على أعتاب الحلم – الجزء 06
تَنَفَّسَ، وَأَطْلَقَ الزَّفِيرَ بِنَبْرَةٍ حَادَّة:
” فِي الصَّبَاحِ، جَمَعُوا مَا فِي جُيُوبِنَا مِنْ نُقُودٍ، وَأَخَذَهَا أَحَدُ رِجَالِ الشُّرْطَةِ، زَاعِمًا أَنَّهُمْ سَيَسْتَأْجِرُونَ سَيَّارَتَيْ أُجْرَةٍ لِنَقْلِنَا إِلَى مَكَانٍ مَا فِي دِمَشْقَ.”
صَمَتَ قَلِيلًا، ثُمَّ تَابَعَ، وَكَأَنَّهُ يَمْضُغُ كُلَّ جُمْلَةٍ:
” وَصَلْنَا دِمَشْقَ بَعْدَ الظُّهْرِ… أَدْخَلُونَا إِلَى مَبْنًى قِيلَ إِنَّهُ (الأَمْنُ السِّيَاسِيُّ).
قَالَ أَحَدُ الحُرَّاسِ: (مُعَلِّمُنَا طَيِّبٌ، يُوثَقُ بِهِ، لَنْ يَظْلِمَ أَحَدًا، لَكِنَّهُ فِي ٱسْتِرَاحَةِ غَدَاءٍ… أَوْ فِي جَوْلَةٍ… وَسَيَعُودُ قَرِيبًا.)
فَأَوْدَعُونَا فِي غُرْفَةٍ صَغِيرَةٍ، كَانَتْ تُشْبِهُ المَحْرَسَ، فِي طَرَفِ ذٰلِكَ المَبْنَى البَارِدِ.”
هَمَسَتْ مُنى:
” وَكُنْتُمْ… صَائِمِينَ؟”
” نَعَم… وَقبيل العَصْرِ دَخَلَ عَلَيْنَا أَحَدُهُمْ، وَبَدَأَ يَأْخُذُنَا وَاحِدًا تِلْوَ الآخَرِ… وَمَا كُنَّا نَرَى أَحَدًا يَعُودُ مَعَهُ.”
تَلَاحَقَ نَبْضُ مُنى، وَبَدَتْ كَأَنَّهَا تَتَنَفَّسُ بِعَيْنَيْهَا.
أَضَافَ نُعْمَان:
” حِينَ حَانَ دَوْرِي، أَمْسَكَنِي ذٰلِكَ الحَارِسُ بِقَبْضَةٍ مُؤْلِمَةٍ، وَجَرَّنِي نَحْوَ الدَّاخِلِ.
فَتَحَ بَابًا، وَدَفَعَنِي بِقُوَّةٍ. وَفِي الدَّاخِلِ، لَمْ أكد أن أَرَ شَيْئًا حتى شعرت بصَفْعَةٌ صَارِخَةٌ تَنْزِلَ عَلَى وَجْهِي… رَمَتْنِي عَلَى الأَرْضِ كَأَنِّي ركامٌ أو حَجَرٌ.”
تَكَلَّمَ نُعْمَانُ بِلُغَةٍ هَادِئَةٍ، لَكِنَّهَا تَخْدِشُ جِلدَ السَّكِينَةِ:
” سَأَلَنِي ذٰلِكَ الرَّجُلُ الذي صفعني، فقد كان هو المسؤول أو القَائِدُ، أَوْ الشَّيْطَانُ، لَا أَدْرِي:
(أَكُنْتَ تَهْتِفُ لِجَمَالِ عَبْدِ النَّاصِرِ وَالقَذَّافِي؟)
فَقُلْتُ لَهُ، وَأَنَا أُخَفِّفُ وَقْعَ الحَقِيقَةِ:
*عَبْدُ النَّاصِرِ قَدْ مَاتَ مُنْذُ أَرْبَعِ سَنَوَاتٍ، وَأَنَا لَا عِلَاقَةَ لِي بِهِ، وَلَا بِالقَذَّافِي…*
فَقَطَعَنِي بِشَتِيمَةٍ قَصَدَ فِيهَا أُمِّي… فَقُلْتُ لَهُ، وَالغَضَبُ يَحْمِلُنِي:
*كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا أُمِّي! لَا عَلاقَةَ لَهَا إِلَّا بِالطَّهَارَةِ وَالعِفَّةِ…!*
وَهُنَا… اِشْتَدَّ غَضَبُهُ، وَأَشَارَ لِلْحَارِسِ، فَأَخْرَجَنِي مِنْ بَابٍ آخَرَ، إِلَى سَيَّارَةٍ مُصَفَّحَةٍ، كَانَ زُمَلَائِي فِي دَاخِلِهَا.”
قَطَعَ نَفَسَهُ قَطْعَ مَنِ ٱنْفَجَرَ بِهِ الصَّبْرُ، وَقَالَ:
” وَمَا إِنْ ٱنْتَهَى التَّحْقِيقُ الأَوَّلِيُّ، حَتَّى ٱنْطَلَقَتْ بِنَا تلك النَّاقِلَةُ كَمَا لو كانت تَجُرُّ الرِّيحُ أَجْسَامَ الْهَشِيمِ، تَمِيلُ بِنَا يَمِينًا وَيَسَارًا، لَا تَلْتَفِتُ لِطَرِيقٍ، وَلَا تَأْبَهُ بِحُفْرَةٍ، حَتَّى تَسَاقَطْنَا بَعْضُنَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَٱصْطَدَمَتْ رُؤُوسُنَا بِسَقْفِهَا، فَكَادَتْ وُجُوهُنَا أَنْ تَتَشَوَّهَ، وَأَجْسَامُنَا أَنْ تَنْفَصِلَ عَنَّا…”
تَصَاعَدَ صَوْتُهُ ثُمَّ هَبَطَ:
” وَقُبَيْلَ الغُرُوبِ… وَصَلْنَا. وصلت بنا الناقلة أخيراً إلى مدخل يؤدي إلى مقبرة وفي نهايته فتح الباب الخلفي وأُنزلنا منها إلى باب ضخم ومرتفع من الحجر والحديد يشبه إلى حد كبير باب قلعة ضخم, وجدران حجرية عالية تعلوها أسلاك شائكة, كان الاستقبال حافلاً بما لديهم من إمكانيات, جسمية وخلقية, وكأن ثيراناً هائجة في حلبة صراع اسبانية, ترتقب وصول ضحاياها لتشتفي, وتنتقم لنفسها من جميع من كان قد سبب لها هزائم في الماضي البعيد أو القريب, أو وقف أمامها متحدياُ.
وصَلْنا، أخيرًا، إلى مَمَرٍّ ضيّقٍ يُفْضي إلى بابٍ حديديٍّ عالٍ، بدا لي كأنَّه نهايةُ دربٍ لا مَخْرَجَ منه. كنتُ حينها قد أيقنتُ، في قرارَةِ نفسي، أنّ ما كنتُ أعدُّه عبورًا مؤقّتًا، قد انقلب إلى إقامةٍ مجهولةِ الأمد، ومجهولةِ المصير.
نظرتُ نحو الباب، فتنهّدتُ دون أن أُدركَ ذلك، كأنّني أُسلِمُ ذاتي لما وراءَه، بلا قيدٍ من أملٍ أو اعتراض.
سألَتْ منى، بصوتٍ خافتٍ، متردِّدٍ: ” يعني… كنتَ تعرف إنّك ستبقى هُناك؟”
فأجابها بنظرةٍ مواربة: ” كأنَّ الحيطان قالت لي: انتبه! سيكون لك هنا سيرة طويلة…”
وأُدْخِلْتُ إلى أوَّلِ غُرفةٍ بعد الباب إلى جهة اليمين. كان الممرُّ طويلاً، والغُرَفُ تمتدُّ على جانبيه، كأنّها قُبورٌ من حجرٍ باردٍ، نُقِشَت بعُجالةٍ في قلبِ ليلٍ أبكم.
كانت الغُرفةُ بطولِ جسدي تقريبًا، وأنا مُستلقٍ على الأرضِ، وعرضُها نصفُ ذلك. أربعةُ جدرانٍ، وسقفٌ ثقيلٌ، ونافذةٌ صغيرةٌ مستديرةٌ، عالِقةٌ كعينِ ثُقبٍ في الجدار المقابل للباب، تدخلُ منها خيوطٌ هزيلةٌ من الضوء، وشيء من الهواء, وهمساتٌ موجعةٌ من أصواتٍ لا أُميِّزها، لكنّي أعلمُ جيِّدًا أنّها لأناسٍ يُعذَّبون تحتَ ذاك النور الباهت.
همَسَ والدُ منى، وقد قطّب جبينه: ” معقول! الغُرف بهذا الحجم؟! مستحيل، هذه ليست غرف، هذه توابيت!” أومأ نعمان برأسه، وتنهّد: ” لكنها توابيت لا صمت فيها، فيها شيء أبطأ منّ الموت بكثير…”
تحتَ النافذة، كان المرحاضُ الأرضيُّ يئنُّ من قذارته، ورائحتُه تخنقُ حتى الهواءَ الشحيحَ الداخل من الثُّقب العلويّ. بجانبهِ حنفيةٌ نحاسيّةٌ، تقطرُ الماءَ قطرةً قطرة، لا تكفّ، ولا تكفي. إلى الجانب الموازي، مصطبةٌ إسمنتيّةٌ ترتفعُ عن الأرضِ بنحو أربعين سنتيمترًا، لا تصلحُ لجلوسٍ ولا نوم، لكنّها… كانت موجودة، فحسب.
مضت دقائقُ بلا صوتٍ سوى تنفُّسي، حين فُتح البابُ فجأةً. نافذتُه الصغيرة انفتحت أولًا، ثمّ لُوحَتُه الخارجيّة، وظهر وجهُ الحارس، دون ملامح، يحملُ بيديه بطّانيتين عسكريّتين رقيقتين، قال وهو يناولني إيّاهما:
” وَاحْدِه فِرَاش، والتَّانْيِه غَطَا.”
سألتُه وأنا أضعهما بجانبي: ” والمِخَدّة؟” ردّ بجمودٍ: ” تَدَبَّر أمورك… ولا تسأل مرّة ثانية.”
كان قلبي قد أضناهُ الجوع، وفمي قد جفّ من الصيام وأكثر من الصيام ما حل بي، فقلتُ له برجاءٍ متماسك: ” “أنا صائم وقد حان منذ لحظات موعد الافطار, هل يمكنك من فضلك أن تحضر لي رغيف خبز وكأس ماء كي أفطر”, أجاب: “سأخبر المعلم”
نظر إليّ لحظة، ثم قال: ” سأخَبِّر المُعَلِّم.”
فابتسمتُ، ابتسامةَ مَن لا يملكُ شيئًا إلا تهذيبه، وقلتُ له: ” شكراُ, وأرجو أن تبلغه تحياتي وشكري الخاص لحضرته… مسبقًا.”
ضحكت منى ضحكةً صغيرة، ممزوجةً بدهشةٍ ونقمة، ثم سألت: ” وكنّت فعلًا تتوقّع أن يحضر لك خبزاً؟” فقال نعمان، بنبرةٍ تحملُ الطُّرفة والسُّخرية معًا: ” ما كنتُ أتوقّع شيئاً… لكن الكلمة الطيّبة، مثل الماء… يجب أن تبقى تسقِّي الحجر.”
وتابع نُعمان، ناظرًا في البعيد كأنّه يستحضر ظلَّ تلك اللحظات:
” مَضَتْ دَقائِقُ ثَقيلَةٌ بَعدَ مُغادَرَةِ الحارِس، كأنَّها سُوَيعاتٌ تُنْزِلُ ثِقَلَها على صَدري. لم يَأتِ أَحد، ولم يَصِلْني شَيء. الضوءُ الشاحِبُ الّذي كان يَتَسَرَّبُ مِنَ الفُتحَةِ العُليا في الجِدارِ أَخَذَ يَتَلاشَى شيئًا فشيئًا، غيرَ أنّ الأصْواتَ من الغُرَفِ المُجاوِرَةِ لم تَغِبْ؛ أنينٌ، صُراخٌ، وضَرَباتٌ تُشْبِهُ وَقْعَ المَطارِقِ على اللَّحمِ الحَيّ.”
أسند ظهره إلى المقعد، تنهد، ثم قال:
” حينَ بدأْتُ أُهَيِّئُ نَفْسي للنَّوْم أو بالأحرى لِلتَّكَوُّرِ على ذاتي بَسَطتُ إحْدى البَطّانِيّتَيْنِ على الأرضِ كفِراش، وأَطْوَيْتُ الأُخْرى لأَجْعَلَها مِخَدَّة. وفيما كنتُ أَغْمِضُ عينَيّ، عادَ الحارِس، فَفَتَحَ نافِذَةَ البابِ الحديديِّ، وقال بصوتٍ جافٍّ كَصَفْعَة: (اِنْزَعْ عَنْكَ ثِيابَكَ وَانْتَظِر!).”
قاطعَتْهُ مُنى، وقد اتّسعتْ عيناها بدهشةٍ مشوبةٍ بغصّة:
” ثيابُكَ؟! ولماذا؟”
ابتسمَ نُعمانُ ابتسامةً باهِتةً وقال:
” في تلك اللحظة لم أسأل، لم أَكُنْ أَجْرُؤ على السُّؤال. نَزَعْتُ عنّي سُترَتي المَدْرَسِيّة، وبَقِيتُ واقِفًا أَنتَظِر. بعد قَلِيل، عَادَ الحارِسُ، ونَظَرَ إلَيَّ مِنَ الفُتحَةِ مِن جَديد، وقال: (اِنْزَعْ كُلَّ شَيْء، وَابْقَ بِالشُّورْتِ فَقَط).”
تنفّس والد منى بصوتٍ مسموعٍ، وقال بقلق:
” وهل أطَعْتَه؟”
أجابه نُعمان، وعيناه ثابتتان في الفراغ:
” فَعَلْتُ، وبَقِيتُ واقِفًا في الزَّاوِيَةِ، أرْتَعِشُ مِنَ البَرْدِ، أَنتَظِرُهُ أَنْ يَعُود. لَكِنَّهُ لم يَعُد. طالَ وُقوفِي، وأَحَسَسْتُ أَنَّ قِواي تَخُورُ مِنَ الجُوعِ والعَطَش. فَاقْتَرَبْتُ مِن حَنَفِيَّةِ الماءِ المُثَبَّتَةِ فِي الجِدار، حاوَلْتُ أَنْ أُنَظِّفَهَا بِيَدَيَّ، وجَمَعْتُ مِن نُقَطِها القَلِيلَةِ قَدرَ ما أَسْتَطِيعُ لِأَرتَشِفَ بَعْضَ القَطَرات، وَأَتَوَضَّأَ لِلصَّلاة.”
رفعت مُنى حاجبها وسألت:
” وهل كنتَ ما تزال صائمًا؟!”
أومأ برأسه وقال:
” نَعَم، … لم أَكُنْ أَعْرِفُ اتِّجاهَ القِبْلَة، فَصَلَّيْتُ واقِفًا وَجْهِي حيثُ كنتُ. جَمَعْتُ المَغْرِبَ وَالعِشَاءَ، وَبَعْدَما أَنْهَيْتُ، فُتِحَ البَابُ مِن جَديد، وَإِذْ بِالحَارِسِ يَدْخُلُ ويَجُرُّنِي خَلْفَهُ، مُمْسِكًا بِي مِن شَعْرِي، كأنّي لَستُ إلاّ جُرْذًا عَلِقَ فِي جُحْرِهِ.”
سادَ الصمتُ بين الثلاثة، كأنّ شيئًا ثقيلًا سقط على صدر الجلسة… ثم تمتم والد مُنى بصوتٍ خافت:
” يا بُنَيّ، لَيْسَ لِهَذَا الوَطَنِ أن يُعامِلَ أبناءَه هكَذا…”
هزّ نُعمان رأسه وقال:
” بَعضُ الأوطانِ، يا عَمِّي، تَفْتَرِسُ أبناءَها حينَ تَخافُ مِن أَحْلامِهِم.”
تابع نُعمان، وصوتُه يأخذ نبرةً متأنّيةً كأنَّه يَسردُ حلمًا غريبًا لم يفقْ منه بعد:
” أَدْخَلَني الحارِسُ إلى غُرْفَةٍ تُشْبِهُ مَكْتَبَ أَحَدِ المَسؤولين، أَنيقَةُ الترتيبِ وَمُضيئَةٌ بنُورٍ خافتٍ لا يَبعَثُ الطُّمَأنِينَة. كان هناكَ رَجُلٌ يَقِفُ عِندَ البابِ مِنَ الخارِج، وَثَلاثَةُ رِجالٍ آخَرونَ داخِلَ الغُرفَة، تَوَزَّعوا بِهَدوءٍ فِي الزَّوايا، كَأنَّهُم جُزءٌ مِن الأثاثِ أو الظِّلال.”
صمت لحظة، ثم أضاف وهو يستعيد تفاصيل المكان:
” وعلى مَسافةِ مِتْرَيْنِ أَوْ يَزِيدُ مِن طاوِلَةِ المَكْتَب، كانَ يَجلِسُ رَجُلٌ فِي الخمسينَ مِن عمرِهِ، شَعْرُهُ خَفِيفٌ، تَتَزَاحَمُ فِيهِ خُصَلُ الشَّيبِ مَعَ شُقْرَةٍ فاتِحَةٍ كَأنَّهَا نَسِيَتْ أن تَشِيب. قامَ عَن كُرْسِيِّهِ، وَبِوَجْهٍ باسِمٍ تَقَرَّبَ مِنِّي قائلاً: (أَهْلًا بِكَ سَيِّدَ نُعمان! هذَا هُوَ اسْمُكَ، عَلَى مَا قَرَأْتُ…)”
تلفّتت منى نحو والدها وهمست:
” يبدو لطيفًا لأول وهلة… هل تراه كان فعلاً كذلك؟”
ابتسم نُعمان ابتسامةً عابرةً وقال:
” اللُّطْفُ فِي مِثلِ هذِهِ الأمَاكِنِ مَكِيدَةٌ ناعِمَة…”
ثم تابع بصوتٍ منخفضٍ:
” قَلَبَ بَعْضَ الأوراقِ أَمَامَهُ، وَقَالَ: (نُعمان البربري. طَالِبٌ ثَانَوِيٌّ، مُثَقَّفٌ، مُتَدَيِّنٌ وَمُلتَزِمٌ دِينِيًّا).”
ثم نظر إليّ وسأل:
” (هَل صَحِيحَةٌ هَذِهِ المَعلُومَات؟)”
أجبته بهدوء:
” نَعَم، صَحِيحَة.”
قال، وهو يرفع حاجبًا واحدًا:
” (كَيْفَ تَجتَمِعُ الثَّقافَةُ وَالتَّدَيُّنُ فِي آنٍ وَاحِدٍ، فِي شَابٍّ بِمِثلِ سِنِّكَ؟)”
أجبته:
” كَثِيرُونَ قَرَأْتُ عَنْهُمْ، كَانُوا أَكْثَرَ مِنِّي تَدَيُّنًا وَثَقَافَة.”
قال، مُستفهمًا:
” (مِثْلَ مَن؟)”
أخذت نَفَسًا قصيرًا، وبدأت أسرد:
” مُحَمَّد الفاتِح، السُّلطانُ العُثمانِي، تَولَّى الحُكْمَ وَعُمُرُهُ نَحْوَ تِسْعَةَ عَشَرَ عامًا، حافِظٌ لِلقُرآن، مُلِمٌّ بِالفِقْهِ، يُجِيدُ عِدَّةَ لُغَات، وَفَتَحَ القُسْطَنطينيَّةَ وَهُوَ فِي شَبَابِهِ.
ابْنُ النَّفِيس، مُكْتَشِفُ الدَّوْرَةِ الدَّمَوِيَّةِ الصُّغْرَى، فَقِيهٌ شَافِعِيٌّ وَطَبِيبٌ نَابِغ، جَمَعَ بَيْنَ العِلْمِ وَالدِّينِ وَالفَلْسَفَة.
جُون هِنْرِي نِيومَان، مِن بريطانيا، قَسِيسٌ، ثُمَّ كَارْدِينال، وَمُفَكِّرٌ دِينِيٌّ، عَمِيقُ الإِيمَانِ، دَقِيقُ الفِكرِ.
وَديتْرِيش بُونْهُوفَر، اللَّاهُوتِيّ الألماني، انتَقَدَ النَّازِيَّةَ وَهُوَ فِي العِشْرِينَات، وَدَفَعَ حَيَاتَهُ ثَمَنًا لِمَوْقِفِهِ.”
بدت الدهشة واضحة على وجه والد منى، ثم قال:
” أحقًا قرأتَ لهؤلاء؟”
أجبته بهدوء:
” نَعَم، قَرَأْتُ.”
قال الرجل مستغربًا:
” (مَتَى وَكَيْفَ اسْتَطَعْتَ فَهْمَهُمْ؟ وَأَنْتَ لَمْ تَزَلْ صَغِيرًا، وَتَعْمَلُ فِي الصَّيْفِ لِتُنْفِقَ عَلَى دِرَاسَتِكَ؟)”
قلت دون إطالة:
” إِنَّهَا هِوايَتِي المُفَضَّلَة.”
قال الرجل:
” (وَمَا أَهَمُّ المَوَاضِيعِ الَّتِي قَرَأْتَ فِيهَا؟)”
أجبته :
” لَيْسَ لَدَيَّ مَجَالٌ مُحَدَّدٌ، فَأَنَا أَقْرَأُ كُلَّ مَا يَقَعُ تَحْتَ يَدِي.”
قال الرجل، محاولًا الاستيضاح:
” (مِثَالًا؟)”
قلت:
” أَبْدَأُ بِمَا يُسَاعِدُنِي فِي فَهْمِ دُرُوسِي، ثُمَّ أَتَوَسَّعُ… فِي العُلُومِ، وَاللُّغَةِ، وَالأَدَبِ، وَالفِكْرِ، وَالفَلْسَفَةِ، وَالدِّينِ… كُلُّ مَا يُشْبِعُ نَهَمِي.”
قال الرجل:
” (وَهَل تَحْفَظُ مَا تَقْرَأُ؟ أَمْ تَنْسَاهُ؟)”
أجبت:
” أُلَخِّصُ كُلَّ مَا أَقْرَأُهُ، حَتَّى إِذَا نَسِيتُ، عُدْتُ إِلَى المُلَخَّصَات.”
ضحك الرجل ضحكةً قصيرةً ثم قال:
” (فَأَنَا إِذًا أَمَامَ عَالِمٍ صَغِير!)”
قلت بِتواضُع:
” مَعَاذَ اللهِ… إِنْ أَنَا إِلَّا مُتَعَلِّمٌ صَغِير.”
قال المسؤول أخيرًا:
” (هَل لَدَيْكَ حَاجَةٌ قَبْلَ أَنْ نَدْخُلَ فِي مَوْضُوعِ التَّحْقِيق؟)”
قلت:
” يَا سَيِّدِي، كُنْتُ صَائِمًا طُولَ اليَوْم، وَهَذَا الفَجْرُ سَيَحِينُ بَعْدَ قَلِيل. فَلَو تَفَضَّلْتَ بِقِطْعَةِ خُبْزٍ، وَكَأْسِ مَاء، وَسِيجَارَتَيْنِ قَبْلَ الإِمْسَاك.”
فَنَادَى الرَّجُلُ عَلَى أَحَدِ حَرَسِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُحْضِرَ مَا طَلَبْتُهُ، وسيَذْهَبُ لِيَنَامَ وَيَرْتَاحَ، عَلَى أَنْ يُؤَجَّلَ التَّحْقِيقُ إِلَى مَا بَعْدَ الإِفْطَارِ فِي اليَوْمِ التَّالِي.”
قال نُعمان، وقد غابت عيناهُ لحظةً كأنّما استرجعتا طيفَ تلك الليلة:
” في المساء، كنت قد أنهيت طعام فطوري المتواضع، قطعتا خبزٍ مع قطعة من الحلاوة الطحينية، و ماء، وسجارتان بدتا لي وكأنّهما آخر ما تبقّى لي من شعورٍ بشيء من حريةٍ خارج هذا الجدار.”
هزّت منى رأسها ببطء وهمست:
” يبدو أنّهم لم يُسيئوا معاملتك في البداية، أليس كذلك؟”
قال نُعمان:
” بعض الأبواب لا تُغلق دفعةً واحدة يا منى… بل تُدار برفق، ثم تُوصَد عليك فجأة.”
ثم تابع:
” دخل الرجلُ ذاته، وأخذني إلى غرفة التحقيق تلك التي غادرتها قبل الفجر بقليل نظرت إلى الرجل الجالس خلف طاولة المكتب, فإذا به وقد بدا عليه الإرهاق، إلا أنّه ما زال يحتفظ بابتسامته الهادئة، وجلس خلف الطاولة من جديد, بعد وقف للترحيب بي عند دخولي. قال لي بصوتٍ منخفض قريب من الهمس: (نبدأ الآن يا نعمان… لكن دعني أكون واضحًا معك, نحن نعرف عنك كل شيء, لكننا نريدك أن تتحدث أنت, فهذا يخفف عنك كثيراً مما يمكن أن يحل بك من تعذيب وضرب وإهانة. وأعدك بأن ما ستقوله بإرادتك سيغير مصيرك, الذي يلاقيه أغلب المعتقلين, وبما أنك مثقف ومتدين فإنك بذلك تعرف قيمة الصدق!).
نظرتُ إليه في صمت. لا رغبة في المجادلة، ولا قدرة على التجاهل.
قال وهو يفتح ملفًا أمامه: (نعمان، ما علاقتك بفلان بن فلان؟)
نظرتُ إلى الاسم… لم أعرفه.
قلت: (لا أعرفه يا سيدي).
نظر إليّ مطوّلًا، ثم حرّك قلمه على الورقة وقال: (طيب… من الذي مزق صورة السيد الرئيس وما علاقتك به؟)
قلت: (لم أر أحداً يمزق صورة السيد الرئيس, ولا أعرف عن ذلك شيئاً يا سيدي!).
توالت الأسئلة، بعضها عن أشخاص لم أسمع بهم، وبعضها عن كتبٍ كنت قد استعرتها من المكتبات المدرسية والعامة التي كنت أرتادها، أو وجدتها صدفةً في سوقٍ شعبيّ. بعضها عن تجمعاتٍ شبابيةٍ كنت أمرّ بها دون أن أعرف أسماء من فيها. كانت الأسئلة تلتف حولي مثل حبالٍ غير مرئية, ولعل أهم الكتب التي سئلت عنها كان كتاب 1984″
قاطع والد منى حديثه، وقال بقلق:
” وهل كنتَ فعلًا بلا علاقة بكل ذلك؟ أم أنّ الأمر فيه شبهة على الأقل؟”
قال نُعمان بثقة:
” كنت أقرأ كثيرًا، نعم. وأناقش أحيانًا في بعض المحضرات، صحيح. لكن لا تنظيم، لا تحريض، لا انتماء. مجرد عقلٍ مفتوح… وهذا كان كافيًا ليجعلني موضع شكّ.”
قالت منى، بعينين دامعتين:
” وهل استمر التحقيق طويلًا؟”
أومأ نُعمان برأسه، وقال:
” يومانِ بلا نوم. الأسئلة تُعاد وتُكرر بصيغٍ مختلفة. كلُّ إجابةٍ تُسجَّل، وكلُّ سكوتٍ يُحسب. وكلما التبس عليهم شيء، جاؤوا بمجلّداتٍ ودفاتر، كأنّهم ينبشون في داخلي، لا في أوراقهم.”
ثم صمت قليلًا، قبل أن يضيف:
” وفي اليوم الثالث، قال لي المحقّق: (نعمان، لا فائدة من المراوغة. نحن نعرف أنّك على صلةٍ بمن نبحث عنهم، لكنّنا نريد أن نسمع منك).
قلت له:
(يا سيدي، ليس عندي ما أخفيه. وإن كان لديّ، فلماذا أخفي عنكم, أتجد أن فيّ رغبة أن أعاني في وجه هذا السجن).
ضحك، ثم قال:
(أنت عنيد إذًا… سنرى كم تصمد.)”
امتقع وجه منى، وقالت بصوتٍ يكاد لا يُسمع:
” هل ضربوك؟”
نظر إليها نُعمان مطولًا، ثم قال:
” كان الضرب أهون ما في الأمر، منى…”
وساد الصمت.
قال نُعمان، وقد غيَّم صوته شيءٌ من الحزن، كأنّه يُخرِج الكلمات من قاعٍ بارد:
” في الليلةِ الثّالثة، كنتُ قد فقدتُ الإحساس بالوقت. لا نافذةَ تُخبرُني بالنهار، ولا صوتَ مؤذّنٍ يدلُّني على الفجر أو المغرب. الزنزانةُ ضيقةٌ، جدرانُها تُعيدُ إليّ أنفاسي وكأنّها تُذكّرني كلّ لحظةٍ بأنّي وحدي.”
قال والدُ منى، مقاطعًا:
” وهل كنتَ تشعر بالخوف؟”
ابتسم نُعمان ابتسامةً باهتة، ثمّ قال:
” الخوف؟ الخوفُ كان يسكنني ولا يُفارقني، لكنّه لم يكن خوفًا من الضرب أو الصراخ… كان خوفًا من المجهول، من التلاشي، من أن تُنسى حكايتك في درجٍ صدئ.”
أطرقت منى رأسها، وهمست:
” وكيف قضيتَ تلك الليلة؟”
قال نُعمان:
” تكَوَّرتُ على نفسي فوق المصطبةِ الاسمنتية، وجعلتُ إحدى البطّانيتين وسادةً والأُخرى غطاءً خفيفًا لا يردُّ بردًا ولا يهبُّ دفئًا. الغرفة كانت تغصُّ بالصمت، لكنّ من خلف الجدار كانت تأتيني أصواتُ بكاءٍ مكتوم، أو صراخٍ مفاجئ، أو صوتِ سحبِ سلاسلَ على أرضٍ مبلّلة, كانت الرِّيحُ تصفِرُ في ممرٍّ بعيد، وأصواتُ تأوّهاتٍ مكتومةٍ تتردَّدُ كصدى من عالَمٍ آخر.”
قاطعته منى، وقد التمعتْ عيناها: ” هل كان هناكَ أحدٌ غيرُك؟”
أجاب بصوتٍ واهن:
” لم أَرَ أحدًا، لكنَّ الأصواتَ تُحدِّثُكَ بما لا تُبصِرُه. كان ثمّة مَن يتألَّم، مَن يستغيث، مَن يَشهق… ومَن لا نَسمَعُهُ لأنَّه سكتَ إلى الأبد.”
سعلَ والدُ منى سُعالًا خفيفًا، كأنَّهُ يطردُ شيئًا علقَ في صدره، وقالَ بصوتٍ ثقيل:
” وهل بقيتَ وحدك تلكَ الليلة؟”
أومأ نُعمان برأسه، وقال:
” نعم… وحدي معَ رُعبٍ لا يُعلَن، ووَجهِ أمِّي الذي لم يُفارِقْني. تَكوَّرتُ على نَفسي، لا أعرفُ لِمَ لم أَبكِ. ربَّما لأنَّ شيئًا داخلي كان يُقاوِمُ الانكسار. حاولتُ أسترجِعُ بعضَ ما حفظتُ من القرآن، فخانني صوتي، ثمّ دعوتُ بدعاءِ أمي: (اللهمَّ الطفْ بنا، وكنْ لنا لا علينا(.
سكتَ لحظة، ثمّ تابع:
” وقبل منتصفِ الليل بقليل، فُتح الباب الحديديُّ فجأةً، وقفزَ قلبي إلى حلقي. دخل الحارسُ، أمسكَ برأسي من الخلف كما يُمسِك المرءُ بعنق زجاجة، وقال: (تَعالْ!)
لم أتكلّم. كنتُ أجرُّ خطواتي خلفه، قدمايَ شبه عاريتين على أرضٍ باردةٍ، والحائطُ يُمرُّ بنا كأنّه يُراقبنا بعينٍ واحدةٍ مغلقة.”
همست منى، تمسكُ بكفّ والدها:
” أبي… لا يمكنني تخيّل ذلك… لِمَ؟ لِمَ يُعاملونَ إنسانًا هكذا؟”
قال نُعمان بهدوءٍ مرير:
” لأنَّ الخوفَ حينَ يسكنُ دولةً، يُصبِحُ كلُّ سؤالٍ جريمة، وكلُّ فضولٍ تهمة.”
ثمّ نظر والدُ منى إليهما وتنهّد وقال بنبرةٍ غاضبة:
” كلّ هذا ولم يكن هناك أيّ تهمةٍ واضحة؟”
قال نُعمان:
” في تلك العوالم يا عمّ، لا يبدأ التحقيق بتهمة، بل يبدأُ بأمرٍ إداريّ، ويكبر شيئًا فشيئًا حتى يصير نفقًا لا مخرج له.”
قالت منى:
” إلى أين أخذوك؟”
نظر إليها نُعمان وقال:
” إلى غرفةٍ خافتةِ الضوء، فيها طاولةٌ معدنية، وكُرسيّان. دخل رجلٌ جديد، لم أرَه من قبل، له لحيةٌ خفيفة وملامحُ باردة. جلسَ قبالتي، ثم قال بصوتٍ ساكنٍ كأنّه يتلو نشيدًا محفوظًا: (أنتَ هنا لأنّ فيك شيئًا لا يروقُ لنا… تُفكّر، وتقرأ، وتسأل. وهذا كثير.)
قلت له: (هل هذه جريمة؟)
ابتسم، وقال: (ليست جريمة… لكنها ليست مطلوبة. المطلوب أن تكونَ نسخةً من الآخرين. لا تُناقش، لا تُحلّل، لا تُضيء المصباح إن أُطفئ.)
سألته بهدوء: (وإن كنتُ أحبُّ الضوء؟)
أجاب وهو يقوم عن الكرسي: (ستتعلّم أن تحبّ الظلمة… أو تذوب فيها.)”
شهقت منى، وقالت:
” يا إلهي… كيف احتملتَ كلّ ذلك؟”
قال نُعمان:
” كنتُ أتمسّك بشيءٍ صغيرٍ داخلي… أُسمّيه الحُلم، أو ربما الإيمان، أو ذكرى وجهِ أُمّي… لا أعرف، لكنه كان نوري الوحيد.”
وسكتَ فجأة.
قال والد منى، بصوتٍ حازم:
” أكمِل يا بنيّ، لا تتوقّف… الحكاية لا يَنبغي أن تُدفن في الصمت.”
نظر نُعمان إليه، ثم إلى منى، وابتسم ابتسامةً شاحبة:
” سأكمل… لكن ليس الآن فقد حان وقت الغداء. فبعضُ الوجع يحتاجُ لالتقاطِ نفس، وبعضُ الظّلام لا يُروى دفعةً واحدة.”
وأردفت منى:
“إني لن أطيق الطعام, وأنا أتخيلك في مشهد كهذا, خذ كأس الماء هذا وتابع”
ارتشف نعمان شيئاً من الماء وتابع:
“حين اقتادوني مجدّدًا من الزنزانة، شعرتُ أنني أُسلِمُ نفسي لليلٍ لا ينتهي. خطواتي كانت ثقيلة، ورجلاي بالكاد تحملانني. الباب الحديدي فتح على ملامحٍ أعرفها الآن جيدًا، ذلك المحقِّق الهادئ، الباسم دومًا، الذي التقيتُه فجر الليلة الأولى.
ابتسم لي، وأشار إلى كرسيٍّ أمام مكتبه:
– “تفضّل، سيّد نُعمان.”
جلست، لكن عينيّ لم تجلسا. راحتا تتنقّلان في المكان ذاته، كأن الزمن لم يتحرّك منذ تلك الليلة. رجالٌ في الخلفية، واقفون كتماثيل لا تتنفس. صورة كبيرة لرئيس الجمهورية تراقبنا من فوق رأسه، تفيض صمتًا. أدوات تعذيبٍ موزعة على الجدران: كرباجٌ، أسلاك، عصيّ خشبية، وجهاز معدني لا يُخطئ العين هدفه. لا شيء جديد… إلا بردٌ أشدّ يسري في العظم.
قال وهو يزيح ورقة عن طاولته:
– “أنظر يا سيّد نُعمان… لقد سعيتُ شخصيًّا لأن أكون من يتولّى التحقيق معك. لا أريد أن تقع بين يدي محققين لا يعرفون كيف يكلّمون شابًا مثقفًا وواعيًا مثلك. أنت لا تُضرب، لا تُهان… هكذا رأيتُك، وهكذا أريد أن أحاورك.”
ثم أردف، وهو ينهض واقفًا ويشير لي أن أتبعه:
– “قبل أن نبدأ… تعالَ، سأصطحبك في جولة صغيرة، نعود بعدها لنكمل حديثنا… كأصدقاء، لا كمعتقل ومحقّق.”
نظرتُ إليه، ولم أُجب. فقط نهضتُ.
منى همست:
– “جولة؟ في المعتقل؟”
والدها عقد حاجبيه، كأنّه تَنبَّه لشيء:
– “هذه ليست نزهة، بل تمهيدٌ لرسالةٍ مغلّفة بالتهديد.”
تابع نعمان:
“صعدنا درَجًا ضيّقًا، وكان خلفنا اثنان من رجاله، شديدا البنية، لا تفارق أيديهما المربوطة وراء الظهر حافة السلاح. وصلنا إلى سطح المعتقل، ففتح ذراعيه كمن يُعرّف بصومعة مقدّسة وقال:
– “أترى؟ نحن هنا… في قلب مقبرة لا يسمع فيها أحد، سوى الأموات.”
نظرتُ إلى امتداد الظلام. جدران شاهقة، وصمتٌ يزنُ كتلًا من الحديد. كان الهواء باردًا، لكنه لم يكن نقيًّا… كأنّه هو الآخر معتقل هنا.
ثم عاد بي إلى الطابق السفلي، مرورًا بممرٍّ تكلّمَت فيه الرطوبة من الجدران. توقف عند آلةٍ ضخمة إلى جانب الحائط، أشار إليها وهمس:
– “انظر جيدًا… هذه ليست سوى أداة، تضغط الجسد حتى لا يبقى منه شيء. نستخدمها حين نيأس من الاعتراف. كل شيء يتسرّب بعدها إلى مصبٍّ مائيٍّ في الأسفل… حيث لا يبقى لك اسم، ولا رائحة.”
منى شهقت، وارتعشت يدها في حضنها.
– “هذا… لا يُصدّق.”
قال والدها بنبرة متماسكة:
– “بل يُصدَّق، يا منى… هذه آلة النظام، لا القلب.”
ثم استدار إليّ، كأنّه أراد أن يُنهي العرض قائلاً:
– “من يدخل إلى هنا، يخرج من كلّ شيء… حتى من الذاكرة. وإن سأل أحدٌ عنه، قلنا: لم يمرّ من هنا يومًا، ولا نعرفه. الأصوات التي سمعتَها قبل قليل؟ أولئك ما زالوا يُراهنون على الإنكار.”
ثم أمسك بكتفي برفق، وأعادني إلى مكتبه. أمر رجاله بالخروج، وأغلق الباب بنفسه. خفت صوته، ومال نحوي قائلًا:
– “سيّد نُعمان، أرجوك… لا تفكّر في نفسك الآن وكأنّك في معتقل الشيخ حسن، لا تجعل المكان يخيفك.”
سكت لحظة، ثم تابع:
– “أريد حوارًا بيننا كأصدقاء… لا أكثر. أتحبّذ الفكرة؟”
نظرتُ في عينيه، ورأيت قناعًا يُصغي لقناعٍ آخر. قلت له:
– “نعم… أنا على استعداد للحوار، بكل ما أملك من صدقٍ وصراحة. متى أحببتَ، نبدأ.”
منى رفعت عينيها إلى والدها وهمست:
– “لكن… هل يمكن فعلاً أن يكون حوار؟ أم أنّه فصلٌ آخر من لعبة؟”
أجابها بهدوء:
– “أحيانًا يا منى… الحوار في المعتقل، يكون أداة أخرى للتعذيب… لكنها أكثر نعومة.”
وأخذ نعمان يتابع بهدوء وتردد:
“جلس قبالتي، ووضع يده اليمنى فوق الطاولة، ثم قال بهدوءٍ كأنّه يحدّث صديقًا قادمًا من سفر:
– “أنت شابٌّ ذكي يا نُعمان، قرأتُ ملفّك، وأعجبتني ملاحظاتُك المدونة بخط اليد في هوامش الكتب التي صودرَت من غرفتك. فلقد أرسلت رجالي وفتشوا البت الذي تسكنه كاملاً, لكنهم لم يحضروا لي إلا دفاتر ملخصاتك, أليس هذا خطك؟” وعرض أمامي واحداً من هذه المجموعة الخاصة بي, فأومأت بنعم, وتابع: “لديك عقل يُفكّر، وروحٌ تُحاور، ولهذا أنا هنا لأستمع، لا لأُملِي.”
صَمَتَ، كمن ينتظرُ أن يلتقطَ منِّي خيطًا للكلام، لكنِّي آثرتُ الترقُّب.
قال وهو يفتح دُرجًا صغيرًا في مكتبه، ويُخرج منه دفترًا ذا غلافٍ باهت:
– “لِمَ كتبتَ هذه الملاحظة على تلخيصِكَ لكتاب *العقيدة والسياسة*؟”
توقّف لحظة، ثم قرأ بصوتٍ أقرب للهمس:
– *”الخطرُ حينَ تتحوَّلُ العقيدةُ إلى أداةٍ بيدِ السُّلطة، وتتحوَّلُ السُّلطةُ إلى قُدسٍ لا يُسائلها أحد.”*
نظرتُ إليه بثباتٍ، وقلتُ دونَ تردُّد:
– “لأنِّي رأيتُ ذلك… في كُتُبِ التاريخ، وفي واقعِنا.
جون ستيوارت ميل كتب في مؤلَّفه *حول الحُرِّيَّة* عام ١٨٥٩ أنّ الخطر يبدأُ حين تُصبحُ السُّلطةُ السياسيَّةُ مُقدَّسة، لا تُنتَقَد، سواء باسم الدِّين أو باسم الوطنيَّة.
وكان ممّا قاله: إنَّ الحريَّة لا تقومُ بغيرِ مساءلةٍ، ولا تُحمى بغيرِ عقلٍ يُقاومُ القداسة الزائفة.”
ابتسم المحقّقُ ابتسامةً صغيرة، وألقى نظرةً على الورقة أمامه، ثم قال:
– “قلتَ إنّكَ تُفضِّلُ الحوار… فدعنا نتحاور.”
أمالتْ منى رأسها نحو والدها، وهمست بصوتٍ خافت:
– “يا أبي، كأنَّه يُحاوِلُ كسبَه بطريقةٍ مختلفة… ألا يبدو كذلك؟”
ردَّ والدُها بتنهيدةٍ مُثقَلة:
– “هو يُغريه بالكلمات… قبل أن يُقيِّده بالاعتراف.”
تابع نعمان:
“شبكَ المحقّقُ أصابعَه، ثم سأل:
– “ما رأيُكَ بالذين يُنكرون كلَّ شيء، ويظنُّونَ أنَّ الصَّمتَ يحميهم؟”
قلتُ بهدوءٍ مدروس:
– “ربَّما لأنَّهم فقدوا الثقة… بعد أن رأَوا مَنِ اعتَرفَ ولم يُنْجِه اعترافُه.”
نظر إليَّ نظرةً مطوَّلة، وسأل:
– “وأنت… هل ستسلكُ دربَهم؟”
أجبتُ بصوتٍ متزن:
– “لم أفعَلْ ما أُتَّهَمُ به، ولا أَخجلُ ممَّا فَعَلتُ.
لكنِّي لا أظنُّ أنَّ الاعترافَ في هذا المكانِ يصنعُ عدالة، ولا أنَّ الإنكارَ يُنقِذ.”
ابتسم، وكأنَّه وجدَ ما كان يبحثُ عنه. ثم نهضَ ببطءٍ، واتَّجه نحو نافذةٍ صغيرةٍ لا تُفتَح، وقال وهو يُديرُ ظهره لي:
– “هل تؤمنُ بأنَّ الحُلمَ يُمكنُ أن يُقتَل؟”
أجبته، وعيناي على ضوءِ المصباحِ المتدلِّي:
– “لا… لكنَّه قد يُنفى، يُجوَّع، يُسجَن… وقد يُدفنُ مؤقَّتًا.
لكنّه لا يموت.”
استدار فجأةً، وقال:
– “حسنًا… فلنَجعل هذه الليلةَ بدايةَ الحُلم، لا نهايتَه.”
كانت منى تُتابع الكلمات وكأنَّها تُنصتُ إلى لُغزٍ قديم. همست ببطء:
– “إنَّه يعرِض صفقة… أم أنا أتوهم؟”
أجاب والدها وهو يراقب ارتجافَ نبرتها:
– “ربّما.
لكنّه، على الأغلب، يُهيِّئُ الأرض لانتزاعِ ما يُريد… ببراعةِ الممثِّل، لا صِدقِ الصَّديق.”
تابع نعمان:
” جلسَ المحقّقُ من جديد، وأسندَ ظهرَه إلى الكرسيّ، ثم رمقَني بنظرةٍ طويلةٍ كأنَّه يُقوِّم وزنَ كلماتي. قال بصوتٍ خفيضٍ مائلٍ إلى الوُدّ:
– “لو كنتُ مكانك… لاغتنمتُ الفرصة. نحن لا نبيعُ وَهْمًا، لكننا نمنحُ خيارات.”
أجبته بهدوءٍ مريبٍ كان يخرج من أعمق توجُّسٍ في صدري:
– “وأنا هنا… لا أطلبُ نجاةً بأيّ ثمن، لكنَّني مستعدٌّ للحوار، كما قلتَ أنت، بشرط أن يكونَ حوارًا… لا استدراجًا.”
ضحك بخفّة، ضحكةً قصيرةً كمن أُخذَ على حين غِرّة، ثم أخفاها خلف قناع المرونة، وقال:
– “تُحبّ أن تبدو قويًّا… حسنٌ، دعني أُريكَ كيف تُحترمُ القوّة حين تكونُ في محلِّها.”
فتح أحد الأدراج، وأخرج منه صورةً صغيرةً، مطبوعةً بالأبيض والأسود، ثم انحنى نحوي، ورفعها أمام عينيّ.
رجلٌ شاب… وجهه مُزرقٌّ، تغطّيه كدماتٌ غليظة. لم تكن الصورة واضحة تمامًا، لكنّ ملامحه لم تكن لتخفى عليّ.
جفلتُ… ثم تماسكت.
قال بصوتٍ خفيض، كمن يُقدّم برهانًا قاطعًا:
– “تعرفه، أليس كذلك؟”
لم أجب، لكنّ صمتي نطقَ بما لم تنطقْ به شفتاي.
تابع، وهو يراقب وجهي عن كثب:
– “هو الآن بخير… إن تعاونتَ.”
قلتُ بجمودٍ بارد:
– “ألا ترانا عدنا للابتزاز؟”
ابتسم، كأنّ شيئًا لم يكن، وقال بنبرةٍ متلوِّنة:
– “بل نُمارسُ فنَّ الوقاية، يا نعمان.”
سكتَ لحظة، ثم أخرج ورقةً بيضاء، وعدّل جلسته، وقال:
– “سنبدأ من جديد. أجبني على أسئلتي بصراحة، ودون لفٍّ أو مراوغة. ولن يُضايقكَ أحد.”
نظرتُ إليه نظرةً لا رجاءَ فيها ولا خوف، وقلت:
– “سَلْ ما شئت.”
كانت منى تمسح دمعةً تشكّلت في طرف عينها، وهمست:
– “يا أبي… إنّه لا يستجوبُ فقط، إنّه يُمارس لعبةَ القلوب.”
ردّ والدها، وهو يُمسكُ بيدها المرتجفة:
– “نعم… هذه ليست جلسةَ تحقيق، هذه جلسةُ تهشيمٍ بطيء، حتى ينتزعَ ما يُريد… وهو يبتسم.”
قال نعمان:
” سألني المحقّق بنبرةٍ شبه رسميّة:
– “هل كنتَ تنتمي إلى أيّ تنظيمٍ سِرّي؟”
– “لا.”
– “هل اجتمعتَ بأشخاصٍ مشبوهين؟”
– “اجتمعتُ بزملاءِ دراسة، ببائعي كُتبٍ في مكتباتٍ مرموقة، أو على الأرصفة، بمديري مكتباتٍ عامّة، بأستاذِ أدبٍ ألقى محاضرة…
وأهمّ من كلّ أولئك: بأمّي.
أمّي التي غرستْ في داخلي حبَّ القراءة، وكانت تنتظرُني كلَّ ليلةٍ، لا تنام حتّى أعود.”
– “هل كتبتَ منشوراتٍ سياسيّة؟”
– “كتبتُ خواطر، وبعضَ ما أسميه شعرًا، وملخّصاتٍ كنتُ جمعتُها من هوامشِ الكُتبِ التي قرأتُها… لم تُطبع، ولم تُوزّع. وهي الآن بين أيديكم.”
– “هل تعتقدُ أنَّ النظامَ فاسد؟”
نظرتُ إليه مليًّا، وقلت:
– “أؤمنُ أنَّ كلّ نظامٍ لا يُحاسَب… يُنتِج فسادًا، ولو بدأ بأنبياء.”
صمتَ المحقّقُ للحظة، ثم نهض واقفًا، يتمتمُ كمن يخاطب نفسَه:
– “ربما أنتَ أخطر ممّا كنتُ أظن…”
ثم التفت إليّ، وقال بنبرةٍ مشوبةٍ بالغموض:
– “غدًا نُكمِل… وسأجعل من حوارِنا شيئًا لا يُنسى.”
صفّق بيدٍ واحدة، فدخل رجلٌ بثيابٍ رماديّة باهتة، لا يحملُ سلاحًا، ولا يبدو عليه الغضب، لكن في عينيه ذلك الجمودُ الذي يَبعث على القشعريرة.
قال المحقّق بلهجةٍ وادعةٍ:
– “خُذ السيّد نعمان إلى زنزانتِه… ليأخذ قسطًا من الراحة. فغدًا يومٌ جديد.”
نهضتُ عن الكرسيّ كمن فقدَ الشعورَ بثقل جسده. كانت خطواتي تتثاقل، لا من الإرهاقِ فقط، بل من ثِقَلِ الصورةِ التي لم تغادر جفوني… ومن الذي لم يُقَل، ممّا هو آتٍ.
في الممرّ السفلي، أصدرت المصابيحُ أزيزًا متقطّعًا، كأنّها تساقطُ الضوءَ قَطرةً قَطرة، على أجسادٍ تمضي بلا أسماء.
فتح الحارسُ بابَ الزنزانة، وأشار إليّ بالدخول.
قال بصوتٍ رتيبٍ، كأنَّه يُردّد تعليماتٍ بلا روح:
– “نَمْ الآن… فالكوابيسُ تنتظرُ مَن يستيقظ.”
ثم أغلق الباب.
تكوّرتُ على نفسي، لا لأنّ المكانَ ضيّق، بل لأنَّ الروحَ ضاقتْ بما فيها.
البطّانيّةُ التي وُضِعتْ بجانبي لم تعُد بطّانيّة… بل جلدَ صمتٍ ثقيل، يفصلني عن العالم.
لم أستطع النوم, فتمددت على ظهري فوق المصطبة البيتوتية.
كان الجدارُ يُعيدُ صدى كلماتِه:
– “نُمارس فنّ الوقاية، يا نعمان…”
همست منى، تغالب ارتجافَ شَفَتيها:
– “هل يمكن لإنسانٍ أن ينام بعد هذا؟”
أجاب والدها وهو يضع كفَّه على يدها:
– “لا… النوم هنا موتٌ مؤقّت. لا يرتاح فيه الجسد، ولا يسكن فيه العقل.”
ثم أضاف، بعد لحظة صمت:
– “لكنَّ نعمان… يُنبت من بين الحجارة قلبًا لا يُكسر.”
تابع نعمان:
” وفي آخر الليل، وأنا على الأرض الباردة، شعرتُ أنّ شيئًا ينكسرُ فيّ، وشيئًا آخر ينبت.
امتدّت حركةٌ خافتةٌ في الزنزانة، ففتحتُ عينيّ.
كان جرذٌ ضخمٌ قد جثمَ على صدري، يُواجهني وجهًا لوجه. شدّني طولُ شاربيه، وأنفُه المرتجف كأنَّه يشمّ إن كان ما أمامه عدوًّا… أم طعامًا.
مددتُ يدي ببطء، وتناولتُ آخر قطعةَ خبز يابسة كانت إلى جوار رأسي، وضعتُها بجانبه.
فتوجّه نحوها، وبدأ يقضمها بهدوءٍ متأنٍّ، وأنا أتابعه دون حراك، ودون أن أجرؤ فتح عيني أكثر, أو على شهيق يصدر صوتاً غي هدوء آخر لحظات قبل الفجر.
وحين أنهى ما كان له، نظر إليّ نظرةً سريعة، ثم أسرع إلى فتحةِ المرحاضِ الأرضي، عائدًا من حيث أتى.
كانت عتمةُ الزنزانة تشبه صفحةً سوداء, مليئة بالصور والكلمات التي لم تُكتَب بعد…
لكنّ الحبرَ في داخلي لم يعُد حبرًا، بل دَمًا، ووجعًا، وأسئلةً بلا أجوبة.
قال والد منى: دعي نعمان يرتاح قليلاً في غرفته وهيا بنا نعد طعام الغداء, فقد أمضى وقتاً مليئاً بالإرهاق, وأن له أن يستريح.
في المطبخ، كان البخارُ يتصاعد من قدرِ الطعام، يملأ الهواءَ برائحةٍ دافئة، كأنّه يحاول أن يُزيل ما علِقَ في القلب من بردِ الكلمات.
وقفت منى تقطّع الخضار ببطء، وسكينُها يضرب اللوحَ الخشبيَّ بإيقاعٍ آليٍّ، كأنّه نبضٌ مضطربٌ لا تهدأ نغمتُه.
قال والدها، وهو يسكب القليل من الملح في الشوربة، دون أن ينظر إليها:
– “كنتُ أعلم أنّ الليلة الرابعة ستكون الأصعب… لكنّه تَماسَكَ، أكثر ممّا توقّعت.”
سكتت منى لحظة، ثم تمتمت:
– “أبي… ذاك الذي جثمَ على صدره، كان جرذًا… أم وهماً أو شبحاً رجلً على هيئة جرذ؟.
لأنّي لم أستطع طرد تلك الصورة من رأسي، كأنَّ الجرذ هو الذي استنطقني.”
رفع الوالد الغطاء عن القدر، ثم أعاده، وقال:
– “في المعتقل، ليس هناك فرقٌ بين الجرذ والمحقّق… كلّهم يظهرون في الظلمة، يفتّشون عن نقطةِ ضعف، عن قطعةِ خوفٍ صغيرةٍ لينهشوا منها الطريق.”
جلست منى على الكرسيّ، وأسندت رأسها إلى الحائط، وقالت بصوتٍ منخفض:
– “قال له: *”نُمارسُ فنّ الوقاية، يا نعمان…”*
يا أبي، ألا ترى أنّ هذه العبارة وحدها… سُمٌّ مغطّى بالابتسامة؟”
– “بلى، سُمٌّ خالص. الوقايةُ عندهم تعني أن تُبادر إلى الخضوع قبل أن تُساق إليه. أن تُخيف نفسك قبل أن يخيفك أحد.
إنّها وقايةٌ من الكرامة، لا من الألم.”
نظرت إليه منى، بعينين تغشاهما ظلالٌ بعيدة:
– “لكنّ نعمان… لم ينهَزم ظلّ ثابتًا، حتى في جوابه عن النظام، حين قال: *”كلّ نظامٍ لا يُحاسَب، يُنتِج فسادًا، ولو بدأ بأنبياء…”*
أحسستُ، لوهلة، أنَّ المحقّقَ لم يُجِب، لأنّه خاف أن يكون قد نطق الحقيقة.”
اقترب والدها، ووضع أمامها كأسَ ماء، ثم جلس بقربها، وقال:
– “نعم… تلك الجملة كانت سكينًا في صدر الطغيان.
ولهذا قال له: *”ربما أنتَ أخطر ممّا كنتُ أظن…”*
لأنّ الخطر ليس في من يرفع سلاحًا، بل في من يزرع فكرة.”
ابتسمت منى، ابتسامةً مزيجها الاعتزاز والوجع، ثم همست:
– “يا لَهُ من جميلٍ… في قمّة ضعفه، يرفض النجاةَ بأيّ ثمن.
وفي حضرة الوجع، يرفع رأسه كأنّه يقول لهم: لن تأخذوا إلا جسدي… أمّا روحي، فقد نجَت منكم.”
نهض والدها، وأطفأ النار تحت القدر، ثم نظر من النافذة كأنّه يتأمّل شيئًا لا يُرى.
قال بهدوء:
– “غدًا… ربّما يعرضون عليه أكثر ممّا يحتمل.
سيُساومونه على كلماته، على صمته، على اسمه حتى.”
ثم التفت إلى منى، وأضاف:
– “لكنّه لن يسقط في شراكهم فهو أوعى من ذلك.”
سألته منى، بصوتٍ مرتجف:
– “وأنت… كيف تُوقِن بهذا؟”
اقترب منها، وربّت على كتفها، وقال:
– “لأنّه ابنُ الحلم… لا ابن الخوف.”
ساد المطبخ صمتٌ ثقيل، يقطعه صوت الملعقةِ تُحرّك الطعام، كرنينِ زمنٍ لا يريد أن ينتهي.
في المطبخِ، كانَ ضوءُ ما بعد الظهيرةِ يتسلَّلُ من فتحةِ النافذةِ المكسوَّةِ بزجاجٍ مُغبَّش، ليرسمَ على الطاولةِ خطوطًا من ذهبٍ مغبرٍّ، تُشبهُ خطوطَ يدِ الزمنِ على وجهِ أمٍّ أنهكتها الانتظارات.
نادت منى على نعمان فقد أصبح الطعام جاهزاً. لكنه أطل من غرفته وأعتذر منهما بكلمات شكر, وأوحى إليهم أنه يحتاج إلى الراحة أكثر من حاجته إلى الطعام.
كانت رائحة الطّعام قد بدأت تفقد دفئها، حين جلست منى أمام والدها على الطاولة المستطيلة في المطبخ. الصّحنُ أمامها لم يكن مغريًا، لكنّها وضعت لقمة في فمها على مضض. نظر إليها والدُها وقد لاحظ اضطرابَها.
قال بهدوء وهو يسكب لنفسه قليلًا من الطعام:
“كلي يا منى، فالذين في الزنزانات لا يملكون هذا الامتياز.”
هزّت رأسها، وقالت بصوتٍ خافتٍ مشوبٍ بالخجل: “أنا آسفة… الطّعام في فمي يُشبه الحجارة. كلّما تذكّرت صورة الجرذ على صدره… لا أستطيع.”
تنهد الأب ببطء، ووضع الملعقة جانبًا، ثم نظر في عينيها: “ما فعله نعمان الليلة الماضية ليس مجرد صبرٍ على القسوة، بل درسٌ في الكرامة. حتى الجرذ، في تلك اللحظة، لم يكن عدوًا… بل شريكًا في الزنزانة، جائعًا مثله، ضائعًا مثله.”
شهقت منى بخفّة: “ألم يخَف؟ رجل في تلك الحال، ووحش يقف فوقه، وتلك الصورة التي رأى، وذلك الصوت الذي لا يزال يرنّ في أذنيه: نُمارس فنّ الوقاية يا نعمان. ألا يُهشّم هذا إنسانًا؟”
أجاب والدها دون أن يرفع صوته: “ربّما نعم. وربّما لا. نعمان من الذين يُهشَّمون لينهضوا أكثر وضوحًا… لا أكثر هشاشة.”
قالت منى وهي تلتقط لقمةً صغيرة ثم تعيدها إلى الصحن: “أنا خائفة، أبي… كلّ هذا يبدو كأنّه بداية لعاصفةٍ لا نعرف إلى أين ستأخذنا.”
” العاصفة جاءت يا منى، ونحن في قلبها. لكنّ بعض الناس، مثل نعمان، لا ينتظرون انقشاع الغمام… بل يصنعون قبسًا من الحلم في عتمة العاصفة.”
وضعتْ منى صحنَ المجدَّرةِ على الطاولةِ، ثم سكبتْ إلى جانبهِ صحناً من اللبنِ بالخيارِ، وهمست وهي تهمُّ بالجلوس:
” يا أبي… أتعلم؟ لا أزالُ أسمعُ نبرةَ المحقِّقِ في أذني، ذلك التقلُّبُ السلسُ بين اللينِ والتهديد، بين الوعودِ والابتزاز… شيءٌ فيه يُرعبني.”
جلسَ والدُها بهدوءِ من عرفَ كيف يختارُ كلمتَه على مائدةِ وجعٍ كهذا، وأجاب وهو يقطعُ رغيفَ الخبز:
” ما فعلهُ كان أقربَ إلى لعبةِ الشطرنج… قطعةٌ تُضحَّى بها، وأخرى تُؤخَذ، ثم ينتظرُ النقلةَ التالية من خصمٍ يجهلُ قوانينَ اللعبةِ، لكنه يعرفُ كيف لا يُهزم.”
رفعتْ منى ملعقتَها، ثم وضعتها قبل أن تصلَ إلى فمِها، وقالت وهي تنظرُ إلى الفراغِ:
” هل تظنّهُ كان صادقًا حين قال لنعمان: *لنُحوّلْ هذهِ الليلةَ إلى بدايةِ حلم، لا نهايته؟”
مسحَ والدُها فمَه بورقةِ المنديل، ثم تأمّلها مليًّا:
” الصدقُ عند أمثالِه ليس فضيلة، بل أداة… هو لا يبحثُ عن حلمٍ لنعمان، بل عن خيطٍ يُمسكُ به عصبَ الحقيقةِ في داخله، لِيُفرغَه ويُشكّله من جديد.”
أطرقتْ منى رأسَها، وهمست:
” لكنّ نعمان… لم يكن هشًّا. كان في كلامهِ تماسكٌ لا يُشترى، وصراحةٌ تُربكُ مَن اعتادَ على الكذبِ كوسيلةِ عمل.”
ابتسمَ والدُها ابتسامةً باهتةً، وقال:
” لهذا خافوه. من يَعرفُ القراءةَ في زمنِ التلقينِ يُعدُّ خطرًا، ومن يطرحُ الأسئلةَ وسطَ المذعورين يُعَدُّ وقحًا.”
مدّت منى يدَها إلى الصحنِ أخيرًا، تناولتْ بعضًا من المجدّرة، ثم قالت:
” لكني أخاف عليه… أخاف من ذلك الجرذِ الذي زحفَ إلى صدره، من بردِ الزنزانةِ، من صوتِ المصابيحِ المرهقةِ وهي تئنّ كأنها تحتضر.”
هزَّ والدها رأسه، وقال بصوتٍ أقرب إلى رجاءٍ داخلي:
” نعمان، يا ابنتي، لا يُكسرُ بسهولة. لكنّه… يُخدَش، يتألم، وقد ينزفُ كثيرًا قبل أن يشفى. وكلّما نجا من ألمٍ، خرج منهُ أعمق، وأشدّ إشراقًا… كالمعدنِ النبيل، لا يصفو إلّا بالنار.”
رفّت أهداب منى، وراحت تغالبُ دمعًا تشكّلَ في طرفِ العينِ دون استئذان، وقالت:
” أبي… أليس لكلِّ صبرٍ نهاية؟”
نهض والدها، وسار نحو النافذة، تأمّل الشارع الخالي، ثم التفت إليها وقال:
” نعم يا ابنتي… لكنّ النهاية ليست للصبْرِ وحده. النهايةُ للظلمِ أيضًا. فقط، تحتاجُ أن ننتظرَ قليلًا… وألّا ننسى الحُلم.”
في الجهةِ الأُخرى من المدينة، حيث كان الوقتُ يُقاسُ بالملاعق لا بالسياط، تجلس منى إلى مائدة الغداء بصمتٍ ثقيل، والملاعقُ تتحرّك فوق الصحون كما لو كانت تحرّك الذكريات. نظر إليها والدُها، ثمّ تنهّد، وقال بصوتٍ هادئٍ كأنه يوشك على الانكسار:
– “أيعقلُ أن يكون نِصفُ الحياةِ في زنزانة؟… والنصفُ الآخرُ في انتظارها؟”
رفعت منى بصرَها نحوه، وكأنها انتُزِعت من غفلة، وقالت:
– “أشعر وكأنّ نَفَسه ما يزال معي… في الهواء، في رغيف الخبز، في صمت الجدران.”
سكتَ الوالدُ لحظة، كأنه يتفحّص في ملامحها ما لم تُقلْه، ثم تمتم:
– “ما قاله هناك، في تلك الليلة… عن الحُلم الذي لا يموت، عن الصدق الذي لا يُكذّب نفسه، عن نُبْلِ أن تقول لا… في فم الموت… كان يُذكّرني بكِ.”
تأمّلَت وجهه المتعب، ثم همست:
“كنتُ أخاف عليه من البرد، من الليل، من قسوة الشوارع حين يتأخّر… ولم أكن أعلم أن هناك بردًا أشدّ من العراء، وأنّ الليل له بابٌ من حديد، وصمتًا لا يُحتمل.”
وضعَ الأبُ الملعقةَ جانبًا، كأن الطعامَ لم يعُد له معنى، وقال:
“وهناك… في الزنزانة، كان يُطعِم الجرذ خبزه، كي لا ينهشه… أما نحن، ففي الخارج، كدنا تنهشنا الجرذان من القلق.”
اغرورقت عينا منى، ثم قالت:
“كان الجرذ أهون عليه من أن يُفرّط بكرامته، أو يكذب لينجو. إنه لا يزال حُرًّا، حتى وهو خلف القُضبان.”
ردّ والدها مبتسمًا بحزن:
“الحريّة يا ابنتي لا تُقاس بالقيود، بل بالقدرة على ألّا تُبدّل جلدك… حين يُطلب منك أن تبيعه.”
ثم أضاف وهو ينهض ببطء:
“دعينا نغسل الصحون معًا… ربما نغسل معها هذا الثقل الجاثم على الصدر.”
وقفت منى، ومسحت دمعةً أفلتت، وقالت:
“نعم يا أبي… وآثار الملحِ العالق في الصحون ليس أكثر ملوحةًً من هذا الانتظار.”
في المطبخ، كانت الأطباق تُغسل بصمتٍ، لكنّ الماء كان يُحدّث أشياء لا تُقال. صوت الصنبور بدا أشبهَ بنحيبٍ خافت، ورفيف الرغوة على الصحون يشبه الأحلام التي لم تجد مكانًا تستقرُّ فيه.
منى كانت تمسك الصحن بين يديها، ثم تسلّمه لأبيها ليجففه، كأنها تُسلم قطعةً من الذاكرة، وهو يستقبلها بكفٍ نحتها الانتظار. قال وهو يمرّر المنديل فوق طبقٍ أبيض:
– “تعلمين، أكثر ما يخيفني ليس ما يمرّ به نعمان الآن… بل أن يتسلّل الظلام إلى قلبه.”
أجابت منى بصوتٍ واهن، وهي تدلك كوبًا صغيرًا:
– “قلبه صُنع من نورٍ لا تطفئه العتمة، يا أبي… لكنّي أخاف أن يصير هذا النور وجعًا لا يشفى.”
هزّ الأب رأسه ببطء، ثم قال:
– “الذين يصمدون هناك، لا يخرجون كما كانوا… يخرجون وهم يحملون جُرحًا يشبه البصيرة.”
صمتا قليلًا، ثم قالت منى:
– “هل كنتَ لتصبر لو كنتَ مكانه؟”
أجابها دون أن ينظر إليها:
– “لا أدري… ربما كنتُ لأحاول، لكنني لا أملك شجاعته. نعمان ليس في مثابة ابننا وحدنا يا منى… هو ابن الكتب التي قرأها، والقصائد التي آمن بها، والأحلام التي أنبتتها أمّه في صدره.”
أطرقت منى، ثم همست كأنها تكلّم نفسها:
– “ليته ينضم إلينا الآن ليسمعنا… ليته يعلم أن في كل لحظةٍ منّا صلاةٌ له… وأنّه قد أصبح هذا البيت من دون صوته لا يبقى بيتًا، بل صدى لا ينتهي.”
توقّف والدها عن المسح، ووضع الكأس جانبًا، ثم قال:
“ناده من غرفته, فالبيوت تعرف أبناءها… حتى لا يبقى وحيداً فيشعر أنه ما يزال مع من قد غيّبتهم الأسوار.”
صمتا قليلاً، ثم قالت منى بعد أن ألقت نظرة على الساعة: ” هل تظن أن الليلة القادمة ستكون أصعب؟”
” كلّ ليلة في المعتقل هي امتحانٌ جديد. لكن الليلة السادسة… ربما كانت بداية جديدة في مسار الحلم.”
ثم نهض عن كرسيه، وأخذ الطبق ليضعه في الحوض، وقال وهو يمسح يديه:
“تعالي… دعينا نكتب ما رأيناه، ما فهمناه. فالحلم إن لم يُكتب، ضاع بين الجدران.”
عادَ نُعمانُ بخُطًى هادئةٍ وانضمَّ إليهما في الشُّرفةِ المُطلَّةِ على الحديقةِ، وقد وُضِعَ إبريقُ الشّايِ والكؤوسُ على طاولةٍ جانبيّةٍ صغيرةٍ. الهواءُ المسائيُّ يداعبُ أوراقَ الشّجرِ بنعومةٍ، ورائحةُ الياسمينِ تتسلَّلُ من عمقِ الحديقةِ كأنَّها ذاكرةٌ قديمةٌ تستيقظُ مع كلِّ لحظةِ صمتٍ.
تقدَّمَ نُعمانُ ليَسكُبَ الشّايَ للجميع، غيرَ أنَّ مُنى نهضتْ بخفَّتِها المُعتادةِ، واتَّجهتْ إلى الداخل، ثمَّ عادتْ تحملُ كأسًا من عصيرِ البرتقالِ الطازج، وقد برَدَ قليلاً وتغطّى سطحُهُ برذاذٍ نديٍّ شفاف.
مدَّتْ يدها إليه قائلةً بابتسامةٍ دافئة: “دَعِ الشّايَ لنا، وهذا لك.”
أخذَ الكأسَ منها وقد تلاقتْ أيديهما لثانيةٍ واحدةٍ، كأنَّ شيئًا غير مرئيٍّ مرَّ بينهما، ثمّ جلس.
قال والدُها وهو يحدِّقُ فيه باهتمامٍ واضحٍ، وقد غمر نبرته شيءٍ من الأبويَّةِ الحانية: “نُعمانُ، بُنَيّ… هل ترغبُ أن تُتابعَ ما بدأناه؟ نُصغي إليكَ بكلِّ جوارحِنا، نُشاركُكَ ذِكرى ثقيلةً، فلا تبقى وحدكَ حبيسَ جدرانها؟ أمْ تُفضِّلُ أن نؤجِّل، أو… تتوقّف؟”
رفع نُعمانُ نظرَه إلى الأبِ وابنتِه، وكأنّه يبحثُ عن شيءٍ ما في أعينِهما، ثمَّ قال بصوتٍ هادئٍ يشبهُ الطُّمأنينة:
“أشكُرُ لكما هذا الاحتضانَ الذي أَشعُرُ به… فمنذ أن خَرَجتُ من المعتقلِ، حتّى صباحِ هذا اليومِ، كانت ظلالُهُ لا تزالُ تُلوِّحُ لي عند الأُفُقِ، صباحَ مساء. استعصَى عليَّ أن أتحدَّثَ عنهُ مع أحدٍ قبلَكما، لا لأنّي لا أثقُ، بل لأنّي لم أَكُنْ قد خرجتُ منهُ تمامًا. الآن، أشعرُ بانفراجٍ في صدري، وهدوءٍ يسري إلى قلبي شيئًا فشيئًا… وهذا ما يدفعُني إلى أن أتابعَ معكما، إن لم يكُنْ ذلك يُثقِلُ عليكما، أو يُسبّبُ أيَّ ضيقٍ أو حرج.”
أجابَ السيّدُ أحمدُ على الفور، وقد انفرجتْ أساريرُه:
“لا تقلقْ أبدًا بشأنِنا، يا بُنَيَّ… بل نحنُ مشدودانِ أكثرَ لمشاركتِكَ… نُصغي إليك لا بدافعِ الفضول، بل من أجلِك، من أجلِ أن تُخفِّفَ عنك.”
التفتَ نُعمانُ إلى مُنى، وقالَ بنبرةٍ خافتةٍ فيها مزيجٌ من المودّةِ والخوفِ:
“وأنتِ يا مُنى… بتُّ أخشى عليكِ من نتائجِ ما أستعرضتُه أمامكِ من هولِ الأحداثِ.”
ردَّتْ بصوتٍ ثابتٍ، وعينانِ مشرعتانِ على صدقٍ عميق:
“تأكَّدْ أنَّ ما قاله والدي يَنسحبُ عليَّ تمامًا… بل ربما أنا أشدُّ شوقًا منهُ لسماعِ المزيد… لا أقولُ هذا من بابِ التحدّي، بل لأنّني أُدركُ أنَّ معرفةَ ما مررتَ به، هي أيضًا معرفةٌ بكَ.”
تنفَّسَ نُعمانُ بعمقٍ، كمن يتحرَّرُ من قيدٍ داخليٍّ، ثم قال:
” إذًا… إليكما ماشهدته اللّيلةِ السّادسةِ في ذلكَ المعتقلِ…”
سكتَ لحظةً. ارتشفَ شيئًا من العصيرِ. ثمَّ مضى يقولُ:
“لم يكنِ اللّيلُ في الزنزانةِ يختلفُ كثيرًا عن سابقيهِ، سوى في أمرٍ واحدٍ: أنَّ الصّمتَ صار أثقلَ، والظلمةَ أعمقَ، وكأنَّ الزنزانةَ تنكمشُ مع كلِّ فكرةٍ تُفكَّرُ بصمتٍ.
كنتُ جالسًا قبالةَ الجدارِ، ظهري إلى البطّانيَّةِ الخشنةِ، وعينايَ نصفُ مغمضتَينِ. لا نومٌ ولا يقظةٌ. لحظةٌ معلّقةٌ لا تخافُ الزمنَ، بل تخافُ ما بعده.
وفجأةً… انفتحَ البابُ الحديديُّ على صوتٍ مألوفٍ: خشخشةُ المفتاحِ، حذاءٌ يصُكُّ الممرَّ. دخلَ أحدُ الحرسِ، أشارَ إليَّ دونَ أن ينطقَ. وقفتُ، بلا سؤالٍ. فالأسئلةُ هناك لا تُطرَحُ، بل تُكتمُ.
اقتادَني إلى ذاتِ الدّرجِ، ذاتِ الممرِّ، وذاتِ الغرفةِ: مكتبُ المحقّقِ الصّامتِ، كأنَّهُ بُنيَ من برودِ الزمنِ نفسه.
كان ينتظرُني، نفسُ الابتسامةِ الرماديّةِ، نفسُ الإضاءةِ الخافتةِ. قالَ وهو يشيرُ إلى الكرسيِّ أمامه:
“تفضّل، يا نُعمان… أعلمُ أنَّك لم تنمْ، لذا لن أطيل.”
جلستُ. لم أُظهرْ شيئًا. لا ضعفًا ولا تحدّيًا. فقط صمتّ.
ثمَّ أخرجَ ورقةً جديدةً من الدُّرجِ، وقال:
“هل تعتقدُ أنَّ من يُقاومُ، ينتصرُ؟”
نظرتُ إليه. نبرتُهُ مختلفةٌ عن الأمسِ. فيها شيءٌ من الفضولِ، وشيءٌ من السّأمِ. قلتُ:
“أحيانًا لا ينتصرُ، لكنَّهُ يمنعُ الهزيمةَ من أن تصبحَ عادةً.”
أطرقَ لحظةً، ثم قال:
“كنتُ أراقبُكَ منذ البدايةِ… فيكَ شيءٌ لا يشبهُ الباقينَ… لستَ الأقوى، لكنّك تؤمنُ أنّ ما فيكَ لا يُشترى.”
صمتُّ. ثم تابعَ:
“دعنا لا نُضِعْ الوقت… هذه مجموعةُ أسماءٍ… نُريدُ منك فقط أن تُؤكّد: هل التقيتَ بهم؟”
دفعَ الورقةَ ناحيتي. قرأتُ الأسماءَ. بعضها أعرفهُ، وبعضُها غريبٌ. كلُّ اسمٍ يرتجفُ في السُّطورِ، كما لو أنّه سيبوحُ قبل أن أفتحَ فمي.
قلتُ بهدوءٍ:
“لن أُؤكّدَ شيئًا لا أذكرهُ، ولن أُنكرَ ما لم يحدثْ. أنا لستُ مُوظَّفًا في روايةٍ تكتبُها، بل إنسانٌ له ذاكرةٌ، وأمانةٌ.”
ضحكَ ضحكةً قصيرةً:
“جميل… إذًا تختارُ الذّاكرةَ.”
قلتُ له:
“لأنّها الشيءُ الوحيدُ الذي لا تستطيعونَ مصادرته، إلا إن خنتُها أنا.”
لمعتْ عيناه للحظةٍ، ثم بهتَ بريقُها. قال:
“لدينا متّسعٌ من الوقت… نُتابعُ لاحقًا.”
ثم صفقَ بيده، فعاد الرجلُ الصّامتُ بثيابهِ الرّماديّةِ. اقتادَني بصمتٍ، وأنا أجرُّ خطايَ التعبةِ.
حينَ عدتُ إلى الزنزانةِ، كنتُ أعلمُ أنَّ الصراعَ لم يَعُدْ بين سجينٍ ومُحقّقٍ، بل بين إرادتَين: واحدةٌ تُراهنُ على الخوفِ، وأخرى تُراهنُ على المعنى.
جلستُ قبالةَ الجدارِ. لم أعد أبحثُ عن الضّوءِ، بل عن يقينٍ يُضيءُ من داخلي.
همستُ لنفسي:
“غدًا… لا بُدَّ أن يُكتَب.”
منَى كانت قد شبكت يديها في حجرها، تُصغي بأنفاسٍ متقطّعة، كأنّها تُمسك دموعًا لا تريد أن تنزل. قالت بصوتٍ خافت: “وما الذي منحكَ هذا الصُّمود؟ كيف لم تنكسر؟”
نظر إليها نُعمانُ طويلًا، ثم أجاب: “ربّما… لأني كنتُ أرى نفسي لستُ وحدي. كنتُ أسمعُ أصواتَ الذين أحبُّهم تردِّد داخلي
) : اصمد… ليس لأجلك وحدك.)
أما السيّد أحمد، فقد تمتم وهو ينظر إلى الحديقة: “ذلك هو المعنى… حين يصبحُ الحلمُ صامدًا في وجهِ الكابوس.”
سادَ صمتٌ قصيرٌ في الشرفةِ، كأنَّ الكلماتِ التي قيلت للتوّ تحتاجُ أن تستقرَّ في الهواءِ قبل أن تُستأنفَ الحياة. أوراقُ الأشجار في الحديقةِ كانت تتحرّكُ بهدوءٍ، كأنّها تصغي هي الأخرى، أو تُعبّرُ عمّا عجزت عنه الألسنُ.
قال السيّد أحمد وهو ينهضُ ببطءٍ، يُزيحُ عن ركبتيه غلالةَ الخريف:
“لنَدخُل… صار الجوُّ أكثرَ برودة، والشّايُ لم يَعُد يكفي لِمُقاومتها.”
لم يُعقّب نُعمان، فقط أومأ برأسه، وقام معهم.
داخلَ المنزل، عاد الدفء يتسلّل من تحت الأبواب، وتسرّبت رائحةُ القرفة من المطبخٍ، تُعلنُ أنَّ منى كانت قد أعدّت شيئًا صغيرًا يُشبه الحلوى أو الذكرى.
جلسوا حول الطاولة المستطيلة، بينما وضعت منى ثلاثة أطباقٍ صغيرة، وقطّعت الكعك بهدوءٍ. كانت حركةُ يديها تقول شيئًا لم تَقُله بعد.
قال نُعمان وهو يُمسكُ الكأس بيده:
“أتعلمان؟ لم يكن أكثر ما يُخيف في الزنزانة هو الألم… بل النسيان. أن يُمحى صوتُك من العالم، أنْ تمرَّ أيامُك دون أن يفتقدك أحد، أو يَعرفَ إن كنتَ حيًّا أو لا.”
علّق السيّد أحمد، وهو يُمرّر طرف ملعقته على حافة الكوب:
“النسيانُ… هو ما تراهن عليه الأنظمةُ الظالمة، أن تفرغَ ذاكرتك من ذاتِك، وتملأها بما يُناسبهم.”
هزَّ نُعمان رأسه، ثم نظر إلى منى، وقال:
“وأنتِ؟ ما الذي يجعلكِ تُريدين سماع كلّ هذا؟ أعلم أني أحملكِ ما لا يُحتمل.”
رفعت منى رأسها، وحدّقت فيه بعمقٍ، وقالت بنبرةٍ أقرب إلى الهمس:
“لأنّي لا أريدُكَ أن تحمله وحدكَ. ولأنّي أعرف أن هذا الألم، حين يُروى، يُصبح أقلّ وحشةً. كما أنني… لا أريد أن أكون مجرّد فصلٍ سعيد في حكايتك، بل شاهدةً عليها، من أولِها إلى آخرِها.”
تبادل الأب وابنته نظرةً صامتة، ثم نظر نُعمان إليهما معًا، وقال بهدوء:
“إذًا، دعونا نتابع. فما زال هناك… ما يستحقُّ أن يُروى.”
عادَ نُعمانُ يُتابِعُ حديثَه، وقد غمرَهُ صمتٌ شفيفٌ، كأنَّهُ يُهيِّئُ لبوحٍ من النَّوعِ الَّذي لا يُقالُ إلّا مرَّةً واحدةً. جلست منى ووالدُها في طرف الشُّرفةِ، يرقبانِ ملامحَهُ كأنَّما يُنصِتانِ لقلبِه قبلَ أن يُنصِتا لِما يقول.
مالتْ منى قليلًا للأمام، تضعُ كفَّها تحتَ ذقنها، وهمست:
“تُرى… ماذا رأيتَ هناك؟”
لم يُجِبْ فورًا، بل أطرقَ طويلًا، ثمّ رفعَ رأسه وقال:
“خروجي إلى مكتبِ المُحقِّقِ تلكَ اللّيلةَ، كان أشبهَ بإزاحةِ ستارةٍ عن فصلٍ جديدٍ من مسرحيَّةٍ غامضةٍ، مسرحيَّةٍ لا تُكتَبُ نهايتُها بل تُرتَجلُ في عتمةٍ باردةٍ لا تشبهُ أيَّ مساء.
لم تمضِ نصفُ ساعةٍ على إعادتي إلى الزنزانةِ، حتّى فُتِحَ البابُ من جديدٍ، وسمعتُ الأمرَ الجافَّ بالوقوفِ.”
أخذ والدُ منى نَفَسًا عميقًا، كأنَّهُ يريدُ أن يقولَ شيئًا ثمّ تراجع، واكتفى بالتنهيدة.
تابع نعمانُ، بنبرةٍ أقلّ توترًا، وكأنَّهُ يُراقب صورَ الذكرى من بعيد:
“اقتادني الحارسُ ذاتهُ، نفسُ الخطواتِ الثقيلةِ على البلاطِ الباردِ، إلى غرفةٍ جانبيّةٍ لم أدخُلها من قبل. هناك… لمحْتُ شيئًا لم تنسَهُ عيني حتّى الآن.
كانا اثنين من المعتقلين. لا أذكرُ وجوهَهم تمامًا، لكنّ صوتهما وصورتَهما… محفوران في ذاكرتي كأنّهما جزءٌ من جسدي.”
شهقت منى بصوتٍ خافتٍ، غطّت فمها بكفّها، ثم تمتمت:
“أكانا بخير…؟”
أومأ برأسه نافيًا، وكأنّهُ يعتذرُ من ذاك السؤالِ البريءِ، ثم واصل بصوتٍ هادئٍ، مثقَلٍ بالتفاصيل:
“كان كلٌّ منهما جالسًا داخلَ دولابِ سيارةٍ، أقدامُهما مرفوعةٌ إلى الأعلى بزاويةٍ تكاد تكونُ قائمة، واليدانِ موثقتانِ خلفَ الظهر.
إلى جانبِ كلٍّ منهما، وقفَ سجانانِ يحملانِ كِرابيجَ جلديّةً غليظة، ينهالان بها على القدمينِ بعنفٍ منتظمٍ، لا تَعنيهما دقَّة الإصابةِ ولا موقعُ الضربةِ. أحيانًا تخطئُ الضربةُ فتصيبُ الرأسَ، الكتفَ، الوجهَ… لا يهم. المهمُّ أن يستمرَّ المشهد.”
أطرقَ الأبُ هذه المرّة، ومرَّر يده على حاجبه، كأنّهُ يُبعدُ عنه صورةً لا يريدُ رؤيتها.
قال نُعمانُ:
“في زاويةِ الغرفةِ، طاولةٌ صغيرةٌ، فوقها ورقةٌ وقلم. يُؤتى بهما حينَ تضعفُ المقاومةُ ويصبحُ المعتقلُ مستعدًّا للتوقيعِ، لا على أقوالهِ بل على اعترافاتٍ كُتِبتْ عنه، دون أن يقرأها.
وإن رفضَ التوقيع؟
فذلكَ مجرّدُ فرصةٍ جديدةٍ لأحد السجّانين ليُمرِّن عضلاتَه عليه.”
غامت عينا منى، رفعتْ رأسها إلى السماء، كأنّها تحاولُ أن تُفرّغ قلبها من الضيق، ثم قالت بنبرةٍ مرتجفة:
“يا إلهي… وكيف كنتَ تقفُ وسطَ ذلك كلّه؟”
نظر إليها نظرةً طويلةً، ثمّ همس:
“كمن يقفُ على خشبةٍ، والجمهورُ لا يُصفِّقُ… بل ينتظرُ سقوطَه.”
سكتَ لحظةً، ثمّ تابع:
“ثمَّ أُدخلتُ إلى مكتبِ المُحقِّقِ ذاته، لكنَّه بدا مختلفًا تمامًا.
طاولتان صغيرتان على طرفَي الغرفة، جلسَ عند كلٍّ منهما معتقلٌ آخر، وجهُ كلِّ واحدٍ منهما نحو الورق والقلم الذي على الطاولة، ويدهُ ممدودةٌ على الطاولةِ إلى الجانب من الورق، ينتظرُ إمّا أن يكتبَ أو أن يتلقّى ضربةَ خيزرانةٍ فوق ظهر كفّه.
كانت الضرباتُ قاسيةً لدرجةِ أنَّ أحدَهم صرخَ صرخةً حسبتُهُ يفقدُ يدَه معها.”
تغيّر صوت نُعمان، غدا أكثرَ حدةً:
“وحينَ لا تكفي الخيزرانة، كان أحد السجانين يُمسكُ بكَمّاشةٍ حادةٍ، يشدُّ بها أظافرَ المعتقلِ واحدًا واحدًا. ببطءٍ، بلذةٍ خفيّةٍ، كأنّهُ يُمارسُ طقسًا مقدّسًا.”
شهقت منى هذه المرّة بوضوح، وقالت بصوتٍ خافت:
“هل… هل رأيتَ هذا؟”
“رأيتُهُ كما أراكِ الآن… والإنارةُ خافتةٌ، مرسومةٌ لتُربكَ الإدراكَ، فلا تميّزَ بين الحقيقةِ والخيال. عن يسارِ المُحقِّق، وقفَ حارسٌ جامدُ القسماتِ، يُتابعُ التفاصيلَ دون أن يرمشَ، كأنّهُ جزءٌ من الجدار.”
سكتَ لحظةً، ثم همسَ بصوتٍ خفيضٍ كأنهُ يُحدّثُ نفسه:
“تقدَّمتُ بخطوةٍ حذرة، وكلُّ شيءٍ فيّ كانَ يضربُ بإيقاعٍ سريع: قلبي، أنفاسي، عيوني… حتى روحي كانت تتعثَّر.”
سأل والدُ منى بقلقٍ ظاهرٍ:
“والمحقِّق؟ ما الذي قالهُ لك؟”
نظر إليه نُعمانُ وقالَ بنبرةٍ متهكّمةٍ مغموسةٍ بالمرارة:
“المحقق … قال:
(هؤلاءِ اثنانِ من المعتقلين، والثالثُ والرابعُ مررتَ بهِما في الطريقِ إلى هنا، أليسَ كذلك؟ وجميعُهم ممَّن ادّعيتَ ألّا معرفة لكَ بهم…)
وكانت تلكَ فقط البداية.”
وعادَ نُعمانُ يُكمِلُ روايتَهُ، بعدَ لحظةِ صمتٍ مُتوتِّرٍ، كأنَّهُ يُحاولُ أن ينتزعَ من الذاكرةِ جمرةً، يعرفُ تمامًا أنَّها لن تُطفئَ إذا نُطِقَت، ولن تهدأَ إذا كُتمَت.
كانَ صوتُهُ هادئًا، ولكنَّ العينينِ… كانتا تبوحانِ بأكثرَ ممّا تُخفيان.
قالَ، وهو يُشيحُ ببصرِه كأنَّهُ لا يزالُ يرى المشهدَ أمامَه:
“لم أُجِبْ. لم أستطعْ تمييزَ ملامحِهم في تلكَ الإضاءةِ الخافتةِ، لكنَّ الأجسادَ المرتجفةَ، وانحناءاتِ الظَّهر، وتلكَ الأيدي المرتعشةِ التي كأنَّها تُهدِّدُ بالقلمِ لا لتكتب، بل لِتَستريحَ بالكتابةِ من ألمٍ أعمقَ… كلُّها لم تكُن مألوفةً لي… ومعَ ذلك كانت تؤلِمُني كما لو كانتْ تنتمي إليّ.”
همسَ والدُ منى، وقد عبسَ جبينُه واشتدَّت قبضتُه على حافةِ الكرسي:
“أيُّ عالَمٍ هذا؟ الظُّلمُ فيهِ يلبسُ قناعَ الإنصاف، ويتكلَّمُ بلُغةِ القانون!”
أرادت منى أن تُعلِّق، أن تُقاطع، أن تقول شيئًا… لكنَّها اكتفتْ بنظرةٍ مشدودةٍ إلى نُعمان، بعينينِ تلمعانِ برجاءٍ صامت:
“تابِعْ… لا تتوقّفْ”.
تابعَ نُعمان، وقد بدأَ صوتهُ ينخفضُ كأنَّهُ يسيرُ في ممرٍّ ضيّقٍ من الذِّكرى:
“علّقَ المُحقِّقُ بنبرةٍ خاليةٍ من العاطفة، وهو يُلقي نظرةً جانبيّةً على أحدِ الموقوفين الذينَ تمَّ “ترويضُهم” كما يقولون:
“طلبتُ منهم أن يكتبوا كلَّ ما يعرفونه. اعترفوا طواعيةً بانتمائهم لحزبٍ سياسيٍّ محظور، وقالوا إنَّكَ كنتَ معهم. لا ضغوط، لا تهديدات… فقط، أرادوا أن يقولوا الحقيقة.”
حرّك والدُ منى رأسهُ بيأسٍ قائلاً لها بنبرةٍ هامسةٍ حزينة:
“ربما هي تَمثيليَّةٌ مُتقَنة… أرأيتِ كيف يُبنى الظُّلمُ بيدٍ باردة؟”
ورغم أنَّ كلماتِه كانت موجَّهةً إلى منى، فإنَّها اخترقت نُعمان كالسّهم. لكنّه لم يُعلّق، فقط تابعَ بسكونٍ دامعٍ:
“أردتُ أن أقول: “ولمَ لا أُواجَهُ بهما؟ أليستِ النيّةُ كشفَ الحقيقة؟” لكنِّي صمَتُّ. ففي ذلك المكان، حتّى الأسئلةُ تُحوَّلُ إلى تُهَمٍ تُضافُ إلى ملفِّ الاتّهام.”
ثمّ راحَ نُعمان يُقلِّدُ نبرةَ المُحقِّقِ بدقّةٍ لاذعة:
“لم نسمح لأحدٍ أن يرى الآخر، ولا أن يراك، كي لا يُقال لاحقًا إنَّ أحدَهم تأثّرَ بحضوركَ أو تلقّى إشارةً منك. أو أنّكَ تأثَّرتَ به.”
وصمتَ لحظةً، ثم أضاف بنبرةٍ رخيمةٍ كأنَّها ابتسامةٌ مبلّلةٌ بالسم:
“ها هم يكتبون… كلٌّ بشهادته. والضميرُ هو الشاهدُ الوحيد.”
هزَّ نُعمانُ رأسَه ببطء، ثم قال، وكأنَّهُ يتحدّثُ إلى ذاتهِ أكثر من تحدُّثه إليهما:
“نظرتُ إلى الورقتين، إلى الحارسين، إلى المشهدِ كلِّه… شعرتُ أنَّ الحقيقةَ قد جُرِّدت من لحمِها، وصارتْ صورةً مُملاةً على ورقة.
فقلتُ، بهدوءٍ يخفي بينَ سطورِه غضبًا صافياً:
“هذهِ ليستْ حقيقةً… هذهِ مشهديّة. أنتم لا تبحثونَ عن النّور، بل تصنعونَ ظلًّا، ثم تُقنعونَ الآخرينَ أنَّهُ الضّوء.”
قهقهَ المُحقِّقُ ضحكةً خاويةً، لا لونَ لها، كأنَّها صدى لفراغٍ عميق، وقال:
“لعلّ أحدهم يكتبُ الآنَ ما يُدينُك أكثر ممّا قلتَه من قبل. وربّما آخرُ يُحضِرُ لنا نهايةً مفاجئة.”
“نظرتُ إلى المعتقلَين، إلى أصابعِهما التي بدأتْ تتحرَّك، وقلتُ بهدوءٍ:
“أنا لا أعرفُ أيًّا منهما. ولا تربطني صِلةٌ بهما.”
رفعَ المُحقِّقُ حاجبَه، وسألَ بنبرةٍ ناعمةٍ تُخفي حدَّةً:
“وماذا عن انتمائكم جميعًا إلى حزبٍ سياسيٍّ محظور؟”
أجبته:
“أيجبُ عليَّ الآنَ أن أعترفَ بانتمائي لحزبٍ محظور؟ وأنَّني قمتُ بأعمالٍ ضدّ أمنِ الوطن؟ وهل ستُفرجونَ عني، وعنهم، إذا فعلتُ؟”
نظرَ إليَّ طويلًا، ثم قال، وكأنَّهُ يُساوِمُ:
“لا نُريدُ أكثر من اعترافٍ بانتمائك، وأنَّك شاركتَ في مظاهرة. هذا كلُّ ما نطلبه… وأعدك بعودةٍ قريبةٍ إلى بيتِك.”
فقلتُ لهُ بثباتٍ لم أكنْ أعرفُ أنَّهُ ما زالَ فيَّ:
“اكتبْ ما تشاء، إذا كانَ الأمرُ كذلك، وسأُوقِّع عليه.”
فأشارَ إلى الحارسِ وقال:
“أحضِرْ لهُ ورقًا أبيضَ وقلمًا، وخُذْهُ إلى الغرفةِ المجاورة. فليكتبْ كلَّ ما يعرفُه، وحينَ ينتهي، أعدْهُ إلى زنزانتِه، وأحضرِ الورقةَ إلينا. وأما الآخرانِ، فإلى زنزانتِهما فورًا.”
تردَّد صوتُ نُعمان للحظة، ثمّ قال، وكأنَّهُ يعودُ بخُطاهُ إلى تلكَ الغرفةِ التي لم تغادرْ ذاكرته قط:
“في الغرفةِ المجاورة، جلستُ أمامَ الطاولةِ الخشبيّة، والحارسُ واقفٌ كالصَّنمِ عندَ الباب. وُضعتِ الأوراقُ أمامي، والقلم… وبدأتُ.
لم أكتبْ ما أرادوه. بل كتبتُ ما كان يجبُ أن يُقالَ يومَ كانَ الكلامُ آمنًا.
وبدأتُ أرتّبُ ذاكرتي، كما يرتّبُ السجينُ خطواتِه في الزنزانةِ الضيّقة: ببطءٍ… وبحذر.”
هنا، مالَ والدُ منى بجسدهِ إلى الأمام، شبّك أصابعَه فوقَ ركبتيه، وسألَ بصوتٍ منخفضٍ كأنَّه يخشى أن يُفسِدَ شيئًا:
“ماذا كتبتَ أوّلًا؟”
قال نعمان:
“بدأتُ من اللحظة التي شعرتُ فيها أنّ لي عقلًا يُفكّر، لا فقط جسدًا يُطيع. كتبتُ عن صدمة أوّل كتابٍ سياسيٍّ التقطتُه من رفٍّ مغبرٍّ في مكتبةٍ صغيرةٍ لا يجرؤ أحدٌ على سؤال صاحبها عمّا يبيع. كتبتُ عن المحاضرات التي حضرتُها في المراكز الثقافية والمكتبات العامة، وعن أساتذةٍ كانت نبراتهم أقربَ إلى النبوءات منها إلى الشرح. عن المنعطفاتِ الصغيرةِ التي كوّنتني.”
في الغرفةِ المجاورة، جلستُ إلى الطاولة، التي شعرت بأنني أمتلك زمامها, وأمامِي الورقُ والقلمُ. بدأتُ أكتب… لا اعترافًا، بل ذاكرة. سطّرتُ كلَّ ما قرأته في السياسة فقط وفيما يمت منها إلى الفكر الإسلامي خصوصًا، مبتعداً عن باقي المعارف التي قرأتها, ذكرتُ أسماء الكُتُب، مؤلّفيها، من أين اقتنيتُها، أسماءَ المكتبات، المحاضرات، ومداخلاتي فيها.
منى (وقد غلبها التوتر):
“وكأنك تكتب لهم دفتر حياتك يا نعمان!”
ابتسم نعمان ابتسامةً خفيفة وقال:
“هو جانب واحد منها حمل شهادة. شهادة وعيٍ، لا جريمة. كنتُ أكتب، وأُقلّب كلَّ ما في داخلي، وكلُّ ما كتبته، كان عنّي. كلُّ سطرٍ، كلُّ فقرة، كانت لها خصوصيتها في ذاتي.”
وتابع بعد أن ارتشف قليلا من الماء
“كنتُ أكتبُ كما لو أنّ أحدًا غيري لن يقرأ. لكنّني في قرارة نفسي… كنتُ أراهن على شيءٍ آخر.”
السيد أحمد:
“على ماذا كنت تراهن يا بني؟”
قال نعمان وهو يحدّق في البعيد:
“كنت أُراهنُ على أن من سيقرأ, أياً كان فإنه لن يفهم. وحين انتهت الأوراق… طلبتُ غيرها. وعندما جفّ حبرُ القلم، طلبتُ آخر, كنتُ أُطيل في الكتابة… لا لأنّي أهرب منها، بل لأنّي كنتُ أُقاوِم بها, مع أني لم أكن متأكداً من شيء كما كنت يومها متأكد من أن أحداً سيقرأها. لكنّي كنتُ واثقًا من شيءٍ واحد: أنّها صارت خارج جسدي، محفوظةً في درجٍ ما، لكنّها لم تعد تحترق داخلي.”
قال والد منى، بتنهيدةٍ دافئة:
“هذا النوع من القتال… لا يُدرَّس.”
تابع نعمان:
” وفي ظهيرةِ اليومِ التالي، انتهيت. رقّمتُ الأوراق، وسلّمتُها للحارس. لم أعد أعلمُ من يُراقبُ من، من يكتبُ الحقَّ، ومن يُمثِّلُ الصدق.
لكنّني كنتُ أعلم شيئًا واحدًا…
إذا كان على ذلك أن تتوقّفَ حياةُ إنسان، فلن أكون أنا سبباً في ذلك.”
“لم أكن أعدُّ اللّيالي، بقدرِ ما كنتُ أُحصي الصّمتَ بين جَلسَتين، والارتجافَ بين خُطوتَين. تلك اللّيلة… شيءٌ فيها لم يُشبه ما قبلها. فيها طعم النّهايات، أو رائحة البدايات التي خُلقَت من ندمٍ لا يُفصِحُ عن نفسِه.
كان الهواءُ في الزّنزانةِ أبرَدَ من العادة، كأنّ الجدرانَ تنفّست أخيرًا بعد اختناقٍ طويل، وزفرت أنفاسَ الذين سبقوني… واحدًا واحدًا، بما فيهم أنا.”
قال نعمان هذا، فشهقت مُنَى ببطءٍ، وكأنّها تتنفّس معه البرد ذاته، وهمست:
“وكأنّ الزنزانة تبتلع الذاكرة وتبصق أرواحًا معلّقة…”
أومأ الوالد برأسه، صامتًا.
تابع نعمان:
“الهواءُ في الزّنزانة بدا أكثرَ برودة، لا بفعل المناخ، بل كأنَّ الجُدران تنفّست أخيرًا، وزفرت كلَّ أنفاسِ الّذين مرّوا قبلي. كنتُ على الأرض، لا مُستلقيًا ولا جالسًا، بل مُعلَّقًا بين وضعيْن، كأنّما صار جسدي سؤالًا مُعلَّقًا لا يُريد جوابًا.
حين أُعادوني إلى الزنزانة، لم أكن أنا.
كان في داخلي شخصٌ آخر، يُشبهني في الاسم والملامح، لكنَّه فقد شيئًا لا يُستَعاد.
انغلقتِ البوّابة خلفي بصوتٍ معدنيٍّ كأنَّه ختمٌ على صفحةٍ لا يُراد لها أن تُفتَح.
جلستُ في زاويتي المعتادة، لا أنظر إلى الجدار، بل أراه… كما لو كان مرآةً تفضحني.
قلتُ لنفسي بصوتٍ خافتٍ لا يسمعه إلا أنا: أتُراكَ صدَّقتَهم؟ أم أنّكَ فقط تُحاولُ أن لا تنكسر؟
هل تُخادعُهم حين تَصمت، أم تُخادعُ نفسك؟
أكنتَ تأمل أن ينجو أحدٌ؟ أن يكتبَ أحدهم كلمةً تُبرّئك؟
أيّ سذاجةٍ هذه يا نعمان!”
في الغرفة الهادئة حيث يجلسون مستمعين، انعقد حاجبا منى بحزنٍ صامت، وهمس والدها كأنّه يُعلِّق على خاطرة لا يَعرف مصدرها: “إنَّهُ يحاكِمُ نفسَه الآن… وهذا أقسى من أيّ تحقيق.”
أطرقت منى، وقالت:
“نعم… هو لا يحتمل الظّلم، لكنَّهُ أيضًا لا يُسامح نفسه إن ظنَّ أنَّهُ تهاون لحظة.”
تابع نعمان في زنزانته… كأنّه يكتب على الجدران بصوته:
“هؤلاء الذين كانوا هناك، يكتبون… لا ليفضحوا الحقيقة، بل ليدفنوها.
أيعقل أن يكون الإنسانُ في لحظةِ خوفٍ قادِرًا على خيانةِ روحه؟
أم أنَّ الخوفَ لا يُنبتُ الخيانة، بل يكشفُها فقط؟
كنتُ أراهم ينحنون فوق الورق، لا ليكتبوا، بل لينزلوا من السقفِ المنخفضِ للتعذيب، إلى هاويةٍ أعمق.”
هنا سألت منى، بصوتٍ رقيقٍ لكنه مشحون:
“هل كانَ خائفًا منهم؟ أم من ذاته”
أجاب والدها وهو يُحدِّق في نقطةٍ وهميّة في الأرض:
“الخوفُ من الآخرين مؤقّتٌ… لكنَّ الخوفَ من نفسك، هو الحبس الحقيقي.”
وصوت نعمان يتردّد من عمق الذاكرة، من زنزانةٍ ضيّقةٍ كأنها داخل صدره:
“كم كنتُ أحمقًا حين ظننتُ أنَّ الورق سينصفني، وأنَّ القلمَ عادلٌ إن تركتَه في يدِ مَن لا يعرفُ إلّا أن يكتبَ ما يُملى عليه.
أينَ هي الحقيقة؟
في أوراقِهم الملوَّثة بالخوف؟
أم في نظرةِ معتقلٍ كنتُ أظنُّني لا أعرفه، ثمّ شعرتُ أنَّي أُشبهه أكثر من أيّ أحد؟”
شردت منى ببصرها كأنّها ترى الزنزانة في خيالها، وقالت بنبرةٍ تختلط فيها الحيرة بالأسى:
“وكأنَّه يُحاوِلُ أن يجدَ نفسهُ وسط أنقاض الوجوه.”
أمّا والدها، فهزّ رأسه ببطء:
“هو لا يُفتِّش عن براءة… هو يُفتِّش عن المعنى.”
تابع نعمان:
” طُرِقَ البابُ، لا بعنفٍ كما في السّابق، بل كأنَّ الطّارقَ يستأذن.
فتحتُ عينيّ، فإذا بالحارسِ ذاته، لكنّ خطاهُ كانت أبطأ، ونظراتهُ تُجاهد كي لا تلتقي عيني.
أشار إليّ. نهضتُ بلا سؤال، فقد تعلّمتُ أنّ الأسئلةَ هنا لا تُجاب، بل تُعاقَب.
قالت منى هامسةً وهي تُمسِك بكفِّ والدها: ” كأنّنا نقترب من شيء… شيءٍ لا يُشبه ما سبق.” أومأ الأبُ برأسه، كمن لا يُريد أن يسبق الأحداث: ” دعيه يُكمل، يا منى… الصّمتُ الآن أصدق من كلِّ توقّع.”
مضينا، الحارسُ وأنا، في الممرِّ ذاته. لم يتغيّر شيء… لا الرّطوبة، ولا رائحةُ المعدن، ولا طنينُ الصّمت. وحدَنا نحن كنّا نتغيّر.
لكنَّه لم يَقُدني إلى مكتبِ المُحقِّق، بل إلى السطحٍ حيث لا جُدران مرتفعة، لا سقف، فقط كرسيٌّ حديديّ بلا ظهر، وأسلاكٌ متدلّيةٌ من عُلوّ، وصوتُ رِيحٍ يئنُّ في زوايا الإسمنت.
وقفتُ في المُنتصف، بينما الحارسُ تقهقرَ إلى جانب الجدار، واستحالَ إلى تمثالٍ جامد.
ثم جاء هو. المُحقّق.
لكنّه لم يأتِ وحده… بل بصحبتهِ كوبُ قهوةٍ يتصاعدُ منهُ بخارٌ خفيف. كان يبتسمُ ابتسامةً مدروسة، تُشبه خدعةً مكرّرة.
قال، بصوتٍ بدا كأنّه يُحادثني خارج الزّمن: “هل تُحبُّ الشّمس، يا نُعمان؟”
نظرتُ إليه، دون أن أُجيب. كانت الشّمسُ تهوي ببطء، كأنّها تُجرُّ أذيالها من خجلٍ، والظلالُ تزحفُ ككائناتٍ ليليةٍ تبحث عن حكاية.
قال من جديد، وقد خفّت ابتسامتهُ قليلًا: “أتعلم؟ هذا السّطح شهدَ الكثير من الحوارات… الهواءُ يُلين الرّأس، ويفتحُ القلوب.”
لم أُجبه.
اقترب وسحب الكرسيّ: “اجلِس. لا أُريد شيئًا اليوم. فقط… نتحادث كأصدقاء.”
جلستُ. لا لثقة، بل لفضولٍ مشوبٍ بالحذر.
قال وهو ينظر إلى الأفق: “هل رأيتَ أحدًا من زملائك هنا؟”
أجبتُ: “لا.”
هزّ رأسه كمن يؤكّد احتمالًا: “ولا أنا. فبعضهم… لا أدري إن كانوا ما سيبقون بيننا. في النّهاية، لا أحد يبقى يا نعمان.”
صمت. ثم أضاف: “كلُّ شيءٍ يزول… الألم، الأصدقاء، الحقيقة. وحدها القناعة تبقى. إن نجونا.”
نظرتُ إليه بصمتٍ، لكن قلبي تمزّق في الظلّ.
مالَ إليّ، وهمس بنبرةٍ أقرب إلى التقرّب: “أنتَ شابٌّ ذكيّ، ولستَ عدوًّا لنا. لكنّ عِنادك يُظهرُك كذلك… فكّر.”
عاد إلى الوراء، كمن يُريد أن يتركني مع حديثِ نفسي. ثمّ قال وهو يُدير ظهره: “سأعود بعد قليل.”
تبادل والد منى وابنته النّظر، والقلق يرتسم على ملامحهما. تمتم الوالد:
“هم لا يُعطون الهدنة إلا ليزرعوا ما هو أدهى…”
لكنّ نعمان لم ينتهِ من روايته.
قالت منى، وقد غصّ صوتُها:
“كأنّه يُغريك ببصيصِ حريّة، لكنّها مشروطةٌ بالرّكوع.” أجاب الأبُ مُتمهّلًا:
“أو يريد أن يرى إن كان اليأس سيُوقِعه في الطّاعة.”
تابع نعمان:
“عاد بعد دقائق. اقترب وهمس في أُذني: “انتبه يا نعمان، وليبقَ هذا سرٌّ بيننا, خلال الأشهر السّتة القادمة، ستبقى أجهزة الأمن تراقبك أين ذهبت، وأنى حللت, حيثما كنت, وستجل كل شيء عنك, بمن التقيت, وبم تحدثت. لكن عليك أن لا تخف ولا تلتفِت، لا تتردّد، ولا تسأل إلا في أشياء تهم دراستك. وستُستدعَى شهريًّا خلال السنتَين القادمتين، إلى فرع الأمن السياسي, فإياك أن تتخلف, وإياك أن تخاف. ثم كلَّ ستّة أشهر بعد تلكما السنتين، هذا إن كانت التّقارير جيّدة بحقك.
ولك مني! ….. لك أنت فقط على وجه الخصوص بشارة, يومان تقريباً و تنتهي الاجراءات… و ستعود إلى حضن أُمّك.”
كأنّ العبارةَ اخترقت جدار الألم، فارتجف قلبي دون إرادةٍ منّي.
رفعت مُنَى يديها إلى وجهها، تُخفي دمعةً باغتتها، وقالت بصوتٍ لا يكاد يُسمَع:
“إنه اختبار … اختبار لا يشبه أيَّ امتحانٍ في حياتنا.”
أما والدها، فظلّ يُحدّق في الفراغ، ثمّ قال:
“هُم لا يُعيدون المعتقلين… بل يُعيدونهم مشفوعينَ بالتّوقُّع، مشدودينَ بخيطٍ لا يُرى.”
تابع نعمان:
“همسُهُ لم يكن طمأنينة، بل إعلانًا عن سجنٍ جديدٍ… في الهواء الطّلق. ثم
أشار للحارس، فاصطحبني لا إلى الزنزانة هذه المرّة. بل إلى غرفةٍ فارغة، فيها سريرٌ حديديّ، ونافذةٌ صغيرةٌ تُطلُّ على فسحة ضيقة فجدار ثم على شريطٍ من السّماء.
استلقيتُ. …. أغمضتُ عينيّ ببطءٍ، وهمستُ لنفسي: “ليس هذا كرمًا… بل اختبارٌ آخر. ومَن قال إنّ الليل لا يُخفي أكثرَ ممّا يُبديه؟”
عدت استرجع ما قاله المحقِّق بهدوءٍ باردٍ لا يليقُ ببشاراتِ الفرج: “أيامٌ قليلة، وستخرج.” كأنَّه يُحدِّثني عن حالةِ طقسٍ ستتبدَّل، لا عن جحيمٍ يُفتحُ بابُهُ بعد أن أُوصدَ طويلًا.
أيامٌ؟
أيّامٌ فقط، وتُفتَحُ السماءُ؟
أيعقلُ أن أعودَ إنسانًا له ظلٌّ خارجَ هذه الجدران؟
ولكن لمَ لم أُجبه؟ وبم أجبه؟.
هل أصدق؟ ولم لا أُصدِّق؟.
لكأنَّ شيئًا ما في داخلي ارتجف، شيئًا يشبهُ يدَ أمِّي وهي تسحبُ الغطاءَ عن وجهي كلَّ صباحٍ، لتقول: “استيقظ، لا تنسَ أن تحلم.”
حين أُغلِقَ البابُ خلفَه، وضعتُ رأسي على الجدارِ، وأغمضتُ عينيَّ…
فرأيتُها. … أمِّي. ….. جالسةٌ في صدرِ البيتِ، على ذاكَ الكرسيِ الخشبيِّ الذي طالما خيّطَت عليه جراحي الصغرى، تُمسكُ بين يديها ما طرزتهً, الألوان زهريةً, تطويها ببطء، كأنّها تُهيِّئُها لفرحِ قادم.
الضوءُ يتسلَّلُ من النافذةِ كأنَّه يعلمُ، والهواءُ له رائحةُ ياسمينٍ جديدٍ.
تقومُ فجأةً، تُنصتُ… كأنَّ أقدامًا مألوفةً تقتربُ من الباب.
تتقدَّمُ ببطء، تتردَّدُ، ثم تفتحه… وأراها، للحظةٍ، تتجمَّدُ.
تُحدِّقُ بي طويلًا، لا تصدِّق.
ثم تركض، وتركضُ، وتركض…
تحتضنني، وتهمسُ في أذني: “رجعتَ؟ واللهِ، كنتُ أعلمُ أنكَ ستعود.”
أبكي في حضنها، لا لأنّي ضعيف، بل لأنّي أخيرًا وصلتُ.
وصلتُ إلى النقطةِ التي تهدأُ فيها الأرواحُ، ولو مؤقّتًا.
لكن صوتًا غليظًا طرقَ البابَ من الداخلِ،
فانكسرَ الحلمُ، وتلاشى وجهُها في الظلمةِ،
وعُدتُ إلى الزنزانةِ، إلى الرطوبةِ، إلى اسمي الذي وجدتني أكتبه برماد جمعته من الأرض حتى صار كالطبشورِ على الحائطِ، أكتب ترداِّد صدى صوت أمي بصمتٍ: “نعمان… سيعود.”
كنت لا أزال نعمان في زنزانتي الجديدة، لكنّ قلبي يسبق جسدي إلى البيت، أتخيل يومي الأوّل بعد الإفراج، لحظةً بلحظة، كما لو كنت أعيشها، حتى لا تضيع مني إن جاءت –
في تلكَ الليلةِ، بعد أن غادرَ الحارسُ وهو يجرُّ ظلَّه الثقيل، عدتُ إلى حلمي.
تخيلتُ صباحي الأوَّل في البيت…
سأستيقظُ على صوتِ المِفتاحِ في البابِ، لا صوتِ السلاسلِ في الممرِّ.
و رائحةُ القهوةِ لا رطوبةُ الجدرانِ.
ووجهُ أمِّي يملأُ الأفقَ، يتقدَّمُ إليّ، يمدُّ يديه،
يُلقي عني بطانيةَ المعتقلِ ويقول بصوتٍ يشبه الدعاءَ: “الحمدُ لله، رأيتُكَ نائمًا في فراشِكَ أخيرًا.”
أجلسُ على الحافةِ، أنظرُ حولي،
الجدرانُ نظيفةٌ، لا آثارَ أقدامٍ عليها،
النافذةُ مفتوحةٌ، وعصفورٌ صغيرٌ يُغنِّي، كأنَّه كان ينتظرُني ليُخبرني أن العالمَ ما زال هنا.
أمِّي في المطبخِ تُحضِّرُ فطورًا بسيطًا،
زيتَ زيتونٍ، بيضًا مقليًّا كما كنتُ أحبّه، ورغيفًا ساخنًا من التنّورِ،
تُناديني وهي تُربّتُ على الطاولةِ: “تعالَ كُل، ولا تُفكِّرْ بشيءٍ اليوم، لا شيء سوى أنّك هنا… بخير.”
أجلسُ أمامَها، أُحدِّقُ في وجهِها الذي غاب عني ألف عامٍ في أيامي التي أمضيتها هنا.
كلُّ ملامحها هنا معي، كلُّ كلماتها تحتَويني, عيناها ترقب تفاصيل وجهي، لم يغب عني وجها الذي أعرفه جيداً، أحفظه أكثر ما حفظت اسمي، أراهُ الآن كأوَّل مرةٍ، وكأنّي وُلِدتُ للتوِّ من رحمِ الغيابِ إلى حضنِ الحياة.
أسألُها: “أمِّي، هل كنتِ تنتظرينني كلَّ هذا الوقت؟”
تبتسمُ، وتُومِئُ برأسِها: “وهل ينامُ قلبُ الأمِّ ما دامَ ولدُها في الظلمةِ؟”
تُقدِّمُ لي كأسَ الشاي، ولكن يديها ترتجفانِ،
تُخبِّئُ دموعَها فتنظر إلى الملعقةِ، وتقولُ وهي تُبعِدُ نظرَها عنّي: “كنتُ أرتِّبُ غرفتكَ كلَّ يومٍ، كأنَّكَ ستدخلُها الليلةَ. كنتُ أُطفئُ النورَ وأقول: إن عادَ، فليجدْها كما تركَها.”
وأنا، كنتُ أريدُ أن أقولَ لها إنّي متُّ ألف مرَّةٍ هناك، لكنّي أعُود… لأعيشَ بها.
إنها تقدم لي طعام الافطار. تطعمني بيدها, بعد أن نفرغ من الإفطار، أبقى جالسًا قربَ أمّي، نحتسي الشاي في صمتٍ دافئٍ، كأنّنا نخاف أن نبدِّد هذه اللحظةَ بالكلام.
تمدّ يدَها إلى وجهي، تمسح بباطن كفِّها على وجنتي، ثم تقول بنبرةٍ تُشبه الهمسَ: “كبرتَ كثيرًا يا نَعمان… لكن عيناكَ ما زالتا عينا طفلي.”
أنظرُ إليها طويلًا، ولا أُجِب. كأنّ الكلامَ سيصير أضعف من هذه اللحظة.
ثم تقول، وهي تنهضُ على مهلٍ: “اذهبْ، خذْ نفسًا في الخارج فأهل الحيّ… الناسُ ينتظرونك.”
أخرجُ من البابِ متردّدًا، كأنَّ الهواءَ في الخارجِ غريبٌ عليّ.
أولُ شيءٍ أفعلُه أن أرفع وجهي إلى السماءِ… نَفَسٌ طويلٌ، لم تسبقْه صفعةٌ ولا أمرٌ بالصمت.
الشارعُ ضيّقٌ كما كان، لكنّه يبدو أوسعَ من ذاكَ الممرِّ الطويلِ في المعتقل.
الأبوابُ ذاتها، النوافذُ ذاتها، لكنّ العيونَ التي تطلُّ منها لم تَعُد كما كانت.
أخطوُ خطواتٍ قليلة، فأسمعُ صوتًا خلفي: “نعمان؟! هو أنت؟”
التفت، فإذا هو الحاجّ حسين، صاحبُ البقالةِ، واقفًا ببابه كأنّه رأى عائدًا من الغيب.
يقتربَ بخطًى متردّدة، ثم يحتضنني بقوةٍ ويقول: “الحمدُ لله، حيّ… حيّ، يا ناس!”
ويبدأ النداءُ ينتشر كالماء: “نعمان رجع!”, “ابن حينا رجع!”
“رجع من الغياب الطويل!”, أطفالٌ يركضون حولي، نساءٌ يُطِلْنَ من الشرفات،
ورجالٌ يتقدَّمون ويصافحونني بشيءٍ من الحذر، كأنّهم لا يريدون أن يؤلموني،
ولا أن يُصدّقوا تمامًا.
أحدهم يهمسَ لي: “كأننا نحلم، يا أخي… كأنك خرجتَ من قبر، لا من زنزانة.”
أسيرُ في الحيِّ كمن يعودُ إلى ذاته، إلى الطينِ الذي صاغَ قلبه، كلّ حجرٍ على الرصيفِ أعرفه، وكلّ ظلالٍ على الجدرانِ كانت تُحدّثني في الليلِ البعيدِ.
أصلُ إلى زاويةٍ عند حائطٍ مائل، حيث كنا نلعبُ صغارًا. أقفُ هناك، أبكي لأول مرّةٍ، لا من ألم، بل من امتلاء.
أعودُ إلى البيت مع الغروب، تفتح أمّي البابَ قبل أن أطرقه.
تقول، وهي تفتح ذراعيها: “كنتُ أعلمُ أنّكَ ستعودُ قبل أن يبردَ الشاي.”
أدخل إلى غرفتي القديمة، حيث تبدأ الذاكرة في نسج خيوطها من جديد، ويعود الطفل الذي تركه هناك منذ أعوام.
أدخلُ غرفتي كما يدخل الغريبُ بيتًا سكنه يومًا في حلمٍ قديمٍ.
كانت كما تركتُها، أو كما أرادت أمّي أن تبقى.
الكتبُ على الرفِّ، وبعضُ الأوراقِ القديمةِ موضوعةٌ بعنايةٍ في صندوقٍ خشبيٍّ صغير.
حتى معطفي الذي كنتُ أعلّقُه على المسمارِ خلف الباب، لا يزال هناك، لكنّه الآن مغبرٌّ بعضَ الشيء، فكأنّه شاخَ معي.
اقتربُ من السريرِ وأجثو على ركبتي، أضعُ كفّي على الغطاءِ البسيطِ الذي خاطتْه أمّي بيديها. كان يحملُ رائحةَ البيت، رائحةَ الحبِّ الصامت، الذي لا يعلو صوته، لكنّه يحيا في التفاصيلِ الصغيرة.
على الجدارِ، ما زالت معلّقةً تلكَ الصورةُ التي رسمتها عندما كنت صغيراً، وجهي بألوانٍ غير متناسقة، وعبارة: “أمي …. ولا شيء يساوي أمي!”
كم بكيتُ حين رسمها… وكم أبكي الآن.
أجلسُ على طرفِ السرير، كأنّي أستمعُ إلى شيءٍ لا يُقال.
الصمتُ في الغرفةِ لم يكن صمتًا، بل حوارًا طويلًا مع أشياءَ عرفتني في وحدتي، وانتظرتني بلا ملل.
أسمعُ طرقًا خفيفًا على الباب، ثم تدخلْ أمّي تحملُ بيدها كوبَ حليبٍ ساخن، كما كانت تفعلُ في الليالي الباردة, حين كنت أتأخر في السهر وأنا أطالع في كتبي.
تقول وهي تضعُه أمامي: “أعرفُ أنّك تحبُّه قبل النوم.”
ثم تجلس إلى جانبي، وتقول بصوتٍ خفيضٍ، كأنّها تخشى أن توقظَ جرحًا: “حسناً… انتهى كلُّ شيءٍ الآن، أليس كذلك؟”
أنظرُ إليها، وفي عينيها شيءٌ من التردُّد، كأنّها لا تريدُ أن تصدِّقَ أن الليلَ الطويلَ قد انتهى فعلًا.
أقول وأنا أمسكُ يدَها: “انتهى يا أمّي… ولكنْي بقيتُ داخله.”
تضمني، كما كانت تفعلُ حين أعودُ متعبًا من المدرسةِ، أو من العمل, وتقول: “لن تَبقى، سأستعيدُك كما كنتَ… شيئًا فشيئًا، وسنغسلُ عنك الليلَ بكؤوسِ الصباحِ الطيّب.”
تلكَ الليلة، حلمت بأني نمتُ على سريري القديمِ، وأنا أشعرُ أنّي طفلٌ يعودُ من دهليزِ كابوسٍ طويلٍ، لينامَ، أخيرًا، في حضنِ السلام.
في عزلة المعتقل، تبدأ الطفولة بالتسرّب من بين التشققات، حاملة معها ابتسامة أمّي، ويدًا صغيرة تمسك بيدي نحو البوابة الكبيرة… فالضوء خافتٌ يكاد لا يكفي لتكوين ظلّ،
لكنّه كان كافيًا لتكوين حلم.
أغمضت عيني، فوجدَت نفسي واقفًا عند بابِ المدرسة.
طفلٌ في الثامنةِ من عمره، في يومه الثاني للمدرسة, يحملُ بيده حقيبةً صغيرة، وشيئًا من الخوفِ يتدلّى من عينيه كدمعةٍ تائهة.
إلى جانبه أمُّه، تمسكُ بيده بقوة، كأنّها تُسلم العالمَ لهذا الطفلِ دفعةً واحدة.
تقول له وهي تُصلح له ياقة قميصه: “كن شجاعًا، يا روحي… المدرسةُ بيتُك الجديد.”
لم يكن يفهم معنى “البيت الجديد”، لكنه شعرَ أنّ كلَّ العصافيرِ التي كانت تحطُّ على نافذته في القرية، قد جاءت اليومَ لترافقه.
نادى عليه ذلك المعلّمٌ ذي اللحيةِ الخفيفة، الذي أخذه من يد والده وجده واصطحبه يوم أمس إلى الصف وصوتٍ رخيم: “أنتَ… نعمان … تعالَ يا بُني، سنبدأُ الدرس.”
يدخلَ الصف، فيتقدّم بخطى صغيرة، ويجلَسَ على المقعدِ الخشبيّ، كان ملمسه خشنًا،
لكنّه يبدو له مثلَ منصةٍ عالية.
يفتح المعلّمُ كتابًا، ويقول: “اليومُ، سنكتبُ الكلمةَ الأولى.”
ويناوله طبشورةً، وأشار إلى السبورة.
ينهضَ نعمان، يقترب منها، يمدّ يده و يكتب: “أُمِّي”.
استفقَت في الزنزانة على همهمةِ الحارسِ خلف الباب.
لكنّه لم يُفلتِ الابتسامةَ من شفتيه.
فكّرت في نفسي: “ربّما سأكتبُها من جديدٍ حين أخرج… لكن هذه المرّة، لن تكون على السبورة، بل على جدران الدنيا.”
نهضَت، اقتربت من الحائط، ورسمت بإصبعي الكلمة ذاتها، على الجدار البارد: “أُمِّي”.
وابتسم الحرف فابتسمت، وأصبح الحرفَ يُضيء.
وكان يكفي أن يضيء الحرف
حتى تتجسد لي به أمي
فيُضاء به
× معتقل الشيخ حسن ×
← العودة إلى فهرس الرواية
Leave a Reply