ مِنَ الطّعَامِ.
دخلَت مُنى بعد قليلٍ، وقد وَضَعَتِ الحِجابَ على رأسِها بانسيابٍ، وانتَقَتْ ثيابًا تُغَطِّي جسدَها كلَّه، فبدا وجهُها وحدَهُ يضيءُ المكان. كانت تمشي بخفَّةٍ ووقار، وعلى ثغرِها ابتسامةٌ فيها من السّكينةِ بقدرِ ما فيها من الدّهشة.
ثم قالت بلُطفٍ:
ـ “السَّلامُ عليكُم… مَرحبًا يا نُعمان!”
رَدَّ السَّلامَ بصوتٍ خفيضٍ، ولم تَمنَحْهُ فُرصةً ليُضيفَ شيئًا، بل تابعتْ فورًا، وكأنَّها تُخرِجُ شيئًا كانتْ تُخَبِّئُه طَوالَ الأيامِ الماضية:
ـ “تَحدَّثتُ عنكَ بصراحةٍ معَ أبي… والحقيقةُ؟ غِرْتُ منكَ! نعم، غِرْتُ لأنِّي وجدتُه يُحبُّك بطريقةٍ جعلتني أشعرُ بأنَّني أُنافسُكَ على قلبِهِ. فقرَّرتُ أن أَشتري هذهِ الثّيابَ، لأُقارِبَك في ما تحبُّهُ روحُه، وأن نبدأَ من اليومِ على قدمِ المساواةِ. نُحِبُّهُ نحنُ الاثنان، دونَ غيرةٍ ولا منافسةٍ. ما رأيُك؟ وهل يُناسبُني هذا الزّيُّ؟”
ظلَّ نُعمانُ لحظاتٍ يُحدِّقُ في وجهِها، يُحاولُ أن يجمعَ شتاتَ عباراتِها الّتي تساقَطتْ أمامَهُ مثلَ قطراتِ المطرِ على زجاجِ نافذةٍ ليليّة، ثمّ قال بهدوءٍ، كأنَّهُ يُريدُ أن يتأكَّدَ:
ـ “هل أنا مَن كنتِ تَقصِدِينَهُ بكلامِك؟ أم كانَ حديثُكِ عن شَخصٍ آخر؟”
ضحكَت بخفةٍ وقالت:
ـ “نعم، أنتَ! وهل كنتَ تتوقّعُ أن أُحدِّثَ والدي بهذه النّبرة؟”
ـ “لا… لم أتوقّع. لكنِّي لا أُنافِسُكِ أبدًا في مَحبَّةِ والدِكِ، ولا ينبغي لي أن أُنافِسَكِ أصلًا. لذلكَ، لا يَجوزُ لكِ أن تَغاري مِنِّي. ومعَ ذلكَ، أنا سعيدٌ جدًّا بأن نبدأَ من جديدٍ. وأنتِ، إن شاءَ الله، إذا ألزَمتِ نفسَكِ بهذهِ التّفاصيلِ حُبًّا للهِ وطاعةً له، فسيكونُ هذا اللباسُ لكِ تاجًا لا حجابًا فحسب.”
أجابت مُنى بثقةٍ وعينُها تلمعُ:
ـ “أَعِدُكَ بذلكَ أمامَ والدي. والآن… هيا بنا إلى الطّعام، وأنتَ تُحدِّثُني قليلًا عن نَفْسِك.”
نَهَضُوا معًا إلى المائدة، وعلى الجدرانِ كانتِ الظّلالُ تتحرّكُ مثلَ شهودٍ صامتين، يُصغُونَ مثلهم، ويَبتسمون.
انتقلَ نُعمانُ مع السَّيِّدِ أحمدَ ومُنى إلى مائدةِ الطَّعام، لتبدأَ مرحلةٌ جديدةٌ في حياةِ كلٍّ منهم.
السَّيِّدُ أحمد يُواصلُ عملَهُ ومكتبَهُ بشكلٍ يوميٍّ ومنتظمٍ، من خلالِ الاتِّصالاتِ المستمرَّةِ، وسَفَرِهِ يومَيْنِ أو ثلاثةَ أيّامٍ في الأسبوعِ إلى لبنان.
الفصلُ الثالث عشر بداية جديدة 15
________________________________________
كانت مُنى تتابعُ دراستَها الجامعيَّةَ في كُلِّيَّةِ الآدابِ بجامعةِ دمشق، بعدَ أن قُبِلَتْ رسميًّا في قِسمِ اللُّغَةِ العربيَّة، القِسمِ الذي لطالما مالتْ إليه روحُها سرًّا، وإنْ لم تُفصِحْ عن ذلك إلا مُتأخِّرةً، حين أحسَّتْ أنّها وجدت في اللُّغةِ أُمَّاً ووطنًا داخليًّا لا يُطال.
ومع بداية الأيام الأولى من ذلك الفصلِ الدِّراسيِّ الأوَّل، كانت كلُّ زيارةٍ من نُعمانَ لشقَّتهم تَزيدُها يقينًا بأنَّ هذا الشابَّ، رغم مَلامِحِ الحياءِ الرَّيفيِّ التي لا تزالُ مطبوعةً على تصرُّفاته، يُخفي بين ضلوعِه قلبًا يتَّقِدُ حبًّا للمعرفة، وشغفًا بالكتبِ والكتابةِ قلَّما رأتْ مثلَه.
كانت تُشجِّعُهُ، وتُكرِّرُ على مَسامِعِهِ، كلَّما جلَسَا في زاويةِ الغرفةِ التي أحبَّاها معًا، أنَّ عليه أنْ يُنمِّيَ هوايتَهُ، لا على نحوٍ عشوائيٍّ، بل بأسلوبٍ أكاديميٍّ رصينٍ، يليقُ بموهبةٍ تنمو في صمتٍ وتنتظرُ من يُنصِتُ لندائِها.
وذات مساءٍ، ألقى السَّيِّدُ أحمدُ، وقد أنهى لتوِّه اجتماعًا عبر الهاتف مع بيروت، نظرةً على نُعمان وقال له بنبرةٍ فيها مَزجٌ من الجدِّ والأمل:
” لِمَ لا تُسجِّلُ في مَعهدٍ يُدرِّسُ الرَّسمَ الهندسيَّ؟ دورةٌ مُكثَّفةٌ تُعيدُ لك بعضًا من حُلمِكَ القديم، وتُساعِدُني في عملي في آنٍ معًا.”
تبادلت مُنى ونُعمانُ نظراتٍ سريعةً لم تَخلُ من فهمٍ صامتٍ، ثم عقَّبت هي، وهي تُقلِّب بين يديها كُرّاسَتَها الجامعيَّة:
ـــ ” بالفعل، سيكونُ ذلكَ رائعًا، فالهندسةُ لا تُناقضُ الأدب، بل هما توأمانِ لو تدري، يُكمِّلُ أحدُهُما الآخر.”
منذُ ذلكَ اليوم، لم يَكدْ يمرُّ يومٌ دونَ أنْ يزورَ نُعمانُ شقَّتَهم، سواءٌ أكان السَّيِّدُ أحمدُ في البيتِ، أو كان في لُبنانَ يُتابِعُ أعمالَهُ من مكتَبِهِ الخاصّ، ذلكَ الذي خَصَّصَهُ ليكونَ مُختبرَ أحلامِه الهندسيَّة، وغرفةَ عزلِه حين تضيقُ به الدنيا.
وكانتْ خالةُ مُنى، التي تسكنُ معهم، تُوفِّرُ الجوَّ المُناسبَ لتلكَ اللقاءات، بصمتِها الموزون، وابتسامتها التي لا تُفارقُ وجهَها، فوجودُها الدائمُ أضفى على اللقاءاتِ دفئًا مُستقرًّا وأمانًا مستترًا، يجعلُ من زياراتِ نُعمان شيئًا طبيعيًّا في نسيجِ حياتهم الجديدة، لا يُثيرُ في نفوسِ أحدٍ تساؤلًا أو ارتيابًا.
وهكذا، تَشابكتْ أيّامُهم على مهلٍ، بين أوراقِ الجامعة، وخُططِ المشاريع، وصوتِ الأقلامِ وهي تخطُّ الحُلُمَ ما بين كِتابٍ ومَسْطَرة.
الفصلُ الرابع عشر عودة إلى دفء العائلة 16
________________________________________
بَعدَ سَهرَةٍ طَوِيلَةٍ مِنَ الحِوَارِ مَعَ مُنَى وَوَالِدِهَا، امتَدَّتْ حَتّى مَوعِدِ مَا قَبلِ الفَجرِ، ذَهَبَ كُلٌّ إِلَى غُرفَتِهِ لِيَنَامَ, أَمَّا نُعمَانُ فَكَانَ النَّومُ عَصِيَاً عَلَى عَينَيهِ, فَخَرَجَ إِلَى الشَّارِعِ يَتَمَشَّى, لَم يكُن يَدرِي أَينَ يَسِير, إلى أَن وَجَدَ نَفسَه أَمَامَ أُولَى حَافِلَاتِ اَلصَّبَاحِ العَائِدَةِ إِلَى بَلدَتِهِ. فَرَكِبَ فِيهَا, لَا هَرَبًا مِنْ دِمَشْقَ، بَلْ بَحْثًا عَنْ أَرْضٍ يُمْكِنُ أَنْ تُعِيدَ تَشْكِيلَ جُذُورِهِ، لَا جُدْرَانِهِ؛ وَعَنْ أَجْوِبَةٍ مُؤَجَّلَةٍ ظَلَّتْ تَتَرَدَّدُ فِي دَاخِلِهِ دُونَ اكْتِمَالٍ.
كَانَتِ السَّهرَةُ بِكُلِّ مَا حَوَتهُ قَد انتَهَت قَبلَ قَلِيل, لَكِنَّهَا لَم تَزَل تَقُدُّ عَلَيهِ نَومَهُ, أَسْئِلَةٌ وأَجوِبَةٌ تُحَاوِرُ ذَّاتَهُ, فِي صَمِيمِ اَلْعَقِيدَةِ، لَا بُوَصْفِهَا تَقْلِيدًا مَوْرُوثًا، بَلْ وَعْيًا حُرًّا يُحَاوِرُ اَلْمَجْهُولَ؛ وَفِي اَلنِّظَامِ اَلسِّيَاسِيِّ، لَا كَوَاقِعٍ مَفْرُوضٍ، بَلْ كَقَيْدٍ يَتَسَلَّلُ إِلَى اَلْمَعْنَى وَالْحُرِّيَّةِ وَالْمَصِيرِ, وَيَدفَعُ إِلَى الخَوفِ وَالرَّهبَةِ.
لَمْ تَكُنِ اَلدَّارُ قَدِ اِسْتَيْقَظَتْ بَعْدُ، حِينَ وَصَلَ إِلَى اَلبَابِ اَلْخَارِجِيِّ اَلْمُؤَلَّفِ مِنْ دُرْفَتَيْنِ تُغْلَقَانِ وَتُفْتَحَانِ بِخِفَّةٍ، دُونَ حَاجَةٍ إِلَى مِفْتَاحٍ. هُنَاكَ، أَمَامَ اَلْعَتَبَةِ، تَمَدَّدَتْ كَالْعَادَةِ، تِلْكَ اَلكَلْبَةُ السَّوْدَاءُ.
كَانَ قَدْ رَبَّاهَا صَغِيرَةً، تَتَبَعُهُ إِلَى اَلْحَقْلِ، وَتَتَسَلَّلُ خَلْفَهُ إِلَى المَدْرَسَةِ، حَتَّى صَارَ أَسْمُهَا – فِي لِسَانِ الجَمِيعِ هُنَا – مُقْتَرِنًا بِهِ. كَبِرَتْ مَعَهُ، وَكَأَنَّهَا افْتَرَشَتْ زَمَنَهُ فِي طُرُقَاتِ اَلرِّيفِ وَخَلْفَ أَسْوَارِ اَلْبَيْتِ. مَرِضَتْ مَرَّةً، وَظَنُّوا أَنَّهَا تَحْتَضِرُ. أَشْرَفَ عَلَى طَعَامِهَا بِنَفْسِهِ، وَوَضَعَ لَهَا خُبْزًا مَغْمُوسًا بِمَغْلِيِّ بُزُورِ اَلْكَتَّانِ. عَادَتْ تَمْشِي بَعْدَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ، وَظَلَّتْ تُرَاوِغُ مَوْتَهَا بِصَبْرٍ، كَأَنَّهَا تُرِيدُ أَنْ تَنتَظِرَهُ.
وَهَا هِيَ، بَعْدَ غِيَابٍ، تَسْبِقُهُ بِأَنْفِهَا إِلَى نَفْسِهِ. لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ بَعْدُ، لَكِنَّهَا انْتَصَبَتْ فَجْأَةً وَانْطَلَقَتْ نَحْوَهُ كَمَنْ يَشُمُّ طَيَفَ اَلْقُدُومِ. لَمْ تَنْبَحْ، لَمْ تَلْهَثْ، بَلْ وَقَفَتْ أَمَامَهُ وَضَعَتْ رَأْسَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ، كَمَا لَوْ أَنَّهَا تَسْتَقْبِلُ وَطَنًا كَانَ ضَالًّا.
تَسَلَّلَ إِلَى سَاحَةِ اَلبَيْتِ اَلْإِسْمَنْتِيَّةِ كَمَنْ يَعْتَذِرُ مِنْ أَشْجَارِهَا اَلْعَتِيقَةِ عَنْ تَأَخُّرِهِ إِلَى مَوْعِدِ اَلفَجْرِ. كَانَتْ أَوْرَاقُ شَجَرَةِ الزَّيتُونِ مَبْلُولَةً بِالنَّدَى، وَتَتَدَلَّى كَأَصَابِعَ جَدَّتِهِ، وَكَأَنَّهَا تُشِيرُ إِلَى السَّمَاءِ.
بَدَا لَهُ اَلبَيْتُ كَمَا تَرَكَهُ فِي آخِرِ مَرَّةٍ؛ لَكِنَّهُ أَحَسَّهُ أَصْغَرَ، كَأَنَّ اَلزَّمَانَ قَدْ شَرِبَ مِنهُ عَامًا أَو مَا يَزِيدُ عَنِ العَام، وَتَرَكَهُ نَاقِصًا لِبَعْضِ اَلْحَنِينِ.
اِقْتَرَبَ مِنْ اَلْمَغْسَلَةِ فِي بَاحَةِ اَلدَّارِ، وَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ. لَمْ يَكُنْ يَدْرِي أَنَّ أُمَّهُ تُرَاقِبُهُ عَنْ قُرْبٍ مِن نَافِذةِ غُرْفَةِ اَلتَّنُّورِ، تَلُفُّ وَشَاحَها اَلصَّوْفِيَّ حَوْلَ كَتِفَيْهَا، وَتُعِدُّ شَيْئًا عَلَى نَارٍ هَادِئَةٍ. حِينَ رَأَتْهُ وَاقِفًا يَتَوَضَّأُ، لَمْ تَقُلْ شَيْئًا فِي اَلبِدَايةِ. فَقَطْ نَظَرَتْ إِلَيْهِ طَوِيلًا، نَظْرَةً تُشْبِهُ اَلْاِحْتِضَانِ. وَمَا إِنْ أَنْهَى وُضُوءَهُ، حَتَّى قَالَتْ، بِصَوْتٍ خَفِيفٍ كَأَنَّهَا تَكَلَّمُ نَفْسَهَا: ” صَباحُ الخيرِ يا بُني”.
التفَتَ نَحْوَها، مُتَفَاجِئًا بِوُجُودِها فِي ذَٰلِكَ اَلوَقِتِ اَلمُبَكِّرِ، وَرَدَّ:
– ” صَباحُ النُّورِ يَا أُمِّي.”
– “ظَنَنْتُكَ لَنْ تَعُودَ هَذَا اَلشْتَاء.”
اِقْتَرَبَ مِنْهَا، قَبَّلَ يَدَهَا بِخُشُوعٍ صَامِتٍ، وَأَخَذَتهُ إِلَى صَدرِهَا تَضُمُّهُ بِحَنَانٍ, ثُمَّ اِسْتَأْذَنَهَا:
– ” أُصَلِّي اَلفَجْرَ قَبلَ أن تُشرِقَ الشَّمسُ وَأَعُودُ.”
وَبَعْدَ أَنْ أَدَّى صَلاتَهُ فِي اَلزَّاوِيَةِ اَلتَّقْلِيدِيَّةِ الَّتِي اعْتَادَهَا بِغُرفَتِهِ، عَادَ بِخُطًى وَادِعَةٍ لِيَجْلِسَ إِلَى جَانِبِهَا. بَدَا كَطِفْلٍ عَادَ مِنْ دَهْشَةٍ بَعِيدَةٍ، ثُمَّ قَالَ، وَهُوَ يُحَدِّقُ فِي تَفَاصِيلِ وَجْهِهَا الَّتِي يَعْرِفُهَا أَكْثَرَ مِنْ نَفْسِهِ:
– ” اِشْتَقْتُ إِلَيْكِ يَا أُمِّي… نَعَمْ، كَمِ اِشْتَقْتُ! ………….
هُدُوءُكِ… اِسْتِيقَاظُكِ قَبْلَ اَلْجَمِيعِ… حَتَّى صَمْتُكِ… اِشْتَقْتُ لِكُلِّ شَيْءٍ فِي هَذَا اَلبَيْتِ.”
أَجَالتْ نَظَرَها فِي مَلَامِحِهِ. كَانَ أَكْثَرَ هُدُوءً، لَكِنَّ ذَٰلِكَ اَلبَرِيقَ الَّذِي طَالَمَا وَسَمَ عَيْنَيْهِ، قَدْ خَفَّ قَلِيلًا. صَبَّتْ لَهُ اَلشَايِ، وَجَلَسَتْ تُرَاقِبُهُ فِي صَمْتٍ.
شَرِبَا بَعْضَ الرَّشَفَاتِ، ثُمَّ قَطَعَتْ اَلهُدُوءَ بِسُؤَالٍ بَدَا أَنَّهُ ظَلَّ مُعَلَّقًا مُنْذُ عَامٍ:
– ” أَلَمْ تَقُلْ إِنَّكَ سَتَدْخُلُ كُلِّيَّةَ اَلهِنْدَسَةِ؟ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ مُهَنْدِسًا، تَبنِي بُيُوتًاً لِلفُقرَاء وتَصْنَعُ اَلْجَمَالَ فِي ْأَمَاكِنِهِم. مَاذَا حَدَثَ؟”
تَرَدَّدَ، وَأَطَالَ اَلنَّظَرَ فِي اَلبُخَارِ اَلمتَّصَاعِدِ مِنْ فُوهَةِ اَلكُوبِ، ثُمَّ قَالَ بِصَوْتٍ خَافِتٍ:
– ” لَمْ أُغَيِّرْ حُلْمِي… فَقَطْ… وَجَدْتُنِي أَفْتَشُ عَنْهُ فِي مَكَانٍ آخَرَ. مَكَانٍ اِسْمُهُ “كُلِّيَّةُ اَلْآدَابِ!”
اِبْتَسَمَ، كَأَنَّهُ يُقِرُّ وَيُبَرِّرُ فِي آنٍ مَعًا:
– ” أَرَدْتُ أَنْ أَفْهَمَ اَلْحِكَاياتِ يَا أُمِّي، قَبْلَ أَنْ أَبْدَأَ بِتَجْمِيلِ جُدْرَانِهَا.”
سَكَتَتْ لُوَهْلَةٍ، كَأَنَّهَا تُقَلِّبُ اَلمَعْنَى فِي ذِهْنِهَا. ثُمَّ هَمَسَتْ، دُونَ أَنْ تُخْفِي مَا فِي صَوْتِهَا مِنْ قَلَقٍ أُمُومِيٍّ:
– ” اَلْحِكَاياتُ لَا تُطْعِمُ خُبْزًا، وَلَا تَبنِي بُيُوتاً يَا وَلَدِي.”
أَطْرَقَ بِرَأْسِهِ لَحْظَةً، ثُمَّ رَفَعَهُ قَائِلًا:
– ” وَلَا اَلْعِمَارَاتُ، يَا أُمِّي… إِنْ كَانَتْ بِلَا رُوحٍ.”
تَأَمَّلَتْهُ طَوِيلًا، ثُمَّ اِبْتَسَمَتْ، وَهَزَّتْ رَأْسَها فِي مَزِيجٍ مِنَ اَلحَيْرَةِ وَالرِّضَا:
– ” كَلَامُكَ يُشْبِهُكَ… لَا يُفْهَمُ مِنَ اَلمَرَّةِ اَلاُولَى.”
ضَحِكَ، وَقَالَ بِصَوْتٍ خَافِتٍ فِيهِ مَا يُشْبِهُ اَلْاِعْتِرَافِ:
– ” وَأَنَا… لَم أَعُد أَفهَمهُ, ولَا يُفْهَمُنِي أَحَدٌ أَصْلًا، إِلَّا هُنَا.”
اِبْتَسَمَتْ، ثُمَّ مَدَّتْ يَدَهَا وَرَبَّتْ عَلَى كَتِفِهِ بِحَنَانٍ خَالِصٍ، يُشْبِهُ دُعَاءَ اَلْأُمَّهَاتِ:
– ” اَلْمُهِمُّ أَنْ تَعْرِفَ أَيْنَ تَمْشِي، حَتَّى لَوْ مَشَيْتَ وَحْدَكَ.”
فِي تِلْكَ اَللَّحْظَةِ، أَحَسَّ أَنَّ اَلبَيْتَ قَدِ اَتَّسَعَ فَجْأَةً، وَأَنَّ اَلزَّمَنَ، رَغْمَ شَغَبِهِ اَلْمُعْتَادِ، قَدْ جَلَسَ إِلَى جَوَارِهِمَا أَيْضًا، وَأَحَنَى رَأْسَهُ اِحْتِرَامًا.
هَدِيرُ اَلْعَصَافِيرِ فِي اَلخْارِجِ لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدَ زَقْزَقَةٍ، بَلْ جُوْقَةً كَامِلَةً مِنَ اَلرْفرفِةِ وَاَلتَّصَاعُدِ، كَأَنَّ اَلاَغْصَانَ نَفْسَها تُغَنِّي بِصَوْتٍ أَخْضَرَ حَيٍّ.
عَادَ إِلَى غُرْفَتِهِ، وَتَمَدَّدَ فَوْقَ سَرِيرِهِ اَلخَشَبِيِّ، يُطِيلُ اَلنَّظَرَ فِي سَقْفِ اَلغُرْفَةِ اَلطِّينِيَّةِ، اَلَّتِي، عَلَى تَوَاضُعِهَا، اِحْتَفَظَتْ بِحَرَارَةٍ لَا يُمْكِنُ لِأَسْمِتِ اَلمَدِينَةِ أَنْ يُشَبِّهَها أَو يُمَاثِلَ دِفأَهَا.
كَانَ هَذَا اَلصَّبَاحُ، وَاحِدًا مِنْ تِلْكَ اَلصَّبَاحَاتِ اَلنَّادِرَةِ اَلَّتِي لَا يُطْلَبُ فِيهَا شَيْءٌ، وَلَا يُنْتَظَرُ مِنْهَا شَيْءٌ. مُجَرَّدُ صَبَاحٍ مُفْتُوحٍ عَلَى اَلذْكَرَى.
بَعْدَ استراحةٍ للَحَظَاتٍ، نَزَلَ إِلَى سَاحَةِ اَلدَّارِ ثَانِيَةً، يَفْتَشُ عَنْ أُمِّهِ، فَوَجَدَهَا تُعِدُّ اَلحطْبَ قُرْبَ اَلتَّنُّورِ، تَعِدُّ اَلْعَجْنَ وَتَسْتَعِدُّ لِلْخُبْزِ.
أَمْسَكَ قِطعَةً مِنَ الحَطَبِ، وَحَدَّقَ فِيهَا كَأَنَّهَا ذَاكِرةً صَغِيرَةٌ، فِيمَا عَيْنَاهُ اَلنِّصْفُ مُغْمَضَتَيْنِ تُنْصِتَانِ لِمُنَادَاةٍ بَعِيدَةٍ لَا تُقَالُ.
قَالَ وَهُوَ يُرَاقِبُهَا تُهَيِّئُ اَلتَّنُّورَ:
– ” أَمَا زِلْتِ تَخْبِزِينَ عَلَى هَذَا اَلتَّنُّورِ؟”
أَجَابَتْ دُونَ أَنْ تَلْتَفِتْ، كَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ:
– “لَنْ تَجِدَ فِي أَيِّ مَخْبَزٍ خُبْزًا يُشْبِهُ خُبْزَ أُمِّكَ… اِسْأَلْ أَيَّامَكَ يَا نُعْمَانُ، كَمْ كُنتَ تَسْبِقُنِي صَبَاحًا إِلَى هَذَا اَلتَّنُّورِ، تُعِدُّ اَلَحْطبَ، وَتُشْعِلُ اَلنَّارَ حَتَّى يُصَارَ جَمْرًا، ثُمَّ تَقِفُ بِجَانِبِي تُحْضِرُ أَقْرَاصَ اَلْعَجِينِ بِيَدَيْكَ اَلصَّغِيرَتَيْنِ.”
ضَحِكَ، وَاقتَرَبَ مِنهَا بِخِفّةٍ كَشَابٍّ يَعُودُ إِلَى لُعبَتِهِ القَدِيمَةِ:
– ” وَمَا زِلتُ أَفعَلُ، يَا أُمّي! فَإنْ أَرَدتِ، سَأَقُومُ بِذَلِكَ عَنكِ اليَومَ… ارتَاحِي أَنتِ.”
ضحكتْ، وهي تهمُّ برفعِ الغطاءِ عن العجينِ المُخمّر، وقالتْ بنبرةٍ مازحةٍ تُخبّئُ بين حروفها ألفَ ذكرى:
– ” ومَن يضمنُ لي أنّكَ لن تنثرَ الطّحينَ على ثيابِك، كما كنتَ تفعلُ في طفولتِك حينَ تُصرّ على دعكِ العجينِ بيدَيكَ الضّعيفتين؟”
قَالَ وَهُوَ يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى قَفَّةِ اَلحَطَبِ بِثِقَةٍ طُفُولِيَّةٍ نَاضِجَةٍ:
– ” آنَذَاكَ كُنتُ أَتَعَلَّمُ… أَمَّا اَلْآنَ، فَصِرْتُ أُسْتَاذًا فِي إِشْعَالِ اَلنَّارِ، وَسَيِّدًا فِي قَلْبِ اَلرّمَادِ.”
تَبَادَلَا نَظَرَاتٍ مَازِحَةً دَافِئَةً، ثُمَّ جَلَسَ إِلَى جَوَارِ اَلتَّنُّورِ يُرَاقِبُ اَللَّهَبَ يَتَصَاعَدُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَفِي عَيْنَيْهِ شَوْقٌ لَمْ يَبْرُدْ، كَأَنَّهُ يُحَاوِلُ أَنْ يَسْتَعِيدَ، بِنَفْسِهِ، شَيْئًا مِنْ تِلْكَ اَلسَّنَوَاتِ اَلَّتِي مَرَّتْ بِخِفَّةٍ وَلَمْ تَسْتَأْذِنْ أَحَدًا.
كَانَ فِي صَوْتِهِ نَبْرَةُ مَن يَتَمَنَّى اَلبَقَاءَ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْهَا،
وَكَانَتْ فِي حَرَكَاتِهِ رَغْبَةٌ دَفِينَةٌ بِالْاِنْتِمَاءِ…
كَأَنَّ اَلْمَدِينَةَ لَمْ تَحْتَضِنْهُ كَمَا يَنْبَغِي، أَوْ لَمْ تَمْنَحْهُ غَيْرَ صَخَبٍ لَمْ يَفْهَمْهُ بَعْدُ.
كَانَ اَلْجَمْرُ فِي اَلتَّنُّورِ قَدْ بَدَأَ يُسَجَّرُ جَيِّدًا، وَرَاحَتْ رَائِحَةُ اَلخبزِ تَمْزِجُ بَيْنَ نُضْجِ اَلْعَجِينِ وَنَداوَةِ اَلصَّبَاحِ اَلْأُولَى، حَتَّى عَطَّرَتِ اَلمَكَانَ كُلَّهُ بِعَطَرٍ لَا يُصَاغُ إِلَّا بِذَاكِرَةِ اَلطِّينِ وَاَلْحَنِينَ.
حِينَ أَخَذَ مِنْهَا رَغِيفَاً سَاخِنًا، وَرَاحَ يَأْكُلُ مِنهُ عَلَى مَهَلٍ، قَالَتْ، وَهِيَ تَغْمِزُهُ بِعَيْنٍ نِصْفُهَا دُعَابَةٌ وَنِصْفُهَا رَجَاءٌ:
– ” هَلْ سَتَبْقَى مَعَنَا هَذَا اَلاَسْبُوعِ؟ أَمْ أَنَّ دِمَشْقَ لَا تَسْمَحُ لِأَحَدٍ أَنْ يُطِيلَ اَلغِيَابَ عَنْهَا؟”
تَرَدَّدَ قَلِيلًا، ثُمَّ أَجَابَ:
– ” سَأبْقَى… مَا اِسْتَطَعْتُ. ثُمَّ… مَن يَدْرِي؟ رُبَّمَا عُدْتُ نِهَائِيًّا… فِي يَوْمٍ مَا.”
نَظَرَتْ إِلَيْهِ بِدَهْشَةٍ خَفِيفَةٍ، ثُمَّ سَرَحَتْ بِبَصَرِهَا بَعِيدًا، إِلَى مَكَانٍ لَا يَرَاهُ إِلَّا قَلْبُهَا، وَقَالَتْ بِصَوْتٍ كَأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ بِئْرٍ قَدِيمٍ:
– ” لَا تَعُدْ… إِلَّا إِنْ كَانَ لَكَ حُلْمٌ هُنَا. اَلْحَنِينَ وَحْدَهُ لَا يَبْنِي حَيَاةً، يَا نُعْمَانُ.”
سَادَ بَيْنَهُمَا صَمْتٌ رَقِيقٌ، لَيْسَ كَالصَّمْتِ اَلْعَابِرِ، بَلْ ذَاكَ اَلَّذِي يَهْمِسُ فِي اَلقُلُوبِ دُونَ أَنْ يُقَالُ.
كلُّ شيءٍ في السّاحةِ بدا متناغمًا: رائحةُ الأرضِ المُبلّلة، يَختَلِطُ مَعَ رَائِحَةِ الخُبزِ المُتَصَاعِدِ، صوتُ أُمّهِ الخافتُ وهي تُتمتمُ دعاءً قديمًا… وأشياءُ لا تُفسَّرُ إلّا في هذا البَيت، وهذاَ الفِناء، وهذهَ الطمأنينة.
حينَ امتلأ صدرُهُ بدفءِ الخُبزِ، وشيءٍ من سكينةٍ نادرةٍ لم يعرفْها في المدينة، عادَ نُعمانُ إلى غُرفتِهِ، كانَ في صدرِهِ شيءٌ من دفءِ الخُبزِ، وطمأنينةٌ خفيّةٌ لَم يألَفْها في المدينةِ. خلعَ مِعطفَهُ الصُّوفِيَّ بِحركةٍ بطيئةٍ، كأنَّما يَنزِعُ عن كتفَيْهِ ما تراكمَ عليهما من شَوقٍ وأيّام، ثمَّ جلسَ على سريرِهِ الخشبيِّ، ومدَّ كفَّهُ يتحسَّسُ شرشفًا مطرَّزًا بِوُرودٍ قديمةٍ، كانت أُمُّهُ قد خاطتْهُ لهُ في عامِهِ الجامعيِّ الأوّل.
تمدَّدَ على الفراشِ، وأغمضَ عينيهِ. غيرَ أنَّ النَّومَ لم يأتِ. شيءٌ ما في داخلهِ بقيَ يقِظًا، يَنبِضُ تحتَ جلدِهِ كحُلمٍ قديمٍ راحَ يتململُ من صَمتِهِ، ويطرقُ أبوابَ الذّاكرةِ برفقٍ لا يخلو من إصرار.
ثمّةَ شيءٌ في الداخلِ ظلّ يوقِظهُ…
كَأنَّ حُلمًا نائمًا تحتَ جِلدِه بدأَ يتحرّك، يطرُقُ أبوابَ الذّاكرةِ دونَ استئذان.
” هَل كُنتُ أهربُ حينَ اخترتُ الآدابَ بدلَ الفنون؟ ….. أمْ كُنتُ أبحثُ عن صوتي في النُّصوصِ لا في الألوان؟”
تمتمَ بالسُّؤالِ كأنّهُ يُفكّرُ بصوتٍ مسموع، بينما عيناهُ تحدِّقانِ في سقفِ الغرفةِ الخشبيّ، وقد تسلّلتْ فيه تشقّقاتٌ دقيقةٌ تُشبهُ أوردةً غائرةً في جسدِ بيتٍ عتيق.
كانَ يظنُّ أنّ البُعدَ عن ضجيجِ المدينةِ سيمنحُهُ وضوحًا… لكنَّ البُعدَ، بدلاً من أنْ يُجِيب، راحَ يسألهُ مرّةً أخرى.
تذكَّر قاعةَ الرّسمِ الأولى… كيفَ كانتْ رائحةُ الألوانِ تُسكِره، وكيفَ خذلتْهُ قدرتُهُ على الأداءِ الحركيِّ حينَ وقفَ يشرحُ فكرتَهُ عن الضّوءِ والظلّ.
تذكَّرَ تلعثمَهُ أمامَ لجنةِ القُبول، التي أحبّتْ لوحتَهُ المرسومةَ بالرّصاص، لكنْ حينَ طُلِبَ منهُ أن يُجسِّدَ ما رسمَهُ في مشهدٍ حَقِيقِيٍّ، يُطَبِّقُهُ. وَتُنَفِذُه طَالِبَةٌ مُتَمَرِّسَةٌ اقتَرَحَتهَا الَّلجنَةُ الفَاحِصَةُ كَي يُعِيدَ تَشكِيلَ لَوحَتِهِ مِن خِلَالِهَا فَيَتَنَاغَمُ المَشهَدُ وَاقِعَاً مَعَ لَوحَتِهِ…
وَفَورَ أنْ بَدَأَتْ زَمِيلَتُهُ تُهيّئُ نَفسَهَا لِتَنفِيذِ مَا سَيُشَكِلُهَا نُعمَانُ عَلَيهِ لِيَكتَمِلَ المَشهَدُ، وَبَدَأَت تُخَفِفُ بَعضًا مِن مَلَابِسِهَا فَوقَ المِنَصَّة، تَجَمَّدَ فِي مَكَانِه. شَعَرَ أنَّ يَدَيهِ تَرتَجفَانِ, وأنَ جِسَدَهُ سَيَخذلُه إِذَا مَا اقترَبَ مِنهَا، فَكَيفَ بِهِ إِذَا لَمَسَهَا, وأَنَ لسانَهُ سَيَنكفئُ، فَمَا بِهِ مِن حَرَجٍ صَارَ لا يُحتمل، فَتَحَجّجَ بألمٍ مُفاجِئٍ فِي مَعِدَتِهِ، وَغَادَرَ القَاعَةَ مُعتَذِرًا، قَبلَ أنْ يَتَحَوّلَ خَجَلُهُ إِلَى كَارِثَة.
رُبّما… لم يَكُنْ هروبًا مِنَ الحُلمِ، بَل مِنَ الحَرَجِ. كَمَا بَرَّرَ لِنَفسِهِ, أَو مِنَ العَجزِ الذِي خَافَ أنْ يُفسَّر فشلًا.
ولِمَ كَانَ قَد وافَقَ بَعدَهَا عَلَى اقتراحِ “مُنى”، حينَ قالت لهُ بهدوء, بَعدَ الحِوارِ الطوِيلِ الذي دارَ بينهما لاحقاَ:
“ربّما لا تحتاجُ إلى الألوانِ الآن… ربّما تحتاجُ إلى النّصوص، حيثُ تستطيعُ أنْ تقولَ كلَّ شيءٍ دونَ أنْ تنظرَ إلى أحد.”؟.؟
لكن…
هَلْ تكفي الكلماتُ وحدَها لِترميمِ الداخل؟
هَلْ يَكفي أنْ نقرأَ الحياةَ، دونَ أنْ نرسمَها أو نعيشَها كاملةً؟
جلسَ أخيرًا، وأخرجَ من حقيبتِه مُدَوَنَةَ صغيرًة، دفتريَّةَ الشّكلِ والبُنيَة، كانَ قد بدأَ يدوّنُ فيه تأمّلاتِه الأولى مُنذَ فَصلِه الجامعيِّ الأوّل.
قلَّبَ صفحاتِه على مهل، ثمّ توقّفَ عندَ سطرٍ كُتبَ بخطٍّ متردّدٍ ذات مساء:
– ” المدينةُ تُغريني، لكنّها لا تعترفُ بي. والرّيفُ يفهمُني، لكنّه لا يستطيعُ أنْ يأخذني كاملًا.”
أغلقَ الدفترَ بِهدوء، وتمتمَ بصوتٍ لا يسمعهُ سواه:
– ” أحتاجُ أنْ أكتبَ هذا الفصلَ من حياتي بيدي… لا أنْ أتركَهُ يُكتَبُ عنّي.
في الخارج، كانتْ أمُّهُ قد فرغتْ من الخُبزِ، غَسلتْ يديها، وجلستْ تحتَ شجرةِ الرّمان، تمسحُ عرقَ الجبينِ بطرفِ وشاحِها، تنتظرُ أنْ ينزلَ ابنُها من جديد.
لكنّه ظلَّ هناك…
وكأنه في الأعلى البعيد، ساكنًا كأثرٍ قديم، يُقلّبُ حياتَهُ كما تُقَلَّبُ صفحاتُ روايةٍ كُتِبت على عَجَل.
وفي الأسفلِ…
كانَ والدهُ قدِ استيقظَ توًّا، وصوتهُ الجهوريُّ يعلو بنداءِ رقيق:
– ” نُعمان! يَا ابني… الفطور جاهز.”
جلسَ الأب مع أسرته إلى مائدةِ الإفطارِ، يُقلبُ بين يديهِ رغيفًا ساخنًا، وينتظرُ أن ينضمَّ إليه ابنه، كأنّ بينهما وعدًا مؤجلًا لعامٍ، ولكن هل حان أن يُذكره به؟
ربّما الآن فقط… تبدأُ الفُصولُ الحقيقيّة.
نزلَ “نُعمان” بخطًى ثقيلةٍ، كمنْ يَحملُ على كتفَيه عبءَ حلمٍ لم يكتمل.
ألقى تحيّةَ الصباحِ بصوتٍ خفيض، وقبَّلَ يدَ والدهِ على عادتهِ، ثمّ جلسَ إلى المائدة.
لكنّه لم ينطقْ ببنتِ شَفَة.
كان كمنْ لهُ فمٌ يأكلُ، لكنْ لا لسانَ لهُ يحكي.
الأسرةُ حولَه تُجري أحاديثَها الصباحيّةَ بأريحيةٍ: يَسأَلُونَهُ كَيفَ خَطَرُوا عَلَى بَالِهِ! وَمَتَى عَادَ! …. وَلِأَنَّهُ لَم يَكُن يَنتَبِهُ إِلَى تَسَاؤُلَاتِهِم فَلَم يُجِب, وَاستَمَرَّت بَينَهُم أحَادِيثُ أخرَى ….عن الطعام، وآخرُ عن قريبةٍ أنجبت، وثَالِثٌ عَن مَشَاكِلِ المدرسةِ… كان موجودًا بينهم جسداً بِلَا رُوح، يَستَرِقُ الُّلقمَةَ، ويغيبُ عَنِ المَعنَى. رمقتهُ أُختهُ بِنَظرَةٍ خَاطِفَةٍ ثمّ هَمَسَت:
– “كأّنَّ نُعمَانَ اليَومَ بِه شَيءٌ عَلَى غَيرِ العَادَةِ…”
لكنّه لم يُعلّق. ومَا إن أَنهَى طَعَامَهُ، حَتَّى مَسَحَ يَدَيهِ، وَاعتَذَرَ بِصَوتٍ خَافِتٍ:
– “اسمَحُوا لِي… يَجِبُ أَن أَعُودَ إِلَى الغُرفَةِ.”
نَهَضَ مُسرِعًا، وعَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيهِ فِي عَالَمٍ آخَرٍ، كأنّهُ يُطاردُ شيئًا انفلتَ منه.
هُناكَ، فِي غُرفَتِهِ، جَلَسَ عَلَى طَرَفِ السّرِيرِ، يُحدّقُ فِي الجِدَارِ، وَيُتَمتِمُ كَأنّهُ يُحاكِمُ ذَاكِرَتَه :
– ” أحقًّا كُنتُ أَهرُبُ حِينَ اختَرتُ كُليّةَ الآدَابِ بَدلًاً مِنَ الفُنُونِ الجَمِيلَةِ؟ أَكُنتُ أَبحَثُ عَن صَوتِي بَينَ السُّطُورِ، لَا فِي الأقلامِ والألوَانِ؟ أَكَانَ ذَلكَ هُرُوبًا؟ أمْ بَحثًا عَن مَسَاحَةٍ لَا تَتَطلّبُ مِنِّي أَن أَرتَجِفَ، أَو أَخجَلَ أَمَامَ الآخَرِينَ؟”
حِينَ سَكَتَت نَفسُهُ سَادَ الصَّمتُ فِي الغُرفَةِ، لَكِنْ بِدَاخِلِهِ كَانَ ثَمّةَ صَخَبٌ لَا يُطَاق.
صَوتُ “مُنى” عَادَ إِلَيهِ، كَأنّهُ يُعادُ بثُّه مِن شَرِيطٍ مَحفُوظٍ فِي أَعمَاقٍ لَم تَنَم:
– “أَنتَ لَم تَهرُبْ مِنَ الفَنّ يَا نُعمَانُ… أَنتَ هَرَبتَ مِن جَسَدِكَ.”
هَزَّ رَأسَهُ، كَأنّهُ يَرَاهَا الآنَ تَقِفُ فِي الزّاوِيَةِ، تَقُولُهَا بِعَينَينِ لَا تَقبَلَانِ المُجَامَلَةَ.
– ” لَم أَكُنْ مُستَعِدًّا…”، هَمَسَ فِي دَاخِلِهِ،
– ” لَم أَكُنْ أَعرِفُ كَيفَ أَضَعُ جَسَدِي فِي قَلبِ المَعنَى…
كُنتُ أَرسُمُ لِأنّي أُحِبُّ انكِسَارَاتِ الضَّوءِ، لَا لِأَقِفَ أَمَامَ أَحَدٍ يُشَاهِدُ خَيبَتِي.”
وَسَمِعَ صَوتَهَا ثَانِيَةً… تِلكَ النَّبرَةُ التِي لَا تَترُكُ لَهُ مَنفذًا حِينَ يُحَاوِلُ التَّمَلّصَ:
– ” لَكِنَكَ رَسَمتَ بِالأَبيَضِ وَالأَسوَدِ مَا لَا يَستَطِيعُ شَاعِرٌ أَن يَقُولَهُ… فَلِمَاذَا لَم تَبقَ هُنَاكَ؟”
– ” لِأَنَّ الَّلَوحَةَ وَحدَهَا لَا تَحمِي صَاحِبَهَا…”، أجَابَهَا بِصَمتٍ دَاخِلِيّ، “وَأَنَا كُنتُ بِحَاجَةٍ إِلَى جِدَارٍ يُغَطّي خَوفِي.”
ثَمّ أَسنَدَ ظَهرَهُ إِلَى الحَائِطِ، وَأَغمَضَ عَينَيهِ.
– ” كُلُّ شَيءٍ يُمكُنُ أَن يَكُونَ فَنًّا…”، تَمتَمَ، “حَتَّى الصَّمتُ… إِنْ كُتِبَ بِصِدقٍ.”
فَتَحَ عَينَيْهِ عَلَى سَقفِ الغُرفَةِ الطِّينيَّةِ، وَلَاحَظَ فِيهِ تَشقُّقاتٍ صَغِيرَةٍ كَأنّهَا عُرُوقُ ذَاكِرَةٍ قَدِيمَةٍ شَقَّهَا الغِيَابُ. طَالَ صَمتُهُ، ثُمَّ تَنَفَّسَ بِبُطءٍ، كَأَنَّهُ يَختَبِرُ نَغمَةَ قَرَارٍ لَم يَكُن قَادِراَ عَلَى أَن يَجعَلهُ مُكتَمِلاً.
رُبّمَا كَانَ هُنَاكَ، فِي تِلكَ الَّلحظَةِ، أوّلُ هُرُوبٍ مِنَ الحُلمِ. لَا مِن الحُلمِ نَفسِهِ، بَل مِنَ الحَرَجِ. مِن خَوفِهِ أن يَفضَحَ عَجزَهُ فِي عَالَمٍ يَتَطلَّبُ مِن الجَسَدِ أَن يَنطِقَ كَمَا تَنطِقُ الرّيشَةُ. يَومَهَا، استَمَعَ إِلَى اقتِرَاحِ “مُنَى” أَن يَلتَحِقَ بِ” “كُليّةِ الآدَابِ”، حَيثُ يُمكِنُ لَلكَلِمَاتِ أَن تَفعَلَ مَا لَا يَفعَلُهُ الجَسَدُ.
وَعَادَ لِيَتَذكَّرَ: الَّلحظَةَ التِي دَخلَ فِيهَا قَاعَةَ القبُولِ فِي كُلّيَةِ الفُنُونِ، يَحمِلُ لَوحَتَهُ بِقَلبٍ مُضطَرِبٍ، وَالَّرائِحَةُ الزَّيتَّيَةُ لِلأَلوَانِ تُسكِرَهُ كَمَا يُسكِرُ المَطَرُ حَوَاسَّ العَائِدِينَ إِلَى الُّطُفُولَةِ. كَيفَ وَقَفَ أَمَامَ الَّلجنَةِ، تَلَعثَمَ، نَظَرَ إِلَى الزَّمِيلَةِ التِي سَتُشَارِكُهُ المُحَاكَاةَ، إِلَى عَينَيهَا، إِلَى مَلَامِحِهَا المَكشُوفَةِ، إِلَى كَتِفٍ عَارٍ …. رُبَّمَا… وَخَافَ.
قَالَت “مُنَى” يَومَهَا، وهُمَا يَسِيرانِ فِي شَوَارِعِ المَدِينَةِ:
– ” كَانَ يَكفِي أَن تَنظُرَ إِلَى الَّلَوحَةِ، لَا إِلَى جَسَدِ الفَتَاةِ. لِمَاذَا خَلَطتَ بَينَ الفِكرَةِ وَمَا بَينَ مَا أَظهَرَت تِلكَ الفَتَاة؟”
رَدَّ عَلَيهَا، مُحرَجًا:
– ” لِأنّنِي لَم أَتَعَلّم بَعدُ كَيفَ أُفكّكُ الجَمَالَ دُونَ أَن أَرتَبِكَ أَمَامَهُ.”
ضَحِكَتْ بِمَرَارَةٍ:
– ” وَهَل الكَلِمَاتُ أَرحَمُ؟ أَلَيسَتِ القَصَائدُ أَيضًا أَجسَادًا؟”
أَطرَقَ آَنذَاكَ، كَما يُطرِقُ الآَنَ.
– ” لَعلّي قَبلتُ بالأدَبِ لِأنّهُ لَا يُعَرّينِي كَمَا تَفعَلُ اَلألوَانُ. هُنَا، أَختَبِئُ خَلفَ الحُرُوفِ، وَأُعِيدُ تَرتِيبَ خَيبَتِي فِي سَطرٍ، لَا فِي ارتِبَاكِ يَدِي”.
قَالَت مُنَى، وَالهَواءُ كَانَ بَارِداً تِلكَ الَّليلَةِ:
– “لَكِنَّ الأَدَبَ الحَقِيقِيَ لَن يَترُكَكَ تَتَوَارَى بَينَ السُّطُورِ. سَيَطلُبُ مِنكَ أَن تُنزِلَ القِنَاعَ. أَن تَكتُبَ نَفسَكَ، لَا أَن تَتَخَفّى خَلفَهَا.”
– ” وَأَنَا؟ هَل أَنَا مُستَعِدٌّ لِذَلِكَ؟” تَسَاءَلَ فِي نَفسِهِ, وبقي السؤالُ معلَّقًا في الغرفة، كالضوءِ الكَسيرِ في زواياها.
– ” وهل تكفي الكلماتُ لترميم الداخل؟” همسَ بها نُعمان، هذه المرّة بصوتٍ عالٍ.
كأنَّ الإجابةَ قَد تأخّرت، أو كأنَّها كانت دومًا هناك، في عيني “منى”، وهي تقول له:
– “الَّداخِلُ لَا يُرَمَّمُ بِالكَلِمَاتِ وَحدَهَا، بَل بِالحَقِيقَةِ. اكتُب، نُعمَان… لَكِن لَا تَكذِب!.”
ظَلّ مُمَدَّدًا عَلَى السَّرِيرِ الخَشَبِيّ، وكَأنَّ الهَواءَ يَلفَحُ جَبِينَهُ بِنُعُومَةٍ خَفِيفَةٍ، لَكِنَّ صَدرَهُ كَانَ يَضِيقُ، كَأنّ الغُرفَة تَصغُر، ويَعلُو سَقفُهَا عَليه كُلّمَا غَاصَ أَكثَرَ فِي ذَاكِرَتِهِ.
– ” لَم أَكُن مَرِيضًا يَا مُنَى، كَذَبتُ فَقَط لِأَهرُبَ. لَم يَكُن جَسَدِي يُطِيعُنِي… وَلَا نَظَرِي يَرحَمُنِي.
وَسَمِعَ صَوتَهَا، حَيًّا فِي رَأَسِهِ، بِنَبرَتِها التِي تَعرِفُ كَيفَ تُنَقّبُ تَحتَ سِطحِ الكَلِمَاتِ:
– ” أَتَعرِفُ مَا مُشكَلَتُكَ؟ لَيسَت فِي الخَوفِ. بَل فِي أَنَّكَ لَم تَكُن مُستَعِدًّا لِأَن تَرَى الجَمَالَ فِي جَسَدٍ حَيّ، دُونَ أَن يُربِكَكَ.”
صَمَتَ طَوِيلاً ثُمَّ أَجَابَهَا فِي سِرِّهِ، كَمَا لَو أَنَّهَا قَابِعَةٌ هُنَاكَ إِلَى الجَانِبِ الآَخَرِ مِنَ الغُرفَةِ، وَتَارَةً, وَاقِفَةٌ عِندَ البَابِ مُغلِقَةً عَلَيهِ جَمَيعَ مَنَافِذِ الغُرفَةِ:
– ” لَم أَكُن أَعرِفُ كَيفَ أَنظُرُ دُونَ أُن أُرتُبِك. كَانَت تَرتَدِي كَنزَةً قُطنِيَّةً ضَيّقَةً، وَ بِنطَالاً يُظهِرُ تَفَاصِيلَهَا أَكثَرَ مِمَّا أَحتَمِلُ. لَم أَستَطِع أَن أَرَى ” الشَّكلَ ” كَمَا يُفتُرَضُ أَن أَرَاهُ فِي لَوحَتِي… رَأَيتُ الأُنثَى، وَفَقَدتُ القُدرَةَ عَلَى تَطوِيعِ هَذَا الجَسَدِ أَو تَطوِيعِهِ لِهَذِهِ الَّلوحَةِ التِي رَسَمتُهَا”.
– “لَكِنَّهَا زَمِيلَة، يَا نُعمَان. لَم تُعَرّ نَفسَهَا. أَنتَ مَن عَرّاهَا فِي خَيالِك.”
– ” أَعلَمُ ذَلكَ… وَلَكِن لَا أَظُنُّ إِنَّكِ قَادِرَةٌ عَلَى أَن تَفهَمِينِي. لأَنّ الخَيَالَ لَا يُلجَمُ أَحيَانًا. وَأَنَا لَم أَتَعَلَّم كَيفَ أُنَظّمُ انفِعَالِي بَعدُ. كَنتُ كَمَن يَرَى الحَقِيقَةَ فَجأَةً بِلَا غِلافٍ, فَكَيفَ وَأَنَا الذِي رَسَمَهَا وَالذِي أَعرِفُ كُنهَ شَخصِيَتَهَا.”
– ” إِذًا، لَو طُلبَ مِنكَ أَن تَرسُم امرَأَةً عَارِيَةً كَمَا فِي صُفُوفِ الفُنُونِ الأُخرَى، كُنتَ سَتَفِرّ إِلَى أَقرَبِ نَافِذَةٍ؟”
– ” رُبّما… أَو … لَا أَدرِي. لَكِن وَقتَهَا شَعَرتُ أَنَّنِي صَغِيرٌ جِدًّا أَمَامَ فِكرَةِ تَجسِيدِ لُغَةِ الجَسَدِ. وَكَأنّ الَّلوحَةَ أَكبَرُ مِنِّي، وَالَّزمِيلَةُ أَكثَرُ مِن شَكلٍ وَخُطُوطٍ.”
سَكَتَ قَلِيلًا. ثُمَّ تَمتَمَ في صَمتِهِ:
– ” خِفتُ أَن أَفعَلَ فَأُخُالِفَ قَنَاعَاتِي, وَإِن لَم أَفعَل .. فَلَا أَدرِي مَا الَّذِي كَانَ سَيَحصُلُ؟ أَو مَاذَا سَيعتَبِرُونِي؟ أَو رُبَّمَا سَأَفضَحُ جَهلِي.”
فجاءه صوت منى من جديد، كأنّها تبتسم بمكرٍ داخليّ:
– ” إذًا، قبلت بالأدب لأنّك تستطيع أن تُلبس الجسدَ استعارة؟”
– ” ليس تماما … إنما لجزء منه نعم… أو على الأقل، أو لأن الكلمة تُخفي أكثر ممّا تُظهر. أو تُظهر ما أختاره أنا، لا ما يُفرض عليّ.
– ” ما الجزء الذي كان جوابك منه نعم كما قلت؟”
– ” تشجيعك ودعمك لي في هذا المجال”
– ” وما الجزء الذي كان جوابك منه لا؟”
– ” جهلي بقواعد اللغة”
– ” ولكن أعلم أن درجاتك في الثانوية هي من أهلتك للدخول إلى قسم اللغة العربية, فكيف ذاك؟”
قُرِعَ البَابُ خَفِيفَاً لِيَدخُلَ وَالِدَهُ وَيَقُولُ بِاستِعجَالٍ مستغرباَ:
– ” لِم لَم تَبقَ مَعَنَا؟ ….. فَأنَا وَأُمُكَ وَإِخوَتُكَ قَدِ اشتَقنَا لَك! …. أَنَا ذَاهِبٌ إِلَى عَمَلِي الآنَ, وَسَنَتَحَدَّثُ عِندَمَا أَعُودُ فِي المَسَاءِ…., إِذَا كُنتَ بِحَاجَةٍ إِلَى شَيءٍ تَعَالَ إِلَيَّ فِي الدُّكَانِ!.”
ثُمَّ أَردَفَ قَبلَ أَن يُغَادِرَ:
– ” جَدُكَ يَنتَظِرُكَ فِي حَدِيقَةِ المَنزِلِ, يُريِدُ أَن يَرَاكَ وَيَتَحَدَّثَ إِلَيكَ, وَمَعَهُ جَارُنَا, لَا تَتَأخَرَ عَلَيهِمَا فَقَد اشتَاقَا إِلَيكَ أَيضَاً….. السلام عليكم!” وَأَغلَقَ البَابَ خَلفَهُ بِهُدوءٍ.
________________________________________
كَانَتْ شَمْسُ الشِّتَاءِ قَدْ مَالَتْ نَحْوَ جَنُوبِ السَّمَاءِ بَعْدَ سَاعَاتٍ مِنْ شُرُوقِهَا، تُرْسِلُ أَشِعَّةً دَافِئَةً تُلَامِسُ الفَضَاءَ الدَّاخِلِيَّ لِحَدِيقَةٍ فَسِيحَةٍ فِي بَيْتِ الجَدِّ أَبِي مَحْمُود، فَتَنْسَابُ عَلَى أَغْصَانِ الجَوْزِ وَالمِشْمِشِ العَتِيقَةِ كَوِشَاحٍ مِنْ حَرِيرٍ شَاحِبٍ، تَعْبَثُ النَّسَائِمُ بِمَا تَبَقَّى مِنْ أَوْرَاقِهَا، فَتَتَرَنَّحُ بِهَا كَذِكْرَيَاتٍ أَبَتْ أَنْ تُفَارِقَ. وَحْدَهُ الزَّيْتُونُ العَتِيقُ بَقِيَ بِهَيْبَتِهِ، مُحَافِظًا عَلَى أَوْرَاقِهِ كَمَا يَحْفَظُ الشَّيْخُ وَقَارَهُ.
فِي رُكْنٍ مُتَوَاضِعٍ، جَلَسَ نُعْمَانُ، مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ قَشِّيَّةٍ، يُرَاقِبُ سُقُوطَ الضَّوْءِ عَلَى كَفِّ جَدِّهِ، الَّذِي كَانَ يُصْلِحُ سُبْحَتَهُ بَعْدَ أَنْ انْفَرَطَ عِقْدُهَا، كَمَنْ يُحَاوِلُ لَمْلَمَةَ مَا تَبَقَّى مِنْ نِظَامٍ قَدِيمٍ.
عَلَى جَانِبٍ آخَرَ، كَانَ الجَارُ أَبُو رَشِيدٍ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيٍّ خَشَبِيٍّ، يَسْنِدُ كَفَّهُ عَلَى عَصًا دَقِيقَةٍ، وَيُصْغِي بِهُدُوءٍ، كَمَنْ يَنْتَظِرُ مَا سَيَأْتِي بَعْدَ سُكُونِ الرِّيحِ.
قَالَ الجَدُّ أَبُو مَحْمُود، وَهُوَ يُحَدِّقُ فِي وَجْهِ نُعْمَانَ بِنَظَرَةٍ تَحْمِلُ مَا بَيْنَ الحَيْرَةِ وَالحَذَرِ، صَوْتُهُ يَخْرُجُ مُتَثَاقِلًا، كَأَنَّهُ يُنَقِّبُ فِي صَدْرِ الزَّمَانِ :
– “يَا بُنَيَّ… لَقَدْ تَرَكْنَا لَكَ الطَّرِيقَ لِتَقْرَأَ وَتَتَعَلَّمَ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ، أَرَاكَ اليَوْمَ رَجُلًا. وَقَدْ آنَ لِلْوَقْتِ أَنْ أُحَدِّثَكَ حَدِيثَ رِجَالٍ، مَعَ أَنِّي، وَاللَّهِ، مَا تَعَوَّدْتُ مِثْلَ هَذَا الكَلَامِ لَا مَعَ أَوْلَادِي، وَلَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِمْ. كَانَ الحَدِيثُ بَيْنَنَا: افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ… ذَلِكَ مَا وَرِثْنَاهُ، وَعَلَيْهِ رَبَّيْنَا.
وَأَنْتَ… أَنْتَ تَعْلَمُ كَمْ أُحِبُّكَ، وَكَمْ كُنْتُ أَفْرَحُ وَأَنْتَ تَقْرَأُ لِي وَأَنْتَ صَغِيرٌ، وَكَيْفَ كَانَ صَدْرِي يَنْشَرِحُ بِكُلِّ حَرْفٍ تَلْفِظُهُ، وَلَكِنِّي… لَمْ أُظْهِرْ ذَلِكَ لَكَ، لِئَلَّا تَغْتَرَّ، وَ لِئَلَّا تَطْمَعَ.
وَلَكِنْ، مَا سَمِعْتُهُ مُؤَخَّرًا أَقَلَقَنِي… قِيلَ إِنَّكَ تُجَالِسُ الفَتَيَاتِ فِي الحَدَائِقِ، وَتَقْرَأُ كُتُبًا غَرِيبَةً، وَتَقُولُ: إِنَّ المَدِينَةَ عَلَّمَتْكَ النُّورَ. أَيُّ نُورٍ هَذَا، يَا نُعْمَانُ، الَّذِي يُبْعِدُكَ عَنَّا، حَتَّى عَنْ أُمِّكَ؟ أَلَيْسَ الحَيَاءُ، كَمَا قَالَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ‘شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ’؟ فَأَيْنَ حَيَاؤُكَ؟”
انْخَفَضَ رَأْسُ نُعْمَانَ بِهُدُوءٍ، كَمَنْ يُفَتِّشُ عَنْ كَلِمَاتٍ دُونَ جَدْوَى. ثُمَّ قَالَ، بِصَوْتٍ خَافِتٍ يَشُقُّ صَدْرَهُ شَقًّا:
– “لَا غُرْبَةَ، يَا جَدِّي… أَنَا… أُحَاوِلُ فَقَطْ أَنْ أَكُونَ ابْنًا بَارًّا. أُحَاوِلُ أَنْ أَفْهَمَ مَنْ أَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ذَاكَ العَالَمِ الَّذِي أَعِيشُهُ.”
تَحَرَّكَ الجَارُ أَبُو رَشِيد، وَابْتَسَمَ ابْتِسَامَةً خَفِيَّةً، كَمَنْ وَجَدَ ضَالَّتَهُ بَيْنَ سُطُورِ الحَدِيثِ. ثُمَّ قَالَ، وَفِي عَيْنَيْهِ بَرِيقُ إِدْرَاكٍ قَدِيمٍ:
– ” أَنَا أَيْضًا سَمِعْتُ، يَا حَاجّ… وَلَكِنِّي أَظُنُّ أَنَّ نُعْمَانَ لَا يُرِيدُ قَطْعَ جُذُورِهِ، إِنَّمَا يَبْحَثُ عَنْ لَوْنٍ خَاصٍّ لِظِلِّهِ. أَلَا تَذْكُرُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: ‘وَمَنْ لَا يُحِبُّ صُعُودَ الجِبَالِ… يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَرِ’؟”
تَوَقَّفَ لَحْظَةً، ثُمَّ تَابَعَ بِصَوْتٍ رَصِينٍ نَافِذٍ:
– ” الزَّمَانُ تَغَيَّرَ، يَا أَبَا مَحْمُود… نَحْنُ كُنَّا نَرَى النِّسَاءَ ظِلًّا لَا يُمَسُّ، وَلَكِنَّ اللَّهَ قَالَ: ‘وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا’… وَالسَّكَنُ، يَا صَدِيقِي، لَا يَأْتِي بِالخَوْفِ، بَلْ بِالشَّرَاكَةِ.”
هَزَّ الجَدُّ رَأْسَهُ بِبُطْءٍ، وَعَيْنَاهُ تَتَفَلَّتَانِ مِنْ ظِلِّ الذِّكْرَيَاتِ:
– “قَدْ كَانَ زَمَانُنَا بَسِيطًا، يَا أَبَا رَشِيد… لَا أَسْئِلَةَ، لَا وُجُوهٌ تُحَاوِرُ، وَلَا أَصْوَاتٌ تُجَادِلُ. كُنَّا نَصْمُتُ فِي حُضُورِ الكِبَارِ، وَلا نَتَكَلَّمُ إلا إِذَا طُلِبَ مِنَّا… وَهَذَا مَا عَنَاهُ الحَدِيثُ: ‘مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ.’”
وَكَأَنَّ حَاجِزًا انْكَسَرَ فِي نُعْمَان، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، وَقَالَ بِصَوْتٍ مُمْتَلِئٍ بِمَا كَتَمَهُ طَوَالَ السِّنِينَ:
– “لَكِنِّي مَا زِلْتُ أُؤْمِنُ بِتِلْكَ الحُدُودِ، يَا جَدِّي… وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخَافُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، مِنَ المَرَضِ مِنَ المَدرَسَةِ, مِن الاختِلاطِ بِالمُجتَمَع, حَتَّى النِّسَاءَ… كَأَنَّ نَظْرَةً صَافِيَةً مِنْ فَتَاةٍ تَعْنِي خِيَانَةً لِلْقِيمِ، أَوْ زَلَّةً فِي الطَّرِيقِ. كُنْتُ أَشْعُرُ، وَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُسَمِّي مَا أَشْعُرُ بِهِ.”
سَأَلَهُ جَدُّهُ، لا كَمَن يَسْتَفْهِمُ، بَلْ كَمَن يَسْتَنْكِرُ، وَفِي نَبْرَتِهِ خَلِيطٌ مِنَ الوَجَعِ وَالغَضَبِ:
– ” وَمَعَ كُلِّ خَوفِنَا وَحِرْصِنَا عَلَيْكَ، تَذْهَبُ فَتَخْتَارُ مِهْنَةً غَرِيبَةً عَنَّا، غَرِيبَةً حَتّى فِي طَبِيعَتِهَا وَطَبِيعَةِ أَهْلِهَا: حِدَادَةُ البِيتُون! أَيُّ صَنْعَةٍ هَذِهِ الَّتِي لَا تُشْبِهُكَ، وَلَا تُشْبِهُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِكَ؟
تَقُولُ إِنَّكَ تُحِبُّ القِرَاءَةَ، فَتَتَعَلَّمُ مِنَ الكُتُبِ الجَدَلِ، لِتُجَادِلَ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ، فَتُدْخِلَ نَفْسَكَ السِّجْنَ… وَأَيُّ سِجْنٍ؟! السِّجْنُ السِّيَاسِيُّ!
ثُمَّ، وَبَعْدَ كُلِّ ذَلِكَ، تَقُولُ لِي وَأَنْتَ تَرْفَعُ رَأْسَكَ، إِنَّكَ مَا زِلْتَ تُؤْمِنُ بِتِلْكَ الحُدُودِ؟! فَأَيُّ إِيمَانٍ هَذَا الَّذِي يَدْفَعُكَ إِلَى هَذِهِ النَّتَائِجِ؟! أَهَكَذَا يُصاغُ الإِيمَانُ فِي لَهِيبِ الأَذَى؟ أَم تُرَى العُقُوبَةَ سَبِيلًا إِلَى اليَقِين؟ أَو مِنَ العَتَبَاتِ البَارِدَةِ لِلسُّجُونِ تُبْنَى القَنَاعَات؟ أَم أَنت تَسْتَدِلُّ بِالجُرْحِ عَلَى الطَّرِيق؟ أَمْ صِرْتَ تَرَى الضَّيَاعَ طَرِيقًا؟!”
سَكَتَ نُعْمَانُ قَلِيلًا، كَمَنْ يَتَذَوَّقُ كَلِمَاتِ جَدِّهِ كَمَرَارَةٍ قَدِيمَةٍ تَسْكُنُهُ، ثُمَّ قَالَ بِصَوْتٍ هَادِئٍ، لا يُجَادِلُ، بَلْ يُفَكِّرُ وَيُفَسِّرُ:
– ” يَا جَدِّي، لَا هَذَا وَلَا ذَاكَ! ولَسْتُ أَبْحَثُ عَنْ مَا يُشْبِهُكُمْ، وَلَا مَا يُشْبِهُنِي فِي المَاضِي، بَلْ مَا يُشْبِهُنِي فِيمَا أُرِيدُ أَنْ أَصِيرَ إِلَيْهِ. لَعَلَّ مِهْنَةَ حَدَّادِ البِيتُونِ تَظْهَرُ غَرِيبَةً، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ، فِي عَيْنِي، طَرِيقًا لِلكَسبِ السَّرِيعِ فَلَطَالَمَا كُنتُ أَبحَثُ عَن سَبَبٍ لِرِزقٍ يُساعِدُنِي عَلَى استِكمَالِ دِرَاسَتِي, وَأَنتَ تَعلَمُ ذَلِكَ جَيِّدَاً! أَمَّا بِشَأنَ القِرَاءَةِ، فلَمْ تَكُنْ لِكَيْ أُجَادِلَ، بَلْ لِكَيْ أَفْهَمَ، وَلَمْ أَدْخُلِ السِّجْنَ لِأَنِّي أَرَدْتُ ذَلِكَ، بَلْ لِأَنَّ الحَقَّ، فِي زَمَاننا، أَصْبَحَ جُنْحَةً. أَنَا لَا أُؤْمِنُ بِتِلْكَ الحُدُودِ التِي وُضِعَت فِي طَرِيقِنَا كَحِجَارَةٍ لا لِتُرْسَمُ فَتُحَدِدَ الْأَرْضِ، بَل لِتُقَيِّدَ الخَلقَ, وَتَجعَلُهُم يَهرُبُونَ إِلَى الصَّمتِ وَالخَوفِ, أُؤْمِنُ بِهَا كَمَعَانٍ أَوجَدَهَا الله لِتَجْمَعُنَا، تَحْمِينَا، تُرَبِّينَا عَلَى الحُرِّيَّةِ وَالْكَرَامَةِ. وَإِنْ كَانَ ثَمَنُ هَذَا الإِيمَانِ غَالِيًا، فَهُوَ أَقَلُّ مِمَّا تَسْتَحِقُّهُ النُّفُوسُ الحَيَّةُ.
لَا أَقُولُ إِنِّي عَلَى صَوَابٍ، يَا جَدِّي، وَلَكِنِّي لَا أَقْدِرُ أَنْ أَعِيشَ بِمَا لَا أُؤْمِنُ بِهِ…”
تَنَفَّسَ عَمِيقًا، وَأَضَافَ كَمَنْ يَنْهَارُ أَخِيرًا:
– “فِي الجَامِعَةِ، يَا جَدِّي، أَرَاهُمْ يَضْحَكُونَ، يُشَاهِدُونَ المُبَارَيَاتِ، يُجَادِلُونَ فِي أَغَانِي وَمُسَابَقَاتٍ، وَأَنَا؟ وَأَنَا أَقِفُ وَحِيدًا… أَفْكُرُ فِي أَشْيَاءَ لَا تَضْحِكُهُمْ، وَلَا تَجْذِبُهُمْ… أَغْبِطُهُمْ أَحْيَانًا، وَأَسْتَهْزِئُ بِهِمْ أُخْرَى، لَكِنَّنِي أَفْهَمُ، فِي قَاعِ قَلْبِي، أَنَّهُمْ يُفَضِّلُونَ الَّلَا مُبَالَاةَ، عَلَى أَنْ يُفَكِّرُوا فِي مَعْنَى العَدَالَةِ… أو فِي الَّذِينَ يُعَذَّبُونَ، وَفِي مَنْ يُعَانِي، وَفِي العَالَمِ الَّذِي يُشَبِهُنِي… أَوْ يُشْبِهُ مَا أَخَافُ أَنْ أُصْبِحَهُ.”
لَمَعَتْ عَيْنَا أَبِي رَشِيدٍ بِرِقَّةٍ خَفِيَّةٍ، وَهُوَ يَقُولُ بِصَوْتٍ كَانَ فِي هُدُوئِهِ مَا يُشْبِهُ الاِعْتِرَافَ:
– ” لَيْسَ ذَنْبَكَ، يَا نِعْمَانُ… لَقَدْ نَشَأْنَا جَمِيعًا فِي ظِلِّ خَوْفٍ يَسْرِي فِي العُرُوقِ. نَخَافُ من أَحلَامِنَا مِن رَغَبَاتِنَا، نَخَافُ أَنْ نَضْحَكَ مِنْ قَلْبِنَا، حَتَّى لَا تَتَرَصَّدَ ضِحْكَتَنَا عُيُونُ الحُسَّادِ وَأَطْمَاعُ المُتَرَبِّصِينَ, فَنَقُولُ إِثرَ كُلِّ ضِحكَةٍ: (الَّلهُمَّ اِكفِنَا شَرَّ ضِحكَتِنَا). وَصَلَ بِنَا الأَمْرُ، يَا بُنَيَّ، إِلَى أَنْ نَخَافَ أَنْ نَكُونَ صَادِقِينَ مَعَ أَنْفُسِنَا.”
هَمَّهَمَ الجَدُّ أَبُو مَحْمُودٍ بِضِيقٍ، وَضَرَبَ بِعَصَاً ~كَانَت إِلَى جِوَارِهِ~ الأَرْضَ، كَمَنْ يُحَاوِلُ أَنْ يُزِيلَ غُبَارَ الكَلِمَاتِ مِنْ سَمْعِهِ، ثُمَّ قَالَ بِصَوْتٍ يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنَ الغَضَبِ:
– “لَكِنَّ الدِّينَ يُعَلِّمُنَا الحَلَالَ وَالحَرَامَ، لَا هَذِهِ الفَوْضَى فِي العُقُولِ وَالقُلُوبِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ‘إِنَّ الحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ.’”
سَادَ صَمْتٌ قَصِيرٌ، ثُمَّ الْتَفَتَ نِعْمَانُ نَحْوَ جَدِّهِ، وَفِي عَيْنَيْهِ وَجَعٌ عَمِيقٌ كَأَنَّهُ يَتَشَظَّى فِي الصَّدْرِ، وَقَالَ بِصَوْتٍ خَافِتٍ لَكِنَّهُ نَابِضٌ:
– ” أَتَدْرِي، يَا جَدِّي… كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ الصَّلَاةَ كَافِيَةٌ لِرَاحَةِ القَلْبِ، فَكَيْفَ يُصَلِّي قَلْبِي خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي اليَّوْمِ، وَيَبْقَى مُضْطَرِبًا؟ أُحِبُّ اللَّهَ، وَأَخَافُهُ، وَلَكِنِّي لَا أَشْعُرُ أَنَّهُ يُحِبُّنِي وَأَنَا أَرْتَجِفُ مِنْهُ كَمَا أَرْتَجِفُ مِنْ سُلْطَةٍ جَبَّارَةٍ… أَلَمْ يَقُلْ فِي كِتَابِهِ:
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾؟
فَلِمَاذَا لَا أَشْعُرُ بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ؟”
تَنَفَّسَ أَبُو رَشِيدٍ بِعُمْقٍ، كَأَنَّهُ يَسْتَعِيدُ مَشَاهِدَ قَدِيمَةً، ثُمَّ قَالَ بِصَوْتٍ دَافِئٍ:
– ” مَعَكَ حَقٌّ، يَا نِعْمَانُ… تِلْكَ الأَسْئِلَةُ هِيَ الَّتِي كَبَّرَتْنَا قَبْلَ أَوَانِنَا. هِيَ الَّتِي بَقِيَتْ تَغْلِي دَاخِلَنَا، لَا يَسْكُنُهَا سُكُوتٌ وَلَا يُطْفِئُهَا جَوَابٌ. أَلَا تَذْكُرُ يَا حَاجّ؟”
وَاقْتَرَبَ مِنْ أُذُنِ أَبِي مَحْمُودٍ وَهَمَسَ، كَمَنْ يُفْشِي سِرًّا قَدِيمًا:
– ” حَتَّى رَغَبَاتُنَا الَّتِي خَفْنَا أَنْ نَبُوحَ بِهَا… كَانَتْ جُزْءًا مِنْ إِنْسَانِيَّتِنَا.”
ثُمَّ رَفَعَ وَجْهَهُ وَغَمَزَ نِعْمَانَ، وَقَالَ مُبْتَسِمًا بِإِشَارَةٍ ذَكِيَّةٍ:
– “أَمَا سَمِعْتُمْ عَنْ رَابِعَةَ العَدَوِيَّةِ؟ حِينَ قَالَتْ: ‘أُحِبُّكَ حُبَّيْنِ: حُبَّ الهَوَى، وَحُبًّا لِأَنَّكَ أَهْلٌ لِذَاكَ’؟… تَعْتَرِفُ أَنَّ الحُبَّ جَسَدٌ وَرُوحٌ مَعًا.”
اِخْتَنَقَ صَوْتُ نِعْمَانَ لَحْظَةً، ثُمَّ تَمَالَكَ نَفْسَهُ وَقَالَ بِصَوْتٍ يَشُقُّ السُّكُونَ:
– “لَسْتُمْ أَنْتُمْ، وَلَا نَحْنُ، أَصْلَ الأَزْمَةِ، يَا جَدِّي… أَنْتُمْ وَنَحْنُ وَأَجْيَالٌ كَثِيرَةٌ حُمِّلَتْ فِي صُدُورِهَا خَوْفًا مُتَوَارَثًا.”
ثُمَّ أَشَارَ بِيَدِهِ كَأَنَّهُ يَنْتَشِلُ ذِكْرًى مِنْ زَمَنٍ بَعِيدٍ، وَقَالَ بِصَوْتٍ يَرْتَفِعُ تَدْرِيجًا:
– “ذَلِكَ الخَوْفُ الَّذِي رَسَمَهُ (البَعْضُ)… وَصَوَّرُوا اللَّهَ فِيهِ (إِلَٰهً) لَا يَنْشَغِلُ إِلَّا بِعَذَابِ النَّاسِ فِي جَهَنَّمَ، وَبِالزَّجْرِ وَالعِقَابِ. ثُمَّ جَاءَتْ سُلْطَةٌ أَرَادَتْ أَنْ تُؤَمِّنَ تَأْيِيدَ الجَمِيعِ، وَلَوْ بِثَمَنِ هُرُوبِهِمْ إِلَى الصَّمْتِ، أَوْ بِانْشِغَالِهِمْ بِرَغِيفِ خُبْزٍ، لِكَيْ لَا يَتَبَقَّى لِأَحَدٍ وَقْتٌ فَيَحْلُمَ بِحُرِّيَّتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا، وَلَا بِعَقْلِهِ الَّذِي كَرَّمَهُ اللَّهُ بِهِ.”
وَصَمَتَ قَلِيلًا، ثُمَّ تَابَعَ بِنَبْرَةٍ وَاثِقَةٍ:
– “لَا يَكُونُ الإِنسَانُ مُسْلِمًا حَقًّا حَتَّى يُصَدِّقَ بِمَا وَهَبَهُ الله وَمَنَحَهُ مِن حَقوقِ فعليه أَنْ يَغتَنِمَ هَذِهِ الحُقُوقَ فَيُفَكِّرَ، وَيَسْأَلَ، حَتَّى يَفْهَمَ. أَلَمْ تَقْرَؤُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى في سورة الإسراء: الآية ٧٠
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾
هَذِهِ آيَةٌ تَضَعُ التَّكْرِيمَ قَبْلَ الخَوْفِ، وَتَجْعَلُ الكَرَامَةَ أَصْلًا فِي الإِنسَانِ، لَا الذُّلَّ، وَلَا الخُضُوعَ لِصُوَرَةِ إِلٰهٍ غَاضِبٍ دَائِمًا… فَاللَّهُ – فِي دِينِنَا – هُوَ الرَّحِيمُ، الكَرِيمُ، المُكَرِّمُ لِلْإِنسَانِ.”
وَاصَلَ نِعْمَانُ كَلَامَهُ، بِصَوْتٍ تَخَالَطُهُ نَبْرَةُ إِيْمَانٍ مُتَأَلِّمٍ، وَتَلْمَعُ فِي عَيْنَيْهِ نَارُ السُّؤَالِ الَّذِي طَالَ كَتْمُهُ:
– “أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ – سُبْحَانَهُ – فِي كِتَابِهِ في سورة البقرة: الآية ٢٥٦
﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾؟
فَكَيْفَ نُرْهِبُ القُلُوبَ بِاسْمِ الدِّينِ؟ وَنُغْلِقُ عَلَى العُقُولِ أَبْوَابَهَا؟ هَذِهِ آيَةٌ تُقِرُّ الحُرِّيَّةَ فِي الإِيمَانِ، لا تَفْرِضُهُ، بَلْ تُبَيِّنُ لِلرَّائِدِ طَرِيقَ الرُّشْدِ، وَتَتْرُكُ لَهُ خِيَارَ الْمَسِيرِ.”
أَطْرَقَ الجَمِيعُ، كَأَنَّ كَلِمَاتِهِ أَسْقَطَتْ سِتْرًا عَنْ مَعَانٍ خَافِيَةٍ. وَأَتْبَعَ نِعْمَانُ قَوْلَهُ بِهُدُوءٍ يَتَضَمَّنُ أَلَمَ التَّجَارِبِ:
– “وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى في سورة الأنفال الآية 22 : ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾
تَنْبِيهٌ وَاضِحٌ لِمَنْ يَعْطِّلُونَ نِعْمَةَ العَقْلِ، وَيَتَّبِعُونَ مَا لَا يُدْرِكُونَ، خَوْفًا، أَوْ تَقْلِيدًا. أَلَيْسَ هَذَا تَفْسِيرًا لِمَا كُنَّا نَفْعَلُهُ؟”
هَزَّ أَبُو رَشِيدٍ رَأْسَهُ ببطء، كَأَنَّهُ يُقِرُّ بِذَنْبٍ قَدِيمٍ، ثُمَّ تَنَهَّدَ قَائِلًا:
– ” نَعَمْ… كُنَّا نُصَلِّي، وَنُسَبِّحُ، وَنَبْكِي عِندَ ذِكْرِ العَذَابِ، لَكِنَّنَا نَادِرًا مَا ابْتَسَمْنَا لِرَحْمَتِهِ. كَأَنَّنَا نَخْشَاهُ أَكْثَرَ مِمَّا نُحِبُّهُ.”
نَظَرَ نِعْمَانُ إِلَيْهِ بِتَرَحُّمٍ، وَقَالَ:
– “وَفِي كِتَابِهِ – سُبْحَانَهُ – جَاءَ أَيْضًا في سورة النساء الآية ٥٨:
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا، وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾
فَهَلْ يُوجَدُ وَاضِحٌ بَعْدَ هَذَا؟ مِفْتَاحُ الحُكْمِ: العَدْلُ، لَا الخَوْفُ. الوَلَايَةُ أَمَانَةٌ، لَا تَسَلُّطٌ.”
أَصْغَى الجَدُّ أَبُو مَحْمُودٍ بِانْتِبَاهٍ، وَإِذَا بِوَجْهِهِ يَلِينُ، كَأَنَّ صَخْرَةً تَفَتَّقَتْ فِي دَاخِلِهِ.
وَبَيْنَمَا كَانَ السُّكُوتُ يُغَلِّفُ المَجْلِسَ كَسَحَابَةِ صَيْفٍ، تَوَقَّفَتْ الرِّيَاحُ، وَسَكَنَتِ الأَوْرَاقُ فِي زَوَايَا البَاحَةِ، كَأَنَّ الزَّمَانَ أَرَادَ لِكَلِمَاتِ نِعْمَانَ أَنْ تَصْدَحَ دُونَ مُقَاطَعَةٍ.
ثُمَّ تَسَلَّلَ صَوْتُ أَبِي رَشِيدٍ فِي خَفَرٍ، كَمَنْ يَسْأَلُ نَفْسَهُ أَكْثَرَ مِمَّا يُخَاطِبُ الآخَرِينَ:
– “… هَلْ كُنَّا نُحِبُّ اللَّهَ حَقًّا؟ أَمْ كُنَّا نَخْشَاهُ فَقَط؟”
ثُمَّ صَمَتَ لَحْظَةً، ثُمَّ أَضَافَ وَفِي صَوْتِهِ نَفَسٌ طَوِيلٌ مُثْقَلٌ:
– ” كُنْتُ أَرْتَجِفُ كُلَّمَا سَمِعْتُ حَدِيثًا عَنِ العَذَابِ، وَأَبْكِي. أَمَّا عِنْدَمَا أَقْرَأُ عَنْ رَحْمَتِهِ، فَلَا أَبْتَسِم… وَهُنَا يَكْمُنُ الفَرْقُ.”
وَطَلَبَ الإِذْنَ بِالرَّحِيلِ، فَقَدْ سَمِعَ صَوْتَ ابْنِهِ يُنَادِيهِ مِنْ خَلْفِ الجِدَارِ.
اِنْحَنَى أَبُو مَحْمُودٍ قَلِيلًا، وَأَسْنَدَ يَدَيْهِ إِلَى جِذعِ شَجَرَةِ الزَّيتُونِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ بِبُطْءٍ، وَعَيْنَاهُ تَسْبَحَانِ فِي فَضَاءِ بَعِيدٍ:
– ” لَعَلَّنَا نَسِينَا أَنَّ الحُبَّ لَا يُزَاحِمُ المَخَافَةَ، وَلَكِنَّهُ يُقَوِّمُهَا… مَنْ أَحَبَّ صَادِقًا، لَمْ يَخَفْ كَمَنْ هَرَبَ، بَلْ خَافَ كَمَنْ يَخْشَى أَنْ يُؤْذِيَ مَنْ يُحِبُّ.”
اِقْتَرَبَتِ الجَدَّةُ أُمُّ مَحْمُودٍ الَّتِي كَانَتْ تَنْصِتُ إِلَى الحِوَارِ عَبْرَ نَافِذَةِ غُرْفَتِهَا، وَجَلَسَتْ إِلَى جِوَارِ زَوْجِهَا، وَهَمَسَتْ وَقَدْ لَمَعَتْ فِي عَيْنَيْهَا دُمُوعٌ رَقِيقَةٌ:
– ” أَوَّلُ مَرَّةٍ أَسْمَعُ الدِّينَ يُرْوَى بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ… لَيْسَ كَتَخْوِيفِهِمْ لَنَا صِغَارًا.”
أَشَارَ نِعْمَانُ بِرَأْسِهِ مُوَافِقًا، وَأَجَابَ :
– ” لِذَلِكَ كُنْتُ أَقُولُ: نَحْنُ نَحْتَاجُ إِلَى أَنْ نَقْرَأَ النُّصُوصَ وَنَسْمَعَهَا، لَكِنْ بِقُلُوبٍ نَظِيفَةٍ، لَا بِعُقُولٍ تَسْتَخْدِمُهَا لِلتَّرْهِيبِ، أَوْ لِلسَّيْطَرَةِ.”
قَالَت الجدة وهي تَفْرُكُ يَدَيْها ببطء:
– “كُنَّا نُرَدِّدُ الآيَاتِ كَمَا يُرَدِّدُ الطُّلابُ النَّشِيدَ، لَا نَسْتَوْقِفُهَا، لَا نُحَاوِرُهَا… وَرُبَّمَا لِذَلِكَ لَمْ تُغَيِّرْنَا.”
صَمَتَ الكُلُّ بَعْدَ كَلِمَاتِهِا، كَأَنَّهُم يَتَذَكَّرُونَ صَلَوَاتٍ قَدِيمَةً أُدِّيَتْ خَوْفًا، وَدُمُوعًا هَطَلَتْ خَشْيَةً، دُونَ أَنْ يَسْأَلُوا: أَيْنَ المَحَبَّةُ؟ أَيْنَ الإِنْسَانُ فِي هَذَا كُلِّهِ؟
وَفَجْأَةً، قَطَعَ الصَّمْتَ صَوْتُ الرِّيحِ، يَسْرِي فِي البَاحَةِ كَنَفَسٍ عَمِيقٍ، فَتَحَرَّكَتِ الأَوْرَاقُ، وَهَمَسَتِ الأَغْصَانُ، كَأَنَّهَا تُصَادِقُ عَلَى مَا قِيلَ.
أَمَّا نِعْمَانُ، فَنَظَرَ فِي عُيُونِهِم، وَقَالَ :
– ” لَا نُرِيدُ دِينًا يُرْهِبُنَا، وَلَا يُبْقِينَا صِغَارًا نَبْكِي فِي زَوَايَا الخَوْفِ. نُرِيدُ دِينًا يُنْبِتُنَا. يَجْعَلُنَا نَفْهَمُ، نَسْتَعِيدُ قَامَتَنَا، وَنَمْشِي فِي الحَيَاةِ وَنَظَرُنَا نَحْوَ السَّمَاءِ، لَا نَحْتَبِي عَلَى التُّرَابِ.”
أمّا الجد أبو محمود، فقد ظلّ صامتًا للحظة، ثم تنحنح وقال بصوتٍ خافت، وكأنه يكلم نفسه أكثر من الآخرين:
– “رُبَّمَا قَسَوْنَا عَلَيْكُمْ، وَقَسَوْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا. خِفْنَا عَلَيْكُم فَزِدْنَا عَلَيْكُم… وَمَا سَأَلْنَا: هَلْ كَانَ ذَلِكَ حُبًّا، أَمْ هَلْ كَانَ خَوْفًا مِنْ غَضَبٍ تَخَيَّلْنَاهُ أَكْبَرَ مِنْ رَحْمَةِ مَنْ خَلَقَنَا؟”
نظر إليه نعمان، وقد وَقَعَ صوته في أعماقه وقع الجرح القديم، فقال بلين :
– ” وَنَحْنُ، يَا جَدِّي، مَا جِئْنَا لِنُحَاكِمَكُمْ، بَلْ لِنَفْهَمَ سَوِيًّا، وَلِنَغْفِرَ. أَنتُمْ كَانَتْ لَكُمْ زَمَانَاتُكُمْ، وَلَنَا الحَقُّ أَنْ نَبْنِيَ زَمَانَنَا.”
هنا هدأت أنفاس الجمع، وكأن الهواء تجدد في صدورهم. وكأنّ الكلمات قد أزاحت عنهم شيئًا من الغبار العالق في صدورهم منذ زمن بعيد. ,وصل صوت المؤذن يعلن وقت صلاة الظهر، وهدأت الأصوات من حولهم. وذهب كل منهم إلى صلاته.