الجزء الأول من رواية (أقنعة العقل)
إِلَى الَّتِي لَمْ تَأْتِ
المقدّمة
هَلْ حَدَثَ أَنْ جَلَسْتَ وَحْدَكَ فِي غُرْفَةٍ مُعْتِمَةٍ، وَأَحْسَسْتَ أَنَّ نَفْسَكَ تُنَادِيكَ بِصَوْتٍ لَا يَسْمَعُهُ غَيْرُكَ؟
هَلْ تَذَكَّرْتَ لَحْظَةً كَانَ يَجِبُ فِيهَا أَنْ تَقُولَ كَلِمَةً، أَوْ تَخْطُو خُطْوَةً، ثُمَّ تَرَاجَعْتَ حَتَّى بَاتَ صَمْتُكَ أَثْقَلَ مِنْ فِعْلِكَ؟
أَتَظُنُّ أَنَّكَ فِي مَأْمَنٍ لِأَنَّكَ تَقْرَأُ نَصًّا لَا يَتَجَاوَزُ الْوَرَقَ؟
إِذَنْ، فَكُنْ مُسْتَعِدًّا:
هَذِهِ الرِّوَايَةُ لَيْسَتْ حِكَايَةَ شَخْصٍ غَيْرِكَ، بَلْ مِرْآةٌ تُرِيكَ مَا هَرَبْتَ مِنْهُ طَوِيلًا.
هُنَا، سَتَجِدُ صَمْتَكَ يَتَكَلَّمُ، وَتَرَدُّدَكَ يَكْشِفُ عَنْ جُرْحٍ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ.
هُنَا، سَتُسَاءَلُ عَنِ اللَّحَظَاتِ الَّتِي خَذَلْتَ فِيهَا نَفْسَكَ، وَعَنِ الظِّلَالِ الَّتِي صَنَعْتَهَا لِتُخْفِي وَجْهَكَ.
هَلْ تَسَاءَلْتَ يَوْمًا:
مَنْ أَنْتَ حِينَ تُغْلِقُ الْكِتَابَ وَتَبْقَى مَعَ نَفْسِكَ فَقَطْ؟
مَنْ أَنْتَ فِي وَحْدَتِكَ، فِي هَشَاشَتِكَ، فِي تَجَاوِيفِ صَدْرِكَ حَيْثُ يَكْمُنُ صَوْتٌ لَا يُطْبِقُ عَلَيْهِ سِوَاكَ؟
إِنَّ “أَقْنِعَةَ الْعَقْلِ” لَيْسَتْ نَصًّا لِلتَّسْلِيَةِ، وَلَا رِحْلَةً خَارِجَكَ.
إِنَّهَا دَعْوَةٌ قَاسِيَةٌ لِتُرَاجِعَ مَا لَمْ تَقُلْهُ حِينَ كَانَ يَجِبُ أَنْ تَقُولَ، وَلِتُفَكِّرَ فِي مَا لَمْ تَفْعَلْهُ حِينَ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَفْعَلَ.
فَاقْرَأْ إِذَنْ، لَكِنْ عَلَى مَسْؤُولِيَّةِ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ سَطْرٍ هُوَ سُؤَالٌ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِ:
أَيْنَ كُنْتَ حِينَ صَمَتَّ؟
وَمَنْ كُنْتَ حِينَ هَرَبْتَ؟
هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ لَيْسَتْ تَعْرِيفًا بِمُحْتَوَى الْعَمَلِ فَقَطْ، بَلْ دُعَاءٌ مُسْتَتِرٌ لِلْقَارِئِ أَنْ يَدْخُلَ نَصًّا سَيُحَاسِبُهُ عَلَى صَمْتِهِ، وَيُجَرِّدُهُ مِنْ أَقْنِعَتِهِ، لِيُوَاجِهَ مَعَ الْبَطَلِ أَسْئِلَةً أَبَدِيَّةً:
مَنْ نَكُونُ فِي وَحْدَتِنَا؟
وَمَاذَا تَعْنِي الْكَلِمَاتُ إِذَا لَمْ تُنْقِذْنَا مِنَ الْعَدَمِ؟
نعمان البربري
الفصل الأول
كَانَتِ الْغُرْفَةُ تَغْرَقُ فِي سُكُونٍ شَفِيفٍ، لَا يَقْطَعُهُ إِلَّا خَيْطُ شَمْسٍ خَجُولٍ يَتَسَلَّلُ مِنَ النَّافِذَةِ، فِيمَا رَاحَتِ الرِّيحُ تَعْبَثُ بِأَطْرَافِ السَّتَائِرِ، كَأَنَّهَا أَنْفَاسُ امْرَأَةٍ بَعِيدَةٍ لَمْ تَطْرُقْ بَعْدُ أَبْوَابَ حَيَاتِهِ.
جَلَسَ عِنْدَ طَاوِلَتِهِ، وَرَاحَ يُقَلِّبُ دَفْتَرَهُ الْعَتِيقَ بِأَصَابِعٍ مُرْتَجِفَةٍ، ثُمَّ خَطَّ بِمِدَادٍ مُتَرَدِّدٍ، يُشْبِهُهُ:
“إِلَيْكِ أَكْتُبُ مِنْ جَدِيدٍ… إِلَى مَنْ لَمْ تَأْتِ، وَلَمْ تَغِيبْ، لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ إِلَّا فِي خَيَالِي.”
رَفَعَ رَأْسَهُ بِبُطْءٍ، فَإِذَا بِهَا تَنْبَثِقُ مِنْ بَيْنِ السُّطُورِ، كَمَا اعْتَادَ أَنْ يَرْسُمَهَا سِرًّا؛ وَاقِفَةً عِنْدَ حَافَّةِ الْغُرْفَةِ، تَمِيلُ بِطَلْعَتِهَا الْمَاثِلَةِ، كَأَنَّ النُّورَ يَرْتَدُّ عَلَى خُطُوطِ وَجْهِهَا الرَّقِيقَةِ، مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الظِّلِّ وَالضَّوْءِ، كَأَنَّهُ يَسْتَمِعُ لِهَمْسِهَا الدَّافِئِ، وَفِي عَيْنَيْهَا فُسْحَةُ أَمَانٍ قَادِرَةٌ عَلَى شِفَاءِ أَعْوَامِ التِّيهِ كُلِّهَا.
ارْتَعَشَ صَوْتُهُ وَهُوَ يَهْمِسُ إِلَيْهَا:
“أَتَدْرِينَ أَنَّكِ كُنْتِ الْبَاعِثَ الْأَوَّلَ لِكِتَابَتِي؟ لَا لِأَنَّكِ نهضْتِ الْآنَ في ذاكرتي، بَلْ لِأَنَّكِ لَمْ تَحْضُرِي. كُنْتِ فَرَاغًا يَبْتَلِعُنِي، ظِلًّا يَتَرَاءَى لِي كُلَّمَا أَغْمَضْتُ جَفْنِي. كُنْتِ حُلْمًا يَتَقَهْقَرُ كُلَّمَا دَنَوْتُ مِنْهُ.”
ظَلَّتْ سَاكِنَةً فِي خَيَالِهِ، تُصْغِي بِلَا كَلِمَةٍ.
فَأَخَذَ نَفَسًا عَمِيقًا، ثُمَّ تَابَعَ كَأَنَّهُ يُنَاجِيهَا:
“حِينَ الْتَقَطْتُ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ يَوْمًا، شَعَرْتُ بِكِ، كَأَنَّهَا كُتِبَتْ لِأَجْلِكِ. قَلَّبْتُ أَوْرَاقِي الْقَدِيمَةَ، فَتَّشْتُ عَنْ قِصَّتِي… مِنْ أَيْنَ بَدَأْتُ، وَكَيْفَ وَجَدْتُنِي وَحِيدًا أُقَاوِمُ الْحَيَاةَ بِلَا يَدٍ تَمْسَحُ عَنْ كَتِفِي ثِقَلَ الْمَدِينَةِ، وَلَا صَدْرٍ أَبُوحُ لَهُ: جَرَّحَتْنِي الْغُرْبَةُ، وَأَرْهَقَنِي الطَّرِيقُ.”
خَطَا نَحْوَهَا فِي خَيَالِهِ خُطْوَةً مُتَرَدِّدَةً، كَأَنَّهُ يُجَرِّبُ مُوَاجَهَةَ مَا كَانَ يَهْرُبُ مِنْهُ طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ:
“كُلُّ صَبَاحٍ أَسْتَيْقِظُ وَفِي قَلْبِي نَبْضَةٌ تُشْبِهُكِ… أَكْتُبُ كَيْ لَا يَبْتَلِعَنِي الصَّمْتُ، أَكْتُبُ عَنْ جِرَاحٍ عَلَّمَتْنِي الصَّبْرَ، عَنْ أَمَلٍ أَضَعْتُهُ وَأَضَاعَنِي، عَنْ وَجَعٍ اسْتَوْطَنَ رُوحِي وَلَمْ أَجِدْ لَهُ اسْمًا. أُحَادِثُ نَفْسِي فِي الْكِتَابَةِ كَمَا كُنْتُ أَرْجُو أَنْ أُحَادِثَكِ.”
ارْتَجَفَ صَوْتُهُ، فَمَدَّ يَدَهُ إِلَى صَدْرِهِ وَضَغَطَ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَمْتَمَ:
“كُنْتُ أَكْتُبُ يَوْمًا، ثُمَّ هَجَرْتُ الْكِتَابَةَ. خَطَفَتْنِي الْأَيَّامُ إِلَى أَعْمَاقٍ مُوحِشَةٍ، وَسَاقَتْنِي إِلَى غُرْبَةٍ لَمْ تُشْبِهْ أَوْطَانًا، بَلْ غُرْبَةَ الْقَلْبِ نَفْسِهِ. تَعِبْتُ… وَمَعَ ذَلِكَ وَاصَلْتُ السَّيْرَ، لِأَنَّ الْحَيَاةَ تَمْضِي، وَلِأَنَّ الْوَحْدَةَ عَلَّمَتْنِي أَنْ أَمْشِيَ وَحْدِي.”
سَادَ صَمْتٌ عَمِيقٌ. أَطْرَقَ رَأْسَهُ كَأَنَّهُ يُصْغِي لِجَوابِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا ظَلَّتْ عَلَى صَمْتِهَا الْأَزَلِيِّ. فَمَالَ نَحْوَهَا بِهَمْسَةٍ دَافِئَةٍ:
“تَعَلَّمْتُ، يَا أَنْتِ، أَنْ أُحِبَّ مَا أَفْعَلهُ مِنْ أَعْمَاقِي. أَنْ أَكْتُبَ فَقَطْ حِينَ أَحْتَاجُ أَنْ أَبُوحَ لِنَفْسِي. أَنْ أَجْعَلَ كَلِمَاتِي حَدِيثًا سِرِّيًّا لَا يُنْشَرُ، لَا يُعْرَضُ، لَا يُفْهَمُ… فَقَطْ يُنْقِذُنِي.”
تَقَدَّمَ نَحْوَهَا أَكْثَرَ، حَتَّى كَادَ يَلْمَسُ أَطْيَافَهَا الْمُتَكَوِّنَةَ مِنْ هَوَاءٍ مَعَ شَظَايَا نُورٍ، وَقَالَ بِعَيْنَيْنِ دَامِعَتَيْنِ:
“رُبَّمَا كُنْتِ وَهْمًا… لَكِنَّكِ الْوَهْمُ الَّذِي عَلَّمَنِي الصِّدْقَ. كُنْتِ صُورَةً غَامِضَةً، لَكِنَّهَا رَتَّبَتْ فَوْضَايَ. كُنْتِ غِيَابًا، لَكِنَّكِ مَنَحْتِنِي الْكِتَابَةَ. وَأَنَا… لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُشَارِكَ أَحَدًا أَفْكَارِي، إِلَّاكِ. لِأَنَّكِ، بِبَسَاطَةٍ، لَسْتِ أَحَدًا.”
رَاهَا تَتَهَيَّأُ لِلْكَلَامِ، فَحَاوَلَ أَنْ يَتَهَيَّأَ مَنْصِتًا لَها، لَكِنْ شَيْئًا مَا يَرْدَعُهُ عَنِ النُّطْقِ. اِسْتَجْمَعَ نَفْسَهُ، وَأَمْسَكَ الْهَوَاءَ مِنْ حَوْلِهِ وَكَأَنَّهُ يَلْتَقِطُ لَحْظَةَ صِدْقٍ مُعَلَّقَةٍ، فَإِذَا بِها تَنْظُرُ إِلَيْهِ بِعَيْنَيْنِ يَتَرَقْرَقُ فِيهِما الضَّوْءُ، فَتَخْرُجُ بِصَوْتٍ خَجُولٍ:
“وَلِمَاذَا اخْتَرْتَ أَنْ تُحَادِثَ ظِلًّا لَا وُجُودَ لَهُ؟ أَمَا كَانَ بَيْنَ الْبَشَرِ مَنْ يُنْصِتُ؟”
أَغْلَقَ دَفْتَرَهُ بِبُطْءٍ، وَحَدَّقَ فِي الْفَرَاغِ أَمَامَهُ. لَقَدِ اخْتَفَتْ، لَكِنْ دَفْئًا غَرِيبًا ظَلَّ يَنْسَابُ فِي قَلْبِهِ، كَمَا لَوْ ابْتَسَمَتْ لَهُ قَبْلَ أَنْ تَمْضِيَ.
اِنْسَابَ مِنْ بَيْنِ شَفَتَيْهِ كَلَامٌ لَمْ يَسْمَعْهُ أَحَدٌ:
“أَتَدْرِين؟ أَعْلَمُ أَنَّكَ مَا زِلْتِ هُنَاكَ… فِي تِلْكَ الزَّاوِيَةِ الَّتِي لَا يَرَاهَا أَحَدٌ سِوَايَ. أَرَاكِ كَمَا رَسَمْتُكِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، بِابْتِسَامَتِكِ الْغَامِضَةِ، وَبِعَيْنَيْكِ اللَّتَيْنِ تَسَعَانِ هَذَا الضِّيقَ كُلَّهُ، بِاللُّطْفِ الَّذِي لَا تَمْلِكُهُ الْمَدِينَةُ. وَلِهَذَا… سَأَبْدَأُ الْحَدِيثَ إِلَيْكِ.”
اِرْتَجَفَ صَدْرُهُ، فَمَدَّ يَدَهُ إِلَى دَفْتَرِهِ وَكَأَنَّهُ يَبْحَثُ عَنْ شَيْءٍ يُثْبِتُ بِهِ وَاقِعَهُ. قَلْبُهُ يَنْبِضُ بِبُطْءٍ، وَالْهَوَاءُ حَوْلَهُ يَثْقُلُ بِالْلَحْظَةِ. شَعَرَ وَكَأَنَّ حُضُورَهُ مَعَهَا، حَتَّى وَإِنْ كَانَ مُجَرَّدَ صَدًى، جَعَلَ الْكَلِمَاتِ تَرْتَعِدُ فِي صَدْرِهِ قَبْلَ أَنْ تَتَحَرَّرَ.
دَعِينِي أُرَتِّبُ فُصُولَ حِكَايَتِي… فَلَعَلَّ فِي الْبَوْحِ لَكِ خَلَاصًا مِنْ ضِيقٍ قَدِيمٍ.
أُرِيدُ أَنْ أُحَدِّثَكِ عَنْ بدَايَتِي، عَنِ الطِّفْلِ الَّذِي كُنْتُهُ؛ ذَاكَ الَّذِي صَدَّقَ أَنَّ الْعَالَمَ صُنْدُوقُ أَلْوَانٍ وَوَرَقَةُ رَسْمٍ، وَأَنَّ لِكُلِّ وَجَعٍ ضِمَادًا مِنْ حِكَايَةٍ، وَلِكُلِّ لَيْلٍ نَجْمَةً تَنْتَظِرُ.”
تَعُودُ مِنْ جَدِيدٍ، وَتَجْلِسُ قُرْبَهُ، كَأَنَّهَا تَنْتَظِرُهُ بِصَبْرٍ خَفِيٍّ، وَكَلِمَاتُهَا قَصِيرَةٌ وَوَاضِحَةٌ، تَنْبِضُ بِمَعَانٍ مُكثَّفَة:
“اِبْدَأْ إِذًا… احْكِ لِي عَنْ بدَايَتِكَ، عَنِ الطِّفْلِ الَّذِي كُنْتَهُ”.
يَتَنَهَّدُ، وَتَعُودُ عَيْنَاهُ إِلَى الدَّاخِلِ، كَأَنَّهُ يَسْتَجْمِعُ ذِكْرَيَاتٍ ضَائِعَةً فِي زَمَنٍ مُتَبَدِّلٍ. يَمُدُّ يَدَهُ ببطءٍ، يَمْسَسُ القَلَمَ وَالدَّفْتَرَ، وَقَلْبُهُ يَنْبِضُ بِوقَارٍ غَامِرٍ، يَحْتَضِنُهُ فِي صَمْتٍ طَوِيلٍ.
تَنْحَنِي نَحْوَهُ، وَتَبْتَسِمُ خَفِيًّا، كَأَنَّهَا تَشْعُرُ بِكُلِّ اهْتِزَازٍ فِي نَفْسِهِ. صَمْتُهُ يَتَكَلَّمُ أَكْثَرَ مِنَ الْكَلِمَاتِ، وَكُلُّ حَرَكَةٍ فِي صَدْرِهِ تَرْوِي قِصَّةَ وَجَعٍ وَأَمَلٍ.
يَسْتَدِيرُ شوطًا قَصِيرًا فِي غُرْفَتِهِ، وَيَسْتَقِرُّ مُقَابِلَهَا، كَأَنَّهُ يَحْتَفِظُ بِكُلِّ نَفَسٍ لِيَتَأَكَّدَ أَنَّهَا هُنَا حَقًّا. يَسْتَعِدُّ لِلْبَوْحِ، وَعَيْنَاهُ تَلْمَعَانِ بِخَفَافَةِ دُموعٍ لم تُذَرف، وَتَتَرَاءَى لَهُ الصُّورُ الْمَاضِيَةُ وَالأَمَانِي الضَّائِعَةُ كَمَجْمُوعَةٍ مِنْ أَلْوَانٍ وَحِكَايَاتٍ صَامِتَةٍ.
تَحْتَضِنُ صَمْتَهُ، وَكأنَّ فَرَاغَ الغُرْفَةِ يَسْمَحُ لِلأَصْوَاتِ وَالأَشْيَاءِ بِالْهُرُوبِ مِنَ الظِّلِّ إِلَى النُّورِ، وَيَتَصَاعَدُ وَهْمُهَا فِي الْجَوِّ، مَا بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالذِّكْرَى، فَيَجْعَلُهُ يَتَحَدَّثُ بِصَوْتٍ دَاخِلِيٍّ، وَحَرَكَاتٍ نَاعِمَةٍ، كَأَنَّ الكَلِمَاتِ وَالظِّلَالَ تَرْتَجِفُ مَعَهُ.
الفصل الثاني
“كُنْتُ أَرْكُضُ فِي بَاحَةِ الْبَيْتِ الضَّيِّقِ، وَأَضْحَكُ مَعَ وَقْعِ الْمَطَرِ، كَأَنَّ الْغُيُومَ صَارَتْ أُرْجُوحَةً عَلَّقَتْهَا السَّمَاءُ لِي. لَمْ أَكُنْ أُدْرِكُ أَنَّ الْقَلْبَ يُمْكِنُ أَنْ يُكْسَرَ، وَلَا أَنَّ الْوَدَاعَ يُوجِعُ أَكْثَرَ مِنَ السُّقُوطِ.”
هِيَ …. بِصَوْتٍ خَافِتٍ يُشْبِهُ رَجْعَ الصَّدَى:
“إِذًا… أَكْمِلْ؛ وَدَعْنِي أَبْقَى هُنَا.”
يَتَقَدَّمُ نَحْوَهَا خُطْوَةً مُتَرَدِّدَةً، كَأَنَّهُ يَخْتَبِرُ أَرْضَ الغُرْفَةِ أَوَّلًا، فَيَشْعُرُ بِكُلِّ نَفَسٍ، وَبِكُلِّ هَمْسٍ يَتَسَلَّلُ مِنْهَا. قَلْبُهُ يَنْبِضُ بِوَقَارٍ وَخِفَّةٍ فِي آنٍ، وَعَيْنَاهُ تَلْمَعَانِ بِدُمُوعٍ تُرَتِّبُ مَا فِي صَدْرِهِ مِنْ أَسْرَارٍ وَحُزْنٍ. تَمَدَّدَتِ الغُرْفَةُ بِصَمْتٍ كَثِيفٍ، حَتَّى يُخَيَّلَ إِلَيْهِمَا أَنَّهُمَا وَحِيدَانِ فِي عَالَمٍ مُتَجَمِّدٍ، لَا يَتَحَرَّكُ فِيهِ إِلَّا الْكَلِمَاتُ الَّتِي تَتَهَيَّأُ دَاخِلَهُ لِتُولَدَ.
يَرْتَجِفُ صَدْرُهُ خِفَّةً وَثِقْلًا، فَيَمُدُّ يَدَهُ نَحْوَ الْحَرْفِ الَّذِي سَيَكْتُبُ بِهِ، وَعَيْنَاهُ تَسْأَلَانِهَا بِصَمْتٍ:
“أَتَعْلَمِينَ…؟ حِينَ أَعُودُ بِذَاكِرَتِي إِلَى الطُّفُولَةِ، أَجِدُنِي أَرَى الْأَشْيَاءَ بِعَيْنٍ لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُ غَيْرَ الدَّهْشَةِ. كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْمَطَرَ يَضْحَكُ لِأَنَّهُ يَلْعَبُ مَعَنَا، وَأَنَّ الْغُيُومَ لَيْسَتْ سِوَى وِسَائِدَ بَيْضَاءَ تَتَدَحْرَجُ فِي السَّمَاءِ. كُنْتُ أَرَى ظِلَّ أَبِي وَهُوَ يَعْبُرُ عَتَبَةَ الْبَيْتِ فَأَظُنُّهُ جَبَلًا يَتَحَرَّكُ، وَأَسْمَعُ وَقْعَ خُطُوَاتِ أُمِّي فِي الْمَطْبَخِ فَأَشْعُرُ أَنَّ رَائِحَةَ الْخُبْزِ وَحَنَانَهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا يَنْفَصِلُ.
كُنْتُ أُفَتِّشُ فِي وُجُوهِ إِخْوَتِي عَنْ سِرٍّ لَا أَعْرِفُهُ، عَنْ إِشْرَاقَةٍ تَجْعَلُهُمْ يَرْكُضُونَ وَيَضْحَكُونَ بِلَا سَبَبٍ. أَحْيَانًا كُنْتُ أُصْغِي إِلَى أَصْوَاتِ الْجِيرَانِ عَبْرَ الْجِدَارِ الطِّينِيِّ، وَأَتَخَيَّلُ أَنَّ هُنَاكَ عَالَمًا آخَرَ يُوَازِي عَالَمَنَا، عَالَمًا يُشْبِهُ مَا أَرَاهُ وَلَكِنَّهُ أَبْعَدُ وَأَغْنَى بِالْأَلْوَانِ. كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ كُلَّ بَيْتٍ يَمْلِكُ شَجَرَةَ تِينٍ أَوْ زَيْتُونٍ أَوْ تُوتٍ أَوْ جَوْزٍ، وَأَنَّ كُلَّ طِفْلٍ يَنَامُ عَلَى وِسَادَةٍ تَحْرُسُهَا نَجْمَةٌ.
وَلَكِنَّ عَيْنَ الطِّفْلِ كَانَتْ تُخْفِي أَسْئِلَةً أَكْبَرَ مِمَّا تَحْتَمِلُ. لِمَاذَا يَرْحَلُ بَعْضُ النَّاسِ فَجْأَةً فَلَا يَعُودُونَ؟ لِمَاذَا تَبْكِي أُمِّي أَحْيَانًا فِي اللَّيْلِ وَهِيَ تَظُنُّ أَنَّنَا نَائِمُونَ؟ كُنْتُ أَرَاهَا تَمْسَحُ دُمُوعَهَا بِكُمِّ ثَوْبِهَا، وَأَشْعُرُ أَنَّ الْعَالَمَ أَوْسَعُ مِنْ ضَحِكَاتِنَا وَأَضْيَقُ مِنْ صَدْرِهَا فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ.
أَتَعْرِفِينَ؟ كُنْتُ أَعِيشُ فِي تَوَازُنٍ غَرِيبٍ: نِصْفُهُ لَعِبٌ وَرَكْضٌ فِي الطِّينِ، وَنِصْفُهُ الْآخَرُ إِنْصَاتٌ صَامِتٌ لِشَيْءٍ لَا أَسْتَطِيعُ تَسْمِيَتَهُ. رُبَّمَا كَانَ حُزْنًا، وَرُبَّمَا كَانَ مُجَرَّدَ وَعْيٍ بَاكِرٍ بِأَنَّ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ كَمَا تَبْدُو. وَهَا أَنَا الْآنَ، أُحَاوِلُ أَنْ أَقْرَأَ تِلْكَ الْمَشَاهِدَ بِعَيْنٍ أُخْرَى، بِعَيْنٍ تَعْرِفُ أَنَّ الطُّفُولَةَ لَمْ تَكُنْ فَقَطْ مَلْعَبًا لِلضَّحِكِ، بَلْ كَانَتْ أَيْضًا كِتَابًا سِرِّيًّا يَزْرَعُ فِي الْقَلْبِ بُذُورَ أَسْئِلَةٍ سَتَكْبُرُ مَعَنَا.”
كُنْتُ أَرْكُضُ فِي الْأَزِقَّةِ الضَّيِّقَةِ حَافِيَ الْقَدَمَيْنِ، وَأُطَارِدُ الطُّيُورَ كَأَنَّهَا أَسْرَارٌ تَطِيرُ أَمَامِي. كَانَ صُرَاخِي يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْجُدْرَانِ الطِّينِيَّةِ، فَيُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنَّ الْقَرْيَةَ تَرُدُّ عَلَيَّ بِصَوْتِهَا. وَحِينَ نَلْعَبُ “الْغُمِّيضَةَ”، كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْجِدَارَ الَّذِي أَسْتَنِدُ إِلَيْهِ يَحْفَظُ سِرِّي، وَأَنَّهُ سَيَحْمِينِي مِنِ انْكِشَافِ مَكَانِي.”
“وَكَيْفَ كُنْتُ حين نَسِيرُ فِي طُرُقَاتِ الْقَرْيَةِ ليلاً وَعَيْنَايَ مُشْتَعِلَتَانِ بِضِيَاءِ الْقَمَرِ، أُحَاوِلُ أَنْ أُقَايِسَ خُطَايَ بِخُطَاهُ، فَأَظُنُّهُ يَسِيرُ مَعِي وَحْدِي، يُرَافِقُنِي فِي كُلِّ خَطْوَةٍ. إِذَا مَشَيْتُ مَشَى، وَإِذَا تَوَقَّفْتُ تَوَقَّفَ، كَأَنَّهُ صَدِيقٌ سِرِّيٌّ أَوْ مَلَكٌ خَفِيٌّ يُؤْنِسُ وَحْشَتِي. وَكُنْتُ أَشْعُرُ أَنَّ هَذِهِ الْمُرَافَقَةَ لَيْسَتْ لِأَحَدٍ غَيْرِي، بَلْ هِيَ هِبَةٌ خَاصَّةٌ لِي، تُشِيرُ إِلَى طَرِيقٍ مُعَيَّنٍ سَأَسْلُكُهُ يَوْمًا، وَتُؤَكِّدُ لِي أَنَّ الْوَحْدَةَ لَنْ تَكُونَ قَدَرِي أَبَدًا.”
“أَتَذَكَّرُ الْمَدْرَسَةَ الْأُولَى؛ السَّبُّورَةُ السَّوْدَاءُ بَدَتْ لِي فِي حِينِهَا بَابًا إِلَى غَابَةٍ بَعِيدَةٍ، وَالطَّبَاشِيرُ عَصًا سِحْرِيَّةً تُخْرِجُ الْكَلِمَاتِ مِنَ الْعَدَمِ. كُنْتُ أُصْغِي لِلْمُعَلِّمَةِ وَهِيَ تَكْتُبُ الْحُرُوفَ، وَأَشْعُرُ أَنَّ كُلَّ حَرْفٍ كَائِنٌ حَيٌّ، لَهُ صَوْتٌ وَمَلَامِحُ وَوَجْهٌ. لَمْ أَفْهَمْ لِمَاذَا يَضْحَكُ بَعْضُ زُمَلَائِي حِينَ أُخْطِئُ، لَكِنِّي كُنْتُ أَرْجِعُ إِلَى الْبَيْتِ وَأُعِيدُ كِتَابَةَ الْحُرُوفِ عَلَى التُّرَابِ، وَأَشْعُرُ أَنَّ الْأَرْضَ تَصِيرُ دَفْتَرًا مَفْتُوحًا لِي وَحْدِي.
أَمَّا جَدَّتِي، فَكَانَتْ تُشْبِهُ كِتَابًا قَدِيمًا يَبُوحُ بِالْحِكَايَاتِ إِذَا فُتِحَ فِي الْمَسَاءِ. كُنْتُ أَجْلِسُ عِنْدَ قَدَمَيْهَا وَأَنْتَظِرُ صَوْتَهَا وَهِيَ تَحْكِي عَنْ أَيَّامٍ مَضَتْ، عَنْ رِجَالٍ سَافَرُوا وَلَمْ يَعُودُوا، وَعَنْ نِسَاءٍ كُنَّ يَغْزِلْنَ مِنَ الصَّبْرِ أَثْوَابًا لِلْحَيَاةِ. لَمْ أَفْهَمْ وَقْتَهَا الْمَعْنَى كُلَّهُ، لَكِنِّي كُنْتُ أَرَى دَمْعَةً تَلْمَعُ أَحْيَانًا فِي عَيْنَيْهَا، فَأَشْعُرُ أَنَّ خَلْفَ الْكَلَامِ شَيْئًا لَا يُقَالُ.
كُنْتُ أَرَى الْعَالَمَ صَغِيرًا، مَحْدُودًا بِسُورِ الْبَيْتِ، بِظِلِّ التُّوتَةِ الْعَجُوزِ عِنْدَ الْبَابِ، وَبِصَوْتِ الْمُؤَذِّنِ الَّذِي يَشُقُّ الْفَجْرَ. وَمَعَ ذَلِكَ، كُنْتُ أَتَصَوَّرُ أَنَّ خَلْفَ ذَلِكَ الْجَبَلِ الْبَعِيدِ، هُنَاكَ بِلَادٌ أُخْرَى قَدْ لَا تُشْبِهُ أَحْلَامِي. لَمْ أَعْرِفْ أَنَّنِي كُنْتُ أُفَتِّشُ مُبَكِّرًا عَنْ مَكَانٍ يَتَّسِعُ لِأَحْلَامِي.
أَتَعْرِفِينَ؟ حِينَ أَنْظُرُ الْآنَ إِلَى تِلْكَ الصُّوَرِ بِعَيْنِ الْبَالِغِ، أُدْرِكُ أَنَّ الطِّفْلَ الَّذِي كُنْتُهُ كَانَ يَرَى أَكْثَرَ مِمَّا يَظُنُّ الْكِبَارُ. كَانَ يَرَى الْفَرَحَ فِي أَبْسَطِ الْأَشْيَاءِ، لَكِنَّهُ كَانَ يَلْمَحُ أَيْضًا ظِلَّ الْحُزْنِ يَمُرُّ بَيْنَ الْخُطُوطِ. كُنْتُ أَضْحَكُ وَأَنَا أَرْكُضُ فِي الطِّينِ، لَكِنِّي كُنْتُ أَرْتَجِفُ حِينَ أَرَى دَمْعَةً تَسْقُطُ مِنْ عَيْنِ أُمِّي. لَمْ أَكُنْ أَمْلِكُ تَفْسِيرًا، إِنَّمَا كُنْتُ أُحِسُّ أَنَّ الْحَيَاةَ لَيْسَتْ كُلَّهَا لَعِبًا وَلَا أَمَانًا. وَهَكَذَا ظَلَّتِ الطُّفُولَةُ بِالنِّسْبَةِ لِي كِتَابًا مَفْتُوحًا عَلَى صَفْحَتَيْنِ: صَفْحَةٌ مِنْ نُورٍ وَضَحِكٍ، وَصَفْحَةٌ مِنْ غُمُوضٍ وَدَهْشَةٍ وَقَلَقٍ”.
“وَكُنْتُ أَحْلُمُ أَحْيَانًا بِأَشْيَاءَ لَمْ أَفْهَمْهَا كُلَّهَا. كَانَتِ الْأَحْلَامُ تَزُورُنِي فِي اللَّيْلِ كَأَنَّهَا رُسُلٌ غَامِضَةٌ تُرِيدُ أَنْ تَقُولَ لِي شَيْئًا. رَأَيْتُنِي مَرَّةً أَمْشِي فِي طَرِيقٍ طَوِيلٍ مُزَيَّنٍ بِأَعْمِدَةِ نُورٍ، كَأَنَّهُ جَسْرٌ يَقُودُنِي إِلَى مَدِينَةٍ لَا تَشْبِهُ قَرْيَتَنَا. وَرَأَيْتُ أَنَّ بَيْتَنَا الصَّغِيرَ يَفْتَحُ أَبْوَابَهُ عَلَى سَاحَةٍ عَرِيضَةٍ مَلِيئَةٍ بِوُجُوهٍ غَرِيبَةٍ، وَأَنَّنِي أَقِفُ فِي الْمُقَدِّمَةِ كَأَنَّ عَلَيَّ أَنْ أَقُولَ كَلِمَةً لَا أَعْرِفُ مَعْنَاهَا.
كُنْتُ أَسْتَيْقِظُ وَقَلْبِي يَدُقُّ سَرِيعًا، وَأُحَاوِلُ أَنْ أُفَسِّرَ مَا رَأَيْتُهُ، وَلَكِنَّ الْحُلْمَ كَانَ يَبْقَى كَضَوْءٍ بَعِيدٍ، يُلَوِّحُ لِي وَيَخْتَفِي. وَرُبَّمَا كَانَ تِلْكَ الْأَحْلَامُ تُشِيرُ إِلَى طُرُقٍ سَأَمْشِي فِيهَا بَعْدَ سِنِينَ، وَإِلَى أَصْوَاتٍ سَأَسْمَعُهَا فِي أَمَاكِنَ لَمْ أَكُنْ أَتَصَوَّرُهَا.”
“رَأَيْتُنِي غَابَةً مِنَ الْكُتُبِ، أَتَنَقَّلُ بَيْنَ أَغْصَانِهَا كَطَائِرٍ يَحْفَظُ أَصْوَاتًا مُخْتَلِفَةً، وَأُحَاوِلُ أَنْ أُحَدِّقَ فِي الْكَلِمَاتِ كَأَنَّهَا نُجُومٌ عَلَى وَرَقٍ. وَلَمْ أَكُنْ أَدْرِي أَنَّنِي سَأَكْبُرُ وَتُصْبِحُ هَذِهِ الْكُتُبُ بَوَّابَاتٍ حَقِيقِيَّةً أَدْخُلُ مِنْهَا إِلَى دُنْيَا أُخْرَى.
وَرَأَيْتُ أَنَّ الْقَرْيَةَ تَذُوبُ فِي حُلْمٍ كَبِيرٍ، تَنْفَتِحُ أَرْضُهَا عَلَى شَوَارِعَ عَرِيضَةٍ، وَأَنَّنِي أَمْشِي فِي مَدِينَةٍ مُضَاءَةٍ بِالْأَحْلَامِ، أَسْمَعُ أَصْوَاتًا غَرِيبَةً تَنْطِقُ بِلُغَةٍ لَمْ أَكُنْ أَفْهَمُهَا، وَلَكِنَّهَا تَبْعَثُ فِي قَلْبِي دفْئًا وَشَوْقًا. وَمَرَّةً، حَلَمْتُ أَنَّنِي أَجْلِسُ فِي قَاعَةٍ كَبِيرَةٍ أَمَامَ أُسْتَاذٍ ذِي مَلَامِحَ أُورُوبِّيَّةٍ، وَأَنَّهُ يُمْسِكُ بِرَسْمٍ دَقِيقٍ عَلَى وَرَقٍ أَبْيَضَ، وَيُقِرُّ أَنَّنِي أَنْجَزْتُ شَيْئًا يَسْتَحِقُّ الْإِشَادَةَ. اسْتَيْقَظْتُ يَوْمَهَا وَفِي أُذُنِي صَدَى صَوْتِهِ، وَلَمْ أَدْرِ أَنَّ هَذَا الْمَشْهَدَ سَيَأْتِي حَقِيقَةً فِي مُسْتَقْبَلٍ لَيْسَ بِالْبَعِيدِ.
كَانَتِ الْأَحْلَامُ تُشَكِّلُ لِي خَارِطَةً غَيْرَ مَرْسُومَةٍ: أَرَى فِيهَا جُسُورًا تَمْتَدُّ فَوْقَ أَنْهَارٍ، وَأَسْمَعُ أَصْوَاتًا تَتَحَدَّثُ عَنِّي وَعَنْ خُطُوَاتِي، وَأَجِدُنِي أَقِفُ أَحْيَانًا فِي وَسَطِ دَائِرَةٍ كَبِيرَةٍ يُحِيطُ بِي النَّاسُ فِيهَا، يَنْتَظِرُونَ أَنْ أَقُولَ كَلِمَةً أَوْ أُقَدِّمَ شَيْئًا. وَكُنْتُ أَرْتَعِدُ فِي الْحُلْمِ، لَكِنَّنِي أَشْعُرُ أَيْضًا بِقُوَّةٍ غَامِضَةٍ تَشُدُّنِي لِلْأَمَامِ.
وَعَجَبًا، كَيْفَ يَأْتِي الْحُلْمُ كَإِشَارَةٍ ثُمَّ يَغِيبُ؟ كَأَنَّهُ يَقُولُ لِي: «لَا تَخَفْ، فَالطَّرِيقُ أَمَامَكَ، سَوْفَ تَجِدُ مَكَانَكَ بَيْنَ الْكُتُبِ وَالنَّاسِ وَالْمَدِينَةِ». وَكُنْتُ أُصْبِحُ فِي الصَّبَاحِ وَفِي نَفْسِي أَثَرٌ مِنْ هَذَا الْوَعْدِ، فَأَذْهَبُ إِلَى الْمَدْرَسَةِ وَأَنَا أَشْعُرُ أَنَّ خُطُوَاتِي الصَّغِيرَةَ عَلَى تُرَابِ الْقَرْيَةِ سَتَقُودُنِي يَوْمًا إِلَى مَكَانٍ أَكْبَرَ، مَكَانٍ يَتَّسِعُ لِحُلْمٍ يَبْدُو فِي عُيُونِ غَيْرِي بَعِيدًا، وَلَكِنَّهُ كَانَ فِي قَلْبِي قَرِيبًا كَأَنَّهُ يُوَشْوِشُنِي: «هُنَاكَ سَتَجِدُ نَفْسَكَ»”.
الفصل الثالث
“أَتَعْلَمِينَ…؟
حِينَ دَخَلْتُ عَالَمَ الْمُرَاهَقَةِ، لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَمَا يُصَوَّرُ فِي الْقِصَصِ الْمُزَيَّنَةِ بِالْأَلْوَانِ.
لَمْ أَكُنْ ذَاكَ الْفَتَى الَّذِي تُطَارِدُهُ الْعُيُونُ فِي مَمَرَّاتِ الْمَدْرَسَةِ، وَلَا الْفَارِسَ الصَّغِيرَ الَّذِي يَتَبَاهَى بِانْتِصَارَاتِهِ عَلَى قُلُوبِ الْبَنَاتِ. كُنْتُ، بِبَسَاطَةٍ، غَرِيبًا عَنْ كُلِّ هَذَا؛ أَبْحَثُ عَنْ نَفْسِي فِي دَفَاتِرِ الشِّعْرِ؛ وَصَفَحَاتِ رِوايَاتِ الأَحلامِ البَسِيطَةِ, وَأَسْأَلُ بِصَمْتٍ حَائِرٍ: “هَلْ هُنَاكَ أَحَدٌ يُشْبِهُنِي؟”
فِي ذَلِكَ الْعُمْرِ، كَانَ الْقَلْبُ هَشًّا كَزُجَاجٍ مَمْدُودٍ عَلَى الْحَافَّةِ؛ كُلُّ كَلِمَةٍ تَخْدُشُهُ، وَكُلُّ نَظْرَةٍ تَتَحَوَّلُ إِلَى سُؤَالٍ بِلَا جَوَابٍ. شَيْئًا فَشَيْئًا بَدَأْتُ أَكْتَشِفُ أَنَّ الْعَالَمَ لَا يَدُورُ حَوْلَ الْأَحْلَامِ كَمَا تَخَيَّلْتُ، بَلْ حَوْلَ صِرَاعَاتٍ خَفِيَّةٍ نَخُوضُهَا وَحْدَنَا وَنَحْنُ نَبْتَسِمُ كَيْ لَا يَنْكَشِفَ وَجَعُنَا.
كُنْتُ أُحَدِّقُ طَوِيلًا فِي الْمِرْآةِ، لَا لِأَتَأَكَّدَ مِنْ مَلَامِحِي، بَلْ لِأَطْمَئِنَّ أَنَّنِي مَا زِلْتُ هُنَاكَ… خَلْفَ هَذَا الْوَجْهِ الْمُتَبَدِّلِ. نَعَمْ، كُنْتُ أَتَغَيَّرُ، غَيْرَ أَنَّنِي كُنْتُ أَخْشَى أَنْ أَفْقِدَ ذَلِكَ الطِّفْلَ الَّذِي كَانَ يُخَبِّئُ حُزْنَهُ فِي دَفْتَرٍ صَغِيرٍ وَيَقُولُ لِنَفْسِهِ: “سَيَأْتِي يَوْمٌ أَفْهَمُ فِيهِ كُلَّ هَذَا.”
أَتَذْكُرِينَ أَوَّلَ خَيْبَةٍ؟
أَنَا أَذْكُرُهَا جَيِّدًا.
كَانَ قَلْبِي يَتَعَلَّقُ بِإِنْسَانَةٍ لَمْ تَرَ فِيَّ سِوَى ظِلٍّ عَابِرٍ. حَاوَلَ ِقَلْبِي أَنْ يَتَوَسَّلَ لعَقْلِي كَيْ يَتَرَاجَعَ، لَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ. عِنْدَهَا ذُقْتُ طَعْمَ الْخُذْلَانِ الْأَوَّلَ؛ لَمْ يَكُنْ دَرْسًا فَلْسَفِيًّا، بَلْ مَرَارَةً عَلِقَتْ فِي حَلْقِي، لَا يَزُولُ أَثَرُهَا بِمَاءٍ، وَلَا يَصِفُهَا كَلَامٌ.
صِرْتُ أَعُودُ إِلَى غُرْفَتِي لَا لِأَسْتَرِيحَ، بَلْ لِأُلَمْلِمَ شَتَاتِي. أَجْلِسُ عَلَى حَافَّةِ السَّرِيرِ، أَفْتَحُ دَفْتَرِي مِنْ جَدِيدٍ. غَيْرَ أَنَّ الْكِتَابَةَ لَمْ تَكُنْ يَوْمَهَا حَيَاةً، بَلْ قشَّةً تُنْقِذُنِي مِنَ الْغَرَقِ.
كُنْتُ أَرَاكِ أَحْيَانًا، نَعَمْ، فِي خَيَالِي.
تَأْتِينَ كَأَنَّكِ اسْتِجَابَةٌ لِأُمْنِيَةٍ لَمْ أَجْرُؤْ أَنْ أَنْطِقَ بِهَا. تَجْلِسِينَ صَامِتَةً، تُصْغِينَ إِلَيَّ وَأَنَا أَبُثُّكِ أَسْرَارًا مَا كَانَ أَحَدٌ لِيُصَدِّقَهَا. وَكُنْتُ أَظُنُّ أَنَّكِ تُؤْمِنِينَ بِي. وَلِأَجْلِ هَذَا، لَمْ أَعُدْ بِحَاجَةٍ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، مَا دُمْتُ قَدْ خَلَقْتُكِ كَمَا أَشْتَهِي: تَسْمَعِينَ وَلَا تُقَاطِعِينَ، تَفْهَمِينَ وَلَا تُحَاكِمِينَ.
“أَتَدْرِينَ…؟ كُلُّ خَيْبَةٍ كَانَتْ تَبْنِينِي مِنْ جَدِيدٍ، بِصَمْتٍ أَعْمَقَ، وَبِقَلْبٍ أَكْثَرَ تَرْتِيبًا. الْوَحْدَةُ الَّتِي خِفْتُهَا فِي طُفُولَتِي، صَارَتْ فِي مُرَاهَقَتِي صَدِيقَتِي. وَمِنْهَا تَعَلَّمْتُ أَنْ أُوَاجِهَ الْعَاصِفَةَ لَا أَنْ أَهْرُبَ مِنْهَا.”
كُنْتُ طِفْلًا كَثِيرَ الصَّمْتِ، أُحَادِثُ نَفْسِي فِي زَوَايَا الْبَيْتِ، وَأَخْتَبِئُ خَلْفَ سَتَائِرِ النَّافِذَةِ, أَو دَاخِلِ جُدرَانِ خِزانَةِ المَلابِسِ, حِينَ يَعْجِزُ الْآخَرُونَ عَنْ فَهْمِي. كَأَنَّنِي مُنْذُ الْبِدْءِ خُلِقْتُ لِأَحْمِلَ خَيْبَاتِي عَلَى كَتِفَيَّ الصَّغِيرَيْنِ، وَأَحْكِيَ وَحْدِي.”
“أَتَدْرِينَ؟ لَمْ يَكُنْ لِأَلْعَابِي صَوْتٌ، وَلَا كَانَتْ تَهْمِسُ لِي كَمَا يَفْعَلُ الْأَطْفَالُ، لِأَنَّهَا بِبَسَاطَةٍ لَمْ تَكُنْ لَدَيَّ. كُنْتُ أَسْتَعِيضُ عَنْهَا بِحَدِيثِي مَعَكِ… مَعَ هَذَا الطَّيْفِ الَّذِي يَزُورُنِي.”
“كَبِرْتُ.
وَمَعَ كُلِّ عَامٍ كَانَ جَسَدِي يَمْضِي فِي طَرِيقِهِ، بَيْنَمَا رُوحِي تَظَلُّ مُعَلَّقَةً هُنَاكَ؛ فِي الْغُرْفَةِ الصَّغِيرَةِ، وَالْمَكْتَبَةِ الْخَشَبِيَّةِ، وَكُتُبِ الْحِكَايَاتِ الَّتِي كُنْتُ أُخَبِّئُهَا تَحْتَ الْوِسَادَةِ.
لَمْ يَسْأَلْنِي أَحَدٌ يَوْمًا: “مَاذَا تَشْعُرُ؟”
“لَكِنِّي كُنْتُ أَكْتُبُ الْجَوَابَ عَلَى هَوَامِشِ دَفَاتِرِي الْمَدْرَسِيَّةِ، بِقَلَمٍ مَكْسُورٍ… وَقَلْبٍ أَشَدَّ كَسْرًا.
فَدَعِينِي الْآنَ أُتَابِعْ، إِنْ أَذِنْتِ لِي. سَأَقُصُّ عَلَيْكِ فُصُولًا أُخْرَى، مِنْ رِحْلَتِي بَيْنَ ضَيَاعٍ وَوَعْدٍ، بَيْنَ حُلْمٍ أَدْفِنُهُ فِي النَّهَارِ وَأُحْيِيهِ سِرًّا فِي اللَّيْلِ…
لَكِنِ الْآنَ، دَعِينِي أُمْسِكْ يَدَكِ، كَمَا لَوْ أَنَّكِ حَقًّا هُنَا… وَأُكْمِلِ الطَّرِيقَ.
أَكْتُبُ كَيْ لَا أَنْسَى، وَكَيْ لَا يُطْفِئَنِي الْبُعْدُ.”
“أَتَدْرِينَ؟ أَحْيَانًا أَشْعُرُ أَنَّنِي لَا أَكْتُبُ إِلَيْكِ، بَلْ أَكْتُبُ بِكِ… كَأَنَّكِ الْحِبْرُ الَّذِي يَنْسَكِبُ مِنْ وَجَعِي، وَأَنْتِ لَا تَدْرِينَ.”
كَانَتِ الْكَلِمَاتُ تَتَدَفَّقُ مِنْ قَلْبِهِ قَبْلَ أَنْ يَخُطَّهَا الْقَلَمُ، وَعَيْنَاهُ مُعَلَّقَتَانِ بِالْفَرَاغِ أَمَامَهُ، ذَلِكَ الْفَرَاغ الَّذِي امْتَلَأَ بِطَيْفٍ مِنْ وُدٍّ وَحُلْمٍ غَامِضٍ. رَفَعَ رَأْسَهُ قَلِيلًا، وَصَوْتُهُ يَتَهَدَّجُ بِرَجَاءٍ خَافِتٍ:
“أَرَدْتُكِ شَاهِدَةً عَلَى مَا لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ… أَرَدْتُكِ الرَّفِيقَةَ الَّتِي تَقْرَأُنِي حِينَ أَصْمُتُ، لَا حِينَ أَتَكَلَّمُ. أَنْ تَكُونِي أَنْتِ، فَقَطْ أَنْتِ، مَنْ يَفْهَمُ مَا بَيْنَ السُّطُورِ.”
اقْتَرَبَ مِنْهَا فِي خَيَالِهِ خُطْوَةً بَعْدَ خُطْوَةٍ، كَفَّاهُ مَمْدُودَتَانِ، كَأَنَّهُ يُلَامِسُ دِفْئًا غَائِبًا، أَوْ يَلْتَقِطُ خَيْطَ الرَّجَاءِ الْأَخِيرَ.
“أَتُرَاكِ تَعْلَمِينَ كَمْ مَرَّةً كَتَبْتُ لَكِ دُونَ أَنْ أَعْرِفَ اسْمَكِ؟ وَكَمْ مَرَّةً خَاطَبْتُكِ كَمَا لَوْ أَنَّكِ مِرْآتِي، لَا غَرِيبَةً؟”
ارْتَجَفَ صَوْتُهُ، وَأَطْبَقَ جَفْنَيْهِ لَحْظَةً، ثُمَّ هَمَسَ:
“حِينَ سَقَطَتْ أَحْلَامِي الصَّغِيرَةُ فِي مُنْتَصَفِ الطَّرِيقِ، كُنْتِ أَنْتِ الَّتِي تَجْمَعُ شَتَاتَهَا فِي خَيَالِي. الْغُرْبَةُ كَانَتْ وَاسِعَةً جِدًّا، بَارِدَةً أَكْثَرَ مِمَّا تَوَقَّعْتُ… لَكِنِّي كُنْتُ أَرَاكِ فِي الزَّوَايَا: جَالِسَةً، تُصْغِينَ، وَتَفْهَمِينَ، وَتَبْتَسِمِينَ. مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا الْحُضُورُ الَّذِي لَا يُرَى؟”
فَتَحَ عَيْنَيْهِ عَلَى ابْتِسَامَةٍ شَاحِبَةٍ، وَمَسَحَ بِرَاحَتِهِ دَمْعَةً أَصَرَّتْ أَنْ تَهْرُبَ مِنْ عَيْنَيْهِ:
“أَنَا كَتُومٌ كَمَا تَعْلَمِينَ، لَا أَبُوحُ لِأَحَدٍ. لَا أَحَدَ يصْغِي. لَكِنَّكِ… كُنْتِ دَائِمًا هُنَاكَ. لَا تُقَاطِعِينَ، لَا تُبَادِرِينَ، لَا تُحَاكِمِينَ… فَقَطْ تُنْصِتِينَ. وَرُبَّمَا لِهَذَا أَحْبَبْتُكِ.”
ابْتَلَعَ رِيقَهُ بِبُطْءٍ، وَأَحْنَى رَأْسَهُ كَمَنْ يُخَاطِبُ سِرًّا لَا يَجُوزُ أَنْ يُذَاعَ:
“أَعْرِفُ أَنَّكِ وَهْمٌ… وَأَنَّ هَذَا الْحِوَارَ لَا يَسْمَعُهُ غَيْرِي… لَكِنَّكِ وَهْمٌ أَنْقَذَنِي. وَرُبَّمَا، لَوْ كُتِبَ لِي يَوْمًا أَنْ أَلْقَاكِ حَقًّا، لَنْ أَحْتَاجَ إِلَى كَثِيرِ كَلَامٍ. يَكْفِينِي أَنْ تَنْظُرِي إِلَيَّ كَمَا كُنْتِ تَفْعَلِينَ هُنَا… فِي خَيَالِي.”
ثُمَّ أَدَارَ بَصَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ مِنْ خَلْفِ النَّافِذَةِ، وَتَمْتَمَ بِشَجَاعَةٍ رَخِيمَةٍ:
“أَتَدْرِينَ؟ أَنَا الْيَوْمَ أَقْوَى… لِأَنَّنِي أَحْبَبْتُ شَخْصًا لَا يُخْطِئُ، لَا يُخْلِفُ، لَا يَخُونُ… لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا أَصْلًا. وَمِنَ الْغِيَابِ، تَعَلَّمْتُ الْحُضُورَ.”
أَغْلَقَ دَفْتَرَهُ بِرِفْقٍ، وَأَطْفَأَ النُّورَ. غَيْرَ أَنَّ خَيَالَهَا ظَلَّ هُنَاكَ، جَالِسًا فِي الرُّكْنِ ذَاتِهِ، يُصْغِي بِصَمْتٍ كَمَا اعْتَادَ أَنْ يَفْعَلَ دَائِمًا.
وَبَعْدَ أَيَّامٍ وَأَيَّامٍ، يعُودُ إِلَى دَفْتَرِهِ، يَفتَحَهُ، وَيَتَأَمَّلَ مَا خَطَّتْهُ الْأَسْطُرُ بَيْنَ طَيَّاتِهَا، ثُمَّ تَابَعَ ذَاتَ مَرَّةٍ:
“أَتَعْلَمِينَ…؟ كَبِرْتُ قَلِيلًا، وَلَمْ يَعُدْ بِوُسْعِي أَنْ أَخْتَبِئَ خَلْفَ الدَّفَاتِرِ كَمَا كُنْتُ أَفْعَلُ. صَارَتِ الْحَيَاةُ تَدْفَعُنِي إِلَى الطُّرُقَاتِ، إِلَى زِحَامِ الْوُجُوهِ، إِلَى امْتِحَانَاتٍ وَصَدَاقَاتٍ وَتَجَارِبَ لَا مَهْرَبَ مِنْهَا. لَكِنِّي، فِي كُلِّ مَكَانٍ، كُنْتُ أَبْحَثُ عَنْكِ.
كُنْتُ أَمْشِي بَيْنَ النَّاسِ وَأَتَسَاءَلُ: “هَلْ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ هَذِهِ الْوُجُوهِ؟” ثُمَّ أَعُودُ خَائِبًا، كَمَنْ يَبْحَثُ عَنْ نَجْمَةٍ فِي سُوقٍ مُزْدَحِمٍ.”
الفصل الرابع
“فِي الْجَامِعَةِ، كَانَ الْوَجْهُ يضْحِكُ، وَالْقَلْبُ يَلْتَزِمُ صَمْتًا عَمِيقًا. كُنْتُ أَدْخُلُ الْقَاعَاتِ وَأَجْلِسُ بَيْنَ زُمَلَائِي، فَأُشَارِكُهُمْ أَحَادِيثَهُمْ عَنْ الْمُحَاضِرِينَ وَالْكُتُبِ وَحَيَاةِ الْمَدِينَةِ، وَأُحَرِّكُ رَأْسِي مُبْتَسِمًا، كَأَنَّنِي أَفْهَمُ وَأُصَدِّقُ، وَفِي دَاخِلِي كَانَ شَيْءٌ آخَرُ يَكْتُبُ لَكِ. كُنْتُ أَتَعَلَّمُ كَيْفَ أَبْدُو طَبِيعِيًّا، كَيْفَ أضْحِكُ عِنْدَمَا يَجِبُ الضَّحِكُ، وَأُظْهِرُ الِاهْتِمَامَ حِينَ يَتَطَلَّبُ الْمَجْلِسُ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّ عُزْلَتِي كَانَتْ تَتَسَلَّلُ مِنْ عَيْنَيَّ كَضَوْءٍ خَفِيٍّ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ.
لِلصَّدَاقَةِ هُنَاكَ أَشْكَالٌ كَثِيرَةٌ: بَعْضُهَا يَنْشَأُ سَرِيعًا، يُولَدُ فِي الْمَمَرَّاتِ أَوْ بَيْنَ كُتُبِ الْمَكْتَبَةِ، وَيَذْبُلُ فِي أُسْبُوعٍ أَوْ شَهْرٍ.
وَبَعْضُهَا يُشْبِهُ الْجُذُورَ، يَتَعَلَّقُ بِالتُّرَابِ وَيَصْمُدُ فِي الرِّيَاحِ. كُنْتُ أُرَافِقُهُمْ فِي مَجَالِسِ الضَّحِكِ وَاللَّعِبِ، وَلَكِنْنِي أَشْعُرُ أَنَّنِي غَرِيبٌ، كَأَنَّنِي أَجْلِسُ فِي سَرْدَابٍ مِنَ الصَّمْتِ، وَهُمْ فَوْقِي يَصْنَعُونَ ضَوْضَاءَ الْحَيَاةِ.
مَا أَكْثَرَ مَا كَانُوا يَسْأَلُونِي: “لِمَاذَا تَبْقَى هَادِئًا هَكَذَا؟” فَأَبْتَسِمُ وَأُجِيبُ بِكَلِمَةٍ قَصِيرَةٍ، ثُمَّ أَتْرُكُ الْحَدِيثَ يَنْسَابُ بَيْنَهُمْ مِنْ جَدِيدٍ. وَلَكِنَّ الْحَقِيقَةَ أَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ فِي قَلْبِي كَانَتْ تُكْتَبُ بِاسْمِكِ، وَكُلَّ لَحْظَةٍ مَعَهُمْ كَانَتْ تَزِيدُنِي إِحْسَاسًا بِأَنَّنِي لَا أَبْحَثُ إِلَّا عَنْكِ.”
“فِي حَدِيقَةِ الْجَامِعِةِ، كَانَت الْوُجُوهُ تَتَنَاثَرُ كَأَلْوَانٍ فِي لَوْحَةٍ كَبِيرَةٍ، وَكُنْتُ أَمُرُّ بَيْنَهُمْ مُبْتَسِمًا، أُبَادِلُهُمْ التَّحِيَّاتِ وَالْكَلِمَاتِ الْعَابِرَةَ. وَمَعَ ذَلِكَ، كَانَ فِي صَدْرِي فَرَاغٌ لَا يَمْلَؤُهُ صَخَبُ الْجَمَاعَاتِ وَلَا ضَحِكَاتُهُمُ الْمُتَدَافِعَةُ. كُنْتُ أَجْلِسُ أَحْيَانًا عَلَى أَطْرَافِ الْحَلَقَاتِ، أُحَرِّكُ رَأْسِي مُتَظَاهِرًا بِالِاهْتِمَامِ، وَعَيْنَايَ تُفَتِّشَانِ فِي الْبُعْدِ عَنْ وَجْهٍ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ.
فِي الْمَقْهَى الْجَامِعِيِّ، كُنَّا نَجْلِسُ حَوْلَ طَاوِلَاتٍ مُبَعْثَرَةٍ، أَكْوَابُ الشَّايِ وَالدخَانُ يَتَصَاعَدَانِ مَعَ أَصْوَاتِ الْجِدَالِ وَالْفُكاهَةِ. يَسْأَلُنِي أَحَدُهُمْ: “مَاذَا تَرَى فِي الْمُسْتَقْبَلِ؟” فَأُجِيبُهُ بِجُمْلَةٍ قَصِيرَةٍ، أُخْفِي خَلْفَهَا ضَجِيجًا مِنَ الْأَحْلَامِ وَالْخَوْفِ. يَظُنُّونَ أَنَّنِي هَادِئٌ طَبْعًا، وَلَا يَعْرِفُونَ أَنَّنِي أَكْتُبُ فِي السِّرِّ رِسَالَةً طَوِيلَةً إِلَيْكِ: “أَنَا هُنَا… وَمَا زِلْتُ أَبْحَثُ عَنْكِ.”
وَفِي الْمَكْتَبَةِ، بَيْنَ الرُّفُوفِ الْمَحْمُولَةِ بِالْكُتُبِ، كَانَ الصَّمْتُ يَحْكُمُ الْمَكَانَ، فَأَجِدُنِي أَقْرَبَ إِلَى نَفْسِي. أُقَلِّبُ الصَّفَحَاتِ، وَأَتَظَاهَرُ أَنَّنِي غَارِقٌ فِي الدِّرَاسَةِ، وَفِي دَاخِلِي أَسْمَعُ هَمْسًا يُنَادِينِي: “لَيْتَكِ كُنْتِ هُنَا، تَجْلِسِينَ إِلَى جَانِبِي، فَيَتَحَوَّلُ الْكِتَابُ إِلَى جِسْرٍ بَيْنَ قَلْبَيْنَا.”
هَكَذَا، بَيْنَ السَّاحَةِ وَالْمَقْهَى وَالْمَكْتَبَةِ، كُنْتُ أَتَدَرَّبُ عَلَى الْحَيَاةِ فِي ظَاهِرِهَا، وَأَحْمِلُ فِي بَاطِنِي سِرًّا وَاحِدًا: أَنَّنِي لَا أَنْتَمِي إِلَّا إِلَيْكِ، وَلَا أَبْحَثُ إِلَّا عَنْ وَجْهِكِ الَّذِي يَغِيبُ كُلَّ يَوْمٍ عَنِّي.”
كُنْتُ أَجْلِسُ أَحْيَانًا مَعَ زُمَلَاءَ فِي السَّاحَةِ، نَتَبَادَلُ الْأَحَادِيثَ عَنْ الْمُحَاضِرِينَ وَالْامْتِحَانَاتِ. يَرْفَعُ أَحَدُهُم صَوْتَهُ ضَاحِكًا: «أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ أُسْلُوبَ الدُّكْتُورِ فِي الشَّرْحِ يُشْبِهُ طَلَاقَةَ الرِّيَاحِ؟ يَبْدَأُ مِنْ مَكَانٍ وَلَا نَعْرِفُ كَيْفَ يَنْتَهِي!» فَيَنْفَجِرُ الْجَمِيعُ ضَحِكًا، وَأَجِدُنِي أُجَامِلُهُمْ بِابْتِسَامَةٍ، غَيْرَ أَنَّنِي فِي دَاخِلِي كُنْتُ أُفَكِّرُ فِي شَيْءٍ آخَرَ، فِي غَيْرِ مَكَانٍ وَلَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ.
وَفِي يَوْمٍ آخَرَ، كُنَّا جَالِسِينَ فِي الْمَقْهَى الْجَامِعِيِّ، وَقَدِ امْتَلَأَتِ الطَّاوِلَاتُ بِأَصْوَاتِ الْحَدِيثِ وَقَرْقَعَةِ الْفَنَاجِينِ. قَالَتْ إِحْدَاهُنَّ وَهِيَ تَنْظُرُ نَحْوِي: «لِمَاذَا لَا تَتَكَلَّمُ كَثِيرًا؟ هَلْ تُخْفِي عَنَّا أَسْرَارًا؟» فَأَجَبْتُهَا مُبْتَسِمًا: «لَيْسَ لَدَيَّ أَسْرَارٌ، إِنَّمَا أُفَضِّلُ الِاسْتِمَاعَ.» فَتَدَخَّلَ صَدِيقِي قَائِلًا: «بَلْ عِنْدَهُ عَالَمٌ خَاصٌّ، وَلَوْ فَتَحَ لَنَا بَابَهُ لَضَعْنَا فِيهِ.» وَضَحِكُوا جَمِيعًا. وَأَنَا وَحْدِي كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّ بَابِي ذَلِكَ لَا يُفْتَحُ إِلَّا عَلَيْكِ.
وَفِي الْمَكْتَبَةِ، جَلَسْتُ مَعَ زَمِيلٍ يُرَاجِعُ مذاكرَاتِ الْمُحَاضَرَاتِ، فَقَالَ: «هَذِهِ الْمَادَّةُ سَتَكُونُ كَابُوسًا فِي الْامْتِحَانِ، هَلْ أَنْتَ مُسْتَعِدٌّ؟» فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَقُلْتُ: «لَسْتُ أَدْرِي، أَشْعُرُ أَنَّنِي أَدْرُسُ بِجَسَدِي وَقَلْبِي فِي مَكَانٍ آخَرَ.» فَهَزَّ رَأْسَهُ مُسْتَغْرِبًا وَعَادَ إِلَى الْكِتَابِ، وَتَرَكَنِي فِي صَمْتِي الَّذِي كَانَ يَكْتُبُ اسْمَكِ بَيْنَ السُّطُورِ.”
“وَفِي الْمهَرجَانَاتِ الَّتِي كَانَتْ تُقِيمُهَا مُنَظَّمَةُ الطُّلَّابِ الْجَامِعِيَّةِ، حَيْثُ يجْتَمعَ الْمُحْتَفِلُونَ فِي قَاعَاتٍ مُزْدَحِمَةٍ بِالْأَصْوَاتِ وَالْهُتَافَاتِ. يَصْعَدُ أَحَدُهُم إِلَى الْمِنَصَّةِ، فَيُعْلِنُ بِصَوْتٍ عَالٍ عَنْ قَصِيدَتِهِ الْجَدِيدَةِ، وَيَبْدَأُ فِي إِلْقَائِهَا كَأَنَّهُ يُنَاضِلُ بِكَلِمَاتِهِ. وَيَتْبَعُهُ آخَرُ يَحْمِلُ قِصَّةً قَصِيرَةً، ثُمَّ ثَالِثٌ يُعْلِنُ بِنَغْمَةٍ مُتَفَاخِرَةٍ: «هَذَا هُوَ نَتَاجُ جِيلِنَا الْجَدِيدِ.» وَيَتَدَافَعُ التَّصْفِيقُ كَأَمْوَاجٍ فِي قَاعَةٍ وَاسِعَةٍ”.
“كُنْتُ أَجْلِسُ فِي الْمَقَاعِدِ الْخَلْفِيَّةِ؛ بَعْدَ أَنْ كُنْتُ أُسَابِقُ الْجَمِيعَ لِأَحْجِزَ مَكَانَيْنَا فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ، نَنْتَظِرُ الْبِدَايَةَ سَوِيًّا، وَنُصْغِي إِلَى الْكَلِمَاتِ كَأَنَّهَا تُقَالُ لَنَا وَحْدَنَا. أَمَّا الْآنَ فَأَنَا وَحِيدٌ، أُحَرِّكُ يَدَيَّ مَعَ الْمُصَفِّقِينَ، وَأُظْهِرُ الْحَمَاسَ كَمَا يَفْعَلُونَ، غَيْرَ أَنَّ قَلْبِي كَانَ يَهْفُو إِلَى نَصٍّ آخَرَ، نَصٍّ لَا يُقْرَأُ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَلَا يَسْتَمِعُ إِلَيْهِ أَحَدٌ، بَلْ يُكْتَبُ فِي هُدُوءٍ، وَيُوَجَّهُ إِلَيْكِ أَنْتِ وَحْدَكِ.
وَأَتَذَكَّرُ أَنَّ أَحَدَ الْأَصْدِقَاءِ قَالَ لِي بَعْدَ إِلْقَاءِ قَصِيدَتِهِ: «لِمَاذَا لَا تَجْرُؤُ وَتُقَدِّمُ شَيْئًا مِمَّا تَكْتُبُ؟» فَابْتَسَمْتُ وَقُلْتُ: «كَلِمَاتِي لَيْسَتْ لِلْجَمَاهِيرِ.» فَضَحِكَ وَظَنَّ أَنَّنِي أَمْزَحُ، وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ كُلَّ مَا أَكْتُبُهُ لَمْ يَكُنْ إِلَّا سِفْرًا سِرِّيًّا أُخَاطِبُ بِهِ غَائِبَةً تَسْكُنُ فِي خَيَالِي.”
كَانَ الْمُتَسَابِقُونَ يَتَدَافَعُونَ بِالْقَصَائِدِ وَالْخُطَبِ، وَالْجُمْهُورُ يَتَدَافَعُ بِالتَّصْفِيقِ وَالْهُتَافِ، فَبَدَوْتُ كَأَنِّي جُزْءٌ مِنَ الْجَمْعِ، وَأَنَا فِي الْحَقِيقَةِ جَزِيرَةٌ مُنْفَرِدَةٌ فِي بَحْرِهِمُ الْمُتَلاَطِمِ. وَحِينَ كَانُوا يَسْأَلُونِي بَعْدَ الْحَفْلِ: «لِمَاذَا لَا تُجَرِّبُ أَنْ تُقَدِّمَ نَصًّا أَنْتَ أَيْضًا؟» كُنْتُ أُجِيبُ بِبَسْمَةٍ غَامِضَةٍ: «لِأَنَّ مَا أَكْتُبُهُ لَا يُلَائِمُ الْمَنَابِرَ.».”
“لَمَّا صَعِدَ صَدِيقِي إِلَى الْمِنَصَّةِ، بَدَا مُتَرَدِّدًا فِي الْبِدَايَةِ، ثُمَّ تَمَاسَكَ وَأَمْسَكَ الْمِيكْرُوفُونَ.
أَخَذَ يُقَلِّبُ الْوَرَقَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَبَدَأَ يُلْقِي، وَمَا كَادَ يَنْطِقُ بِأَوَّلِ بَيْتٍ حَتَّى أَحْسَسْتُ أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ إِلَيَّ أَنَا، وَأَنَّ الْكَلِمَاتِ الَّتِي تَنْسَابُ مِنْهُ إِنَّمَا تُسَائِلُنِي وَتَكْشِفُ مَا أُخْفِيهِ.”
رَاحَتْ مُحَدِّثَتِي حِينًا تُسَائِلُنِي
مِنْ أَيْنَ تَأْتِي بِهَاتِيكَ الْمَقَالَاتِ؟
شَعَرْتُ بِعُيُونِ الْجُمْهُورِ تَتَحَوَّلُ نَحْوِي كَأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا الْمَعْنَى.
مِنْ أَيْنَ تَأْتِي بِهَا؟ تَمْضِي تُبَاغِتُنَا
أَحْلَامُنَا تَسْتَوِي فِيهَا بِخَيْبَاتِ
وَكَانَ صَوْتُهُ يَرْتَجُّ فِي الْقَاعَةِ، يَتَحَدَّى صَمْتِي، وَيُحْرِجُ مَخَابِئَ قَلْبِي.
لَوْ قُلْتُ أَجْهَلُ، هَلْ هِيَ الْيَوْمَ مَعْذِرَتِي؟
أَوْ قُلْتُ أَدْرِي لَزَادَتْ فِي انْكِسَارَاتِي
تَوَقَّفَ لَحْظَةً وَرَفَعَ بَصَرَهُ نَحْوِي، فَازْدَادَ تَوَتُّرِي.
مِنْ أَيْنَ تَأْتِي بِذَا؟ مِنْ أَيْنَ تَمْتَحُهُ؟
مِنْ جُبِّ حَدْسٍ قَدِيمٍ بِالْمَآلَاتِ
وَكُنتُ أَسْمَعُ الْكَلِمَاتِ كَأَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ أَعْمَاقِي أَنَا، لَا مِنْ صَدْرِهِ.
حَدْسٌ خَبَّأْتُهُ فِي الْأَيَّامِ أَنْفِقُهَا
أَبْغِي الْوُصُولَ إِلَى كُنْهِ النِّهَايَاتِ
رَاحَ الْجُمْهُورُ يَتَمَيَّلُ مَعَ الْأَبْيَاتِ، وَأَنَا وَحْدِي أَشْعُرُ بِأَنِّي مَنْ يُحَاكَمُ.
وَذَاتُ حِينٍ يَكُونُ الْقَوْلُ ثَرْثَرَةً
مِنْ دُونِ مَعْنًى سِوَى طَيِّ السَّآمَاتِ
يَرْنُو إِلَى مَا خَلَا، كَيْمَا يَرَى فِيهِ
مَا قَدْ يَكُونُ قِيَاسًا بِالْغِيَابَاتِ
وَكَانَ صَوْتُهُ يَتَصَاعَدُ كَمَنْ يَفْتَحُ أَبْوَابًا فِي أَسْرَارٍ مغْلَقَةٍ.
أَنَا كَمِثْلِ أَوَاذِي الْيَمِّ أَتْعَبَهَا
جِوَارُ صَخْرٍ عَلَى جَنحِ الْمَسَاءَاتِ
لَا الصَّخْرُ يَفْنَى، وَلَا بَأْسِي يُفَتِّتُهُ
وَالْكُلُّ يَمْضِي فُصُولًا فِي الْمُعَانَاةِ
عِنْدَ الْبَيْتِ الْأَخِيرِ، رَفَعَ يَدَهُ بِحَرَكَةٍ مَسْرُوحَةٍ كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَيَّ عَلَانِيَةً، فَانْتَبَهَ بَعْضُ الطَّلَبَةِ وَأَخَذُوا يَتَطَلَّعُونَ فِيَّ بِتَسَاؤُلٍ. وَهَكَذَا، صِرْتُ فِي صَدَارَةِ الْمَشْهَدِ مِن دُونِ أَنْ أَقُومَ، مُعْلَنًا بِنَصٍّ لَمْ أَكْتُبْهُ بِيَدِي، وَلَكِنَّهُ خَطَّهُ قَلْبِي وَأَفْصَحَ عَنْهُ لِسَانُ صَدِيقِي.”
“وَبَعْدَ أَنْ أَنْهَى صَدِيقِي إِلْقَاءَ النَّصِّ عَلَى الْمِنَصَّةِ، تَوَجَّهَ نَحْوِي وَجَلَسَ إِلَى جَانِبِي، وَفِي يَدِهِ دَفْتَرٌ صَغِيرٌ. مَدَّ إِلَيَّ الدَّفْتَرَ وَقَالَ بِصَوْتٍ خَافِتٍ: «هَذِهِ لَكَ… أَنَا كَتَبْتُهَا لكَ.» فَفَتَحْتُهُ وَقَرَأْتُ بِهُدُوءٍ، وَقَلْبِي يَهْتَزُّ بِكُلِّ بَيْتٍ، كَأَنَّ الكَلِمَاتِ تسْمَعُ لِي وَحْدِي:”
أَشَاقُكَ شَوْقٌ، أَمْ تُغَشَّاكَ وَاخْزُ
وَأَزْرَى بِكَ الْخُذْلَانُ، غَذَّاهُ وَاكْزُ…
حُبِيتُ مِنَ الْأَيَّامِ خِيرَةً غَارِمٍ
تَبَدَّتْ كَمَا حَقْدٍ يُغَذِّيهِ حَامِزُ…
وَهَا هِيَ ذِي الْأَحْلَامُ تَمْضِي غَرِيرَةً
تُوَاكِبُنَا حِينًا، وَحِينًا تُنَاقِزُ…
وَتُغَنَّى بِنَا النَّكَبَاتُ عِنْدَ اشْتِدَادِهَا
ذَرَا كُلَّ نَفْسٍ قَدْ بَرَّتْهَا الرَّوَائِزُ…
وَتَمْضِي جُمُوعُ الْخَلْقِ شَالَتْ حُظُوظُهُمْ
فَهُمْ فِي حِيَاضِ الْمَوْتِ شَارٍ وَرَائِزُ…
وَتُلْفِي لَهُمْ فِيهَا طَمَاعَة طَامِعٍ
يُوافِي بِهَا الْأَقْوَامَ، إِذْ هُوَ نَاهِزُ…
وَنَنْسَى مِنَ الْأَحْزَانِ عِنْدَ اشْتِدَادِهَا
وَنَغْفُو عَلَى فَرَحٍ زَجَتْهُ الْجَنَائِزُ…
ثُمَّ تَمَرَّسْتُ عَلَى الْوَرَقَةِ الْآخِرَةِ، أقْرَأُ كُلَّ بَيْتٍ كَأَنَّهُ نَبْضٌ يَمُرُّ فِي دَاخِلِي، وَأَنَا أَشْعُرُ بِأَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ تُوجَّهُ إِلَيَّ بِحِسٍّ صَافٍ، وَأَنَّ الْحُضُورَ يَبْقَى خَارِجًا، فِي حِينِ أَنَّ صَدِيقِي وَالنَّصّ وَالقصيدة صَارُوا جِسْرًا يَرْوِي صَمْتِي وَيُخاطِبُ قَلْبِي.”
قَالُوا: الجَمَالُ؟ فَقُلْتُ: منْحَةُ خَالِقٍ
لَا تَجْزَعِي مَنْ لَسْتِ ذَاتَ جَمَالِ…
شَيْءٌ تقَسَّمَ فِي الْخَلَائِقِ كُلِّهَا
مَنْ حَازَ شَكْلًا أَوْ فِيوضَ خِصَالِ…”
وَكُنْتُ أَقْرَأُ بِهُدُوءٍ وَأَشْعُرُ أَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ تَمُرُّ بِي، وَتَتَجسَّدُ الْمَعَانِي فِي صَمْتِي، كَأَنَّهَا تُخاطِبُ قَلْبِي وَرُوحِي فَقَطْ، وَلَا يَسْمَعُهَا سِوَاهُمَا. كَانَتْ هَذِهِ اللَّحْظَةُ تَجْمَعُ بَيْنَ الْحُضُورِ وَالْغِيَابِ، بَيْنَ الْمِنَصَّةِ وَالصَّفِ الْخَلْفِيّ، وَتُذَكِّرُنِي أَنَّ أَقْوَى الْكَلِمَاتِ تَخْرُجُ أَولًا لِلْمَنْصَةِ وَتَصِلُ فِي النِّهَايَةِ إِلَى مَنْ يَفْهَمُ الْقَلْبَ لِوَحْدِهِ.”
الفصل الخامس
“الْمُدُنُ قَاسِيَةٌ، تَعْرِفِينَ؟ هِيَ تُعَلِّمُكِ كَيْفَ تُخْفِي قَلْبَكِ كَيْ لَا يُخْدَشَ، كَيْفَ تُسَايِرُ لِتَبْقَى، وَكَيْفَ تُمْسِكُ ابْتِسَامَةً زَائِفَةً كُلَّ صَبَاحٍ كَأَنَّهَا بَطَاقَةُ عُبُورٍ.
لَكِنَّنِي، كُلَّمَا ضَاقَتْ بِي الْأَزِقَّةُ، عُدْتُ إِلَيْكِ. كُنْتِ الْمُتَنَفَّسَ الَّذِي لَا يَرَاهُ أَحَدٌ.
لَيَالِي الْغُرْبَةِ الطَّوِيلَةِ… هُنَاكَ فَقَطْ كُنْتُ أَسْمَحُ لِنَفْسِي بِالْبُكَاءِ، لَا لِأَنَّنِي ضَعِيفٌ، بَلْ لِأَنِّي لَا أَمْلِكُ كَتِفًا أَتَّكِئُ عَلَيْهِ. كُنْتِ أَنْتِ كَتِفِي الْغَائِبَ، تَحْضُرِينَ فِي هَيْئَةِ ظِلٍّ، تَضَعِينَ يَدَكِ عَلَى قَلْبِي وَتَقُولِينَ بِلَا صَوْتٍ: “سَتَنْجُو.”
أَتَعلَمين…؟
إِنِّي لَم أَعُد أَكتُبُ لِأُنجِيَ نَفسي مِنَ الغَرَقِ وَحدَهُ، بَل لِأُذَكِّرَكِ أَنَّني ما زِلتُ أُؤمِنُ بِكِ.
قَد لا تَجيئِينَ يَومًا، وَقَد يَطُولُ الاِنتِظارُ، غَيرَ أَنَّني لا أَخافُ ذَلِكَ.
لَقَد صِرتِ جُزءًا مِن لُغَتي، مِن طَريقَتي فِي مُواجَهَةِ العالَمِ، مِن صَمتِي الَّذِي يَحمِينِي مِنَ الاِنكِسارِ.
وَإِنِ التَقَينا يَومًا، فَلَن تَكونِي غَريبَةً. سَأَعرِفُكِ فَورًا، كَما يعرفُ المَرءُ صَوتهُ بَينَ آلَافِ الأَصواتِ.
أَمّا إِن لَم نَلتَقِ… فَحَسبُكِ أَنَّكِ كُنتِ مَعِي، تَكتُبِينَ بِي، وَتُنجِينَنِي مِن وَهمٍ اِسمُهُ الوَحدَةُ.
أَتَعلَمين…؟
اليَومَ لَم أَعُد ذَلِكَ الفَتَى الَّذِي يَركُضُ خَلفَ أَحلَامِهِ كَمَن يُطارِدُ طَيفًا بَعِيدًا.
أَنا الآنَ أَتَعامَلُ مَعَ أَحلَامِي كَمَا يَتَعامَلُ المُزارِعُ مَعَ أَرضِهِ: يَحرُثُها بِصَبرٍ، يُلقِي البُذورَ، ثُمَّ يَنتَظِرُ ما تَجُودُ بِهِ السَّماءُ.
لا وُعُودَ كُبرَى، وَلا يَقِين… سِوَى أَنَّ الصَّبرَ قَد يُثمِرُ يَومًا مَا.
لَقَد أَدرَكتُ أَنَّ الحَياةَ لَيسَت نَصًّا مُرتَّبًا، بَل مسوَّدَةً مَليئَةً بِالحَذفِ وَالتَّصحِيحِ، وَأَنَّ أَجمَلَ ما فِيهَا هُوَ ذَلِكَ السَّطرُ النَّاقِصُ الَّذِي يَدفَعُنَا لِنَبحَثَ عَن بَقِيَّتِهِ.
وَأَنتِ… كُنتِ دَائِمًا تِلكَ البَقِيَّةَ المَفقُودَةَ.
أَتَدرِين؟
لَقَد جَرَّبتُ الخذلانَ أَكثَرَ مِن مَرَّةٍ: فِي العَمَلِ، فِي الصَّداقَةِ، فِي الحُبِّ العَابِرِ.
لَكِنِّي كُنتُ أَعُودُ إِلَيكِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، كَمَن يَعُودُ إِلَى بَيتٍ لا يَخذُلُهُ أَبَدًا.
كُنتِ حُضنًا مِن غِيابٍ، غَيرَ أَنَّهُ أَصدَقُ مِن كُلِّ حُضُورٍ مُزَيَّفٍ.
الآنَ، حِينَ أَجلِسُ إِلَى مَكتَبِي، لا أَكتُبُ بِوَجعٍ كَمَا كُنتُ أَفعَلُ.
أَكتُبُ بِهُدُوءٍ يُشبِهُ صَلاةً صَامِتَةً، أَرفَعُها إِلَيكِ.
كَأَنِّي أُخَاطِبُ نَفسِي مِن خِلالِكِ، أَو أُخَاطِبُكِ مِن خِلالِ نَفسِي… لا فَرقَ.
لَقَد غَيَّرتنِي السُّنُونُ، نَعَم، غَيرَ أَنَّكِ ما زِلتِ كَمَا أَنتِ: ظِلًّا يُرافِقُنِي، يُذَكِّرُنِي أَنَّني لَم أُخلَق عَبَثًا.
أَحیانًا أَبتَسِمُ وَحدِي، وَأُفَكِّرُ: “لَو جِئتِ فِعلًا، مَاذَا سَيَحدُثُ؟”
رُبَّمَا لَن أَقُولَ شَيئًا.
سَأَترُكُ الصَّمتَ يَتَكَلَّمُ عَن كُلِّ السَّنَوَاتِ الَّتِي كَتَبتُهَا لَكِ”.
“أَتَعلَمين…؟
أَنا اليَومَ أُدرِكُ أَنَّنِي لَستُ بِحَاجَةٍ إِلَى أَن تَأتِي.
لَقَد صِرتِ جُزءًا مِنِّي، مِن طَريقَتِي فِي الحُلمِ، مِن لُغَتِي فِي مُواجَهَةِ القَسوَةِ.
وَمِن غِيابِكِ… تَعَلَّمتُ الحُضُورَ.
كُنتُ أَظُنُّ أَنَّنِي أَكتُبُ كَي أَملَأَ فَرَاغِي بِكِ، لَكِنِّي اِكتَشَفتُ أَنَّنِي أَكتُبُ كَي أَملَأَ فَرَاغَ الزَّمَنِ.
فَالوَقتُ – حِينَ يَضِيء – لا يَترُكُ وَرَاءَهُ سِوَى غُبَارِ الذِّكرَيَاتِ.
وَالذِّكرَيَاتُ، كَمَا تَعلَمينَ، خَادِعَةٌ: تُزَيِّنُ مَا نَشتَهِيهِ، وَتُخفِي مَا نَخشَى مُوَاجَهَتَهُ.
غَيرَ أَنَّ الكِتَابَةَ وَحدَهَا تُمسِكُ اللَّحظَةَ قَبلَ أَن تَهرُبَ، وَتَمنَحَهَا قُدرَةً عَلَى مُقَاوَمَةِ النِّسيَانِ”.
“أَحیانًا أَسأَلُ نَفسِي: “مَا جَدوَى كُلِّ هَذَا الحِبرِ؟
أَلَن يَذُوبَ يَومًا كَمَا تَذُوبُ وُجُوهُ الَّذِينَ أَحْبَبنَاهُم فِي غُبَارِ الغِيابِ؟”
“ثُمَّ أُجِيبُ نَفسِي: “رُبَّمَا الحِبرُ لَيسَ لِلحُلُودِ، بَل لِلمُقَاوَمَةِ؛ مُقَاوَمَةُ الفَنَاءِ، مُقَاوَمَةُ الفَرَاغِ، مُقَاوَمَةُ العَدَمِ الَّذِي يَبتَلِعُنَا كُلَّمَا سَكتنَا طَوِيلًا.”
“إِنِّي أَكتُبُ يَا أَنتِ… لا لِأَنَّ أَحَدًا سَيَقرَأُ، بَل لِأَنِّي إِن لَم أَفعَل، سَيَبتَلِعُنِي الصَّمتُ.
وَالصَّمتُ، كَمَا تَعلَمِينَ، لَيسَ بَرِيئًا دَائِمًا؛ أَحیانًا يَكُونُ أَفظَعَ مِنَ الصُّرَاخِ”.
“لَقَد تَعَلَّمتُ أَنَّ الإِنسَانَ لا يُقَاسُ بِمَا يَملِكُ، وَلَا بِمَا يَصِلُ إِلَیهِ، بَل بِمَا يَترُكُهُ فِي الكَلِمَاتِ.
فَالكَلِمَاتُ هِيَ مَا يَبقَى بَعدَ أَن نَضِي، هِيَ الأَثَرُ الَّذِي لَا يَقفُو عَلَیهِ مَوتٌ وَلَا غِيابٌ.
وَلِذَلِكَ… صِرتُ أَكتُبُ بِوَعيٍ جَدِيدٍ: لا أَكتُبُ فَقَط لِأَحيَا، بَل أَكتُبُ كَي أُقَاوِمَ مَوتِي القَادِمَ”.
جَلَسَ فِي عُتمَةِ الغُرفَةِ، وَالوَرَقُ أَمَامَهُ يَلمَعُ تَحتَ ضَوءٍ أَصفَرَ خَافِتٍ، كَأَنَّهُ مِرآةٌ تُعِيدُ إِلَیهِ مَلَامِحَ نَفسِهِ. رَفَعَ رَأسَهُ قَلِيلًا، وَأَطبَقَ جَفنَیهِ ثُمَّ هَمَسَ فِي دَاخِلِهِ:
“إِذَا سَأَلتِنِي: أَینَ أَنتَ مِنَ الحُبِّ إِذَن؟”
تَنَهَّدَ، مَسَحَ بِيَدِهِ جَبِینَهُ كَمَن يَستَجمِعُ شَتَاتَ قَلبِهِ، ثُمَّ كَتَبَ بِبُطءٍ كَأَنَّ القَلَمَ یَجُرُّ حُرُوفًا مِن دَمِهِ:
“أَقُولُ لَكِ: الحُبُّ لَم یَعُد مُجَرَّدَ قَلبٍ یَخفِقُ، بَل صَارَ حِبرًا یُسَطَّرُ.
أَنتِ صِرتِ نَصِّي، وَصِرتُ أَنَا قَلَمِي.
وَكُلَّمَا كَتَبتُ، اَلتَقَینَا مِن جَدِیدٍ.”
اِرتَعَشَت أَنَامِلُهُ، وَأَلقَى نَظَرَةً عَلَى الفَرَاغِ أَمَامَهُ كَأَنَّهُ یُفَتِّشُ عَن ظِلِّهَا. تَمْتَمَ فِي سِرِّهِ:
“أَتَعلَمِينَ…؟ أَحیانًا أَشعُرُ أَنَّنِي لا أَكتُبُ لِكَي تَحيَا ذِكرَاكِ، بَل لِأَحيَا أَنَا، وَلَو لِلحظَةٍ، أَمَامَ غِيابِكِ.”
مَدَّ یَدَهُ إِلَى صَدرِهِ، ضَاغِطًا بِقُوَّةٍ، وَكَأَنَّهُ یُوقِفُ نَزِیفًا خَفِیًّا، ثُمَّ خَطَّ بِیَدٍ مُتَرَدِّدَةٍ:
“فَالغِيابُ لَیسَ مُجَرَّدَ فَرَاغٍ، بَل هُوَ حَضَارَةٌ صَامِتَةٌ تَبنِي صُرُوحًا مِنَ الصَّمتِ دَاخِلَ الرُّوحِ.
أَتَسَاءَلُ أَحیانًا: هَل نَحنُ نَختَارُ الكَلِمَاتِ، أَم تَختَارُنَا الكَلِمَاتُ؟”
شَرَدَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّقفِ، كَأَنَّهُ یُصغِي لِقُوَّةٍ غَامِضَةٍ تَجُرُّهُ، ثُمَّ حَرَّكَ القَلَمَ مُسرِعًا:
“وَكَأَنَّهَا قُوَّةٌ كَونِيَّةٌ، تَجُرُّنَا لِلكِتَابَةِ، وَتَجعَلُنَا نَشهَدُ عَلَى أَنفُسِنَا قَبلَ أَن یَبتَلِعَنَا الزَّمَنُ.”
اِبتَسَمَ بِمَرَارَةٍ وَهُوَ یَهمِسُ:
“المَوتُ… صَدِیقِي القَدِیمُ، یُرَاقِبُنِي بِصَمتٍ، یُذَكِّرُنِي بِأَنَّ كُلَّ شَيءٍ هَشٌّ، وَأَنَّ الحَیَاةَ لُعبَةٌ مُؤَقَّتَةٌ.
وَلَكِن، حِینَ أَكتُبُ، أَجِدُ أَنِّي أَخلُقُ عَالَمًا یَرفُضُ الهَشَاشَةَ، یَرفُضُ الزَّوَالَ.”
تَوَقَّفَ قَلِیلًا، مَدَّ یَدَهُ إِلَى كُوبِ المَاءِ، اِرتَشَفَ رَشفةً كَأَنَّهَا تُخَفِّفُ حِدَّةَ الكَلِمَاتِ، ثُمَّ عَادَ یَقُولُ فِي نَفسِهِ:
“الحِبرُ هُنَا لا یَزُولُ، وَلَو غَابَ القَلَمُ عَن یَدِي، فَإِنَّ أَثَرَهُ یَبقَى مَحفُورًا فِي رُوحٍ أُخرَى، فِي قَلبٍ یَقرَأُ لَاحِقًا.
لِهَذَا… أُحِبُّ الكِتَابَةَ. لَیسَ لِأَنَّهَا تُخَلِّدُنِي، بَل لِأَنَّهَا تَجعَلُ مَوتِي مُحتَمَلًا أَقَلَّ، وَتُخَفِّفُ عَنِّي شُعُورَ العَدَمِ.”
أَطرَقَ رَأسَهُ، وَأَمسَكَ الوَرَقَةَ بِكِلتا یَدَیهِ، وَهَمَسَ كَأَنَّهُ یُخَاطِبُ غِيابَهَا الحَاضِرَ:
“وَأَنتِ…؟
أَنتِ الحُضُورُ الَّذِي لَم یَأتِ بَعدُ، لَكِنَّهُ یَملَأُ كُلَّ النُّصُوصِ.
كُلُّ حَرفٍ أُسَطِّرُهُ، كُلُّ سَطرٍ یَنسُجُ حُضنَكِ الغَائِبَ، كُلُّ صَفحَةٍ تَروِي وَجهَكِ الَّذِي لا أَرَاهُ…
أَجِدُكِ فِي الكِتَابَةِ، أَكثَرَ مِن أَيِّ مَكَانٍ آخَرَ.”
اِنفَرَجَت شَفَتَاهُ فِي اِبتِسَامَةٍ حَزِينَةٍ، وَغَاصَ فِي خَيَالِهِ:
“هَل تَعلَمِينَ؟
أَحیانًا أَتَخَيَّلُ أَنَّنَا، بَعدَ رَحِیلِنَا، سَنَترُكُ العَالَمَ كَمَا هُوَ… لَكِنَّ الكَلِمَاتِ الَّتِي كَتَبنَاهَا سَتَظَلُّ تَتَحَدَّثُ، وَسَتَستَمِعُ إِلَى مَن یَستَحِقُّ أَن یَسمَعَهَا.”
ثُمَّ أَكمَلَ بِحَزمٍ صامِتٍ:
“وَالكَلِماتُ… هذِهِ الحُروفُ الصَّغِيرَةُ، أُقَدِّرُها أَكثَرَ مِن كُلِّ وُعُودٍ لَم تَتَحَقَّقْ، أَكثَرَ مِن كُلِّ حُضُورٍ اختَفَى.
هِيَ الخُلُودُ الصَّامِتُ، هِيَ شَهادَةٌ أَنَّنا مَرَرنا، أَنَّنا أَحبَبنَا، أَنَّنا شَعَرنَا.”
أَغلَقَ عَينَيهِ لَحظَةً، كَأَنَّ حَياتَهُ كُلَّها تَمُرُّ أَمامَهُ، وَرَأَى نَفسَهُ فِي كُلِّ عُمرٍ:
“فِي كُلِّ مَرَّةٍ أَكتُبُ، أَعُودُ لِأَرَى نَفسِي طِفلًا يَخافُ مِن الفَقدِ، شابًّا يُجَرِّبُ الغِيابَ، وَرَجُلًا يُحاوِلُ مُقاوَمَةَ الزَّوالِ.
وَأَنتِ هُناكِ… ظِلُّكِ، وَهمُكِ، صِرتِ لِي قانُونًا، صِرتِ لِي حَياةً مَكتُوبَةً.”
أَلقَى القَلَمَ فَجأَةً، وَأَسنَدَ جَبهَتَهُ إِلَى كَفِّهِ، ثُمَّ تَمْتَمَ بِارتِعاشٍ:
“وَلَو لَم نَلتَقِ يَومًا… يَكفِينِي أَنَّكِ مَوجُودَةٌ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ أَكتُبُها، وَفِي كُلِّ صَمتٍ أَحمِلُهُ.”
كَانَتِ الْغُرْفَةُ تَضِيقُ عَلَيْهِ كَأَنَّ جُدْرَانَهَا تَتَآمَرُ مَعَ الصَّمْتِ. جَلَسَ مُتَكِئًا إِلَى الْحَائِطِ، بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْرَاقٌ مبْعَثَرَةٌ وَقَلَمٌ لَمْ يَعُدْ يُطَاوِعُهُ. حَاوَلَ أَنْ يَخْطَّ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَانْسَكَبَتِ الْكَلِمَاتُ كَالْرَّمْلِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ. أَطْرَقَ رَأْسَهُ، وَإِذَا بِالْهَوَاءِ يَثْقُلُ فَجْأَةً، وَالْفَرَاغُ مِنْ حَوْلِهِ يَتَحَوَّلُ إِلَى صَدًى.
سَمِعَ صَوْتًا رَقِيقًا يَنْبَعِثُ مِنَ الدَّاخِلِ، لَا مِنَ الْخَارِجِ. لَمْ يَكُنْ صَوْتًا غَرِيبًا، بَلْ كَأَنَّهُ ظِلُّهُ الَّذِي طَالَمَا أَخْفَاهُ. تَرَدَّدَ الْهَمْسُ أَوَّلَ الْأَمْرِ، ثُمَّ تَجَسَّدَ كَحُضُورٍ يَجْلِسُ قُبَالَتِهِ.
الفصل السادس
قَالَتْ:
“مَا الَّذِي تَخشَاهُ أَكْثَرَ: الْعَتْمَةَ مِنْ حَوْلِكَ، أَمْ تِلْكَ الَّتِي فِي صَدْرِكَ؟”
اِرْتَجَفَ. حَاوَلَ أَنْ يُجِيبَ، فَلَمْ يَخْرُجْ صَوْتُهُ. أَلَحَّتْ بِنَبْرَةٍ هَادِئَةٍ:
“أَمَا آنَ لَكَ أَنْ تَقُولَ مَا لَمْ تَجْرُؤْ عَلَى قَوْلِهِ؟”
أَطْبَقَ جُفُونَهُ، وَخَرَجَتْ مِنْهُ الْكَلِمَاتُ كَأَنَّهَا اعْتِرَافٌ لَا يُحْتَمَلُ:
“أَنَا ضَعِيفٌ… ضَعِيفٌ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي أَخَافُ فِيهِ أَنْ أُحِبَّ، أَنْ أُجَرِّبَ، أَنْ أُوَاجِهَ. أَنَا هَارِبٌ مِنْ نَفْسِي قَبْلَ أَنْ أَهْرُبَ مِنَ الْآخَرِينَ.”
اِبْتَسَمَتْ اِبْتِسَامَةً غَامِضَةً، ثُمَّ هَمَسَتْ:
“الضَّعْفُ أَنْ تنْكُرَ ضَعْفَكَ. أَمَّا الاعْتِرَافُ، فَهُوَ بَدَايَةُ الْقُوَّةِ.”
سَادَ الصَّمْتُ مِنْ جَدِيدٍ. فَتَحَ عَيْنَيْهِ فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا أَمَامَهُ، كَأَنَّهَا انْطَفَأَتْ فَجْأَةً مِثْلَ شُعْلَةٍ سَرِيعَةٍ. غَيْرَ أَنَّ آخِرَ كَلِمَاتِهَا بَقِيَتْ تَرِنُّ فِي صَدْرِهِ، كَجَرَسٍ لَا يَنْطَفِئُ.
أَرْخَى رَأْسَهُ إِلَى الْوَرَاءِ، وَأَحَسَّ كَأَنَّ الْجُدْرَانَ تَتَنَفَّسُ مِنْ حَوْلِهِ. لَمْ يَعُدْ مُتَأَكِّدًا: أَكَانَتْ هِيَ حَقًّا هُنَا، أَمْ أَنَّ الصَّوْتَ قَدْ خَرَجَ مِنْ تَجَاوِيفِ صَدْرِهِ؟ حَاوَلَ أَنْ يَسْتَعِيدَ مَلَامِحَهَا فَلَمْ يَظْفَرْ إِلَّا بِضَوْءٍ شَفِيفٍ يَلْمَعُ فِي الْعَتْمَةِ، ثُمَّ يَخْتَفِي كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ.
أَحَسَّ دِفْئًا يُلَامِسُ كَفَّهُ، ثُمَّ فَرَاغًا يَبْتَلِعُهُ. رَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ مُعَلَّقَةٌ فِي الْهَوَاءِ، لَا تَلْمَسُ سِوَى الْعَدَمِ. تَسَاءَلَ فِي سِرِّهِ: “أَكُنْتُ أُحَادِثُ نَفْسِي، أَمْ أَنَّ النَّفْسَ حِينَ تَضِيقُ تَسْتَوْلِدُ كَائِنًا مِنْ سِرِّهَا لِتُوَاجِهَهَا بِالْحَقَائِقِ؟”
ارْتَسَمَتْ فِي أُذُنِهِ بَقَايَا كَلِمَاتِهَا، وَقَدْ تَحَوَّلَتْ إِلَى صَدًى بَعِيدٍ:
“الاعْتِرَافُ بَدَايَةُ الْقُوَّةِ…”
أَخَذَ يُرَدِّدُهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ كَمَنْ يَتَهَجَّى نَشِيدًا منْسِيًّا. شَعَرَ لِلَّحْظَةٍ أَنَّهُ أَقَلُّ وَحْدَةً، ثُمَّ أَدْرَكَ أَنَّ الْوَحْدَةَ عَيْنَهَا قَدْ لَبِسَتْ وَجْهًا آخَرَ، وَغَادَرَتْ تارِكَةً وَرَاءَهَا أَثَرًا لَا يُمْحَى.
كَانَ اللَّيْلُ مَا زَالَ مُمتَدًّا، لَكِنَّ قَلْبَهُ قَدِ ارْتَجَّ بِحَرَكَةٍ خَفِيَّةٍ، كَأَنَّ بَوَّابَةً صَغِيرَةً انْفَتَحَتْ دَاخِلَهُ عَلَى مَجْهُولٍ أَوْسَعَ.
وَمَضَت أَعوامٌ بَطِيئَةٌ، جَمَعَ خِلَالَها شَتاتَ نَفسِهِ المُبَعْثَرَةِ، ثُمَّ جَلَسَ ذاتَ مَساءٍ صافٍ إِلَى مَكتَبِهِ مِن جَدِيدٍ. أَشعَلَ المِصباحَ، وَبَدا كَمَن يَفتَحُ نافِذَةً عَلَى رُوحِهِ. كَتَبَ:
“اليَومَ… أَجِدُ نَفسِي فِي زَحمَةِ الحَياةِ، بَينَ عَمَلٍ لَا يَهدَأُ، وَوُجُوهٍ تَتَغَيَّرُ بِاستِمرَارٍ، وَمَسؤُولِيَّاتٍ تَكبُرُ بِلَا تَوَقُّفٍ.
لَكِنِّي، رَغمَ كُلِّ شَيءٍ، لَم أَفقِد صَمتِي الدَّاخِلِيَّ، وَلَم أَفقِدكِ.”
رَفَعَ عَينَيهِ إِلَى المِرآةِ الصَّغِيرَةِ المُعَلَّقَةِ عَلَى الجِدارِ، كَأَنَّهُ يَبحَثُ عَن أَثَرِها فِي مَلامِحِهِ، ثُمَّ تَابَعَ:
“أَحيانًا، حِينَ أَستَقِلُّ وَسَائِطَ نَقلٍ أَو أَمشِي فِي الشَّوارِعِ، أَكتُبُ فِي دَفتَرِي الصَّغِيرِ:
“أَنَا هُنا… وَأَنَا أُفَكِّرُ فِيكِ، وَأَنتِ لَم تَأتِ.”
رَمَقَ النَّاسَ مِن حَولِهِ فِي خَيالِهِ: وُجُوهٌ تَضحَكُ، أَفواهٌ تَتَحَدَّثُ، خُطُواتٌ تُسرِعُ، بَينَما هُوَ ثَابِتٌ كَأَنَّهُ خَلفَ زُجَاجٍ سَمِيكٍ. كَتَبَ بِبُطءٍ مُطمَئِنٍّ:
“النَّاسُ حَولِي يَتَحَدَّثُونَ، يَضحَكُونَ، يَركُضُونَ خَلفَ مَصالِحِهِم، لَكِنِّي أَظَلُّ صَامِتًا، أُراقِبُ العَالَمَ مِن خَلفِ نافِذَةٍ، كَمَا كُنتُ أَفعَلُ فِي طُفُولتِي.
الزُّمَلاءُ فِي العَمَلِ لَا يَعرِفُونَ أَنِّي أَعِيشُ عَالَمِي الخَاصَّ.
أَحيانًا يَسأَلُنِي أَحَدُهُم: “لِماذا تَبدُو هَادِئًا دَائِمًا؟”
أُجِيبُهُم بِابتِسامَةٍ بَسِيطَةٍ، وَأَعُودُ لِكِتابَةِ سُطُورِي فِي دَفتَرٍ لَا يَراهُ أَحَدٌ.”
ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ فَوقَ الدَّفتَرِ كَأَنَّهُ يَحتَضِنُهُ، وَأَكمَلَ:
“لِأَنَّ الكِتابَةَ… هِيَ حَاضِرِي، هِيَ مَلاذِي، هِيَ أَنَا.
وَمَعَ ذَلِكَ، لَا تَمنَعُنِي الحَياةُ مِن التَّجرِبَةِ.
تَعَلَّمتُ أَن أَفتَحَ قَلبِي لِلآخَرِينَ، بِحَذَرٍ، لَكِنِّي لَا أَسمَحُ لِأَحَدٍ بِالاقتِرَابِ كَثِيرًا… لِأَنَّكِ، كَظِلٍّ، مَوجُودَةٌ دَائِمًا هُنَاك، بَينَ الأَسطُرِ، تُراقِبِينِي بِصَمتٍ، تَمنَعِينِي مِنَ الاِنكِسَارِ الكَامِلِ، وَتُعَلِّمِينِي كَيفَ أُحِبُّ مِن دُونِ أَن أَفقِدَ نَفسِي.”
أَخَذَ نَفَسًا عَمِيقًا، وَأَدَارَ رَأْسَهُ نَحْوَ النَّافِذَةِ، حَيْثُ تَسَاقَطَ المَطَرُ، ثُمَّ كَتَبَ وَهُوَ يَبتَسِمُ ابتِسَامَةً وَاهِنَةً:
“أَحْيَانًا أَكتُبُ لَكِ عَنْ أَشْيَاءَ بَسِيطَةٍ: لِقَاءٍ عَابِرٍ، ضَحْكَةِ صَدِيقٍ، أَو فَشَلٍ صَغِيرٍ فِي العَمَلِ…
لَكِن كُلَّ كَلِمَةٍ تَحمِلُ شُعُورًا عَمِيقًا، وَكَأَنَّكِ تَقرَئِينَنِي حَقًّا، وَتَتَفَهَّمِينَ الصَّمتَ بَينَ السُّطُورِ.”
“فِي المَسَاءِ، حِينَ أَعُودُ إِلَى غُرفَتِي، أَضَعُ الدَّفتَرَ جَانِبًا، وَأَستَسلِمُ لِسُكُوتٍ يثقُلُ الهَوَاءَ مِن حَولِي. أَرفَعُ بَصَرِي إِلَى السَّقفِ، كَأَنَّنِي أَفتِّشُ فِي البَيَاضِ عَن ظِلِّكِ، ثُمَّ أَتَنَفَّسُ بِبُطءٍ، فَأُدرِكُ أَنَّ الغِيَابَ لَم يُضعِفنِي؛ بَل عَلَّمَنِي أَن أَكُونَ حَاضِرًا حَتَّى حِينَ لَا يُرَافِقُنِي أَحَدٌ”.
“أَجلِسُ مُتَّكِئًا عَلَى حَافَّةِ الكُرسِيِّ، أَضُمُّ يَدَيَّ إِلَى صَدرِي، وَأَهمِسُ فِي دَاخِلِي”
“هَكَذَا… أَعِيشُ اليَومَ، أَكتُبُ عَنِ الأَمسِ، وَأُخَطِّطُ لِلمُستَقبَلِ، وَأَحمِلُكِ مَعِي، لَا كَذِكرَى فَحَسبُ، بَل كَظِلٍّ، كَرَفِيقَةٍ صَامِتَةٍ، كَصَوتٍ دَاخِلِيٍّ يُوَجِّهُ خُطُوَاتِي، وَيَجعَلُ كُلَّ طَرِيقٍ مُمكِنًا.”
“أَكتُبُ لَكِ الآَنَ كَمَا اعتَدتُ: عَن نَفسِي، عَنِ العَالَمِ الَّذِي يُحِيطُنِي، عَنِ النَّاسِ الَّذِينَ أَعبُرُ بَينَهُم. أَرَاهُم يَتَنَقَّلُونَ بِخِفَّةٍ، يَضحَكُونَ، يَتَجَادَلُونَ، يَتَبَادَلُونَ الأَحَادِيثَ السَّطحِيَّةَ، غَيرَ أَنَّ عُيُونَهُم فَارِغَةٌ، لَا تَحمِلُ عُمقَ مَا يَضطَرِبُ فِي دَاخِلِي”.
“أُطَأطِئُ رَأسي قَلِيلًا، وَأَترُكُ قَلَمِي يَخُطُّ”
“أَنتِ وَحدَكِ تَعرِفِينَ كَيفَ أَنظُرُ إِلَيهِم، كَيفَ أَستَشِفُّ مَا وَرَاءَ الكَلَامِ مِن إِيمَاءَةٍ أَو صَمتٍ. لَا أَحَدَ يَسمَعُنِي كَمَا تَفعَلِينَ، وَلَا يَقرَؤُنِي كَمَا يَقرَؤُنِي غِيَابُكِ الَّذِي صَارَ أَشبَهَ بِظِلٍّ يُرَافِقُنِي.”
“وَحِينَ يَهدَأُ المَكَانُ مِن حَولِي، وَيَغِيبُ الصَّخَبُ عَن أُذنَيَّ، أَشعُرُ بِحُضُورِكِ أَقسَى. المَدِينَةُ تَمُوجُ بِأَصوَاتِهَا، وَالوُجُوهُ تَتَقَاطَعُ فِي الشَّوَارِعِ، لَكِنِّي أَفتَقِدُ نَبرَةً لَم أَسمَعْهَا قَطُّ، وَنَظرَةً كُنتُ وَاثِقًا أَنَّهَا سَتَفهَمُنِي قَبلَ أَن أَنطِقَ”.
“أُشَدِّدُ قَبدَتِي عَلَى الدَّفتَرِ، وَأَكتُبُ: “أَفتَقِدُكِ”… أَفتَقِدُكِ كُلَّمَا حَاوَلتُ أَن أَبدُوَ طَبِيعِيًّا بَينَ النَّاسِ. أَضحَكُ مَعَهُم، أُشَارِكُهُم كَلِمَاتٍ عَابِرَةً، لَكِنَّ قَلبِي يَظَلُّ وَحِيدًا، يَعُودُ إِلَيكِ مَعَ أَوَّلِ لَحظَةِ صَمتٍ، يَعُودُ إِلَى دَفَاتِرِي حَيثُ أَجِدُ نَفسِي كَمَا أَنَا.”
“أَقِفُ قَلِيلًا وَأَمشِي بِخُطُوَاتٍ ضَيِّقَةٍ إِلَى النَّافِذَةِ، أُزِيحُ السِّتَارَ بِبُطءٍ، أَرَى اِنْعِكَاسَ وَجهِي عَلَى الزُّجَاجِ، وَأَتَمْتِمُ”
“أَكتُبُ عَن ضَعفِي وَقُوَّتِي، عَن خَوفِي وَأَحلَامِي الصَّغِيرَةِ، عَنِ ارتِبَاكِي وَسَطَ البَشَرِ… وَأَنتِ هُنَاك، دَائِمًا، فِي كُلِّ جُملَةٍ، فِي كُلِّ فَرَاغٍ، فِي كُلِّ صَمتٍ يُطَوِّقُنِي.”
“أَغْمِضُ عَيْنَيّ، أَتْرُكُ نَفْسِي تَهْمِسُ: “أَكْتُبُ لَكِ لَا يَبْتَلِعُنِي الْفَقْدُ، وَلَكِ أَعْتَرِفُ أَنَّ غِيَابَكِ عَلَّمَنِي أَن أَرَى الْعَالَمَ عَارِيًا مِنَ الزِّينَةِ، أَن أَتَحَمَّلَ الْحَقِيقَةَ كَمَا هِيَ، وَأَظَلُّ وَاقِفًا.”
“ثُمَّ أَضَعُ الْقَلَمَ عَلَى الْوَرَقَةِ، وَأَكْتُبُ بِخَطٍّ مُتَرَدِّدٍ: “أَكْتُبُ لَكِ”… وَأُدْرِكُ أَنَّكِ لَنْ تَرُدِّي، وَلَنْ تَدْرِي يَوْمًا مَا صَنَعْتِهِ بِي. وَمَعَ ذَلِكَ، أَرَاكِ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ، كَأَنَّكِ تَقِفِينَ بِجَانِبِي، كَرُوحٍ تُرَاقِبُنِي مِنْ زَوَايَا الْغُرْفَةِ، مِنْ بَيْنِ الْوُجُوهِ، مِنْ بَيْنِ أَصْوَاتٍ لَا أَسْتَسِيغُهَا.”
“أَمْسَحُ وَجْهِي بِكَفَّيْ، وَأَتَنَفَّسُ بِعُمُقٍ: “الْيَوْمَ، رَأَيْتُ النَّاسَ وَكَأَنَّهُمْ عَلَى خَشَبَةِ مَسْرَحٍ كَبِيرٍ. ضَحَكَاتُهُمْ بَدَتْ مُجَرَّدَ أَدَاءِ مَحْفُوظٍ، نَظَرَاتُهُمْ تَدَاوَلَتِ الْأَخْبَارَ بِبُرُودٍ، أَفْعَالُهُمْ اتَّكَأَتْ عَلَى الْمَظَاهِرِ أَكْثَرَ مِنَ الْقَلْبِ.”
“أَهُزُّ رَأْسِي، وَأَعُودُ إِلَى الْوَرَقَةِ: “لَكِنِّي حِينَ أَكْتُبُ لَكِ عَنْهُمْ، أَكْتَشِفُ أَنَّ وُجُودَكِ فِي خَيَالِي هُوَ الَّذِي يُمْنَحُنِي الْقُدْرَةَ عَلَى رُؤْيَةِ مَا وَرَاءَ الْأَقْنِعَةِ. أَشْعُرُ بِكِ هُنَا، رَغْمَ غِيَابِكِ، وَأَفْتَقِدُكِ أَكْثَرَ كُلَّمَا اِزْدَحَمَ النَّاسُ مِنْ حَوْلِي. كُلُّ كَلِمَةٍ أَسْمَعُهَا تُعِيدُنِي إِلَيْكِ، كُلُّ مَوْقِفٍ نَاقِصٌ مِنْ دُونِ ظِلِّكِ.”
“وَحِينَ يَحِلُّ اللَّيْلُ، وَيَشْتَدُّ سُكُونُهُ، أَجْلِسُ عَلَى سَرِيرِي، أَضَعُ رَأْسِي بَيْنَ كَفَّيْ، وَأَتَنَهَّدُ: “الْوَحِيدُ”… شُعُورُ الْوَحِيدِ يَزْدَادُ حِينَ أَغْمِضُ عَيْنَيّ. كُلُّ الْوُجُوهِ تَتَلَاشَى، وَتَبْقِينَ أَنْتِ، فِي الصَّمْتِ، فِي الْفَرَاغِ، فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْ غُرْفَتِي.”
“أَفْتَحُ عَيْنَيّ، وَأَكْتُبُ بِآخِرِ مَا بَقِيَ مِنْ قُوَّةٍ: “أَكْتُبُ لَكِ”، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَحْرُسُنِي… تَحْرُسُ ذَاكِرَتِي، تَحْرُسُ غِيَابَكِ الَّذِي عَلَّمَنِي كَيْفَ أَكُونَ حَاضِرًا، رَغْمَ كُلِّ شَيْءٍ.”
“أَحْيَانًا، حِينَ يَرْتَفِعُ ضَحِكٌ عَابِرٌ مِنْ أَحَدِ الْجَالِسِينَ أَوْ يَتَجَادَلُ صَدِيقَانِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، تَتَسَلَّلُ صُورَتُهَا إِلَى ذِهْنِهِ، فَيَسْأَلُ نَفْسَهُ بِصَمْتٍ خَافِتٍ: “كَيْفَ كُنْتِ سَتَقْرَئِينَ هَذَا الصَّمْتَ يَا تَرَى؟ وَكَيْفَ كُنْتِ سَتَلْتَقِطِينَ مَا يَخْتَفِي خَلْفَ الْكَلَامِ؟”
كَانَتْ كُلُّ حَرَكَةٍ نَاقِصَةٍ، وَكُلُّ نَظْرَةٍ مُبْتُورَةٍ، وَكُلُّ كَلِمَةٍ بَاهِتَةٍ، تَرُدُّهُ إِلَى غِيَابِهَا الَّذِي يُحَاصِرُهُ مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ، فَيَشْعُرُ أَنَّهُ وَحِيدٌ رَغْمَ الزَّحَامِ.
حِينَ يَهْبِطُ اللَّيْلُ، وَيَجْلِسُ فِي غُرْفَتِهِ الْمُوحشَةِ، يَتَلَمَّسُ بِجَسَدِهِ الْبُرُودَةَ الَّتِي تَمْلَأُ الزَّوَايَا، وَيَصْغِي إِلَى هَمَسَاتٍ تَتَرَدَّدُ مِنْ أَعْمَاقِهِ، هَمَسَاتٍ لَا يَسْمَعُهَا أَحَدٌ سِوَاهُ. يمدُّ يَدَهُ نَحْوَ الدَّفْتَرِ، يَفْتَحُهُ بِارْتِجَافٍ خَفِيفٍ، وَيَكْتُبُ لَهَا بِمِدَادٍ كَأَنَّهُ يَمْلَأُ الْفَرَاغَ بِالْكَلِمَاتِ. يَكْتُبُ لِيُقْنِعَ نَفْسَهُ أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ، وَلَوْ عَلَى هَيْئَةِ ظِلٍّ، وَلِيُدْرِكَ أَنَّ غِيَابَهَا مَنَحَهُ حُضُورًا آخَرَ؛ حُضُورًا أَكْثَرَ عُمْقًا وَإِحْسَاسًا بِمَا يُحِيطُ بِهِ.
النَّهَارَاتُ تَمُرُّ بِبُطْءٍ شَدِيدٍ، كَأَنَّهَا تَتَعَمَّدُ إِطَالَةَ الِانْتِظَارِ. الْعُمُرُ يَتَقَدَّمُ، وَلَا يَتْرُكُ لَهُ فُسْحَةً لِلْعَوْدَةِ أَوِ التَّرَاجُعِ. يَمْشِي فِي الشَّارِعِ الْمُزْدَحِمِ، يُرَاقِبُ النَّاسَ بِعَيْنٍ خَبِيرَةٍ صَارَتْ تَعْتَادُ الرَّصْدَ: حَدِيثُهُمْ الْمَبْتُورُ، عَجَلَةُ خُطَاهُمْ، تَجَاهُلُهُمْ لِبَعْضِهِمْ الْبَعْضِ… وَفِي كُلِّ ذَلِكَ يَلْتَقِطُ تَفَاصِيلَ دَقِيقَةً لَا يَلْحَظُهَا غَيْرُهُ. كَانَ يَرَى كُلَّ شَيْءٍ بِعَيْنَيْنِ تَعَلَّمَتَا أَنْ تَبْحَثَا عَمَّا وَرَاءَ الْمَشْهَدِ الظَّاهِرِ: اِبْتِسَامَةٌ مخفِيَةٌ، صَمْتٌ يُفَضِحُ، حَرَكَةٌ لَا تَكْتَمِلُ.
وَغَدًا… سَيَكُونُ آخِرُ يَوْمٍ لَهُ فِي الْعَمَلِ، آخِرُ تَوْقِيعٍ يَخُطُّهُ عَلَى دَفْتَرِ الْحُضُورِ. سَيُكْمِلُ عَامَهُ السِّتُّينَ، وَيُوَدِّعُ سَنَوَاتٍ طَوِيلَةٍ مِنْ رَتَابَةِ الْمَكَاتِبِ وَصَخَبِ الزُّمَلاءِ.
فِي صَبَاحِ اليَومِ الأَخِيرِ جَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ الْمُعْتَادِ، يَلْمِسُ سِجِلاتِهِ كَمَا يَلْمِسُ مَا بَقِيَ مِنْ ذِكْرَاهُ فِي الْمَكَانِ.
دَخَلَ أَحْمَدُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ بِمُبَاشَرَةٍ دَافِئَةٍ، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى كَتِفِهِ فِي إيمَاءٍ صَدِيقِيٍّ:
“هَذِهِ السِّنُونَ كَأَنَّهَا رَمَى رِيحٍ، تَمُرُّ سَرِيعًا، وَلَكِنَّ الذِّكْرَى تَبْقَى… أَلَا تَشْعُرُ بِثِقَلِ الْوَدَاعِ؟”
رَدَّ عَلَيْهِ وَعَيْنَاهُ تَلْمَعَانِ بِوُجُوهِ الْحَنِينِ:
“ثِقَل؟ بَلْ هُوَ وَجَعٌ لَمْ أَعْهَدْهُ مِنْ قَبْلُ… كُلُّ وَجْهٍ وَكُلُّ كَلِمَةٍ مِنْكَ كَانَتْ صَدَى فِي قَلْبِي.”
تَنَفَّسَ بَعْدَ دَقَةٍ طَوِيلَةٍ، وَحَسَّ بِالزَّمَنِ يَسْرِي بَيْنَ أَصَابِعِهِ، فَقَالَ فِي صَمْتٍ كَمَنْ يُخاطِبُ نَفْسَهُ: “كَمْ أَرْجُو أَنْ أُسْبِغَ عَلَيْهِمْ مَا تَرَكْتُ فِي هَذَا الْمَكَانِ… أَنَا، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَكُلُّ يَوْمٍ مَعِي.”
وَقَدِمَتْ فَرِيدَةُ، وَوَضَعَتْ يَدَهَا عَلَى مِقْبَضِ الْبَابِ، تَرْتَجِفُ لِحَظَةٍ قَبْلَ أَنْ تَتَكَلَّمَ بِصَوْتٍ مُمْتَلِئٍ بِالتَّقْدِيرِ:
“لَا أَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا سَيَمْلأُ هَذِهِ الْغُرْفَةَ بِنَفْسِ الْحَيَوِيَّةِ وَالطَّاقَةِ الَّتِي جَلَبْتَهَا أَنْتَ… كُلُّ شَيْءٍ هُنَا سَيَشْعُرُ بِفَرَاغٍ، وَسَنَفْقِدُ كَتِفًا نَعْتَمِدُ عَلَيْهِ.”
هَزَّ رَأْسَهُ بِبُطْءٍ، وَأَطْرَقَ فَجْرَةً مِنَ الصَّمْتِ، ثُمَّ أَكْمَلَ:
“أَعْلَمُ… وَلَكِنَّنَا لَن نَفْقِدَ كُلَّ شَيْءٍ. أَنْتُم، وَكُلُّ زَمَنٍ مَعِي، سَتَبْقُونَ فِي كَلِمَاتِي، وَفِي قَلْبِي، كَمَا يَبْقَى الْمَدَى وَالضَّوْءَ فِي النُّفُوسِ.”
تَقَدَّمَ عَلِيّ، زَمِيلُهُ فِي الْعملِ الإِدَارِيِّ، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى حَافَةِ الطَّاوِلَةِ، وَهُوَ يَنطِقُ بِصَوْتٍ يَخْتَلطُ فِيهِ الْفَرَحُ بِالْمَوْتِ الْوَدَاعِيِّ:
“سَتَكُونُ غَايَةً لِكُلِّ هَذَا الْجُهْدِ… كُلُّ مَا عَلِمْتَنَا سَيَكُونُ نَبْعًا نَسْتَمِرُّ فِيهِ… وَسَنَحْمِلُ رِسَالَتَكَ مَعَنَا، كَمَا نَحْمِلُ شَمْسًا لَمْ تُطْفَأ.”
تَنَفَّسَ عَمِيقًا، وَهُوَ يَتَخَيَّلُ الْأَيَّامَ الَّتِي سَتَأْتِي بَعْدَ الْغَدِ، وَيَحسُّ بِالْهَوَاءِ يُلاَمِسُ وَجْهَهُ كَأَنَّهُ أَمَانٌ قَدِيمٌ يَتَسَرَّبُ مِنَ الذِّكْرَى. فَسَحَبَ دَفْتَرَهُ وَكَتَبَ بِهُدُوءٍ:
“كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ كَانَ رَحْمَةً فِي طَرِيقِي… وَكُلُّ يَوْمٍ مَعِي كَانَ صَدًى لِقَلْبِي.”
وَقَفُوا جَمِيعًا حَوْلَهُ، يَرَوْنَ كَيْفَ يَسْتَعِيدُ فِي صَمْتِهِ كُلَّ أَشْيَاءِ الْمَاضِي، وَكَيْفَ يَخْتَزِنُ ذِكْرَاهُمْ فِي كُلِّ حَرَكَةٍ صَغِيرَةٍ مِنْ يَدَيْهِ، فَتَرَاءَى لَهُم كَمَنْظَرٍ حَيٍّ يَرْسُمُهُ الْوَدَاعُ وَالاحْتِرَامُ وَالْمَحَبَّةُ.
صَمْتٌ مَدَّدَ لِحَظَةٍ، ثُمَّ هَمَسَ أَحْمَدُ:
“لِن نَنْسَاكَ… وَلَنْ يَنْسَى أَحَدٌ كُلَّ مَا عَلَّمْتَنَا.”
رَدَّ عَلَيْهِ بِصَوْتٍ كَأَنَّهُ يَهْمِسُ لِلذِّكْرَى:
“وأَنَا أَيْضًا… لَن أَنْسَى كُلَّ بُسَاطَةٍ وَكُلَّ ضَحِكَةٍ… وَكُلَّ صَمْتٍ كَانَ يُحَدِّثُ سَعَادَةً في قُلُوبِنَا.”
وَهُوَ يَحسُّ أَنَّ الْوَدَاعَ لَيْسَ نِهَايَةً، بَلْ يَحْتَوِي عَلَى مَوْقِعٍ جَدِيدٍ فِي قَلْبِهِ، يَرْتَعِشُ بِهِ كُلُّ شَيْءٍ، وَتَبْدَأُ الرِّحْلَةُ الْحَقِيقِيَّةُ مِنْ هُنَا… مِنَ الذِّكْرَى، وَمِنْ فَرَاغٍ يَتَمَلَّكُ الْقَلْبَ.
تَنَفَّسَ عَميقًا، وَفَرَجَ وَجْهَهُ نَحْوَ الْغُرْفَةِ، وَهُوَ يُلاَحِظُ كَيْفَ يَمُرُّ الْوَقْتُ بِهَدوءٍ، وَكَأَنَّهُ يَسْتَعِيدُ كُلَّ يَوْمٍ مَعَ زُمَلَائِهِ. دَخَلَتْ فَرِيدَةُ وَهِيَ تَحْمِلُ صَفْحَةً مُلَوَّنَةً بِأَسْمَاءِ الْمُعَلِّمِينَ، وَهَزَّتْهَا ضِحْكَةٌ صَادِقَةٌ:
“تَذَكَّرْتَ يَوْمَ كُنَّا نُخَطِّطُ لِمَهَامٍّ جَمِيعًا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يَخْطُطُ بِطَرِيقَتِهِ الْخَاصَّة؟ كَانَتْ فَوضَى وَفَرَحًا فِي آنٍ وَاحِدٍ.”
رَدَّ عَلَيْهَا، وَهُوَ يَمْسَحُ يَدَيْهِ عَلَى وَجْهِهِ:
“وَلَا زَالَتْ تَرْتَعِشُ ذِكْرَتُهَا فِي قَلْبِي… كُلُّ ضَحِكَةٍ، كُلُّ وَاقِفٍ فِي مَكَانِهِ، كُلُّ صَمْتٍ قَطَعْنَاهُ سَوِيًّا…”
جَاءَ عَلِيّ، وَهُوَ يَحْمِلُ مِلَفًّا يَحْتَوِي عَلَى بَعْضِ رُسُومِ الطُّلاَّب وَتَصْمِيمَاتٍ قَدِيمَةٍ:
“تَرَى أَيُّهَا الصَّدِيقُ، كَيْفَ كُنَّا نُحَاوِلُ أَنْ نُرَتِّبَ الْأَمُورَ بِهَذَا الطَّرِيقِ؟ كُلُّ يَوْمٍ كَانَتْ مُغَامَرَةً، وَكُلُّ فَرْحٍ كَانَ نَشِيدًا لِلصَّبْرِ وَالْحُبِّ.”
وَجَلَسُوا جَمِيعًا حَوْلَ طَاوِلَةِ مُستَدِيرَةٍ، وَتَنَاقَلُوا الذِّكْرَيَاتِ بِصَوْتٍ عَامِرٍ بِالْحِنِينِ وَالطَّرَفِ:
فَرِيدَةُ تَسْتَذْكِرُ يَوْمَ انْكَسَرَتْ لَوحَاتٌ لِعَدَدٍ مِنَ الطُّلاَّبِ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ يَهْرُبُ لِيُصَلِّحَهَا:
“وَتَرَى كَيْفَ كُنْتَ تَتَعَامَلُ مَعَ الْمُوَاقِفِ الصَّعْبَةِ بِهُدُوءٍ غَامِرٍ؟”
فَضَحِكُوا كُلُّهُمْ، وَفَجْأَةً صَارَ الصَّوْتُ يَخْتَلِطُ بِهَشَاشَةِ الْحُضُورِ:
“أَتَذَكَّرُونَ مَا كُنَّا نَقُولُهُ عَنْ الْوَقْتِ الضَّائِعِ؟ أَنَّنَا نَخْتَرِعُ الْمُهِمَّاتِ لِنُبْقِي أَيْدِينَا فِي الْعَمَلِ!”
رَفَعَ يَدَهُ، وَوَضَعَ أَصَابِعَهُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ الْمِلَفَّاتِ، وَهُوَ يَتَنَفَّسُ بِهُدُوءٍ:
“وَهَذِهِ كُلُّهَا سِجِلاتٌ… صَمْتٌ… وَكَلِمَاتٌ صَغِيرَةٌ… لَكِنَّهَا جَمِيعًا تَحْمِلُ نَفْسِي وَرُوحِي. أَلَا تَشْعُرُونَ بِذَلِكَ؟”
وَرَدَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَعَلِيّ بِتَرَادُفٍ، وَهُمَا يَحْمِلَانِ نَظَرَاهُمَا عَلَى الْمَلَفَّاتِ:
“نَعَمْ… كُلُّ شَيْءٍ هُنَا لَهُ رِيحٌ، لَهُ صَوْتٌ، لَهُ ضَحِكَةٌ… وَلَن نَنْسَى كُلَّ هَذِهِ الرِّيَاحِ وَالضَّوْءِ الَّذِي جَلَبْتَهُ مَعَكَ.”
فَتَنَفَّسَ وَهُوَ يَحِسُّ بِحَرَارَةِ صَدَاقَتِهِمْ وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَكَانِ يَتَحَرَّكُ:
“سَأُوَدِّعُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ هَذِهِ الْمَكَاتِبِ، وَسَأَحْمِلُ ذِكْرَاكُمْ كَمَا أَحْمِلُ نَسِيمَ الْفَجْرِ… يَتَسَرَّبُ إِلَى قَلْبِي، وَيُوَقِدُ فِي نَفْسِي حَيَاتِي الْجَدِيدَةَ.”
وَقَدِمُوا لِيُوَقِّعُوا مَعَهُ عَلَى دَفْتَرِ الْحُضُورِ، وَكُلُّ وَقْتٍ يَمُرُّ كَأَنَّهُ يُخَفِّفُ مِنْ وَزْنِ الْوَدَاعِ، وَيَجْمَعُ كُلَّ ذِكْرَى فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ.
فِي خِتَامِ الْيَوْمِ، وَقَفُوا جَمِيعًا فِي الْمَمَرِّ، وَتَنَادُوا بِاحْتِرَامٍ:
“لَن نَنْسَى أَحَدًا، وَلَن تَزُولَ كُلُّ ذِكْرَى صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ… وَسَنَحْمِلُهَا مَعَنَا، كَشَمْسٍ لَمْ تُطْفَأ.”
رَفَعَ يَدَهُ وَوَجْهُهُ يَتَلَأْلَأُ بِضَوْءِ غَامِضٍ، كَمَنْ يَخْتَزِنُ فِي نَفْسِهِ كُلَّ ذِكْرَى وَكُلَّ رُوحٍ، وَهُوَ يَتَخَيَّلُ صَبَاحَهُ الْجَدِيدَ عَلَى مَقْعَدٍ خَشَبِيٍّ وَيَنْتَظِرُ نَسِيمَهُ الْهَادِئَ يَمُرُّ عَلَى وَجْهِهِ.
تَجَوَّلَ فِي شَوَارِعِ الْمَدِينَةِ، كَأَنَّ كُلَّ خُطْوَةٍ مِنْ خُطَواتِهِ تُبْطِئُهُ وَتَسْتَفِزُّ حِسَّهُ بِرَغْبَةٍ فِي الْتَرَاجُعِ. تَأَخَّرَ فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ، وَكُلُّ دُكَّانٍ يَمُرُّ بِهِ يَلْمَعُ فِي عَيْنَيْهِ كَسِحرٍ يَسْتَدْعِي تَفَكُّرَهُ، كَأَنَّ الشَّارِعَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَحْمِلُ فِي قَلْبِهِ أَثْقَالَ يَوْمٍ طَوِيلٍ وَوَدَاعٍ مُخْتَبِئٍ.
تَوقَّفَ أَمَامَ بَابِ مَتْجَرٍ صَغِيرٍ، وَنَظَرَ إِلَى أَرفُفِهَا الْمُلَوَّنَةِ، وَأَحَسَّ بِرَعْشَةٍ خَفِيفَةٍ تَجْرِي عَلَى ظَهْرِه. يَدُهُ تَمُرُّ عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ الْعَرَائِضِ وَالأَشْيَاءِ الصَّغِيرَةِ، وَيَتَخَيَّلُ كُلَّ وَقْتٍ كَأَنَّهُ يَسْمَعُ صَوْتَ زَمَنٍ مُضَى.
فِي السُّوقِ، كَانَ صَخَبُ الْبَائِعِينَ وَالزَّبَائِنِ يُحِيطُ بِهِ كَأَنَّهُ وَسِيطٌ بَيْنَ الضَّجِيجِ وَالْحَدَثِ. رَأَى صَبِيًّا يَجْرِي بِعَرَبَةٍ صَغِيرَةٍ بأَحْمَالٍ مِنَ الفَوَاكِهِ، فَتَذَكَّرَ أَيَّامَ الطُّفُولَةِ وَكَيفَ كَانَ يَجْرِي هُوَ أَيْضًا فِي أَزِقَّةِ الْقَرْيَةِ وَقَلْبُهُ قَد امتَلَأَ حُرِّيَّةً, بَكِن لا تَتَرَكُهُ الْحَيَاةُ الْمَدَنِيَّةُ بَعْدَهَا.
تَمَدَّدَتْ خُطْوَاتُهُ عَلَى رَصِيفٍ ضَيِّقٍ، وَعَيْنَاهُ تَتَفَحَّصَانِ الْمَرْأَى مِنْ حَوْلِهِ. كُلُّ بَائِعٍ يَرْفَعُ صَوْتَهُ، كُلُّ فَاكِهِيٍّ يَبْتَسِمُ لِزَبُونٍ، كُلُّ ألوانٍ تَلْمَعُ فِي ضَوْءِ الشَّمْسِ الْمَائِلَةِ إِلَى جهة الْغُرُوبِ. وَفِي قَلْبِهِ، كَانَ صَمْتٌ عَاطِفِيٌّ يَسْتَوْطِنُهُ، كَأَنَّهُ يَحْتَفِظُ بِكُلِّ ذِكْرَى سَتَغِيبُ عَنْ الْمَكَانِ بَعْدَ الْغَدِ.
وَتَوقَّفَ أَمَامَ دُكَّانٍ يُبِيعُ الزُّهُورَ، وَرَفَعَ يَدَهُ لِيَشُمَّ رَائِحَتَهَا. فَاحَتْ فِي أَنْفِهِ كَأَنَّهَا تُذَكِّرُهُ بِصَبَاحَاتٍ عَادِيَةٍ وَبَسِمَاتٍ ضَائِعَةٍ فِي الزَّمَنِ. وَقَلْبُهُ يَنْبِضُ بِوَجَعٍ رَخِيمٍ، كَأَنَّهُ يَعِيشُ فِي عَالَمٍ يَخْتَلطُ فِيهِ الْحُزْنُ بِاللَّذَّةِ.
فِي الطَّرِيقِ الضَّيِّقِ، رَآهُ رَجُلٌ يَبِيعُ الْقَهْوَةَ، فَنَادَاهُ بِصَوْتٍ مَعْتَادٍ:
“مَرحَبَاً! أَكَانَ آخِرُ يَوْمٍ لَكَ؟ كَيْفَ سَنُرَتِّبُ الْمَكَانَ بَدُونِكَ؟”
رَدَّ بِهُدُوءٍ وَهُوَ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى قَلْبِهِ:
“سَنُرَتِّبُهُ… وَلكِنَّ الْيَوْمَ أُرِيدُ أَنْ أَمْضِي بَعْدَةَ دَقَائِقَ أَطِيلُهَا هُنَا، كَأَنَّنِي أُودِّعُ كُلَّ شَيْءٍ بِصَمْتٍ وَبِحُبٍّ.”
وَاسْتَمَرَّ فِي الْمَسِيرِ، يَمُرُّ بِسُلَّمٍ صَغِيرٍ، وَتَعْلُو عَلَيْهِ رَائِحَةُ الْخُبْزِ الطَّازَجِ مِنْ مَخْبَزٍ قَرِيبٍ، وَيَتَذَكَّرُ كُلَّ صَبَاحٍ بَدَأَهُ هُنَا أَوْ هُنَاكَ، وَيَشْعُرُ بِطُمَأْنِينَةٍ غَرِيبَةٍ تَسْتَعِيدُ لَهُ كُلَّ الْأَمَانِ الَّذِي فَتَحَ لَهُ الْمَسَارُ.
الفصل السابع
أَخِيرًا، وَصَلَ إِلَى بَيْتِهِ، وَأَمَامَهُ الْمَفْتَاحُ يَتَلَأْلَأُ فِي يَدِهِ، فَتَنَفَّسَ بِبطءٍ وَأَغْمَضَ عَيْنَيْهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ لِنَفْسِهِ: “غَدًا، صَبَاحِي سَيَكُونُ مُخْتَلِفًا… وَلكِنَّ هَذِهِ اللَّحْظَاتِ فِي الطَّرِيقِ سَتَظَلُّ شِعَاعًا يَرْشُدُنِي.”
دَخَلَ غُرْفَتَهُ بِبُطْءٍ، وَأَغْلَقَ الْبَابَ خَفِيًّا وَرَاءهُ، كَأَنَّهُ يَخْشَى أَنْ يَفُتَّتَ الصَّمْتَ الْمُتَرَسِّخَ فِي جُدْرَانِ الْمَكَانِ. وَقَفَ لِلْوَحْدَةِ لَحْظَةً، يَسْمَعُ صَوْتَ نَفَسِهِ يَرْتَجِفُ بَيْنَ الْجُدرانِ، وَيَشْعُرُ بِدِفْءِ الذِّكْرَيَاتِ يَنْسَابُ عَلَى جِلْدِهِ كَمَا يَنْسَابُ الْوَرْدُ عَلَى الْحَدِيقَةِ فِي الصَّبَاحِ.
تَقَدَّمَ نَحْوَ مَكْتَبِهِ، وَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ الْخَشَبِيِّ، وَتَنَفَّسَ عُمْقًا، كَأَنَّهُ يَجْمَعُ فِي الرِّئَتَيْنِ كُلَّ كَلِمَةٍ لَمْ يُفْضِهَا أَبَدًا. وَبِأَصَابِعِهِ الْرَّقِيقَةِ، أَمْسَكَ الْقَلَمَ، وَتَرَقَّبَ وَرَقَةَ الدَّفْتَرِ تَتَفَتَّحُ كَأَنَّهَا فَرَاغٌ يَنْتَظِرُ أَنْ يَسْكُنَهُ صَمْتُهُ.
فَتَحَ عَيْنَيْهِ عَلَى فَرَاغٍ يَتَدَلَّى فِيهِ وَجْهُهَا، كَأَنَّهُ يُشِعُّ بِهَا. وَارْتَجَفَ قَلْبُهُ رَجْفَةً دَافِئَةً، فَسَمِعَ صَوْتَهُ الدَّاخِلِيَّ يَهْمِسُ:
“لِمَاذَا أُخْفِي كُلَّ هَذَا عَنْهَا؟ لِمَاذَا لَا تَسْمَعُ كَلِمَاتِي؟”
أَمْسَكَ الْقَلَمَ، وَبَدَأَ يَكْتُبُ بِخِفَّةٍ وَحِرْصٍ. تَتَسَاقَطُ الْكَلِمَاتُ عَلَى الدَّفْتَرِ كَأَنَّهَا مَاءٌ يَنْحَدِرُ عَلَى صَخْرٍ يريد أن يُنبِتَ غَابَاتٍ؛ كُلُّ جُمْلَةٍ زَفْرَةٌ مِنْ صَدْرِهِ، وَكُلُّ حَرْفٍ رَعْشَةٌ تَسْتَقِرُّ عَلَى الْوَرَقِ كَأَنَّهُ يُلَامِسُهَا بِحُبٍّ. وهَمَسَ لِنَفْسِهِ:
“سَتَرَيْ كُلَّ شَيْءٍ هُنَا… كُلَّ مَا أَحْتَفِظُ بِهِ لَكِ، كُلَّ الذِّكْرَيَاتِ، كُلَّ الصَّمْتِ، كُلَّ الْوُجُودِ.”
ثُمَّ غَمَرَهُ صَمْتٌ ثَقِيلٌ، كَأَنَّ الْغُرْفَةَ تُحَاصِرُهُ بِأَصْوَاتِ الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ فِي آنٍ وَاحِدٍ. أَدْنَى رَأْسَهُ عَلَى الدَّفْتَرِ، وَرَجْفَةٌ غَرِيبَةٌ تَسْرِي فِي يَدِهِ، كَأَنَّهَا تُذَكِّرُهُ بِأَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ يَكْتُبُهَا وَعْدٌ، وَفِي بَعضِ الُْعودِ فِرَاقٌ سيَدُومُ إِلَى الْأَبَدِ.
وَتَدَفَّقَتِ الْكَلِمَاتُ التي أَثْقَلَتْ رِئَتَيْهِ، وَشَعَرَ بِكُلِّ حَرْفٍ يَنْتَزِعُ جُزْءًا مِنْ حَيَاتِهِ. حَتَّى إِذَا أَعْيَاهُ التَّدْفُّقُ، أَغْمَى عَلَيْهِ، فَغَرِقَ فِي سُبَاتٍ عَمِيقٍ، تَتَلَأْلَأُ كَلِمَاتُهُ عَلَى الصَّفْحَةِ كَنُجُومٍ مُعَلَّقَةٍ فِي لَيْلٍ بِلَا نِهَايَةٍ.
فِي الْحُلْمِ، رَآهَا بَيْنَ الظِّلِّ وَالنُّورِ، عَيْنَاهَا تُحَاصِرَانِهِ بِصَمْتٍ يَخْتَزِنُ مَا عَجَزَ هُوَ عَنْ قَوْلِهِ. هَمَسَ:
“هَلْ تَرَيْنَ كُلَّ شَيْءٍ؟ هَلْ تَفْهَمِينَ صَمْتِي وَالْوُعُودَ الْمَحْبُوسَةَ فِي الْقَلَمِ؟”
وَتَسَلَّلَ نُعَاسٌ إِلَى جَسَدِهِ في الحُلُمِ كَأَنَّهُ يَحْمِلُهُ إِلَى حَدِيقَةٍ هَادِئَةٍ، تَتَفَتَّحُ فِيهَا ذِكْرَاهَا أَزْهَارًا وَرَقِيَّةً فِي ضَوْءِ الْحُلْمِ. وَأَدْرَكَ، فِي سُكُونِ النُّعَاسِ وَعُمقِ النَّوْمِ، أَنَّ الْقَلَمَ وَالْوَرَقَ لَمْ يَكُونَا أَدَاةً فَقَطْ، بَلْ جِسْرًا بَيْنَ وَحْدَتِهِ وَحُضُورِهَا؛ كُلُّ كَلِمَةٍ نَفَسٌ يَتَرَدَّدُ إِلَى الْأَبَدِ.
وَبَيْنَ الْحُلْمِ وَالنُعاسِ، ظَلَّ مُعَلَّقًا فِي حِضْنِ الذِّكْرَى، يَتَأَرْجَحُ قَلْبُهُ بَيْنَ الْفَرَاغِ وَالْوُجُودِ، حَتَّى غَابَ عَنْهُ صَخَبُ الْحَيَاةِ وَأَثْقَالُ النَّهَارِ.
فَهَا هُوَ الآنَ هُنَاكَ، فِي قَلْبِ الضَّبَابِ الَّذِي لَا يَرْحَمُ، بَدَتْ مَدِينَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ نِظَامِ الْكَوْنِ؛ لَا نَهَارٌ يُعْرَفُ، وَلَا لَيْلٌ يَنْزِلُ بِسَكِينَةٍ. أَهْلُهَا يَمْشُونَ فِي أَنْصَافِ وَعْيٍ، وَعُيُونٌ غَائِرَةٌ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ الْحُلْمِ وَالْيَقَظَةِ. وَفِي وَسَطِهَا كَانَ يَعِيشُ: نَهَارُهُ بَيْنَ صَفَحَاتٍ قَدِيمَةٍ يُرَمِّمُهَا فِي مَكْتَبٍ ضَيِّقٍ، يَتَنَفَّسُ رَائِحَةَ الْوَرَقِ الْعَتِيقِ كَأَنَّهَا أَنْفَاسُهُ الْوَحِيدَةُ. يَكْتُبُ عَلَى الْهَوَامِشِ أَسْرَارًا مَنْسِيَّةً، وَيُصْلِحُ حُرُوفًا أَكَلَهَا الزَّمَنُ.
وَلَكِنْ، حِينَ يَشْتَدُّ الضَّبَابُ وَيَهْبِطُ اللَّيْلُ، يَتَحَوَّلُ إِلَى كَائِنٍ آخَرَ، يُحلِّقُ فِي مَمْلَكَةِ الظِّلَالِ وَالْأَحْلَامِ. وَفِي كُلِّ لَيْلَةٍ كَانَتْ تَأْتِيهِ َ— امْرَأَةٌ لَا تُشْبِهُ النِّسَاءَ. فِي عَيْنَيْهَا ضَوْءٌ مِنْ عَالَمٍ آخَرَ، وَفِي صَوْتِهَا هَمْسٌ مُرْتَجِفٌ كَبَقَايَا ذَاكِرَةٍ ضَائِعَةٍ. تَجْلِسُ أَمَامَهُ وَتَرْوِي حُلْمَهَا: مَشَاهِدُ مُتَكَسِّرَةٌ كَلَوْحَةٍ انْشَطَرَتْ عَلَى جِدَارِ الزَّمَنِ.
كَانَ يُصْغِي إِلَيْهَا كُلِّيًّا، لَا يُفَسِّرُ، بَلْ يُفَتِّشُ فِي كَلِمَاتِهَا عَنْ رُمُوزٍ وَأَبْوَابٍ تُفْضِي إِلَى أَعْمَاقِهِا. وَمُنْذُ اللِقَاءِ، يتَبَدَّلَ شَيْءٌ فِي حَيَاتِهَ؛ لَمْ يَعُدْ هِوَ نَفْسُهُ. فِي عَيْنَيْهِ حُزْنٌ جَدِيدٌ، أَوْ رُبَّمَا تَخَلُّصٌ مِنْ جُرْحٍ قَدِيمٍ. وَلَمْ يَدْرِ: هَلْ أَصْبَحَت هَذِهِ مَلْجَأَه، أَمْ فَخًّا آخَرَ سَيَسْقُطَ فِيهِ؟
ثُمَّ جَاءَ الْهَمْسُ. لِلْمَرَّةِ الْأُولَى، سَمِعَ اسْمَهُ يُنَادَى. صَوْتٌ خَفِيٌّ، كَأَنَّهُ يَتَرَصَّدُ بِهِ مُنْذُ دَهْرٍ فِي زَوَايَا الْمَدِينَةِ. عِنْدَهَا انْغَلَقَتِ الدَّائِرَةُ، وَلَمْ يَعُدْ يَدْرِي: أَهُوَ حُلْمُهُ هُوَ، أَمْ حُلْمُ مَنْ يَقْرَأُ قِصَّتَها، أَمْ أَنَّهَا مَا زَالَتِ الْبِدَايَةُ لِكُلِّ شَيْءٍ.
فَتَحَ عَيْنَيْهِ عَلَى فَرَاغٍ تَتَدَلَّى فِيهِ صُورُهَا، كَأَنَّ ضَوؤُهَا يَحْمِلُ كُلَّ مَرةٍ صُورةً لها. اهْتَزَّ قَلْبُهُ رَجْفَةً دَافِئَةً، وَسَمِعَ صَوْتَهُ الدَّاخِلِيَّ يَهْمِسُ:
أَمْسَكَ الْقَلَمَ، وَبَدَأَ يَكْتُبُ بِخَفَّةٍ وَحِرْصٍ، تَنْسَابُ الْكَلِمَاتُ كَمَا يَنْسَابُ الْمَاءُ عَلَى صَخْرٍ لِيُصبِحَ غَابَاتٍ مَقلُوبَةٍ مِنْ أَشْخَاصٍ عَبَرُوا فِي حَيَاتِهِ؛ وَكُلُّ جُمْلَةٍ تَنفَسٌ مِنْ صَدْرِهِ، وَكُلُّ حَرْفٍ يَرْتَجِفُ وَيَسْتَقِرُّ عَلَى وَرَقَةِ الدَّفْتَرِ كَأَنَّهُ يُلَامِسُهَا بِحُبٍّ.
هَمَسَ لِنَفْسِهِ:
“هَذَا الحُلْمُ… كَأَنَّهُ حَقِيقَةٌ جَعَلَتني أَشعُر بِمَا لَمْ أَعِشْهُ قَطْ.”
تَسَلَّلَتْ لَهُ صُورَتُهَا مَقلُوبَةً، وَعَيْنَاهَا تَلْمَعَانِ كَنُقْطَتَيْ ضَوْءٍ تَرْتَجِفَانِ فِي الظِّلِّ، وَهَمَسَتْ لَهُ:
“سَتَرَى كُلَّ شَيْءٍ هُنَا… كُلَّ الذِّكْرَى، كُلَّ الصَّمْتِ، كُلَّ الْوُجُودِ.”
انْتَشَرَ صَمْتٌ فِي الْغُرْفَةِ، كَأَنَّ جُدْرَانَهَا تَسْمَعُ كُلَّ كَلِمَةٍ، وَكُلُّ وَرَقَةٍ تَهْتِزُّ تَحْتَ يَدِهِ. رَفَعَ رَأْسَهُ عَلَى الدَّفْتَرِ، وَشَعَرَ بِرَجْفَةٍ غَرِيبَةٍ فِي يَدِهِ، كَأَنَّ كُلَّ حَرْفٍ هُوَ وَعْدٌ وَفِرَاقٌ فِي نَفْسِ الْوَقْتِ.
وَتَسَاقَطَتِ الْكَلِمَاتُ عَلَى الْوَرَقِ، تَتَلَألَأُ كَنُجُومٍ فِي لَيْلٍ بِلَا نِهَايَةٍ، كَأَنَّ الْحُلْمَ سَيَستَمِرَ لِيَعِيشُ مَعَهُ، وَكُلُّ مَعْنًى يَخْلُقُ فِي أَعْمَاقِه صَدىً جَدِيدًا.
رَسَمَ الحُلْمَ بِصَمْتٍ وَحُبٍّ، كَأَنَّهُ وَرْدٌ يُزْهَرُ فِي سَكِينَةِ اللَّيل. رَأَى نَفْسَهُ فِيهِ: يَسْتَكْمِلُ مَا انْفَجَرَ فِي وَعْيه، يَسْتَدْرِكُ كُلَّ فَجْوَةٍ فِي صَدْرِهِ، وَكُلَّ ثَمَنٍ دَفَنَهُ الزَّمَن.
وَفِي كُلِّ جُمْلَةٍ، كَانَ يحسُّ أَنَّ القَلَمَ وَالْوَرَقَ لَا يَكُونَانِ مُجَرَّدَ أَدَوَاتٍ، بَلْ جِسْرًا بَيْنَ حَقِيقَتِهِ وَحُضُورِهَا. كُلُّ كَلِمَةٍ تُنْبِتُ فِي صَدْرِهِ نَبْضًا، وَكُلُّ صَمْتٍ يَحْمِلُهُ إِلَى عَالَمٍ لَا يَفْهَمُهُ إِلَّا هُوَ.
وَبَيْنَ الْوَقْتِ وَالضَّبَابِ، أَحَسَّ أَنَّ الْحُلْمَ وَالْحَيَاةَ يَلْتَقِيَانِ، أَنَّهُ كَتَبَ حتى الآنِ قَصَّةً لَا يُمْكِنُ نسْخُهَا، قَصَّةً ستَبْقَى عَلَى الْوَرَقِ وَبينَ قَلْبِه وَرُوحِهِ. وَفِي الفَجرِ، هَمَسَ لَهَا، كَأَنَّهُ يُخاطِبُ روحَهُ:
“إلَيْكِ… كُلُّ مَا رَأَيْتُ، كُلُّ مَا عِشْتُ، كُلُّ مَا حَبَسْتُهُ فِي أَعْمَاقِي… أُهْدِيكِه صَمْتًا وَحُبًّا، كَأَنَّهُ وَرْدٌ يُزْهَرُ فِي سَكِينَةِ اللَّيْلِ.”
تَمَطَّتِ الْكَلِمَاتُ عَلَى وَرَقَتِهِ كَنُجُومٍ تَتَلَأْلَأُ فِي لَيْلٍ بِلَا نِهَايَةٍ، وَشَعَرَ بِرَجْفَةٍ غَرِيبَةٍ فِي صَدْرِهِ، كَأَنَّهَا تَرْسُمُ حُضُورَهَا فِي كُلِّ خَاطِرَةٍ وَكُلِّ صَمْتٍ.
الفصل الثامن
فِي الصَبَاحِ البَاكِرِ كَانَتِ الْحَدِيقَةُ تَرْتَدِي لَوْنًا رَمَادِيًّا بَاهِتًا، كَأَنَّهَا مَسْرَحٌ غَامِضٌ تَخْتَلِطُ فِيهِ الْأَزْمِنَةُ؛ لَا يُعْرَفُ مَا هُوَ مَاضٍ انْدَثَرَ وَمَا هُوَ حَاضِرٌ مَا زَالَ يَتَنَفَّسُ. أَوْرَاقٌ تَتَسَاقَطُ عَلَى غَيْرِ مَوْعِدٍ، وَأُخْرَى مُتَشَبِّثَةٌ بِأَغْصَانِهَا، تُؤَجِّلُ خَرِيفَهَا الْأَخِيرَ… كَمَا يُؤَجِّلُ هُوَ إِحْسَاسَهُ بِالْفَقْدِ الَّذِي يُطَارِدُهُ فِي كُلِّ التِفَاتَةِ.
جَلَسَ عَلَى الْمَقْعَدِ الْخَشَبِيِّ الْمُعَتَّقِ، كَأَنَّهُ يَهْبِطُ إِلَى ذَاكِرَتِهِ، يَسْتَمِعُ لَا إِلَى صَمْتِ الْمَدِينَةِ بَلْ إِلَى صَوْتِهِ الدَّاخِلِيِّ. بِجِوَارِهِ كَلْبٌ عَجُوزٌ، نِصْفُ عَيْنَيْهِ مُوَصَدٌ، يَرْمُقُ الْعَالَمَ بِحَذَرٍ بَارِدٍ، وَكَأَنَّهُ يَعْرِفُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَمْضِي مَا عَدَا الصَّمْتَ.
الْتَفَتَ إِلَيْهِ هَامِسًا، وَشَفَتَاهُ تَرْتَجِفَانِ كَأَنَّمَا يَسْتَفْهِمُ:
“أَمِنْ مَاضٍ لَمْ يُرَوْ جِئْتَ؟ أَمْ جِئْتَ لِتُذَكِّرَنِي بِأَنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ تَبْقَى، حَتَّى حِينَ يُشِيحُ الزَّمَانُ عَنْهَا وَجْهَهُ؟”
ثُمَّ عَادَ بِبَصَرِهِ إِلَى خَشَبِ الْمَقْعَدِ، إِلَى خَدْشٍ صَغِيرٍ لَمْ يُبْرَحْ مَكَانَهُ مُنْذُ أَعْوَامٍ، فَتَمْتَمَ مُتَسَائِلًا:
“أَفِي مَوْضِعِ الحُلُمِ ذَاتِهِ أَجْلِسُ؟ أَمْ أَنَّ الْأَمكِنَةَ كُلَّهَا صَارَتْ مُتَشَابِهَةً بَعْدَ ذَهَابِهَا؟”
ذِكْرَى وَجْهِهَا انْدَفَعَتْ إِلَى قَلْبِهِ كَنَسْمَةٍ دَافِئَةٍ؛ ذِكْرَى تُقِيمُ فِي الرُّوحِ أَدْفَأَ مِنَ الْحَقِيقَةِ، تَجْلِسُ قُرْبَهُ كُلَّ حِينٍ، بَيْنَمَا الْأَوْرَاقُ الصَّفْرَاءُ تَتَهَاوَى كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ يَوْمَ جَلَسَتْ آخِرَ مَرَّةٍ إِلَى جَانِبِهِ.
سَادَ هُدُوءٌ يُشبِهُ الصَّمْتَ… صَمْتٌ كَثِيفٌ، ثَقِيلٌ، لَكِنَّهُ حَقِيقِيٌّ. لَا نِبَاحَ لِلْكَلْبِ، وَلَا ضَجِيجَ لِلْمَدِينَةِ، فَقَطْ أَنِينُ الْمَقَاعِدِ الْخَشَبِيَّةِ تَحْتَ ثِقَلِ أَجْسَادٍ مَضَتْ. وَمَعَ ذَلِكَ، أَحَسَّ بِأَنَّهَا هُنَا… فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ، فِي كُلِّ ارْتِعَاشَةِ وَرَقٍ، فِي كُلِّ هَمْسِ رِيحٍ.
مَدَّ يَدَهُ إِلَى دَفْتَرِهِ، وَأَخَذَ يَكْتُبُ:
“أَكْتُبُ لَكِ عَنْ هَذَا الصَّمْتِ، كَيْ أُقْنِعَ نَفْسِي أَنَّ غِيَابَكِ لَمْ يَتْرُكْنِي وَحِيدًا تَمَامًا، وَأَنَّ حُضُورَكِ الدَّاخِلِيَّ مَا زَالَ يَجْعَلُنِي قَادِرًا عَلَى النَّظَرِ إِلَى الْعَالَمِ بِعَيْنَيْنِ صَافِيَتَيْنِ وَسَطَ الرُّمَادِ. بِالأَمسِ رَأَيْتُ رَجُلًا يَعْبُرُ مُسْرِعًا، كَأَنَّهُ يَهْرُبُ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ صَدًى لَمْ يَسْمَعْهُ بَعْدُ.
وَرَأَيْتُ ٱمْرَأَةً تَبْتَسِمُ لِرَجُلٍ، ٱبْتِسَامَةٌ لَمْ تَصِلْ إِلَى عَيْنَيْهَا، مُجَرَّدُ قِنَاعٍ ٱعْتَادَتْ ٱرْتِدَاءَهُ. كُلُّ هَؤُلَاءِ ٱلنَّاسِ… أَصْوَاتُهُمْ صَاخِبَةٌ، خُطُوَاتُهُمْ مُتَعَجِّلَةٌ، لَكِنَّهُمْ يَفْتَقِدُونَ شَيْئًا وَاحِدًا: ٱلصَّمْتُ ٱلَّذِي يُمْنِحُ لِلْوُجُودِ مَعْنًى. أَكْتُبُ لَكِ لِأَنَّكِ وَحْدَكِ تَعْرِفِينَ مَا أَقْصِدُهُ.”
ٱرْتَعَشَتْ أَصَابِعُهُ وَهُوَ يُتَابِعُ:
“غِيَابُكِ يَجْعَلُنِي أَكْثَرَ وُضُوحًا فِي مُرَاقَبَتِي، أَكْثَرَ صَبْرًا عَلَى هَذَا ٱلزِّحَامِ، وَأَكْثَرَ قُدْرَةً عَلَى فَهْمِ نَفْسِي بَيْنَ وُجُوهٍ لَا تَرَى إِلَّا ظِلَالَهَا. وَحِينَ أُغْمِضُ عَيْنَيَّ، أَشْعُرُ بِكِ هُنَاكَ… تُشَارِكِينَنِي صَمْتِي، رَغْمَ أَنَّكِ بَعِيدَةٌ.”
رَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِذَا بِشَابٍّ يَقْرَأُ كِتَابًا عَلَى مَقْعَدٍ قَرِيبٍ، عَيْنَاهُ تَلْمَعَانِ بِفَرَحٍ لَمْ يَرَهُ قَطُّ فِي عَيْنَيْهَا. وَفِي ٱلْجِهَةِ ٱلْأُخْرَى مَرَّتِ ٱمْرَأَةٌ مُبْتَسِمَةٌ، غَيْرَ أَنَّ ٱبْتِسَامَتَهَا ذَبُلَتْ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ قَلْبَهَا. عِنْدَهَا قَالَ فِي دَاخِلِهِ:
“كُلُّ هَؤُلَاءِ ٱلنَّاسِ يَمُرُّونَ، وَمَعَهُمْ ضَجِيجُهُمْ، لَكِنَّهُمْ لَا يَزِيدُونَنِي إِلَّا يَقِينًا بِأَنَّ غِيَابَكِ يَجْعَلُ حُضُورِي أَكْثَرَ قَسْوَةً وَصِدْقًا.”
أَطْرَقَ طَوِيلًا، ثُمَّ عَادَ يَكْتُبُ بِخَطٍّ مُضْطَرِبٍ:
“غِيَابُكِ يُعَلِّمُنِي أَنْ أُصْغِيَ أَكْثَرَ، أَنْ أَتَلَمَّسَ وَحْدَتِي، أَنْ أُدْرِكَ كَيْفَ أَكُونُ حَاضِرًا رَغْمَ ٱلْفَرَاغِ، وَأَحْمِلَ ٱلْأَمَلَ كَجَذْوَةٍ صَغِيرَةٍ لَا تَنْطَفِئُ.”
ٱلْمَقْعَدُ تَحْتَهُ يَئِنُّ مِنْ ثِقَلِ ٱلذِّكْرَيَاتِ، وَٱلْكَلْبُ بِجَانِبِهِ كَأَنَّهُ يَحْرُسُ ٱلْمَاضِي بِصَمْتِهِ. رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى ٱلْأُفُقِ، وَفِي صَدْرِهِ سُؤَالٌ لَمْ يُفَارِقْهُ:
“أَأَنَا ٱلَّذِي أُمْسِكُ بِٱلذَّاكِرَةِ… أَمْ أَنَّهَا هِيَ ٱلَّتِي تُمْسِكُنِي وَتُجْلِسُنِي هُنَا، أَنْتَظِرُكِ فِي كُلِّ خَفْقَةٍ، فِي كُلِّ صَدًى، فِي كُلِّ ظِلٍّ عَابِرٍ؟”
تَسَاءَلَ فِي دَاخِلِهِ: “كَيْفَ سَأَجْلِسُ هُنَا مِنْ دُونِهَا؟ أَهَذَا ٱلْمَقْعَدُ مَا زَالَ يَحْتَفِظُ بِصَدَى ٱلْمَاضِي ٱلَّذِي يَرْفُضُ ٱلِٱنْطِفَاءَ، أَمْ أَنَّهُ غَدَا مُجَرَّدَ خَشَبٍ بَارِدٍ بِلَا مَعْنًى؟”
أُصْغِى إِلَى حَفِيفِ ٱلرِّيحِ وَهِيَ تَعْبَثُ بِأَوْرَاقِ ٱلْخَرِيفِ، فَتَنْدَفِعُ إِلَى خَاطِرِهِ ضِحْكَتُهَا ٱلْأُولَى… تِلْكَ ٱلَّتِي كَانَتْ تَتَسَلَّلُ بَيْنَ ٱلْأَغْصَانِ كَمَا لَوْ كَانَتْ مُوسِيقَى لَا تَنْقَطِعُ. كُلُّ شَيْءٍ حَوْلَهُ نَاقِصٌ، غَائِبٌ، مَبْتُورٌ. كُلُّ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ عَيْنَاهُ يُذَكِّرُهُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً حَقِيقَةً، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهَا، فِي غِيَابِهَا، تَمْنَحُهُ ٱلْقُدْرَةَ عَلَى أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا، وَعَلَى أَنْ يَكْتُبَ.
أَمْسَكَ بِٱلدَّفْتَرِ ٱلْمُرْتَجِفِ بَيْنَ يَدَيهِ وَكَتَبَ: “أَكْتُبُ لَكِ عَنْ هَذَا ٱلْمَكَانِ، عَنْ تَفَاصِيلِهِ ٱلصَّغِيرَةِ، عَنْ صَمْتِ هَذَا ٱلْكَلْبِ ٱلْغَرِيبِ ٱلْمُلْتَفِّ عِنْدَ قَدَمَيَّ، عَنْ ٱلْخَدْشِ ٱلصَّغِيرِ فِي خَشَبِ ٱلْمَقْعَدِ، عَنْ كُلِّ مَا بَقِيَ مِنْ تِلْكَ ٱلْجَلْسَةِ ٱلْأَخِيرَةِ. أَكْتُبُ كَيْ أُوَاجِهَ ٱلْفَرَاغَ، وَأَحْتَفِظَ بِمَا تَبَقَّى مِنْ حَنِينٍ، وَأَتَجَنَّبَ ٱلْغَرَقَ فِي وَحْدَتِي. أَكْتُبُ… لِأَنَّنِي أَعْلَمُ أَنَّ ٱلْكَلِمَاتِ تَصِلُ إِلَيْكِ بِطَرِيقَةٍ مَا، وَلَوْ لَمْ تَعْرِفِيهَا، وَلَوْ بَقِيَتْ مُجَرَّدَ صَدًى فِي قَلْبِي.”
ٱنْحَنَى إِلَى ٱلْأَمَامِ قَلِيلًا، كَأَنَّ صَدْرُهُ يَنُوءُ تَحْتَ ثِقْلِ كَلِمَاتٍ لَمْ تُقَلْ، وَتَحْتَ حِجَارَةِ ٱلْحَنِينِ ٱلَّتِي ٱرْتَطَمَتْ بِقَسْوَةٍ فِي دَاخِلِهِ.
ٱلْحَدِيقَةُ صَامِتَةٌ، وَٱلزَّمَنُ يَمْضِي بِلَا رَحْمَةٍ، غَيْرَ أَنَّ أَصْدَاءَ ٱلْمَاضِي لَا تَتَلَاشَى. كُلُّ حَدَثٍ قَدِيمٍ، كُلُّ نَظْرَةٍ لَمْ تُفْهَمْ، كُلُّ حَرْفٍ لَمْ يُكْتَبْ… يَتَجَمَّعُ ٱلْآنَ هُنَا، فِي هَذَا ٱلصَّبَاحِ ٱلْمُخْتَلِفِ.
وَفَجْأَةً… تَنَاهَتْ إِلَى أُذُنَيهِ خُطُوَاتٌ خَافِتَةٌ. رَفَعَ بَصَرهُ، فَإِذَا بِشَابٍّ يَظْهَرُ أَمَامهُ، كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ قَلْبِ فَرَاغٍ بَعِيدٍ، أَوْ مِنْ عُمْقِ ذِكْرَى مَا زَالَتْ تَحْتَرِقُ فِي دَاخِلِهِ. خُطُوَاتُهُ لَمْ تَكُنْ عَابِرَةً، بَلْ بَدَتْ وَكَأَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ صَدْرِهِ هوَ، مِنْ أَعْمَاقِ شُعْلَةٍ كانَ قَدْ أَوْقَدَهَا مَعَ حُلْمِهِ ٱلضَّائِعِ.
ثُمَّ جَاءَ ٱلصَّوْتُ… مَأْلُوفٌ إِلَى حَدِّ ٱلْوَجَعِ، غَيْرُ مُتَوَقَّعٍ إِلَى حَدِّ ٱلِارْتِبَاكِ:
“لِمَاذَا أَطْفَأْتَ تِلْكَ ٱلشُّعْلَةَ ٱلَّتِي أَوْقَدْنَاهَا مَعًا؟”
ٱرْتَجَفَ صَدْرُهُ، وَٱنْقَبَضَ قَلْبُهُ، وَٱرْتَدَّتْ مَدَارِكُهُ كَأَنَّ ٱلزَّمَنَ ٱنْكَسَرَ فَجْأَةً وَعَادَ يُطَالُ كُلَّ شَيْءٍ.
رَفَعَ عَيْنَيهِ بِبُطْءٍ، بِلَا رَجَاءٍ، لِيَرَى ٱلشَّابَّ… كَانَ ٱنْعِكَاسًا صَافِيًا لِشَبَابِهِ ٱلضَّائِعِ؛ نَظْرَتُهُ تَحْمِلُ ٱلْوَهْجَ نَفْسَهُ ٱلَّذِي كانَ يَحْمِلُهُ يَوْمًا، حِينَ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ مُمْكِنًا، وَحِينَ كَانَ ٱلْحُلْمُ أَقْوَى مِنَ ٱلْخَوْفِ.
ٱرْتَعَشَتْ شَفَتَاهُ، وَهَمَسَ دَاخِلهُ بِصَوْتٍ خَفِيٍّ كَأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ أَعْمَاقِهِ:
“أَلَسْتَ أَنَا؟! أَتُرَانِي أَنْظُرُ إِلَى نَفْسِي؟!”
لَمْ يَمْلِكْ إِلَّا أَنْ نَطَقَ بِصَوْتٍ مُرْتَجِفٍ، فِيهِ دَهْشَةٌ وَرَجَاءٌ وَٱعْتِرَافٌ:
“أَجِئْتَ لِتُحَاسِبَنِي… أَمْ لِتُذَكِّرَنِي؟”
أَجَابَ ٱلشَّابُّ، وَصَوْتُهُ يَحْمِلُ مِزَاجَ ٱلْعِتَابِ وَٱلْحَنِينِ:
“كُنْتَ كَذَلِكَ… حَتَّى قَرَّرْتَ أَنْ تَتَوَقَّفَ عَنْ ٱلتَّفْكِيرِ.”
جَلَسَ الرَّجُلُ صَامِتًا لَحْظَةً، يَسْتَعِيدُ مَا فَاتَ، وَيَشْعُرُ بِأَنَّ كُلَّ لَحْظَةٍ كَانَتْ سَتُؤَدِّي إِلَى هَذَا اللِّقَاءِ. اَلْهَوَاءُ مِنْ حَوْلِهِمَا يَمْلَؤُهُ صَمْتٌ مُثْقَلٌ بِالذِّكْرَيَاتِ، وَكَأَنَّ اَلْحَدِيقَةَ نَفْسَهَا تُرَاقِبُ هَذَا اَلْحِوَارَ بَيْنَ اَلزَّمَنَيْنِ: زَمَنِ اَلْمَاضِي اَلَّذِي حَمَلَهُ، وَزَمَنِ اَلْحَاضِرِ اَلَّذِي يُعَاوِدُهُ اَلآنَ عَبْرَ اِنْعِكَاسِهِ اَلْأَصْغَرِ.
نَظَرَ إِلَى اَلشَّابِّ، وَفَجْأَةً أَدْرَكَ أَنَّهُ لَمْ يَفْقِدْهُ… لَمْ يَفْقِدْ هَذَا اَلْجُزْءَ مِنْهُ، رَغْمَ اَلسِّنِينَ، رَغْمَ اَلصَّمْتِ، رَغْمَ اَلْغِيَابِ.
“عُدْنَا… إِلَى اَلْبِدَايَةِ، إِلَى حَيْثُ كُلُّ شَيْءٍ يُمْكِنُ أَنْ يُكْتَبَ مِنْ جَدِيدٍ.”
تَلَجْلَجَ اَلرَّجُلُ، وَتَزَاحَمَتِ اَلْكَلِمَاتُ فِي حَلْقِهِ كَزِحَامِ حُلْمٍ لَمْ يُكْتَبْ لَهُ أَنْ يَكْتَمِلَ. خَطَا خُطْوَةً إِلَى اَلْوَهْمِ، وَتَرَاجَعَ خُطْوَتَيْنِ إِلَى اَلْخَوْفِ، ثُمَّ نَطَقَ بِصَوْتٍ مُتَشَظٍّ كَزُجَاجِ اَلذَّاكِرَةِ:
“عُدْتُمْ؟… مَنْ أَنْتُمْ؟!”
فَمَا إِنْ فَرَغَ مِنْ قَوْلِهِ حَتَّى تَبَدَّلَ اَلْمَشْهَدُ بِالْكَمَالِ.
غُرْفَةٌ وَاسِعَةٌ تَغْمُرُهَا اَلشَّمْسُ مِنْ نَوَافِذَ عَالِيَةٍ، تَتَوَسَّطُهَا طَاوِلَةٌ خَشَبِيَّةٌ قَدِيمَةٌ. أَكْوَابُ شَايٍ مُبَعْثَرَةٌ، دَفَاتِرُ مَفْتُوحَةٌ، وَوُجُوهٌ مُتَبَايِنَةٌ يَجْمَعُهَا قَاسِمٌ وَاحِدٌ: ثِقَلُ اَلتَّجْرِبَةِ وَكَثْرَةُ اَلْكَلَامِ.
مَدَّ فَارِسٌ – اَلزَّمِيلُ اَلْأَسْبَقُ اَلَّذِي رَافَقَ اَلرَّجُلَ بُضْعَ سِنِينَ قَبْلَ إِحَالَتِهِ عَلَى اَلْمَعَاشِ – يَدَهُ إِلَى فِنْجَانِهِ، وَحَدَّقَ فِي بُخَارِهِ اَلدَّافِئِ قَائِلًا بِنَبْرَةٍ مُتَأَمِّلَةٍ:
“اَلْغَبَاءُ… أَشْبَهُ أَحْيَانًا بِالِاسْتِسْلَامِ لِلْقَدَرِ. لِلْإِنْسَانِ عَقْلٌ، لَكِنَّهُ يَتْرُكُهُ وَاقِفًا، وَالْحَيَاةُ تَمْضِي كَمَا تَشَاءُ.”
قَاطَعَهُ مَحْمُودٌ – زَمِيلٌ أَسْبَقُ كَانَ بِمَثَابَةِ رَجُلِ دِينٍ بَسِيطٍ – بِابْتِسَامَةٍ وَادِعَةٍ وَتَنَهُّدَةٍ تُعَبِّرُ عَنْ صَبْرٍ طَوِيلٍ:
“بَلْ هُوَ اَلْبُعْدُ عَنِ اَلدِّينِ. مَنْ سَارَ بِلا مُرْشِدٍ ضَاعَ. لَكِنْ… اَلنَّاسُ يخْلِطُونَ كَثِيرًا بَيْنَ اَلتَّدَيُّنِ وَالْفِكْرِ.”
يُوسُفُ – اَلسِّيَاسِيُّ اَلسَّابِقُ اَلَّذِي كَانَ حَاضِرًا فِي كُلِّ لِقَاءٍ جَمَاهِيرِيٍّ وَنَدْوَةٍ وَحِوَارٍ – أَدَارَ سَاقًا فَوْقَ اَلْأُخْرَى، وَارْتَسَمَتْ عَلَى وَجْهِهِ اِبْتِسَامَةٌ وَاثِقَةٌ تُخَالِطُهَا سُخْرِيَةٌ خَفِيَّةٌ:
“اَلْغَبَاءُ لَيْسَ فِي اَلْفِعْلِ وَحْدَهُ. قَدْ يَكُونُ فِي اَلْكَلَامِ أَيْضًا. نَرَى خُطَبَاءَ بَارِعِينَ، ثُمَّ يَسْقُطُونَ عِنْدَ أَوَّلِ اِمْتِحَانٍ لِلْفِعْلِ.”
أَمَّا أَكْرَمُ – اَلْأُسْتَاذُ اَلْجَامِعِيُّ اَلَّذِي كَانَ مَرْجِعًا مَوْسُوعِيًّا لِمُعْظَمِ اَلْمَعْلُومَاتِ – فَقَدْ أَنْزَلَ نَظَّارَتَهُ عَلَى اَلطَّاوِلَةِ، وَعَيْنَاهُ تَمْسَحَانِ اَلْحُضُورَ بِبُطْءٍ. قَالَ بِنَبْرَةٍ مَنْهَجِيَّةٍ مُتَقَطِّعَةٍ:
“اَلْغَبِيُّ هُوَ مَنْ يَمْلِكُ أَدَوَاتِ اَلْعَقْلِ لَكِنَّهُ يَعْجَزُ عَنْ تَوْظِيفِهَا. يَرَى وَلَا يُبْصِرُ، يَسْمَعُ وَلَا يُنْصِتُ. قَدْ يَلْمَعُ لَحْظَةً، لَكِنَّهُ يَعْجَزُ عَنِ اَلرَّبْطِ بَيْنَ اَلْأُمُورِ وَرُؤْيَةِ اَلْعَوَاقِبِ.”
هَزَّتْ هُدَى – اَلطَّبِيبَةُ اَلْمُثَقَّفَةُ اَلَّتِي رَافَقَتْ حِوَارَاتِهِ خِلَالَ أَوَّلِ مُهِمَّةٍ فِي عَمَلٍ إِدَارِيٍّ لَهُ – رَأْسَهَا مُعْتَرِضَةً، وَعَيْنَاهَا تَتَلَأْلَآنِ بِشَغَفِ اَلْمَعْرِفَةِ:
“لِهَذَا أَرْفُضُ اِعْتِبَارَ اَلْغَبَاءِ قَدَرًا. هُوَ مَرَضٌ يُمْكِنُ عِلَاجُهُ كَمَا تُعَالَجُ بَقِيَّةُ اَلْأَمْرَاضِ، لَكِنْ بِالْوَعْيِ وَالتَّوْجِيهِ.”
ضَحِكَتْ لَيْلَى – اَلْأُمُّ وَالْأَرْمَلَةُ اَلْبَسِيطَةُ اَلَّتِي طَالَمَا كَانَتْ تُرَاجِعُ اَلْإِدَارَةَ لِتَسْتَفْهِمَ عَنْ كُلِّ وَظِيفَةٍ وَمُهِمَّةٍ تَمْ تَكْلِيفُ اِبْنِهَا بِهَا – لِتَكْسِرَ ثِقلَ اَلنِّقَاشِ، وَقَالَتْ بِنَبْرَةٍ خَفِيفَةٍ:
“وَأَحْيَانًا لَا يَعْدُو اَلْغَبَاءُ لَحْظَةَ سَذَاجَةٍ… كُلُّنَا نَقَعُ فِيهَا، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟”
جَلَسَ اَلرَّجُلُ صَامِتًا، يُرَاقِبُ كُلَّ وَجْهٍ، كُلَّ نَبْرَةٍ، كُلَّ حَرَكَةٍ، وَكُلَّ اِبْتِسَامَةٍ، وَيَسْتَعِيدُ نَفْسَهُ فِي شَبَابِهِ، حِينَ كَانَ يَسْعَى لِلْفَهْمِ وَيَتَعَلَّمُ مِنَ اَلْأَخْطَاءِ، وَحِينَ كَانَ غِيَابُهَا يَتْرُكُ كُلَّ شَيْءٍ نَاقِصًا، وَكَأَنَّ اَلْعَالَمَ نَفْسَهُ يَمُرُّ بِجَانِبِهِ بِلا مَعْنًى.
اَلدَّفَاتِرُ اَلْمَفْتُوحَةُ، أَكْوَابُ اَلشَّايِ اَلْمُتَنَاثِرَةُ، اَلصَّمْتُ بَيْنَ اَلْجُمَلِ… كُلُّ شَيْءٍ أَعَادَ لَهُ شُعُورَ اَلْغِيَابِ، وَجَعَلَ قَلْبَهُ يَلْتَقِطُ صَدَى اَلزَّمَنِ اَلضَّائِعِ، وَالصَّوْتَ اَلَّذِي لَمْ يَسْمَعْهُ بَعْدُ، لَكِنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّهُ هُنَاكَ… يَنْتَظِرُ أَنْ يُقَالَ.
أَمَّا فَاطِمَةُ – اَلْمُعَلِّمَةُ اَلْوَاقِعِيَّةُ – فَقَدْ عَقَّبَتْ بِصَرَامَةٍ، عُبُوسُهَا يُثْقِلُ رُمُوشَهَا:
“بَلْ هُوَ أَحْلَامٌ كَبِيرَةٌ تَنْتَهِي بِخَيَبَاتٍ مَرِيرَةٍ.”
مَدَّتْ سُعَادُ – سَيِّدَةُ اَلْأَعْمَالِ اَلَّتِي طَالَمَا قَدَّمَتْ دَعْمًا حَيْثُ يَنْشَأُ أَبْنَاؤُهَا – يَدَهَا إِلَى دَفْتَرِهَا بِحَرَكَةٍ وَاثِقَةٍ، وَعَيْنَاهَا تَلْمَعَانِ بِمِزَاجٍ مِنَ اَلطُّمُوحِ وَالتَّحَدِّي:
“اَلْمَالُ قَدْ يَحْمِينَا مِنَ اَلْغَبَاءِ… لَكِنَّهُ لَا يَحْمِينَا مِنَ اَلسَّذَاجَةِ مَعَ أَنْفُسِنَا أَوْ مَعَ اَلْآخَرِينَ.”
اِبْتَسَمَ رامي – الصَّحَفِيُّ الْجَرِيءُ الَّذِي ما فَتِئَ يُعَقِّبُ عَلَى أَفْكَارِ الرَّجُلِ لَحْظَةً بَعْدَ لَحْظَةٍ – بِسُخْرِيَةٍ، وَهُوَ يُشْعِلُ سِيجَارَةً لَمْ يُكْمِلْهَا، وَعَيْنَاهُ تَتَنَقَّلَانِ بَيْنَ الْوُجُوهِ كَمَنْ يَبْحَثُ عَنْ صِدْقٍ خَفِيٍّ:
“صَحِيحٌ… وَالْغَبِيُّ الْوَظِيفِيُّ مِثْلُ سامر: كَسُولٌ يُعَلِّقُ فَشَلَهُ عَلَى الظُّرُوفِ. أَمَّا الْغَبِيُّ الْعَمَلِيُّ مِثْلُ حُسَيْن: يَرَى الْفِكْرَةَ وَاضِحَةً أَمَامَهُ، لَكِنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَضَعَ رَغِيفًا وَاحِدًا عَلَى الْمَائِدَةِ.”
نادر – الْفَنَّانُ زَمِيلُ مَقْعَدِ الطُّفُولَةِ وَالشَّبَابِ الدِّرَاسِيِّ – أَدَارَ وَجْهَهُ نَحْوَ النَّافِذَةِ، هَارِبًا مِنْ ثِقَلِ الطَّاوِلَةِ، وَعَيْنَاهُ تَتْبَعَانِ ضَوْءَ النَّهَارِ الْمُتَسَلِّلَ بَيْنَ السَّتَائِرِ، قَالَ بِنَبْرَةٍ نِصْفُ سَاخِرَةٍ، نِصْفُ حَالِمَةٍ:
“وَهُنَاكَ الْغَبِيُّ الرَّمْزِيُّ… يَعِيشُ فِي وَهْمِهِ. يَرَى الْحَيَاةَ بِزَاوِيَةٍ شَاعِرِيَّةٍ، ثُمَّ يَضِيعُ بَيْنَ الْوَاقِعِ وَالْخَيَالِ.”
قَالَتْ منى – الْبَاحِثَةُ الْجَامِعِيَّةُ زَمِيلَةُ الدِّرَاسَةِ الْأَكَادِيمِيَّةِ – بِلَهْجَةٍ حَادَّةٍ، وَعَيْنَاهَا مَشْدُودَتَانِ كَأَنَّهُمَا تُرِيدَانِ الْقَبْضَ عَلَى الْمَعْنَى:
“الْغَبَاءُ فِي جَوْهَرِهِ… هُوَ الْعَجْزُ عَنِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الذَّكَاءِ وَالْفِطْنَةِ، بَيْنَ الْمَعْلُومَةِ وَالْمَعْرِفَةِ.”
أَسْنَدَتْ سلمى – الْمُمَرِّضَةُ الْمُسَاعِدَةُ الْأُولَى لِلطَّبِيبَةِ الْمُثَقَّفَةِ – كَفَّيْهَا عَلَى الطَّاوِلَةِ، وَكَتِفَاهَا مَائِلَانِ قَلِيلًا إِلَى الْأَمَامِ، وَأَضَافَتْ بِوَاقِعِيَّةٍ قَاطِعَةٍ:
“أَمَّا فِي الْمُجْتَمَعِ، فَالْغَبَاءُ هُوَ قَسْوَةٌ عَلَى الضُّعَفَاءِ… إِهْمَالٌ لِمَنْ لَا صَوْتَ لَهُمْ.”
ضَحِكَتْ نوال – رَبَّةُ الْمَنْزِلِ الَّتِي أَرَادَتْ أَنْ يَكُونَ لَهَا مُهِمَّةٌ فِيمَا بَيْنَ الْوَظَائِفِ الْإِدَارِيَّةِ – وَأَشَارَتْ بِإِصْبِعِهَا فِي الْهَوَاءِ كَأَنَّهَا تَلْتَقِطُ فِكْرَةً هَارِبَةً:
“وَالْغَبِيُّ أَيْضًا مَنْ يَرَى كُلَّ شَيْءٍ خَطَأً… ثُمَّ يُعِيدُ الْأَخْطَاءَ ذَاتَهَا كَأَنَّهَا هِوَايَةٌ!”
أَمَّا دلال – الْإِعْلَامِيَّةُ الْمُتَتَبِّعَةُ بِإِصْرَارٍ بَالِغٍ لِكُلِّ كَبِيرَةٍ وَصَغِيرَةٍ – فَقَدْ مَسَّدَتْ شَعْرَهَا وَنَظَرَتْ حَوْلَ الطَّاوِلَةِ بِعَيْنَيْنِ تَحْمِلَانِ وَعْيًا مُتَحَدِّيًا:
“وَأَحْيَانًا يَكُونُ الْغَبَاءُ غِطَاءً فَقَطْ… يُجَمِّلُ الْقُبْحَ وَيُخْفِي الْحَقَائِقَ، لِيَبْدُوَ كُلُّ شَيْءٍ فِي مَكَانِهِ الصَّحِيحِ.”
جَلَسَ الرَّجُلُ صَامِتًا، يُرَاقِبُ كُلَّ كَلِمَةٍ، كُلَّ حَرَكَةٍ، وَكُلَّ نَظْرَةٍ. كَانَ يَشْعُرُ بِثِقْلِ التَّجَارِبِ الَّتِي حَمَلَهَا كُلُّ وَجْهٍ، وَبِأَنَّ الْحَدِيثَ عَنِ الْغَبَاءِ لَيْسَ مُجَرَّدَ نَظَرِيَّةٍ، بَلِ انْعِكَاسٌ لِكُلِّ حَيَاةٍ عَاشُوهَا، لِكُلِّ غِيَابٍ وَفَقْدٍ، لِكُلِّ لَحْظَةِ ضعْفٍ وَفَشَلٍ.
وَبَيْنَمَا الْجَمِيعُ يُوَاصِلُ النِّقَاشَ، تَذَكَّرَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ فِي شَبَابِهِ، حِينَ كَانَ يُحَاوِلُ فَهْمَ الْحَيَاةِ، حِينَ كَانَ يُحَاوِلُ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْمَعْرِفَةِ وَالْفِطْرَةِ، حِينَ كَانَ الْغِيَابُ يُشَكِّلُ فَرَاغًا لَا يُمْلَأُ إِلَّا بِالْكِتَابَةِ وَبِالْحُضُورِ الْخَفِيِّ لِمَنْ أَحَبَّ.
أَدَارَ فارس فِنْجَانَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَأَمَّلَ الْقَطَرَاتِ الْمُتَلَأْلِئَةَ عَلَى سَطْحِهِ، ثُمَّ اِبْتَسَمَ اِبْتِسَامَةً رَائِقَةً تَحْمِلُ مِزَاجًا مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّسْلِيمِ:
“رُبَّمَا الْغَبِيُّ… هُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا فِي لَحْظَتِهِ. الْغَبِيُّ الْيَوْمَ قَدْ يَغْدُو ذَكِيًّا غَدًا، وَالذَّكِيُّ غَدًا قَدْ يَسْقُطُ فِي غَبَاءٍ لَا يُغْتَفَرُ.”
أَوْمَأَ أكرم بِرَأْسِهِ، وَعَيْنَاهُ تَجُوسَانِ الْوُجُوهَ كَأَنَّهُمَا تَبْحَثَانِ عَمَّا وَرَاءَ الْكَلِمَاتِ، ثُمَّ قَالَ بِنَبْرَةٍ مَنْهَجِيَّةٍ:
“الْغَبِيُّ لَيْسَ بِلا عَقْلٍ… بَلْ بِلا بُوصلَةٍ. يَسِيرُ حَيْثُ لَا يَنْبَغِي، يَرَى الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ اِنْعِطَافًا، وَالِانْعِطَافَ مُسْتَقِيمًا.”
ضَحِكَ بَعْضُهُمْ، وَخَجِلَ آخَرُونَ، وَغَرِقَ الْبَاقُونَ فِي التَّفْكِيرِ. بَدَا أَنَّ الْغَبَاءَ لَيْسَ مُجَرَّدَ خَطَأٍ فَرْدِيٍّ، بَلْ مِرْآةٌ تَعْكِسُ عُيُوبَ الْبَشَرِ جَمِيعًا… وَرُبَّمَا طَرَافَةَ الْحَيَاةِ نَفْسِهَا.
هَبَطَ صَمْتٌ ثَقِيلٌ عَلَى الْغُرْفَةِ، ضَغَطَ الصُّدُورَ وَأَثْقَلَ الْأَنْفَاسَ، حَتَّى كَادَ الْحُضُورُ يَغِيبُ دُونَ اكْتِمَالِ الصُّورَةِ.
ظَلَّ صَوْتُ أَنْفَاسِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ يَعْلُو، وَفِي دَاخِلِهِ كَانَ صَوْتٌ آخَرُ يَتَجَوَّلُ فِي دَهَالِيزِ نَفْسِهِ، كَأَنَّهُ يُفَتِّشُ عَنْ حَقِيقَةٍ ضَيَّعَهَا بِالْهَرَبِ:
“أَتُرَانِي أَمَامَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي بَعْثَرْتُهَا فِي الطَّرِيقِ؟
كُلَّمَا قُلْتُ: سَأَكُونُ أَقْوَى… فَقَدْتُ جُزْءًا مِنِّي؟
أَمْ أَنَّ ذَاكِرَتِي عَادَتْ لِتُحَاسِبَنِي عَلَى مَا تَعَمَّدْتُ نِسْيَانَهُ؟
مَنْ الذي اِنْتَزَعَ الْقَلَمَ مِنْ يَدِي؟ مَنْ أَقْنَعَنِي بِالصَّمْتِ؟ وَمَنْ مَحَا نَصِّي قَبْلَ أَنْ يُكْتَبَ كَامِلًا؟”
تَسَاءَلَ فِي صَمْتٍ، هَلْ كَانَ يُخَاطِبُ الْغَيْبَ؟ أَمْ يُصْغِي إِلَى مَا يَخْشَاهُ مُنْذُ سِنِينَ؟ وَالْأَخْطَرُ مِنْ ذَلِكَ: هَلْ ثَمَّةَ جَوَابٌ أَصْلًا؟
جَلَسَ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى الْمَقْعَدِ، الصَّمْتُ يُحِيطُ بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَالذِّكْرَيَاتُ تَتَسَلَّلُ إِلَى كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْ نَفْسِهِ. شُعُورٌ بِالْغُمُوضِ وَالْحَنِينِ، خَلِيطٌ مِنَ الْخَوْفِ وَالرَّغْبَةِ فِي مُوَاجَهَةِ مَا ضَاعَ، جَعَلَ قَلْبَهُ يُرَفْرِفُ فِي صَمْتٍ مُثْقَلٍ بِأَوْزَارِ سِنِينَ طَوِيلَةٍ.
لَمْ يُجِبِ الشَّابُّ الْجَالِسُ قُبَالَتَهُ. اِكْتَفَى بِسَحْبِ جَسَدِهِ النَّحِيلِ إِلَى الْكُرْسِيِّ الْمُقَابِلِ، تَرْتَعِشُ يَدَاهُ قَلِيلًا قَبْلَ أَنْ تَمْتَدَّا نَحْوَ الْحَدِيقَةِ بِلا هَدَفٍ مُحَدَّدٍ. لَمْ يُشِرْ إِلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، بَلْ إِلَى الْفَرَاغِ ذَاتِهِ، كَأَنَّ الْفَرَاغَ يَحْوِي كُلَّ الْأَجْوِبَةِ الَّتِي لَمْ يسْتطعْ أَيُّ صَوْتٍ أَنْ يَنْطِقَ بِهَا.
عَيْنَاهُ قَالَتَا مَا لَمْ يَقُلْهُ لِسَانُهُ:
“اُنْظُرْ…”
لَمْ يَكُنْ صَوْتًا حَقِيقِيًّا، بَلْ رَجْعًا دَاخِلِيًّا، كَأَنَّ الْكَلِمَةَ اِنْبَثَقَتْ فِي رَأْسِهِ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَى أُذُنِهِ.
وَفَجْأَةً، تَسَلَّلَتْ خُطُوَاتٌ بَاهِتَةٌ مِنْ بَيْنِ الْأَشْجَارِ؛ لَمْ تَطْرُقِ الْأَرْضَ، بَلْ بَدَتْ كَأَنَّهَا تَنْبُتُ مِنْهَا.
تَسَاءَلَ فِي صَمْتٍ: “أَيَسْمَعُهَا وَحْدَهُ؟ أَمْ أَنَّ الصَّمْتَ بَيْنَهُمَا صَارَ أُذُنًا ثَالِثَةً تَسْتَمِعُ عَنْهُمَا؟”
اِنْشَقَّ الْهَوَاءُ عَنْ ظِلٍّ مُثْقَلٍ بِالْهَزَائِمِ، وَتَكَشَّفَ الْمَشْهَدُ بِبُطْءٍ.
وَأَوَّلُ الْوَاصِلِينَ… اِمْرَأَةٌ.
شَعْرُهَا مَنْكُوشٌ كَأَغْصَانٍ عَطْشَى، وَعَيْنَاهَا تَنُوبَانِ عَنْ كُلِّ كَلَامٍ. نَظْرَتُهَا مَثْقُوبَةٌ بِالْخُذْلَانِ، تَسْأَلُ بِلَا صَوْتٍ:
“أَيْنَ كُنْتَ حِينَ سَقَطْتُ؟ وَلِمَاذَا تَرَكْتَ الْبَابَ مُوَاربًا؟”
لَمْ تَتَكَلَّمْ؛ لَمْ تَكُنْ بِحَاجَةٍ. جَسَدُهَا كُلُّهُ كَانَ يَصْرُخُ بِاللَّوْمِ، وَحَرَكَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْهَا أَعَادَتْ لِلرَّجُلِ سَنَوَاتٍ مِنَ الْغِيَابِ وَالْخُذْلَانِ.
ثُمَّ تَبِعَهَا رَجُلٌ طَوِيلُ الْقَامَةِ، يَخْطُو مُسْرِعًا كَأَنَّهُ يَحْسُبُ خُطُوَاتِهِ وَاحِدَةً وَاحِدَةً. عَبَاءَتُهُ الرَّمَادِيَّةُ تُلَامِسُ أَطْرَافَ الْعُشْبِ، وَصَمْتُهُ يَرِنُّ كَطَنِينِ الْحِكْمَةِ. فِي يَدِهِ كِتَابٌ سَمِيكٌ، تَتَدَلَّى مِنْ بَيْنِ صَفَحَاتِهِ إِشَارَاتٌ مُلَوَّنَةٌ، بَقَايَا قِرَاءَاتٍ لَمْ تَكْتَمِلْ، أَوْ عَلَامَاتٌ عَلَى طَرِيقٍ يَخْشَى أَنْ تُـمْحَى.
شَعَرَ الرَّجُلُ الْجَاثِمُ عَلَى الْمَقْعَدِ بِاِنْقِبَاضٍ غَامِضٍ: أَهُمْ غُرَبَاءُ جَاءُوا إِلَيْهِ؟ أَمْ أَنَّ أَطْيَافًا خَرَجَتْ مِنْ دَاخِلِهِ لِتُطَالِبَهُ بِمَا تَهَرَّبَ مِنْ سَمَاعِهِ؟ لَمْ يَجْرُؤْ أَنْ يَرْفَعَ نَظَرَهُ؛ غَاصَ فِي دَاخِلِهِ وَسَأَلَ نَفْسَهُ:
“هَلْ هُمْ حَقًّا هُنَا؟ أَمْ فَتَحْتُ الْبَابَ الْخَطَأَ فِي ذَاكِرَتِي؟”
اِلْتَفَتَ إِلَى الْفَتَى كَمَنْ يَسْتَنْجِدُ بِسُؤَالِهِ: “مَنْ هُمْ؟”
لَكِنَّ الْفَتَى اكْتَفَى بِاِبْتِسَامَةٍ غَامِضَةٍ، كَأَنَّهُ يَعْرِفُ أَكْثَرَ مِمَّا يبُوحُ.
وَفَجْأَةً، بَدَتِ الْحَدِيقَةُ تَسْتَدِيرُ كَخَشَبَةِ مَسْرَحٍ؛ سَتَائِرُ تَتَحَرَّكُ بِبُطْءٍ، وَضَوْءٌ خَافِتٌ يَنْسَابُ مِثْلَ خَيْطٍ مِنَ الذَّاكِرَةِ، وَالطَّاوِلَةُ الْخَشَبِيَّةُ الْقَدِيمَةُ عَادَتْ لِتَجْمَعَهُمْ.
جَلَسُوا فِي أَمَاكِنِهِمْ، وَجَلَسَ هُوَ عَلَى الْحَافَّةِ؛ لَا كَأَحَدِهِمْ، بَلْ كَضَيْفٍ فِي مَجْلِسٍ دَاخِلَ رَأْسِهِ هَذِهِ الْمَرَّةَ، يَتَأَمَّلُ حُضُورَهُمْ كَأَنَّهُمْ تَجْسِيدٌ لِذِكْرَيَاتٍ وَمَشَاعِرَ لَمْ يُصَرِّحْ بِهَا مِنْ قَبْلُ.
فَتَحَ فَارِسٌ الْحَدِيثَ، صَوْتُهُ هَادِئٌ كَنَسِيمٍ يُحَرِّكُ أَوْرَاقًا قَدِيمَةً، يُعِيدُ تَرْتِيبَهَا فِي الْهَوَاءِ قَبْلَ أَنْ تَسْقُطَ عَلَى الْأَرْضِ:
“إِذَا تَجَاوَزْنَا الْغَبِيَّ، فَهُنَاكَ دَرَجَاتٌ قَرِيبَةٌ مِنْهُ… لِكُلِّ دَرَجَةٍ مَلَامِحُهَا الْخَاصَّةُ.”
قَالَ مَحْمُودٌ، وَهُوَ يَسْتَنِدُ إِلَى الْمَقْعَدِ بِاِبْتِسَامَةٍ تَجْمَعُ بَيْنَ الْوَدَاعَةِ وَالْجَزْمِ:
“الْأَجْدَبُ… عَقْلٌ كَالْأَرْضِ الْبَائِرَةِ. لَا يُنْبِتُ فِكْرًا أَصْلًا. لَا يُخْطِئُ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ شَيْئًا لِيُخْطِئَ فِيهِ. سَاكِنٌ… لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ. أَشْبَهُ بِالْقَبْرِ الصَّامِتِ.”
رَفَعَ يُوسُفُ حَاجِبَهُ فِي اِعْتِرَاضٍ سَاخِرٍ، وَصَوْتُهُ يَمْزِجُ بَيْنَ الْمِزَاحِ وَالْجِدِّ:
“أَمَّا الْأَبْلَهُ… فَعَقْلٌ طُفُولِيٌّ. يُدْرِكُ نِصْفَ الْمَعْنَى وَيَتْرُكُ نِصْفَهُ، يخْلِطُ الْجِدَّ بِالْهَزْلِ وَالْخَطِيرَ بِالْهَيِّنِ. بَرِيءٌ فِي جَهْلِهِ، يُضْحِكُ النَّاسَ أَكْثَرَ مِمَّا يُغْضِبُهُمْ. أَحْيَانًا تَتَسَاءَلُ: هَلْ نَضْحَكُ عَلَيْهِ أَمْ مَعَهُ؟”
أَكْرَمُ عَدَّلَ نَظَّارَتَهُ، وَنَظَرَ نَحْوَ نَادِرٍ كَمَنْ يَشْرَحُ لِصَفٍّ غَائِبٍ:
“وَالْمَعْتُوهُ… عَقْلٌ مَكْسُورٌ. مُضْطَرِبُ التَّوَازُنِ، يَقْفِزُ مِنْ فِكْرَةٍ إِلَى أُخْرَى بِلَا رَابِطٍ، يَلْهَثُ وَرَاءَ ظِلِّهِ. لَا يَعْرِفُ مَتَى يَبْدَأُ وَلَا مَتَى يَنْتَهِي. كَأَنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ فَوْضَى بِالنِّسْبَةِ لَهُ.”
عَادَ الصَّمْتُ لِيَتَرَاكَمَ فِي الْحَدِيقَةِ حَتَّى صَارَ لَهُ وَزْنٌ مَحْسُوسٌ، يُثْقِلُ الْهَوَاءَ وَيَضْغَطُ عَلَى الصُّدُورِ. جَلَسَ الرَّجُلُ فِي مُنْتَصَفِ عتْمَةٍ مِنْ فَوْضَى الْإِحْسَاسِ بِالْوَقْتِ وَالْمَكَانِ، صَدْرُهُ يَعْلُو وَيَهْبِطُ بِتَثَاقُلٍ، كَأَنَّ كُلَّ شَهِيقٍ وَزَفِيرٍ يُذَكِّرُهُ بِمَا فَاتَ وَمَا تَأَخَّرَ. الضَّوْءُ الشَّاحِبُ مِنَ الصَّبَاحِ يَتَسَلَّلُ بَيْنَ جُذُوعِ الْأَشْجَارِ، يَرْسُمُ ظِلَالًا مَمْدُودَةً، أَشْخَاصًا يَخْرُجُونَ مِنْ دَاخِلِهِ لَا مِنْ حَوْلِهِ، تُرَافِقُهُ الذِّكْرَيَاتُ وَهَمَسَاتُ الْمَاضِي.
فَجْأَةً بَرَزَتِ ابْتِسَامَةٌ حَازِمَةٌ عَلَى وَجْهٍ يَعْرِفُهُ، وَجْهُ هُدَى. لَمْ يَكُنْ مُتَأَكِّدًا إِنْ كَانَتْ تَجْلِسُ حَقًّا أَمَامَهُ، أَمْ أَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ ذَاكِرَتِهِ الْقَدِيمَةِ لِتَتَحَدَّثَ الْآنَ بِصَوْتِ الطَّبِيبِ الَّذِي يَقْرَأُ سَرَائِرَ النَّفْسِ:
“السَّاذَجُ… عَقْلُهُ نَقِيٌّ لَكِنَّهُ هَشٌّ. يُصَدِّقُ كُلَّ مَا يُقَالُ لَهُ كَمَا يُصَدِّقُ الطِّفْلُ الْحِكَايَةَ. لَيْسَ غَبِيًّا تَمَامًا، لَكِنَّهُ ضَعِيفُ الْحِيلَةِ أَمَامَ الْمَكْرِ. يُخْدَعُ بِسُهُولَةٍ… ثُمَّ يُعِيدُ الْخَدِيعَةَ فِي صُورَةِ ثِقَةٍ عَمْيَاءَ. هَذَا لَا يَحْتَاجُ لِعِقَابٍ، بَلْ لِوَعْيٍ يُوقِظُهُ.”
جَلَسَ الرَّجُلُ صَامِتًا، يَسْتَمِعُ لِكُلِّ كَلِمَةٍ، وَكَأَنَّهَا تَتَسَلَّلُ إِلَى أَعْمَقِ زَاوِيَةٍ مِنْ ذَاتِهِ، فَتُعِيدُ تَرْتِيبَ أَفْكَارِهِ، وَتُوقِظُهُ مِنْ سُبَاتٍ طَوِيلٍ امْتَدَّ بَيْنَ الْغِيَابِ وَالْحَنِينِ وَالْخَوْفِ مِنْ مُوَاجَهَةِ الْحَقِيقَةِ.
قَالَ صَوْتٌ رَقِيقٌ، كَنَسْمَةٍ تَسَلَّلَتْ مِنْ نَافِذَةٍ مُغْلَقَةٍ:
“الْبَلِيدُ… بَطِيءُ الْحَرَكَةِ.
يَتَلَقَّى الْفِكْرَةَ كَمَا يَتَلَقَّى الطِّينُ الْمَطَرَ.
يَمْتَصُّهَا بِبُطْءٍ، لَكِنَّهُ لَا يُثْمِرُ زَهْرًا وَلَا ثَمَرًا.
لَا يُخْطِئُ كَثِيرًا، لَكِنَّهُ يُفَوِّتُ أَوَانَ الْفِعْلِ، وَكَأَنَّ الزَّمَنَ يَمُرُّ أَمَامَهُ دُونَ أَنْ يَلْمَسَهُ.”
ثُمَّ دَوَّتْ فِي الْحَدِيقَةِ ضَحْكَةٌ قَصِيرَةٌ، مُتَقَطِّعَةٌ كَشَرَارَةٍ. كَانَ ذَلِكَ صَوْتَ رَامِي، الصَّحَفِيِّ، يُطِلُّ بِوَجْهٍ سَاخِرٍ، وَعَيْنَانِ جَائِعَتَانِ لِلتَّجْرِيبِ:
“أَمَّا الْمُغَفَّلُ… فَعَقْلٌ مَثْقُوبٌ.
يَعْرِفُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، لَكِنَّهُ يَتْرُكُ ثَغَرَاتٍ وَاسِعَةً يَدْخُلُ مِنْهَا الْخِدَاعُ.
قَدْ يَبْدُو ذَكِيًّا فِي مَوْقِفٍ، لَكِنَّهُ فِي اللَّحْظَةِ الْحَرِجَةِ يُصْبِحُ فَرِيسَةً سَهْلَةً.”
تَبِعَ الضَّحْكَةَ وَقْعُ كُوبٍ يُلْقَى عَلَى الطَّاوِلَةِ بِحِدَّةٍ. كَانَ ظِلُّ سُعَادَ، سَيِّدَةِ الْأَعْمَالِ، يُحَدِّقُ فِيهِ بِصَرَامَةٍ:
“لَيْسَتْ غَبَاءً مُطْلَقًا، بَلْ أَقْنِعَةً.
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا قَدْ يَرْتَدِي قِنَاعَهَا فِي لَحْظَةِ ضَعْفٍ، وَهُوَ يَظُنُّ نَفْسَهُ بَعِيدًا عَنْهَا.”
وَأَخِيرًا، بَرَزَ مِنَ الْعَتْمَةِ وَجْهُ مُنَى، الْبَاحِثَةِ الْجَامِعِيَّةِ، عَيْنَانِ لَامِعَتَانِ خَلْفَ نَظَّارَةٍ ضَيَّقَتِ الْمَسَافَةَ بَيْنَ الصَّوْتِ وَالْجَسَدِ. ارْتَفَعَ صَوْتُهَا كَأَنَّهُ خُلَاصَةُ الْجَدَلِ كُلِّهِ:
“الْأَجْدَبُ يَحْتَاجُ مَعْرِفَةً، الْأَبْلَهُ يَحْتَاجُ صَبْرًا، الْمَعْتُوهُ يَحْتَاجُ ضَبْطًا، السَّاذَجُ يَحْتَاجُ تَنْبِيهًا، الْبَلِيدُ يَحْتَاجُ اسْتِعْجَالًا، وَالْمغفَّلُ يَحْتَاجُ رِقَابَةً.
لِكُلِّ دَرَجَةٍ دَوَاؤُهَا الْمُخْتَلِفُ.”
أَحَسَّ الرَّجُلُ أَنَّ أَجْذَاعَ الْأَشْجَارِ، وَأَنَّ الْأَصْوَاتَ تَتَقَاطَعُ فِي رَأْسِهِ كَأَنَّهَا مَحْكَمَةٌ سِرِّيَّةٌ نُصِبَتْ دَاخِلَهُ. ظَلَّ يُرَدِّدُ فِي صَمْتٍ مُرْتَجِفٍ:
“هَلْ كُنْتُمْ تَقْصِدُونَنِي أَنَا… أَمْ أَحَدًا مَرَّ بِمَا مَرَرْتُ بِهِ مَعَكُمْ؟ أَمْ لَعَلَّكُمْ أَصْدَرْتُمْ أَحْكَامَكُمْ فِي النِّهَايَةِ… كَوْنِي أَقنعَتُكُمْ جَمِيعًا بِبَسَاطَتِي الَّتِي قَرَأْتُمُوهَا مِنْ خِلَالِ رُدُودِي لِأَفْعَالِكُمْ؟”
هُنَاكَ، فِي الْخَلْفِ، تَحَرَّكَ الظِّلُّ بِبُطْءٍ، حَتَّى تَكَوَّنَ فِي هَيْئَةِ طِفْلٍ صَغِيرٍ يَحْبُو. لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ الرَّجُلُ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْطِقْ، لَكِنَّ الطِّفْلَ وَقَفَ بِصَلَابَةٍ غَامِضَةٍ، كَمَنْ يَعْرِفُ أَنَّ حُضُورَهُ وَحْدَهُ يَكْفِي لِيَحْسِمَ الْمَشْهَدَ.
تَرَدَّدَ قَلْبُ الرَّجُلِ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالدَّهْشَةِ عِنْدَمَا رَآهُ. شَيْءٌ مَا فِي مَلَامِحِ الطِّفْلِ كَانَ مَأْلُوفًا عَلَى نَحْوٍ مُوْجِعٍ: الْعَيْنَانِ الْوَاسِعَتَانِ، ارْتِجَافَةُ الْأَصَابِعِ، حَتَّى طَرِيقَةُ الْوُقُوفِ الْمَائِلَةُ قَلِيلًا. لَقَدْ رَآهَا مِنْ قَبْلُ… فِي صُوَرٍ قَدِيمَةٍ، فِي مَرَايَا مُهْمَلَةٍ، وَرُبَّمَا فِي أَحْلَامٍ لَمْ يَجْرُؤْ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِهَا.
شَعَرَ أَنَّ الْأَصْوَاتَ جَمِيعَهَا — ضَحِكَةُ نَوَالٍ، حِدَّةُ دَلَالٍ، سُخْرِيَّةُ الصَّوْتِ الْخَفِيِّ، وَحَتَّى تَشْخِيصُ هُدَى وَتَحْلِيلُ مُنَى — لَمْ تَكُنْ إِلَّا وُجُوهًا خَرَجَتْ لِتَتَحَدَّثَ عَنْ ذَلِكَ الطِّفْلِ، أَوْ كَأَنَّهَا تَحَوَّلَتْ إِلَى أَقْنِعَةٍ نَسَجَهَا كُلٌّ مِنْهُمْ لِرُؤْيَةِ مَلَامِحِهِ الْأُولَى.
هَمَسَ لِنَفْسِهِ، وَصَوْتُهُ يَتَرَنَّحُ بَيْنَ الِانْكِسَارِ وَالِاكْتِشَافِ:
“كُلُّهُمْ يَتَحَدَّثُونَ عَنْكَ أَنْتَ… وَكُلُّهُمْ قَصَدَنِي أَنَا.
مُنْذُ تِلْكَ الطُّفُولَةِ، وَأَنَا أَجُرُّ هَذِهِ الْأَصْوَات خَلْفِي. لَمْ أَهْرُبْ مِنْهَا قَطُّ، كُنْتُ أَرْتَدِيهَا وَاحِدًا بَعْدَ آخَرَ… لَكِنِّي مَا نَسِيتُ مَنْ كُنْتُ فِي الْأَصْلِ.”
أَحْنَى رَأْسَهُ، وَالطِّفْلُ ظَلَّ وَاقِفًا، لَا يَتَحَرَّكُ، لَكِنَّهُ بَدَا فَجْأَةً أَكْبَرَ مِنْ حَجْمِهِ، أَعْمَقَ مِنْ صَمْتِهِ. صَارَ أَشْبَهَ بِمِفْتَاحٍ يَفْتَحُ أَبْوَابًا لَمْ يَجْرُؤْ عَلَى طَرْقِهَا مِنْ قَبْلُ.
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ أَدْرَكَ الرَّجُلُ أَنَّ أَصْلَ الْحِكَايَةِ لَيْسَ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي تُحِيطُ بِهِ، وَلَا فِي الْأَصْوَاتِ الَّتِي تُحَاكِمُهُ… بَلْ فِي ذَلِكَ الطِّفْلِ، فِي تِلْكَ الْبذْرَةِ الْأُولَى حَيْثُ بَدَأَ كُلُّ شَيْءٍ.
ضَحِكَةٌ خَفِيفَةٌ تَسَلَّلَتْ إِلَى فَضَاءِ الْحَدِيقَةِ، أَشْبَهُ بِطَنِينِ نَحْلَةٍ يَتَهَكَّمُ فِي صَمْتٍ ثَقِيلٍ. كَانَتْ نَوَالٌ، رَبَّةُ الْمَنْزِلِ، قَدْ أَمَالَتْ رَأْسَهَا وَضَحِكَتْ كَمَنْ يَكْشِفُ سِتْرًا سَاذَجًا، وَقَالَتْ بِصَوْتٍ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْجُدْرَانِ:
“إِذَنْ الْغَبَاءُ لَيْسَ شَخْصًا وَاحِدًا، بَلْ لَوْحَةٌ كَامِلَةٌ مِنَ الْأَقْنِعَةِ… كُلٌّ مِنْهَا يُطِلُّ بِحَسَبِ الظَّرْفِ وَالْمَوْقِفِ.”
لَمْ تَكَدِ الْكَلِمَاتُ تَهْدَأُ حَتَّى مَالَتْ دَلَالٌ، الْإِعْلَامِيَّةُ، إِلَى الْأَمَامِ، شَبَكَتْ أَصَابِعَهَا عَلَى الطَّاوِلَةِ، وَعَيْنَاهَا تُحَدِّقَانِ فِي صَمْتِ الْآخَرِينَ بِثِقَةِ مَنْ يَعْرِفُ مَوْضِعَ السَّهْمِ قَبْلَ إِطْلَاقِهِ:
“وَالْإِنْسَانُ حِينَ يَرَى نَفْسَهُ فِي أَحَدِ هَذِهِ الْأَقْنِعَةِ، عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ:
هَلْ هُوَ ضَحِيَّةُ الْغَبَاءِ… أَمْ صَانِعُ أَخْطَائِهِ بِيَدِهِ؟”
سَرَتْ فِي الْحَدِيقَةِ قشْعُرِيرَةٌ خَافِتَةٌ. بَدَا الْمَكَانُ مُمتَلِئًا بِمَرَايَا غَيْرِ مَرْئِيَّةٍ، كُلُّ وَاحِدَةٍ تعَكِّسُ وَجْهًا آخَرَ لِلْحَاضِرِينَ. الرَّجُلُ فِي مَقْعَدِهِ أَحَسَّ أَنَّ تِلْكَ الْوُجُوهَ لَا تُطِلُّ مِنْ حَوْلِهِ، بَلْ تَنْبَثِقُ مِنْ دَاخِلِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ جَسَدُهُ قَاعَةً وَاسِعَةً يَجْلِسُ فِيهَا هَؤُلَاءِ جَمِيعًا.
وَفَجْأَةً انْشَقَّ السُّكُونُ، وَانْبَثَقَ مِنَ الظِّلَالِ صَوْتٌ سَاخِرٌ، قَصِيرُ الْعِبَارَةِ، طَوِيلُ الْأَثَرِ، كَحَجَرٍ يُقْذَفُ فِي بُرْكَةِ طُمَأْنِينَتِهِ الصَّغِيرَةِ:
“عُدْتَ تَرْكُضُ؟ كَأَنَّكَ لَمْ تَتَعَلَّمْ بَعْدُ!”
لَمْ يَظْهَرْ وَجْهٌ، لَكِنَّ السُّخْرِيَّةَ وَحْدَهَا رَسَمَتْ مَلَامِحَهُ: حَاجِبَانِ مَائِلَانِ، وَفَمٌ مُنْكَمِشٌ مِنْ كَثْرَةِ الضَّحِكِ عَلَى فَشَلٍ مُتَكَرِّرٍ.
ارْتَعَشَ قَلْبُ الرَّجُلِ، وَتَسَاءَلَ فِي دَاخِلِهِ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ وَحْدَهُ:
“أَهَذَا آخِرُكُمْ؟ أَمْ هُوَ أَوَّلُكُمْ؟
أَمْ أَنَّنِي لَمْ أَصِلْ بَعْدُ إِلَى أَصْلِ الْحِكَايَةِ؟”
هُنَاكَ، فِي مُؤَخّرَةِ الْحَدِيقَةِ، وَقَفَ الطِّفْلُ بِبُطْءٍ. لَمْ يَلْتَفِتْ. كَانَ سَاكِنًا كَمَا لَوْ يَعْرِفُ أَنَّ الصَّوْتَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى جَسَدٍ… فَهُوَ مُقِيمٌ فِيهِ، يَسْكُنُهُ فِي مَكَانٍ غَامِضٍ، بَيْنَ ذَاكِرَتِهِ وَخَوْفِهِ.
أَحَسَّ الرَّجُلُ لَحْظَتَهَا أَنَّ الْحَلقَةَ اكْتَمَلَتْ، وَأَنَّ كُلَّ الْأَصْوَاتِ الَّتِي تَزَاحَمَتْ حَوْلَهُ لَمْ تَكُنْ إِلَّا طَبَقَاتٍ تَتَقَشَّرُ عَنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ… هُوَ وَجْهُهُ.
قَالَ الصَّوْتُ مِنْ عُمْقِ الظِّلِّ، كَأَنَّهُ يُعْلِنُ حُكْمًا لَا مَفَرَّ مِنْهُ:
“وَهَا هُمْ يَتَقَاطَرُونَ:
مِنْ دَفَاتِرِكَ الْقَدِيمَةِ الَّتِي اصْفَرَّتْ حَوَافُّهَا، وَهِيَ تَنْتَظِرُ أَنْ تُنْهِيَ مَا بَدَأْتَ،
مِنْ جِرَاحٍ تُرِكَتْ لِتَتَقَيَّحَ فِي صَمْتٍ،
مِنْ خَوَاطِرَ لَمْ يُسْمَحْ لَهَا أَنْ تُكْتَبَ، لِأَنَّ الْحِبْرَ كَانَ أَشَدَّ مِنَ الْوَجَعِ،
مِنْ لَحَظَاتِ تَرَدُّدٍ بَقِيَتْ مُعَلَّقَةً بَيْنَ ‘نَعَمْ’ لَمْ تَقُلْهَا، وَ’لَا’ لَمْ تُصَادِقْ عَلَيْهَا نَفْسُكَ.
كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَحْمِلُ شَيْئًا مِنْكَ… جُزْءًا نَسِيتَهُ، أَوْ جُزْءًا تَظَاهَرْتَ بِنِسْيَانِهِ.”
وَفَجْأَةً، كَأَنَّ الْمَشْهَدَ انْقَلَبَ صَفْحَةً فِي كِتَابٍ:
خَمْسَةَ عَشَرَ طَالِبًا وَطَالِبَةً جَلَسُوا فِي قَاعَةٍ بَيْضَاءَ الْجُدْرَانِ، الْمَقَاعِدُ نِصْفُ دَائِرِيَّةٍ تُوَاجِهُ منْصَّةً تَنْتَظِرُ الْكَلِمَةَ الْأُولَى. الضَّوْءُ يَتَسَلَّلُ مِنَ النَّوَافِذِ الْكَبِيرَةِ، يَلْمَعُ عَلَى دَفَاتِرِهِمْ وَأَقْلَامِهِمْ، وَيَكْشِفُ وُجُوهَهُمُ الْمُخْتَلِفَةَ: بَعْضُهُمْ مُتَحَمِّسٌ، بَعْضُهُمْ مُتَرَدِّدٌ، وَكَأَنَّ الْقَاعَةَ نَفْسَهَا تُشَارِكُهُمُ الْحَيْرَةَ.
الفصل التاسع
دَخَلَ الْأُسْتَاذُ بِخُطُوَاتٍ وَاثِقَةٍ، يَحْمِلُ نَظَّارَتَهُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَوَقَفَ أَمَامَهُمْ، صَوْتُهُ ثَابِتٌ وَهَادِئٌ:
“مهِمَّتُكُمْ لِهَذَا الْفَصْلِ لَيْسَتْ تَقَارِيرَ مَحْفُوظَةً، بَلْ بَحْثٌ حَيٌّ.
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ سَيُخَطِّطُ لِأُطْرُوحَتِهِ النِّهَائِيَّةِ كَمَا لَوْ كَانَ يُدَافِعُ عَنْهَا أَمَامَ لَجْنَةٍ.”
تَوَقَّفَ لَحْظَةً، وَعَيْنَاهُ تَجُولَانِ عَلَى وُجُوهِ الطُّلَّابِ، ثُمَّ أَضَافَ بِابْتِسَامَةٍ هَادِئَةٍ، تُخَفِّفُ مِنْ رَهْبَةِ الْمَكَانِ:
“بَعْدَ ذَلِكَ سَنَجْمَعُ الرَّسَائِلَ، لِنَرَى الْقَوَاسِمَ الْمُشْتَرَكَةَ وَنُبْرِزَ الْفَوَارِقَ الدَّقِيقَةَ.
وَلَنْ يَكُونَ الْبَحْثُ نَظَرِيًّا فَقَطْ: عَلَيْكُمْ أَنْ تَأْتُوا بِمِثَالٍ مِنَ الْوَاقِعِ، وَتُجَسِّدُوهُ فِي صُورَةٍ، أَوْ حِكَايَةٍ، أَوْ حَتَّى شَخْصٍ… لَكِنْ بِأَسْمَاءٍ مُسْتَعَارَةٍ مِنْ عَالَمِ الْحَيَوَانِ أَوِ النَّبَاتِ.
لَنْ نَعْرِفَ ‘أَحْمَدَ’ أَوْ ‘لَيْلَى’، بَلْ ‘النَّسْرَ’ وَ’السُّوسَنَةَ’ وَ’الثَّعْلَبَ’ وَ’شَجَرَةَ التِّينِ’.”
سَادَ الصَّمْتُ لَحْظَةً، ثُمَّ انْطَلَقَتِ ابْتِسَامَاتٌ مُتَرَدِّدَةٌ وَهَمَسَاتٌ قَصِيرَةٌ. بَعْضُهُمْ رَأَى التَّكْلِيفَ لُعْبَةً مُسَلِّيَةً، فِيمَا انْعَكَسَ عَلَى وُجُوهِ آخَرِينَ ثِقلٌ مُفَاجِئٌ.
بَدَأَتِ الْأَقْلَامُ تَتَحَرَّكُ، وَكُلُّ قَلَمٍ يَسْرُدُ قِنَاعًا مُخْتَلِفًا:
السُّلْحُفَاةُ: بَطِيئَةُ التَّفْكِيرِ، مُتَأَنِّيَةٌ فِي حُجَّتِهَا، لَكِن صَبْرهَا أَطْوَلُ مِنْ عَجَلَةِ الزَّمَنِ نَفْسِهِ. فَارِسٌ، الْمُوَظَّفُ الْمُتَقَاعِدُ، وَجَدَ نَفْسَهُ فِيهَا وَهَمَسَ:
“الصَّبْرُ أَحْيَانًا يُعَلِّمُ أَكْثَرَ مِمَّا تَفْعَلُ السُّرْعَةُ.”
السُّنُونُو: سَرِيعَةُ الْبَدِيهَةِ، تَقْفِزُ مِنْ فِكْرَةٍ إِلَى أُخْرَى كَشَرَارَةٍ لَا تَسْتَقِرُّ، تُضِيءُ لَحْظَةً ثُمَّ تَنْطَفِئُ. هُدَى، الطَّبِيبَةُ الْمُثَقَّفَةُ، أَمَالَتْ رَأْسَهَا وَقَالَتْ:
“النُّبُوغُ بِلَا تَوْجِيهٍ يَتَحَوَّلُ إِلَى فَوْضَى… لَكِنَّهُ يَظَلُّ بَرِيقًا يُلْتَقَطُ.”
الصَّبَّارُ: صَامِتٌ، قَلِيلُ الْكَلَامِ، يَزِنُ الْعَالَمَ بِمِيزَانٍ خَفِيٍّ قَبْلَ أَنْ يَنْطِقَ. أَكْرَمُ، الْأُسْتَاذُ الْجَامِعِيُّ، أَوْمَأَ بِرَأْسِهِ:
“الثَّبَاتُ عَلَى الْحَقِّ أَحْيَانًا أَثْمَنُ مِنْ كُلِّ الْخِطَابَاتِ.”
الْيَاسْمِينَةُ: مُتَدَفِّقَةُ الْعَاطِفَةِ، تَفُوحُ كَلِمَاتُهَا كَالْعِطْرِ، تَجْذِبُ الْقُلُوبَ حَتَّى لَوْ أَعْجَزَتِ الْعُقُولَ. لَيْلَى، الْأُمُّ الْأَرْمَلَةُ الْبَسِيطَةُ، ابْتَسَمَتْ:
“الْعَاطِفَةُ تَصْنَعُ الْمُعْجِزَاتِ، لَكِنَّهَا تَحْتَاجُ حُدُودًا كَيْ لَا تُغْرِقَ صَاحِبَهَا.”
وَتَوَالَتِ الْأَسْمَاءُ كَمَا لَوْ أَنَّ الْقَاعَةَ تَحَوَّلَتْ إِلَى غَابَةٍ مِنَ الرُّمُوزِ:
النَّسْرُ: حَادُّ الرُّؤْيَةِ، نَافِذُ الْبَصِيرَةِ، لَكِنَّهُ سَرِيعُ الْغَضَبِ… صُورَةٌ عَنْ رَامِي الصَّحَفِيِّ حِينَ يَفْضَحُ تَنَاقُضَاتِ الْوَاقِعِ بِلَا تَرَوٍّ.
الثَّعْلَبُ: مَاكِرٌ، بَارِعٌ فِي التَّخْطِيطِ، لَكِنْ مَكَائِدُهُ تَجُرُّهُ إِلَى هَاوِيَةٍ يَصْنَعُهَا بِيَدِهِ… كَيُوسُفَ السِّيَاسِيِّ، يَلْمَعُ بِالْكَلَامِ لَكِنَّهُ يَعْجِزُ عَنِ الْفِعْلِ.
الشَّجَرَةُ: ثَابِتَةٌ، صَامِتَةٌ، تَتَأَمَّلُ الْحَيَاةَ بِبُطْءٍ، كَمَا يَفْعَلُ أَكْرَمُ حِينَ يَغْرِقُ فِي التَّحْلِيلِ.
البَطَّةُ: سَاذِجَةٌ، تصَدِّقُ كُلَّ مَا يُقَالُ لَهَا، مِثْلَ بَعْضِ الطُّلَّابِ الَّذِينَ يُكَرِّرُونَ الْأَخْطَاءَ بِبَرَاءَةٍ.
الْجَرَادَةُ: مُغَفَّلَةٌ، تَعْرِفُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً لَكِنْ عَقْلُهَا مُثَقَّبٌ، فَيَدْخُلُهَا الْخِدَاعُ مِنْ كُلِّ فَجْوَةٍ.
الْبلْبلُ: أَبْلَهُ، يُمَزِجُ الْجَدَّ بِالْهَزَلِ، يُضْحِكُ أَكْثَرَ مِمَّا يُغْضِبُ، كَوُجُوهِ الْمُرَاهِقِينَ الْمُتَحَمِّسِينَ فِي الْقَاعَةِ.
الأَرْضُ الْجَرْدَاءُ: أَجْدَبُ، عَقْلٌ بِلَا بُذُورٍ، لَا يُخْطِئُ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ أَصْلًا مَا يُخْطِئُ فِيهِ. سَاكِنَةٌ كَقَبْرٍ صَامِتٍ، يَتَنَفَّسُ فِي صَمْتٍ كَمَا لَوْ كَانَ يَنْتَظِرُ مَنْ يُوقِظُهُ.
وَبَيْنَمَا كَانَتِ الشَّخْصِيَّاتُ تَنْمو عَلَى الْوَرَقِ، بَدَا الْمَشْهَدُ أَشْبَهَ بِمِرْآةٍ وَاسِعَةٍ: كُلُّ طَالِبٍ يَكْتُبُ نَفْسَهُ، وَكُلُّ شَخْصِيَّةٍ تَقْفِزُ مِنْ دَفْتَرٍ إِلَى ذَاكِرَةٍ أُخْرَى، تَتَرَاقَصُ بَيْنَ الْوَاقِعِ وَالرَّمْزِيَّةِ، لِتُصْبِحَ الْقَاعَةُ أَكْثَرَ مِنْ مُجَرَّدِ مَكَانٍ… لِتُصْبِحَ عَالَمًا صَغِيرًا تَنْبِضُ فِيهِ الْأَرْوَاحُ، وَتَتَكشَفُ الْأَسْرَارُ، وَيَعِيشُ كُلُّ طَالِبٍ فِي قَلْبِ حِكَايَةٍ لَمْ تُحكَّ بَعْدُ.
كَأَنَّ الْقَاعَةَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ مَكَانٍ، بَلْ مَسْرَحٌ مَفْتُوحٌ، تَتَجَوَّلُ فِيهِ أَقْنِعَةُ الْعَقْلِ، وَتَجْلِسُ وُجُوهُ الْمَاضِي إِلَى جَانِبِ وُجُوهِ الْحَاضِرِ، فِي دَائِرَةٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا، تَتَشَابَكُ فِيهَا الْأَصْوَاتُ كَمَا تَتَشَابَكُ أَلْوَانُ لَوْحَةٍ رُسِمَتْ بِالزَّمَنِ.
بَدَأَ النِّقَاشُ يَنْسَابُ، يَتَقَاطَعُ وَيَتَدَاخَلُ، كَأَنَّ الْأَصْوَاتَ نَفْسَهَا تَرْسُمُ شَكْلًا مَرْئِيًّا أَمَامَ الْعَيْنِ:
مُنَى، الْبَاحِثَةُ الْجَامِعِيَّةُ، جَلَسَتْ مُسْتَنِدَةً عَلَى ذِرَاعِ الْكُرْسِيِّ، وَعَيْنَاهَا تَتَفَحَّصُ الطُّلَّابَ كَمَا تَتَفَحَّصُ الْبَاحِثَةُ نَصَّهَا، وَقَالَتْ بِجِدِّيَّةٍ:
“الْغَبَاءُ لَيْسَ شَخْصًا وَاحِدًا، بَلْ لَوْحَةٌ مُتَحَرِّكَةٌ مِنَ الشَّخْصِيَّاتِ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تُظْهِرُ حَيْثُ يَخْتَلِفُ الْمَوْقِفُ.”
سَلْمَى، الْمُمَرِّضَةُ، أَمَالَتْ رَأْسَهَا قَلِيلًا، وَأَصَابِعُهَا تَتَلَاعَبُ بِحَافَّةِ دَفْتَرِهَا، وَأَضَافَتْ بِنَبْرَةٍ وَاقِعِيَّةٍ:
“وَالْغَبِيُّ لَيْسَ فَقَطْ مَنْ يُضِلُّ نَفْسَهُ، بَلْ مَنْ يَقْسُو عَلَى الْآخَرِينَ، أَوْ يُهْمِلُ الْضُّعَفَاءَ.”
نوَالُ، رَبَّةُ الْمَنْزِلِ، ضَحِكَتْ بِخِفَّةٍ، وَعَيْنَاهَا تَتَلَأْلَأُ بِسُخْرِيَّةٍ دَافِئَةٍ، وَقَالَتْ:
“وَأَحْيَانًا يَخْتَبِئُ الْغَبِيُّ خَلْفَ أَقْنِعَةٍ ذَكِيَّةٍ، يَتَظَاهَرُ بِأَنَّهُ أُسْتَاذٌ وَهُوَ لَمْ يَحْفَظِ الدَّرْسَ.”
دَلَالُ، الْإِعْلَامِيَّةُ، شَبَكَتْ أَصَابِعَهَا عَلَى الطَّاوِلَةِ بِثِقَةٍ، وَنَظَرَتْ حَوْلَهَا كَأَنَّهَا تُقِيّمُ صَدَى الْكَلَامِ، وَقَالَتْ:
“وَأَحْيَانًا يَكُونُ الْغَبَاءُ غِطَاءً… يُجَمِّلُ الْقَبِيحَ وَيُخْفِي الْحَقَائِقَ، كَمَا نَفْعَلُ نَحْنُ فِي الْإِعْلَامِ.”
تَبَادَلَتِ الْهَمَسَاتُ وَالابْتِسَامَاتُ، وَصَارَتِ الْقَاعَةُ كَمِرْآةٍ وَاسِعَةٍ تَتَّسِعُ لِكُلِّ الْأَقْنِعَةِ: الْغَبِيُّ، الْأَبْلَهُ، الْمُعْتُوهُ، السَّاذِجُ، الْمُغَفَّلُ، الْبَلِيدُ، الْأَجْدَبُ… وَكُلُّ مَا بَيْنَ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ مِنَ الْبَشَرِ.
فَارِسٌ مَدَّ يَدَهُ نَحْوَ فِنْجَانِ الشَّايِ، مُبْتَسِمًا:
“يَبْدُو أَنَّ الْغَبِيَّ هُوَ كُلُّ وَاحِدٍ فِينَا، فِي لَحْظَةٍ مَا… وَالذَّكِيُّ هُوَ نَفْسُهُ، فِي لَحْظَةٍ أُخْرَى.”
أَكْرَمُ أَوْمَأَ بِرَأْسِهِ، وَعَيْنَاهُ تَلْمَعَانِ بِالتَّفَكُّرِ:
“نَعَمْ… الْغَبِيُّ لَيْسَ بِلا عَقْلٍ، بَلْ بِلا بُوصَلَةٍ. يَرَى الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ التَّفَافًا، وَالِالْتِفَافُ طَرِيقًا مُسْتَقِيمًا.”
ضَحِكَ الْجَمِيعُ، لَكِنْ فِي أَعْيُنِهِمْ لَمَعَانٌ خَفِيٌّ: فَهِمُوا أَنَّ الْغَبَاءَ لَيْسَ خَطَأً فَرْدِيًّا فَحَسْبُ، بَلْ دَرْسٌ عَنْ تَنَوُّعِ الْبَشَرِ، وَعَنْ هَشَاشَةِ الْإِنْسَانِ أَمَامَ نَفْسِهِ.
وَفَجْأَةً، انْكَسَرَ الْمَشْهَدُ كَمَا لَوْ أَنَّ سِتَارًا انْسَدَلَّ عَلَى حِكَايَةٍ أُخْرَى.
فِي صَدْرِ الطِّفْلِ دَوَّى سُؤَالٌ لَمْ يَجْرُؤْ عَلَى الْإِفْصَاحِ بِهِ:
“هَلْ جَاءُوا لِيَأْخُذُونِي؟
أَمْ لِيُعِيدُوا إِلَيَّ مَا دَفَنْتُهُ عَنْ قَصْدٍ؟”
تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فِي الظِّلِّ الَّذِي لَا يُشْبِهُ ظِلًّا، كَانَ الْعَرْضُ قَدْ بَدَأَ… وَمَا مِنْ أَحَدٍ يَسْتَطِيعُ الْاِنْسِحَابَ، حَتَّى هُوَ.
“مَنْ هَذِهِ؟”
قَالَ الرَّجُلُ بِصَوْتٍ مَبْحُوحٍ، تَرْتَجِفُ حُرُوفُهُ، كَأَنَّهُ لَمْ يَعُدْ يَثِقُ بِمَا تَرَاهُ عَيْنَاهُ. وَقَفَ عِنْدَ حَافَّةِ الْمَشْهَدِ، جَسَدُهُ مَائِلٌ إِلَى الْأَمَامِ، كَأَنَّهُ يُحَاوِلُ أَنْ يُسْبِقَ بَصَرَهُ الْحَقِيقَةَ قَبْلَ أَنْ تُبَاغِتَهُ.
لَمْ يُجِبِ الشَّابُ عَلَى الْفَوْرِ. بَلْ أَدَارَ وَجْهَهُ نَحْوَهَا، وَأَطَالَ النَّظَرَ… عَيْنَاهُ تفَتَّشَانِ في مَلَامِحِهَا عَنْ مَاضٍ مُهْمَلٍ، أَوْ وَعْدٍ تَأَخَّرَ كَثِيرًا.
ثُمَّ هَمَسَ، وَصَوْتُهُ يَتَكَسَّرُ بَيْنَ الذَّاكِرَةِ وَالنَّدَمِ:
“هِيَ مَنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكْتُبَ عَنْهَا… وَلَمْ تَكْتُبْ.”
كَانَتْ كَلِمَاتُهُ أَقْرَبَ إِلَى إِدَانَةٍ مِنْهَا إِلَى خَبَرٍ.
وَتَابَعَ، بِنَبْرَةٍ تَتَأَرْجَحُ بَيْنَ الْعِتَابِ وَالشَّفَقَةِ:
“هِيَ الَّتِي كَانَتْ تَنْتَظِرُ ظُهُورَهَا فِي أَحَدِ فُصُولِكَ، لَكِنَّهَا بَقِيَتْ مُعَلَّقَةً… بَيْنَ حِكَايَةٍ بَدَأْتَهَا وَلَمْ تُكْمِلْهَا.”
فِي دَاخِلِهِ، كَانَ الشَّابُ يَصْرُخُ، صَوْتُهُ يَعْلُو مِنْ أَعْمَاقِ قَلْبِهِ:
“كُنْتَ تَعْرِفُهَا!
كُلُّ مَا فِيكَ كَانَ يُنْذِرُ بِقُدُومِهَا، لَكِنَّكَ كُنْتَ تَكْتَفِي بِالِاقْتِرَابِ ثُمَّ تَرْتَدُّ…
كَأَنَّكَ تَخْشَى أَنْ تَكْتُبَ الْحَقِيقَةَ فَتَتَوَرَّطَ بِهَا.”
عِنْدَ هَذِهِ النُّقْطَةِ، انْكَسَرَ الْمَشْهَدُ، وَتَبَدَّلَ الْمَكَانُ فَجْأَةً.
صَارَ الْمَقْعَدُ مُمتلِئًا، لَكِنَّهُ لَمْ يَضقْ بِأَحَدٍ. الرَّجُلُ مَا يَزَالُ قَابِضًا عَلَى الدَّفْتَرِ، كَأَنَّ الْكِتَابَةَ بَاتَتْ رَدَّهُ الْوَحِيدُ عَلَى الْوُجُودِ، عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.
غَيْرَ أَنَّ الظِلَالَ لَمْ تَبْقَ صَامِتَةً. مِنْ تَحْتِ الْأَشْجَارِ، خَرَجَ الْكَائِنُ الَّذِي كَانَ قَبْلَ لَحَظَاتٍ مُجَرَّدَ “صَوْتٍ سَاخِرٍ”. ظَهَرَ الآنَ بِهَيْئَةِ رَجُلٍ نَحِيلٍ، يَرْتَدِي بَذْلَةً قَدِيمَةً، وَعَيْنَاهُ ضَيِّقَتَانِ، تشْبَهَانِ عَدَسَتَي كَامِيرَا لَا تَرْمُشُ.
ضَحِكَ بِصَوْتٍ خَفِيفٍ، يَمْلَأُ الْهَوَاءَ ثقَلًا غَامِضًا، وَقَالَ:
“أَخِيرًا قَرَّرْتَ أَنْ تَرَانِي.
أَعْرِفُ أَنِّي أَزْعَجتكَ… لَكِنَّنِي، صَدِّقْنِي، الْوَحِيدُ الَّذِي لَمْ يَكْذِبْ عَلَيْكَ قَطُّ.”
الرَّجُلُ ظَلَّ صَامِتًا، كَأَنَّ صَوْتَهُ مُغْلَقٌ دَاخِلَ صَدْرِهِ.
لَكِنَّ الشَّابَّ انْتَفَضَ مِنْ مَكَانِهِ، عَيْنَاهُ تَتَقَدَّانِ بِنَارِ الْعِتَابِ، وَصَاحَ:
“هَذَا هُوَ الَّذِي كَبَّلَكَ!
هُوَ الَّذِي جَعَلَكَ تَكْتُبُ مَا يُعْجِبُ النَّاسَ، لَا مَا يُشْبِهُكَ!”
رَدَّ الظِّلُّ بِهُدُوءٍ، صَوْتُهُ بَارِدٌ، لَكِنَّهُ يَخْتَرِقُ الصَّمْتَ:
“أَنَا لَسْتُ أَكْثَرَ مِنْ مِرْآتِكَ حِينَ تُطْفِئُ النُّورَ.
أَنَا أَفْكَارُكَ الَّتِي رَفَضْتَهَا، لِأَنَّكَ كُنْتَ تَخْشَى أَنْ تُغْضِبَ أَحَدًا.
أَنَا مَا لَمْ تَكْتُبْهُ، لِأَنَّكَ خِفْتَ أَنْ لَا يُفْهَمَ.”
قَالَ صَاحِبُ الْعبَاءَةِ وَهُوَ يَقْتَرِبُ خُطْوَةً بِخِفَّةٍ، جَسَدُهُ يَمُرُّ بَيْنَ الظِّلِّ وَالضَّوْءِ:
“بَلْ أَنْتَ فِتْنَةُ السُّلْطَةِ، حِينَ تُحَوِّلُ الْفِكْرَ مِنْ وَسِيلَةٍ لِلصِّدْقِ إِلَى وَسِيلَةٍ لِلْهُرُوبِ.”
تَقَدَّمَتِ امْرَأَةٌ، عَيْنَانِ دَامِعَتَانِ، وَحَرَكَاتُ جَسَدِهَا تَقُولُ مَا لَا تَسْتَطِيعُ الْكَلِمَاتُ قَوْلَهُ:
“وَأَنَا… كُنْتُ ضَحِيَّتَهُمَا.
كُلُّ مَرَّةٍ شَعَرْتَ بِشَيْءٍ تجَاهِي، كَانَ هُوَ مَنْ يُقْنِعُكَ أَنْ تَتَرَاجَعَ.
كُلُّ مَشْهَدٍ كَتَبْتَنِي فِيهِ، مَحَاهُ قَبْلَكَ.”
تَرَاجَعَ الرَّجُلُ خُطْوَةً إِلَى الْوَرَاءِ، وَخُطُوَاتُهُ عَلَى الْأَرْضِ تُخَلِّفُ صَدًى خَافِتًا، كَأَنَّ الْقَاعَةَ نَفْسَهَا تَتَنَفَّسُ مَعَهُ. ارْتَعَشَتْ أَنْفَاسُهُ، وَيَدُهُ الْمُرْتَجِفَةُ أَزَاحَتْ بَعْضَ الْأَوْرَاقِ عَنِ الطَّاوِلَةِ، فَتَطَايَرَتْ عَلَى الْأَرْضِ، كَأَنَّهَا تُحَاوِلُ الْهَرَبَ مِنْ وِزْنِ الْحَقِيقَةِ الَّذِي اكْتَوَى بِهِ.
قَالَ بِصَوْتٍ مُتَرَدِّدٍ، يَنْقَطِعُ بَيْنَ كُلِّ كَلِمَةٍ وَأُخْرَى:
“لَكِنَّنِي… كُنْتُ خَائِفًا أَنْ أُؤْذِيَكُمْ، إِذَا أَنَا تَحَدَّيْتُهُ.”
ابْتَسَمَ الظِّلُّ، ابْتِسَامَةً خَفِيَّةً وَبَارِدَةً، وَكَأَنَّهَا نُورٌ خَافِتٌ يُسَلِّطُ عَلَى قَلْبِ الرَّجُلِ قَبْلَ عَيْنَيْهِ، وَتَحَرَّكَتْ أَطْرَافُهُ بَانْسِيَابٍ غَامِضٍ:
“بَلْ كُنْتَ تَخْشَى أَنْ تُؤْذِيَ نَفْسَكَ بِقَوْلِ الْحَقِيقَةِ.”
وَفِي لَحْظَةٍ، تَقَدَّمَ الطِّفْلُ مِنْ بَيْنِ الظِّلَالِ، خُطُوَاتُهُ خَفِيفَةٌ كَأَنَّ الْأَرْضَ تَتَنَفَّسُ مَعَهُ، عَيْنَاهُ تَتَوَهَّجَانِ بِجرأَةٍ مُفَاجِئَةٍ، وَشَفَتَاهُ تَرْتَجِفَانِ قَلِيلًا قَبْلَ أَنْ يَنْطِقَ:
“هَلْ تُخِيفُهُ لِأَنَّكَ حَقِيقِيٌّ؟”
ارْتَجَفَ الرَّجُلُ، وَوَقَفَ مذْهُولًا، وَكَأَنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ قَدْ تَقَلَّصَ لِيُصْبِحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تِلْكَ الْعَيْنَيْنِ الْلَامِعَتَيْنِ. صَمَتَ الظِّلُّ قَلِيلًا، ثُمَّ جَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ بِبُطْءٍ، ظَهْرُهُ مُسْتَرخٍ، لَكِنَّهُ يُبْعِثُ بِوُجُودِهِ رَهْبَةً خَفِيَّةً فِي الْمَكَانِ:
“أَنْ أُخِيفَهُ أَلْفَ مَرَّةٍ… خَيْرٌ مِنْ أَنْ أُطمئِنَهُ بِالْكَذِبِ مَرَّةً وَاحِدَةً.”
عِنْدَهَا ارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ الدَّاخِلِيَّةُ فِي الْحَدِيقَةِ، هَمَسَاتُ الْحَاضِرِينَ وَكَأَنَّهَا تَجْلِسُ عَلَى حَافَةِ الظِّلَالِ، صَدَى الْقَلَقِ وَالْفُضُولِ يَلْتَفُّ حَوْلَ الْأَعْمِدَةِ، يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْجُدْرَانِ الْبَيْضَاءِ التِي أِغْلَقَت الْحَدِيقَةَ عليهِ، حَتى بَدَا كَأَنَّ الْمَكَانَ نَفْسَهُ يُرِيدُ أَنْ يُشَارِكَ فِي الْحِوَارِ.
فَتَحَتِ الْأُمُّ فَمَهَا، صَوْتُهَا خَافِتٌ لَكِنَّهُ نَافِذٌ، يَنْبَعُ مِنْ أَعْمَاقِ الْحَنِينِ وَالْقَلَقِ، وَيَدُهَا تَتَحَرَّكُ بِرِفْقٍ كَأَنَّهَا تَلْمَسُ قَلْبَ كُلِّ مَنْ حَوْلَهَا:
“كُلُّكُمْ أَوْلَادِي.
لَكِن وَاحِدًا مِنْكُمْ فَقَطْ… هُوَ الَّذِي سَيَعُودُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ لِيَدُقَّ الْبَابَ.”
تَصَاعَدَتِ الْقَشْعَرِيرَةُ فِي أَرْكَانِ الْحَدِيقَةِ المُغْلقَةِ، لَكِنَّ الظِّلَالُ مَا زَالَتْ تَمْتَدُّ عَلَى الْأَرْضِ وَالْجُدْرَانِ، كَأَنَّهَا تَتَلَوَّنُ بِوَمِضِ الضَّوْءِ الْمُتَسَلِّلِ مِنَ نَوَافِذَ مَرسُومَة عَلى الجُدرَانِ، فَتَبْدُو وَكَأَنَّهَا أَرْوَاحٌ حَاضِرَةٌ تَتَنَقَّلُ بَيْنَ الحَضُورِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْكُتُبِ، تُرَاقِبُ كُلَّ حَرَكَةٍ، كُلَّ نَبْضَةِ قَلْبٍ.
نَظَرَ الْجَمِيعُ حَوْلَهُم، الْعُيُونُ تَتَشَابَكُ فِي فُضُولٍ وَارْتِبَاكٍ، تَلْتَقِطُ أَصْوَاتَ النَّفْسِ، وَارْتِعَاشَ الْأَصَابِعِ، وَوَمِيضَ الضَّوْءِ عَلَى الزَّوَايَا الْخَفِيَّةِ، تَبْحَثُ عَنْ مَعْنًى لَمْ تَفْهَمْهُ، إِلَّا هُوَ.
هُوَ وَحْدَهُ… فَهِمَ تَمَامًا، وَكَأَنَّ الزَّمَنَ تَجَمَّدَ فِي صَدْرِهِ، وَكَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ حَوْلَهُ أَصْبَحَ مَسْرَحًا لِلذِّكْرَيَاتِ وَالْأَصْوَاتِ وَالظِّلَالِ الَّتِي طَالَمَا حَاوَلَ الْهُرُوبَ مِنْهَا.
تَمَدَّدَ الصَّمْتُ لِدَقِيقَةٍ كَامِلَةٍ، ثَقِيلَةٍ، تَكَادُ تَجْعَلُ الْجُدْرَانَ تَتَقَلَّصُ حَوْلَ الْحَاضِرِينَ. كُلُّ وَرَقَةٍ عَلَى الطَّاوِلَةِ، كُلُّ حَرَكَةِ إِصْبَعٍ، كُلُّ ارْتِعَاشِ جَفْنٍ، أَصْبَحَ لَهُ صَدًى يَتَرَدَّدُ فِي الْمَكَانِ. الظِّلَالُ بَدَأَتْ تَتَحَرَّكُ بِبُطْءٍ، كَأَنَّهَا تَتَنَفَّسُ، تَتَلَوَّنُ عَلَى الْجُدْرَانِ وَالْأَرْضِيَّةِ، تَتَشَابَكُ مَعَ أَشِعَّةِ الضَّوْءِ الْمُتَسَلِّلَةِ مِنَ النَّوَافِذِ، فَتَبْدُو وَكَأَنَّهَا أَرْوَاحٌ قَائِمَةٌ بَيْنَ الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ.
الطِّفْلُ جَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَغِبْ عَنْ الْأَنْظَارِ. كَانَتْ عَيْنَاهُ تَتَنَقَّلَانِ بَيْنَ الْجَمِيعِ، تَتَوَهَّجَانِ أَحْيَانًا فَتَقْطَعُ ظِلَالَ الْغُرْفَةِ، كَأَنَّهَا شُعْلَةٌ صَغِيرَةٌ تَكْشِفُ الْخَفَاءَ فِي الْقُلُوبِ. حَرَكَةُ كَتِفَيْهِ، هَزَّةُ رَأْسِهِ الصَّغِيرَةُ، كَانَتْ تَكْفِي لِإِعَادَةِ تَرْتِيبِ حَرَكَاتِ الْكِبَارِ، وَكَأَنَّ وُجُودَهُ يَفْرِضُ تَوَازُنًا خَفِيًّا عَلَى الْمَكَانِ كُلِّهِ.
الظِّلُّ ارْتَفَعَ قَلِيلًا، انْدَفَعَ إِلَى الْأَمَامِ، كَأَنَّ الْمَكَانَ كُلَّهُ يَسْتَجِيبُ لِخُطُوَاتِهِ الْبَطِيئَةِ، ثُمَّ قَالَ بِصَوْتٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ صَمْتَيْنِ:
“كُلُّ مِنْكُمْ… يَحْمِلُ جُزْءًا مِنَ الْحَقِيقَةِ الَّتِي أَخْفَيْتَهَا عَنْ نَفْسِكَ.
كُلُّ حَرَكَةٍ، كُلُّ ابْتِسَامَةٍ، كُلُّ خَوْفٍ… هُوَ مِرْآةٌ لَكَ.”
الأُمُّ، صَوْتُهَا ارْتَعَشَ، وَكَأَنَّ الْكَلِمَاتِ تَكَادُ تَنْكَسِرُ بَيْنَ شَفَتَيْهَا، لَكِنَّهَا تَابَعَتْ بِوُضُوحٍ حَادٍّ:
“أَحْيَانًا نَعْتَقِدُ أَنَّنَا نَحْمِي أَحِبَّتَنَا، لَكِنَّنَا فِي الْحَقِيقَةِ نَخْنُقُهُمْ بِخَوْفِنَا… وَبِصَمْتِنَا.”
الرَّجُلُ رَفَعَ رَأْسَهُ بِبُطْءٍ، عَيْنَاهُ تَتَقَاطَعَانِ مَعَ الظِّلَالِ، وَكَأَنَّهُمَا يُحَاوِلَانِ التَّقَاطَ مَا بَيْنَ الضَّوْءِ وَالظَّلَامِ. كَفَّاهُ ارْتَجَفَتَا، وَيَدَاهُ تَلْمَسَانِ دَفَاتِرَ مُهْمَلَةً عَلَى الطَّاوِلَةِ، صَفَحَاتُهَا تَتَلَوَّنُ بِضَوْءِ الشَّمْسِ، فَتَبْدُو وَكَأَنَّهَا عُيُونٌ مَفْتُوحَةٌ عَلَى الْمَاضِي. هَمَسَ فِي نَفْسِهِ:
“هَلْ هَذَا مَا أَنَا عَلَيْهِ؟ أَمْ مَا كُنْتُ أَخْشَاهُ مُنْذُ الْبِدَايَةِ؟”
“الجَمِيعُ حَوْلَهُ بَدَوْا كَأَنَّهُمْ جُزْءٌ مِنْ حُلْمٍ حَيٍّ، تَمُدُّهُ أَضْوَاءُ الْوَقْتِ وَظِلَالُهُ. بَعْضُهُمْ أَمَالَ رَأْسَهُ إِلَى الْأَمَامِ، يَنْتَظِرُ الإِشَارَةَ، وَبَعْضُهُمْ أَدَارَ وَجْهَهُ نَحْوَ الْبَعْضِ الآَخَرَ، كَأَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ قِرَاءَةَ أَسْرَارِ الْغُرْفَةِ الْمَخْفِيَّةِ. كُلُّ صَوْتٍ صَغِيرٍ، كُلُّ نَبْرَةٍ، أَصْبَحَ لَهَا وَزْنٌ، كُلُّ ضَحْكَةٍ أَوْ هَمْسَةٍ تَتَوَسَّعُ فِي الْمَكَانِ لِتُشَكِّلَ مَوجَاتٍ خَفِيَّةً مِنَ الْقَلَقِ وَالْفُضُولِ، وَكَأَنَّهَا تَتَقَاطَعُ مَعَ أَصْوَاتِ الزَّمَنِ الَّذِي لَا يَعُودُ، مُذَكِّرَةً بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ هُنَاكَ يَحْمِلُ شِعْرَهُ وَرُوحَهُ.”
فَجْأَةً، تَحَرَّكَ الظِّلُّ بِبُطْءٍ، وَكَأَنَّ الْمَكَانَ كُلَّهُ يَلْتَقِطُ نَفْسَ الإِيقَاعِ. اقْتَرَبَ مِنَ الرَّجُلِ خُطْوَةً، ثُمَّ أُخْرَى، حَتَّى وَقَفَ أَمَامَهُ، صَوْتُهُ هَادِئٌ لَكِنَّهُ مُزْعِجٌ كَخَافِقَاتِ قَلْبٍ مُضْطَرِبٍ:
“هَلْ تَرَى الآنَ؟ هَلْ تَشْعُرُ بِكُلِّ مَا حَاوَلْتَ تَجَاهلَهُ؟ كُلُّ خَجَلٍ، كُلُّ تَرَاجُعٍ، كُلُّ خَوْفٍ… هُوَ جُزْءٌ مِنْكَ، جُزْءٌ لَمْ يُكْتَبْ بَعْدُ.”
الرَّجُلُ تَرَاجَعَ خُطْوَةً، لَكِنَّهُ لَمْ يَبْرَحْ مَكَانَهُ. قَلْبُهُ يرفرِفُ كَفَرَاشَةٍ مُقَيَّدَةٍ بَيْنَ جَنَاحَيْهَا، وَكُلُّ نَفَسٍ يَخْرُجُ مِنْهُ يَخْتَلِطُ بِوَمِضِ الضَّوْءِ، بِوَمِضِ الظِّلَالِ، وَبِلَمَعِ أَعْيُنِ الْحَاضِرِينَ، حَتَّى أَصْبَحَ الْمَكَانُ كُلُّهُ مَسْرَحًا حَيًّا، لَا يَفْصِلُهُ عَنِ الْحَقِيقَةِ سِوَى نُورٍ بَاهِتٍ يَصْدُرُ عَنْ رَسْمِ قَمَرٍ بَعِيدٍ وَصَمْتٍ يَخْنُقُ، وَصَوْتٍ دَاخِلِيٍّ يَصْرُخُ بِحَنينٍ:
“إِذَا كَانَ هُنَاكَ بَدْءٌ لِكُلِّ شَيْءٍ… فَيَجِبُ أَنْ يَنْتَهِيَ هُنَا بِالِاعْتِرَافِ.”
هُنَا تَذَكَّرَ أَنَّهُ حِينَ كَانَ يَسِيرُ تَحْتَ ضِيَاءِ الْقَمَرِ، يَشْعُرُ أَنَّهُ يَسِيرُ مَعَهُ، يَرَافِقُهُ كَصَدِيقٍ وَحْدَهُ، يَسْمَعُ صَمْتَهُ وَيُحَافِظُ عَلَى أَحْلَامِهِ. وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ يُغْمِضُ فِي الطُّفُولَةِ عَيْنَيْهِ، يَبْقَى هُوَ هُنَاكَ، كَأَنَّهُ يَهْوِي فِي رُوحِهِ لِيُذَكِّرَهُ أَنَّ لَا شَيْءَ يَضِيعُ كُلَّهُ، وَأَنَّ كُلَّ مَا رَأَى وَأَحَسَّ سَيَتَجَلَّى يَوْمًا فِي شَكْلٍ أَوْ آخَر.
وَعِنْدَمَا كَبُرَ، وَوَقَفَ فِي أَزِقَّةِ دِمَشْقَ الْمُضِيئَةِ، وَرَأَى الْجُدْرَانَ الْمُتَسَمِّرَةَ وَالظِّلَالَ تَرْتَدُّ عَلَى الْبَلاطِ، ظَلَّ ضِيَاءُ الْقَمَرِ يَسِيرُ مَعَهُ مِنْ خَلْفِهِ، يَشْهَدُ عَلَى كُلِّ قَلَقٍ وَكُلِّ فَرَحٍ، وَيُذَكِّرُهُ أَنَّ الطُّفُولَةَ لَا تَغِيبُ، بَلْ تَتَخَفَّفُ فِي صَمْتِ الْقَلْبِ، وَفِي الرُّوحِ.
وَفِي أَيَّامِ الْحِصَارِ وَالْمَخَاوِفِ فِي معْتَقَلِ العَقلِ، كَانَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيُلَاحِظُ الْقَمَرَ، كَأَنَّهُ الْوَاحِدُ الَّذِي يَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ، يَسْمَعُ صَمْتَهُ وَيَحْمِلُ سِرَّهُ. وَفِي نَفْسِ الْوَقْتِ، كَانَ يُذَكِّرُهُ أَنَّ أَحْلَامَ الطُّفُولَةِ، مَرَاحَهَا، وَوَحْدَتَهَا لَا تَزُولُ، وَأَنَّهُ سَيَجِدُ طَرِيقَهُ لِتَحْقِيقِهَا، وَسَتَبْقَى شُجُونُهُ وَآمَالُهُ مَوْثُوقَةً بِهَذَا الشَّاهِدِ الصَّامِتِ.”
Leave a Reply