الفصلُ الخامس عشر حوار مع صديق 17
________________________________________
فِي المَسَاءِ، مَضَى نُعْمَانُ إِلَى زِيَارَةِ صَدِيقِهِ القَدِيمِ، بَعْدَ طُولِ اِنْقِطَاعٍ. لَمْ تَكُنِ الأَبْوَابُ فَقَطْ هِيَ مَا فَصَلَتْ بَيْنَهُمَا طِيلَةَ تِلْكَ الفَتْرَةِ مُنْذُ بَدَايَةِ هَذَا العَامِ الدِّرَاسِيِّ، بَلْ ثَمَّةَ أَشْيَاءُ أُخْرَى كَالزَّمَنِ، وَالمَشَاغِلِ، وَكَلِمَةٌ لَمْ تُقَلْ.
اِسْتَقْبَلَهُ صَدِيقُهُ بِعِنَاقٍ سَرِيعٍ، وَمَلَامِحَ مُتْعَبَةٍ حَاوَلَ أَنْ يُخْفِيَهَا بِبَسْمَةٍ وَاجِبَةٍ. جَلَسَا فِي غُرْفَةٍ تَعْبَقُ بِرَائِحَةِ القَهْوَةِ وَالمَسَاءِ وَالشَّكْوَى.
قَالَ نُعْمَانُ وَهُوَ يُمَرِّرُ نَظَرَهُ عَلَى المَكَانِ:
– ” كَأَنَّ شَيْئًا تَغَيَّرَ هُنَا… أَهُوَ المَكَانُ، أَمْ أَنْتَ؟”
ضَحِكَ صَدِيقُهُ ضَحْكَةً قَصِيرَةً، كَأَنَّهَا مُجَرَّدُ زَفْرَةٍ:
– ” المَكَانُ لَمْ يَتَغَيَّرْ، لَكِنَّ البَيْتَ بِلَا دِفْءٍ لَا يُقَالُ عَنْهُ بَيْتٌ. بَيْنِي وَبَيْنَهَا… جِدَارٌ لَا يُرَى، لَكِنَّهُ يَحْجُزُ عَنِّي الهَوَاءَ.”
سَكَتَ نُعْمَانُ قَلِيلًا، ثُمَّ قَالَ بِهُدُوءٍ:
– ” لَا أُجِيدُ النَّصِيحَةَ، وَلَكِنِّي أُجِيدُ السَّمْعَ. حَدِّثْنِي، إِنْ شِئْتَ.”
تَنَفَّسَ صَدِيقُهُ بِعُمْقٍ، نَظَرَ إِلَى البَعِيدِ، حَيْثُ لَا شَيْءَ سِوَى جِدَارٍ بَاهِتٍ، وَقَالَ:
– ” كَثِيرٌ مِنَ الكَلَامِ تَرَاكَمَ فِي القَلْبِ يَا نُعْمَان… سَنَة مِنَ الرَّغْبَةِ فِي أَنْ أُفْهَمَ، لَا أَنْ أُحَاسَبَ، أَنْ أُحَبَّ كَمَا أَنَا، لَا كَمَا يَنبَغِي أَنْ أَكُونَ. سَأُخبِرُكَ لَكِن.. بَعدَ أَن أَطمَئِنَ عَنكَ”
ثُمَّ اِلْتَفَتَ إِلَيْهِ فَجْأَةً، وَقَدْ بَدَتْ فِي عَيْنَيْهِ لَمْعَةُ اِسْتِغْرَابٍ:
– ” لَكِنْ قَبْلَ أَنْ أَنْسَى… كُنْتَ قَدْ أَخْبَرْتَنِي أَنَّكَ تَقَدَّمْتَ إِلَى كُلِّيَّةِ الفُنُونِ الجَمِيلَةِ! مَاذَا حَصَلَ بَعدَ ذَلِكَ؟”
ابتسم نُعمانُ، ومَدَّ يدَهُ نحو فنجانِ القهوةِ، وقالَ بهدوءٍ فيه شيءٌ من المفاجأة:
– ” لَقَدْ تَقَدَّمْتُ إِلَيْهَا، نَعَمْ… وَاجْتَزْتُ بِدَايَةَ الاختِبَارِ إِلَى مِحْنَةَ، وَتَوَقَّعتُ القبُولَ فِيهَا عَلَى أَن أُتَابِعَ فِيمَا بَعدُ فِي قِسْمِ هَنْدَسَةِ الدِّيكُورِ. لَكِنَّنِي فَاجَأْتُ الجَمِيعَ كَمَا فَاجَأْتُ نَفْسِي… سَجَّلْتُ فِي قِسْمِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ.”.
شهقَ صديقه بدهشةٍ صادقة:
– ” اللُّغَةُ العَرَبِيَّةُ؟! نُعمان! أَنتَ؟!”.
– ضحكَ نُعمانُ بِمَرَحٍ خافتٍ:
– ” نَعَم… لُغَتُنَا يا صَاحِبِي. لَا لأُصْبِحَ مُعَلِّمًا فَقَط، بَلْ لِأَفْهَمَ الحُرُوفَ الَّتِي تُشَكِّلُنَا، وَالكَلِمَاتِ الَّتِي نَقُولُهَا وَلَا نَفْهَمُهَا، وَتِلْكَ الَّتِي نَخَافُ أَنْ نَقُولَهَا.”.
قالَ الصَّديقُ وهو يَضربُ كفًّا بكفٍّ بدهشةٍ ظاهرة:
– ” غَيْرُ مَعْقُول!” …. ” نُعمانُ الَّذي كانَ يَتُوقُ أَنْ يُصبِحَ مُهندسًا… ثم يتنازل ليَتَحَوَّلُ هكَذا عن أَحْلَامِهِ؟! لَا، لَا أُصَدِّق!”.
ابتسمَ نُعمانُ بِخَفَرٍ، كأنَّ الذِّكرى ما زالت تَحرِقُ أطرافَ القلب، ثمّ قال:
– ” الحَقِيقَةُ يا صَاحِبِي، أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمْتُ لِكُلِّيَّةِ الفُنُونِ الجَمِيلَةِ، زَارَنِي أَحَدُ أَسَاتِذَتِي القُدَامَى فِي البَيْتِ لِيُبَارِكَ لِي نَجَاحِي فِي الثَّانَوِيَّةِ العَامَّةِ… سَأَلَنِي وَقَدْ تَوَقَّفَ عِندَ بَابِ الغُرْفَةِ: (بِمَ تُفَكِّرُ بَعْدَهَا؟)”.
قاطَعَهُ صديقُهُ بِلهفةٍ:
– ” وماذا أجبتَه؟”
تابع نعمان:
– ” أَخْبَرْتُهُ… وَفِي يَدِي رَسْمَةٌ كُنْتُ أُعِدُّهَا بِالرَّصَاصِ لِآخُذَهَا مَعِي بَعْدَ أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ إِلَى المُقَابَلَةِ الَّتِي كُنْتُ قَدْ حَصَلْتُ عَلَى مَوعِدِهَا قَبلَ شَهْرٍ، وَانْتَظَرْتُهَا بِشَوْقٍ كَادَ يَخْتَنِقُ فِي صَدْرِي.”.
قالَ الصديقُ وهو يَميلُ نحوه متحفِّزًا:
– ” أَسْرِعْ! أَكْمِلْ سَرِيعًا!” .. “لِمَ تُعْطِينِي الكَلِمَاتِ عَلَى قَطَرَاتٍ؟”.
ضحكَ نُعمانُ بِمَسْحَةِ أَسًى وقال:
– ” نَعَمْ، سَأُتَابِعُ مَعَكَ… لَكِنْ كَانَ لا بُدَّ مِنْ تَمْهِيدٍ، لِكَيْ تَفْهَمَ مَا قَالَهُ لِي هَذَا الأُسْتَاذُ الفَاضِل.”
” فَهِمْتُ، فَهِمْتُ…”
قالها الصديقُ وهو يُلوِّحُ بيده:
– “تَابِع!” .
وتابع نعمان:
– ” عِنْدَمَا شَاهَدَ الرَّسْمَةَ، وَعَلِمَ أَنَّنِي سَأَدْخُلُ هَذَا المَجَالَ، انْتَفَضَ غَاضِبًا، ثُمَّ أَخَذَنِي مَعَهُ إِلَى أَحَدِ أَصْدِقَائِهِ مِنَ الفُقَهَاءِ المَشَايِخِ… وَهُنَاكَ، بَعْدَ أَنْ رَوَى الأستاذ لَهُ عَنِ الكُلِّيَّةِ وَمَا فِيهَا، اسْتَشَاطَ ذَلِكَ الشَّيْخُ غَضَبًا.”.
سأل الصديق وقد عَقَدَ حاجِبَيه:
– ” ماذا قال؟!”
أجابه نعمان :
– ” تَسَارَعَتِ الكَلِمَاتُ عَلَى لِسَانِهِ… حَدَّثَنِي عَنِ الرُّسُومِ، وَالعُرْيِ، وَمَا يُنْحَتُ وَيُعْرَضُ فِي الكُلِّيَّةِ، ثُمَّ خَتَمَ كَلَامَهُ بِجُمْلَةٍ سَقَطَتْ عَلَيَّ كَالصَّخْرَةِ: (أَتُرِيدُ أَنْ تَسْتَبْدِلَ دُنْيَاكَ بِآخِرَتِكَ؟ إِذَا كُنْتَ تُرِيدُ، فَأَنْتَ أَدْرَى بِمَصِيرِكَ، وَإِلَّا فَعَلَيْكَ أَنْ تَعْدِلَ فَوْرًا عَنْ هَذَا القَرَار).” .
سأله صديقه بصدمةٍ حادّةٍ:
– ” أَوَ لِهَذَا السَّبَبِ تَخَلَّيْتَ عَنْ أَحْلَامِكَ؟!”.
فَأَجَابَ نُعمانُ بِثِقَلٍ:
– ” لَا أَبَدًا! لَمْ أَتَخَلَّ عَنْهَا… بَلْ ذَهَبْتُ إِلَى الكُلِّيَّةِ، وَكَانَتْ مُنَى بصُحْبَتِي فِي ذَلِكَ اليَوْمِ.”.
سأله صديقه :
– “حَسَنًا… وَمَا الَّذِي جَرَى؟”.
هَنا، أَطْبَقَ الصَّمْتُ قَلِيلًا، كَأَنَّ نُعمانَ يُفَتِّشُ عَنِ الكَلِمَاتِ فِي رُكْنٍ قَدِيمٍ مِنْ ذَاكِرَتِهِ، ثُمَّ قَالَ:
– ” آهٍ… مِمَّا جَرَى… هَا قَد عَادَتْ لِي الذِّكْرَى مِن جَدِيدٍ… قَاعَةُ الرَّسْمِ الأُولَى… كَانَتْ رَائِحَةُ الأَلْوَانِ تُسْكِرُنِي، كَأَنَّهَا نَشْوَةٌ فِي مَسَامِي. وَلَكِنْ… خَذَلَنِي جَسَدِي عِنْدَمَا طُلِبَ مِنِّي أَنْ أَشْرَحَ فِكْرَتِي عَنِ الضَّوْءِ وَالظِّلِّ. تَلَعْثَمْتُ أَمَامَ لَجْنَةِ القُبُولِ، رَغْمَ أَنَّهُمْ أَحَبُّوا لَوْحَتِي، وَقَدْ رَسَمْتُهَا بِالرَّصَاصِ… وَلَكِنْ… طُلِبَ مِنِّي أَنْ أُمَثِّلَ المَشْهَدَ الَّذِي رَسَمْتُهُ، بِالمُشَارَكَةِ مَعَ طَالِبَةٍ مَاهِرَةٍ اقْتَرَحَتْهَا عَلَيَّ اللَّجْنَةُ… وَمَا إِنْ بَدَأَتْ الزَّمِيلَةُ تُهَيِّئُ نَفْسَهَا لِتَأْدِيَةِ الدَّوْرِ، وَتُزِيلُ بَعْضَ مَلَابِسِهَا عَلَى المِنَصَّةِ… حَتَّى تَجَمَّدْتُ فِي مَكَانِي. شَعَرْتُ بِالْعَرَقِ يَتَفَصَّدُ مِنْ جَبِينِي، وَبِخَجَلٍ لَا يُحْتَمَل… تَحَجَّجْتُ بِأَلَمٍ مُفَاجِئٍ فِي مَعِدَتِي، وَغَادَرْتُ القَاعَةَ مُعْتَذِرًا… قَدْ يَكُونُ مَا فَعَلْتُهُ لَيْسَ هُرُوبًا مِنَ الحُلْمِ… بَلْ مِنَ الحَرَجِ. مِنْ عَجْزٍ خِفْتُ أَنْ يُفَسَّرَ فَشَلًا.”
صَمَتَ نُعمانُ لحظةً، كأنّه يستجمعُ بقايا مشهدٍ قديمٍ تكسّر في داخله، ثمّ تنهّدَ وقال:
– ” خَرَجْتُ مِنَ القَاعَةِ وَأَنَا أُخَفّفُ خُطَايَ، كَمَنْ يُخْفِي جُرْحًا لا يُرِيدُ أَنْ يُرَاهُ أَحَدٌ. وَكَانَتْ *هِيَ* هُنَاكَ…”.
سأله الصديقُ وهو يُحدِّقُ فيه بعينين اتّسعتا قلقًا:
– ” مَن؟ منى؟”
أجاب نعمان صديقه:
– ” نعم، منى…”
وتحدث بأشبه إلى الصمت:
– ” وَجَدَتْنِي جَالِسًا عَلَى دَرَجِ الرِّوَاقِ، أَطْوِي وَجْهِي بَيْنَ يَدَيَّ كَمَنْ يُخْفِي خَيْبَتَهُ… لَمْ تَقُلْ شَيْئًا فِي البِدَايَةِ، جَلَسَتْ بِهُدُوءٍ قُرْبِي، كَأَنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّ الصَّمْتَ أَحْيَانًا أَحَنُّ مِنْ كُلِّ الكَلِمَاتِ. ثُمَّ سَأَلَتْنِي وَبِصَوْتٍ خَفِيفٍ كَهَمْسِ شُجَيْرَةٍ تَهْتَزُّ فِي الرِّيحِ: (نُعمان… ماذا حَدَث؟)” . لَمْ أَجِبْهَا مُبَاشَرَةً , سَكَتَت لحظةً، ثم تابعت بنبرةٍ خافتةٍ , فأَخْبَرْتُهَا فَقَطْ أَنِّي لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُكْمِلَ… فَنَظَرَتْ إِلَيَّ نَظْرَةً… أَحْسَسْتُ كَأَنَّهَا تَقُولُ: ” لَا بَأْسَ، أَحْتَفِظُ بِحُلْمِكَ إِلَى أَنْ تَسْتَعِيدَهُ.” ثُمَّ قَالَتْ، وَكُنتُ أَسْمَعُ فِي كَلِمَاتِهَا ذَاتَ الحَنَانِ الَّذِي كَانَتْ أُمِّي تُخَاطِبُنِي بِهِ فِي صِغَرِي: (نُعمان… لَسْتَ مُضْطَرًّا لِتُثْبِتَ شَيْئًا لِأَحَد… لَا لِهُمْ، وَلَا لِنَفْسِكَ… إنْ كُنْتَ تُحِبُّ مَا تَفْعَلُ، فَسَتَجِدُ طَرِيقًا يَلِيقُ بِكَ وَبِقَلْبِكَ). وَقَفَتْ، ثُمَّ مَدَّتْ لِي يَدَهَا… وَقَالَتْ: (تَعَالَ، نَشْرَبْ شَايًا عَلَى سُورِ الحَلَم).”.
ضحكَ الصديقُ بخفّةٍ، ثم قال:
– ” شَايٌ عَلَى سُورِ الحُلْم؟! هَذِهِ مِنَى حَقًّا… كَلِمَاتُهَا دَفْءٌ فِي وَقْتِ الْبَرْدِ.”
ابتسمَ نُعمانُ وهو يومئ برأسه، ثمّ قال:
– ” نَعَم… وَمُنْذُ ذَلِكَ اليَوْمِ، لَمْ يَتَبَخَّرِ الحُلْمُ، بَلْ تَحَوَّلَ… وَقَدْ تَجِدُهُ الْآنَ مُخْتَبِئًا بَيْنَ سُطُورِ قِصِيدَةٍ، أَوْ فِي تَفْصِيلَةِ عِبَارَةٍ… فِي جُمَلٍ أَصِيغُهَا بِعِنَايَةٍ، كَأَنَّهَا لَوْحَةٌ لَا تُرَى، بَلْ تُشْعَر.”.
قال الصديقُ وهو يُرَبِّتُ على كَتِفِهِ بحنوٍّ لَمْ يَخْفَ على أحدٍ:
– ” إذًا… لَمْ تَخُنِ الحُلْمَ، بَلْ صَغْتَهُ من جَديدٍ، عَلَى مِقْياسِ قَلْبِكَ… لكن قُلْ لي، ماذا كان رَأْيُها في النِّهاية؟”.
ابتسمَ نُعمانُ كأنّ الذِّكرى وَقَفَتْ على عَتَبةِ قلبِهِ تُطِلُّ، ثمّ قال:
– ” تابَعْنا السَّيْرَ مَعًا، خُطانا تَكادُ تُساوِي نَبْضَنا، حتّى وَصَلْنا إلى زاويةٍ خفيّةٍ مِن مَقْهى «الرَّوضَةِ» العَتيق… جَلَّسْنا هناك، حَيْثُ الكَراسِيُّ الخَشبيَّةُ المُتآكِلَةُ تُحيطُ بِطاوِلاتٍ لَمَّاعَةٍ كأنّها تُصقَلُ بذكرياتِ العابرين. كانَ مَساءً صَيفيًّا دِمَشْقِيًّا يَحْفَظُ نَفَسَ العائدين… وكأنّ المدينةَ ذاتَها قد دَبَّرَتْ لَنا ذلك اللِّقاءَ فِي لحظةِ صَفاءٍ نادِرَة.”.
ثمّ سَكَتَ لحظةً، وكأنّه يُنْصِتُ لِوَقْعِ تِلكَ الخُطى القديمة”. تابع بعدها:
– “الصَّمْتُ حَضَرَ بيننا أَوَّلَ الأمر، لا لأنّنا كنا نبدو كغريبين، بل لأنّ الحنينَ حينَ يَفيضُ… يُسْكِتُ اللِّسان. على الطاولةِ بينَنا فنجانانِ من القهوةِ المُرَّة، وقطعةُ حَلْوى نَسِيناهَا، أو تَناسَيْنَاهَا.”
ثم استأنف حديثه، ونبرة صوته تُكْملُ ما لم تقله الكلمات:
– “قالتْ «مُنَى» وهي تُمسِكُ فنجانَها بكلتا يديها كأنّها تُدَفِّئُ روحَها: ــ «تَتَذَكَّر؟… كان صباحًا نديًّا، والسماءُ تُطِلُّ علينا من شُرْفَتِها الرماديَّة… كنتَ تَرْتَجِفُ، دون أن تَقُولَ شيئًا.» نظرتُ إليها طويلًا، ثمّ قُلتُ بِصَوْتٍ خافت: ــ «لم أكنْ أعلمُ يومها، إنْ كُنتُ أرتجفُ من البردِ… أم من نَفْسِي.» ابتسمَت ابتسامةً خافتةً، كان فيها من الحزنِ ما يُشبِهُ ضوءً يَنبُتُ في زاويةِ ذاكرة: ــ «وأنا… لم أُرِدْ أن أُسْرِفَ في السُّؤال. خِفْتُ أن تبتعدَ أكثر. كانتْ عيناكَ… تَتَحدَّثانِ وحدَهُما.» , أطرَقْتُ برأسي لحظةً، ثمّ قلتُ كمن يَبوحُ بما كتمَ طويلًا: ــ «كنتُ خائفًا… خائفًا أن يُظَنَّ أنّني فاشل، خائفًا من نَظَرَاتِ اللجنة، من زَميلتي، من جَسدي، من اللحظةِ ذاتها… لكنَّ أكثرَ ما أخافني… أن أَنْظُرَ في عَيْنَيْكِ ولا أَجِدَ فيهما احْتِرامَكِ لي.» فأنزلَتْ نَظَرَها إلى قاعِ الفِنجانِ كأنّها تُفَتِّشُ عن جملةٍ نسيتْ قولَها، ثمّ همست: ــ «احْتِرامي؟ لم يُغادِرْكَ يومًا. كانَ يَكْبُرُ، كلّما رأيتُكَ تَسيرُ فِي طريقٍ تختارُه، حتى لو ظَنَّهُ الآخرونَ هُروبًا.»
قاطعَ الصَّديقُ الحديثَ بلهفةٍ لا تخفى:
– ” وبعد ذلك؟ ماذا حدث؟ أرجوك أسرِع!”
هَزَّ نُعمانُ رَأسَهُ بخفةٍ، وقال:
– ” قالت منى، وهي تُحْدِّقُ في عَيْنَيَّ، بصوتٍ فيه من الثِّقَةِ ما يَسْبِقُ أيَّ تردُّد: ــ «دعنا نَتَكَلَّمْ بِوُضوحٍ، وبِجُرْأَةٍ، وبِصِراحَةٍ لا تَخْشى أن تَنكشَ الجُرح.» أشرتُ لها برأسي أنْ تابعي، وأنا أرتشفُ ما تبقّى من قهوتي، فقالت باندفاعٍ كأنّها كانت تَنتظر هذه اللحظة: ــ «أنتَ لم تَهربْ مِن لجنةِ القُبول، نُعمان… أنتَ هربتَ من نفسِك.» أطرقتُ لحظةً… ثم رفعتُ عيني إليها كمن يُسَلِّمُ سِلاحَه ويعترف: ــ «أعلم.»
شرد نُعمان، وهو يمرّر أنامله على حافة الفنجان كمن يفتّش في داخله عن معنى, ثم تابع :
– ” فقلت لها : لأنِّي لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهَا تَمَامًا… كُنتُ أَظُنُّ أَنَّنِي فَشِلْتُ، فَقَطْ… فَشِلْتُ.” هزَّت منى رأسها ببطءٍ، وفي عينيها تَفَهُّمٌ يشبه المواساة، ثمّ همست: ــ “الْفَشَلُ أَنْ لا تَجْرُؤَ حَتّى عَلَى الِاعْتِرَافِ بِأَنَّكَ ارْتَبَكْتَ… ذَلِكَ طَبِيعِيٌّ، مَعَ حِوَارِ الْجَسَدِ، وَحُضُورِهِ… إِنَّهُ مُرْبِكٌ دَائِمًا لِمَنْ لَمْ يُعَلَّمْ كَيْفَ يَرَاهُ بِبَرَاءَةٍ.” ثمّ التمعت عيناها بنبرةٍ جريئة، وأردفت: ــ “أو كَيْفَ يَتَعَامَلُ مَعَهُ خَارِجَ نِدَاءِ الْغَرِيزَةِ.” صمتت لحظةً، كأنّها تراقب رجع المعنى وهو يتردّد في أرجاء الذاكرة. ثم قالت بصوتٍ خافتٍ: ــ “كُنْتُ هُنَاكَ… أَتَذَكَّرُ وَجْهَكَ حِينَ خَرَجْتَ مِنْ قَاعَةِ الْقُبُولِ. كَأَنَّكَ عُدْتَ مِنْ مَعْرَكَةٍ، خَاسِرًا كُلَّ شَيْءٍ.” .هزّزتَ رأسي بأسى، وقلت: ــ “بَلْ كُنْتُ سَأُصْبِحُ خَاسِرًا، مُنَى. كُنْتُ سَأَخْسَرُ نَفْسِي… وَمَا كُنْتُ لِأَعُودَ وَأَثِقَ بِهَا مُنْذَ ذَلِكَ الْيَوْمِ.” , أشاحت وجهها نحو الحديقة، حيث أوراقُ اللَّيْلَكِ تتمايلُ بهدوءٍ، وسألت: ــ “وَهَلْ… الآن، بَعْدَ كُلِّ هَذَا، تَثِقُ بِهَا؟” , تنهّدت ببطءٍ، وأنا أختار كلماتي من قاع الوجدان: ــ “أَتَعْلَمِينَ مَتَى بَدَأْتُ أَثِقُ بِهَا؟ حِينَ سَأَكتُبُ عَنْ ذَلِكَ الْمَوْقِفِ، دُونَ أَنْ أُخْفِيهِ، وَدُونَ أَنْ أُدِينَ نَفْسِي فِيهِ.” , رَفعَت حَاجِبَهَا قليلاً، وسَأَلَت بِاهتِمَامٍ صَادِقٍ: ــ “وَهَلْ سَتَكتبُ عَنِ الْفَتَاةِ؟” , قلت، وأنا أبتسم ابتسامةً خفيفةً فيها عتاب لنفسٍ سابقة: ــ “لَا… عَنْهَا لَا. بَلْ عَنِّي، وَأَنَا أَرَاهَا… عَنِ الصَّدْمَةِ، وَعَنْ عَيْنَيَّ، لَا جَسَدِهَا.” , أومأت منى كأنّها تفهم تمامًا، ثم قالت: ــ “إِذَنْ… بَدَأْتَ تَرْسُمُ بِالْكَلِمَاتِ أَخِيرًا.” , ابتسمت وقلت: ــ “نَعَم… وَاكْتَشَفْتُ أَنَّنِي كُنْتُ أَحْتَاجُ إِلَى لُغَةٍ أُخْرَى، لِأَفْهَمَ هَذَا الْعَالَمَ. رُبَّمَا كُنْتُ فَنَّانًا، مِنْ نَوْعٍ آخَر.” مدّت يدها نحوي ببطءٍ، وكأنّها تَختبر خَفَقَانًا قديمًا، ثمّ وَضَعَتْها برفقٍ فوق يدي، وقالت: ــ “لَا تَهْرُبْ مُجَدَّدًا، يَا نُعْمَان… الْفَنُّ لَا يُخْتَزَلُ بِيَدٍ تَرْسُمُ، بَلْ بِعَيْنٍ لَا تَخَافُ أَنْ تَرَى.” , سكتت… وسَكَتَت هي أيضًا. غيرَ أنّ شيئًا في داخلنا كان قد بدأ يهدأ، كأنّ ذلك الحرج القديم، الذي ظلّ مُختبئًا في زاويةٍ مُظلمةٍ من الذّاكرة، قد خرج أخيرًا، وجلس بيننا على الطاولة، يحتسي قهوته، ويبتسم.
في هذه اللحظة، التفت إليه الصديق فجأةً، وقال بنبرةٍ فيها شيءٌ من العجلة:
– ” وَبَعْدَ ذَلِكَ؟ مَاذَا حَدَثَ؟ أُرِيدُ أَنْ أَعْرِفَ كُلَّ شَيْء!”
ضحك نُعمان، وأجاب:
– ” بَعْدَ ذَلِكَ… كُنَّا ليلةَ أمس فِي غُرْفَةٍ فِي بَيْتِ «مُنَى»، فِي الطَّابِقِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبِنَاءِ الَّذِي اشْتَرَاهُ وَالِدُهَا وَجُهِّزَ حَدِيثًا… غُرْفَةٌ أَضَافَتْ عَلَيْهَا «مُنَى» مَا كَانَتْ تَحْلُمُ بِهِ. الْجُدْرَانُ مَغْطَّاةٌ بِكُتُبٍ، وَبِلَوْحَاتٍ صَغِيرَةٍ رَسَمَتْهَا فِي سَنَوَاتِ دِرَاسَتِهَا، وَالْأَضْوَاءُ خَافِتَةٌ، تَتَوَزَّعُ مِنْ مِصْبَاحٍ جَانِبِيٍّ وَتِلْفَازٍ صَامِتٍ دَائِمًا. أَمْضَيْنَا بَعْضَ الْوَقْتِ نَتَحَادَثُ عَنْ كُتُبٍ وَأَفْلَامٍ وَمَوَاقِفَ، ثُمَّ خَفَتَ كُلُّ شَيْء… لَمْ تَبْقَ سِوَى نَظَرَاتٍ مُتَقَاطِعَةٍ، وَسُؤَالٍ ظَلَّ مُعَلَّقًا بَيْنَ السُّطُورِ.”, لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُخْفِي نَبْرَةَ التَّرَقُّبِ فِي صَوْتِي، وَأنَا أُقَلِّبُ بَصَرَهُ بَيْنِي وَبَيْنَها، حِينَ سَأَلَنِي بِوُدٍّ لَمْ يَخْلُ مِنْ لَمْحَةِ عَتَبٍ رَصِينَةٍ:
” لَمْ تُخْبِرْنِي مِنْ قَبْلُ، يَا بُنَيَّ، لِمَاذَا لَمْ تُتِمَّ طَرِيقَكَ إِلَى الفُنُونِ الجَمِيلَةِ؟ أَظُنُّهَا كَانَتْ لِتَلِيقَ بِكَ كَثِيرًا… أَكْثَرَ حَتَّى مِنَ الأَدَبِ.” , تَبَادَلْتُ وَمُنَى نَظْرَةً خَاطِفَةً، كَأَنَّهَا نَبْرَةُ إِنْذَارٍ تَسْبِقُ نَقْلَةً فِي مَجْرَى الحَدِيثِ، ثُمَّ قُلْتُ بِصَوْتٍ خَافِتٍ، لَكِنَّهُ حَازِمٌ وَمُسْتَقِرّ: ـ “لَسْتُ وَاثِقًا، يَا عَمِّي، إِنْ كُنْتُ قَدْ تَرَكْتُ كُلِّيَّةَ الفُنُونِ حُبًّا… أَمْ هَرَبًا.”, رَفَعَ الْوَالِدُ حَاجِبَيْهِ بِنُوعٍ مِنَ الدَّهْشَةِ، فِي حِينِ وَضَعَتْ مُنَى كَفَّهَا عَلَى خَدِّهَا، ثُمَّ قَالَتْ دُونَ أَنْ تُحَاوِلَ تَلْمِيعَ الحَقِيقَةِ: ـ “بَلْ هُوَ هَرَبٌ، يَا أَبِي.”, صَمَتْتُ لَحْظَةً. نَظَرْتُ إِلَى وَجْهِ وَالِدِهَا، ثُمَّ إِلَيْهَا، وَأَطْرَقْتُ كَمَنْ يَغْرِفُ ذِكْرًى قَدِيمَةً مِنْ بِئْرٍ نَسِيَ صَدَاهُ: ـ “نَعَم… هَرَبْتُ. هَرَبْتُ مِنْ… مِنْ جَسَدِي… وَمِنْ جَسَدٍ آخَر. مِنَ الخَوْفِ، وَالارْتِبَاكِ. مِنْ مَشْهَدٍ لَمْ أَعْرِفْ كَيْفَ أَعِيشُهُ، وَلَا كَيْفَ أَتَجَاوَزُهُ.” , شَدَّ وَالِدُ مُنَى أَطْرَافَ أَكْمَامِهِ الصُّوفِيَّةِ بِهُدُوءٍ، وَقَالَ بِنَبْرَةٍ أَقْرَبَ إِلَى التَّفْسِيرِ مِنَ الْحُكْمِ: ـ “تَقْصِدُ مَا جَرَى فِي امْتِحَانِ القُبُولِ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟” , أَجَبْتُهُ بِهَزَّةِ رَأْسٍ وَكَلِمَاتٍ خَفِيفَةٍ: ـ “نَعَم. المَوْقِفُ حِينَ طُلِبَ مِنِّي أَنْ أُجَسِّدَ فِكْرَةَ اللَّوْحَةِ مَعَ زَمِيلَةٍ لَا أَعْرِفُهَا. نَاقَشْتُ المَوْضُوعَ مَعَ مُنَى سَابِقًا.” قَالَتْ مُنَى بِصَوْتٍ دَافِئٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْعَتَبِ وَشَيْءٌ مِنَ الرِّفْقِ: , “وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ نُعِيدَ النِّقَاشَ فِيهِ، لِنَرَى مَا يَخْطُرُ لِوَالِدِي.” , تَنَهَّدْتُ قَبْلَ أَنْ أُتَابِعَ: ـ “كُنْتُ قَدْ رَسَمْتُ فَتَاةً جَالِسَةً قُرْبَ النَّافِذَةِ، يَتَسَلَّلُ الضِّيَاءُ نَاعِمًا إِلَى كَتِفِهَا العَارِي، لِيَخُطَّ عَلَى مسامات جِلْدِهَا حُدُودًا مِنْ نُورٍ وَظِلٍّ. لَمْ أَسْعَ إِلَى إِثَارَةِ أَيِّ لُغْزٍ جَسَدِيٍّ، بَلْ كُنْتُ أُحَاوِلُ، بِقَلَقِ الفَنَّانِ، أَنْ أُجَسِّدَ بِالرَّصَاصِ مَا تَفْعَلُهُ أَشِعَّةُ الشَّمْسِ عِنْدَمَا تَمُرُّ بِزُجَاجِ النَّافِذَةِ، وَتَتَقَاطَعُ مَعَ ظِلِّ نَبْتَةٍ، ثُمَّ تَنْكِسِرُ عَلَى انْحِنَاءَةِ العُنُقِ، وَتَلْتَفُّ عَلَى انْسِيَابِ اليَدِ نَحْوَ الضَّوْءِ، فَيَتَشَكَّلُ خَيَالٌ كَأَنَّهُ مَرْآةٌ لِمَا يُمكِنُ لأَيٍّ أَن يَصِفَهُ أَو لأيٍ آخَرَ بما لا يمكن أن يُقَال.
لَمْ أَكُنْ أَرَاهَا سِوَى لَوْحَةٍ بَسِيطَةٍ، بَرِيئَةِ القَصْدِ وَالنِّيَّةِ، وَلكِنَّهَا، عَلَى غَيْرِ تَوَقُّعٍ، أَثَارَتِ الدَّهْشَةَ فِي عُيُونِ أَعْضَاءِ اللَّجْنَةِ. وَبَيْنَ نَظَرَاتِ الإِعْجَابِ وَهَمْهَمَاتِ التَّسَاؤُلِ، طَلَبُوا مِنِّي أَنْ أُقَدِّمَ شَرْحًا تَجْسِيدِيًّا لِمَا قَصَدْتُ، بَعْدَ أَنْ عَجَزْتُ عَنِ الإِفْصَاحِ عَنْ رُؤْيَتِي لِتِلْكَ التَّدَاخُلَاتِ المُعَقَّدَةِ بَيْنَ النُّورِ وَالظِّلِّ.
عِنْدَ ذَلِكَ، تَقَدَّمَ رَئِيسُ اللَّجْنَةِ، رَجُلٌ وَقُورٌ كَثِيرُ الصَّمْتِ والتَّأَمُل، وَنَادَى إِحْدَى الدَّارِسَاتِ مِنَ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ. قَالَ بِصَوْتٍ هَادِئٍ وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى اللَّوْحَةِ: “تَمَعَّنِي فِيهَا، ثُمَّ ضَعِي جِسْمَكِ تَحْتَ تَصَرُّفِ الزَّمِيلِ… لِيُعِيدَ تَشْكِيلَكِ حَسبَ الرُّؤْيَا التِي يُرِيدُهَا عَلَى المِنَصَّةِ، وَفْقَ الزَّاوِيَةِ وَالإِضَاءَةِ الَّتِي يَخْتَارُهَا.”
بُهِتَتِ الفَتَاةُ لِوَهْلَةٍ، ثُمَّ هَزَّتْ رَأْسَهَا بِهُدُوءٍ مُتَرَدِّدٍ، وَتَقَدَّمَتْ إِلَى المِنَصَّةِ. كَانَ صَمْتُ القَاعَةِ آنَذَاكَ يَشْبَهُ صَمْتَ المَرَايَا حِينَ تَنْعَكِسُ فِيهَا صُورَةٌ لَا تُشْبِهُ سِوَى النَّفْسِ.
وَفِيمَا كُنْتُ أَضَعُ خُطُوطَ الإِضَاءَةِ، وَأُشِيرُ إِلَى مَوْقِفِ اليَدِ وَاتِّجَاهِ الرَّأْسِ، كَانَ بَعْضُ الحُضُورِ يَتَنَفَّسُ بِصُعُوبَةٍ، كَأَنَّ مَا يَجْرِي أَمَامَهُمْ لَيْسَ سِوَى مَشْهَدٍ سِرِّيٍّ يُكْشَفُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ. حَتَّى أَحَدُ أَعْضَاءِ اللَّجْنَةِ، وَهُوَ رَجُلٌ طَاعِنٌ فِي العُمْرِ، هَمَسَ لِمَنْ إِلَى جَانِبِهِ: “كَمْ هُوَ صَعْبٌ أَنْ تُعَبِّرَ عَنْ نُقْطَةِ ضَوْءٍ دُونَ أَنْ تَكْشِفَ عَنْ كَامِلِ الظِّلِّ!”
أَمَّا أَنَا، فَكُنْتُ أُفَكِّرُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فَقَط: كَيْفَ يُمْكِنُ لِلْفَنِّ أَنْ يُنْقِذَنَا حِينَ تَعْجِزُ الكَلِمَاتُ؟
وَاقْتَرَبَتْ هِيَ لِتُؤَدِّيَ الدَّوْرَ معي، قلت لها : (ما أريده منك هنا هو تشكيل لوحة شعرية بامتياز، مشهد بصري حسي تنسجم فيه ظلال الضوء وهمس العتمة، قميص منزلق عن الكتف والطابع الكلاسيكي بالفحم/الرماد فقط (أبيض وأسود( وأريد الاضاءة أن تصلح تمامًا لأن تتحوّل معك إلى عمل فني بالفحم والرصاص يجمع بين النعومة والدراما.
وشرحت المشهد العام للحضور بأن فتاة تجلس في هدوء قرب نافذة كبيرة، عارية الكتف، تستقبل أشعة الشمس التي تنساب برقة من خلال زجاج النافذة. لا تنظر إلى الخارج، بل يتجه نظرها إلى الداخل إلى يدها الممدودة، إلى شيء لا تراه العين.
يجب أن تظهر بالإضاءة على أنها بالفحم والرصاص:
• الضوء يتسلل من النافذة، فيصيب كتفها العاري بخفة، مرسومًا بخطوط ناعمة من الرصاص.
• على الكتف، تظهر الحدود المتداخلة بين النور والظل، كأن الجلد مرسوم ببراعة الضوء نفسه.
• أشعة الشمس لا تنزل مباشرة، بل تمر أولًا من خلال زجاج، وتتقاطع مع ظل نبتة قريبة، فيتكوّن على عنق الفتاة شكل مكسور من الظل والضوء، وكأن الطبيعة ترسم تعقيداتها على الجسد.
• اليد الممدودة نحو الضوء، ترتسم عليها الظلال كأنها مرآة للداخل، تعكس ما لا يُقال.
وفي الخلفية والجو العام:
• النافذة تظهر بجانبها نبتة كبيرة الأوراق، ظلها يسقط بتفاصيل دقيقة على الجدار وعلى جسد الفتاة.
• جو اللوحة سرّي، كأن من ينظر إليها يقتحم لحظة خفية، تُرى للمرة الأولى.
• التباين العالي بين الفحم الثقيل في الظلال، والرصاص الرقيق في الإضاءات، يُجسّد تلك “التداخلات المعقّدة” بين الضوء والظلال.)
شَعَرْتُ للحظة أَنَّنِي… أَعْجَزُ. رُبَّمَا لرؤيتي وَجْهَهَا، أو انْفِعَالَهَا، أو لما لم ير غيري ما رَأَيْتُه أنا فَقَطْ… كَتِفًا يَمتَدُّ عَارِيًا لِيَطُوفَ بِجَسَدِي. فَظَنَنْتُ أَنَّنِي ارْتَكَبْتُ خَطِيئَة، أو سأرتكبها… فَفَرَرْتُ.” , أَغْمَضْتُ عَيْنَيَّ كَأَنَّنِي أُسَلِّمُ لِلذِّكْرَى، فَسَمِعْتُهَا تَقُولُ بِصَوْتٍ كَانَ يُشْبِهُ هَمْسَ حَقِيقَةٍ: ـ “كُنْتَ تَقُولُ إِنَّكَ تَعْرِفُ الأَجْسَادَ فِي الكُتُبِ، وَلَكِنَّكَ لَمْ تَتَعَلَّمْ أَنْ تَرَاهَا فِي الحَيَاةِ.” , فَتَحْتُ عَيْنَيَّ. نَظَرْتُ إِلَيْهَا. مَلَامِحُهَا كَانَتْ هَادِئَةً، لَكِنَّ عَيْنَيْهَا تَقُولَانِ أَكْثَرَ مِمَّا يُقَالُ. قُلْتُ بِصِدْقٍ: ـ “لَمْ أَكُنْ مُعَدًّا لِذَلِكَ، مُنَى. لَمْ أَتَعَلَّمْ أَنْ أَرَى الجَسَدَ كَحُضُورٍ، لَا كَغَوَايَة. كَانَ الأَمْرُ أَكْثَرَ مِنْ رَسْمٍ، كَانَ انْكِشَافًا، وَلَمْ أَكُنْ مُسْتَعِدًّا لَهُ.” , وَضَعَ الْأَبُ فِنْجَانَهُ الْفَارِغَ عَلَى الطَّاوِلَةِ، ثُمَّ قَالَ بِنَبْرَةٍ تَسْتَخْرِجُ الْخِبْرَةَ مِنْ صَمْتِ السِّنِينَ: ـ “بَلْ لَمْ تَكُنْ مُسْتَعِدًّا لِأَنْ تُظُهِرَ نَفْسَكَ عَارِيًا أَمَامَ الوَاقِع. الفَنُّ لَا يَكْفِيهِ أَنْ تَرَى، يَا نعمان… بَلْ أَنْ تَنْظُرَ بِقَلْبٍ لَا يَخْجَلُ مِنَ الرُّؤْيَا.” , سَادَ صَمْتٌ خَفِيفٌ كَأَنَّهُ يَفْسَحُ مَجَالًا لِتَرَسُّبِ كَلِمَاتِهِ فِي نَفْسِي. ثُمَّ قُلْتُ بِنَبْرَةٍ تَفْهَمُ الْآنَ مَا لَمْ تَفْهَمْهُ قَبْلَ أَيَّامٍ: ـ “أَظُنُّنِي سَأَتَفَهَّمُ ذَلِكَ… لَكِنْ بَعْدَ أَعْوَامٍ. حِينَ أَكْتُبُ عَنِ المَوْقِفِ، لَنْ أَلُومَهَا، وَلَا اللَّجْنَةَ. بَلْ سَأُعَاتِبُ ذَلِكَ الفَتَى الَّذِي لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ كَيْفَ يَتَنَفَّسُ أَمَامَ امْرَأَةٍ.” , ضَحِكَتْ مُنَى بِخِفَّةٍ، وَقَالَتْ بِعُذُوبَةٍ: ـ “وَلَا تَزَالُ تَتَعَلَّمُ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟” ابْتَسَمْتُ، وَأَجَبْتُهَا: ـ “بِفَضْلِكِ.” , رَبَّتَ الْوَالِدُ عَلَى كَتِفِي، وَقَالَ وَفِي عَيْنَيْهِ نُورٌ دَافِئ: ـ “نَحْنُ لَا نَخْجَلُ مِنَ البِدَايَاتِ، يَا نُعْمَان… فَقَطْ مِنَ البَقَاءِ فِيهَا.”
قالَ الصَّديقُ، وهو يُقَلِّبُ كفَّهُ بتساؤلٍ مُندهِشاً:
“وَبَعدَ ذٰلِكَ؟”
ابتسم نعمان ، ثمَّ ماِل نَحوهُ بِشيءٍ من الحنين:
“بَعدَ ذٰلِكَ، يا صاحِبي، اقترحَتْ مُنى أن أَرْسُمَ بالكَلِماتِ عِوَضًا عن الألْوان، فَسَجَّلْتُ مَعَها في كُلِّيَّةِ الآداب.” .
قطَّبَ الصديق حاجبَيْه وقالَ بنبرةٍ تُخفي الدَّهشةَ خلفَ طرافةٍ وديعة:
“وَلٰكِن، كَيْفَ قُبِلتَ في قِسْمِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّة، وأنتَ حامِلٌ شهادةً ثانَوِيَّةً عِلميَّة؟!”.
” صَحيحٌ، يا صَديقي…” قالها، ثمَّ تابَع كَمَن يَسْتَعِيدُ فَصْلًا من قِصَّةٍ قَديمةٍ لا تَبْلَى:
” عندما ذهبتُ إلى كُلِّيَّةِ الفُنونِ لأَسْحَبَ أوراقي، كانت مُنى مَعي.”.
ضَحِكَ الصَّديقُ، وهزَّ رأسَهُ بخُفَّةٍ وقالَ مازِحًا:
” وَما الفَرْق؟! أَتُرِيدُ أَنْ تَقُولَ إنَّهُم قَبِلُوكَ لأَنَّهَا كانتْ مَعَكَ؟!”.
هَزَ نعمان رأسه نافِيًا، وابتسامةٌ صغيرةٌ على شَفَتَيَّه:
” لا، أَبَداً… ليسَ كذٰلك! لكن، في طريقِ عَوْدتِنا، أَخَذَتْ مُنى تُقَلِّبُ في جَدْوَلِ عَلاماتي، ثمَّ فَجأة، تَوَقَّفَتْ وصَمَتَتْ لحظةً، كأنَّها لمَحَتْ شيئًا عَجيبًا.”. نَظَرتُ إليها مُسْتَفْهِمًا: – “ما بكِ؟”, رَفَعَتْ ساعِدَها ونَظَرَتْ إلى ساعَةِ يدِها، ثمَّ أَشَارَتْ إلى أوَّلِ سيّارةِ أُجْرَةٍ تَقْتَرِب، وَصَعِدْنا. وما إنْ أَجْلَسَتْ ظِلَّها في المَقْعَدِ حتى قالتْ لِلسائقِ بِحَزمٍ: – “إلى كُلِّيَّةِ الآداب، من فضلك!” , سَأَلْتُها بِنَبْرَةٍ لا تَخْلو من القَلَق: – “ما الأمْر؟” , فَالتفَتَتْ نَحوي وقالت: – “ألَمْ تَقُلْ هذا الصَّباح إنَّهُ ينبغي أن تَبحثَ عن مَقْعَدٍ شاغرٍ لتُتابِعَ دِراستَكَ؟” , قُلتُ: “نَعَم.” , فقالت، وعيناها تُومِضانِ بفِكْرةٍ واثِقَة: – “لَكَ في شَهادَتِكَ العِلميَّة سبعٌ وثلاثونَ دَرَجَةً من أصلِ أَربعينَ في مادَّةِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّة!” , قُلتُ مُتَحَيِّرًا: – “وَماذا يعني ذلك؟” , قالت وهي تُدَقِّقُ في وجهي كمن يُهْديني نافذةً: – “يَعني أَنَّهُ يُمكِنُكَ أن تُسَجِّلَ مُباشَرَةً في قِسْمِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّة دونَ أن تَتَقَدَّمَ إلى المُفاضَلة العامّة. لقد فاتَ وَقْتُها وصَدَرَت نَتائِجُها، وقد قُبِلتُ أَنا بِمُوجَبِها… فما رَأيُكَ يا أُستاذ نُعمان؟!” , قُلتُ، وأنا أَسْتَدْرِكُ ذَهُولي بالدُّعاءِ: – “عَسى أَنْ يَكُونَ كُلُّ شَيءٍ لِلْخَيْر.” , ومَضَيْنا إلى كُلِّيَّةِ الآداب. كانتِ السّاعةُ تُقاربُ الثّانيةَ عَشْرَةَ ظُهرًا. أَمْسَكَتْ بِيَدِي، وركضْنا مَعًا، كأنّنا نُلاحِقُ قَدَرًا مُخْتَبِئًا وراءَ النّوافذ. وعندَ نافذةِ شُؤونِ الطُّلاب، قَدَّمْتُ أوراقي، وسَدَّدْتُ الرُّسومَ وثَمَنَ الكُتُب. وفي ذاتِ اليوم، حَضَرْنا مَعًا أُولى مُحاضراتِ الأدبِ الجاهليّ. تَنَفَّسْتُ عَميقًا، وكأنّني أَسْتَقْبِلُ مَصِيري الجديد، ثمَّ هَمَسْتُ لنَفْسي: (رُبَّما لم أَكنْ يومًا صانِعَ لَوْحاتٍ… لكنَّني، مُنذُ هذا الصَّباح، سأَكْتُبُها بالكَلِمات.) , ثمَّ نَظَرتُ إليها، وقلتُ في داخلي، دونَ أَنْ أُحرِّكَ شَفَتَيَّ:
( كُنْتِ دومًا… دونَ أن تَدْري… الغَيمةَ التي تَسيرُ فوقَ حُروفي.)
تَنَهَّدَ الصَّديقُ بإعْجابٍ لا يخلو من الدَّهشة، ثمَّ قالَ مُتأمِّلًا:
” صَحيحٌ … إنّكَ حَظِيتَ بفتاةٍ… لكنّها بِألفِ رَجُل.”.
في تلك الليلة، حين عاد نُعمان إلى غرفته، جلسَ على طرف السرير، يفتّش في فوضى أفكاره كما يفتّش المرء عن مفتاح ضائع في جيب معطف قديم.
– ” هل كنت صادقًا تمامًا؟
– ” هل بحت بما في القلب؟
– ” هل غيّر ذلك الحديث شيئًا فيّ؟
بدأ يُراجع المشهدَ كلّه كمن يعيد مشاهدة فيلمٍ يخصّه وحده.
– ” “هل قلتُ ما كان ينبغي قوله؟ أم قلتُ ما أراد أن يسمعه؟”
لم تكن كلُّ الكلمات التي خرجت منه خفيفة، لكنّها كانت ضرورية.
– ” الهروب؟ هل هو وصمة؟ أم غريزة نجاة؟”
– ” هل كان يمكنني أن أتمالك نفسي في قاعة القبول؟ أن أتحرّر من قيد الخجل والخوف والتربية المُغلقة؟”
– ” هل منى كانت فقط ملاذًا آمنًا، أم كانت مرآتي حين فقدتُ صورتي في عيني؟”
ثم حدّث نفسه:
– ” ربما كنتُ يومًا خائفًا من الجسد، لا لأنه فاحش، بل لأنه هش. كهشّتي أنا.”
– ” كنت أظنّ أن الفنّ لوحة… فإذا به انكشاف. وكنت أظن أني حرّ… فإذا بي أرتجف.”
– ” لكن، حين بدأت أكتب، بدأتُ أفهم.”
كان يرى الآن أن ما جرى لم يكن فشلًا، بل بداية لوعي أعمق:
– ” لم أرتبك من الجسد الأنثوي، بل من جهلي بحدوده، وبحدودي. من ذلك الطفل في داخلي الذي لم يتعلّم أن يرى المرأة ككائن، لا كمصدر ارتباك.”
– ” كان امتحان القبول مجازًا عن قبولي لذاتي… وكنتُ، في حينه، غير جاهز.”
ثم تنهّد وقال بصوتٍ خافتٍ، يكاد لا يسمعه سوى جدران الغرفة:
– ” أنا لا أندم. أنا أفهم. وهذا يكفيني الآن.”
– ” في ذلك اليوم، حين ارتبكتُ أمام زميلتي، لم يكن جسدُها وحده من أربكني… بل كلّ الأصوات القديمة التي سكنتْ داخلي.
صوت الأستاذ أحمد، الذي نظر إليّه ذات مرّة بعينين لامعتين وقال:
ــ “الفنُّ مسؤولية، لا انحراف… وأنت ابن بيئة لا ترضى إلّا بالظاهر.”
وصوت الشيخ، وهو يطرق الطاولة بقوة:
ــ “أترغب أن تُبدِّل دنياك بآخرتك؟ أتترك الحياء وتدخل درب المجون؟!”
كأنّ كلّ ما قيل له من قبلُ قد نهض من رماده تلك اللحظة… أمام الضوء المنسكب على كتف زميلته، أمام طلب اللجنة بأن يشرح لوحته جسديًا… لم يكن هو، بل كان حفنةً من التحذيرات والوصايا والخوف.
لكن…
هل كان خوفه من “الخطيئة”؟ أم من أن يكون “ضعيفًا”؟
هل كان يهرب من فتنة الجسد؟
أم من الحقيقة: إنه مازال لا يعرف كيف يرى الجسد… دون أن يربطه بالخطيئة؟
– ” أنا لم أخترع هذا الرعب. تربيتُ عليه. تشكّل في داخلي كالجُرح الذي يلتئم على عوجٍ. كنتُ أؤمن أن الطهر في الهرب، لا في الفهم. أن الحياء في التغاضي، لا في النظر النقي”.
لكن منى قالت شيئًا… شيءٌ لم يفارقه:
ــ “من لم يُعلَّم كيف يرى الجسد ببراءة، سيراه دومًا كتهديد.”
ربما آن له أن يعيد ترتيب مفاهيمه… لا ليهدم إيمانه، بل ليطهّره من رهابٍ لا يشبه الله، من تديّنٍ ورثته دون تمحيص.
– ” الشيخ لم يكن يكرهني. والأستاذ لم يكن يضلّلني.
لكن كليهما كانا ابنَي بيئةٍ لا تعرف كيف تنظر إلى الجمال… دون أن تضع بينه وبين العين ستار الخوف, والآن… أنا لا أريد أن أعيش مكمومَ الرؤية, أريد أن أنظر… أن أفهم… أن أحبَّ الجمالَ كما خُلق، لا كما خِفتُه.”
________________________________________
عاد والدُ نُعمانَ مساءً، تناول عشاءه بصمت، ثم جلس قرب المدفأة، يُحدّق في الجمر كأنّ وهجه يحمل سؤالًا قديمًا ظلّ بلا جواب.
دخل نُعمان الغرفة حاملًا فنجانين من القهوة، ووضع أحدهما أمام والده.
قال الأب، دون أن يرفع عينيه عن الجمر:
ــ ” كنتُ أراكَ تحسبُ الزوايا بدقّة، وتبني البيوت من ورق وكأنها ستصمد في الزلزال… ظننتُك ستصبح مهندسًا يُشيِّد الأحلام.”
جلس نُعمان بجواره، وصوته يجيء وفيه ظلُّ اعتذار:
ــ ” كان ذلك حلمي، نعم… لكن الطريق إليه ضاق، ولم يتّسع لي. جربتُ هندسة الديكور بعدها، حاولتُ أن أُقنع نفسي أنني لا أزال أُعمّر شيئًا… لكنّ القلب لم يطمئن، يا أبي.”
رفع الأب عينيه هذه المرة، وفي نظراته شيء بين الحزن والعَتب:
ــ ” وهل رضيتَ أن تبتعد؟ أم أنك قلتَ لنفسك: ما لم أبلغه، لم يكن لي؟”
تنفّس نُعمان بعمق، ثم قال بهدوء:
ــ ” لم أعد أُطارد ما لا يشبهني. اخترتُ أن أبدأ منّي، لا من حلمٍ تكسّر. دخلتُ قسم اللغة العربية، ووجدتني هناك. رأيتُ كيف يمكن للكلمة أن تبني بيتًا لا يسقط، أن تفتح نافذة في جدارٍ لا نافذة فيه. منى قالت لي ذات مساء: «اللغة لا تقلّ عن العمارة، فقط أدواتها أعمق». وأنا… صدّقتها.”
ظلّ الأب صامتًا لحظة، ثم قال بصوتٍ خفيض:
ــ ” كنتُ غاضبًا، نعم… لا لأنك لم تدخل الهندسة، بل لأنني شعرتُ أنّك تراجعتَ قبل أن تُجرِّب. خفتُ أن تكون كسرتَ جناحك بيدك.”
قال نُعمان، وعيناه تشعّان بمزيج من الحنين والصدق:
ــ ” لم أكسره… بل شكّلتُه من جديد. ذاك الجناح صار قلمًا، لا مسطرة. لم أعد أبني جدرانًا من إسمنت، بل من المعنى. أكتب لأصلح ما لم أستطع أن أبنيه في الواقع.”
ابتسم الأب بخفة، حرّك فنجانه قليلًا، ثم قال:
ــ ” وهل تصالحتَ مع ذاك الفتى الذي كان يرفع عينيه إلى كليّة الهندسة كمن يحدّق في جبل؟”
أجاب نُعمان، وهو يُلقي نظرةً عبر النافذة حيث المطر يهمس على الزجاج:
ــ ” ليس تمامًا… لكنني أكتب له. وأقرأ له كل مساء، كأنني أقول له: لم تذهب سُدًى.”
همس الأب، وكأنّه يعترف بأمرٍ أخفاه طويلًا:
ــ ” ربّما لم أفهمك آنذاك… لكنني اليومَ فخورٌ بك. لأنك لم تَبنِ جسرًا على الورق فقط، بل عبرتَ به نحو نفسك.”
في تلك اللحظة، أحسَّ نُعمان أنّه لم يعُد يكتبُ ليُرضي حلمًا قديمًا، ولا ليُداوي خيبة، بل ليُرى كما هو: إنسانٌ أعاد ترسيم حدود ذاته بعدما ضاعت عليه خرائط الطريق.
وفيما كان صوت المطر يُوشوش للنافذة، دلفت الأم إلى الغرفة، تمسح يديها بمنديلٍ قماشيّ، وعيناها تترصّدان وجهي الرجلَين.
قالت بنبرةٍ لا تخلو من الجديّة:
ــ ” سمعتكما تتحدثان… إذًا، حسمتَ أمرك يا نُعمان؟”
أجابها، وقد اعتدل في جلسته:
ــ ” نعم، يا أمّي. سجّلتُ في قسم اللغة العربية.”
تقدّمت خطوة، وجلست على الطرف المقابل، وحدّقت فيه بنظرةٍ ثابتة، ثم قالت:
ــ “هل تراكَ تهرب من الحلم كلّما ضاقت بك الطريق؟ أو تُراكَ تتخفّى خلف الكلمة لتُبرّر التراجع؟”
تدخّل الأب، وقد رقّ صوته:
ــ ” دعيه يُكمل. قد يكون ما حسبناه تراجعًا هو بحثٌ عن الطريق الأصوب.”
ردّت بسرعةٍ فيها شيءٌ من القلق المكبوت:
ــ “أنا لا أُعارضه لأنّه اختار الأدب… بل لأني أخاف عليه من الضياع. الحياةُ ليست نصًّا جميلاً، يا نُعمان، تُحرّره متى شئت. هي واقعٌ، يتطلّب حرفةً، ومهنة، وسندًا.”
نظر إليها نُعمانُ بهدوء، وقال:
ــ “وأنا لا أهرب، يا أمّي. لكنني تعلّمتُ أنّ الحلم الذي لا يتّسع لقامتي، قد لا يكون لي. كنتُ أظنّ أنّني إن لم أكن مهندسًا، فلن أكون شيئًا. ثمّ أدركتُ أنّ الهويّة لا تُختزل في مهنة، بل في أثر.”
صمتت لحظة، كأنّها تزنُ كلماته. ثم قالت:
ــ “لكنّك غيّرت الطريق مرارًا. من الهندسة إلى التصميم، ثم إلى الأدب… والقلق في قلبي لا يتبدّد بسهولة. أخشى أن تُضيّع عُمرك وأنت تُبدّل الواجهات، دون أن تبني بيتًا واحدًا تسكنه.”
هنا ابتسم الأب، ووضع يده على يدها بلطف:
ــ “لكنه بنى شيئًا،… بنى نفسَه. وأنا أراه اليوم أكثر نُضجًا، لا أقلّ تصميمًا. ليس المهم أن يبني الجسور بين الضفاف، بل أن يُقيم جسرًا بينه وبين روحه.”
خفضت الأمُّ عينيها للحظة، ثم رفعت بصرها إلى نُعمان، وقالت بصوتٍ أهدأ، وإن بقيت فيه نبرة الحذر:
ــ ” إن كنتَ وجدتَ نفسك هناك… فثبّت قدمك. لا تترك هذا الطريق كما تركت سواه. ولتعلمْ أن الكلمة مسؤولية، كالمباني تمامًا، تسقطُ إن لم تُؤسَّس على الصدق.”
أومأ نُعمان برأسه، وفي عينيه بريقٌ امتنانٍ عميق، وقال:
ــ ” أعدكما… هذه المرة لن أرجع. لن أبدّل الحلم، بل سأُعمّقه.”
الفصلُ السادس عشر خلاف أو سوء فهم 18
________________________________________
في اليومِ التّالي، أكمَلَا واجباتِهِما الدِّراسيَّةَ في صمتٍ مُطمئن، كأنّ بينَهما اتفاقًا غير منطوقٍ على أن تكونَ المعرفةُ هي السِّياجَ الحامي لكلّ ما ينمو بينهما.
وبَعدَ العَشاء، جلَسَا على شُرفةِ البيتِ يحتسيانِ الشّايَ بصُحبةِ المساءِ، وكانَ الخريفُ قد أسدلَ على دمشقَ وشاحًا من سُكونٍ ذهبيّ، لا يُسمَعُ فيه إلّا همسُ الأوراقِ الذّابلةِ وهي تَلامِسُ الإسفلتَ كاعتذارٍ ناعمٍ تأخَّرَ عن موعدِه.
قرَّبَت مُنى فِنجانَ الشّايِ من شَفَتَيها، ونظرت إليه بعينٍ ناعسةٍ لم تُطفئها الأسئلةُ، وقالت بصوتٍ يكادُ يهمس:
ــ “أفكَّرتَ كثيرًا بما دارَ بينكَ وبينَ أهلكَ… وصديقِكَ ذاكَ اليوم؟”
أومأَ نُعمانُ برأسِه، ثم قال، وصوتُه يُلامِسُ صدى كانَ لا يزالُ يتردَّدُ في داخله:
ــ “كثيرًا… أكثرَ ممَّا ينبغي. كأنَّ الحديثَ لم ينتهِ هناك، بل بدأَ بداخلي بعدَه.”
لم تُجِب مُنى، بل نظرت إليه طويلًا، وكأنّها تُصغي لِما سيقولُه قبلَ أن ينطقَه.
تابعَ نُعمان، وكأنّه يَستدرجُ ما ظلَّ حبيسًا فيه لسنوات:
ــ “كنتُ أظنُّ أنَّني تجاوزتُ تلكَ اللحظة… لحظةَ الارتباكِ في قاعةِ الفنون. لكن بعدَ حديثي معكِ ومع والدِك، أدركتُ أني لم أكن صادقًا تمامًا مع نفسي.”
أمالتْ رأسَها قليلاً، ثم سألَت بلُطفٍ يشبه لَمسَةَ يدٍ على جرحٍ قديم:
ــ “بِمَ تحديدًا؟”
أجاب، وصوتُهُ يحملُ صِدقًا نَضجَ تحتَ وطأةِ الأسئلة:
ــ “كنتُ أقولُ دائمًا إنني انسحبتُ لأنني لم أكن مستعدًّا. لكنّ الحقيقةَ الأعمق… أنني لم أكن مُتصالحًا مع ذاتي. لم أكن أعلمُ كيف أكونُ حرًّا دونَ أن أشعرَ بالذنب، ولا كيف أُعبّرُ عن موهبتي دونَ أن أرتبكَ أمامَ جسدٍ… أو نظرةٍ… أو فكرة.
لم أكن أعرفُ كيف أكونُ رجلًا يرى المرأةَ لا كخطرٍ… بل كرفيقةِ حضور.”
أطرَقَتْ مُنى رأسَها لحظةً، ثم قالت، كأنّها تُخاطِبُ الصَّوتَ الّذي قال أكثر ممّا يُقال:
ــ “وهل تغيّر شيءٌ الآن؟”
نظرَ إليها نُعمانُ طويلًا، بعينَيْنِ لا تزالُ فيهما آثارُ شتاءٍ مضى، ثم قال بهدوءٍ خالطه ضوءُ اعترافٍ:
ــ “نعم… تغيّر. لأنني كتبتُ. لأنني رويتُ.
لا لأنني تجاوزتُ الحرجَ، بل لأنني منحتهُ اسمًا، وقلتُ له: اجلس. أنا أراك.”
سادَ صمتٌ قصيرٌ، لم يَكسره إلّا همسُ شجرةِ النّارنجِ القريبةِ، تُحرِّكُ أوراقَها كما لو كانت تُؤيِّدُ ما قيل.
قالتْ مُنى بعدها، بنبرةٍ دافئةٍ تَشُوبُها لمعةُ اختبارٍ صغير:
ــ “وكيفَ ترى الآن… مُنى؟
الفتاة؟ أم الغُموض؟”
ابتسمَ نُعمان، ثم مدَّ يدَهُ إلى دفترِها برِقّةٍ تُشبه أوّلَ سطرٍ يُكتَبُ دونَ خوف، وقال:
ــ “أراكِ… كما أنتِ. ولا أريدُ أن أهربَ هذه المرّة.”
فقالت، وهي تضغطُ على كفّها بلُطفٍ يشبه الحنان حين يُفاجئ الحُبَّ:
ــ “ولا حاجةَ لأن تهرُب…
نحنُ نَكتُبُ معًا هذه المرّة… لا نُمتحَن.”
رفعت مُنى عينيها ببطءٍ، باسمةً بخجلٍ لا يخلو من عَتبٍ دافئ:
ــ “وأنا؟
كنتُ أُراقِب… فقط، وأتعلّمُ منكَ كيف يُمكنُ أن نخسرَ الطريقَ الّذي نُحبُّه، دون أن نخسرَ أنفسَنا.”
نظرَ نُعمانُ إلى الخارج، حيثُ الأوراقُ تتساقطُ بصمتٍ على الأرصفةِ الرّطبة، وقال:
ــ “رُبّما… لو لم يحدُث ما حدَث، لما عرفتُكِ كما أعرفُكِ الآن،
ولا كتبتُ ما كتبت…
ولا كنتُ أنا.”
وقفتْ مُنى، وبدأت تَجمعُ وشاحَها من فوقِ المقعدِ، ثم قالت وهي تُلقي عليه نظرةً جانبيّةً:
ــ “كلُّ شيءٍ حدث، كانَ مُقدّمةً لهذهِ اللّحظة…
فلا تندم.
اكتُبْها، كما تليقُ بنا.”
وقفَ نُعمان، واقتربَ من النّافذةِ، ثم قال بعد لحظةِ صمتٍ راقبَ فيها الغيوم:
ــ “جُزءٌ كبيرٌ من الموضوعِ…
يتعلّقُ بكِ، وبارتداءِ الملابسِ التي أصبحتِ تُلزمينَ نفسَكِ بها منذُ أن بدأنا الحديثَ سويًّا… وبدأنا نَجلِسُ طويلًا ونتحدّثُ في مواضيعَ كثيرة.”
استدارتْ مُنى نحوه، حاجباها انعقدا، ونظرت إليه بحدَّةٍ لطيفة:
ــ “وما بِحِجابي؟
ألم يُعجبك؟”
كانا قد أنهيا حديثًا دافئًا، تشابكت فيه الأرواح أكثر من الأيدي، حين فاجأها نُعمان بسؤالٍ بدا كأنّه يُمهِّد لشيءٍ أكبر:
– ” أَنَا ما قَصَدتُ شيئًا سَيِّئًا… ولَكِن، أُريدُ أَن أَسأَلَكِ أوّلًا: لِمَ قُمتِ بارتداءِ هٰذهِ الملابِسِ الَّتِي لم تَكُونِي تَرتَدِينَهَا مِن قَبْل؟ ”
رفعت منى حاجبَيْها، وهمست بنبرةٍ خافتة، تُخفي خلفها عتبًا:
– ” أَلَا تَعرِفُ الجَوَاب؟ أَم أَنَّكَ تُحَاوِلُ التَّغَافُل؟ ”
أطرقَ نُعمان برأسه لحظة، ثم قال بصوتٍ هادئ:
– ” بَلى… أَعرِفُه. وَلكنِّي كُنتُ أُحَاوِلُ أَن أَجِدَ مدخلًا لهذا الحديث، دون أن أُربِكَك.”
– ” ثمَّ مَاذَا؟ “، قالتها منى بعينين نصف مغمضتَيْن، كأنها تنتظر الحقيقة لا المقدمات.
– ” ثُمَّ… أَسأَلُكِ: هَل أَنتِ مُقتَنِعةٌ فعلًا بارتداءِ هٰذهِ الملابِس؟ أَم أَنَّكِ تَرتَدِينَهَا من أَجْلِي فَقَط؟ ”
نظرت إليه نظرةً طويلةً كأنّها تفتّش في دواخلِه عن النوايا، ثم قالت بنبرةٍ لم تخلُ من الصدق:
– ” لا أُخفيكَ سِرًّا… في البِدايةِ، نَعَم، ارتَدَيْتُهَا من أَجلِك. لم أَكُن مُقتنِعةً بِهَا حينها، لٰكِنِّي ضَغَطتُ على نَفسي، فقط لأَتمكّن من الجُلوسِ مَعَك، والحديثِ إليكَ وجهًا لوجه. كُنتُ أَخشى أَنْ تُشيحَ بوجهِك عنِّي… ومع الأَيَّام، صَارَت عَادَةً.”
هزَّ نُعمان رأسه ببطء، ثم قال بنبرةٍ جادّة:
– ” المُهِمُّ الآن… هَل أَنتِ مُقتنِعةٌ بِهَا، أَم ما زِلتِ تَرتَدِينَهَا لِنفسِ الأَسْبَاب؟ ”
ابتسمت منى ابتسامةً صغيرة، ثم همست:
– ” يُمكِنكَ أَن تَقول… إِنِّي ما زِلتُ أَرتدِيهَا لكِلا الأَمرَيْنِ مَعًا.”
– ” أَم أَنَّ هُنَاكَ سببًا ثَالِثًا؟ “، قالها وهو يُحدّق في عينيها.
– ” وماذا تُرِيدُ أَنْ تَقول؟ مَا هُوَ هٰذَا السَّبَبُ الَّذِي تَظُنُّ أَنِّي أُخفيه؟ ”
تنفّس نُعمان عميقًا، وقال:
– ” لا أَعلَم… ولكنِّي كُنتُ فِي زِيارةٍ أَمسِ لِأَحَدِ أَصدقائِي المُقرّبِين. وَكانَت بَيْنَهُ وَبَينَ زَوجَتِهِ مَشكِلَةٌ كَادت أَن تُوصِلَ بَيْنَهُمَا إِلَى الطَّلاق.”
شهقت منى بخفّة:
– ” يَا لَطِيف… وَما هِيَ هٰذِهِ المَشكِلَة؟ ”
– ” حينما قرعت باب صديقي, كان وزوجته فِي المَطبَخِ وَ قد ارتَفَعَ صَوتُهُما… تَجَادَلَا بِشِدّةٍ حتى كدت أغادر قبل أن يفتح الباب أَمَامِي.”
– ” وَالمُسبِّب؟ ”
– ” عندما سألته قال: بسبب الحِجَاب!… نَعَم، الحِجَاب الَّذِي تَرتَدِيهِ زَوجَتُه.”
– ” كَيفَ ذٰلِك؟ “، سألت منى بدهشةٍ صادقة.
– ” صَديقي يَدَّعِي أَنَّ زَوجَتَهُ تَرتدِي الحِجَاب، لا لِقَنَاعَةٍ دِينِيَّة، بَل لأنَّ شعرَها فَوضَوِيٌّ دَائِمًا، وَهِي تَجِدُ فِي الحِجَابِ حَلًّا أَسهَلَ مِن أَن تَعتَني بِمَظهَرِهَا… فَهُوَ يُغَطِّيه لَأنها لا تُرِيدُ الاهتمامَ بِهِ.”
– ” وَبِمَاذَا تُلَمِّح؟ “، قالتها منى فجأة، وعيناها تضيقان.
– ” أَنا؟ أُحَاوِلُ فَقط أَن أَفهَمَ مَوقِفَكِ مِن الحِجَاب، وَأَن أَسمَعَ رَأيكِ بِصِدق.”
رفعت منى رأسها ببطء، كأنها لم تصدّق ما سمعته لتوّها، ثم قالت، بصوتٍ قَطَعَ السكون:
– ” وَهَل تَظُنُّ أَنِّي أَرتدِي الحِجَابَ لأَنَّنِي لا أَهتَمُّ بِمَظهَرِي؟! ”
ثم صمتت لحظة، كأنها تنتظر أن يعتذر، لكنه ظلّ واقفًا مكانه، فتابعت، وهذه المرّة بصوتٍ أعلى، متّقدٍ بحرارة الجرح:
– ” إِليكَ عَنِّي! لا تُخاطِبني بَعدَ الآن، ولا تَتَّصِل بي، ولا حَتّى بِوالِدي. مِن هٰذِهِ اللَّحظَة… لِيَذهَب كُلٌّ مِنّا فِي طَريقٍ.”
ثم التفتت، رفعت وشاحها بصمتٍ، وخرجت من المكان، تاركةً خلفها شرفةً خريفيّةً ساكنة… ووجهًا مصعوقًا ما زال يحدّق في ارتباكِ أوراقِ النارنج وكأنها تستعد للسقوط.
وَقَفَ «نُعْمَان» في مكانه كأنَّ الأرضَ التي كانت تَحمِلُهُ فَجأةً أَغْلَقَتْ عليه دروبَها.
تَجَهَّمَ وَجهُ السماء كَسَحابةٍ نيسانيَّةٍ غَاضِبَة، وَتَرَكَتْهُ وَرَاءَها يَتَأَمَّلُ خُطَاهُا وَهي تَغادرُ إِلَى غُرْفَتِهَا دُونَ أَنْ تَلْتَفِتَ.
أَغْلَقَتِ البابَ خلفَها بِنَفَسٍ مَقْمُوع، أمَّا هو، فَبَقِيَ واقفًا كَتِمثالٍ من ذُهُول،
لا يَدْرِي ما الذي جَرَى،
ولا ما الذي قالَهُ،
ولا كيفَ تَحوَّلَ الكلامُ الَّذِي نَبَعَ من وَدَاعَتِه إلى سَهْمٍ غَرَسَ فِي قلبِهَا الغَضَب.
أَخَذَ يَسْأَلُ نَفْسَهُ بِصَمْتٍ يَخْتَلِطُ فِيهِ الصَّوْتُ وَالصَّدَى:
ـ “ماذا فَعَلْتُ؟ أَكانَ فِي سُؤَالِي إهَانَة؟ أَمْ فِي استفهامي مَا يُوجِعُهَا؟”
تَطَلَّعَ إِلَى السَّقفِ، ثم نَظَرَ إلى المَمَرّ، ثمّ التَفَتَ خَلْفَهُ كَمَنْ يَبْحَثُ عَن خَارِطَةٍ لِطَرِيقٍ فَقَدَهُ.
ـ “أَأَطْرُقُ بابَها؟ أَأَقُولُ لَهَا: ” لَمْ أَقْصِدْ؟” أَمْ أَنْسَحِبُ كَمَا يَفْعَلُ الجُبَنَاء؟ أَمْ أَعودُ إِلَى بَيْتِ أَهْلِي، الذين وَعَدْتُهُمْ أَنْ أَفْعَلَ فِي نِهَايَةِ هَذَا الأُسْبُوع؟”
مَرَّتِ السَّاعَاتُ، وَكَأَنَّ الزَّمَانَ تَجَمَّدَ فِي عَيْنَيْهِ، كَأَنَّ لَحْظَةَ رَحِيلِهَا قَطَعَتْ وَتَرًا خَفِيًّا فِي نَفْسِهِ، فَمَا عَادَ يَسْمَعُ غَيْرَ ضَجِيجِ صَمْتِهِ، وَلا يَرَى غَيْرَ خَيَالِهَا وَهِيَ تَسِيرُ مُبْتَعِدَةً، وَعَيْنَاهَا تَشْتَعِلانِ بِشَيْءٍ لَمْ يَفْهَمْهُ. جَلَسَ عَلَى الدَّرَجِ، ثُمَّ نَهَضَ، ثُمَّ مَشَى، ثُمَّ تَوَقَّفَ، ثُمَّ مَشَى مَرَّةً أُخْرَى، كَمَنْ يُحَاوِلُ أَنْ يُضَيِّعَ نَفْسَهُ عَنْ نَفْسِهِ. وَفِي كُلِّ خُطْوَةٍ، كَانَ صَدَى صَوْتِهَا يُطَارِدُهُ:
ــ “ٱرْتَدَيْتُهُ مِنْ أَجْلِكَ… ثُمَّ صَارَ عَادَةً.”
تِلْكَ الْعِبَارَةُ كَانَتْ كَجُمْلَةٍ تُخْفِي فِي بَاطِنِهَا قِصَّةً، فَهَلْ كَانَ هُوَ النُّورَ الَّذِي أَضَاءَ لَهَا دَرْبًا؟
أَمْ الظِّلَّ الَّذِي تَسَلَّلَ إِلَى أَلْوَانِهَا فَأَطْفَأَهَا؟ هَلْ كَانَ مَرْآةً صَافِيَةً، أَمْ زَوَايَا مُتَكَسِّرَةً شَوَّهَتْ صُورَتَهَا؟
لِأَوَّلِ مَرَّةٍ مُنْذُ أَنْ عَرَفَهَا، أَخَذَ قَلَمَهُ وَوَرَقَهُ، وَلَمْ يَكْتُبْ عَنْهَا، بَلْ كَتَبَ لَهَا…
وَصَارَ كُلُّ حَرْفٍ فِي رِسَالَتِهِ كَأَنَّهُ نُقْطَةُ ضَوْءٍ فِي عَتْمَةِ اللَّيْلِ.
كَتَبَ:
“لَمْ أَفْهَمْكِ، وَلَكِنِّي لَمْ أُرِدْ أَنْ أُوجِعَكِ.
إِنْ كُنْتُ سَبَبْتُ لَكِ أَلَمًا، فَإِنِّي أَلَمْتُ نَفْسِي مِثْلَكِ، وَالصَّمْتُ الَّذِي يَسْكُنُنِي الآن هُوَ أَشَدُّ مِنْ كُلِّ صَوْتٍ…”
ثُمَّ تَوَقَّفَ عَنْ الكِتَابَة،
كَأَنَّ قَلْبَهُ يَهْمِسُ لَهُ:
ـ “هَلْ تَكُونُ هَذِهِ نِهَايَةَ الحُلْم؟ أَمْ فَصْلًا جَدِيدًا… عَلَى أَعْتَابِهِ يَنْبَثِقُ النُّورُ مِنْ جَدِيد؟”
أَكْتُبُ لَكِ نَثْرًا، لأَوَّلِ مَرَّةٍ… كأنّي أَخُونُ الشِّعْرَ الذي عَهِدْتِني أكتبه،
لكنَّ الكلماتِ اليومَ لا تَنْصَاعُ للقافية،
ولا تُريد أن ترقصَ فوقَ البحور،
بل تهوي مثلي… ثقيلةً، واجمةً، مُرتبكة.
لم أَفْهَمْ ما جَرَى،
ولا أَدَّعِي أنَّني على صواب،
لكنِّي أُقِرُّ أنَّ في صوتِكِ ما كسرَ شيئًا في قلبي،
وفي وجهِكِ لحظةَ الرَّحيلِ… ما أَخَذَ ملامِحَ السُّكونِ من العالمِ وتركني أرتجف.
لَمْ أَتَعَمَّدْ أن أُخْطِئ،
ولَمْ أَقْصِدْ أنْ أُوجِعَكِ،
وإِنْ فَعَلْتُ، فلأنَّنا في مَواسمِ القُرْبِ نَخْفِقُ أكثر.
كنتُ أبحثُ عن جملةٍ تُرضيكِ،
فخرجتْ مني كلمةٌ غبيَّة… كأنّها سَهْمٌ أَصَابَكِ دونَ أنْ أراه.
حينها أرادها رسالةً حقيقيَّة…
لم يُرِدْها مجرَّدَ ورقةٍ مُخَطَّطةٍ بكلماتٍ مُستعجلة، ولا تمرينًا على الكتابةِ في غيابِ من تُكْتَبُ لها، بل أرادها اعتذارًا حقيقيًّا، رسالةً تشبههُ حين يصفو، ويُشبهها حين تُحزنُها التفاصيل.
رتَّب كلماته كما يَرتِّب المزارعُ أغصان النبتات حديثة الانبات، ثم انتظر اللحظةَ التي يَصفو فيها والدُها من عناء عمله.
حين جلسا، شرحَ له ما جرى، وما لم يستطع قولَه لها.
ضحكَ والدُ “مُنَى” حتى غاصَت نواجذُه في ضوءِ المساءِ الرَّقيق، وصفَّقَ على كتف “نُعمان” ضربةً خفيفةً وكأنَّه يُجاملهُ، ثم انتزع الورقةَ منهُ، وقامَ بخفَّةٍ لا تشبه سنَّه.
تقدَّم نحو غرفةِ ابنتهِ، وطرقَ البابَ ثلاثَ طرَقاتٍ خفيفة، كما كان يفعلُ حين كانت صغيرة.
صوتُه الهامسُ بالاستئذان، فتحَ في قلبها بابًا من الذاكرة. وحين أذِنَت، اندفعت إليه باكيةً، كأنَّها لم تَكْبُرْ بعد.
ارتمت في حضنهِ كما كانت تفعل في الطفولة، وتدفَّقت الدموعُ على خديها، لا لشيءٍ واضح، بل لأنَّها استعادت دفءَ الأمانِ القديم.
استمع إليها طويلًا، تاركًا ما رواه نُعمان على هامش الحديث، ثم انفجر ضاحكًا من جديد، ضحكةً مفعمةً لا تزال تحتفظُ بنفس النغمة القديمة، تلك التي كانت تُفرحها يومًا وتشبع احساسها بالأمان.
وما إن انتهت، حتى نهض من جوارها، ووضع الرسالة قرب وسادتها دون أن تنتبه، ثم غادر الغرفةَ وأغلق الباب برفق.
وفي الخارج، أوفى بوعده لابنته، فأخذ يُوبِّخ نُعمان بنبرةٍ صارمةٍ مصطنعة، لم تخفَ ابتسامتُهُ من بينِ كلماتها، وكأنَّه يُشاركهُ سرًّا لم يُقَلْ بعد.
________________________________________
في الداخل، هدأَ روعُ “مُنَى”، وجلسَت تستعيد أنفاسَها. وحين التفتت لتعيد ترتيب وسادتها، لمحت ورقةً لم تَرَها من قبل.
مدَّت يدَها نحوها بتردُّد، فوجدت الطيَّةَ مختلفةً… منظمةً، مهذَّبةً، كما لم تَعهده يكتب.
فكَّت الطيَّةَ برفق، وتأمَّلت السطرَ الأول:
مُنَى،
توقَّفت لحظة، وكأنَّ اسمَها قد خرج لتوِّه من فمِه لا من قلمه.
مرَّت أناملها على الحروف، كأنَّها تتحسَّس نبضًا فيها، ثم قرأت:
أَكْتُبُ لَكِ نَثْرًا، لأَوَّلِ مَرَّةٍ… كأنِّي أَخُونُ الشِّعْرَ الذي عَهِدْتِني أَكْتُبُه،
لكنَّ الكلماتِ اليومَ لا تَنْصَاعُ للقافية،
ولا تُريدُ أنْ تَرقصَ فوقَ البحور،
بل تَهْوِي مِثْلِي… ثَقِيلَةً، وَاجِمَةً، مُرْتَبِكَة.
هنا شهقت “مُنَى” بخفوت، وكأنَّه التقطَ تمامًا حالَ قلبها.
تابعت تقرأُ بشغفٍ ممزوجٍ بالخوف:
لَمْ أَفْهَمْ ما جَرَى،
ولا أَدَّعِي أَنَّنِي على صواب،
لكنِّي أُقِرُّ أَنَّ في صوتِكِ ما كَسَرَ شيئًا في قلبي،
وفي وجهِكِ لحظةَ الرَّحيلِ… مَا أَخَذَ ملامِحَ السُّكونِ من العالمِ وتركني أرتجف.
رفعت نظرها عن الورقة، وتنهَّدت كأنها تعود من سفرٍ داخليّ، ثم أكملت، بشيءٍ من البطء:
لَمْ أَتَعَمَّدْ أَنْ أُخْطِئ،
ولَمْ أَقْصِدْ أَنْ أُوجِعَكِ،
وَإِنْ فَعَلْتُ، فَلأَنَّنَا في مَواسِمِ القُرْبِ نُخْفِقُ أكثر.
كُنْتُ أَبْحَثُ عن جُملةٍ تُرْضِيكِ،
فَخَرَجَتْ مِنِّي كلمةٌ غَبِيَّة… كأنَّها سَهْمٌ أَصَابَكِ دونَ أنْ أَرَاه.
لمعت عيناها فجأةً، وتلفَّتت حولها كمن يخشى أن يكون هذا النصّ قد سُرِّب من قلبها لا من قلبه، ثم قرأت:
أَنَا آسِفٌ لأَنَّنِي لَمْ أَفْهَم،
لأَنِّي لَمْ أَسْأَلْكِ قبلَ أَنْ تَذْهَبِي:
“هَلْ أَنْتِ بِخَيْر؟”
أَنَا آسِفٌ لأَنِّي وَقَفْتُ كالأَبْلَهِ على الرَّصِيفِ البَارِد،
وَلَمْ أَلْحَقْ بِكِ…
أَنَا آسِفٌ، لا لأَنِّي أَخْطَأْتُ فَقَط،
بَلْ لأَنَّنِي لَمْ أَكُنْ أَجْمَلَ مَا يُمْكِنُ أَنْ تَسْتَحِقِّيهِ.
هنا شهقت منى ثانيةً، وارتجفت يدها.
تابعت، وصوت قلبها أعلى من صوت الكلمات:
مُنَى،
إِنْ كَانَ مَا بَيْنَنَا قَدْ أَغْلَقَ بَابَهُ،
فَسَأَبْقَى على العَتَبَةِ،
أَسْتَمِعُ لِلرِّيحِ،
وأُصَادِقُ الصَّمْتَ،
وأُرَتِّبُ جُمَلَ اعتِذَارِي حَتَّى تُشْبِهَكِ،
رَقِيقَةً، صَادِقَة، وبَعِيدَةً… كَمَا أَنْتِ.
انتهت السطور، لكن شيئًا في داخلها لم ينتهِ.
ضمَّت الورقةَ إلى صدرها لحظةً، كأنَّها تحتضن الدفءَ الذي ضاع منها ذات مساء.
ثم همست، بصوتٍ بالكاد يُسمَع، بلا خوفٍ أن يكون أحدٌ في الجوار:
– “أخيرًا… كتبَ لِي، لا عنِّي.”
رَكَضَتْ بِخِفَّةٍ كعصفورٍ فَزِعٍ نَحْوَ البابِ… فَتَحَتْهُ بِهُدُوءٍ، وَأَلْقَتْ نَظْرَةً خَاطِفَةً إلى الرِّوَاقِ الخارجيّ،
وحينَ لَمْ تَجِدْهُ واقِفًا هناك، أَغْلَقَتِ البابَ خَلْفَها بِصَمْتٍ بَارِدٍ، كَأَنَّهَا تُغْلِقُ فَصْلًا مِنْ عُمْرِهَا، لا تُرِيدُ لَهُ أَنْ يُفْتَحَ مَرَّةً أُخْرَى. تَسَلَّلَ ظِلُّهَا الْمُتَرَدِّدُ إلى الغُرْفَةِ كَطَيْفٍ جَرِيحٍ، وَبِحَرَكَةٍ خَفِيَّةٍ، أَلْقَتِ الرِّسَالَةَ على الْكُرْسِيِّ بِلا اكْتِرَاث، كَأَنَّهَا تَنْفُضُ عَنْ كَاهِلِهَا ثِقْلَ مَا دَارَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ “نُعْمَان”، ثِقْلًا يَتَجَسَّدُ فِي كَلِمَاتٍ عَاجِزَةٍ وَنَظَرَاتٍ لَمْ تُقَلْ. وَمَا إِنِ اسْتَدَارَتْ نَحْوَ النَّافِذَةِ، حَتَّى بَلَغَ بَصَرُهَا طَرَفَ زُجَاجِهَا، فَرَأَتْ شَيْئًا غَرِيبًا… رِسَالَةً أُخْرَى، مُغَلَّفَةً بِوَرَقٍ مُلَوَّنٍ، تَتَرَبَّصُ بِهَا كَفَصْلٍ ثَانٍ لِلْحِكَايَةِ.
خَطَتْ خُطْوَةً وَاحِدَةً بِتَرَدُّد، ثُمَّ أَطَلَّتْ مِنْ خَلْفِ الزُّجَاجِ، تَفَحَّصَتِ الْحَدِيقَةَ بِعَيْنَيْنِ تَسْتَجِيبَانِ لِرَجَفَةِ الْقَلْبِ، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا… لا أَحَدَ سِوَى نَفْسِهَا تَنْعَكِسُ عَلَى الزُّجَاجِ كَسُؤَالٍ مُبْهَم.
مَدَّتْ يَدَهَا وَأَخَذَتِ الظَّرْفَ،
شَقَّتْهُ بِسُرْعَةٍ، كَمَنْ يَفْتَحُ جُرْحًا لِيَرَى مَا تَحْتَهُ،
وَبِرِقَّةٍ مُفَاجِئَةٍ، أَخَذَتْ تَقْرَأ…
تَمْشِي الْهُوَيْنَى وَقَلْبِي خَلْفَهَا وَلِهُ
كَأَنَّهَا الشَّمْسُ فِي إِشْرَاقِهَا سَكَنِي
مُنَى، أَيَا رُوحَ حُلْمٍ، قَدْ تَرَكْتِ دَمِي
يَرِقُّ سُؤَالُكِ حِينًا، وَحِينًا يُؤْرِقُنِي
رَكِبْتِ بَحْرًا، فَبَاتَ الْحُزْنُ يَسْأَلُنِي
هَلْ تَعْلَمِينَ إِذَا مَا الْبُعْدُ ضَيَّعَنِي؟
قَدْ كُنْتِ لَوَّحْتِ، وَالْآفَاقُ صَامِتَةٌ،
أَمَا نَظَرْتِ مَا فِي الْمُقْلَتَيْنِ مِنْ وَهَنِ؟
تَرَكْتِ هَمْسًا، وَلَكِنْ كَانَ يُعْجِلُنِي
خَطْوُ الْفِرَاقِ، وَضَاعَ الْحَرْفُ بِالْمِحَنِ
أَمَا لِبَاسُكِ، فَغَيْرُ مَا أَلْفَيْتُهُ زَمَنًا،
فَهَلْ تَعَافَتْ، أَمِ الْأَيَّامُ تَخْدَعُنِي؟
فَإِنْ رَجَعْتِ، وَقَلْبِي بَعْدُ مُشْتَعِلٌ،
سَأَسْأَلُ الرُّوحَ: مَا أَخْفَيْتِ مِنْ وَزَمَنِي؟
مِنِّي السَّلَامُ، وَإِنْ غَابَتْ خُطَاكِ غَدًا،
فَالْوُدُّ بَيْنَ الضُّلُوعِ الْحُمْرِ لَمْ يَهُنِ
مَا كُنْتُ أَطْلُبُ مِنْ دُنْيَاكِ غَيْرَ نَدَى،
يَمْحِي جَفَاءَ اللَّيَالِي حِينَ تُوجِعُنِي
لَكِنَّكِ الرِّيحُ، لَا تَهْوِينَ مُنْتَظِمًا،
وَلَا تَعُودِينَ إِذَا شَطَّتْ بِكِ سُفُنِي
ثمّ، وعلى غير عادتها،
وَضَعَتِ القَصِيدَةَ فَوقَ وَسَادَتِهَا،
وَضَمَّتْهَا إِلَى صَدْرِهَا،
وَأَغْمَضَتْ عَيْنَيْهَا،
وَاسْتَسْلَمَتْ لِأبحارٍ من أحْلَامٍ عَمِيقَة.
استيقظَ في الصّباحِ الباكرِ السّيّدُ أحمد، وقرعَ بابَ غرفةِ نعمان، ودعاهُ ليُساعدهُ في إعدادِ طعامِ الإفطار.
فأتمَّ نعمانُ الآيةَ التي كانَ يقرؤُها، ووضعَ المُصحفَ في مكانِه في المكتبة، ثمّ التحقَ بالسّيّدِ أحمد يُعاوِنُه.
ونادى بصوتٍ هادئٍ على منى، وهو قريبٌ من بابِ غرفتها، دون أن يقرعَه.
فالتحقتْ بهما، وساعدتهما في إحضارِ ما تمَّ تجهيزهُ إلى طاولةِ المائدة، دون أن تنبسَ ببنتِ شفة.
فقالَ لها والدُها:
ــ “هل تُفضِّلينَ البيضَ مسلوقًا أم مقليًّا اليوم؟”
فَصَمَتَتْ لَحْظَةً، كَأَنَّهَا تَسْتَجْمِعُ قُوَّةً خَفِيَّة،
ثُمَّ رَفَعَتْ رَأْسَهَا، وَقَالَتْ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ، نَقِيٍّ، يَخْرُجُ مِنْ عُمْقٍ طَالَ كَبْتُهُ:
ــ “لَنْ أَرْتَدِيَ الحِجَابَ بَعْدَ الآن…
وَسَأَلْبَسُ مَا يَحْلُو لِي مِنَ الثِّيَابِ،
مِنْ أَجْلِي أَنَا، لَا مِنْ أَجْلِ أَحَد!”
لَمْ تَتَوَقَّفْ عَيْنَاهُ عِنْدَ مَلَامِحِ ثَوْرَتِهَا،
وَلَمْ يَبْدُ عَلَيْهِ أَدْنَى انْزِعَاجٍ،
بَلْ قَالَ بِهُدُوءٍ يَجْمَعُ فِيهِ مَا بَيْنَ قَبُولِ الأَبِ وَتَفَهُّمِ الصَّدِيق:
ــ “حَسَنًا… لَا مُشْكِلَة. أَنْتِ تَعْرِفِينَ رَأْيِي فِي هٰذَا الْمَوْضُوع.”
ثُمَّ جلس الجميع حول مائدة الافطار سَادَ خلاله صَمْتٌ طويل، كَأَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ قِيلَتْ كَانَتْ تَفْتَحُ بَابًا فِي الرِّيح…
وظلَّ الفطورُ ساخنًا، واليومُ في بدايتِه،
وهي، للمرّةِ الأولى، تشعرُ أنّها جلستْ إلى الطاولةِ وظهرُها مستقيمٌ.
الفصلُ السابع عشر حفل النجاح في الثانوية العامة 19
________________________________________
في بيتِ السَّيِّدِ أحمد – بعدَ شهرين من بدء الدراسة في الجامعة
كانَ المساءُ قد استوى على هُدوئهِ الأليف، واكتملت جلسةُ الشرفةِ بعد العشاءِ بلمّةٍ دافئةٍ: السَّيِّدُ أحمدُ منهمكٌ في إعداد الشاي، ومنى تتابع بعض أعمال الترتيب في المطبخ المفتوح إلى الصالة، فيما كانَ نُعمانُ يحضر ما تبقى من صحون المائدة إلى المطبخ، ولسان حاله يتحدث كأنَّهُ ينتظر أن يبدأ أحدهما حوارًا أو سؤالاً , أو ربما يريد أن يعرض مشكلة تخصه ويعاني منها في الجامعة.
انتبهتْ منى إلى غرقه في الشرود فسألته، بنبرةٍ مشاغبةٍ يختلطُ فيها الفضولُ بالعِتابِ الهادئِ:
ــ “لماذا لم تُخبرني عن حفلكَ الذي أقمته في دُوما بعدَ نجاحِك في الثانوية؟”
– ” ومن أخبرك؟”
– ” سَمِعتُ بعضَ التفاصيلِ من خلال بعض حديثك سابقاُ مع الحاج أبي محمود… لكنكَ لم تروِ لي أنتَ شيئًا.”
ارتبكَ نُعمانُ لحظةً، ثمَّ قالَ وهو ينقلُ نظرَهُ بين منى ووالدِها:
ــ ” ظننتُ أنّ الأمرَ قد لا يعنيكَ كثيرًا… أو أنّكَ لن تري فيه ما أراهُ أنا.”
– ” وكيف تظن أن شيئاً كهذا لا يعنيني؟”
– ” قَبيلَ نهايةِ الصيفٍ السابق، كنتُ قد أنهيتُ عملاً شاقًّا في ورشةِ حديدٍ، وعندما لم يبقَ وقتٌ كافٍ لبدءِ ورشةٍ جديدةٍ قبلَ افتتاحِ المدرسة، عَرَضَ عليَّ أحدُ أقاربِ والدي، وكان يعملُ في شركةِ (سادكوب) – شركةِ النفطِ والتوزيعِ في سوريا – أن ألتحقَ بها بعقدِ مياومةٍ مؤقّت.
وافقتُ بلا تردُّد. لم أشأ أن أقضيَ ما تبقّى من العطلةِ في البيتِ دونَ عملٍ. وهناك، تعرّفتُ إلى خمسةِ من الموظفين جَمَعَتْني بهم غرفةٌ واحدةٌ ومهامّ يوميّةٌ. كانوا مختلفي الأعمار، لكنّ شيئًا بيننا كان يجعلُ المسافاتِ تتلاشى. صاروا زملاء، ثم أصدقاء، ثم أشبهَ بالأُخُوَّة.
في المساءِ، كُنّا نتبادلُ الزياراتِ، وفي العُطلِ نخرجُ إلى نُزهاتٍ على ضفافِ بَرَدَى أو بينَ بساتينِ الغوطة. وكان مِن بينِهم شابٌّ قريبً من سِنِّي تقريبًا، اسمه حسن شتيوي… صوتهُ عذبٌ، أقربُ إلى صوت المطرب عبدِ الحليم حافظ، إذا غنّى سَكَتَ من حولَه. ومعهُ عدنان المُغير، رجلٌ أربعينيٌّ وقور، يُجيدُ العزفَ على العود، ويمتلكُ صوتًا دافئًا يليقُ بفرقةِ المنشدِ الشهير حمزة شكور، والتي كان أحدَ أعضائها البارزين.
في كلِّ لقاءٍ لنا، كنّا نُعدُّ الطّعامَ سويًّا، نأكلُ، ثم نُنصتُ بشغفٍ لعزفِ عدنان، وغناءِ حسن، أو نُشارِكُهم بأصواتنا المتواضعة كأنّنا فرقةٌ صغيرةٌ تُمارسُ الحُلمَ في الظلّ.
لم تنتهِ صداقتنا بانتهاءِ عملي في الشركة. بل بقيتِ الزياراتُ والمحبّة، حتى بعد أن عدتُ إلى مقاعدِ المدرسة.
وذاتَ مساءٍ، وبعدَ صدورِ نتائجِ الثانويةِ العامّة، جاءوني مُهنّئين… حسن، وعدنان، وبقيّةُ الأصدقاء. قالَ حسنُ بحماسٍ: ( ” يا رجل! لا بُدّ أن نُقيمَ لك حفلاً يليقُ بهذا النجاح! وسأغنّي أنا، وعدنان سيعزف، ونحنُ نُرتّبُ الباقي!”)
وافقتُ، واقترحتُ إقامةَ الحفلِ في حديقةِ بيتِ جَدّي. فذهبتُ إليه واستأذنتُه بلُطفٍ.
ويا للمفاجأة… وافقَ!
جَدّي، الذي طالما حرَّمَ الغناء، وافق! كانت سعادتي لا توصف.
بدأتُ التّحضير: أنرتُ الحديقةَ بخطوطِ الزّينةِ والمصابيحِ الملوّنة، استأجرتُ كراسيَّ وطاولات، رتّبتُها بدقّة، ونصبتُ منصّةً خشبيّةً صغيرةً أمامَ الأشجار، ستكونُ ساحةَ الغناءِ والعزفِ لزملائي.
دعوتُ الجميع: أعمامي، أخوالي، الجيران، الأصدقاء… وراحت أُمّي تصنعُ الحلوياتِ كأنّها تصنعُ الفرحَ بيديها.
وقبلَ موعدِ الحفلِ بثلاثِ ساعات، جاءَ حسن… لم يكن وحدَه. سيّارتانِ مُكتظّتانِ بالرجالِ والآلاتِ الموسيقيّة. أكثرُ من خمسةَ عشرَ ضيفًا!
اقتربَ مني بخفّةٍ وقال: ( ” هؤلاءِ أصدقائي كنت واحد منهم في هذه الفِرقَة إلى زمن قريب… ويجبُ أن تُطعِمَهم أوّلًا.(”
شهقتُ بدهشةٍ مكتومة، لكنّي رحّبتُ بهم وأدخلتُهم غرفتي، ثم أسرعتُ إلى والدتي، وجدّتي، ونساءِ العائلةِ أستجدي مساعدتَهنّ في إعدادِ وليمةٍ تُليقُ بالعددِ الجديد.
أعدّتِ النسوةُ الطعامَ بسرعةٍ مدهشة، وقدّمنا الغداءَ على طاولاتٍ جمعناها في الحديقة، تبعهُ حلوى وفواكه وشاي… ثمّ أعدنا ترتيبَ المكان، وبعد مغيبِ الشمسِ وقفنا جميعًا لصّلاة المغرب.
وبعد الصلاة… انطلقَ الحفل.
خرجتِ الآلاتُ من السيّاراتِ تباعًا: عود، ناي، كمان، طبل، دفّ، ومكبّراتُ صوتٍ صغيرةٌ… وبدأتِ الفرقةُ الغناء.
كانت الأصواتُ تملأُ المكانَ بالبَهجة، والوجوهُ تتلألأ كأنّها نجومُ ليلٍ دافئ.
اقتربتِ الساعةُ من الثانيةَ عشرةَ والنصف ليلًا، حين ناداني جَدّي وقالَ بهدوء: ( “يكفي يا ولدي… الجيرانُ لهم علينا حق, ويجب أن نحترم وقت راحتهم, وقد حان وقت ذهاب الجميع إلى النوم.”)
شكرتُ حسن، وودّعتُ أعضاءَ الفرقة، ولم أنسَ أن أُقبّلَ يدَي جَدّي وجدّتي امتنانًا.
في اليومِ التالي، زارني حسن.
قالَ بصوتٍ فيه شيءٌ من التردُّد: ( “الحفلُ كان رائعًا… لكنّه كلّفَ كثيرًا. دفعتُ ثلاثمئةِ ليرة، وأحتاجُ ثلاثمئةً أخرى.(”
نظرتُ إليه بصمتٍ لحظةً، ثمّ قلت: ( “لم نكن اتفقنا على هذا يا حسن… لكن لا بأس. شكرًا لك، وهذه ستمئة ليرة، لكَ كلّها.”) وناولتهُ المبلغ، وانصرفَ راضيًا.
لكنّ شيئاً داخليًّا بعدَ أسبوعين، حينما زارني عدنان. عكَّرَ هدوئي. حين جلسَ بصمتٍ، ثم قال فجأة: ( “حسن نصبَ عليك، يا نُعمان. اتّفقَ مع الفرقةِ من خلفِ ظهرك، وقالَ لهم إنك ستقدّمُ طعامًا فاخرًا، وضيافةً لا مثيلَ لها… أرادَ أن يُسلِّيهم، وأن يجدَ من يدفعُ الثمن.(”
لم أُجبه فورًا. قلبي انقبضَ، ثم انفرجَ بشيءٍ من الأسى. زرت حسن في بيتهِ بعدها، مرارًا… لكنّه لم يظهر. اختفى، كما تختفي بعضُ الصداقاتِ حين يُطالُها الظلّ. لكنّي لم أكن غاضبًا. لكونه أدخلَ البهجةَ إلى قلوبِنا، حتى دون أن يقصد. وأنا أُفضِّلُ أن أكونَ مظلومًا ألفَ مرّة، ولا أظلمَ أحدًا مرّة واحدة.”
– ” ولماذا لم تدعنا إلى هذا الحفل؟ أو تدع والدي على الأقل؟” سألته منى
– ” لأن علاقتي معكما كانت في بدايتها أو ربما كانت متأزمة بعض الشيء, ولأن الحفل كان يطبع عليه الطابع الشعبي لذلك لم اجد ان أدعوكما او أدعو والدك وحده وان كان جميع من حضر من الرجال ممن كانوا قد سمعوا شيئاً عن علاقتي معكم سالني عن حضور ذلك الرجل الجديد من اجل أن يتعرفوا عليه ، وكذلك روت لي امي عن عدد النسوة اللاتي جلسن خلف النوافذ يستمعن الى الاغاني الجميلة، وبعضهن ممن كن يسترقن النظر من خلف النوافذ ليرين مجريات الحفل او بعضا منها ، ويعدن ليسألنها عما اذا كانت منى ستحضر قريبا حتى يتعرفن عليها عن قريب .”
ــ ” كأسُ شايٍ، يا منى… أظنُّ أنَّهُ وقتُه.” قال والدها ثم تابع باستغراب:
الفصلُ الثامن عشر مُحَاضَرَاتِ النَّحْوِ 20
________________________________________
– ” لَمْ تَقُلْ شَيْئًا طِوَالَ العَشَاءِ، وَلوْلَا سُؤَالُ مُنَى عَنِ الحَفْلِ، لَمَا كُنَّا سَمِعْنَا لَكَ صَوْتًا اليَوْمَ.
رَفَعَ نُعْمَانُ نَظَرَهُ بِبُطْءٍ، كَمَنْ يُزِيحُ غِطَاءً ثَقِيلًا عَنْ قَلْبِه، وَهَمَسَ بِنَبْرَةٍ مُرْتَجِفَةٍ، كَأَنَّهُ يَتَلَفَّظُ بِحُكْمٍ عَلَى نَفْسِه:
– ” نَعَم… رُبَّمَا… وَمَعَ ذَلِكَ، مَعَكِ حَقٌّ يَا عَمِّي. ذَلِكَ لِأَنَّنِي أَشْعُرُ أَنَّنِي… أُشْبِهُ مَنْ يَكُونُ عَلَى حَافَّةِ الهَزِيمَةِ، وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَعْتَرِفَ بِهَا.”
كَانَتْ يَدَاهُ مُتَشَابِكَتَيْنِ، كَمَنْ قُيِّدَتْ رَغْمًا عَنْهُ، وَنَظَرَتْ مُنَى إِلَيْهِ بِعَيْنَيْنِ فَاضَتَا بِالذُّهُولِ، تَسْأَلُهُ وَمَلامِحُهَا تَتَغَيَّرُ:
– ” مِنْ أَيْنَ جَاءَكَ هَذَا الإِحْسَاسُ؟”
تَنَهَّدَ نُعْمَانُ، وَكَأَنَّهُ يَنْبِشُ فِي ذَاكِرَةٍ تَثْقُلُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:
– ” كُنْتُ أَحْسِبُ نَفْسِي مُتَفَوِّقًا فِي اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ. وَخُصُوصًا بَعْدَمَا نَبَّهْتِنِي أَنْتِ إِلَى تِلْكَ العَلَامَةِ الَّتِي حَصَلْتُ عَلَيْهَا فِي الثَّانَوِيَّةِ العَامَّةِ… العَلَامَةِ الَّتِي سَمَحَتْ لِي، أَوْ أَعْطَتْنِي الفُرْصَةَ، لِلتَّسْجِيلِ المُبَاشِرِ فِي قِسْمِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ.”
أَمَالَتْ مُنَى رَأْسَهَا بِلُطْفٍ، كَمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَجْلِي خَيْطَ حَقِيقَةٍ:
– ” وَأَنْتَ حَقًّا مُتَفَوِّقٌ، لَكِنْ… مِنْ أَيْنَ أَتَى لَكَ هَذَا الشُّعُورُ؟”
صَمَتَ لَحْظَةً، ثُمَّ تَكَلَّمَ كَمَنْ يُسَلِّمُ بِخَيْبَتِهِ:
– ” لَا أُرِيدُ أَنْ أُجَامِلَكِ، فَأَكْذِبَ عَلَيْكِ… وَلَا عَلَى نَفْسِي. مَضَى شَهْرَانِ عَلَى بَدْءِ دِرَاسَتِنَا الجَامِعِيَّةِ، وَلَكِنِّي… مَا زِلْتُ، حَتَّى الآن، أُوَاظِبُ عَلَى الحُضُورِ الصَّبَاحِيِّ مَعَكِ، وَفِي المَسَاءِ… أَذْهَبُ خِلْسَةً لِمُحَاضَرَاتِ الأُسْتَاذِ عَاصِم بَيْطَار.”
رَفَعَتْ مُنَى حَاجِبَيْهَا بِدَهْشَةٍ، وَقَالَتْ بِنَبْرَةٍ فِيهَا نَفَاذُ بَصِيرَةٍ:
– ” وَمَا الَّذِي يَدْعُوكَ لِحُضُورِ مُحَاضَرَاتِ النَّحْوِ المَسَائِيَّةِ؟”
ثُمَّ تَوَقَّفَتْ لَحْظَةً، وَأَضَافَتْ بِغُصَّةٍ لَمْ تُخْفِهَا نَبْرَتُهَا:
– ” أَمْ تَرَانِي… غَائِبَةً عَنْكَ، وَهُنَاكَ مَنْ شَدَّكَ إِلَيْهِ؟”
فَارْتَبَكَ نُعْمَانُ، وَرَفَعَ كَفَّيْهِ كَمَنْ يُقْسِمُ:
– ” مَعَاذَ اللهِ! لَا يَذْهَبْ فِكْرُكِ بِعِيدًا، يَا مُنَى! مَا هِيَ إِلَّا المَادَّةُ… مَادَّةُ النَّحْوِ، الَّتِي يُدَرِّسُهَا الأُسْتَاذُ عَاصِم.”
عَادَتْ مُنَى لِتَسْأَلَهُ بِصَوْتٍ أَلْيَن، وَلَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى القَلَقِ:
– ” وَمَا بَالُ مَادَّةِ النَّحْوِ؟”
كَأَنَّ نُعْمَانَ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ قَدْ فَكَّ قَيْدًا غَلَّ يَدَيْهِ، أَوْ أَلْقَى حِمْلًا ظَلَّ يُثْقِلُ كَاهِلَهُ، فَقَالَ دُونَ مُقَدِّمَاتٍ:
– ” لَا أَفْهَمُهَا مُطْلَقًا. حَتَّى إِنِّي، وَأَنَا أُصْغِي لِشَرْحِ الأُسْتَاذِ عَاصِم، أَشْعُرُ كَأَنَّنِي أَسْمَعُ طَلَاسِمَ، لَا صِلَةَ لِي بِهَا، وَلَا أُفَكِّرُ أَنَّهَا مِنْ لُغَةٍ زَعَمْتُ يَوْمًا أَنَّنِي أَتْقِنُهَا.”
لَمْ تَمْلِكْ مُنَى إِلَّا أَنْ ضَحِكَتْ، وَضَحِكَتْ طَوِيلًا، وَفِي عَيْنَيْهَا بَرِيقُ سُخْرِيَةٍ مَغْمُورٍ بِالمَحَبَّةِ، ثُمَّ قَالَتْ:
– ” وَلِمَاذَا قُمْنَا، أَنَا وَأَنْتَ، بِالتَّسْجِيلِ فِي قِسْمِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِنَتَعَلَّمَهَا؟ وَلِنَفْهَمَهَا؟ وَلِنُتْقِنَهَا؟”
أَجَابَهَا نُعْمَانُ بِصَوْتٍ مَخْمُورٍ بِالخَجَلِ:
– ” بَلَى… وَلَكِنَّكِ تَفْهَمِينَ، وَأَجِدُكِ تُحَاوِرِينَ، وَتَسْأَلِينَ، وَتُشَارِكِينَ فِي الإِجَابَةِ كَذَلِكَ، أَمَّا أَنَا… فَأَخْشَى أَنْ يَنْظُرَ تِجَاهِي الأُسْتَاذُ عَاصِم عِنْدَمَا يَطْرَحُ سُؤَالًا عَلَى الطُّلَّابِ فِي المِدْرَجِ!”
فَقَالَتْ مُسْتَفْسِرَةً، بِنَبْرَةٍ رَزِينَةٍ:
– ” وَهَلْ تَحْضُرُ مَسَاءً، لِكَيْ تَفْهَمَ مَا عَجَزْتَ عَنْ فَهْمِهِ صَبَاحًا؟”
فَهَزَّ رَأْسَهُ بِإِيمَاءَةٍ خَفِيفَةٍ، وَقَالَ فِي هُمُسٍ صَادِقٍ:
– ” نَعَمْ.”
صَمَتَتْ مُنَى بُرْهَةً، كَأَنَّهَا تُقَلِّبُ كَلِمَاتِهِ فِي قَلْبِهَا قَبْلَ أَنْ تَرُدَّ، ثُمَّ قَالَتْ وَصَوْتُهَا يَحْمِلُ خَلِيطًا مِنَ الرِّقَّةِ وَالحَزْمِ:
“نُعْمَان، أَنْتَ لَا تَنْقُصُكَ المَعْرِفَةُ، بَلِ الثِّقَةُ. تَخَافُ أَنْ تُخْطِئَ أَمَامَ الجَمِيع، فَتَلْزَمُ الصَّمْتَ، وَتَتَوَارَى فِي الزَّوَايَا. أَمَّا النَّحْوُ، فَلَيْسَ وَحْيًا يُتَلَقَّى، وَلَا طِلْسِمًا يُفَكُّ، إِنَّهُ مِثْلُ اللُّغَةِ نَفْسِهَا… يُحِبُّ مَنْ يُقْبِلُ عَلَيْهِ بِقَلْبٍ طَفْلِيٍّ، لَا بِخَوْفِ المُذْنِبِ.”
أَشَارَ نُعْمَانُ بِيَدَيْهِ فِي فَضَاءِ الغُرْفَةِ، كَأَنَّهُ يُجَسِّدُ تِلْكَ الرَّهْبَةَ الَّتِي يَصْنَعُهَا أُسَاتِذَةُ الجَامِعَةِ بِأَنْفُسِهِمْ فِي قُلُوبِ الطُّلَّابِ، وَقَالَ بِنَبْرَةٍ فِيهَا مَزِيجٌ مِنَ الدَّهْشَةِ وَالِاسْتِنْكَارِ:
“أَلَا تَرَيْنَ، يَا مُنَى، أَنَّ أَسْهَلَ شَيْءٍ عَلَى بَعْضِ أُسَاتِذَةِ الجَامِعَةِ، أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ، وَبِلُغَةٍ تَقْذِيعِيَّةٍ صَارِمَةٍ: (اُخْرُج!)… فَقَطْ لِأَنَّ طَالِبًا أَخْطَأَ فِي نُطْقٍ أَوْ تَصْرِيفٍ نَحْوِيٍّ وَاحِدٍ، وَهُوَ يُحَاوِلُ أَنْ يُجِيبَ فِي المُحَاضَرَةِ؟”
ثُمَّ سَكَتَ، وَعَيْنَاهُ تُفْصِحَانِ عَنْ مَا لَا تُفْصِحُهُ اللُّغَةُ… خَوْفٌ قَدِيمٌ يَتَكَوَّنُ مِنْ صَمْتٍ وَتَرَقُّبٍ وَأَبْوَابٍ تُغْلَقُ دُونَ فُرَصٍ.
نَظَرَتْ إِلَيْهِ مُنَى طَوِيلاً، ثُمَّ أَجَابَتْ بِهُدُوءٍ يَخْفِي غَضَبًا دَافِئًا:
“نَحْنُ نَتَعَلَّمُ اللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ، أَلَيْسَ كَذٰلِكَ؟”
“بَلَى!”، أَجَابَ بِسُرْعَةٍ، كَمَنْ يُمْسِكُ بِحَبْلِ نَجَاةٍ فِي لَحْظَةِ كغرِيقٍ.
تَابَعَتْ هِيَ، وَصَوْتُهَا يَصِيرُ شَفَّافًا كَمِرْآةٍ:
“فَمَا الفَائِدَةُ إِذًا مِنْ تَعَلُّمِنَا لَهَا، إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلأُسْتَاذِ أَنْ يَسْمَعَنَا وَنَحْنُ نُحَاوِلُ، نُخْطِئُ وَنُصِيبُ؟ أَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الحَدِيثُ وَالإِجَابَةُ تَطْبِيقًا عَمَلِيًّا لِمَا نَتَعَلَّمُهُ؟ أَمْ هِيَ مَعْرِفَةٌ مَخْزُونَةٌ تُقَالُ فِي أَوْقَاتِ الاِمْتِحَانِ وَتُطْوَى بَعْدَهَا الصَّفَحَات؟”
تَفَاجَأَ نُعْمَانُ بِكَلِمَاتِهَا، وَفِي تَعْقِيبِهَا، خَيَّمَ صَمْتٌ قَصِيرٌ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَادِيًّا… كَانَ صَمْتًا يُشْبِهُ صَدًى يَتَرَدَّدُ فِي جُدْرَانِ نُفُوسٍ كَثِيرَةٍ، لَا فِي الغُرْفَةِ فَقَط.
وَهَزَّ رَأْسَهُ كَمَنْ تَلَقَّى لَطْمَةَ حَقٍّ مُبَاغِتَةٍ، وَقَالَ بِنَبْرَةٍ فِيهَا أَثَرُ مَا سَمِعَ:
“رُبَّمَا… رُبَّمَا كُنْتُ أَبْحَثُ فِي كُلِّ مَحَاضَرَةٍ عَنْ نَفْسِي، فَلَا أَجِدُنِي، فَأَعُودُ مُحَمَّلًا بِخَيْبَةٍ جَدِيدَةٍ. وَكُلَّمَا شَاهَدْتُكَ تَرْفَعِينَ يَدَكِ لِلسُّؤَالِ، أَوْ تُصَحِّحِينَ مَعْنًى، أَسْمَعُ فِي دَاخِلِي صَوْتًا يَهْمِسُ: أَنْظُرْ… هُنَاكَ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ هُنَا… أَمَّا أَنْتَ، فَلَا.”
اِقْتَرَبَتْ مُنَى مِنْهُ قَلِيلًا، وَوَضَعَتْ كَفَّهَا بِخِفَّةٍ عَلَى ظَهْرِ يَدِهِ، فَارْتَجَفَ، كَأَنَّمَا لَمَسَتْ جُرْحًا قَدِيمًا، وَقَالَتْ بِصَوْتٍ دَافِئٍ:
“ذَلِكَ الصَّوْتُ… كَاذِبٌ، وَخَائِفٌ مِثْلَكَ. وَإِنْ أَصْغَيْتَ لَهُ طَوِيلًا، سَيَصِيرُ صَوْتَكَ أَنْتَ، وَتَنْسَى كَيْفَ تَكُونُ.”
أَطَالَ نُعْمَانُ النَّظَرَ فِي عَيْنَيْهَا، وَفِي قَلْبِهِ شَيْءٌ يَنْفَكُّ، وَهَمَسَ:
“أَتَعْلَمِينَ؟ لَوْ كَانَ لِكُلِّ شَكٍّ نَاصِحٌ مثلكِ، لَمَا ضَلَّتِ القُلُوبُ كَثِيرًا.”
ثُمَّ ضَحِكَ نُعْمَانُ ضَحْكَةً خَفِيفَةً، تَذَبْذَبَتْ بَيْنَ وَجَلٍ يَخْفِقُ فِي الصَّدْرِ، وَتَوَقٍ يُلَامِسُ طَرَفَ الحُلْمِ. لَمْ تَكُنْ ضَحْكَةَ سُرُورٍ، بَلْ ضَحْكَةَ مَنْ يُقْنِعُ نَفْسَهُ بِالْخُطُوَةِ وَهُوَ يَرْتَجِفُ.
قَالَ، وَصَوْتُهُ كَمَنْ يُخَاطِبُ نَفْسَهُ أَكْثَرَ مِمَّا يُخَاطِبُهَا:
“غَدًا… سَأَقْصِدُ الأُسْتَاذَ بَعْدَ المُحَاضَرَةِ، وَأَسْأَلُهُ سُؤَالًا… لِيُسَاعِدَنِي فِي إِيجَادِ خُطَّةٍ أَمْشِي عَلَيْهَا. لَا بُدَّ أَنَّهُ صَادَفَ كَثِيرِينَ مِمَّنْ هُمْ مِثْلِي… طُلَّابٌ جَاءُوا بِدَرَجَاتٍ مُرْتَفِعَةٍ فِي اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، فِي الفَرْعِ العِلْمِيِّ، وَلَكِنَّهُم، عِنْدَ البَدَايَةِ، تَخَبَّطُوا.”
فَارْتَسَمَتْ عَلَى وَجْهِ مُنَى بَسْمَةٌ مِلْؤُهَا الطَّمَأْنِينَةُ، وَضَحِكَتْ بِلُطْفٍ، كَأَنَّهَا تَسْتَدْعِي النُّورَ فِي مَكَانٍ يُرِيدُ أَنْ يَظَلَّ مُعْتِمًا.
أَشَارَتْ بِإِصْبَعِهَا إِلَى صَدْرِهِ، الَّذِي بَدَأَ يَرْتَفِعُ وَيَهْبِطُ كَمَوجٍ خَفِيٍّ تَحْتَ رِيحٍ خَجُولَةٍ، وَقَالَتْ بِصَوْتٍ يَشِي بِالْعَذْبِ وَالحَازِمِ فِي آنٍ:
“لَا تَكُنْ وَجِلًا مَعَ العِلْمِ، كُنْ صَادِقًا… فَقَطْ.”
تَوَقَّفَ الزَّمَنُ لَحْظَةً… كَأَنَّ كَلِمَتَهَا لَمْ تَكُنْ نَصِيحَةً، بَلْ مِرْآةً رَآى فِيهَا نُعْمَانُ نَفْسَهُ كَمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ، لَا كَمَا يَخَافُ أَنْ يَكُونَ.
فِي صَبَاحِ اليَوْمِ التَّالِي، وَفِي خُطًى تَخْتَلِطُ فِيهَا العَزِيمَةُ بِالتَّرَدُّدِ، رَافَقَتْ مُنَى نُعْمَانَ إِلَى مَكْتَبِ الأُسْتَاذِ عَاصِم بِيْطَار.
كُرْسِيٌّ جِلْدِيٌّ سَاكِنٌ، وَكُتُبٌ تَتَنَاثَرُ عَلَى الرُّفُوفِ كَأَنَّهَا تَهْمِسُ بِعِلْمٍ قَدِيمٍ، وَسَاعَةُ الحَائِطِ تُطْلِقُ نَبْرَةً مُنَظَّمَةً تُذَكِّرُ بِالْوَقْتِ… كُلُّ شَيْءٍ كَانَ يُضَافِرُ المَكَانَ بِهَيْبَةٍ لَا تُخْفِي أَنَّهَا تُرْهِبُ القَادِمَ الجَدِيدَ.
طَرَقَ نُعْمَانُ البَابَ بِخَفَرٍ، فَأَذِنَ لَهُمَا الأُسْتَاذُ بِالدُّخُولِ، وَبَعْدَ تَحِيَّةٍ مُهَذَّبَةٍ، جَلَسَا أَمَامَهُ، ثُمَّ قَالَ نُعْمَانُ بِصَوْتٍ خَفِيٍّ، يَسْتَأْذِنُ بِهَا:
“أَعْتَذِرُ، أُسْتَاذِي، إِنْ سَمَحْتَ لِي أَنْ أُحَدِّثَكَ بِاللَّهْجَةِ العَامِّيَّة… فَاللُّغَةُ، وَخُصُوصًا النَّحْوُ، تَصِيرُ عَلَيَّ أَثْقَلَ مِمَّا تَتَصَوَّرُ.”
انْفَرَجَ وَجْهُ الأُسْتَاذِ عَاصِم، وَلَمْ تَبْدُ فِي عَيْنَيْهِ أَيَّةُ دَهْشَةٍ، بَلْ رَفَعَ نَظَّارَتَهُ قَلِيلًا وَقَالَ بِنَبْرَةٍ هَادِئَةٍ:
“كُلُّنَا مَرَرْنَا مِنْ هُنَا، يَا نُعْمَان. النَّحْوُ عَنِيدٌ فِي البِدَايَةِ، وَلَكِنَّهُ يُصَادِقُ مَنْ يَصْبِرُ عَلَيْهِ.”
أَخَذَ نُعْمَانُ نَفَسًا عَمِيقًا، وَشَرَحَ لَهُ بِإِخْلَاصٍ كَيْفَ يَشْعُرُ بِالضَّيَاعِ فِي قَاعَاتِ الدِّرَاسَةِ، وَكَيْفَ يُصْغِي لِكَلِمَاتِ النَّحْوِ كَمَنْ يُصْغِي لِطَلَاسِمٍ تُتْلَى فِي لُغَةٍ غَرِيبَةٍ عَنْهُ.
صَمَتَ الأُسْتَاذُ قَلِيلًا، كَأَنَّهُ يُقَلِّبُ فِي ذَاكِرَتِهِ قِصَصًا شَبِيهَةً، ثُمَّ قَالَ:
“إِذَا كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَتَعَلَّمَ بِجِدٍّ، وَتَتَفَوَّقَ، فَإِنَّنِي أَقْتَرِحُ عَلَيْكَ خُطَّةً مَجْدُولَةً… نَمْشِي فِيهَا مَعًا، خُطْوَةً فَخُطْوَةٍ. لَيْسَ الأَهَمُّ مَا حَصَلْتَ عَلَيْهِ فِي الثَّانَوِيَّةِ، بَلْ مَا تَسْعَى إِلَيْهِ الآن.”
نَظَرَ نُعْمَانُ إِلَى مُنَى، فَوَجَدَ فِي عَيْنَيْهَا ضِيَاءً يُشْبِهُ ضَوْءَ صَبَاحٍ بَعْدَ لَيْلٍ طَوِيلٍ. أَمَّا هُوَ، فَلَمْ يَعُدْ يُحِسُّ بِالْوَجَلِ كَمَا كَانَ… بَلْ بِرَغْبَةٍ صَادِقَةٍ فِي أَنْ يَبْدَأ.
فِي الأَيَّامِ التَّالِيَةِ، لَمْ يَكُنْ نُعْمَانُ ذَاتَ الطَّالِبِ الَّذِي كَانَ يَتَخَفَّى فِي زَوَايَا القَاعَةِ، يَتَجَنَّبُ أَنْ تَقَعَ عَيْنُ الأُسْتَاذِ عَلَيْهِ. بَلْ أَصْبَحَ يَجْلِسُ فِي الصُّفُوفِ الأَمَامِيَّةِ، وَقَلْبُهُ يَخْفِقُ، لَكِنْ بِرَجَاءٍ هَذِهِ المَرَّةِ، لَا بِخَوْفٍ.
عَلَّقَ الأُسْتَاذُ عَاصِم يَوْمًا، وَهُوَ يَسْتَعْرِضُ تَحْلِيلًا نَحْوِيًّا جَرِئًا قَدَّمَهُ نُعْمَان:
“أَنْتَ تَكْتُبُ كَمَنْ كَانَ يَخَافُ القَلَمَ، ثُمَّ صَارَ يُغَازِلُهُ!”
ضَحِكَ الطُّلَّابُ، وَاحْمَرَّ وَجْهُ نُعْمَان، لَكِنَّهُ لَمْ يُخْفِ ابْتِهَاجَهُ… فَهَذِهِ أَوَّلُ مَرَّةٍ يُشَارُ إِلَيْهِ فِي مَحضَرِ العِلْمِ كَمَنْ يَسْتَحِقُّ ذِكْرًا.
بَعْدَ المُحَاضَرَةِ، كَانَتْ مُنَى، وَقَدْ بَدَتْ فِي عَيْنَيْهَا مَسْرَّةٌ لَا تُخْفَى.
قَالَتْ وَهِيَ تَسِيرُ إِلَى جَانِبِهِ:
“أَرَأَيْتَ؟ كَانَ فِيكَ كُلُّ هَذَا، وَلَمْ تَرَهُ.”
فَقَالَ وَهُوَ يَتَنَفَّسُ الصَّدْرَاءَ بَعْدَ مَشَقَّةٍ:
“كَأَنِّي أَكْتَشِفُ لُغَتِي مِنْ جَدِيد… كَأَنِّي أَتَعَلَّمُ كَيْفَ أَفْهَمُ نَفْسِي.”
الفصلُ التاسع عشر دورة الرسم الهندسي والمعماري في
مَعْهَدَ الجُمْهُورِيَّة 21
________________________________________
اِسْتَيْقَظَ والدُها مُبَكِّرًا كعادتهِ، وَدَعَاهَا بِصَوْتٍ هادئٍ لِتَنَاوُلِ طَعَامِ الإفْطَارِ قَبْلَ أَنْ تَذْهَبَ إلى الْجَامِعَةِ.
كانَ الصُّبْحُ نَضِرًا، تَنْسَابُ فِيهِ رَوَائِحُ الخُبْزِ الدَّافِئِ وَأَصْوَاتُ العَصَافِيرِ فِي الْبُسْتَانِ الصَّغِيرِ خَلْفَ الْبَيْتِ.
جَلَسَ بِهُدُوءٍ إِلَى الطَّاوِلَةِ، وَمَا إِنْ ائْتَلَفَتْ كَلِمَاتُهُ حَتَّى مَالَ نَحْوَهَا بِوُدٍّ وَقَالَ، وَفِي صَوْتِهِ نَفَحَاتٌ مِنْ ذِكْرَيَاتٍ بَعِيدَة:
ــ “وَجَدْتُ مَعْهَدًا فِي دِمَشْقَ يُسَمَّى ( مَعْهَدَ الجُمْهُورِيَّة)
يُدَرِّسُ فِيهِ أُسْتَاذٌ دُكْتُورٌ كَانَ زَمِيلِي حِينَ كُنَّا نَدْرُسُ فِي فَرَنْسَا.
تَحَدَّثْتُ إِلَيْهِ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّ دَوْرَةً مُكَثَّفَةً سَتَبْدَأُ غَدًا…
الدَّوَامُ ليس طَوِيلاً نِسْبِيًّا، حَوَالَي ثلاث سَاعَاتٍ مسائية يَوْمِيًّا،
لكن لا يَتَخَلَّلُهُ فَتَرَاتٌ لِلطَّعَامِ وَلا للاِسْتِرَاحَةِ.
أَمَّا الْمُدَّةُ فَسِتَّةُ أَشْهُرٍ فَقَط،
وَإِذَا رَغِبْتُمَا بِالْمَزِيدِ مِنَ التَّدْرِيبِ،
فَبِإِمْكَانِكُمَا الالْتِحَاقُ بِدَوْرَةٍ ثَانِيَةٍ مُمَاثِلَةٍ.”
ثُمَّ مَالَ بِرَأْسِهِ قَلِيلًا نَحْوَ “مُنَى”، وَفِي عَيْنَيْهِ بَرِيقُ التَّشْجِيعِ، وَسَأَلَهَا بِابْتِسَامَةٍ أَلِيفَةٍ:
ــ “مَا رَأْيُكِ؟”
حَضَرَ “نُعمانُ” عَلَى صَوْتِهَا الْمُرْتَفِعِ الذي ناداه باستبشار وبهجة، كَأَنَّهُ اسْتُدْعِيَ مِنْ أَفْكَارِهِ خِلَالَ اللَّحْظَةِ نَفْسِهَا.
نَظَرَ إِلَى السَّيِّدِ “أَحْمَد” وَرَفَعَ حَاجِبَيْهِ بِهُدُوءٍ، كَمَنْ يُخْفِي دَهْشَتَهُ السَّعِيدَةَ،
ثُمَّ قَالَ وَفِي صَوْتِهِ نَفَسٌ دَافِئٌ يُشْبِهُ ابْتِسَامَةً تَشُقُّ قَلْبًا طَالَما تَمَنَّى:
ــ “لَا مُشْكِلَةَ أَبَدًا… بَلْ، فِي الْحَقِيقَةِ، كُنْتُ أَحْلُمُ بِمِثْلِ هٰذَا النَّوْعِ مِنَ العَمَلِ وَالدِّرَاسَةِ.
وَقَدْ تَحَدَّثْتُ مَعَ “مُنَى” سَابِقًا عَنْ هٰذَا الْمَوْضُوعِ.”
ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْهَا، يَسْأَلُهَا أَوَّلًا بِعَيْنَيْهِ،
كَمَنْ يُقَدِّمُ لِقَلْبٍ آخَرَ حَقَّ الاِخْتِيَارِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ كَلِمَاتُهُ:
ــ “مَا رَأْيُكِ، مُنَى؟”
صَمَتَتْ “مُنَى” لَحْظَةً، كَأَنَّ السُّؤَالَ جَعَلَهَا تَتَنَبَّهُ لِعُمْقِ الخُطْوَةِ الَّتِي تَسِيرُ نَحْوَهَا،
ثُمَّ رَفَعَتْ عَيْنَيْهَا نَحْوَ “نُعْمَان”، وَفِي نَظْرَتِهَا مَزِيجٌ مِنَ الْاِمْتِنَانِ وَالتَّوَجُّسِ، كَأَنَّهَا تَقُولُ فِي سِرِّهَا: “أَتَفْهَمُنِي إِلَى هٰذَا الْحَدِّ؟”
وَبِصَوْتٍ خَفِيفٍ، لَكِنَّهُ مُمْتَلِئٌ بِالْقَرَارِ، نَطَقَتْ:
ــ “أُرِيدُ هٰذِهِ الْفُرْصَةَ، وَسَأَسْتَثْمِرُهَا عَلَى طَرِيقَتِي.
لَا أُرِيدُ أَنْ أُشْبِهَ أَحَدًا، وَلَا أَنْ أُرْضِيَ أَحَدًا… سَوَى نَفْسِي.”
ثُمَّ نَظَرَتْ إِلَى وَالِدِهَا، وَفِي وَجْهِهَا ذَاكَ الضَّوْءُ الَّذِي يَلُوحُ فِي عَيْنَيْ فَتَاةٍ تَخْطُو أَوَّلَ خُطُوَاتِهَا نَحْوَ حُلْمٍ شَجَاعٍ:
ــ “سَأَشَارِكُ فِي الدَّوْرَةِ، وَسَأَخْتَارُ مَا أُرِيدُ أَنْ أَتَعَلَّمَهُ. وَإِذَا تَطَلَّبَ ذٰلِكَ تَغْيِيرًا، فَلْيَكُنْ.”
تَبَادَلَ “نُعْمَانُ” وَ”السَّيِّدُ أَحْمَد” نَظْرَةً خَفِيَّةً، فِيهَا مَا يُشْبِهُ الِارْتِيَاحَ، وَشَيْءٌ آخَرَ كَانَ يَلُوحُ فِي الأُفُقِ:
نُقْطَةُ بَدَايَةٍ جَدِيدَة.
ــ “وأنا موافقة… بشرطٍ واحد.”
نظرَ إليها والدُها وقد ارتسمتْ على وجهِه ملامحُ الاستفهام:
ــ “وما هو؟”
قالت ممازِحةً:
ــ “أن لا تُراقبَ رسوماتِنا، كما كنتَ تفعلُ مع لوحاتي حينَ كنتُ في المدرسةِ!”
ضحكَ الجميع، وانفرجَ الجوُّ بشيءٍ من الدعابةِ التي بدّدتْ رسميّةَ الحديث.
أخرجَ السيّد أحمدُ ورقةً من جيبِه، وناولَها لنُعمان:
ــ “إذًا، عَلَيْكُمَا أَنْ تَكُونَا فِي المَعْهَدِ غَدًا، عِنْدَ السَّاعَةِ الخَامِسَةِ مَسَاءً. هٰذَا هُوَ العُنْوَانُ مَكْتُوبٌ فِي هٰذِهِ الوَرَقَةِ، وَسَأَتَّصِلُ بِالأُسْتَاذِ لِأُخْبِرَهُ بِمَجِيئِكُمَا.”
مَدَّ الوَالِدُ الوَرَقَةَ نَحْوَ “نُعْمَان”، فَأَخَذَهَا بِكِلْتَا يَدَيْهِ، كَمَنْ يَتَسَلَّمُ تَذْكِرَةً لِرِحْلَةٍ لَا يُدْرِكُ أَيْنَ تَنْتَهِي.
هَمَسَ بِامْتِنَانٍ خَفِيٍّ، وَفِي عَيْنَيْهِ نُقْطَةُ ضَوْءٍ بَدَتْ كَأَنَّهَا تَشُعُّ مِنْ أَعْمَاقِ فُؤَادِهِ:
ــ “شُكْرًا لَكُمْ… أَشْعُرُ أَنَّنِي عَلَى أَعْتَابِ تَجْرِبَةٍ جَدِيدَةٍ، فِيهَا مِنَ الفَنِّ، كَمَا فِيهَا مِنَ الحَيَاةِ.”
فِي مَسَاءِ الْيَوْمِ التَّالِي…
بَعْدَ أَنْ حَضَرَا مُحَاضَرَاتِهِمَا الصَّبَاحِيَّةَ، وَاسْتَرَاحَا قَلِيلًا بَعْدَ الْغَدَاءِ، كَانَتْ سَيَّارَةُ الأُجْرَةِ تَتَجَهَّمُ طَرِيقَ “حَيِّ المَزْرَعَةِ”، تَحْمِلُ فِي جَوْفِهَا حُلُمَيْنِ يَسِيرَانِ جَنْبًا إِلَى جَنْبٍ، كَأَنَّهُمَا نَبْتَتَا مِنْ تُرْبَةٍ وَاحِدَةٍ.
تَسَلَّلَ ضَوْءُ شَمْسِ كَانُونَ الثَّانِي ذَاتِ الغُيُومِ الثَّقِيلَةِ إِلَى أَرْصِفَةِ دِمَشْقَ القَدِيمَةِ، يُلَامِسُهَا بِرِقَّةِ مَنْ يُودِّعُ مَنْ يُحِبُّهُ قُبَيْلَ الغُرُوبِ.
كَانَ “نُعْمَانُ” يُحَدِّقُ مِنَ النَّافِذَةِ بِصَمْتٍ، وَعَلَى وَجْهِهِ مَا يُشْبِهُ خَلِيطًا مِنَ الحَيَاوَةِ وَالْتَرَقُّبِ، فَكَأَنَّهُ يُحَاوِلُ أَنْ يُخَزِّنَ فِي ذَاكِرَتِهِ مَا يَمُرُّ بِهِ الطَّرِيقُ قَبْلَ أَنْ يَبْدَأَ مَا لَا يُعْرَفُ كَيْفَ يَكُونُ.
وَإِلَى جَانِبِهِ، كَانَتْ “مُنَى” تُقَلِّبُ فِي دَفْتَرٍ صَغِيرٍ، رَسَمَتْ عَلَيْهِ فِي اللَّيْلَةِ السَّابِقَةِ مَخَطَّطًا بَدَائِيًّا لِبَيْتٍ ذِي طَابِقَيْنِ، يُشْبِهُ بَيْتًا مِنْ حُلْمٍ أَكْثَرَ مِمَّا يُشْبِهُ مَبْنًى عَلَى وَرَقٍ.
أَشَارَتْ إِلَى الرَّسْمِ بِإِصْبَعِهَا، وَقَالَتْ بِنَبْرَةٍ فِيهَا خَفَرٌ وَعَتَبٌ مَرِحٌ:
ــ “أَتَعْلَمْ، يَا نُعْمَان؟ فِي صِغَرِي، كُنْتُ أُعِيدُ تَرْتِيبَ أَثَاثِ غُرْفَتِي فِي خَيَالِي عَشْرَ مَرَّاتٍ قَبْلَ أَنْ أَطْلُبَ مِنْ وَالِدِي تَغْيِيرَ مَوْقِعِ السَّرِيرِ.”
اِبْتَسَمَ “نُعْمَانُ”، وَهَمَسَ بِتَعَاطُفٍ خَفِيٍّ:
ــ “إِذَنْ… كَانَتِ الْمُهَنْدِسَةُ الصَّغِيرَةُ فِيكِ تُقَاوِمُ بِصَمْتٍ، مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيد.”
ضَحِكَتْ “مُنَى” بِهُدُوءٍ، وَقَالَتْ، وَفِي صَوْتِهَا لَمْعَةُ دَعَابَةٍ:
ــ “وَأَنْتَ؟ مَنْ كَانَ يَسْكُنُ فِيكَ؟”
أَطَالَ “نُعْمَانُ” النَّظَرَ قَلِيلًا نَحْوَ نَهَايَةِ الشَّارِعِ، ثُمَّ تَنَهَّدَ كَمَنْ يَنْبُشُ ذَاكِرَةً لَمْ يُجَرِّبْهَا مِنْ قَبْلُ:
ــ “رُبَّمَا… طِفْلٌ كَانَ يَحْلُمُ بِبَيْتٍ لَهُ شُرْفَةٌ تُطِلُّ عَلَى نَهْرٍ… دُونَ أَنْ يُطْرَدَ مِنْهَا.”
سَكَتَتْ “مُنَى” لَحْظَةً، كَأَنَّهَا قَرَأَتْ مَا لَمْ يُقَلْ، ثُمَّ مَسَحَتْ عَلَى يَدِهِ بِخِفَّةٍ، وَفِي صَوْتِهَا نَبْضُ وَعْدٍ:
ــ “سَنَرْسُمُ لَكَ شُرْفَةً… تَلِيقُ بِحُلْمِكَ.”
تَوَقَّفَتِ السَّيَّارَةُ أَمَامَ مَبْنَى “مَعْهَدِ الجُمْهُورِيَّةِ”، بِنَائِه الأَبْيَضِ القَدِيمِ، وَأَشْجَارِ السَّرْوِ الَّتِي تُطَوِّقُهُ بِهَيْبَةٍ صَامِتَةٍ.
عِنْدَ الْمَدْخَلِ، كَانَتْ لَافِتَةٌ خَشَبِيَّةٌ كُتِبَ عَلَيْهَا بِخَطٍّ أَنِيقٍ:
“مَعْهَدُ الجُمْهُورِيَّةِ.”
دَخَلَا سَوِيًّا، وَفِي خَطَوَاتِهِمَا ذَاكَ المَزِيجُ مِنَ الحَذَرِ وَالحَلِمِ.
فِي مَكْتَبِ التَّسْجِيلِ، استقبلهما رَجُلٌ مُتَبَسِّمٌ، يُقَلِّبُ بَعْضَ الْمِلَفَّاتِ وَهُوَ يَقُولُ:
ــ “أَنْتُمَا الطَّالِبَانِ الجُدُد اللَّذَانِ أَرْسَلَهُمَا الأُسْتَاذُ أَحْمَد، صَحِيح؟”
أَوْمَأَ “نُعْمَانُ” بِسُرْعَةٍ، وَقَالَ وَهُوَ يُقَدِّمُ نَفْسَيهُمَا:
ــ “نَعَمْ، هٰذِهِ مُنَى، وَأَنَا نُعْمَان.”
بعد تسجيل البيانات, ضغط على زر جرس صغير إلى مكتبه
نظرتْ منى إلى نُعمان وغمزَتْ همسًا:
ــ “يعني ممنوع نرسم قلوباً على الهامش!”
ضحكَ بخفّةٍ، ثم أردف بنبرةٍ واثقة:
ــ “ولا حتى شُرفاتٍ على شكلِ أجنحةِ طيرٍ.”
وحضر شاب يرتدي زي المعهد وطلب أن يرافقاه إلى القاعة المخصصة لهما.
صعدا الدّرجاتِ معًا. كان في الرواق عبقُ طبشورٍ قديمٍ، مختلطٍ برائحةِ خشبِ الألواحِ الهندسيّة. طلابٌ وموظفون يتنقّلون بصمتٍ شبهِ رسمي، وهدوءٌ يكاد يُشبهُ صالاتِ المكتبات.
في قاعةِ المحاضرات، جلسا قربَ بعضِهما، وضَعَتْ منى دفترَها على الطاولةِ، وأخرجَ نُعمانُ قلمًا رصاصيًّا داكنًا، كأنَّهُ يُعلنُ بدايةَ مرحلةٍ جديدة.
دخلَ الدكتور رياض، ببدلتِه الرماديّة، ونظّارتِه ذاتِ الإطارِ المعدنيِّ. وقفَ أمامَ اللوحِ، ونظرَ إلى الطلاب، ثمّ قال بصوتٍ جهوريّ:
ــ “أهلاً بكم في دورتِكم المكثّفة في التصميمِ المعماريّ. هنا، لا نرسمُ جدرانًا فقط، بل نُعيدُ صياغةَ المعنى بين الضوءِ والظلِّ، بينَ الفكرةِ والانحرافِ المدروس.”
تبادلت منى ونُعمان نظرةً سريعة، كأنّ شيئًا في كلامه مسَّ فيهما وترًا عميقًا.
قال نُعمان هامسًا:
ــ “أشعرُ أنني أخيرًا وصلتُ إلى ورشةٍ سأتعلّمُ فيها كيف أُهندسُ أحلامي.”
همستْ منى، وعيناها تلمعان:
ــ “ونحنُ سنكونُ فريقًا… أليس كذلك؟”
أجابَ بابتسامةٍ:
ــ “بلى، فريقٌ… يرسمُ، ويعيش.”
مَضى شهرٌ كاملٌ منذُ أن باشرَ نُعمانُ ومُنَى دورتَهما في الرَّسمِ الهندسيِّ والمعماريِّ،
وخَصَّصَ السَّيِّدُ أَحْمَدُ لِنُعمانَ جَناحًا مُنْفَصِلًا في المَنْزِلِ، كانَ عِبارةً عن غُرْفَةِ نَوْمٍ تَحْتَوي مَكْتَبَةً بَسيطَةً، ومَكْتَبًا لِلدِّراسَةِ، وَطاوِلَةً خاصَّةً لِتَنْفيذِ الرُّسومِ الهَنْدَسِيَّةِ الَّتي يُكَلِّفُهُ بِها السَّيِّدُ أَحْمَدُ، إِلى جانِبِ سَريرٍ لِلنَّوْمِ، وَخِزانَةٍ خَشَبِيَّةٍ لِلمَلابِسِ، مُلْحَقٍ بِه حَمّامٌ وَمَطْبَخٌ صَغيرٌ، فَكانَ يَجِدُ في هذا كُلَّ ما يُيَسِّرُ لَهُ عَمَلَهُ وَدِراسَتَهُ، وَأَوْقاتَاً لِلمُطالَعَةِ وَالانْفِرادِ بِنَفْسِهِ.
كانا يُواصِلانِ التَّعلُّمَ بِشغفٍ يومًا بعد يوم، تحتَ سقفِ “معهد الجمهوريّة”، في صالةٍ تعجُّ بالمساطرِ المِعمارية، ونماذجِ الأبنيةِ التي وُلِدَت على أوراقٍ بيضاءَ قبل أن تحيا في الواقع.
وفيما كانتِ الأيّامُ تمضي سريعًا، تُقلِّبُ صفحاتِ التقويمِ بأصابعِ الربيعِ الأولى، عادَت الجامِعةُ تفتحُ أبوابَها من جديد. مَقاعدُ الدراسةِ، ودفاترُ المُحاضرات، وأروقةُ الكليّة التي اشتاقتْ لأقدامِ الطُّلاب، عادت لتخفقَ بالحياة.
ذاتَ مساءٍ، وبينما كانا يجلسانِ معًا في الزّاوية المعتادة من مكتبةِ ببيتِ والدِها، رفعتْ مُنَى عينيها عن دفترِ الملاحظاتِ، وقالت بنبرةٍ هادئةٍ، كأنّها تُخاطبُ فكرةً فكّرت فيها طويلًا:
ــ « نُعمان… ماذا لو تابعْتَ أنتَ وحدكَ في الدَّورة، وأنا أعودُ لحضورِ المحاضراتِ في الجامعة؟»
رمشَ نُعمانُ بدهشةٍ، وحدّقَ فيها للحظةٍ، قبل أن يضعَ القلمَ جانبًا ويقول بصوتٍ خفيضٍ:
ــ « تتوقّفينَ عن الدورة؟ لِمَ؟ أَلَمْ تَقولي إنّها تُرضي فيكِ جانبًا كنتِ تجهلينه؟»
أجابتْ وهي تُمرّرُ أصابعَها على طرفِ صفحةٍ رُسِمَ عليها مخطّطٌ لدرجٍ حلزونيّ:
ــ « بلى… وأنا ما زلتُ أحبُّها. لكنّ الدّوامَ في المعهدِ طويلٌ وشاق، ومحاضراتُ الكليّة بدأت تشتد صعوبة، لا أُريدُ أن أُهملَ إحداهما على حسابِ الأخرى. أنتَ تُحبُّ هذا النوعَ من الدراسةِ أكثر، وقد تكونُ بحاجةٍ له أكثرَ مني الآن… ما رأيك؟»
صمتَ نُعمانُ قليلًا، تأمّلَ تعبيرَ وجهِها الهادئ، ثمّ قالَ بنبرةٍ أقرب إلى الشّكر منها إلى القبول:
ــ « أَخشى أن أُفوّتَ عليكِ شيئًا جميلاً… لكنّكِ على حق. يُمكنني أن أُتابعَ، وأُنقلَ لكِ ما أستطيعُ مساءً. وربّما نُحاولُ تصميمَ بعضِ التمارينِ معًا هنا، كأننا ما زلنا على نفسِ المقعد.»
ابتسمتْ، وقالتْ وهي تُدوِّن في هامشِ الصفحة:
ــ « هذا أفضلُ توزيعٍ ممكن… وسأُعتمدُ عليكَ كمصدرٍ موثوق!»
ضحكَ نُعمانُ بخفّةٍ، ثمّ أضاف:
ــ « لكنْ لي شَرْط.»
رفعتْ حاجبَها باستغرابٍ لطيف:
ــ « شَرط؟ ما هو؟»
قال مبتسمًا، وهو يُنصتُ إلى صوتِ رياحِ تشرينَ وهي تحرِّكُ ستائرَ النّافذة:
ــ « أنْ تَسمحي لي، عندما نُعيدُ رسمَ كلّ تفصيلٍ، أن أضعَ نافذةً صغيرةً تُطِلُّ على قلبِكِ… حتى لا تغيبَ عنّي التفاصيلُ الجميلة.»
ضحكتْ منى، ثمّ همست:
ــ «وافقتُ… على الشَّرطِ، وعلى أن أكونَ نافذةَ النُّورِ في دُروسِك.»
وبدآ منذ تلك الليلةِ نظامًا جديدًا:
في الصّباح، يذهبان معاً إلى مدرّجاتِ الجامعةِ، يصغيان إلى المحاضرات، ويُسجِّلان ما يُدركانه من تفاصيلِ “الأدبِ الاسلامي” و”البلاغة” و”النحو” و باقي المواد الدراسية”.
وهو يُكمِلُ الدّورةَ في المساء بتفانٍ، يُدوِّن الملاحظاتِ، يلتقطُ الصُّورَ، ويجمعُ ما استطاعَ من الأمثلةِ.
وهي،
وفي المساءِ، يعودانِ إلى الزّاويةِ ذاتِها… على طاولةِ الخشبِ العتيقِ، وتحتَ ضوءِ المصباحِ الأصفر، يلتقي العِلمُ بالفنِّ، وتندمجُ الكلماتُ بالخطوط، وتُعاد صياغةُ المعرفةِ كما لو كانت لوحةً تُرسَمُ بقلبينِ اثنين
في صَباحٍ سبتٍ رماديِّ الظِّلالِ, يخرجَ نُعمانُ من بيتِه مبكرًا، يُرافقُهُ صَمتُ الأزقّةِ المُبلّلةِ بندى آذار، ودفءُ فنجانِ القهوةِ الذي أعدّته له والدتُه وهمستْ له بدعائها المعتاد:
ــ “اللَّهُ يفتحها بِوَجهك يا بُنَيَّ…”
وفي السّاعة الثامنةِ تمامًا، كان يَجلسُ على المقعدِ الخشبيِّ وإلى جواره منى, في القاعةِ الرابعة في كلية الآداب
وفي الخامسة مساءً يجلس منفرداً على المقعدِ الخشبيِّ في قاعةِ الرَّسمِ الكبرى في “معهد الجمهوريّة”، محاطًا بأصواتِ الأقلامِ وهي تنحتُ خطوطَها الأولى فوق الورقِ السميك، وبهمهماتِ الطلابِ وهم يُقلّبونَ بين المساطرِ والقياسات.
رفعَ رأسَهُ فجأةً حين سألَهُ الأستاذُ ذو اللّكنةِ الثقيلة:
ــ “Numan… quel est le centre visuel dans cette élévation؟”
أجابَ نُعمانُ بثقةٍ بعد لحظةِ صمتٍ:
ــ “المركزُ البصريُّ هو البوّابةُ المُقوّسةُ في منتصفِ الجدارِ الأماميّ، وقد حافظتُ على تناسقِها مع خطِّ الظلِّ في واجهةِ الزاوية اليمنى.”
أومأ الأستاذُ برأسه مُعجبًا، وقال:
ــ “Très bien, continuez.”
وفي السّاعةِ الثامنةِ مساءً، حينما بدأ الظلّامُ يمتدُّ فوق أرصفةِ الشّام، كانَ نُعمانُ يُغلقُ دفترَهُ ويخرجُ من المعهدِ مُتّجهًا نحوَ بيتِ السيّد أحمد.
في غرفةِ المكتبةِ الدّافئةِ، كانت “مُنى” تَنتظرهُ وقد فرغتْ لتوّها من إعدادِ إبريقِ شايٍ أخضرٍ بالنعناع.
قالت وهي تُشير إلى دفتَرها المفتوح:
ــ “في محاضرةِ اليوم، ناقشنا النّقلة في بناءِ القصيدةِ الاسلاميّة… من الطّلل إلى الحِكمة. وسألنا الدكتور عن بيتِ زهير بن أبي سُلمى:
ومَن لا يُصانِعْ في أمورٍ كثيرةٍ… يُضَرَّسْ بأنيابٍ ويُوطَأْ بِمَنسمِ.
فتحدّثنا عن الحنكةِ السياسيةِ في الشّعر… هل قرأتَ شيئًا عن هذا؟”
جلسَ نُعمانُ على الكرسيِّ المقابلِ، وضعَ حقيبتَهُ جانبًا، وقال:
ــ “صادفَ أن تحدّثنا اليوم عن تصميمِ الأبنيةِ الحكوميةِ، وعن كيفيّةِ إبرازِ الهيبةِ عبرَ التّكوينِ البصريّ… فخطرتْ لي تلك الأبياتُ أثناء الشّرح.”
أومأتْ منى، وقالت ضاحكةً:
ــ “إذًا… نُعمان يدمجُ زهيرًا بابنِ جنّي، وأبو تمام بخطِّ الواجهةِ! هذا إنجاز!”
أجابها مبتسمًا:
ــ “أتعلمين؟ كلّما رسمتُ واجهةً، تذكّرتُ معلّقةً… وكلّما قرأتُ قصيدةً، رأيتُ نافذةً تُفتحُ على العالَم.”
ثمّ جلسا، وراحا يُراجعان معًا تمارين اليوم. كانت منى تُدوّن ما يقوله، وتسأله عن نوعِ الظلالِ المُناسبةِ لزوايا الضوء في الرسمة، في حين كان هو يسألها عن مفهومِ النّقلةِ الموضوعيةِ في المقدماتِ الطللية.
وفي آخرِ الجلسة، ساد صمتٌ خفيفٌ، فقال نُعمان بصوتٍ خافتٍ:
ــ “منى… لا أدري إنْ كنتِ تشعرينَ بما أشعرُ به… لكنّني أكتشفُ شيئًا جديدًا عن ذاتي كلّما جلسنا هنا.”
أجابتْ وهي تَنظرُ في دفترِ ملاحظاتها:
ــ “بل أشعر، يا نُعمان… وأظنُّ أنّنا معًا… لا ندرسُ فحسب، بل نُعيدُ ترتيبَ الحياةِ من جديد.”
وَفِي أَحَدِ أَمَاسِي الرببعِ الأُخيرة، عَادَ نُعْمَانُ مُتْعَبًا، يَحْمِلُ بِيَدِهِ لُفَافَةً طَوِيلَةً مِنَ الْأَوْرَاقِ الْمَسْطُورَةِ بِأَقْلَامِ الرَّصَاصِ، وَفِي عَيْنَيْهِ نُقْطَةُ ضَوْءٍ تُشْبِهُ خَيَالًا لِفَجْرٍ قَادِم.
اِسْتَقْبَلَتْهُ “مُنَى” فِي غُرْفَةِ الدِّرَاسَةِ الَّتِي جَعَلَهَا السَّيِّدُ “أَحْمَد” خَاصَّةً لَهُمَا، كَانَتْ الغُرْفَةُ تَفُوحُ بِرَائِحَةِ الكُتُبِ الْقَدِيمَةِ وَالْقَهْوَةِ السَّاخِنَةِ، وَيَتَدَلَّى مِنْ سَقْفِهَا مِصْبَاحٌ نَحَاسِيٌّ يَنْثُرُ نُورَهُ عَلَى الْمَكْتَبِ الْوَسِيعِ.
قَالَ نُعْمَانُ وَهُوَ يَفْرُدُ الْمُخَطَّطَ عَلَى الطَّاوِلَةِ:
ــ “أَنْظُرِي، هَذَا الْمَشْرُوعُ الَّذِي طَلَبَهُ مِنَّا الْمُهَنْدِسُ فِي الْمَعْهَدِ… أَرَادَنَا أَنْ نُخَطِّطَ نَمُوذَجًا لِمَكْتَبَةٍ عَامَّةٍ، تَجْمَعُ بَيْنَ الْوَظِيفَةِ وَالْجَمَالِ، وَقَدْ بَدَأْتُ بِمَسَاحَاتٍ دَاخِلِيَّةٍ تُشْبِهُ ذَاكَ الْفَضَاءَ الَّذِي نَجْلِسُ فِيهِ الآن.”
نَظَرَتْ “مُنَى” إِلَى الْمُخَطَّطِ بِاهْتِمَامٍ، وَأَشَارَتْ إِلَى تَفَاصِيلَ دَقِيقَةٍ:
ــ “وَهَذِهِ الْمَمَرَّاتُ الضَّيِّقَةُ؟ أَلَا تَظُنُّ أَنَّهَا قَدْ تُصْعِبُ حَرَكَةَ الزُّوَّارِ؟”
أَجَابَهَا بِثِقَةٍ وَصَبْرٍ:
ــ “لَا، هِيَ مَقْصُودَةٌ… لِأَنِّي أُرِيدُ لِكُلِّ زَائِرٍ أَنْ يَمُرَّ بِتَجْرِبَةٍ شِبْهُ خُلْوَةٍ، يُبْحِرُ فِيهَا نَحْوَ أَرْوَقَةِ الْمَعْرِفَةِ، كَمَنْ يَتَجَوَّلُ فِي ذَاكِرَتِهِ.”
ضَحِكَتْ “مُنَى”، وَقَالَتْ وَهِيَ تَتَكِئُ عَلَى حَافَّةِ الْكُرْسِي:
ــ “وَأَنَا كُنْتُ أُفَكِّرُ فِي صَفٍّ طَوِيلٍ مِنَ النَّوَافِذِ تُطِلُّ عَلَى حَدِيقَةٍ، لِيَكُونَ الضَّوْءُ جُزْءًا مِنْ نَصِّ الْمَكَانِ، لَا مُجَرَّدَ إِضَاءَة.”
ــ “رَائِعٌ… عَلَيْنَا إِذًا أَنْ نَمْزِجَ نَصَّيْنَا، نُصِّي وَنَصَّكِ… فَنُصْبِحَ كَاتِبَيْنِ لِعِمَارَةٍ تُشْبِهُ الحُلْم.”
سَكَتَا لَحْظَةً، كَأَنَّ الصَّمْتَ أَصْبَحَ جُزْءًا مِنِ الْمِهْنَةِ، ثُمَّ قَالَتْ “مُنَى”:
ــ “نُعْمَان… كَمْ غَيَّرَتْنَا هَذِهِ التَّجْرِبَةُ. لَا أَتَحَدَّثُ عَنْ مِهْنَةٍ، بَلْ عَنْ شَيْءٍ أَعْمَقَ… صِرْنَا نَرَى الْمَكَانَ كَحَالَةٍ نَفْسِيَّةٍ، وَالرَّسْمَ كَلُغَةٍ.”
ــ “نَعَم… وَمِنَ الْجَيِّدِ أَنَّنِي أَصْبَحْتُ أَفْهَمُكِ أَكْثَرَ، حِينَ تَتَحَدَّثِينَ عَنْ بُعْدٍ جَمَالِيٍّ، أَوْ تَضَعِينَ لَفْظَةً فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا قَصْدًا… لِتُحْدِثَ دَهْشَةً.”
مَدَّتْ “مُنَى” يَدَهَا لِتُرَتِّبَ أَوْرَاقَ نُعْمَان، وَهَمَسَتْ:
ــ “عَلَيْنَا أَنْ نَنْجَزَ الْمَشْرُوعَ فِي الْمَوْعِدِ… لِنَجْعَلَ أُسْتَاذَكَ الْفَرَنْسِيَّ ذَاكَ يَبْتَسِمُ، وَلِنَخْبِرَ الْمَعْهَدَ أَنَّ فِي مِثْلِ هَذَا التَّعَاوُنِ… وِلَادَةَ نُصُوصٍ جَمَالِيَّةٍ تَفُوقُ الْمِقْيَاسَ.”
كانَتِ القاعةُ مضاءةً بإضاءةٍ بيضاءَ ناعمةٍ، تنبعثُ من المصابيحِ المعلّقةِ على السقفِ المعدنيّ، فتنسكبُ فوقَ ألواحِ الرسمِ والطاولاتِ الطويلةِ كضوءِ قمرٍ شتويٍّ صافٍ. وقفَ نُعمانُ إلى جانبِ منى، يضبطُ ياقةَ قميصِه بتوتّرٍ خفيف، بينما كانت منى تمسحُ بقماشٍ قطنيٍّ آخرَ بقعةِ غبارٍ علقتْ على الزجاجِ الذي غطّى مجسَّمَهما المُصغَّر.
كانَ المجسَّمُ أمامَهما – مشروعَهما المشترك – يُجسّدُ فكرةَ “الفضاءِ المتنقّلِ داخلَ البيتِ”، حيثُ تتكاملُ خطوطُ العمارةِ الكلاسيكيّةِ مع مفاهيمِ الانفتاحِ الحديثةِ، وتنتقلُ الفكرةُ بسلاسةٍ بينَ الممرّاتِ المُقنطرةِ وغُرَفِ الجلوسِ المفتوحةِ على ضوءِ الحديقةِ الداخليّة.
دَخَلَ الأستاذُ لوسيان ڤييه، رجلٌ ستّينيٌّ، أنيقُ الهيئةِ، متأنٍّ في خطواتِه، يحملُ بيدهِ كُتيّبًا صغيرًا، ونظّارةً نصفَ طبيّةٍ. كانَ صديقًا قديمًا للسيدِ أحمد، وقد دُعِيَ اليومَ لتقييمِ مشاريعِ الدورةِ نظراً لخبرتِه الطويلةِ في تدريسِ العمارةِ الحديثةِ في جامعاتِ باريس.
اقتربَ ببطءٍ من طاولةِ المشروع، وألقى نظرةً أولى، صامتةً تماماً، ثمّ قال بنبرةٍ فرنسيّةٍ مشبعةٍ بالعربيةِ:
ــ «مَن صاحِبا هذا المشروع؟»
رفعَ نُعمانُ يدَه، وقالَ بِهدوءٍ:
ــ “نَحنُ، يا أستاذ… منى وأنا.”
ابتسمَ لوسيان بخفّةٍ، وعدّلَ من وضعِ نظّارتِه، ثمّ أمالَ رأسَه نحو السيدِ أحمد الذي كان يراقبُ من الزاويةِ، وقالَ مازحاً:
ــ «أَكْنْتَ تُخْفي طلابًا بهذهِ الموهبةِ عنا يا أحمد؟»
ضحكَ السيدُ أحمد، وأجاب:
ــ “هُم ليسوا طلابًا لديّ… بَعد، لكنّني أراقبُهم عن قُرب.”
انحنى الأستاذُ الفرنسيُّ على المجسَّم، وأخذَ يُدقّقُ في الزوايا والتفاصيل، ينقِّلُ نظرَه بينَ خطوطِ الرسمِ، ونسبِ المقياس، وانسيابِ الضوءِ في مخطّطِ الإضاءة.
ثمّ اعتدلَ في وقفته، ورفعَ حاجبَه الأيسر، وقال:
ــ «فكرةُ العُمقِ المُتعدّدِ في هذا المشروع… مُبْهِرة. مَن اقترحها؟»
تبادَلَ نُعمانُ ومنى نظرةً سريعةً، ثمّ قالت منى مبتسمةً:
ــ “كانتِ الفكرةُ المشتركةُ بيننا، لكنّ نُعمان هو مَن أصرَّ على تجربةِ مفهومِ الحيّزِ المفتوحِ الممتدّ داخل المنزل.”
أومأ الأستاذُ بإعجابٍ:
ــ «ذكيٌّ… الحيّزُ في الهندسةِ ليس فقط ما يُبنى، بل ما يُشْعَرُ به… وقد نجحتما في أن تجعلا من هذا النموذج شيئًا يُشْعَرُ به…»
ثمّ أضاف، موجّهًا حديثَه إلى نُعمان:
ــ «هل درستَ العمارةَ من قبل؟»
تردّد نُعمانُ قليلًا، ثمّ أجاب:
ــ “كُنتُ أحلُمُ بها، ثمّ تغيّرَ المسارُ نحو الأدبِ… لكنّني الآنَ أُحاوِلُ أن أستعيدَ شيئًا من ذاكَ الحلمِ، برفقةِ منى.”
رمقَ الأستاذُ ڤييه منى بنظرةٍ طويلةٍ، ثمّ قال:
ــ «عندما يلتقي الحُلمُ بالتصميم، وتلتقي المعرفةُ بالذائقة، يُولَدُ شيءٌ يشبه الفن… هذا العملُ، يا أحمد، ليسَ مشروعَ دورةٍ عاديًّا، بل مسودةُ موهبةٍ يمكن أن تُصقَل.»
تنحنحَ السيدُ أحمد وقالَ:
ــ “أترى يا نُعمان؟ هذه شهادةُ أحد كبار أساتذتي… فافخرْ بها.”
ابتسمَ نُعمانُ بخجلٍ، وهمسَ وهو يُديرُ نظَرَه إلى منى:
ــ “لَوْلاها… لما تَجاسَرتُ أن أفتحَ علبةَ ألوانٍ، ولا أن أرسمَ فكرةً على ورقة.”
ردّت منى بلهجةٍ واثقةٍ:
ــ “ولولاك… لما التزمتُ بتفصيلةٍ واحدةٍ من هذهِ، ولمَا عرفتُ كيفَ يُترجَمُ الحلمُ إلى شيءٍ ملموس.”