روايـة
ظِلُّ القَرار
الجزء الأول

المقدِّمة
بَدَأَتِ الحِكَايَةُ مِنْ بَحْثٍ عَنْ أَسْئِلَةٍ لِأَجْوِبَةٍ، كَانَت تَتَرَدَّدُ أَحْيَانًا أَوْ تُطْرَحُ كَأَنَّهَا كَلَامٌ سَرْدِيٌّ بَدِيهِيٌّ.
ذٰلِكَ النَّوْعُ مِنَ الأَسْئِلَةِ الَّذِي ظَلَّ يَأْبَى أَنْ يُسْجَنَ فِي قَوَالِبَ أَوْ أَمَاكِنَ أَوْ تَوَارِيخَ جَامِدَةٍ بِلَا حَيَاةٍ.
فَلَمْ يَكُنْ لأَحَدٍ أَنْ يَجْزِمَ قَائِلًا:
“هُنَا وُلِدَتِ البِدَايَةُ”،
وَ لِذٰلِكَ لَمْ يَستَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يُحَدِّدَ لَهَا يَوْماً يُسَطَّرُ فِي سِجِلٍّ رَسْمِيٍّ ليُقَالَ:
“فِي هٰذِهِ السَّاعَةِ؛ وَمِنْ هَذَا المَكَانِ انْطَلَقَتِ الحِكَايَةُ”.
هَلْ كانَت تشبِهُ شَرارةً مُرتعِشَةً؟ أَمْ ومضةً ضَعيفةً انسَلَّت عَبرَ غُبارِ قريةٍ مَنسِيَّةٍ؟
كأنَّها أَطَلَّتْ كَيْ لا تَجرؤُ عَلى الحياةِ إلا خُلسةً.
تَراها العَينُ فتَفزَعُ في الوَقتِ نَفسِهِ:
فإلى أَينَ تَمضي؟
أَإلى قَريَةٍ ضَبابِيَّةٍ ابتَلَعَها النِّسيانُ؟
أَم إلى حُلمٍ مُهمَلٍ بَقيَ في صَدرِ صاحِبِهِ، يَئِنُّ لأَنَّهُ لم يَكتَمِل يَومًا؟
إنَّ قِصَصَ الحياةِ غَريبَةُ الأَطوارِ.
هي تَختَبِئُ طَويلًا في أَعمَاقِ الصَّمتِ؛
لِتَنْهَضَ مَرَّةً عَلى شَكلِ أَصواتٍ مُتَكَسِّرَةٍ، تَتَهامَسُ في الضَّبابِ فلا يَجرؤُ أَحَدٌ عَلَى تفسِيرِها؛ ومَرَّةً أُخرى كَخَفَقاتِ قَلبٍ مُتعَبٍ، لا أَحَدَ يصغِي إِلَيهِ.
ثُمَّ فَجأَةً، بلا سابِقِ إِنذارٍ، تَنفَجِرُ تِلكَ الأَصواتُ إلى الخارِجِ،
تَبحَثُ عَن مَنفَذٍ، عَن صَدرٍ يَتَّسِعُ لَها.
لكِنَّها كَي تَصيرَ وُجودًا، تَحتاجُ إلى أَرضٍ تَستَقِرُّ فيها، إلى يَدٍ تَحتَضِنُها، وإلى صَدرٍ يَسمَعُها.
فالعَدَمُ لا يُورِقُ، والبذرَةُ تَموتُ إن لَم تَجِد تُربَةً تَمنَحُها حَنانَها.
والذِّكرى وَحدَها لا تَبقى حَيَّةً إلّا إذا ظَلَّلَها أُفُقٌ رَحيمٌ يَحميها مِنَ الرِّياحِ العاتِيَةِ.
لهذا كانَ لا بُدَّ لِتِلكَ الحِكايةِ أن تَبحَثَ عَن مدخَلٍ يَليقُ بِها؛ بابٍ لا يَكشِفُ ما وَراءَهُ إلّا لِمَن يَجرؤُ عَلى فَتحِهِ.
لَيسَ بَحثًا عَن حَقيقَةٍ تُسَجَّلُ، ولا عَن رَقمٍ يُدَوَّنُ، بَل عَن بِدايَةٍ غَيرِ غامِضَةٍ, لَا تُشبِهُ عَتبَةً مُوصَدَةً؛ يَقِفُ المَرءُ أَمامَها وقَلبُهُ يَتَرَدَّدُ قَبلَ أَنْ يَقُولَ:
“هَل أَطرُقُها؟
هَل أَجرؤُ؟”
غَيرَ أَنَّهُ يَعلَمُ في قَرارَةِ نَفسِهِ أَنَّ فَتحَها وَحدَهُ سَيَمنَحُهُ عُبورًا إلى دارٍ مُخبَّأَةٍ خَلفَ الجِدارِ.
فَوقَ ذلِكَ البابِ، كُتِبَ اسمٌ واحِدٌ:
“هاربوُرغ”.
ورَقمٌ واحِدٌ:
“١٧٥٦”.
الفصل الأول:
قَريةٌ صَغيرَةٌ عِندَ أَطرافِ الإمبراطوريَّةِ، بُيوتُها مُبعثَرَةٌ عَلى ضِفَّةِ النَّهرِ كَالحِجارَةِ الَّتي أَلقاها طِفلٌ ثُمَّ نَسِيَها.
الدُّخانُ يَتَسَلَّلُ بِبُطءٍ مِنَ المَداخِنِ، يَتَلَوَّى في الهَواءِ كَأَنَّهُ يُحاوِلُ عَبَثًا أَن يَمدَّ سِتارًا داكِنًا يُخفِي غُيومَ الحَربِ المُقبِلَةِ.
وفي تِلكَ القَريةِ، كانَ كُلُّ قَلبٍ يَضطَرِبُ في صَدرِهِ، كُلُّ عَينٍ تَتَساءَلُ:
“ما الَّذي يَختَبِئُ وَراءَ هذَا الاسمِ؟ وما الَّذي يُوشِكُ أَن يُولَدَ مَعَ هذَا الرَّقمِ؟”
كَأَنَّ الأَروحَ نَفسَها تَتَحَسَّسُ الطَّريقَ، والجِباهُ تَتَصَبَّبُ عَرَقًا قَبلَ أَن يُقالَ أَوَّلُ حَرفٍ مِنَ الحِكايةِ.
ما زالَ ضَحِكُ الأَطفالِ يَتَرَدَّدُ في السَّاحاتِ كَأَنَّهُ بَقايا ضَوءٍ يَتَشَبَّثُ بِالنَّهارِ، غَيرَ أَنَّهُ لَم يَعُد بَريئًا تَمامًا؛ صارَ يَختَلِطُ بِوشوشاتٍ مُثقلَةٍ، يَتَبادَلُها الشُّيوخُ والنِّساءُ حَولَ مَواقِدِ اللَّيلِ.
أَحَدُ الشُّيوخِ يُحَرِّكُ جَمرَ الحَطَبِ بِعَصًا مُرتَجِفَةٍ، عَيناهُ نِصفُ مُطفَأَتَينِ مِنَ التَّعَبِ، يَهمِسُ بِصَوتٍ يَكادُ يَختَفِي:
“أَهُوَ تَحالُفٌ جَديدٌ؟”
فَتُجيبُهُ اِمرَأَةٌ وَهيَ تَجُرُّ نَفَسًا ثَقيلًا، عَينَاهَا تَزوغانِ نَحوَ الظَّلامِ كَأَنَّهَا تَبحَثُ عَن طَيفٍ يَختَبِئُ هُناكَ:
“أَم حُدودٌ تُعَادُ رَسمُها مِن جَديدٍ؟”
إنَّهُ صَدى الحَربِ القَريبَةِ؛ تُقبِلُ مِثلَ عاصِفَةٍ بَعيدَةٍ، لا تُرَى بَعدُ، لَكِنَّ العِظامَ ارتَعَشَتْ قَبلَ أَن يَهُبَّ رِيحُها.
كانَ كُلُّ قَلبٍ يُحِسُّها بِطَريقَتِهِ:
شَيخٌ يَبتَلِعُ رِيقَهُ بِخَوفٍ صامِتٍ، وَامرَأَةٌ تَشُدُّ طِفلَها إلى صَدرِها أَكثَرَ مِنَ اللازِمِ، وَصَبِيٌّ يَركُضُ ثُمَّ يَتَوَقَّفُ فَجأَةً لِيَتَساءَلَ في سِرِّهِ:
“لِماذا يَتَهامَسُونَ؟ هَلِ اقتَرَبَ شَيءٌ لا أَفهَمُهُ؟”
مَن كانَ يَظُنُّ أَنَّ مِن هُنا، مِن هذَا الرُّكنِ البَعيدِ المَنسِيِّ، سَتَبدَأُ الحِكايةُ؟ حِكايةٌ ستَتَحَدَّى الزَّمَنَ وَستَضحَكُ في وَجهِ الخَرائِطِ. أَهِيَ مُجرَّدُ صُدفَةٍ عابِرَةٍ؟ أَم أَنَّ القَدَرَ كانَ مُنذُ زَمَنٍ بَعيدٍ قَد حَسَمَ أَمرَهُ، وَكَتَبَ حُكمَهُ عَلى مَن سَيَقَعُ في ظِلِّهِ؟
وَرُبَّما لَم يَكُن أَكثَرَ مِن نَفَسِ رِيحٍ بارِدَةٍ، مَرَّت عَبرَ نافِذَةٍ مُهمَلَةٍ، فَحَرَّكَت سِتارَةً باهِتَةً في بَيتٍ رِيفِيٍّ صَغيرٍ.
حَفيفٌ خافِتٌ يَكادُ لا يُسمَعُ، لَكِنَّهُ كانَ أَشبَهَ بِالنَّغمَةِ الأُولى في لَحنٍ طَويلٍ لا يَنتَهِي.
هَكَذا، بِبَساطَةٍ لَم يَلحَظها أَحَدٌ، بَدَأَت.
لا في قُصورِ المُلوكِ، حَيثُ الأَبوابُ الثَّقيلَةُ تُفتَحُ عَلى ضَجيجِ الوَلائِمِ، وَلا في صَخَبِ المُدُنِ الكُبرى، بَل في قَريةٍ صَغيرَةٍ ضَئيلَةٍ، بِالكادِ يَلتَفِتُ إِلَيها عابِرُ سَبيلٍ.
في عامٍ لا يَعني لِلكَثيرينَ أَكثَرَ مِن رَقمٍ مُدَوَّنٍ في دَفاتِرِ التَّاريخِ، لَكِنَّهُ لِأحد أَهلِها كانَ بِدايَةَ كُلِّ شَيءٍ.
في سَنَةِ ١٧٥٦، كانَتِ الأَرضُ الَّتي نُسَمِّيها اليَومَ “أَلمانيا” تَرزَحُ تَحتَ ظِلِّ التَّهديدِ المُستَمِرِّ.
لَم يَكُن ذلِكَ الاِسمُ يَومَئِذٍ يَدُلُّ عَلى دَولَةٍ واحِدَةٍ، بَل عَلى فُسَيفِساءَ مِن مَمالِكٍ وَإِماراتٍ وَمُدُنٍ حُرَّةٍ؛ تَتَلاقى أَحيانًا عَلى كَلِمَةٍ واحِدَةٍ، وَتَتَنافَرُ في أَكثَرِ الأَحيانِ تَحتَ عَباءَةٍ اسمُها “الإِمبراطُورِيَّةُ الرُّومانِيَّةُ المُقَدَّسَةُ”.
في الشَّمالِ كانَت بروسيا تُخَطِّطُ بِخُطىً واثِقَةٍ لِتَوسِيعِ نُفوذِها، وَفي الجَنوبِ كانَت عُيونُ آلِ هابسبورغ شاخِصَةً تَتَرَقَّبُ كُلَّ حَرَكَةٍ تُدَبَّرُ في الخَفاءِ، كَذِئابٍ تَتَحَيَّنُ اللَّحظَةَ. وَمِن وَراءِ الجِبالِ وَالأَنهارِ، أَخَذَ صَدى الطُّبولِ يَتَرَدَّدُ، صَوتُهُ البَعيدُ يَقرَعُ القُلوبَ قَبلَ الآذانِ، كَأَنَّهُ يُنذِرُ بِوِلادَةِ ما سَيُسَمِّيهِ النّاسُ فيما بَعدُ “حَربَ السَّنواتِ السَّبعِ”؛ أَوَّلَ حَربٍ عالَمِيَّةٍ مُتَنَكِّرَةٍ بِقِناعِ العُصورِ القَديمَةِ.
فَأَيُّ يَدٍ خَفِيَّةٍ شاءَت أَن تَكونَ تِلكَ القَريةُ المَنسِيَّةُ مَسرَحًا لِوِلادَةٍ كَهذِهِ؟
أَكانَت مُجرَّدَ مُصادَفَةٍ بارِدَةٍ؟
أَم أَنَّ القَدَرَ اختارَ أَن يَفتَحَ سِتارَ التَّاريخِ مِن أَبسَطِ مَكانٍ، لِيُخرِجَ إِلى العالَمِ أَضخَمَ مَلاحِمِهِ؟
وَهَل كانَ أَحَدٌ مِن أَهلِ القَريةِ يَعلَمُ، وَهُوَ يُغلِقُ بابَ بَيتِهِ في تِلكَ اللَّيلَةِ، أَنَّ خُطواتِهِ الصَّغيرَةَ سَتُدَوَّنُ يَومًا عَلى صَفَحاتِ جُزءٍ آَخَرَ مِنَ العَالَمِ؟
كانَتِ الشُّموعُ تَتَراقَصُ عَلى لَهِيبِها، تَتَأَرجَحُ بَينَ إِشراقَةٍ خَجولَةٍ وَانطِفاءَةٍ مُفاجِئَةٍ، كَما لَو أَنَّها مُتَرَدِّدَةٌ بَينَ أَن تَحيَا أَو أَن تَموتَ.
وفي البَعيدِ، عَبَرَ الجُنودُ الحُقولَ كَالعاصِفَةِ، يَقتَلِعُونَ القُرى مِن دفءِ مَطاحِنِها وَحُقولِها، لِيُلقُوا بِها في بُرودَةِ خَنادِقِ الحَربِ.
تَوَقَّفَ أَحَدُ الجُنودِ، شَدَّ قَبضتِهِ حَولَ حَربَةٍ بارِدَةٍ، ثُمَّ هَمَسَ بِصَوتٍ مَبـحوحٍ يَخشَى أَن يَسمَعَهُ الهَواءُ:
“إِلى أَينَ نَحنُ ذاهِبُونَ؟”
فَأَجابَهُ الصَّمتُ المُوحِشُ، صَمتٌ أَثقَلُ مِن وَقعِ الطُّبولِ، وَأَقسَى مِن زَمجَرَةِ المَدافِعِ.
الإِجبَارُ، الوَاجِبُ، وَالخَطَرُ… ثُلاثِيٌّ غَلَّفَ القُلوبَ بِقَلَقٍ خانِقٍ، حَتّى غَدا كُلُّ نَفَسٍ يُسحَبُ كَأَنَّهُ يُنتَزَعُ مِن صَدرٍ مُحاصَرٍ.
وفي خِضَمِّ هذِهِ التَّوَتُّراتِ، عَلى ضِفافِ نَهرِ إِلبَه، جَنوبَ هامبورغ، كانَت قَريةٌ هادِئَةٌ تُدعَى هاربوُرغ تَنامُ عَلى أَحلامِها الصَّغيرَةِ.
هُناكَ، وُلِدَ طِفلٌ اسمُهُ دانيال، في بَيتٍ يَملِكُ مطحَنَةً مائِيَّةً قَديمَةً. لَم يَرَ الأَهلُ في المطحَنَةِ مُجرَّدَ وَسيلَةٍ لِطَحنِ الحُبوبِ أَو كَسبِ الرِّزقِ، بَلِ اعتَبَروها حِصنًا يَصُدُّ عَنهُم عَواصِفَ العالَمِ، وَجِدارًا يَحمِي دِفءَ حَياتِهِم مِن رِيحِ السِّياسَةِ وَالحَربِ.
جَلَسَ الأَبُ ذاتَ مَساءٍ عِندَ بابِ المطحَنَةِ، عابِسَ الجَبِينِ، عَيناهُ غائِرَتانِ في الماءِ المُتَدَفِّقِ تَحتَ عَجَلاتِ الطّاحُونَةِ.
أَخَذَ يُحَدِّثُ نَفسَهُ بِصَوتٍ خافِتٍ، كَأَنَّهُ يَخشَى أَن يَسمَعَهُ الحَجَرُ:
“ماذا لَو جاءَ يَومٌ يُرسَلُ فيهِ ابنِي إِلى حَربٍ لا أَفهَمُ غاياتِها؟”
“ماذا لَوِ ابتَلَعَتهُ نِيرانُ الخَرائِطِ الَّتي رَسَمَها السّاسَةُ وَالدِّينُ؟”
شَدَّ عَلى حافَّةِ الطّاحُونَةِ بِيَدِهِ، كَأَنَّهُ يَستَمِدُّ مِن خَشبِها المَتِينِ بَعضَ ما فَقَدَهُ في قَلبِهِ مِن ثَباتٍ.
أَمَّا المطحَنَةُ نَفسُها، فَكانَت أَكثَرَ مِن آلَةٍ شُيِّدَت بِعَرَقِ الجَبِينِ وَحِكمَةِ المِياهِ. كانَت رَمزًا لِصُمودٍ صامِتٍ، مَلاذًا آمِنًا في زَمَنٍ تَضرِبُهُ العَواصفُ مِن كُلِّ جِهَةٍ.
يَهمِسُ الأَبُ وَهُوَ يُتابِعُ حَرَكَةَ الأَبوابِ الخَشَبِيَّةِ وَصَوتَ الماءِ:
“هُنا، بَينَ جُدرانِها، كُلُّ شَيءٍ يَبدو ثابِتًا… وَكَأَنَّ الزَّمَنَ يَخشَى أَن يَقتَرِبَ.”
أَمَّا الطِّفلُ دانيال، فَكانَ يُراقِبُ المِياهَ وَهِيَ تَتَلأْلَأُ تَحتَ أَشِعَّةِ الشَّمسِ الخافِتَةِ، يَضحَكُ حِينًا، وَيَصمُتُ حِينًا آخَرَ، كَأَنَّهُ يَرى مُستَقبَلَهُ مَرسومًا أَمامَهُ عَلى شَكلِ نَهرٍ لا يَنتَهِي. لَم يَفهَم كَلِماتِ أَبِيهِ، لَكِنَّ قَلبَهُ الصَّغيرَ اَلتَقَطَ قَلَقًا خَفِيًّا تَسَلَّلَ بَينَ نَبرَةِ الصَّوتِ وَارتِجافَةِ اليَدِ.
كانَت هاربوُرغ صَغيرَةً في عَينِ الإِمبراطُورِيَّةِ، تَكادُ لا تُرَى عَلى خَرائِطِ المُلوكِ. غَيرَ أَنَّها، في سِرِّ مَوقِعِها، كانَت قَلبًا نابِضًا بَينَ تَيَّارَينِ مُتَناقِضَينِ:
مِن جِهَةٍ، طُرُقُ التِّجارَةِ الدُّوَلِيَّةِ، وَسُفُنُ المِلحِ وَالقُطنِ القادِمَةِ إِلَى هامبورغ،
وَمِنَ الجِهَةِ الأُخرَى، تَيَّارُ القَلَقِ الَّذي يَجُرُّ سُكّانَها إِلى مُستَقبَلٍ غامِضٍ، كَأَنَّهُم يَسيرونَ عَلى حافَّةِ نَهرٍ عَميقٍ لا يَعرِفُونَ مَتى يَفيضُ.
نَشَأَ دانيالُ مُولِر بَينَ قُوَّتَينِ مُتَناقِضَتَينِ:
صَخَبُ العالَمِ بِالخارِجِ، وَهُدوءُ الطّاحُونَةِ بِالدّاخِلِ.
مُنذُ طُفولتِهِ، كانَ يَشعُرُ بِالعَناصِرِ مِن حَولِهِ كَما لَو أَنَّها كائِناتٌ حَيَّةٌ تُخاطِبُهُ:
الطَّحِينُ يَطيرُ فِي الهَواءِ كَغَيمَةٍ صَغيرَةٍ تُداعِبُ وَجنَتَيهِ،
الغُيومُ تَمُرُّ فَوقَ رَأسِهِ وَتُغَيِّرُ مَلامِحَ السَّماءِ،
وَالماءُ يَنسابُ فِي مَجرَاهُ وَهَمسُهُ يُشبِهُ لُغَةً غامِضَةً لا يَفهَمُها أَحَدٌ سِواهُ.
كُلُّ شَيءٍ حَولَهُ كانَ يَتَكَلَّمُ إِلَيهِ، وَكانَ قَلبُهُ الطِّفلُ يُصغِي بِجِدِّيَّةٍ عَجيبَةٍ.
لَكِنَّ نِيرانَ الحَربِ كانَت تَنتَظِرُ عَلى عَتَباتِ القَدَرِ، لِتُغَيِّرَ مَسارَ حَياتِهِ جَذريًّا.
لَم تَدخُلِ الحَربُ أَوَّلَ مَرَّةٍ عَلى شَكلِ جُنديٍّ يَقتَحِمُ الحُقولَ، بَل جاءَت فِي هَيئَةِ قَرارٍ واحِدٍ، كَلِمَةٍ حاسِمَةٍ كُتِبَت فِي مَكانٍ بَعيدٍ، بَدَت لِلنّاسِ وَعدًا بِالخَلاصِ، غَيرَ أَنَّها فِي الدّاخِلِ فَتَحَت أَبوابَ التَّشَتُّتِ، وَمَهَّدَت لِطَريقٍ طَويلٍ سَيُصاغُ بِالأَلَمِ وَالاختِيارِ، وَسَيَترُكُ فِي أَعمَاقِ الرّوحِ صَدىً يَهمِسُ:
“كُلُّ قَرارٍ يَترُكُ أَثَرًا لا يُمحَى.”
“فَكُلُّ قَرَارٍ يُنْبِتُ ظِلّاً؛ وَلَا أَحَد يَدْرِي مَا الظِّلُّ الَّذِي سَتَجْلِبُهُ قَرَارَاتُ الْيَوْمِ.”
وَبَينَما كانَ دانيالُ يَنمُو عَامًا بَعدَ عَامٍ، كانَتِ الطّاحُونَةُ المائِيَّةُ تُواصِلُ أَنينَها الرَّتِيبَ، كَأُمٍّ لا تَكُفُّ عَنِ الغِناءِ لِطِفلِها. أَجنِحَتُها تَدورُ فِي مَجرَى الماءِ، وَأَحجارُها الثَّقيلَةُ تُصدِرُ صَريرًا يُشبِهُ خَفقانَ قَلبٍ مُتعَبٍ، يَتَرَدَّدُ صَداهُ فِي كُلِّ زاوِيَةٍ مِنَ البَيتِ.
حَتّى حِينَ كانَ صَبِيًّا صَغيرًا، كانَ يَقِفُ عِندَ حافَّةِ الطّاحُونَةِ، يَمدُّ يَدَيهِ فِي تَيّارِ الماءِ، فَيَرتَجِفُ جَسَدُهُ الصَّغيرُ لاهتِزازاتِهِ، وَكَأَنَّ النَّهرَ يُحاوِلُ أَن يُفضِيَ إِلَيهِ بِسِرٍّ لم يقلهُ له والده. يَرفَعُ بَصرَهُ إِلَى انعِكاساتِ الماءِ المُتَلَوِّنَةِ، يَبتَسِمُ أَحيانًا، ثُمَّ يَهمِسُ لِنَفسِهِ:
“كُلُّ شَيءٍ يَتَغَيَّرُ… حَتّى أَنا.”
مِن عَتَبَةِ البَابِ، كانَ الأَبُ يُراقِبُهُ بِصَمتٍ، ذِراعاهُ مَعقودَتانِ فَوقَ حِزامِهِ، وَجَبهَتُهُ مَطوِيَّةٌ بِالقَلَقِ. عَيناهُ لا تُفارِقانِ ذلِكَ الجَسَدَ النَّحيلَ الَّذِي يَجلِسُ أَمامَ الماءِ، بَينَما داخِلُهُ يَموجُ بِأَسئِلَةٍ لا جَوابَ لَها. يُحَدِّثُ نَفسَهُ بِصَوتٍ خافِتٍ، بِالكادِ تَسمَعُهُ الجُدرانُ:
“هَل سَيَعرِفُ كَم هُوَ ثِقَلُ العالَمِ حِينَ تَشتَعِلُ الدُّنيا مِن جَديدٍ؟ هَل سَيَكونُ قَوِيًّا بِما يَكفِي… كَي لا يَنكَسِرَ؟”
يَدُهُ كانَت أَحيانًا تَضغَطُ عَلى خاصِرَتِهِ، وَأَحيانًا أُخرَى تَقبِضُ الهَواءَ كَمَن يُريدُ أَن يُمسِكَ الزَّمَنَ وَيُوقِفَهُ.
أَمَّا دانيالُ، فَلَم يَكُن يَعرِفُ شَيئًا عَن هَذِهِ التَّنبُؤاتِ المُظلِمَةِ الَّتِي تَجثُمُ فِي رَأسِ أَبِيهِ.
بِالنِّسبَةِ لَهُ، كانَتِ الطّاحُونَةُ عالَمًا مُكتَفِيًا بِذاتِهِ:
الجُدرانُ المُشبَّعَةُ بِرائِحَةِ القَمحِ، أَشِعَّةُ الشَّمسِ الَّتِي تَدخُلُ كَسَكاكِينَ ذَهَبِيَّةٍ عَبرَ النَّوافِذِ، وَصَوتُ الماءِ الَّذِي لا يَتَوَقَّفُ عَنِ الغِناءِ.
كُلُّ صَريرٍ، كُلُّ اهتِزازٍ لِلحِجارَةِ كانَ بِالنِّسبَةِ إِلَيهِ حَديثًا خَفِيًّا مَعَ الحَياةِ ذاتِها.
لَكِن تَحتَ هَذِهِ الصُّورَةِ المُشرِقَةِ، كانَ ظِلُّ السَّنَواتِ القادِمَةِ يَمتَدُّ شَيئًا فَشَيئًا.
كانَ دانيالُ يَلمَسُهُ دُونَ أَن يُدرِكَهُ؛ حِينَ يَسمَعُ خُطُواتِ أَبِيهِ الثَّقِيلَةِ فِي أَرجاءِ البَيتِ لَيلًا، خُطُواتٌ كَأَنَّها تُثقِلُ الأَرضَ بِهُمومِها.
كانَ الطِّفلُ يَكتُمُ أَنفاسَهُ وَهُوَ يَتَخَيَّلُ أَنَّ المُصِيبَةَ واقِفَةٌ وَراءَ البَابِ.
فِي تِلكَ اللَّحَظاتِ، كَثِيرًا ما كانَ يَنسَحِبُ إِلَى زاوِيَةٍ صَغيرَةٍ مِنَ الغُرفَةِ، يَضُمُّ رُكبَتَيهِ إِلَى صَدرِهِ، وَيُغَطِّي وَجهَهُ بِذِراعَيهِ، ثُمَّ يَهمِسُ لِنَفسِهِ بِصَوتٍ مُرتَجِفٍ:
“إِذا كانَ كُلُّ شَيءٍ هَشًّا هَكَذا… فَهَل أَستَطِيعُ أَنا أَن أُمسِكَ بِشَيءٍ ثابِتٍ؟”
بَينَما كانَتِ الأُمُّ تنفض بَينَ أَحجارِ الطّاحُونَةِ، يَكسو ثوبُها غُبارُ الطَّحينِ الأَبيضِ كَأَنَّهُ غَيمَةٌ صَغيرَةٌ اِلْتَصَقَت بِجَسدِها، رَأت بِعَينَيْها ما لَم يَقُلْه فَتى البَيتِ. تِلكَ الاِنكساراتُ الخَفِيَّةُ فِي عَينَي دانيال، التَّرَدُّدُ فِي حَركَتِهِ، وَشُرودُ نَظَرِهِ إِلَى ما وَراءَ الماءِ.
اِقتَرَبَت بِهُدوءٍ، وَضَعَت يَدَها عَلى كَتِفِهِ بِرِفقٍ، وَضَغطَت قَليلاً كَأَنَّهَا تُريدُ أَن تُثَبِّتَهُ عَلَى الأَرضِ.
قالَت بِصَوتٍ حَنونٍ مائِلٍ إِلَى الرَّجاء:
“دانيال… كُلُّ شَيءٍ سَيَجِدُ طَريقَهُ. عَلَيكَ فَقَط أَن تَتَعلَّمَ مَن ومَاذَا وَمَتَى تسأل؛ كَيْفَ تُفَكِّرُ.”
لَكِنَّ الفَتى لَم يَسمَعِ الكَلِماتِ وَحدَها. اِرتَجَفَ قَلبُهُ عَلى وَقعِ الاِرتِعاشَةِ الخَفِيَّةِ فِي نَبرَتِها، وَرَأى القَلَقَ يَتَلألأُ فِي عَينَيْها كَما لَو أَنَّهُما مِرآتَانِ لِسَماءٍ ملَبَّدَةٍ. كانَ فِي صَوتِها اِعتِرافٌ صَامتٌ لَم تَنطِقْهُ الشَّفاهُ:
“حَتّى نَحنُ… لَسنا أَكثَرَ مِن غُبارٍ صَغيرٍ فِي مَجرَى الزَّمَنِ.”
وَفِي مَساءٍ غارِقٍ بِلونِ الغُروبِ، حِينَ اِبتَلَعَتِ الشَّمسُ نِصفَهَا فِي نَهرِ إِلبَه، وَرَسَمَتِ الطّاحُونَةُ بِظِلالِها الطَّويلَةِ عَلى صَفحَةِ الماءِ، شَعَرَ دانيالُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ بِثِقلِ القَراراتِ الَّتِي تَنتَظِرُهُ. لَم تَعُدِ الحَياةُ مُجرَّدَ لَعِبٍ مَعَ الماءِ وَالضَّوءِ؛ لَقَد بَدَأَتِ الدُّنيا خَارجَ القَريةِ تَطرُقُ قَلبَهُ بِرِفقٍ، لَكِن بِلا تَوقُّفٍ، كَيَدٍ تُصِرُّ عَلى الدُّخولِ:
“كُلُّ خِيارٍ سَيَترُكُ أَثَرَهُ فِيكَ.”
شَدَّ قَبضَتَيْهِ حَولَ قِطعَةِ خَشبٍ قَديمَةٍ كانَت مُلقاةً بِجانِبِهِ، كَأَنَّهُ يُحاوِلُ أَن يُمسِكَ بِالثَّبَاتِ فِي عالَمٍ لا يَكُفُّ عَنِ الاِهتِزازِ. تَساءَلَ فِي سِرِّهِ بِصَوتٍ مُتهَدِّجٍ:
“مَتى سَتَبدَأُ حَقًّا؟ مَتى يُطالِبُنِي الزَّمَنُ أَن أَخرُجَ لِمُواجَهَتِهِ؟ وَهَل سأكون مُستَعِدّاً… أَم أَنَّنِي سَأَنكَسِرُ مِثلَ أَيِّ غُصنٍ يابِسٍ؟”
لَم يُجِبْهُ خَرِيرُ الماءِ، لَكِنَّهُ أَحَسَّ أَنَّ النَّهرَ يَبتَسِمُ بِسُخْرِيَّةٍ رَقِيقَةٍ، كَمَن يَعرِفُ كُلَّ ما سَيَأتِي. فِي تَدَفُّقَاتِهِ كانَ شَيءٌ مَخفِيٌّ، وَعَدٌ غامِضٌ يَجمَعُ بَينَ العِزاءِ وَالتَّحدِّي، كَصَوتٍ يَهمِسُ فِي أَعماقِهِ:
“ما تَبحثُ عَنهُ مَوجودٌ هُنا مُنذُ البِدايةِ… فَقَط اِنتَظِر.”
الفصل الثاني:
لَم يَكُن جَدِّي يَعرِفُ القِرَاءَةَ وَلا الكِتابَةَ. كانَت تِلكَ الحَقيقَةُ مشتركة فِي عَينَي شُيُوخِ مَدينَتِنا الصَّغيرَةِ “دوما”، المُخبَّأَةِ بَينَ بساتِينٍ وَأَشجارِ غُوطَةٍ واسِعَةٍ مُحيطَةٍ بِدمَشْقَ، أَمرًا طَبيعِيًّا لا يُثيرُ الدَّهشَةَ؛ كَجَذعِ زَيتُونَةٍ عَجوزٍ لَم يَعُد يَتَذَكَّر كَم مَرَّ عَلَيهِ مِن فُصولٍ. لَكِنَّنِي، كُلَّما نَظَرْتُ إِلَيهِ، شَعَرْتُ أَنَّ فِي قَلبِهِ كِتابًا مَفتوحًا لا يَقرَأُهُ أَحَدٌ سِواهُ. كانَ يَقرَأُ العالَمَ بِعَينٍ أُخْرَى ..
رُبَّمَا كَانَتْ عَيْنٍ خَفِيَّةٍ، تُبصِرُ مَا لَا يَراهُ الآخَرونَ.
أَذكُرُهُ يَومًا، واقِفًا أَمامَ الدُّكّانِ حَيثُ تُوَزَّعُ حِصَصُ المَاءِ القَادِمِ مِنْ أحدِ فُرُوعِ نَهْرِ بَردَى لِيَرويَ أَراضي الْفَلّاحِينِ في دوما. كانَ وَجهُهُ ساكِنًا، وَعَيناهُ كَأَنَّهُمَا تُطارِدانِ شَيئًا أبعَدَ مِن صُفوفِ الرِّجالِ المُنتَظِرِين. مَدَّ يَدَهُ بِهُدوءٍ أمامه, كَأنَّمَا كَانَ يَمُدُهَا فَوقَ لَوحَةِ مَفاتِيحِ حاسوبٍ قَديمٍ، فَأَخذَت أَصابِعُهُ تَتحَرَّكُ كَأَنَّهَا ترسمُ عَلى الآلَةِ أَنغَامًا يَعرِفُهَا وَحدَهُ.
لَم تَمضِ ثَوانٍ حَتّى ظَهَرَتِ النَّتيجَةُ الَّتِي كانَ مُديرُ المِياهِ نَفسُهُ يَحتاجُ لَحَظاتٍ طَويلَةٍ مِنَ الوَرقِ وَالقَلَمِ لِيبلغَهَا.
حِينَها، اِرتَجَفَ قَلبِي فِي صَدري. كُنتُ صَغيرًا، لَكِنَّنِي شَعَرْتُ أَنَّنِي أَمامَ سِرٍّ لا يُفسَّرُ. نَظَرْتُ إِلَيهِ مَأخوذًا، وَشَفَتايَ تَرتَجِفَانِ بِسُؤالٍ لَم أَجرُؤ عَلى قَولِه.
هَل يُمكِنُ أَن يَكونَ الجَهْلُ أَحيانًا سِتارًا يُخفي حِكمَةً أَوسعَ مِن كُلِّ كُتُبِ المَدْرَسَةِ الإِعدَادِيَةِ الَّتِي كُنتُ أُدرُسُ فِيهَا؟
وَفِي اليَومِ التّالِي، حِينَ أَخبرتُ مُعَلِّم الرِّيَاضِيَّاتِ بِما رَأَيتُ، رَفَعَ حاجِبَيْهِ بِدَهشَةٍ، وَاقتَرَبَ مِنِّي، وَسَألَنِي بِصَوتٍ مُرتَبِكٍ:
“لِمَن تَنتَمِي هَذِهِ العُيونُ الحاسِبَةُ؟”
لَم أَجِد جَوابًا. لَكِن صُورَةُ جَدِّي، بِابْتِسَامَتِهِ الهَادِئَةِ بَعدَ كُلِّ إِنْجازٍ صَغيرٍ، ظَلَّت تُلاحِقُنِي. كانَ يَرفَعُ زَوايا فَمِهِ بِابْتِسَامَةٍ غامِضَةٍ، كَأَنَّهُ يَحتَفِظُ بِسِرٍّ قَدِيمٍ فِي صَدْرِهِ لا يُريدُ أَن يبوحَ بِهِ. وَكانَ يَقولُ لِي بِبُطْءٍ، وَصَوتُهُ كَنَسْمَةِ لَيْلٍ:
“مِنَ الضَّرورِيِّ دَائِمًا أَن تحافظَ عَلَى هُدوءِ الرَّأْسِ… أَن تُقيِّمَ المَوقِفَ مِن بَعيدٍ، كَما لَو أَنَّكَ تَنظُرُ إِلَيْهِ مِن قِمَّةِ جَبَلٍ.”
كانَ يَجلِسُ بَعْدَها مُتَكِئًا إِلَى الخَلْفِ، يَضَعُ يَدَهُ خَلْفَ رَأسِهِ، وَتَغوصُ عَيناهُ فِي الجِبَالِ البَعِيدَةِ كَأَنَّهُ يَقرَأُ فِيهَا مُستَقبَلًا لا نَراهُ.
كُنتُ أُتابِعُ حَركاتِ جَسَدِهِ الهادئَةِ، فَأَشعُرُ أَنَّها تروِي قِصَصًا مِن صَبْرٍ طَويلٍ، وَيَقَظَةٍ حادَّةٍ، وَفَرَحٍ خافِتٍ بِقُدْرَتِهِ عَلَى السَّيطَرَةِ عَلَى ما يَراهُ الآخَرونَ مُستَحِيلًا.
فِي الصَّفِّ الثَّالِثِ الاِبتِدائِيِّ، عَلَّمَنِي الحِسَابَ بِالأَصابِعِ. لَم أَفهَمْ يَومَها أَنَّ أَصابِعَهُ كانَت تَزرَعُ فِي دَاخِلِي بِذْرَةَ نِظامٍ ذِهنِيٍّ يُشبِهُ قَلبَ آلَةٍ لا تَهْرمُ. طَريقَةٌ غَريبَةٌ تَقومُ عَلَى العَدِّ الثُّنَائِيِّ، الَّذِي سَيُكتَشَفُ لاحِقًا فِي أَعْمَاقِ الحَواسِيبِ، بَينَما كانَ هُوَ يُمارِسُهَا بِعَفَوِيَّةٍ مُنذُ زَمَنٍ بَعيدٍ.
كَيْفَ لِرَجُلٍ لا يَعرِفُ الحُروفَ أَن يُعطِينِي هَذَا؟ كُنتُ أَتَساءَلُ فِي دَهشَةٍ. كَيْفَ يَستَطيعُ أَن يبتَكِرَ كَلِماتٍ غَريبَةٍ نُرَدِّدُها فِي البَيتِ ثُمَّ لا نَجدُها لاحِقًا فِي أَصواتِ السُّوقِ وَضَجيجِ الفَلّاحِينِ؟ كَيْفَ لِسِرٍّ أَن يَعيشَ فِي بَيتٍ صَغيرٍ ثُمَّ يَتبَخَّرَ بَينَ النّاسِ كَأَنَّهُ لَم يَكُن؟
وَكُنتُ لا أَنسَى مِعطَفَهُ الخَشِنَ، الَّذِي يَشدُّهُ أَحيانًا حَولَ كَتِفَيْهِ بِحَنُوٍّ عَجيبٍ، وَيُطلقُ عَلَيْهِ اِسمُ “السّاكو”. وَلا حَقِيبَتَهُ القَدِيمَةُ، الَّتِي حَمَلَت اِسمًا لَن يُفارِقَ ذاكِرَتِي: “السّاك”. كُنتُ أُراقِبُهُ وَهُوَ يَمْسِكُ بِها بِوَقَارٍ مُهيبٍ، فَيَختَلِطُ فِي قَلْبِي الاِعجَابُ بِالخَوفِ.
ما الَّذِي تُخفِيهِ هَذِهِ الحَقِيبَةُ؟
وَلماذا تَبْدُو وَكَأَنَّهَا تَحفَظُ سِرًّا يَخَافُ أَنْ يُقالَ؟
وَحينَ كانَ يُمرّرُ أَصابِعَهُ عَلَى صُفوفِ العَدِّ، أَحسَستُ كَأَنَّ أَفكارَهُ تَتَسَرَّبُ إِلَى دَاخِلِي، تَناهَتُ رُوحِي فِي صَمْتٍ، لِتُشكِّلَ مَنطِقِي الخَاصَّ.
تَابَعْتُ حَرَكَاتِ يَدَيْهِ – ثابِتَةٍ وَواثِقَةٍ – وَشَعَرْتُ بِاِرتِجافَةٍ تَسْرِي فِي جَسَدِي.
هَمَسْتُ لِنَفْسِي:
“كَيْفَ يَعْرِفُ كُلَّ هَذَا؟ وَكَيْفَ يَكُونُ العِلْمُ فِي قَلْبِ أُمِّيٍّ لا يَفْتَحُ كِتابًا؟”
اِلْتَفَتَ إِلَيّ، وَكَأَنَّهُ سَمِعَ ما لَم أَنطِقْ بِهِ. ثُمَّ اِبتَسَمَ تِلكَ الاِبتِسَامَةُ الخَافِتَةُ، المُمتَلِئَةُ بِالعِلْمِ وَالدَّهشَةِ، وَقَالَ بِصَوتٍ عَمِيقٍ كَأَنَّهُ يَنْزِلُ فِي دَاخِلِي:
“كُلُّ ما تَحتاجُ أَن تَعرِفَهُ… مَوجودٌ بِالفِعلِ فِي يَدَيْك.”
وَضَعْتُ أَصابِعِي عَلَى الطَّاوِلَةِ كَما لَو أَنَّهَا آذَانٌ تُنصِتُ إِلَيْهِ، وَكُنتُ أُراقِبُها تَرتَجِفُ أَحيانًا تَحتَ وطأَةِ الصَّمتِ. شَعَرْتُ أَنَّ كُلَّ حَرَكَةٍ، كُلَّ ضَغطٍ خَفيفٍ، كُلَّ سُكونٍ ثَقِيلٍ، يَحمِلُ فِي دَاخِلِهِ قِصَّةً كَامِلَةً:
قِصَّةَ صَبْرٍ طَويلٍ، وَفَهْمٍ لا يَحتاجُ إِلَى كَلِماتٍ كَثِيرَةٍ، وَعِلْمٍ أَعمَقَ مِن كُلِّ ما قَرَأتُهُ فِي كُتُبِي المدرَسِيَّةِ.
كُنتُ أَبتَلِعُ أَنفَاسِي وَأَتَساءَلُ:
كَيْفَ يَختَبِئُ كُلُّ هَذَا فِي جَسَدِ رَجُلٍ لَم يَعرِفِ القَلَمَ وَلا الوَرَقَ؟
فِي المَساءِ، كُنتُ أَجلِسُ قُربَهُ وَأَقْرَأُ عَلَيهِ قِصَصِي الَّتِي اِستَعَرْتُهَا مِن مَكتَبَةِ المَدْرَسَةِ. يغمِضُ عَينَيْهِ بِبُطءٍ، وَكَأَنَّهُ يَفْتَحُ نافِذَةً سِرِّيَّةً عَلَى زَمَنٍ آخَرَ. أَراهُ يَبتَسِمُ أَحيانًا، كَمَن يَسْمَعُ صَدَى خُطوَاتٍ قادِمَةٍ مِن بَعيدٍ، وَأَحيانًا يَهزُّ رَأْسَهُ بِهُدوءٍ، كَما لَو أَنَّهُ يُوافِقُ عَلَى حَقِيقَةٍ يَعْرِفُهَا مُنذُ زَمَنٍ بَعيدٍ. كَانَتْ عَيناهُ المغْلَقَتَانِ تُحَدِّثانِي أَكثَرَ مِمَّا تَفْعَلُ كَلِمَاتُهُ:
“تابِع… لا تَتَوَقَّف… كُلُّ كَلِمَةٍ تَحمِلُ ظِلًّا أَعرِفُهُ.”
اَلْقِصَصُ اَلَّتِي تَدُورُ أَحْدَاثُهَا فِي بِلادٍ بَعِيدَةٍ كَانَتْ تُثِيرُهُ عَلَى نَحْوٍ خَاصٍّ.
كُنتُ أَقْرَأُ، وَهُوَ ينْصِتُ بِصَمْتٍ نَهِمٍ، يَتَلَقَّفُ اَلْكَلِمَاتِ كَمَا يَتَلَقَّفُ اَلْعَطْشَانُ قَطَرَاتِ اَلْمَاءِ. وَحِينَ أَصِلُ إِلَى اَلنِّهَايَةِ، يَتَنَهَّدُ بِعُمْقٍ وَرِقَّةٍ فِي آنٍ، تَنَهُّدَاً يُشْبِهُ تَنَهُّدَ اَلْعَائِدِ مِنْ سَفَرٍ طَوِيلٍ: مُنْهَكِ اَلْجَسَدِ، لَكِنَّهُ مُمتَلِئُ اَلرُّوحِ. كُنتُ أُحَدِّقُ فِي وَجْهِهِ مُتَسَائِلًا:
هَلْ هُوَ مُجَرَّدُ مُسْتَمِعٍ؟ أَمْ أَنَّهُ عَاشَ هَذِهِ اَلرِّحْلَاتِ يَوْمًا مَا؟
فِي طُفُولَتِي، كُنتُ أَظُنُّ أَنَّ جَدِّي يَخْتَلِقُ اَلْأَحْدَاثَ اَلَّتِي أَصِفُهَا، وَأَنَّ اِبْتِسَامَتَهُ مَا هِيَ إِلَّا تَلَاعُبٌ بِشَغَفِي اَلصَّغِيرِ.
لَكِنْ مَعَ مُرُورِ اَلْأَيَّامِ، بَدَأْتُ أَشْعُرُ أَنَّ وَرَاءَ عَيْنَيْهِ سِرًّا كَبِيرًا.
لكن…
أَكَانَ يُخْفِي عَنَّا مَاضِيًا مُثْقَلًا بِاَلْقِصَصِ، يَخْشَى أَنْ يُثْقِلَهُ عَلَى قُلُوبِنَا اَلصَّغِيرَةِ؟
أَكَانَ يُدَارِي خَوْفَهُ مِنْ أَنْ تَنْكَشِفَ ذَاكِرَةٌ لَا نَسْتَطِيعُ اِحْتِمَالَهَا؟
أَمْ أَنَّهُ كَانَ يَخَافُ عَلَيْنَا مِنْ نَتَائِجِ مَعْرِفَةِ شَيْءٍ مَا؟
حَتَّى ذَلِكَ اَلْعَصْرِ، فِي هُدُوءِ مَا بَعْدَ اَلْغَدَاءِ، حِينَ كَانَ اَلْبَيْتُ يَغْفُو عَلَى سَكِينَةٍ غَامِرَةٍ. جَلَسْتُ عَلَى اَلْأَرْضِ، تُلَاعِبُ أَصَابِعِي بِأَطْرَافِ سَجَّادَةٍ قَدِيمَةٍ مُهْتَرِئَةٍ، فِيمَا عَيْنَايَ تَبْحَثَانِ فِي مَلَامِحِهِ. اِنْحَنَى فَجْأَةً نَحْوِي، وَقَرَّبَ شَفَتَيْهِ مِنْ أُذُنِي، وَهَمَسَ بِصَوْتٍ خَافِتٍ مُتَرَدِّدٍ، كَأَنَّهُ يُشَارِكُ سِرَّهُ مَعَ اَلرِّيحِ لَا مَعِي:
“هَذِهِ اَلْمَسَالِكُ… وَهَذِهِ اَلْكَلِمَاتُ يَا بُنَيَّ… لَمْ أَنْطِقْ بِهَا أَنَا، بَلْ هِيَ مِنْ ذَاكِرَةٍ قَدِيمَةٍ مَضَتْ. كُلُّ مُفْرَدَةٍ سَمِعْتَهَا عَلَى لِسَانِي… مَأْخُوذَةٌ مِنْ مُفْرَدَاتِ جَدِّي.”
تَجَمَّدْتُ فِي مَكَانِي. اِرْتَجَفَتْ أَصَابِعِي فَوْقَ اَلسَّجَّادَةِ، وَعَيْنِي تَشَبَّثَتْ بِوَجْهِهِ. شَعَرْتُ أَنَّنِي لَا أَرَى رَجُلًا أَمَامِي، بَلْ مِرْآةً لِزَمَنٍ يَرْفُضُ أَنْ يُدْفَنَ.
هَلْ حَقًّا مَا يَقُولُهُ؟
أَيُمْكِنُ أَنْ أَكُونَ أَسْمَعُ صَوْتَيْنِ فِي آنٍ:
صَوْتَ جَدِّي، وَصَوْتَ مَاضٍ أَبْعَدَ مِنْهُ بِكَثِيرٍ؟
تَرَكَ جَدِّي يَدَهُ لَحْظَةً عَلَى كَتِفِي، وَزْنًا خَفِيفًا لَكِنَّهُ عَمِيقٌ وَمُرِيحٌ، كَأَنَّ ذَاكِرَتَهُ تَسَلَّلَتْ عبْرَ جِلْدِي إِلَى دَمِي، تَرَنَّمَتْ دَاخِلِي كَلَحْنٍ صَامِتٍ لَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ سِوَايَ.
تَوَقَّفَتْ أَصَابِعِي عَنِ اَلْعَبَثِ بِأَهْدَابِ اَلْسَّجَّادَةِ، كَأَنَّهَا تُحَاوِلُ أَنْ تُمْسِكَ بِاَلْكَلِمَاتِ اَلْهَارِبَةِ، وَتَسَمَّرَتْ عَيْنِي فِي وَجْهِهِ أَتَسَاءَلُ هَمْسًا:
“كَمْ مِنْ هَذَا اَلزَّمَنِ اَلْقَدِيمِ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَفْهَمَ حَقًّا؟ وَهَلْ أَنَا مُسْتَعِدٌّ لِتَحَمُّلِ مَا تَحْمِلُهُ ذَاكِرَتُكَ؟”
لَمْ يَرُدْ، لَكِنَّهُ اِبْتَسَمَ اِبْتِسَامَةً خَافِتَةً، اِبْتِسَامَةً قَالَتْ أَكْثَرَ مِمَّا يُمْكِنُ لِأَيِّ لُغَةٍ أَنْ تَبُوحَ بِهِ.
عَيْنَاهُ كَانَتَا تَهِيمَانِ فَوْقَ سَجَّادَةٍ عَتِيقَةٍ، فَوْقَ اَلْجُدْرَانِ اَلْبَاهِتَةِ، كَأَنَّهُمَا تَسْتَحْضِرَانِ كُلَّ حَرَكَةٍ عَابِرَةٍ وَتُعِيدَ إِلَيْهَا قِصَّتَهَا اَلْخَاصَّةَ. ثُمَّ صَمَتَ، وَصَارَ فِي مَلَامِحِهِ ظِلٌّ غَرِيبٌ، كَأَنَّهُ يَتَّبِعُ وَجْهًا بَعِيدًا فِي اَلْغُيُومِ، أَوْ يَسْتَنْشِقُ عَبِيرَ اَلْقَمْحِ وَهُوَ يَتَصَاعَدُ مِنْ طَاحُونَةٍ قَدِيمَةٍ فِي صَبَاحٍ شتَوِيٍّ قَارِسٍ.
وَفَجْأَةً، اِلْتَفَتَ نَحْوِي. عَيْنَاهُ حَدَّقَتَا بِعَيْنَيَّ، بِنَظْرَةٍ لَمْ أَعْرِفْ مِثْلَهَا مِنْ قَبْل؛ نَظْرَةٌ أَرَادَتْ أَنْ تَنْقُشَ فِي قَلْبِي رِسَالَةً تَبْقَى أَبَدًا، رِسَالَةً أَكْبَرَ مِنَ اَلْعُمْرِ.
قَالَ بِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ اِرْتَجَفَ فِي صَدْرِي قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى أُذُنِي:
“حِينَ جَلَبُوكَ إِلَيَّ بَعْدَ وِلَادَتِكَ لِلْمَرَّةِ اَلْأُولَى… كَانَ لِي اَلْحَظُّ أَنْ أَرَى فِيكَ اَلْمَلَامِحَ اَلَّتِي لَمْ تُفَارِقْنِي يَوْمًا. وَجْهُهُ… لَوْنُ عَيْنَيْهِ… شَعْرُكَ وَآذَانُكَ. شَعَرْتُ كَأَنَّ اَللَّهَ أَعَادَ إِلَيْنَا رُوحًا غَابَتْ، وَأَعْطَانَا إِيَّاكَ لِتَظَلَّ ذَاكِرَتُنَا حَاضِرَةً لَهُ أَبَدًا. اَلْمَوَدَّةُ اَلَّتِي كُنْتُ أَحْمِلُهَا لَهُ، يَا بُنَيَّ، كَانَتْ بِقَدْرِ مَا أُحِبُّكَ أَنْتَ، وَرُبَّمَا أَكْثَرَ… فَقَدْ حَفِظْتُ مَلَامِحَهُ فِي قَلْبِي مِنْ أَجْلِهِ.”
كَانَتْ كَلِمَاتُهُ تُثقِلُ اَلْهَوَاءَ مِنْ حَوْلِي. مَرَّرَ يَدَهُ بِرِفْقٍ عَلَى سَطْحِ اَلطَّاوِلَةِ، كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُشْعِرَ اَلْخَشَبَ بِوَطْأَةِ سِرِّهِ، أَوْ يتْرُكَ لِكَلِمَاتِهِ أَثَرًا لَا يَزُولُ.
صَارَ صَوْتُهُ أَكْثَرَ هُدُوءً، أَقْرَبَ إِلَى اَلْهَمْسِ، كَأَنَّ كُلَّ حَرْفٍ لَحْنٌ لَا يُقَالُ إِلَّا لِي وَحْدِي.
“كَانَ اِسْمُهُ صَالِحُ رَمَضَان… جَاءَ مِنْ مَدِينَةٍ بَعِيدَةٍ تُدْعَى وهْرَانَ فِي اَلْجَزَائِرِ، لِيَسْتَقِرَّ فِي دُومَا. قِيلَ لَنَا إِنَّهُ أَكَبرُ ثَلَاثَةِ أَبْنَاءَ لِتَاجِرٍ كانَ يَعمَلُ في البَحرِ؛ رَحَلَ مِنْ بِلَادٍ أَبْعَدَ، مِنْ مَكَانٍ يُدْعَى هَامْبُورْغ. وَكَانَ لِعَائِلَتِهِ هُنَاكَ، فِي قَرْيَةِ هَارْبُورْغ، قِطْعَةُ أَرْضٍ وَاسِعَةٍ… تَضُمُّ أَيْضًا طَاحُونَةً مَائِيَّةً, كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَبْنَاء… اَلْأَكْبَرُ اِسْمُهُ صَالِح، وَاَلثَّانِي مُحَمَّدُ حَسَن، وَاَلأَصْغَرُ حَمْزَة .”
تَسَارَعَتْ أَنْفَاسِي. أَحْسَسْتُ أَنَّنِي لَمْ أَعُدْ طِفْلًا يصْغِي إِلَى حِكَايَةٍ مِنَ اَلْمَاضِي، بَلْ شَاهِدًا عَلَى سِرٍّ يَتَجَاوَزُنِي. تَسَاءَلْتُ دَاخِلِي:
“مَنْ كَانَ صَالِحُ رَمَضَان حَقًّا؟ وَكَيْفَ تَسَافِرُ مَلَامِحُهُ مِنْ جَسَدٍ إِلَى آخَرَ، مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ، لِتصِيرَ حَاضِرَةً فِي وَجْهِي أَنَا؟ أَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ اَلذَّاكِرَةُ أَقْوَى مِنَ اَلْمَوْتِ؟”
تَابَعَ جَدِّي:
“لَكِنَّ اَلْحَيَاةَ لَمْ تَتْرُكْهُم يَمْضُونَ كَمَا أَرَادُوا. أحداثٌ مُبَاغِتَةٌ، كَجُرْحٍ فِي نَسِيجِ اَلْأَيَّامِ، أَجْبَرَتْهُم عَلَى تَرْكِ مَنْزِلِهِم بَعْدَمَا أَصَابَتْهُم الفَاجِعَة.”
رَأَيْتُ كَتْفَي جَدِّي وَهُمَا يَنْهَارَانِ وَهُوَ يَسْتَعِيدُ اَلْمَشْهَدَ، كَأَنَّ اَلْحَمْلَ اَلثَّقِيلَ الَّذِي خَبَّأَهُ لِسَنَوَاتٍ طَوِيلَةٍ اِنْفَلَتَ فَجْأَةً مِنْ دَاخِلِهِ.
عَيْنَاهُ اِلْتَصَقَتَا بِاَلْأَرْضِ، وَيَدَاهُ تَشَابَكَتَا بِلا وَعْيٍ، كَمَنْ يُحَاوِلُ أَنْ يجمعَ شَتَاتَ نَفْسِهِ مِنَ اَلانْكِسَارِ.
وَفِي دَاخِلِي دَوَّى سُؤَالٌ صَامِتٌ:
“كَمْ مِنْ هَذَا اَلأَلَمِ يسْتَطَيعُ أَنْ يَبْتَلِعَهُ اَلْإِنْسَانُ قَبْلَ أَنْ يَنْهَارَ؟”
ظَلَّ اَلْاِسْمُ يَطُنُّ فِي رَأْسِي مِثْلَ لَحْنٍ لَا يَهْدَأُ:
“صَالِحُ رَمَضَان.”
رَدَّدتُهُ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي، تَحَرَّكَتْ شَفَتَايَ دُونَ صَوْتٍ، وَأَحَاطَتْنِي اَلْحِيرَةُ:
“كَيْفَ حُمِلَ هَذَا اَلْاِسْمُ؟
وَكَيْفَ لِرَجُلٍ غَربِيِّ اَلأَصْلِ أَنْ يمْنَحَ أَبْنَاءَهُ أَسْمَاءً عَرَبِيَّةً بِهَذَا اَلْعُمْقِ؟
أَكَانَ اِنْتِمَاءً؟
أَمْ سِرًّا أَخْفَاهُ فِي صَدْرِهِ؟”
لَمْ يَلْحَظْ جَدِّي أَسْئِلَتِي اَلْمُعَلَّقَةَ فِي اَلْهَوَاءِ، كَانَ غَارِقًا فِي زَمَنِهِ اَلْبَعِيدِ. عَيْنَاهُ ثَابِتَتَانِ فِي اَلأُفُقِ، كَأَنَّهُمَا تَعْبُرَانِ طَبَقَاتِ اَلزَّمَنِ لَا جُدْرَانَ اَلْغُرْفَةِ.
اِنْخَفَضَ صَوْتُهُ أَكْثَرَ، وَصَارَ كَهَمْسٍ يَنْسَابُ مِنْ بَيْنِ أَنْفَاسِهِ اَلثَّقِيلَةِ، كَأَنَّهُ يَخْشَى أَنْ تَفِرَّ اَلذِّكْرَيَاتُ إِنْ نَطَقَ بِهَا بِوُضُوحٍ. كُنْتُ أَرَى أَصَابِعَهُ تَنْزَلِقُ عَلَى سَطْحِ اَلطَّاوِلَةِ، تَتَحَسَّسُ حَوَافَهَا كَأَنَّهَا تُعِيدُ تَرْتِيبَ صُوَرٍ مَفْقُودَةٍ فِي ذَاكِرَتِهِ، صُوَرًا لَا يُرِيدُ أَنْ تَضِيعَ.
ثُمَّ قَالَ:
“لَكِنْ، فِي يَوْمٍ أَسْوَدَ، اِنْدَلَعَتِ اَلْحَرْبُ فِي دُومَا. مَكْتَبُ اَلسِّجِلِّ اَلْمَدَنِيِّ اَلْتَهَمَتْهُ اَلنِّيرَانُ، وَضَاعَتْ مَعَهُ كُلُّ اَلأَوْرَاقِ. تَلَاشَتِ اَلأَسْمَاءُ كَمَا لَوْ كَانَتْ أَوْرَاقًا لَمْ يَتَكَفَّلْ أَحَدٌ بِحِفْظِهَا، فَتَنَاثَرَ اَلتَّارِيخُ فِي اَلرّمَادِ.”
تَسَمَّرْتُ فِي مَكَانِي. قَشَعْرِيرَةٌ صَعِدَتْ ظَهْرِي بِبُطْءٍ، وَتَوَقَّفَ نَفَسِي لِلْحَظَةٍ. شَعَرْتُ أَنَّ اَلأَسْمَاءَ نَفْسَهَا – صَالِح، مُحَمَّدُ حَسَن، حَمْزَة – قَدْ تَحَوَّلَتْ إِلَى طُيُورٍ مُذْعُورَةٍ، تَطِيرُ وَسْطَ دُخَانِ اَلْمَاضِي، تَبْحَثُ عَنْ مَأْوًى وَلَا تَجِدُهُ.
خَفَقَ قَلْبِي بِعُنْفٍ، أَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَ، أَنْ أَفْهَمَ، أَنْ أَصْرخَ فِي وَجْهِ اَلزَّمَنِ:
“لِمَاذَا تُمْحَى اَلأَسْمَاءُ؟ وَمَنْ يَحْفَظُنَا إِنْ ضَاعَتْ أَوْرَاقُنَا؟”
لَكِنَّ اَلصَّمْتَ أَثْقَلَنِي، كَأَنَّنِي أَنَا اَلآخَرُ أَصْبَحْتُ جُزْءًا مِنْ تِلْكَ اَلأَوْرَاقِ اَلْمُحْتَرِقَةِ.
أَخَذَ جَدِّي يتَابِعُ:
“وَمَعَ اِنْحِسَارِ اَلْمَعَارِكِ، وَبَدْءِ اَلدَّوْلَةِ فِي لَمْلمَةِ مَا تَبَعْثَرَ مِنَ اَلْوُجُودِ، بَدَأَ اَلْمُوَظَّفُونَ يَسْأَلُونَ عَنْ اَلنَّاسِ وَأَقَارِبِهِمْ، يُحَاوِلُونَ إِعَادَةَ كِتَابَةِ اَلأَسْمَاءِ. لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَثَائِقُ تَحْفَظُ اَلْحَقَائِقَ، فَكَانَتِ اَلشَّهَادَاتُ اَلشَّفَهِيَّةُ هِيَ اَلْمَرْجِعُ، وَاَلذَّاكِرَةُ هِيَ اَلدَّفْتَرُ، وَاَلنَّاسُ يَرْوُونَ لَا كَمَا فِي اَلأَوْرَاقِ اَلرَّسْمِيَّةِ، بَلْ كَمَا عَاشُوا اَلأَسْمَاءَ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَحَادِيثِهِمْ.
فِي تِلْكَ اَلْحقْبَةِ، لَمْ تَكُنْ لِلْبِلَادِ ذَاكِرَةٌ مُؤَسَّسِيَّةٌ تسْتَندُ إِلَيْهَا.
لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ سِجِلَّاتٌ تُؤَكِّدُ أَوْ تَنْفِي.
كُلُّ مَا وُجِدَ هُوَ وَصْفُ اَلنَّاسِ لِبَعْضِهِمْ اَلْبَعْضِ، أَلْقَابٌ يُطْلِقُونَهَا بِحُبٍّ أَوْ بِسُخْرِيَّةٍ؛ لِتَكْرِيمٍ أَوْ لِإِرْضَاءِ، لِتَثْبِيتِ صُورَةٍ فِي اَلأَذْهَانِ لَا يَمْحُوهَا اَلزَّمَنُ.
كَانَتِ اَلأَسْمَاءُ تُولَدُ مِنَ اَلْمِهَنِ، مِنَ اَلْعَادَاتِ، مِنَ اَلطِّبَاعِ، أَوْ حَتَّى مِنْ نُكْتَةٍ لَحْظِيَّةٍ تَحَوَّلَتْ إِلَى هُوِيَّةٍ كَامِلَةٍ.”
“أَمَّا اَلِابْنُ اَلْأَكْبَرُ، فَقَدِ امْتَازَ بِلِسَانِهِ اَلسَرِيعِ وَحَدِيثِهِ اَلْمُتَدَفِّقِ اَلَّذِي لَا يَعْرِفُ اَلْكَلَلَ.
كَانَ يَشْرَحُ بِتَكرار و تفْصِيلٍ شَدِيدٍ، كَأَنَّهُ يَنْسِجُ مِنَ اَلْكَلَامِ بُيُوتًا مَنْطِقِيَّةً، وَيَمْلَأُهَا بِاَلصُّوَرِ وَاَلْمَعَانِي.
اَلْكَلِمَاتُ اَلَّتِي كَانَ يَنْتَقِيها لَمْ تَكُنْ عَرَبِيَّةً خَالِصَة، بَلْ كَانَتْ مِنْ لُغَةِ أُمِّهِ، تِلْكَ اَللُّغَةُ الَّتِي وَرِثَهَا عَنْهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ إِرْثًا مُقَدَّسًا. ظَلَّ يُحَافِظُ عَلَيْهَا بَعْدَ وَفَاتِهَا، يَلُمُّ شَتَاتَهَا فِي صَدْرِهِ وَيُصْبِغُ بِهَا كَلَامَهُ كَمَا يُصْبِغُ اَلرَّسَّامُ لَوْحَتَهُ اَلأُولَى.”
“أَهْلُ “دوما” وَقَفُوا أَمَامَ هَذِهِ اَللُّغَةِ اَلْغَرِيبَةِ بِآذَانٍ حَائِرَةٍ. نُطِقُوا بِهَا مُتَعَرِّجًا، فَهْمُهُمْ لَهَا هَشٌّ، لَكِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَتَوَقَّفُوا عَنْ اَلِاسْتِمَاعِ. كَانَ فِي أَصْوَاتِهِ مَا يَأْسِرُهُمْ، يَدْهَشُهُمْ وَيُسْتَفِزُّهُمْ فِي اَلْوَقْتِ نَفْسِهِ. وَفِي اَلأَزِقَّةِ اَلْمُزْدَحِمَةِ، بَدَأَ اَلنَّاسُ يَبْتَكِرُونَ لَهُ اِسْمًا، اِسْمًا يُشْبِهُ اَلصَّرْخَةَ أَكْثَرَ مِمَّا يُشْبِهُ اَلْوَصْفَ”
“اَلْبَرْبَرِي!” – هَكَذَا كَانُوا يُنَادُونَهُ، وَكَأَنَّ اَلْكَلِمَةَ نَفْسَهَا إِعْلَانٌ عَنْ حُضُورٍ قَوِيٍّ لَا يُمْكِنُ تَجَاهُلُهُ.
“اَلْبَرْبَرِي هُنَا!” – صَرْخَةٌ تَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهَا إِعْجَابًا وَشَيْئًا مِنَ اَلانْبِهَارِ اَلْخَائِفِ.
ثُمَّ تَأْتِي اَلْهَمَسَاتُ حِينَ يَغِيبُ: “اَلْبَرْبَرِي رَحَلَ…” – بِنَبْرَةٍ فِيهَا شَوْقٌ وَاِسْتِسْلَامٌ.”
كُنْتُ أُرَاقِبُ هَذِهِ اَلْكَلِمَاتِ وَهِيَ تَتَرَدَّدُ، كَأَنَّهَا اَرْتِجَافَاتٌ فِي اَلْهَوَاءِ تَتَسَلَّلُ إِلَى صَدْرِي عَلَى شَكْلِ مَوْجَاتٍ صَغِيرَةٍ.
يَدَايَ تَشَبَّثَتَا بِأَطْرَافِ اَلطَّاوِلَةِ، فِيمَا قَلْبِي يَهْمِسُ:
“كَمْ مِنَ اَلْقُوَّةِ يُمْكِنُ أَنْ يُخْفِيَهَا اَلْاِسْمُ؟ وَكَمْ مِنَ اَلأَسْرَارِ تَخْتَبِئُ فِي صَوْتِهِ؟”
“ذَلِكَ اَللَّقَبُ – “اَلْبَرْبَرِي” – لَمْ يَكُنْ يَعْنِي فِي لُغَتِهِمْ إِلَّا “كَثِيرَ اَلْكَلاَمِ”. لَكِنَّ اَلْمُفَارَقَةَ أَنَّ كَلِمَاتِهِ لَمْ تُفْهَمْ عَلَى نَحْوٍ كَامِلٍ.
كَانَ أَحَدُهُمْ يقطِبُ جَبِينَهُ وَيَسْأَلُ بِصَوْتٍ خَافِتٍ:
“مَاذَا يَقْصِدُ حَقًّا؟”
فِيمَا يُومِئُ آخَرُونَ بِرُؤُوسِهِمْ، وَكَأَنَّهُمْ يُوَافِقُونَ، لَكِنَّ أَعْيُنَهُمْ تفضحُهُم:
“مَزِيجٌ مِنَ اَلشَّكِّ وَاَلْفُضُولِ.”
بِمُرورِ اَلْوَقْتِ، صَارَ أَهْلُ “دوما” يَتَعَوَّدُونَ عَلَى ذَلِكَ اَلصَّوْتِ اَلْغَرِيبِ، صَوْتٌ يَحْمِلُ وُضُوحًا وَغُمُوضًا فِي آنٍ، يُخْفِي اَلْمَعْرِفَةَ أَكْثَرَ مِمَّا يَكْشِفُهَا. وَهَكَذَا، اِسْتَقَرَّ اَلْاِسْمُ فِي اَلأَزِقَّةِ، فِي اَلأَحَادِيثِ، وَفِي اَلْقُلُوبِ:
“اَلْبَرْبَرِي”… لَقَبٌ يُثِيرُ اِحْتِرَامًا غَامِضًا، وَإِعْجَابًا مُتَرَدِّدًا، وَدَهْشَةً لَا تَزُولُ.
لَمْ يُنَادُوهُ بِاسْمِهِ اَلَّذِي كَانَ يَحْمِلُهُ عِندَ قدومِه، بَل بِاللَّقَبِ اَلَّذِي صَارَ أَشَدَّ حُضُورًا وَشُهْرَةً وَاِنْتِشَارًا، حَتَّى بَدَا اِسْمُهُ اَلْحَقِيقِيُّ وَكَأَنَّهُ اِنْسَحَبَ إِلَى اَلظِّلِّ، بَيْنَمَا اِنْدَفَعَ اَللَّقَبُ إِلَى اَلْوَاجِهَةِ، رَاسِخًا فِي اَلذَّاكِرَةِ، محْفُورًا فِي اَلْسِّيرَةِ كَمَا تُحَفَرُ اَلْعَلَامَاتُ عَلَى اَلْحَجَرِ.
لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَابِعًا مِنْ سُوءِ نِيَّةٍ أَوْ اِزْدِرَاءِ، بَل بَدَا كَأَنَّهُ رَدُّ فِعْلٍ غَرِيزِيٍّ مِنْ بِيئَةٍ رِيفِيَّةٍ بَسِيطَةٍ، وَجَدَت نَفْسَهَا أَمَامَ لُغَةٍ بَدَت غَرِيبَةً، غَامِضَةً، قَادِمَةً مِنْ بَعِيدٍ.
كَانُوا يَسْتَمِعُونَ إِلَيْهِ فَلَا يَفْهَمُونَ تَمَامًا، وَيُعْجَبُونَ بِهِ دُونَ أَنْ يَمْلِكُوا تَفْسِيرًا لِإِعْجَابِهِمْ.
كَانَ صَالِحٌ بِطَبْعِهِ فَيَّاضَ اَلْكَلَامِ. كُلَّمَا اِجْتَمَعَ اَلنَّاسُ، كَانَ أَوَّلَ اَلْدَّاخِلِينَ إِلَى اَلدَّائِرَةِ.
يَقِفُ وَسطَهُمْ، يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي اَلْهَوَاءِ، أَصَابِعُهُ تَتَحَرَّكُ كَأَنَّهَا تَرْسُمُ شَكْلًا غَيْرَ مَرْئِيٍّ، كَأَنَّ اَلْمَعَانِي تَحْتَاجُ أَنْ تُرَى بِقَدْرِ مَا تُسْمَعُ.
عَيْنَاهُ تبْرقَانِ بِشَيْءٍ دَاخِلِيٍّ، وَفِي كُلِّ كَلِمَةٍ كَانَ هُنَاكَ صَدًى خَفِيٌّ، كَأَنَّ رُوحَهُ تَتَحَدَّثُ بِلِسَانَيْنِ: لِسَانُ اَلْأَرْضِ اَلْجَدِيدَةِ، وَلِسَانُ اَلْأُمِّ اَلْبَعِيدِ.
“مِنْ أَيْنَ تَأْتِي هَذِهِ اَلْكَلِمَاتُ؟” تَسَاءَلَ أَحَدُ اَلرِّجَالِ يَوْمًا، رَافِعًا حَاجِبَيْهِ بِدَهْشَةٍ، وَعَيْنَاهُ مُعَلَّقَتَانِ عَلَى فَمِ صَالِحٍ.
“كَأَنَّهُ يَتَحَدَّثُ مِنْ وَرَاءِ اَلْبِحَارِ!”
هَمَسَ آخَرُ، وَهُوَ يتَابِعُ بِحِيرَةٍ:
“هَلْ نَحْنُ حَقًّا نَفْهَمُهُ؟ أَمْ أَنَّنَا نَتَظَاهَرُ بِذَلِكَ؟”
كَانَتْ تِلْكَ اَلْكَلِمَاتُ اَلْمُنْثُورَةُ فِي اَلْهَوَاءِ لَيْسَتْ مِنْ لُغَةِ أَهْلِ “دوما”، بَلْ مِنْ لُغَةِ أُمِّهِ اَلَّتِي حَمَلَهَا مَعَهُ مِنْ وُهْرَانَ.
ظَلَّ صَالِحٌ وَفِيًّا لَهَا، يَرْفُضُ أَنْ يَتَخَلَّى عَنْهَا كلْيًا، حَتَّى بَدَا كُلُّ مَقْطَعٍ يَخْرُجُ مِنْ شَفَتَيْهِ نَسِيمًا غَرِيبًا، يَهِبُّ مِنْ شَاطِئٍ بَعِيدٍ مَجْهُولٍ.
فِي عُيُونِ أَهْلِ “دوما”، أَتَى غَرِيبًا. لَمْ يَكُنْ مِنْ تُرَابِهِمْ، وَكَأَنَّهُ أَتَى مِنْ نَجْمٍ آخَرَ.
وَمَعَ ذَلِكَ، كَانَ يَعِيشُ بَيْنَهُمْ، يَغْرِسُ جُذُورَهُ فِي اَلْأَرْضِ ذَاتِهَا، يَزْرَعُ أَوْلَادَهُ بَيْنَهُمْ، وَيُشَارِكُهُمْ تَفَاصِيلَ حَيَاتِهِمُ اَلْيَوْمِيَّةِ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ تَمَامًا. هَذَا اَلتَّنَاقُضُ زَادَهُمْ حِيرَةً، وَزَادَ صُورَتَهُ رُسُوخًا.
لَمْ يَكْشِفْ صَالِحٌ عَنْ اَلْقِصَّةِ اَلْكَامِلَةِ إِلَّا بَعْدَ سَنَوَاتٍ طَويلَةٍ، لِأَوْلَادِهِ وَحْدَهُمْ. كَانَتْ كَلِمَاتُهُ قَلِيلَةً، يَتْرُكُ بَيْنَهَا فَرَاغَاتٍ وَاسِعَةً، وَكَأَنَّ اَلْمَعْنَى اَلْأَعْمَقَ لَا يُقَالُ بَلْ يُفْهَمُ مِنَ اَلنَّظَرَاتِ، مِنْ اِنْحِنَاءَةِ رَأْسِهِ، أَوْ مِنْ يَدِهِ اَلَّتِي تَسْتَقِرُّ فَجْأَةً عَلَى اَلطَّاوِلَةِ.
تَرَكَ إِرْثًا صَامِتًا، مِثْلَ نَهْرٍ تَحْتَ اَلْأَرْضِ، يسْمَعُ لَهُ خَرِيرٌ خَافِتٌ لَكِنَّهُ لَا يَظْهَرُ لِلْعَيْنِ.
هَذَا، قُلْتُ فِي نَفْسِي، هُوَ اَلْبَدْءُ اَلْحَقِيقِيُّ… بدَايَةُ اَلْسِّيرَةِ اَلَّتِي لَمْ تُكْتَبْ بَعْدُ. بدَايَةُ اَلْحِكَايَةِ اَلَّتِي تَتَسَرَّبُ فِي دِمَائِنَا كَتَسَلُّلِ لَحْنٍ قَدِيمٍ، لَا نَعْرِفُ منْ أَلَّفَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ سنَحْفَظُهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ.
كُلَّمَا اِسْتَحْضَرْتُ صُورَتَهُ، أَرَاهُ بِيَدَيْهِ تَجُوبَانِ اَلْهَوَاءَ، بِشَفَتَيْهِ تشَكَّلَانِ كَلِمَاتٍ مَأْلُوفَةٍ وَغَرِيبَةٍ فِي اَلْوَقْتِ نَفْسِهِ، وَبِحُضُورٍ لَا يَزَالُ يَرِنُّ فِي حَرَكَاتِنَا نَحْنُ، أَحْفَادُهُ، كَجَرَسٍ خَفِيٍّ لَا يَخْفَتُ صَدَاهُ.
أَهْلُ اَلْقَرْيَةِ – اَلَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا غَيْرَ لُغَةٍ وَاحِدَةٍ، بِمُفْرَدَاتِهَا اَلْمَحْدُودَةِ – لَمْ يَجِدُوا وَسِيلَةً لِمُجَارَاةِ هَذَا اَلِانْحِرَافِ اَللُّغَوِيِّ إِلَّا أَنْ يَخْتَزِلُوهُ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، كَلِمَةٌ تَصِيرُ جَوَابًا لِكُلِّ حِيرَةٍ:
“اَلْبَرْبَرِي!”
كَانُوا يُنَادُونَهُ بِهَا بِصَوْتٍ عَالٍ أَحْيَانًا، كَأَنَّهَا إِعْلَانٌ عَنْ قُوَّةٍ غَيْرِ مَأْلُوفَةٍ، وَبِهَمْسٍ فِي أَحْيَانٍ أُخْرَى، كَاعْتِرَافٍ خَفِيٍّ بِتَمَيُّزِهِ.
وَمَعَ مرُورِ اَلزَّمَنِ، صَارَ اَلْاِسْمُ ظِلًّا مُلَازِمًا لَهُ، يَتْبَعُهُ أَيْنَمَا ذَهَبَ، حَتَّى تَجَذَّرَ فِي هُوِيَّتِهِ أَكْثَرَ مِنْ اِسْمِهِ اَلَّذِي وُلِدَ بِهِ.
بَقِي “اَلْبَرْبَرِي” مُحْفُورًا فِي ذَاكِرَةِ اَلْقَرْيَةِ، يَتَرَدَّدُ عَلَى أَلْسِنَةِ اَلنَّاسِ كَصَدًى لَا يُمْحَى، يَنْتَقِلُ مِنْ جِيلٍ إِلَى آخَرَ، مِثْلَ نَغْمَةٍ قَدِيمَةٍ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ أَنْ يُوقِّفَهَا.
كَانَ صَالِحٌ، ذَاكَ اَلابْنُ اَلَّذِي حمل لَقَبَ “اَلْبَرْبَرِي”، قَدْ جَاءَ مَعَ إِخْوَتِهِ وَزَوْجَةِ أَبِيهِ مِنْ مَدِينَةِ وهْرَان.
وَمَا إِنْ وَطِئَتْ قَدَمَاهُ أَرْضَ “دوما”، حَتَّى بَدَا وَكَأَنَّهُ جَاءَ مُحَمَّلًا بِشَظَايَا قِصَّةٍ أَكْبَرَ مِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى اِحْتِوَائِهَا – قِصَّةِ رَجُلٍ غَربِيٍّ عَبَرَ اَلْبَحارَ نَحْوَ اَلشَّرْقِ، لَكِنَّهُ تَمَسَّكَ بِلُغَتِهِ كَمَا يَتَمَسَّكُ اَلْغَرِيقُ بِخَشَبَةِ اَلنَّجَاةِ.
كَانَتْ لُغَتُهُ تَصْدَحُ فِي صَوْتِهِ كَصَدًى بَعِيدٍ، يُذَكِّرُ اَلْسَّامِعِينَ بِزَمَنٍ لَمْ يَعْرِفُوهُ، لَكِنَّهُ ظَلَّ حَاضِرًا فِي نَبَرَاتِهِ وَإِيمَاءَاتِهِ.
كَانَ حَمْزَة، اَلأَخُ اَلأَصْغَرُ، مُخْتَلِفًا مُنْذُ اَلطُّفُولَةِ. فِي خُطُوَاتِهِ حَذَرٌ، وَفِي نَظْرَتِهِ وَقَارٌ مُتَسَائِلٌ، كَأَنَّهُ يفَتِّشُ فِي عُيُونِ اَلنَّاسِ عَنْ خُيُوطٍ خَفِيَّةٍ تَرْبِطُ اَلْعَالَمَ بِبَعْضِهِ.
كَانَ يُصْغِي أَكْثَرَ مِمَّا يَتَكَلَّمُ، وَعِنْدَمَا يَتَكَلَّمُ يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَلِيلًا، وَيَمِيلُ بِجَسَدِهِ إِلَى اَلْأَمَامِ كَمَنْ يَقْتَنِصُ لَحْظَةً لَا يُرِيدُ لَهَا أَنْ تفْلِتَ.
كَانَ اَلْحَاضِرُونَ يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ بِصَمْتٍ، يَقْرَأُونَ فِي عُيُونِهِ يَقَظَةً غَامِضَةً، كَأَنَّهَا تَحْمِلُ وُعُودًا لَمْ تُفْصحْ لهم عَنْهَا اَلْحَيَاةُ بَعْدُ.
أَمَّا مُحَمَّدُ حَسَنٌ، فَقَدْ ظَلَّ مُتَمَسِّكًا بِاسْمِ عَائِلَةِ وَالِدَتِهِ “رَمَضَان”، كَمَا لَوْ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَحْفَظَ اَلأَصْلَ اَلْأَوَّلَ، ذَلِكَ اَلْجِذْرَ اَلْعَمِيقَ اَلَّذِي تَشَعَّبَتْ مِنْهُ بَقِيَّةُ اَلْحِكَايَاتِ. كَانَ يردِّدُ اِسْمَهُ أَمَامَ اَلْآخَرِينَ بِنَبْرَةٍ تَفِيضُ بِاَلْهُدُوءِ، وَكَأَنَّ كُلَّ حَرْفٍ فِيهِ يَنْبِضُ بِاَلِانْتِمَاءِ.
أَحَسَّ أَنَّ هَذَا اَلِاسْمَ لَيْسَ مُجَرَّدَ عَلَامَةٍ شَخْصِيَّةٍ، بَلْ صِلَةٌ خَفِيَّةٌ تَرْبِطُهُ بِاَلْأَسْلَافِ، شِرْيَانٌ نَابِضٌ يَسْرِي فِي عُرُوقِ عَائِلَةِ أُمِّهِ كُلِّهَا.
الفصل الثالث:
التقتِ الرِّوَايَاتُ عَلَى شَاطِئِ البَحْرِ، كَمَا تَتَعَانَقُ الأَمْوَاجُ عَلَى صَخْرَةٍ عَتِيقَةٍ – مُثَابِرَةٍ، ثَابِتَةٍ، وَفِي أَعْمَاقِهَا سِرّ مَا حَمَلَتْهُ فِي طَيَّاتِهَا أيَّامُ وَلَيَالِي وَهْرَانَ، تِلْكَ اللُّؤْلُؤَةُ المُتَلَأْلِئَةُ عَلَى السَّاحِلِ الغَرْبِيِّ لِلْجَزَائِرِ، تَشَابَكَتِ الأَقْدَارُ الَّتِي مَا كَانَتْ لِتَلْتَقِي لَوْلَا الحَنِينُ، وَمَا كَانَ لَهَا أَنْ تُثْمِرَ لَوْلَا حُبُّ المَرَافِئِ، وَمَا كَانَ لَهَا أَنْ تَنْغَرِسَ فِي الأَرْضِ لَوْلَا وَعْدٌ خَفِيٌّ بِأُفُقٍ جَدِيدٍ.
كَانَ عَبَقُ المِلْحِ يَمْتَزِجُ بِرَائِحَةِ الزَّعْتَرِ وَالرّصَاصِ القَدِيمِ، حِينَ وَقَفَ دَانِيَال مُولِر بَعْدَ سَنَوَاتٍ طَوِيلَةٍ مِنَ التَّرْحَالِ.
جَسَدُهُ كَانَ مُثقَلًا بِإِرْهَاقِ البَحْرِ، كَتِفَاهُ مُتَدَلِّيَتَانِ وَكَأَنَّهُمَا يَحْمِلَانِ أَثْقَالَ العَوَاصِفِ، لَكِنْ عَيْنَاهُ ظَلَّتَا مُتَلَأْلِئَتَيْنِ، تَبْحَثَانِ فِي البَعِيدِ عَنْ مَعْنًى لَمْ يَعْرِفْ كَيْفَ يُسَمِّيهِ.
“هل وَصَلْتُ حَقًّا، أَمْ أَنَّ الرِّحْلَةَ لَمْ تَبْدَأ بَعْدُ؟” هَمَسَ دَاخِلَهُ، وَهُوَ يحدِقُ فِي الأُفُقِ، كَأَنَّ البَحْرَ نَفْسَهُ يُجِيبُهُ بِصَمْتِهِ المُتَرَامِي.
إِلَى جَانِبِهِ، وَقَفَتْ آنا مَارِيَا، ابْنَةُ عَمِّهِ وَزَوْجَتُهُ، وَارِثَةُ ثَرْوَةٍ مِنَ التِّجَارَةِ وَالمِلَاحَةِ. كَانَتْ حَرَكَاتُهَا تَحْمِلُ فِي آنٍ وَاحِدٍ دِفْئًا صَامِتًا وَقُوَّةً خَفِيَّةً. نَظَرَتْ إِلَيْهِ بِعُمْقٍ، بِعَيْنَيْنِ فِيهِمَا مزِيجٌ مِن رَجَاءٍ وَخَوْفٍ.
“هل أَسْتَطِيعُ أَنْ أُحتفِظَ بِهِ لِي، أَمْ أَنَّ البَحْرَ سَيَخْطِفُهُ مِنِّي مِنْ جَدِيدٍ؟”
تَسَاءَلَتْ، بَيْنَمَا أَصَابِعُهَا تَتَحَرَّكُ بِارْتِبَاكٍ عَلَى حَافَّةِ ثَوْبِهَا، كَأَنَّهَا تَبْحَثُ عَنْ يَقِينٍ تَتَشَبَّثُ بِهِ.
لَمْ يَكُنْ زَوَاجُهُمَا ثَمَرَةَ تَقَالِيدَ صَارِمَةٍ وَلاَ اسْتِجَابَةً لِعُرْفٍ عَائِلِيٍّ قَدِيمٍ.
كلَّا. كَانَ زَوَاجُهُمَا ثَمَرَةَ حُبٍّ نَضَجَ بِبُطْءٍ، كَحَبَّاتِ العِنَبِ تَحْتَ شَمْسٍ حَانِيَةٍ، غَذَّاهُ الشَّوْقُ وَالاخْتِيَارُ مَعًا. حُبٌّ وُلِدَ مِنَ التَّعَبِ، لَكِنَّهُ ظَلَّ يَتَوَهَّجُ مِثْلَ لَهَبٍ عَنِيدٍ، يَرْفُضُ أَنْ يَنْطَفِئَ.
كَانَ هُوَ، فِي لَحَظَاتِ سُكُونِهِ، يَشْعُرُ بِأَنَّ يَدَهَا عَلَى كَتِفِهِ تُسَكِّنُ ارْتِعَاشَةَ قَلْبِهِ، لَكِنَّهَا فِي الوَقْتِ ذَاتِهِ تُوقِظُهُ مِنْ غَفْوَتِهِ، كَأَنَّهَا تَقُولُ لَهُ بِلاَ كَلَامٍ: “لا تَهْرُبْ، لَقَدْ حَانَ الوَقْتُ أَنْ تَنْتَمِي.”
وَمَعَ ذَلِكَ… جَاءَتِ الكَارِثَةُ. جَاءَت كَرِيحٍ صَاخِبَةٍ تَقْطَعُ خَيْطَ الأَمَلِ، كَعَاصِفَةٍ لاَ تُنذِرُ بِقُدُومِهَا، فَتُطيحُ بِالسُّكُونِ وَتَفْتَحُ فَجْوَةً فِي الرُّوحِ لاَ يُسَدُّهَا شَيْءٌ.
1783
العَامُ الَّذِي انْهَارَ فِيهِ أَوَّلُ بَيْتٍ لَهُمَا عَلَى أَطْرَافِ هَارْبرْغ.
غُبَارُ النيران يَتَصَاعَدُ كَأَشْبَاحٍ هَائِمَةٍ، الصّرَخَاتُ تَتَقَطَّعُ فِي الفَضَاءِ، بُرُودَةُ اللَّيْلِ تَنْغَرِزُ فِي العِظَامِ – وَالخَسَارَةُ كَانَت أَثْقَلَ مِنْ أَنْ تُحْمَلَ.
الآبَاءُ لَمْ يَعُودُوا يَرْفَعُونَ أَعْيُنَهُمْ إِلَيْهِ، وَالطِّفْلُ الَّذِي لَمْ يَتَجَاوَزْ عَامَهُ الأَوَّلَ، يَصْرُخُ؛ وَلاَ يدْرِكُ أحدٌ أَنَّ صَرْخَاتِهِ الأَخِيرَةَ تلكَ كَانَت إِعْلَانًا عَنْ نهايةٍ زمنٍ؛ وَبَدَايَة حَيَاةٍ لهذه الأُسرةِ الَّتِي أَصبَحَتْ بِلاَ مَأْوًى.
فِي صَدْرِ دَانِيَال فَجْوَةٌ هَائِلَةٌ، كَأَنَّ أَحَدَهُم قَدِ اقْتَلَعَ الهَوَاءَ مِن رِئَتَيْهِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ سِوَى صَمْتٍ يُوجِعُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَيِّ كَلِمَةٍ.
أَمَّا آنا مَارِيَا فَقَدْ ضَغَطَتْ كَفَّيْهَا عَلَى وَجْهِهَا، تُحَاوِلُ عَبَثًا أَنْ تُسْدِلَ سِتَارًا عَلَى صُورِ الخَرَابِ، لَكِنَّ الدُّمُوعَ اِنْسَلَّتْ بِلاَ إِذْنٍ، سَائِلَةً كَجَدْوَلٍ لاَ يَعْرِفُ التَّوَقُّفَ.
“لِمَاذَا نَحْنُ؟” هَمَسَتْ بِصَوْتٍ مُتَهَدِّجٍ، تَرَدَّدَ السُّؤَالُ كَأَنَّهَا تُخَاطِبُ الفَرَاغَ، أَوْ كَأَنَّهَا ستَجِدُّ جَوَابًا مِنْ قُلُوبٍ لَمْ تَعُدْ تَسْمَعُ. تَكَرَّرَتِ الهَمَسَاتُ، حَتَّى صَارَ صَوْتُهَا كَخَيْطٍ يَتَمَزَّقُ بِبُطْءٍ.
بَيْنَمَا ظَلَّ دَانِيَال صَامِتًا، يَقْبِضُ يَدَيْهِ كَمَنْ يُرِيدُ سَحْقَ الفَرَاغِ، وَيُطبِقُ جُفُونَهُ كَمَنْ يَخْشَى اِنْهِيَارَهُ الدَّاخِلِيَّ. لَمْ يَكُنْ دَاخِلَهُ سِوَى فِكْرَةٍ وَاحِدَةٍ تَتَرَدَّدُ كَصَدًى بَعِيدٍ:
“الهُرُوب…”
نَعَمْ، الهُرُوبُ. أَحْيَانًا لَيْسَ جُبْنًا، بَلْ هو القَرَارُ الأَرْقَى حِينَ تَضِيقُ بِكَ الدُّنْيَا وَتُغْلِقُ أَبْوَابَهَا.
وَهَكَذَا صَارَ البَحْرُ مُوْطِنَهُمْ الجَدِيدُ، وَقَدَرُهُمْ الَّذِي لاَ فِكَاكَ مِنْهُ.
الثَّرَوَاتُ، إِرْثُ العَمِّ وَالجَدِّ، كُلُّهَا عَبَرَتْ مَعَهُمْ. لَكِنَّ البَحْرَ، ذَاكَ الاِمْتِدَادُ الأَزْرَقُ، لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدَ طَرِيقٍ؛ كَانَ مِرْآةً لِدَاخِلِهِمْ:
مُتَقَلِّبًا مِثْلَ قُلُوبِهِمْ، وَاسِعًا مِثْلَ آلَامِهِمْ، مَلِيئًا بِالوُعُودِ الغَامِضَةِ، وَمُثقَلًا بِالتَّهْدِيدَاتِ وَأَسْئِلَةٍ لاَ يُجِيبُ عَنْهَا أَحَدٌ.
الأَعوَامُ تَمُرُّ بِبُطءٍ, وسطَ زَحَامِ المَوَانِئِ، وَرِيَاحِ البَحْرِ المَالِحَةِ، وَالوُجُوهِ المُتَعَبَةِ لِلْمُسَافِرِينَ.
وجَاءَ الخَبَرُ كَخَيْطِ نُورٍ فِي لَيْلٍ حَالِكٍ:
“آنا مَارِيَا تَحْمِلُ فِي رَحِمِهَا طِفْلًا.”
حِينَئِذٍ ارْتَعَشَتْ عَيْنَاهَا بِدَهْشَةٍ، وَضَعَتْ يَدَهَا المُرْتَجِفَةَ عَلَى بَطْنِهَا، بَيْنَمَا ابْتَلَعَ دَانِيَال أَنْفَاسَهُ، وَكَأَنَّ الكَوْنَ كُلَّهُ انْكَمَشَ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ.
هَلْ يَكُونُ هَذَا الطِّفْلُ بدَايَةَ حَيَاةٍ جَدِيدَةٍ؟ أَمْ اِمْتِدَادًا لِرِحْلَةِ عَذَابٍ لاَ تَنْتَهِي؟
وَقَفَ دَانِيَال طَوِيلًا، كَأَنَّ الكَلِمَاتِ قَدْ هَجَرَتْ لِسَانَهُ. يَدَاهُ، اللَّتَانِ كَانَتَا تَتَشَبَّثَانِ بِالحَبْلِ لَحْظَةً قَبْلَ، أَفْلَتتَا بِبُطْءٍ، حَتَّى بَدَا كَأَنَّ الكَوْنَ نَفْسَهُ تَوَقَّفَ عَنْ التَّأَرْجُحِ. رَفَعَ نَظَرَهُ إِلَيْهَا، وَكَانَتْ عَيْنَاهُ فِي وَهَجِ الشَّفَقِ تَتَلَأْلَأَنِ بِدُمُوعٍ لَمْ تَجْرُؤْ عَلَى النُّزُولِ. تَرَدَّدَتْ فِي دَاخِلِهِ فِكْرَةٌ خَافِتَةٌ، لَكِنَّهَا أَضْحَتْ يَقِينًا:
“قَلْبِي قَادِرٌ أَنْ يُغَيِّرَ المَسَارَ… بَعِيدًا عَنْ خَرَائِطِ البِحَارِ اللاّمُتَنَاهِيَةِ، نَحْوَ خَرِيطَةِ الرَّحْمَةِ.”
كَانَتِ المَوَانِئُ الَّتِي طَالَمَا أَغوَتْهُ بِذِكْرَيَاتِ الحَنِينِ قَدْ تَحَوَّلَتْ فِي عَيْنَيْهِ إِلَى مُجَرَّدِ مَحَطَّاتٍ عَابِرَةٍ، أَمَّا البِحَارُ فَمَا عَادَتْ إِلَّا اِمْتِحَانَاتٍ ثَقِيلَةً يَنْبَغِي عبُورُهَا. لَمْ يَعُدْ يَطْلُبُ السَّوَاحِلَ البَعِيدَةَ، بَل شَيْئًا وَاحِدًا، وَاضِحًا وَعَظِيمًا:
“أَمَانُهَا… وَأَمَانُ الصَّغِيرِ.”
وَعِنْدَمَا لَامَسَتْ أَقْدَامُهُمْ اليَابِسَةَ فِي مَدِينَةٍ لَمْ تَكُنْ من قَبْلُ مَدِينةً عَابِرَةً، فِي وَهْرَانَ، شَعَرَ بِصَمْتٍ غَرِيبٍ، صَمْتٍ كَأَنَّ الرِّحْلَةَ كُلَّهَا قَدْ حَبَسَتْ أَنْفَاسَهَا. كَانَ يُرِيدُ لَها أَن تَكُونَ هُدْنَةٌ قَصِيرَةٌ؛ لَحْظَةٌ يَتَوَقَّفُ عِنْدَهَا القَلْبُ قَبْلَ أَنْ يُطَالِبَ البَحْرُ بِأَرْوَاحِهِمْ مِنْ جَدِيدٍ.
لَكِنَّ هَذِهِ المَرَّةَ، لَمْ يَتْبَعْهُ. بَقِيَ.
وَبَيْنَمَا ارْتَخَتِ الحِبَالُ، وَاُنزِلَتِ الأَشْرِعَةُ، وَرَسَتِ السَّفِينَةُ الَّتِي حَلُمَ بِهَا مُنْذُ طُفُولَتِهِ، اتَّخَذَ دَانِيَال قَرَارَهُ. نَزَلَ عَنْ متْنِهَا، وَقَدَمَاهُ تَرْتَجِفَانِ بَيْنَ الأَرْضِ وَاليَقِينِ، لِيَبْدَأَ حَيَاةً جَدِيدَةً.
كَانَ قَد بَنى بَيْتًا فِي وَهران، بَعدَ أَنْ أَيْقَنَا أَنَّ كَارِثَةَ سَنَةِ 1783 لَنْ تَتْرُكَهُ وَزَوجَتَهُ بِسَلَامٍ. وَاتَّخَذَا لَهُمَا سُوقًا صَغِيرًا، كَأَنَّهُما يهْمِسا لِلمَدِينَةِ بِصَوْتٍ مَبْحُوحٍ:
“هُنَا سَيَكُونُ لَنَا مَركزٌ بَدِيلٌ عَلَى الأَرضِ.”
وَفِي اللَّيَالِي، حِينَ تَتَمَدَّدُ الظِّلَالُ، كَانَا يَجْلِسا تَحْتَ سَقْفِهِ الجَدِيدِ، يَدُهُ عَلَى عَارِضَتِهِ الخَشَبِيَّةِ، يَهْمِسُ لِنَفْسِهِ بِنَبْرَةٍ يَمْلَؤهَا خَوْفٌ وَطُمَأْنِينَةٌ فِي آنٍ:
“هَذَا البَحْرُ لِي، نَعَمْ… لَكِنَّهُ لَمْ يَعُدْ وَحْدَهُ. اليَابِسَةُ أَهَمُّ الآن… مِنْ أَجْلِهَا، وَمِنْ أَجْلِ صَغِيرٍ لَمْ يُولَدْ بَعْدُ.”
وَمِنْ هُنَا، مِنْ أَرْضٍ غَرِيبَةٍ عَنْ مِيرَاثِ أَسْلَافِهِ، لَكِنَّهُ غَرَسَ فِيهَا بُذُورًا جَدِيدَةً، بَدَأَتِ القِصَّةُ بِالتَّشَعُّبِ. كُتِبَتْ نَفْسُهَا فِي دِمَاءِ أَبْنَائِهِ الثَّلَاثَةِ: فِي أَصْوَاتِهِمْ وَلَهَجَاتِهِمْ، فِي نُدُوبِهِمْ، وَفِي دَفَاتِرِ أَرْوَاحِهِمْ. ذِكْرَيَاتٌ تَبَعْثَرَتْ، أُخْرَى احْتَرَقَتْ، وَأُخْرَى ذَابَتْ فِي النِّسْيَانِ. وَمَعَ ذَلِكَ، ظَلَّتْ كُلُّهَا حَاضِرَةً، مِثْلَ شَظَايَا أُغْنِيَةٍ قَدِيمَةٍ تَرْفُضُ أَنْ تَسْكُتَ.
وُلِدَ الطِّفْلُ كَمَا لَوْ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ ضِفَّتَيْنِ لاَ تَعْتَرِفُ أَيُّهُمَا بِأَنَّهُ وَطَنٌ. لاَ خَرِيطَةٌ حَمَلَتْ مَلَامِحَهُ، وَلاَ رَايَةٌ رَفرَفَتْ فَوْقَ رَأْسِهِ. وَمَعَ ذَلِكَ، كَانَ مَوْجُودًا، حَيًّا، بِظِلٍّ عَلَى وَجْهِهِ كَأَنَّ فِيهِ صُورَةً بَعِيدَةً لِجَدٍّ رَحَلَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ذُرِّيَّتَهُ سَتَتَوَزَّع كَحَبَّاتِ المِلْحِ… وَكَحُبٍّ خَفِيٍّ يُعَجنُ فِي خُبْزِ الغُرْبَةِ.
آنا مَارِيَا اسْتَقَرَّتْ فِي هَذَا الوَطَنِ الغَرِيبِ، لاَ كَمُوَاطِنَةٍ تَنْتَمِي رَسْمِيًّا، بَل كَامرأَةٍ تَتَشَبَّثُ بِعِنَادٍ فِي وَجْهِ الرَّحِيلِ، كَأَنَّهَا تَقُولُ لَهُ: “لَنْ أَسْمَحَ لَكَ أَنْ تَنْتَزِعَ مِنِّي مَنْ أُحِبُّ.”
كَانَتْ تُمْسِكُ بِذِرَاعِ دَانِيَال بِكُلِّ قُوَّتِهَا، كَمَا لَوْ أَرَادَتْ أَنْ تُثَبِّتَهُ فِي الأَرْضِ، أَنْ تَمْنَعَهُ مِنَ الانْسِيَاقِ وَرَاءَ السُّحُبِ الخَفِيَّةِ لِلْبَحْرِ. وَفِي عَيْنَيْهَا، كَانَ يَحْتَرِقُ أَمَلُ امْرَأَةٍ رَفَضَتْ أَنْ تَخْسَرَ الرَّجُلَ الَّذِي نَجَا مِنَ المَوْتِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ.
أَمَّا دَانِيَال، فَبَقِيَ أَسِيرًا لِقَلَقِهِ الدَّاخِلِيِّ، مُتَأَرْجِحًا كَالْأَمْوَاجِ. عَيْنَاهُ تَتَنَقَّلَانِ بِلاَ قَرَارٍ، كَأَنَّهُمَا تَبْحَثَانِ عَنْ مَرْسَاةٍ لاَ وُجُودَ لَهَا. بَدَا وَكَأَنَّهُ وُلِدَ لِيَكُونَ مُتَرْجِمًا أَزَلِيًّا: بَيْنَ اللُّغَاتِ وَالشُّعُوبِ، بَيْنَ الوُجُوهِ الغَرِيبَةِ وَضِفَافِهَا المُوحِشَةِ.
وَجَاءَتِ اللَّحْظَةُ الأَصْعَبُ:
وُلِدَ الطِّفْلُ بَعْدَ صِرَاعٍ طَوِيلٍ، كَأَنَّهُ آخِرُ امْتِحَانٍ لِلْوَفَاءِ.
آنا، تِلْكَ الَّتِي لَمْ تَشَأ إِلَّا أَنْ تُخْفِ عَنِ الجَمِيعِ هَشَاشَتَهَا، كَادَتْ تَنْكَسِرُ فِي اليَوْمِ الَّذِي جَاءَ فِيهِ قَلْبُهَا إِلَى الدُّنْيَا عَلَى هَيْئَةِ طِفْلٍ صَغِيرٍ. اجْتَاحَتْهَا الأَمْرَاضُ، سَرَقَتْ مِنْهَا قُوَّتَهَا، وَأَخَذَتْ صَوْتَهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ إِلَّا هَمْسٌ مُتَقَطِّعٌ، أَشْبَهَ بِظِلِّ صَوْتٍ.
أَمَّا دَانِيَال، فَكَانَ يَتَشَبَّثُ بِالعَالَمِ كَمَا يَتَشَبَّثُ الغَرِيقُ بِخَشَبَةٍ وَحِيدَةٍ، مُحَاوِلًا أَلَّا يَنْكَسِرَ هُوَ أَيْضًا.
“أَيْنَ الطَّبِيبُ؟” صَرَخَ دَاخِلَهُ، كَأَنَّ صَوْتَهُ يَرْتَطِمُ بِجُدْرَانٍ صَمَاءَ. رَاحَ يُدَوِّنُ أَسْمَاءَ الأَطِبَّاءِ: عَرَبًا وَفَرَنْسِيِّينَ، إِسْبَانًا وَإِيطَالِيِّينَ… كَأَنَّهُ يَتَنَقَّلُ فِي قَامُوسٍ طِبِّيٍّ جَامِدٍ لاَ يَعْرِفُ الرَّحْمَةَ. لَكِنْ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ.
آنا ظَلَّتْ مُسْجَاةً عَلَى الفِرَاشِ لسنوات، تَتَأَرْجَحُ بَيْنَ الغَيْبُوبَةِ وَاليَقَظَةِ، وَكُلُّ مَا كَانَ يَتَرَدَّدُ عَلَى شَفَتَيْهَا بِضعْفٍ: “الطِّفْل… أَيْنَ طِفْلِي؟”
حِينَئِذٍ اقْتَرَحَتْ إِحْدَى الطَّبِيبَاتِ، الَّتِي تَابَعَتْ هَذَا الصِّرَاعَ المرِيرَ، اسْتِدْعَاءَ امْرَأَةٍ مِنْ وَهْرَانَ؛ سَيِّدَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِوَجْهِهَا النَّبِيلِ، قِيلَ إِنَّ قَلْبَهَا كَانَ بُسْتَانًا مُضِيئًا، يَفِيضُ رِقَّةً وَحَنَانًا، كَأَنَّ كُلَّ رُوحٍ تلَامِسُهُ تَنْبُتُ فِيهَا أَزْهَارُ الشَّبَابِ وَتَتَشَعُّ بِالخَيْرِ، وَتَتَنَفَّسُ النَّسِيمَ الدَّافِئَ لِأَحْلَامٍ لَمْ تُوَلَدْ بَعْدُ.
هَزَّ دَانِيَال رَأْسَهُ مُوَافِقًا، فَقَدْ نَفِدَ كُلُّ أَمَلٍ آخَرَ.
تَوَلَّتِ المَرْأَةُ رِعَايَةَ الرَّضِيعِ، احْتَضَنَتْهُ بِحَنَانٍ يُشْبِهُ صَلَاةً صَامِتَةً، وَكَأَنَّهَا تَحْفَظُهُ بِاسْمِ أُمِّهِ المُعَلَّقَةِ بَيْنَ الحَيَاةِ وَالمَوْتِ.
وَعِنْدَمَا تَنَفَّسَتْ آنا أَخِيرًا نَسِيمَ التَّعَافِي، طَالَبَتْ بِطِفْلِهَا فَوْرًا. بِيدَيْنِ مُرْتَعِشَتَيْنِ، كَأَنَّهُمَا مَا زَالَتَا تَحْمِلَانِ أَثَرَ المعَانَاةِ، ضَمَّتْهُ إِلَى صَدْرِهَا، وَدَفَنَتْهُ بَيْنَ دُمُوعِهَا. وَكَأَنَّهَا فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ تَتَحَدَّى بُرُودَةَ المَوْتِ نَفْسهَا.
ثُمَّ قَرَّبَتْ فَمَهَا مِنْ أُذُنِهِ، وَهَمَسَتْ بِصَوْتٍ مَبْحُوحٍ، لَكِنَّهُ مُحَمَّلٌ بِوَصِيَّةِ أُمٍّ تَنْحَتُهَا النَّارُ وَالدُّمُوعُ:
“كُنْ مِثْلَ أَبِيكَ يَا صَغِيرِي… كُنْ مِثْلَ جَدِّكَ. لاَ تَدَعِ الرِّيحَ تَكْسِرُكَ، وَلاَ تُغْمِضْ عَيْنَيْكَ عَنِ الأَمْوَاجِ.”
الرَّضِيعُ، صَغِيرُ الحَجْمِ كَمَا كَانَ، اسْتَمَعَ بِطَرِيقَتِهِ الخَاصَّةِ.
تَابَعَتْ عَيْنَاهُ شَفَتَيِ وَالِدَتِهِ، كَأَنَّهُمَا يَمْتَصَّانِ كُلَّ كَلِمَةٍ تَنْبُضُ بِالحَيَاةِ. ابْتَسَمَ حِينَ ابْتَسَمَتْ، وَإِذَا ارْتَجَفَ صَمْتُ صَوْتِهَا مِنْ أَلَمٍ خَفِيٍّ، انْقَبَضَ جَبِينُهُ الصَّغِيرُ، كَأَنَّهُ يَشْعُرُ بِمَا لَمْ تُعْلِنْهُ الكَلِمَاتُ بَعْدُ، كَأَنَّ صَدَى ذَلِكَ الأَلَمِ قَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ العَالَمَ كُلَّهُ.
فِي صَبَاحٍ بَعيدٍ فَتَحَتْ آنا مَارِيَا عَيْنَيْهَا.
لَحْظَةٌ تَاهَتْ فِيهَا نَظْرَتُهَا، كَأَنَّهَا بِحَاجَةٍ لِلتَّأَكُّدِ مِنْ أَنَّ العَالَمَ مَا زَالَ مُوجُودًا، وَأَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَنْسَحِبْ عَنِ السَّمَاءِ. ثُمَّ وَقَعَتْ عَيْنَاهَا عَلَى الصَّغِيرِ، بِنَظْرَةٍ أَشْرَقَتْ فِي أَرْجَاءِ الغُرْفَةِ، وَكَأَنَّهَا لاَ تُخَاطِبُهُ كَطِفلٍ، بَل كَشَابٍّ صَغِيرٍ يَنْبَغِي أَنْ يَفْهَمَ:
“صَبَاحُ ذَاكَ اليَوْمِ لَمْ يَكُنْ كَسَائِرِ الصَّبَاحَاتِ فِي هَارْبُورْغ…”
“كَانَتِ الشَّفَقُ تَتَنَفَّسُ بِبُطْءٍ، كَأَنَّهَا تَسْتَمِعُ هِيَ الأُخْرَى لِمَا سَيَأْتِي، وَكَأَنَّهَا تَعْرِفُ أَنَّ فِي هَذَا اليَوْمِ سَيُكْتَبُ فَصْلٌ جَدِيدٌ فِي حَيَاتِهِمْ.
نَسِيمُ نَهْرِ الإِلْبِه، رَطْبٌ وَنَاعِمٌ، مَدَّ يَدَهُ عَلَى النَّافِذَاتِ الخَشَبِيَّةِ، دَاعَبَ الشَّرَفَاتِ، وَأَهْتَزَّتْ أَطْوَاقُ الزُّهُورِ الَّتِي ضَفَرَتْهَا الفَتَيَاتُ لَيْلَةَ البَارِحَةِ عِنْدَ النَّهْرِ. ارْتَفَعَتْ رَائِحَةُ الخُبْزِ الطَّازَجِ مِنَ المَخَابِزِ القَدِيمَةِ، مُخْتَرِقَةً الحَوَاسَّ، تُحْيِي الذِّكْرَيَاتِ الغَارِقَةَ فِي القَلْبِ.
وَخَرَجَ العَمُّ فِرِيدْرِيش (جَدُّكَ) مِنْ بَوَّابَةِ الطَّاحُونَةِ، وَعَيْنَاهُ تَمْتَلِئَانِ بِالفَخْرِ، وَمَعَ ذَلِكَ ثَمَّةَ لَمْحَةٌ مِنَ الحَنِينِ.
اليَوْمَ يَتَزَوَّجُ دَانِيَال… الاِبْنُ الَّذِي لَمْ يُكْمِلْ طَرِيقَ البَحْرِ، وَالَّذِي اِخْتَارَ البَقَاءَ إِلَى جَانِبِ وَالِدِهِ، وَالقَلْبُ مُرْتَاحٌ مِن ثِقَلِ حَجَرِ الطَّاحُونَةِ…”
كَانَتْ كَلِمَاتُهَا ثَقِيلَةً، كَأَنَّهَا تُخَاطِبُ المُسْتَقْبَلَ الخَفِيَّ، كَأَنَّهَا تَرْوِي لِمَنْ يَسْتَمِعُ، لاَ لِلْطِّفْلِ الَّذِي لَمْ يَفْقَهْ بَعْدُ مَعْنَى كَلِمَةِ “زَوَاج”.
وَمَعَ ذَلِكَ، غَرَسَتْ فِي وَعْيِهِ الصَّغِيرِ صُورَةً تُشْبِهُ الرُّوحَ، صُورَةً سَتَظَلُّ تُرَافِقُهُ حِينَ تَتَسَلَّلُ إِلَيْهِ الأَسْئِلَةُ:
“مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ؟ وَمَنْ أَنَا؟”
وَفِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، بَدَا وَكَأَنَّ الطِّفْلَ شَعَرَ بِالأَصْوَاتِ وَالرَّوَائِحِ وَالوُجُوهِ المُحِيطَةِ بِهِ، كَأَنَّ عَالَمَهُ الصَّغِيرَ بَدَأَ يَرْتَسِمُ، وَبَدَأَ قَلْبُهُ يَتَعَلَّمُ أَنْ يَمْسِكَ الفَرَحَ وَالأَلَمَ مَعًا، بِرِفْقٍ، كَمَا يمْسِكُ المَرْءُ بِخَيْطٍ رَفِيعٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، لاَ يَتْرُكُهُ يَفْلِتُ إِلَّا حِينَ يَثِقُ أَنَّهُ مُسْتَعِدٌّ.
اِنْتَشَرَتْ أَهَازِيجُ هَادِئَةٍ فِي الغُرْفَةِ، خَافِتَةٍ، كَأَنَّهَا أَنْفَاسُ أُمٍّ تَرْبِطُ قَلْبَهَا بِقَلْبِ طِفْلِهَا قَبْلَ أَنْ يَنْهَضَ بِالكَامِلِ فِي غُرْبَةِ هَذَا العَالَمِ.
آنا مَارِيَا جَذَبَتِ الطِّفْلَ إِلَى صَدْرِهَا، وَمَدَّتْ يَدَهَا بِرِفْقٍ عَلَى خُصْلَاتِهِ الرَّقِيقَةِ. ارْتَعَشَتْ أَصَابِعُهَا قَلِيلًا، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَتْ كَلِمَاتُهَا رَاسِخَةً، كَأَنَّهَا تَهْمِسُ لَهُ بِسِرٍّ مِنْ أَسْرَارِ الأَبَدِيَّةِ فِي أُذُنِهِ:
“دَخَلَ دَانِيَال مِنْ بَوَّابَةِ الطَّاحُونَةِ القَدِيمَةِ، بِمَلَابِسِهِ الدَّاكِنَةِ، وَحذائِهِ الجِلْدِيَّ الَّذِي كَانَ وَالِدُهُ قَدْ صَقَلَهَا مَسَاءَ الأَمْسِ… لَقَدْ أَصْبَحَ رَجُلًا آخَرَ، يَحْمِلُ مَلَامِحَ الجِدِّيَّةِ وَقُوَّةَ النُّضْجِ.”
صَمَتَتْ لِلَّحْظَةٍ، وَكَأَنَّهَا تَسْتَمِعُ فَقَطْ لِلصُّورِ الَّتِي تَصَاعَدَتْ أَمَامَ ذِهْنِهَا كَضَبَابٍ يَخْتَبِئُ فِي الزَّوَايَا. ثُمَّ ابْتَسَمَتْ، ابْتِسَامَةً مُحَمَّلَةً بِالحُبِّ وَلَمْسَةٍ خَفِيَّةٍ مِنَ السُّخْرِيَةِ، وَقَالَتْ:
“عَلَى الكُرْسِيِّ الخَشَبِيِّ القَدِيمِ جَلَسَ فِرِيدْرِيش مُولِر، فِي زَاوِيَةٍ رَأَتِ الكَثِيرَ مِنَ الأَيَّامِ. رَفَعَ كَأْسَهُ، صَغِيرٌ وَبَسِيطٌ، مَمْلُوءٌ بِمَشْرُوبٍ غَرِيبٍ، وَانْحَنَى نَحْوَ جَارِهِ يُوهَان كْرَاوْس:
‘ظَنَنْتُ أَنَّ دَانِيَال لَنْ يَجْرُؤَ أَبَدًا عَلَى الاِعْتِرَافِ لَهَا.’”
ارْتَعَشَتْ نَبْرَةُ صَوْتِهَا قَلِيلًا وَهِيَ تُوَاصِلُ الكَلَامَ، كَأَنَّهَا مُمَثِّلَةٌ يُوَجِّهُهَا شَبَحُ ذِكْرَى خَفِيَّةٍ:
“تَضَخَّمَ ضَحِكُ يُوهَان – فِيهِ كَانَ ضَحِكُ الشُّيُوخِ الَّذِينَ عَرَفُوا أَنَّ الحُبَّ لاَ يَحْتَاجُ كَلِمَاتٍ، بَل أَفْعَالٌ. فَقَالَ:
‘لَمْ يَنْطِقْ بِهَذِهِ الكَلِمَاتِ… لَكِنَّهُ فَعَلَهَا. وَهَلْ يَحْتَاجُ الحُبُّ الحَقِيقِيُّ إِلَى إِذْنٍ؟’”
اِسْتَدَارَتْ إِلَى طِفْلِهَا – ابْنِهَا – وَكَانَتْ كَلِمَاتُهَا تَحْمِلُ صَدًى غَرِيبًا، كَأَنَّ رُوحَ الطِّفْلِ الَّذِي رَاحَ عَادَتْ عَبْرَ الزَّمَنِ لِتَشْهَدَ عَلَى مَا لَمْ يُسْمَحْ لَهُ يَوْمًا بِرُؤْيَتِهِ.
ثُمَّ تَوَقَّفَتْ فَجْأَةً، وَاشْتَدَّ الظَّلَامُ فِي عَيْنَيْهَا، كَأَنَّهَا اِنْتَقَلَتْ مِنْ نُورِ الدُّعَابَةِ إِلَى مَمَرِّ الذِّكْرَى الغَامِضِ. هَمَسَتْ بِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ، كَأَنَّ الكَلِمَاتِ تَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ طَيَّاتِ الزَّمَنِ:
“عَلَى الجَانِبِ الآخَرِ مِنَ البَيْتِ وَقَفَتِ العَرُوسُ – أُمُّكَ – فِي مَرْكَزِ الغُرْفَةِ، تُحِيطُ بِهَا نِسَاءُ القَرْيَةِ. كُنَّ يرنِمْنَ أُغْنِيَةً قَدِيمَةً، أُغْنِيَةً تَحْمِلُ أَنْفَاسَ القُرُونِ:
‘مَنْ يَكْسِبُ القَلْبَ، يَحْمِلُ التَّاجَ الجَمِيلَ…’”
تَوَقَّفَتْ، ثُمَّ أَضَافَتْ بِبُطْءٍ، كَأَنَّهَا تَهْمِسُ لأُذُنِ الزَّمَنِ نَفْسِهِ:
“الشَّخْصُ الَّذِي يَكْسِبُ القَلْبَ، يَكْسِبُ أَيْضًا التَّاجَ البَهِيَّ.”
“اِنْحَنَتْ وَالِدَتِي إِلِيزَابِيث عَلَى شَعْرِ فَتَاةٍ صَغِيرَةٍ، تَتَحَرَّكُ أَصَابِعُهَا بِخِفَّةٍ وَمَهَارَةٍ بَيْنَ خُصْلَاتِهِ، وَعَيْنَاهَا تَتَلَأْلَأُ بِصَبْرٍ رَقِيقٍ، كَأَنَّهُمَا تَرْوِيَانِ قِصَّةً لاَ تُحْكَى بِالكَلِمَاتِ.
ثُمَّ اقْتَرَبَتْ مِنِّي، أنا – آنا مَارِيَا – وَارْتَسَمَتْ عَلَى شَفَتَيْهَا ابْتِسَامَةٌ مُحَمَّلَةٌ بِالحَنَانِ، ابْتِسَامَةٌ تَخْتَلِطُ فِيهَا الدِّفْءُ بِالحَنِينِ. اِنْحَنَتْ قَلِيلًا، كَمَا لَوْ كَانَتْ تَبُوحُ بِسِرٍّ، وَهَمَسَتْ:
“فِي هَذَا الفُسْتَانِ تَشْبَهِينَ وَالِدَتَكِ… جَدَّتُكِ لِتَبْكِي فَرَحًا لَوْ رَأَتْكِ الآن.”
تَوَقَّفَتْ آنا مَارِيَا لِلَّحْظَةٍ، كَأَنَّهَا تَشُدُّ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ بِكُلِّ قُوَّتِهَا، كَأَنَّهَا تَخْشَى أَنْ يَفْلِتَ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ هَذَا المَاضِي الحَيِّ. زَفَرَتْ نَسْمَة هَادِئَة، ثُمَّ وَاصَلَتْ حَدِيثَهَا بِصَوْتٍ يَحْمِلُ بَرِيقَ الذِّكْرَى:
“فِي فَنَاءِ البَيْتِ القَدِيمِ كَانَتِ الطَّاوِلَاتُ مُغَطَّاةً، وَالأَقْمِشَةُ المُطَرَّزَةُ تَتَدَلَّى بِرِقَّةٍ، وَفِي الأَوَانِي الفَخَّارِيَّةِ البَسِيطَةِ وَقَفَتْ أَزْهَارُ الأَقْحَوَانِ وَالبَنَفْسَجِ، تَفُوحُ بِعِطْرِهَا مُمَتَّزِجًا بِرَائِحَةِ الخُبْزِ الطَّازَجِ. ارْتَفَعَتِ الهَتَافَاتُ عَبْرَ السَّاحَةِ، تَتَخَلَّلُهَا ضَحَكَاتُ الصِّبْيَةِ الَّذِينَ كَانُوا يَرْكُضُونَ خَلْفَ قِطْعَةِ خُبْزٍ مَحْشُوَّةٍ بِالعَسَلِ وَالفِسْتُقِ.”
اَلطِّفلُ بَيْنَ ذِرَاعَيْهَا كَانَ يَسْتَمِعُ، وَعَيْنَاهُ الزَّرقَاوَانِ الوَاسِعَتَانِ، تَتَلَأْلَأُ بِفَرْحَةٍ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَدْرَكَ مَعْنَاهَا بَعْدُ. كَانَ يَتَابِعُ حَرَكَةَ شَفَتَيْهَا، كَأَنَّهَا بَوَّابَاتٌ سِرِّيَّةٌ لِعَالَمٍ لَمْ يَتَعَلَّمْ بَعْدُ فَهْمَهُ. ابْتَسَمَ حِينَ ابْتَسَمَتْ، وَإِذَا مَا ظَلَّتْ عَيْنَاهَا مُظْلِمَتَيْنِ، ارْتَسَمَتْ عَلَى جَبِينِهِ غَمْزَةٌ صَغِيرَةٌ – اِنْعِكَاسٌ لِمَشَاعِرَ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهَا، بَلْ كَانَ يَشْعُرُ بِهَا فَقَطْ.
شَدَّتْ آنا مَارِيَا الطِّفْلَ إِلَى صَدْرِهَا، كَأَنَّهَا تُرِيدُ أَنْ تدفِئَ قَلْبَهُ، وَتَحَدَّثَتْ بِصَوْتٍ هَادِئٍ، كُلُّ كَلِمَةٍ فِيهِ كَحَجَرٍ كَرِيمٍ مَوْضُوعٍ بِعِنَايَةٍ:
اِقْتَرَبَ فِرِيدْرِيكْ، وَقَفَ إِلَى جَانِبِ شَقِيقِهِ هَانز – أَبِي – وَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ نَحْوَ دَانِيَال.
وَبَيْنَمَا كَانَ يربتُ عَلَى كَتِفِهِ بِوُدٍّ، هَمَسَ قَائِلًا:
“تَتَذَكَّر حِينَ طَلَبْتَ مِنْكَ مُسَاعَدَتِي فِي حِسَابِ حُصَصِ القَمْحِ؟ قُلْتَ حِينَئِذٍ إِنَّكَ مَشْغُولٌ بِرَسْمِ سَفِينَةٍ تَعْبُرُ البِحَارَ. أَمَّا اليَوْمَ، فَهَا أَنْتَ تَبْنِي بَيْتًا مِنَ الأَحْلَامِ، لاَ يَحْتَاجُ إِلَى أَشْرِعَةٍ.”
صَمَتَتْ آنا مَارِيَا، وَكَأَنَّ الذِّكْرَى احْتَضَنَتْهَا لِلَّحْظَةٍ. ثُمَّ أَغْمَضَتْ عَيْنَيْهَا بِبُطْءٍ، وَوَضَعَتْ جَبِينَ طِفْلِهَا عَلَى وَجْنَتِهَا، وَهَمَسَتْ بِصَوْتٍ يَرْتَجِفُ بَيْنَ القُوَّةِ وَالحَنِينِ:
“لَمْ يَكُنِ الأَمْرُ مُجَرَّدَ عُرْسٍ… هَذَا اليَوْمُ كَانَ إِعْلَانًا صَامِتًا بِأَنَّنَا، رَغْمَ كُلِّ الظُّرُوفِ المُحِيطَةِ، قَادِرُونَ عَلَى أَنْ نَحْيَا بِقَلْبٍ لَمْ يَخْضَعْ لِلْمَنْفَى. بَلْ عَلَى العَكْسِ، صَنَعَ لِنَفْسِهِ وَطَنًا مِنَ الحُبِّ.”
اِنْفَتَحَ مَسَاءُ رَبِيعٍ فِرِيدٍ أَمَامَهَا، يَكْتَسِي آخِرَ ضَوْءِ الشَّمْسِ بِرِدَاءٍ ذَهَبِيٍّ يُلَامِسُ سَنَابِلَ الحُقُولِ بِرِفْقٍ.
اِنْحَنَتْ آنا مَارِيَا فَوْقَ ابْنِهَا الصَّغِيرِ، مَدَّتْ يَدَهَا لِتَلْمِسَ شَعْرَهُ الذَّهَبِيَّ النَّاعِمَ، وَتَحَدَّثَتْ بِصَوْتٍ خَافِتٍ، كَمَا لَوْ كَانَتْ تُفْشِي لَهُ سِرًّا لاَ يَحِقُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْمَعَهُ:
“أَنَا، آنا مَارِيَا، تَوَجَّهْتُ فَوْرًا إِلَى مَكَانِ الاجْتِمَاعِ، حَيْثُ كَانَ وَالِدِي وَعَمِّي وَزَوْجِي مُجْتَمِعِينَ. أُمِّي، إِلِيزَابِيث، أَمْسَكَتْ بِحَاشِيَةِ فُسْتَانِي الأَبْيَضِ، وَرَفَعَتْهُ قَلِيلًا لِتُبْعِدَ عَنِّي رُطُوبَةَ نَدَى الحُقُولِ. كْرِيسْتِينَا، زَوْجَةُ عَمِّي – جَدَّتُكَ – سَارَتْ بِجَانِبِي، وَعَيْنَاهَا تَتَلَأْلَأُ بِالفَرَحِ، تَمْسِكَانِ بِنَظَرِي لِلَّحْظَةٍ قَصِيرَةٍ.”
أَغْلَقَتْ جَفْنَيْهَا لِلَّحْظَةٍ، كَأَنَّهَا تَرَى نَفْسَهَا مِنْ جَدِيدٍ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ:
“عَيْنَايَ، المُتَأَلِّقَتَانِ فِي زُرْقَةِ سَمَاءِ الشِّمَالِ، كَانَتَا تَحْمِلَانِ وَهجَ وَعَدٍ خَفِيٍّ. وَشَعْرِي، مُضْفُورٌ بِشَرِيطٍ أَبْيَضَ، اِنْسَابَ عَلَى كَتِفَيَّ، يجْعلُنِي أَبْدُو كَغَيْمَةٍ تَتَجَوَّلُ بَيْنَ قِمَمِ الأَشْجَارِ، وَأَنَا أَخْطُو عَلَى حَصَى الطَّرِيقِ.”
خَفَضَتْ صَوْتَهَا إِلَى هَمْسَةٍ، وَكَأَنَّهَا تُحَاوِلُ تَقْلِيدَ حَفِيفِ المَاضِي:
“بَيْنَ الحُضُورِ، اِنْحَنَتِ امْرَأَةٌ إِلَى أُخْرَى، وَحَرَّكَتْ شَفَتَيْهَا بِالْقَلِيلِ، قَائِلَةً:
‘إِنَّهَا ابْنَةُ عَمِّه… لَكِنَّهُ لَمْ يُحِبْ سِوَاهَا، مُنْذُ أَنْ لَعِبَا مَعًا تَحْتَ السَّنْدِيَانَةِ العَظِيمَةِ.’”
ضَحِكَتِ الأُخْرَى، ضَحْكَةً مَلِيئَةً بِالمَعْرِفَةِ وَالاعْتِرَافِ الصَّامِتِ، وَرَدَّتْ بِحَزْمٍ، كَمَا لَوْ كَانَتْ تُصدِرُ حُكْمًا لَا مَفَرَّ مِنْهُ:
“إِنَّهُ زَوَاجٌ، لاَ يُعْقَدُ بِالقَدْرِ فَقَطْ، بَل بِالذَّاكِرَةِ أَيْضًا…”
عَلَى السَّاحَةِ، المَكْسُوَّةِ بِحَصَى رَمَادِيٍّ نَاعِمٍ، تَجَمَّعَ الجِيرَانُ، كَأَنَّ قَطَرَاتِ النَّدَى تَرَقْرَقَتْ عَلَى أَوْرَاقِ الأَقْحَوَانِ.
الأَصْوَاتُ، الضَّحَكَاتُ، وَالخُطُوَاتُ الخَفِيفَةُ – كُلُّ شَيْءٍ امْتَزَجَ لِيُصْبِحَ زَفِيرًا عَابِرًا لِلْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ، يَتَنَفَّسُ مِنْ خِلَالِهِ كُلُّ قَلْبٍ حَاضِرٍ.
خَرَجَ بِيتر شتاين إِلَى الأَمَامِ، صَوْتُهُ دَافِئٌ وَمَرِنٌ وَهُوَ يُنَادِي:
“مَارْتِن، أَرْجُوكَ اعْزِفْ شَيْئًا! دَعُوا مَطَارِقَكُمْ تَرْتَاحُ اليَوْمَ!”
تَوَقَّفَ مَارْتِن فِيشَر لِلَّحْظَةٍ، رَمْشَاتُهُ تَتَأَقْلَمُ مَعَ الضَّوْءِ الَّذِي تَنْعَكِسُ خُيُوطُهُ بَيْنَ وُجُوهِ الحَاضِرِينَ. ارْتَسَمَتْ عَلَى شَفَتَيْهِ ابْتِسَامَةٌ خَافِتَةٌ، وَهُوَ يَفْتَحُ صُنْدُوقَ الكَمَانِ، يَرْفَعُهُ بِحَذَرٍ كَأَنَّهُ كَنْزٌ دَفِينٌ فِي قَبْوِ قَلْبِهِ، يُلَامِسُ الأَصَابِعُ الأَوْتَارَ كَمَا يَلْمِسُ المَرْءُ صَفَحَاتِ الذِّكْرَى القَدِيمَةِ، فَارْتَجَفَ صَدَى المَاضِي بَيْنَ أَصَابِعِهِ.
ثُمَّ قَالَ، وَكَأَنَّ كَلِمَاتِه تَعَهَّدٌ صَامِتٌ:
“سَأَعْزِفُ لَهُمْ لَحْنَ البَحَّارَةِ العَائِدِينَ مِنَ البَعِيدِ… فَالْحُبُّ فِي النِّهَايَةِ عَوْدَةٌ أَبَدِيَّةٌ إِلَى المَرَافِئِ الأُولَى.”
قَبْلَ أَنْ تَلْمَسَ النَّغْمَةُ الأُولَى أَرْكَانَ المَكَانِ، نَهَضَ هَايِنْرِيش وُولْف، قَائِمًا بِثِقْلِ جِسْمِهِ، لَكِنْ بِعِزَّةٍ دَاخِلِيَّةٍ. رَفَعَ كَأْسَهُ، فَارْتَدَّتْ أَشِعَّةُ الضَّوْءِ مِنَ النَّبِيثِ كَرَقْصَةٍ عَابِرَةٍ، وَنَادَى بِصَوْتٍ ثَابِتٍ، دُونَ انْتِظَارِ جَوَابٍ:
“لِـ دَانِيَال وَآنا مَارِيَا… لِقُلُوبِهِمَا الَّتِي لَمْ تَسْتَطِعِ المَرَافِئُ البَعِيدَةُ وَلَا حِكَايَاتُ التُّجَّارِ تَغْيِيرَهَا!”
حَلَّ صَمْتٌ قَصِيرٌ، اخْتَرَقَهُ ضَحِكٌ مِنْ زَاوِيَةِ السَّاحَةِ. هُنَاكَ جَلَسَ فْرِيتْز بُومَان، الكَأْسُ بَيْنَ يَدَيْهِ، حَرَكَتُهُ نِصْفُ جَادَّةٍ وَنِصْفُ مَازِحَةٍ، وَعَيْنَاهُ تَتَلَأْلَأَنِ بِخِفَّةٍ مَاكِرَةٍ وَهُوَ يُنَادِي:
“لَكِنْ لَا تَنْسَوْا أَنَّ دَانِيَال أَفْضَلُ بحَّار فِي هامبورغ! لَوْ لَمْ يَصِرِ الأَبُّ عَلَى أَنْ يُكْمِلَ الاِبْنُ إِدَارَةَ المَطْحَنَةِ، لَكَانَتِ الحَالُ مُخْتَلِفَةً. يَبْدُو أَنَّهُ سَيَحْمِلُ إِرْثَ وَالِدَتِهِ وَلَنْ يَعُودَ إِلَى البَحْرِ!”
تَصَاعَدَ الضَّحِكُ، كَكُورَالٍ خَافِتٍ يُعَبِّرُ السَّاحَةَ، فِيْمَا تَجَوَّلَ الأَطْفَالُ بَيْنَ أَرْجُلِ الكِبَارِ، وَعِطْرُ الخُبْزِ وَالنَّبِيذِ يَمْلَأُ الجَوَّ، مَمْزُوجًا بِبَهْجَةٍ لاَ يُمْكِنُ تَفْسِيرُهَا.
وَمَعَ اقْتِرَابِ الظُّهْرِ، بَدَأَ الزَّغَارِيدُ تَتَدَاخَلُ مَعَ الحَرَكَةِ، وَخَرَجَ الزِّفَافُ مِنْ بَيْتِ الوَالِدَيْنِ، يَقُودُهُ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ:
عَازِفُ نَايٍ تَعْلُو نَغَمَاتُهُ بِرِقَّةِ النَّدَى، طَبَّالٌ صَغِيرٌ تَضْرِبُ يَدَاهُ الإِيقَاعَ كَنَبْضِ قَلْبٍ حَيٍّ، وَمَارْتِن يَحْمِلُ الكَمَانَ، كَأَنَّهُ يُرْسِلُ صَلَاةً صَامِتَةً إِلَى السَّمَاءِ، تَحْمِلُ بَيْنَ أَوْتَارِهَا كُلَّ الأمنِيَّاتِ المُدْفُونَةِ فِي القُلُوبِ.
خَلْفَهُمْ كَانَ الأَطْفَالُ يَلْهوْنَ، ضَحِكَاتُهُمْ تَتَرَدَّدُ فَوْقَ سَاحَةِ الحَصَى، يَتَعَقَّبُونَ الحلْوَى الَّتِي تُرْمَى مِنْ نَوَافِذِ البُيُوتِ.
كَأَنَّ أَيْادٍ خَفِيَّةٍ قَدْ نَشَرَتِ الفَرَحَ فِي المَكَانِ، وَأَقْنَعَتِ الجَمِيعَ بِأَنَّ هَذَا اليَوْمَ هُوَ يَوْمٌ وَاحِدٌ فَقَطْ فِي العُمْرِ، يَوْمٌ لاَ يَتَكَرَّرُ، يُحفَرُ فِي الذَّاكِرَةِ إِلَى الأَبَدِ.”
تَحَدَّثَتْ آنا مَارِيَا بِصَوْتٍ يَبْدُو كَأَنَّهُ يَمْسَحُ غُبَارَ السَّنَوَاتِ المَاضِيَةِ، يُحْيِي كُلَّ تَفْصِيلٍ أَمَامَ العَيْنِ:
“تَوَقَّفَ المّوكِبُ أَمَامَ الكَنِيسَةِ الصَّغِيرَةِ. بُرْجُهَا الخَشَبِيُّ انْحَنَى قَلِيلًا، كَأَنَّهُ يُحَاوِلُ الاِسْتِمَاعَ إِلَى مَا يَحْدُثُ عَلَى الأَرْضِ. دَخَلَ النَّاسُ – صَامِتِينَ، بِحَذَرٍ. لَمْ يَمْلَأِ المَكَانَ إِلَّا هَمْسُ النِّسَاءِ، وَحَرَكَةُ أَزْيَائِهِنَّ الرَّقِيقَةُ، وَخُطُوَاتُهُنَّ الَّتِي تَخْشَى أَنْ يَنْكِسِرَ صَمْتُ القَاعَةِ.”
ابْتَسَمَتْ آنا مَارِيَا، وَصَرَّحَتْ هَمسَاً:
“سِرْنَا أَمَامَ الجَمِيعِ، كُنْتُ أَمْسِكُ ذِرَاعَ وَالِدِكَ، وَكانت أُمِّي تَرْفَعُ طَرْفَ فُسْتَانِيَ المُطَرَّزِ بِخُيُوطٍ فِضِّيَّةٍ – كَأَنَّهُ قَدْ نُسِجَ مِنْ نُورِ القَمَرِ.”
وَقَفَ الكَاهِنُ عِنْدَ المَذْبَحِ، وَفَتَحَ الكِتَابَ المُقَدَّسَ بِبُطْءٍ، وَأَصَابِعُهُ تَمُرُّ عَلَى الصَّفَحَاتِ كَأَنَّهَا تَبْحَثُ عَنْ إِشَارَاتٍ مخْفِيَّةٍ، تَتَبَعُ نَبْضَ الحَاضِرِ وَالمَاضِي مَعًا.
ثُمَّ نَطَقَ بِصَوْتٍ عَمِيقٍ، يَتَرَدَّدُ كَصَدَى دَاخِلَ القُلُوبِ:
“القَلْبُ البَشَرِيُّ يُخَطِّطُ مَسَارَهُ، لَكِنَّ الرَّبَّ وَحْدَهُ يُوَجِّهُ خُطُوَاتِهِ.”
عَلقَتِ الكَلِمَاتُ فِي المَكَانِ، كَأَنَّهَا تَنْتَظِرُ أَنْ تُخْتَبَرَ، وَكَأَنَّ الهَوَاءَ نَفْسَهُ قَدْ تَوَقَّفَ عَنِ الحَرَكَةِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ يَلْهُو بِالأَوْرَاقِ وَالخُضْرَةِ.
سَادَ صَمْتٌ كَامِلٌ، جَعَلَ الحَاضِرِينَ يَشْعُرُونَ بِأَنَّ السَّمَاءَ نَفْسَهَا كَانَتْ تَسْتَمِعُ، وَأَنَّ كُلَّ نَبْضَةِ قَلْبٍ حَاضِرَةٍ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ جُدْرَانِ الكَنِيسَةِ الصَّغِيرَةِ.
رَفَعَ الكَاهِنُ بَصَرَهُ، وَارْتَجَّتْ كَلِمَاتُهُ فِي المَكَانِ صَلَاةً صَادِرَةً مِنْ أَعْمَاقِ الأَزْمِنَةِ الغَابِرَةِ:
“لِيَكُنْ هَذَا اليَوْمُ خَاتِمَةَ عَهْدٍ قَدِيمٍ، وَبِدَايَةً لِأَمَلٍ لَا يَعْرِفُ الخَوْفَ.
كَمَا أَنَّ الطَّاحُونَةَ لَا تَتَوَقَّفُ حِينَ تَجْتَاحُهَا العَاصِفَةُ، كَذَلِكَ قُلُوبُ المُؤْمِنِينَ لَا تَنْطَفِئُ مَا دَامَ فِيهِمْ نَارُ الحُبِّ قَائِمَةً. بَلْ هِيَ مَهَمَّتُهُمْ أَنْ يُضِيئُوا الطَّرِيقَ.”
نَظَرَ إِلَيَّ وَالِدُكَ، أنا آنا مَارِيَا، وَقَالَ بِصَوْتٍ يَخْتَلِطُ فِيهِ الحَزْمُ بِالحَنَانِ:
“لَقَدْ رَأَيْتُكِ، وَفِي عَيْنَيْكِ سُؤَالٌ قَدِيمٌ، سُؤَالٌ لَمْ تَنْطِقِيهِ أَبَدًا، لَكِنَّهُ عَاشَ فِيكِ مِثْلَ الجُذُورِ تَحْتَ الأَرْضِ…”
ثُمَّ أَضَافَ، كَأَنَّ الكَلِمَاتِ تَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ طَبَقَاتِ الزَّمَنِ نَفْسِهَا:
“وَرَأَيْتُكِ أَنَا، وَفِي يَدَيَّ إِجَابَةٌ لَا تَزَالُ تُكْتَبُ.”
جَلَسْنَا عَلَى المَقْعَدِ الخَشَبِيِّ، حَيْثُ نُقِشَتِ الكَلِمَاتُ عَلَى مَسنِدَتِهِ:
“«Amor vincit omnia» — «الحب ينتصر على كل شيء.»”
هَمَسَ الكَاهِنُ بِكَلِمَاتِ البَرَكَةِ، ثُمَّ ابْتَسَمَ، وَصَوْتُهُ يَلَامِسُ القُلُوبَ كَمَا يلَامِسُ النَّسِيمُ سَطْحَ المَاءِ:
“اِنْطَلِقُوا بِسَلَام… وَلِتَكُنْ أَيَّامُكُمْ حُقُولَ قَمْحٍ لاَ تَذْبُلُ أَبَدًا.”
كَانَ صَوْتُهُ كَالظِّلِّ الَّذِي يَلَامِسُ مَاءَ الرُّوحِ، يَتَرَسَّخُ فِي الدَّاخِلِ دُونَ أَنْ يَزُولَ، وَكَأَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ مِنْهُ كَانَتْ بذْرَةً تُزْرَعُ فِي أَعْمَاقِ كُلِّ قَلْبٍ حَاضِرٍ.
وَخَارِجَ الكَنِيسَةِ، كَانَتِ الطَّاوِلَاتُ قَدْ أُعِدَّتْ فِي السَّاحَةِ.
اِرْتَفَعَ مِنَ الأَوَانِي الفِخَّارِيَّةِ عَبَقُ الدِّفْءِ، وَرَائِحَةُ الخُبْزِ الأَسْمَرِ الطَّازَجِ، وَقِطَعُ لَحْمِ الغَزَالِ المُجَفَّفِ… كَأَنَّ الأَرْضَ نَفْسَهَا تَحْتَفِلُ بِهَذَا اليَوْمِ، وَتَتَنَفَّسُ مَعَهُ الفَرَحَ.”
“اِرْتَفَعَتِ الكُؤُوسُ، وَتَتَابَعَتِ الرَّقَصَاتُ كَمَا لَوْ أَنَّ نَبْضَ الهَوَاءِ قَدْ وجهَهَا. إِلِيسَا، فِي ثَوْبِهَا الرَّمَادِيِّ، دَارَتْ فِي دَوْرَةٍ تُؤْسِرُ الأَنْفَاسَ، بَيْنَمَا رَكَضَ الأَطْفَالُ حَامِلِينَ أَكَالِيلَ الزُّهُورِ، يَضَعُونَهَا فَوْقَ رُؤُوسِنَا، وَكُنْتُ أَسْمَعُ ضَحِكَاتِنَا تَمْتَدُّ عَبْرَ المَكَانِ.”
“كَانَتِ الأَجْوَاءُ مُشْبَعَةً بِوَخْزٍ خَفِيٍّ، يلَامِسُ القُلُوبَ كَمَا لَوْ كَانَ تِيَّارًا خَفِيًّا يَنْسَابُ تَحْتَ الحِجَارَةِ.
كَانَتْ أَنْظَارُنَا تَلْتَقِي مَرَّاتٍ وَمَرَّاتٍ، وَفِي كُلِّ حَرَكَةٍ، وَفِي كُلِّ شَهِيقٍ وَزَفِيرٍ، كُنَّا نَشْعُرُ بِالصِّلَةِ الخَفِيَّةِ، أَقْوَى مِنَ الكَلِمَاتِ، رَابِطًا بَيْنَ المَاضِي وَالحَاضِرِ، بَيْنَ القُلُوبِ وَالعَالَمِ كُلِّهِ.”
“كَأَنَّ الحُبَّ نَفْسَهُ قَدِ اجْتَمَعَ مَعَنَا فِي ذَلِكَ المَسَاء. وَعِنْدَمَا انْحَنَتِ الشَّمْسُ نَحْوَ الغَرْبِ، بَدَا لَوْنُ النَّهْرِ أَكْثَرَ إشْرَاقًا، وَكَأَنَّهُ يَذِيبُ ذَهَبَ ضِيَائِهِ فِي المَاء لِيُشَارِكَ فَرَحَتَنَا.”
“كَانَتِ الأَعْلَامُ الصَّغِيرَةُ ترفرِفُ عَلَى الشَّرَفَاتِ، وَظِلَالُ الأَشْجَارِ تَمْتَدُّ عَبْرَ الحُقُولِ، كَأَنَّهَا أَرْجُلٌ تَحْتَضِنُ البَلْدَةَ وَتُخْفِيهَا عَنْ عَالَمٍ لَا يَعْرِفُ سِوَى الفَقْدِ، كَأَنَّهَا تَحْرُسُ لَحْظَةَ الفَرَحِ مِنْ عُيُونِ الغِيَابِ.”
تَنَهَّدَتْ آنا مَارِيَا، وَدَمْعَةٌ اِنْزَلَقَتْ بِلَا شُعُورٍ عَلَى خَدِّهَا. ثُمَّ التَفَتَتْ إِلَى دَانِيَال وَقَالَتْ بِصَوْتٍ يَرْتَجِفُ بِالحَنِينِ:
“لَقَدْ بَدَا كَمَا لَوْ أَنَّ الحَيَاةَ اسْتَمَعَتْ إِلَيْنَا آنذَاكَ… قَبْلَ أَنْ تَبْدَأَ فِي اخْتِبَارِ قُلُوبِنَا.”
اِحْتَضَنَ دَانِيَال آنا مَارِيَا بِقُوَّةٍ، وَأَغْمَضَ عَيْنَيْهِ لِوَهْلَةٍ، كَأَنَّهُ يَبْحَثُ عَنْ مَلَاذٍ فِي حُضْنِهَا، وَعَلَى شَفَتَيْهِ صَلَاةٌ صَامِتَةٌ تَرْتَفِعُ فِي صَمْتِ الحُبِّ، كَلَامٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى كَلِمَاتٍ، مُجَرَّدُ نَبْضٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ قَلْبَيْنِ عَرَفَا مَعْنَى البَقَاءِ مَعًا فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الزَّمَنِ.
كَانَ يَعْلَمُ فِي أَعْمَاقِ قَلْبِهِ، أَنَّ مَا يَشْعُرُ بِهِ نَحْوَهَا لَيْسَ خَوْفًا وَلَا أَلَمًا، بَلْ ذَلِكَ اليَقِينُ الغَامِضُ الَّذِي يُرَافِقُ مَنْ شَهِدُوا اللَّحَظَاتِ العَظِيمَةَ، لَحَظَاتٌ تُتْرَكُ فِي الرُّوحِ كَوَشْمٍ مِنَ النُّورِ وَالظِّلَالِ.
لَكِنَّ الغُرْفَةَ لَمْ تَسْتَطِعِ احْتَوَاءَ عُنَاقِهِمْ طَوِيلًا. خَرَجَ دَانِيَال مِنْهَا، وَمَا زَالَ الهَوَاءُ مُمتَلِئًا بِدِفْءِ أَنْفَاسِهَا، بَيْنَمَا شَعَرَتْ آنا مَارِيَا بِرَحِيلِهِ، كَمَا لَوْ أَنَّ جُزْءًا مِنْ قَلْبِهَا اِنْزَوَى مَعَهُ، يَخْتَبِئُ بَيْنَ صَمْتِ الغُرْفَةِ وَالظِّلَالِ.
كَانَتِ الدُّمُوعُ تَتَلَألَأُ فِي عَيْنَيْهِ، يُخْفِي انْهِيَارَهُ عَنْ أَنْظَارِهَا، يَهْرُبُ مِنْ نَظْرَتِهَا، خَائِفًا أَنْ تَلْمَحَ سُقُوطَهُ أَوْ تَشْعُرَ بِرعْبِهِ المَكْبُوتِ، بِرعْبِهِ الَّذِي يَعْرِفُهُ فَقَطْ هُوَ وَالظَّلَامُ.
لَمْ تَمْضِ سِوَى لَحَظَاتٍ قَلِيلَةٍ، حَتَّى سَمِعَتْ صَوْتَها يَنَادِيها، كَأَنَّهُ صَدًى مِنْ وَرَاءِ جَبَلٍ، مُحَمَّلٌ بِرِيَاحٍ ثَقِيلَةٍ، يَهْتِزُّ فِي صَدْرِهَا كَمَا يَهْتِزُّ القَلْبُ حِينَ يَلْتَقِي مَصِيرَهُ:
اِنْدَفَعَ نَحْوَهَا، وَنَادَى عَلَى الخَادِمَةِ مذْعُورًا:
“اِتَّصِلِي بِالطَّبِيب!
الأَلَمُ يَجْتَاحُهَا
كَأَنَّ الأَمْوَاجَ تَضْرِبُ صَخْرَةً أَرْهَقَهَا صَبْرُ الزَّمَنِ!”
لَكِنَّهَا هَمَسَتْ، وَهِيَ تُصَارِعُ العَذَابَ، صَوْتُهَا يَخْرُجُ مُتَقَطِّعًا، كَأَنَّهُ يَنْسَابُ مِنْ بَيْنِ جَمَرَاتِ الأَلَمِ وَالحَنِينِ:
“لَا وَقْتَ لِلطَّبِيبِ، دَانِيَال…
أُرِيدُ أَنْ أَسْمَعَكَ…
وَأَنْ يَسْمَعَكَ طِفْلُنَا أَيْضًا…
تَابِع…
مِنْ حَيْثُ تَوَقَّفْتُ…”
حِينَهَا خَفَضَ رَأْسَهُ، وَتَحَوَّلَ صَوْتُهُ إِلَى خَشُونَةٍ، كَأَنَّهُ يُكَافِحُ كُتْلَةً فِي حَلْقِهِ تَمْنَعُ كَلِمَاتِهِ مِنَ الخُرُوجِ، لَكِنَّهُ نَجَحَ فِي تَحْرِيرِهَا، وَكَأَنَّ كُلَّ حَرْفٍ يَطْفُو عَلَى مَوْجَةٍ مِنَ الحُبِّ وَالخَوْفِ مَعًا:
“فِي فَنَاءِ الطَّاحُونَةِ
اِنْسَكَبَ الضَّوْءُ عَلَى الطَّاوِلَاتِ،
وَتَحَرَّكَ النَّاسُ، كَمَا لَوْ كَانُوا يَنْسِجُونَ مَعًا نَسِيجًا مِنَ الفَرَحِ…”
“كَانَتْ كْرِيسْتِينَا تَصُبُّ الحَسَاءَ مِنْ قِدْرٍ نُحَاسِيٍّ، حَرَكَاتُهَا دَقِيقَةٌ، مُتَأَنِّيَةٌ، كَأَنَّهَا تَمْنَحُ كُلَّ قَطْرَةٍ دِفْأَهَا الخَاصَّ.”
“وَوَالِدِي فْرِيدْرِيكْ يَنْادِي الضُّيُوفَ، كَأْسُهُ المَمْلُوءُ بِخَمْرِ الكَرَزِ القَدِيمِ فِي يَدِهِ، أَصَرَّ عَلَى أَنْ يُقَدِّمَهُ بِنَفْسِهِ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ بَلَغُوا السِّتِّين…
كَأَنَّ كُلَّ رَشْفَةٍ كَانَتْ تَكْرِيمًا لِعَصْرٍ كَامِلٍ، لِكُلِّ لَحْظَةٍ عَاشُوهَا، لِكُلِّ ابْتِسَامَةٍ خُطَّتْ عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَكُلِّ دَمْعَةٍ تُذَكِّرُهُمْ بِأَنَّ الحَيَاةَ ثَمِينَةٌ.”
“ضَحِكَ يُوهَان، حِين رَأَى الجَدَّةَ تَرْقُصُ مَعَ زَوْجِهَا، تَتَعَثَّرُ بِخُطُوَاتِهَا فَوْقَ ظِلِّهَا الخَاصِّ، وَيَرْتَسِمُ عَلَى وَجْهِهِ دَهْشَةٌ وَمَرَحٌ مَعًا. وَصَاحَ، صَوْتُهُ يَمْلَأُ الفَضَاءَ، وَيَتْرُكُ أَثَرَهُ فِي القُلُوبِ:
“هَذِهِ المَحَبَّةُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى عَصَا،
بَلْ إِلَى لَحْنٍ يُعِيدُ نَبَضَاتِ قَلْبِ الشَّبَابِ!”
“فِي ذَلِكَ اليَوْمِ جَلَسْتِ، يَا آنا ماريا، إِلَى جَانِبِي تَحْتَ شَجَرَةِ التُّفَّاحِ العَتِيقَةِ، الَّتِي احْتَضَنَتْنَا بِظِلِّهَا، كَالْأُمِّ الحَانِيَةِ، تَحْمِلُ ذِكْرَيَاتِ السّنِينِ فِي أَغْصَانِهَا وَنَسِيمِهَا.”
“وَضَعْتُ يَدِي عَلَى يَدِكِ النَّاعِمَةِ، وَشَعَرْتُ بِدِفْءِ الحَيَاةِ يَتَدَفَّقُ بَيْنَ أَصَابِعِنَا، وَقُلْتُ بِصَوْتٍ يَنْثُرُ أَلْحَانًا فِي الهَوَاءِ:
“أَتَدْرِكِينَ؟
فِي اليَوْمِ الَّذِي رَأَيْتُكِ فِيهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ،
وَأَنْتِ تَسْحِينَ المَاءَ مِنَ النَّبْعِ…
عَرَفْتُ حِينَهَا،
أَنَّ حَيَاةً لَا تَمُرُّ بِكِ…
لَنْ تَمُرَّ بِي أَبَدًا.”
“اِرْتَبَكْتِ بِخَجَلٍ، خَفَضْتِ رَأْسَكِ، وَهَمَسْتِ، كَمَا لَوْ كُنْتِ تَعْتَذِرِينَ لِجَمَالِكِ الخَاصِّ، وَلِلَحَظَاتِ الَّتِي صَنَعْتِهَا بَيْنَ الضَّحِكِ وَالذِّكْرَيَاتِ:
“أَتَتَذَكَّر ذَلِكَ اليَوْمَ؟”
“كان شَعْرِي مَبْلَلًا…
وَكُنتُ قَد هَرَبْتُ مِن دَجَاجَةِ الجِيرَان!”
“ضَحِكْتُ بِعُمقٍ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، وَنَظَرْتُ إِلَى السَّمَاءِ، وَكَأَنَّهَا شَاهِدَةٌ عَلَى وَعْدٍ قَدِيمٍ، قَائِلًا:
“وَمُنْذُ ذَلِكَ اليَوْمِ، عَلِمْتُ،
أَنَّ لَيسَ البَحْرَ هُوَ مَنْ يَقُودَنِي…
بَلْ أَنْتِ.”
“عِنْدَ المَدْخَلِ، أَخْرَجَ وَالِدِي صُنْدُوقًا خَشَبِيًّا صَغِيرًا، تَعَامَلَ مَعَهُ كَمَا لَوْ كَانَ كَنْزًا حَقِيقِيًّا، لَكِنَّ ثِقْلَ هَذَا الكَنْزِ لَمْ يُقَسَّ بِالذَّهَبِ، بَلْ بِالذَّاكِرَةِ، وَبِكُلِّ لَحْظَةٍ مَرَّتْ فِي القَلْبِ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ اليَدُ إِلَيْهِ.
فَتَحَهُ بِحَذَرٍ، وَأَخْرَجَ مِنْهُ آلَةً وَتْرِيَّةً قَدِيمَةً، تُشْبِهُ الكمانَ فِي شَكْلِهَا، وَكَأَنَّهَا تخبِئُ بَيْنَ أَوْتَارِهَا صَدَى الزَّمَنِ كُلِّهِ.
قَالَ وَهُوَ يَبْتَسِمُ، وَعَيْنَاهُ تَتَلَأْلَأَنِ بُومِيضِ الحَنِينِ:
“هَدِيَّةٌ مِن جَدِّي…
لَقَدْ عَزَفْتُ عَلَيْهَا مَرَّتَيْنِ فَقَطْ…
وَالْيَوْمَ… سَتَكُونُ المَرَّةُ الثَّالِثَة.”
وَانْسَابَ اللَّحْنُ، نَاعِمًا كَهَمَسَاتِ جَدْوَلٍ شَتَوِيٍّ.”
“سَكَنَتِ الجُمُوعُ، حَتَّى الطُّيُورُ تَوَقَّفَتْ عَن التَّغْرِيدِ، وَكَأَنَّهَا تَنْتَظِرُ كُلَّ نَغْمَةٍ لِتَلَامِسَ أَعْمَاقَهَا.
لَمْ يَكُنِ اللَّحْنُ مُصْطَنَعًا، بَلْ حَمَلَ فِي طَيَّاتِهِ شَيْئًا يَزْرَعُ الذِّكْرَى فِي زَوَايَا القَلْبِ، كَأَنَّهُ يُوقِظُ صُورًا اعْتَقَدْتَ أَنَّهَا نَسِيَتْ أَسْمَاءَهَا، صُورًا تَسْكُنُ بَيْنَ صَمْتِنَا وَنَسِيمِ المَسَاء.”
“فِي الرُّكْنِ جَلَسَتْ إِلِيزَابِيث، وَالِدَتُكِ، أُمُّ العَرُوسِ، مَسَحَتْ دَمْعَةً مِن وَجْنَتِهَا، وَعَيْنَاهَا تَلْمَعَانِ بِشُعُورٍ مُخْتَلِطٍ بَيْنَ الفَرَحِ وَالحَنِينِ، وَهَمَسَتْ لِنَفْسِهَا:
“لَقَدْ كَبُرْتِ يَا آنا…
وَمَع ذَلِكَ، مَا زَالَ صَوْتُكِ فِي أَحْلَامِي يُنَادِينِي…
كَمَا فِي الأَيَّامِ الَّتِي كُنْتِ فِيهَا صَغِيرَةً.”
“اِقْتَرَبَ الكَاهِنُ، وَحَرَّكَهُ ثَوْبُهُ الأَسْوَدُ بِخِفَّةٍ، سَنَابِلُهُ تَهْتِزُّ فِي نَسِيمِ المَسَاء، وَابْتَسَمَ قَائِلًا:
“هَذِهِ اللَّيْلَةُ… هِيَ لَيْلَتُكُمْ.
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ النُّورِ،
لَا شَيْءَ سِوَى فَتْحِ النَّوَافِذِ.”
“وعند منتصف الليل، خَبَت الأصْوَاتُ، وَظَلَّتْ عَلَى الطَّاوِلَاتِ بَعْضُ فُتَاتِ الخُبْزِ، مُغْمُوسَةً بِالعَسَلِ، وَكُؤُوسٍ نِصْفُ مُمتَلِئَةٍ، نِصْفُ ذِكْرَى، كَأَنَّهَا تَهْمِسُ بِسَلاَمِ اللَّيْلِ لِكُلِّ قَلْبٍ حَضَرَ.”
“نَامَ الأَطْفَالُ فِي أَحْضَانِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَارْتَاحَتِ الرُّوحُ فِي دَفْءِ الأَمَانِ، بَيْنَمَا الرِّجَالُ يَتَبَادَلُونَ الحِكَايَاتِ عَنْ حُبٍّ قَدِيمٍ، أَوْ عَنْ بَحْرٍ… لَمْ يَعُودُوا يَجْرَؤُونَ عَلَى الإِبْحَارِ إِلَيْهِ، إِلَّا فِي أَعْمَاقِ الذَّاكِرَةِ، حَيْثُ يَلْتَقِي الشَّوْقُ بِالسَّكِينَةِ، وَالحَنِينُ بِالحُبِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ.”
“وَصَعِدْنَا الدَّرَجَ الحَجَرِيَّ، الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى العُليَّةِ فِي بَيْتِ وَالِدِي، تِلْكَ الَّتِي جَدَّدَتْهَا إِلِيزَابِيث، وَالِدَتُكِ، بِيَدَيْهَا، وَزَيَّنَتْهَا بِمفَارِشَ دَانْتِيلٍ دَقِيقَةٍ، وَرِثَتْهَا عَنْ وَالِدَتِهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ تَحْمِلُ بَيْنَ خُيُوطِهَا ذِكْرَيَاتِ الأَجْيَالِ.”
“وَقَبْلَ أَنْ نَخْتَفِي خَلْفَ البَابِ الخَشَبِيِّ، اِلْتَفَتتِ آنا ماريا إِلَى الجَمْعِ مَرَّةً أُخْرَى، ابْتَسَمَتِ… ثُمَّ هَمَستِ لِي، دَانِيَال، بِصَوْتٍ يَهْتِزُّ بَيْنَ الحُلْمِ وَالوَاقِعِ:”
“هَلْ تصدِق؟
مَا زَالَ جَسَدِي يَرْتَجِفُ…
وَكَأَنِّنِي أَقِفُ عَلَى حَافَةِ حُلْمٍ طَوِيلٍ.”
فَأَجَبْتُكِ، وَأَنَا أَفْتَحُ البَابَ بِهُدُوءٍ، كَأَنِّي أَدْخُلُ عَالَمًا لَا يَعُودُ إِلَى الوَاقِعِ:
“لَا، نَحْنُ الآنَ فِي قَلْبِهِ…
وَلَنْ نَسْتَيْقِظَ.”
شَعَرَ دَانِيَال، وَكَأَنَّ يَدَهَا تَخِفُّ عَنْ قَبْضَتِهِ حَوْلَ عُنُقِه، تَتَلَاشَى بِبُطْءٍ، كَأَنَّ شَيْئًا خَفِيًّا يَسْحَبُ الحَيَاةَ مِنْ جَسَدِهَا، مِنْ كُلِّ مَكَانٍ بَيْنَهُمَا، مِنْ كُلِّ اللَّحَظَاتِ الَّتِي جَمَعَتْهُمَا.
لَمْ يَحْتَجْ وَقْتًا طَوِيلًا لِيَفْهَمَ، حِينَ مَالَ رَأْسُهَا نَحْوَه.
عَرَفَ – بِتِلْكَ البَصِيرَةِ الَّتِي تَظْهَرُ فِي لَحَظَاتِ الحَافَةِ – أَنَّ آنا ماريا قَدْ رَحَلَتْ، وَأَنَّ الفَرَاغَ الَّذِي تَرَكَتْهُ خَلْفَهَا، أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ الكَلِمَاتِ، وَأَثْقَلُ مِنْ كُلِّ الصَّمْتِ.
دَخَلَ الطَّبِيبُ مُسْرِعًا، وَأَنْفَاسُهُ تَتَسَارَعُ، لَكِنَّهُ تَوَقَّفَ عِنْدَ إِشَارَةِ دَانِيَال الصَّامِتَةِ، تِلْكَ الإِشَارَةُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ صَمْتَ مَوْتٍ، بَلْ حِرَاسَةً عَلَى كَلِمَةٍ لَمْ تُنْطَقْ بَعْدُ. أَمَرَهُ بِالِانْتِظَارِ، كَمَا لَوْ كَانَ يَحْمِي سِرًّا مِنَ الاِنْدِثَارِ.
كَانَ هُنَاكَ شَيْءٌ لَمْ يُسْتَكْمَلْ بَعْدُ، وَفَقَطْ دَانِيَال يَعْرِفُ كَيْفَ يُمْكِنُ قَوْلُهُ، كَيْفَ يُمْكِنُ لِلُّغَةِ أَنْ تَحْمِلَ كُلَّ مَا يَنْبِضُ فِي القَلْبِ.
مَالَ إِلَيْهَا، وَجَلَسَ بِجَانِبِهَا، وَعَيْنَاهُ تَغْرقُ فِي بَحْرٍ مِنَ الدُّمُوعِ، وَهَمَسَ بِصَوْتٍ هَادِئٍ لَكِنَّهُ مَلِيءٌ بِالانْكِسَارِ وَالحَنِينِ:
“حِينَ تَسَلَّلَ الضَّوْءُ الأَوَّلُ
إِلَى العُلِيَّةِ فِي المَطْحَنَةِ،
بَدَتْ كُلُّ الأَشْيَاءِ وَكَأَنَّهَا وُلِدَتْ مِنْ جَدِيدٍ…
خَشَبُ الغُرْفَةِ تَنَفَّسَ مَطَرَ اللَّيْلِ،
وَعَادَتِ الطُّيُورُ لِغِنَائِهَا،
دُونَ أَنْ يَأْمُرَهَا أَحَدٌ بِذَلِكَ.
لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَحَدٌ بِدَاخِلِهِ سِوَى أَنْتِ ..
وَ… أَنَا…
عَلَى سَرِيرٍ مِنْ خَشَبِ الزَّانِ،
تَحْتَ غِطَاءٍ أَبْيَضَ مُطَرَّزٍ بِيَدَيْنِ،
تَنْبَعِثُ مِنْ خَزَائِنِهِ رَائِحَةُ الخُزَامَى القَدِيمِ.
فَتَحْتِ عَيْنَيْكِ بِبُطْءٍ،
كَأَنَّكِ خَرَجْتِ مِنْ بِئْرٍ مَلِيءٍ بِالأَحْلَامِ
وَلَا تَعْرِفِينَ أَيْنَ أَنْتِ…
نَظَرْتِ إِلَى نَفْسِ النَّافِذَةِ، نَفْسِ الضَّوْءِ،
لَكِنْ مِنْ مَكَانٍ جَدِيدٍ…
وَمِنْ قَلْبٍ أَصْبَحَ لَهُ رَفِيقٌ.”
مَسَحَ دُمُوعاً سَقَطَتْ عَلَى وَجْنَتَيْهَا.
“تِلْكَ اللَّحْظَةُ عِنْدَ اليَقَظَةِ لَمْ تَكُنْ عَادِيَّةً.
كَانَتْ كَأَنَّ الزَّمَنَ يُعَادُ كِتَابَتُهُ مِنْ نُقْطَةٍ نُسِيَتْ مِنْ قِبَلِ الجَمِيعِ،
نُقْطَةٍ تَبْدَأُ فِيهَا الرُّوحُ بِرِوَايَةِ نَفْسِهَا مِنْ جَدِيدٍ.
قُلْتِ لي، وَعَيْنَاكِ نِصْفُ مَفْتُوحَتَيْنِ، تَبْحَثَانِ عَنِ الحَقِيقَةِ:
“أَلَمْ تَنَمْ؟”
فَأَجَبْتُكِ، وَأَنَا أَضُمُّ أَصَابِعَكِ بَيْنَ يَدَيَّ، وَالدِّفْءُ يَلْتَصِقُ بِجَسَدِي كَمَا تَلْتَصِقُ النُّجُومُ بِالسَّمَاءِ:
“لَا… لَمْ أَنَمْ،
كُنْتُ فَقَطْ أَتَرَقَّبُ،
أَنْتَظِرُ لِأَتَأَكَّدَ أَنَّكِ عُدْتِ
مِنْ أَعْمَاقِ أَحْلَامِكِ.”
نَظَرَ مُجَدَّداً إِلَيْهَا، وَكَأَنَّهُ يَنْتَظِرُ عَوْدَتَهَا مِنْ جَدِيدٍ.
“هَمَسْتُ لِنَفْسِي، كَأَنِّي أُكَلِّمُ ظِلِّي، أُصْغِي إِلَى خَفْقِ قَلْبِي:
“كُنْتُ أَخْشَى فَتْحَ عَيْنَيَّ…
وَأَنْ أَكْتَشِفَ أَنَّ كُلَّ مَا حَدَثَ…
لَمْ يَكُنْ سِوَى حُلْمٍ.”
“ابْتَسَمْتِ، اقْتَرَبْتِ، وَهَمَسْتِ:
“وَهَلْ تَتْرُكُ الأَحْلَامُ
أَثَرَهَا فِي القَلْبِ؟”
“مَدَدْتُ يَدِي، وَأَمْسَكْتُ أَطْرَافَ شَعْرِكِ المَنثُوَرِ، كَمَا لَوْ كَانَ يَتمَثَلُ القُدْرَةَ عَلَى تَرْتِيبِ طُفُولَتِي مِنْ جَدِيدٍ.”
“قُلْتُ، بِصَوْتٍ يَرْتَجِفُ بَيْنَ القُوَّةِ وَالخَوْفِ:
“لَا أَعْلَمُ…
لَكِنِّي أَشْعُرُ أَنَّنِي مَسْؤُولٌ عَنْ شَيْءٍ جَمِيلٍ جِدًّا…
حَتَّى أَنَّ الخَوْفَ الَّذِي كَانَ يَمْلَأُ قَلْبِي… لَيْسَ خَوْفاً… إِلَّا مِنْ نَفْسِي.”
قُلْتِ، وَأَنْتِ تُمسكينَ بِيَدِي، بِصَوْتٍ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الحَيْرَةِ وَالدَّهْشَةِ:
“هَلْ رَأَيْتَ يوْمًا حَارِسًا
يَخَافُ مِنْ نَفْسِهِ؟”
“بَيْنَنَا كَانَ صَمْتٌ، لَمْ يَكُنْ فَرَاغًا، بَلْ كَأَنَّنَا نَتَكِئُ عَلَى مَا لَا يُقَالُ، عَلَى تِلْكَ الأَشْيَاءِ الَّتِي تَعْجزُ الكَلِمَاتُ عَنْ حَمْلِهَا، عَلَى خُيُوطٍ خَفِيَّةٍ تَرْبِطُ قُلُوبَنَا بِمَا يَفُوقُ اللُّغَةَ.
نَهَضْتُ بِبُطْءٍ، غَطَّيْتُ جِسدَكِ بِبطَانِيَّةٍ صُوفِيَّةٍ، وَتَقَدَّمْتُ إِلَى النَّافِذَةِ.
فَتَحْتُهَا، فَدَخَلَ نَسِيمٌ بَارِدٌ، عَطَّرَ المَكَانَ بِعِطْرِهِ الخَفِيفِ، وَارْتَجَفَ الهَوَاءُ حَوْلَنَا، وَكَأَنَّ الطَّبِيعَةَ نَفْسَهَا تصْغِي.
عَطَسْتِ، ثُمَّ ضَحِكْتِ، وَقُلْتِ:
“كَانَتْ أُمِّي تَقُولُ دَائِمًا:
أَوَّلُ صَبَاحٍ بَعْدَ الزِّفَافِ
يَجِبُ أَنْ يَبْدَأَ بِعَطْسَةٍ…
كَيْ يَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّ الفَرَحَ لَمْ يُفزعنَا!”
ضَحِكْتُ، وَاقْتَرَبْتُ مِنْكِ، وَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى كَتِفِكِ، وَهَمَسْتُ، كَأَنَّمَا أُخْبِرُ السِّرَّ لِأُذُنٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ:
“أَتَعْلَمِينَ؟
الآنَ فَقَطْ أَشْعُرُ أَنَّ الطَّاحُونَةَ تَدُورُ.”
“وَفِي اليَوْمِ التَّالِي، دَقَّتِ الأَجْرَاسُ، وَلَمْ تَكُنْ كَأَجْرَاسِ الأَفْرَاحِ، وَلَا كَأَجْرَاسِ الأَحْزَانِ.
كَانَتْ وَكَأَنَّهَا تُنَادِي شَيْئًا لَا يَمْلِكُ اسْمًا فِي دَفَاتِرِ الطُّقُوسِ، شَيْئًا يُسْمَعُ فَقَطْ بِالرُّوحِ.”
“صَوْتٌ، لَمْ يُسَجَّلْ فِي أَيِّ تَقْوِيمٍ، وَلَا تَسْتَطِيعُ كُتُبُ اللُّغَةِ أَوِ الطِّبِّ تَفْسِيرَهُ، كَأَنَّهُ صَدًى ارْتِجَافٍ فِي القَلْبِ، يَتَوَهَّجُ فِي المَمَرَّاتِ البَيضَاءِ، وَيَبْحَثُ عَنْ مَكَانِهِ فِي العَالَمِ، لِيَجِدَ صَدَاهُ فِي أَعْمَاقِنَا، حَيْثُ تَلْتَقِي الذِّكْرَيَاتُ بِاللَّحْظَةِ الحَاضِرَةِ، وَالفِكْرُ بِالحُبِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ.”
اقْتَرَبَ الطَّبِيبُ مِنْهُ، دُونَ أَيِّ تَحِيَّةٍ، كَأَنَّهُ يَخْشَى أَنْ يَتَسَلَّلَ الحُزْنُ وَالكَلِمَاتُ مَعًا، أَوْ أَنَّ الصَّمْتَ أَكْثَرُ فَعَالِيَّةً مِنْ أَيِّ مُجَاملَةٍ، أَكْثَرُ قُدْرَةً عَلَى حَمْلِ مَا لَا يَحْتَمِلُ الكَلَامُ حَمْلَهُ.
مَدَّ يَدَهُ بِرِفْقٍ عَلَى كَتِفِهِ، وَقَادَهُ إِلَى غُرْفَةٍ مُجَاوِرَةٍ.
لَمْ تَكُنْ غُرْفَةُ انْتِظَارٍ، وَلَمْ تَكُنْ غُرْفَةُ عَمَلِيَّاتٍ، بَلْ شَيْءٌ بَيْنَهُمَا، مَكَانٌ تَخْتَبِئُ فِيهِ الأَخْبَارُ حَتَّى يَسْتَجْمِعَ الوَجْهُ ربَاطَةَ جَأْشِهِ، وَيَتَهَيَّأَ القَلْبُ لِشَيْءٍ أَكْبَرَ مِنَ الخَبَرِ نَفْسِهِ، شَيْءٌ لَا يُمْكِنُ لِلْعَيْنِ أَوِ اليَدِ وَحْدَهُمَا اسْتِيعَابُهُ.
قَالَ لَهُ الطَّبِيبُ بِصَوْتٍ حَافِلٍ بِالأَمَلِ، يَخْتَلِجُهُ ارْتِعَاشٌ خَفِيٌّ، كَأَنَّ قَلْبَهُ يَتَأَرْجَحُ بَيْنَ الخَوْفِ وَالرَّجَاءِ:
“اِبْنُكَ يَحْتَاجُكَ الآنَ أَكْثَرَ مِنْ أَيِّ وَقْتٍ مَضَى.
لَيْسَ فَقَطْ لِصَوْتِكَ،
بَلْ لِوُجُودِكَ وَقُوَّتِكَ.
هُوَ فِي مِنْطَقَةٍ رَمَادِيَّةٍ،
بَيْنَ الغِيابِ وَالعَوْدَةِ.”
تَجَمَّدَ دَانِيَالُ لِلَّحْظَةٍ، شَعَرَ بِأَنَّ الهَوَاءَ حَوْلَهُ ثَقُلَ، وَأَنَّ قَلْبَهُ يُنْقَشُ عَلَى صَمْتِ الغُرْفَةِ.
عَرَفَ أَنَّ أَيَّ خُطُوَاتٍ سَرِيعَةٍ، أَيَّ أَجْهِزَةٍ أَوْ حُقَنٍ، لَنْ تُسَاعِدَهُ كَمَا تُسَاعِدُهُ لَحْظَةُ النَّظَرِ فِي عَيْنَيْهِ حِينَ تتفتَحُ، وَرَائِحَةُ اليَدِ حِينَ تَمْتَدُّ، وَصَوْتُ الأَبِ حِينَ يَهْمِسُ، حَتَّى وَلَوْ بِلا كَلِمَاتٍ، كَأَنَّهَا شُعْلَةٌ تُحَافِظُ عَلَى الحَيَاةِ فِي رِئَةٍ صَغِيرَةٍ تَهْتِزُّ بَيْنَ الغِيابِ وَالعَوْدَةِ.
ميلُ رَأْسِهِ، ارْتِعَاشُ أَصَابِعِهِ، وَخَفقُ قَلْبِهِ الَّذِي أَصْبَحَ يُوَازِي نَبْضَ الطِّفْلِ فِي غُرْفَةِ الصمت الرّمَادِي… كُلُّهَا حَرَكَاتٌ جَسَدِيَّةٌ صَغِيرَةٌ، لَكِنَّهَا تَحْمِلُ كُلَّ عَالَمِهِ الدَّاخِلِيِّ، عَالَمُ الأُبُوَّةِ الَّذِي لَا يُقَاسُ إِلَّا بِهَذِهِ اللَّحَظَاتِ المَشْحُونَةِ بِالرَّهْبَةِ وَالحُبِّ.
تَوَقَّفَ الطَّبِيبُ لَحْظَةً، كَأَنَّهُ يَزِنُ مَعْنَى كَلِمَاتِهِ قَبْلَ أَنْ يُكْمِلَ:
“إِنَّهُ يَسْمَعُكَ،
حَتَّى وَإِنْ لَمْ يُجِبْكَ.”
أَضَافَ بِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ، كَأَنَّ كَلِمَاتِهِ تَخْرُجُ مِنْ عُمْقِ قَلْبِهِ:
“كُنْ لَهُ سَنداً، يَلْجَأُ إِلَيْهِ،
وَلَا تَكُنْ مُجَرَّدَ نَاظِرٍ يَرَى ودَاعَ أُمِّهِ.”
دَخَلَ دَانِيَالُ الغُرْفَةَ، المَشْحُونَةَ بِثقلٍ صَامِتٍ، كَأَنَّ الهَوَاءَ نَفْسَهُ يَتَوَقَّفُ عَنْ الحَرَكَةِ احْتِرَاماً لِلَّحْظَةِ.
آنا ماريا كَانَتْ مُسْتَلْقِيَةً عَلَى السَّرِيرِ، سَاكِنَةً تَمَامًا، وَجْهُهَا شَاحِبٌ، وَيَدُهَا مَطْوِيَّةٌ بِرِفْقٍ – جَسَدٌ غَادَرَ الحَيَاةَ، وَمَعَ ذَلِكَ مَا زَالَ حَاضِرًا لَهُ، ملْمُوسًا فِي ذَاكِرَتِهِ، فِي خَفقِ قَلْبِهِ، فِي كُلِّ نَبْضَةٍ.
جَلَسَ إِلَى جَانِبِهَا بِحَذَرٍ، وَانْحَنَى فَوْقَهَا، وَضَعَ يَدَهُ بِرِفْقٍ عَلَى كَتِفِهَا، كَأَنَّهُ يُحَاوِلُ أَنْ يَسْتَشْعِرَ وُجُودَهَا مَرَّةً أُخْرَى، يَلْمِسُ أَثَرَ رُوحِهَا بَيْنَ خُيُوطِ الصَّمْتِ.
سَحَبَ آنا ماريا إِلَى صَدْرِهِ بِرِفْقٍ، كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَمْلَأَ الفَرَاغَ الصَّامِتَ بَيْنَهُمَا، وَفِي دَاخِلِهِ شُعُورٌ غَرِيبٌ: وَكَأَنَّهَا مَا زَالَتْ تصْغِي لَهُ، كَأَنَّ صَوْتَهَا يُرَافِقُهُ رَغْمَ الغِيَابِ.
بَدَأَ يَتَحَدَّثُ، أَصَابِعُهُ مُسْترخيَةٌ عَلَى يَدِهَا، صَوْتُهُ يَهْمِسُ بِأَمَلٍ وَحَنِينٍ:
“عِنْدَمَا خَرَجْنَا مِنَ الكَنِيسَةِ الصَّغِيرَةِ،
مَرَرْنَا تَحْتَ قَوْسٍ مِنْ أَغْصَانِ الزَّانِ وَالكَسْتَنَاءِ،
نَصَبَهُ الأَطْفَالُ فِي اللَّيْلِ، بِإِرْشَادِ جَدَّتِهِمْ التي خَفَضَتْ رَأْسَهَا وَقَالَتْ لهم:
‘السَّعَادَةُ الحَقِيقِيَّةُ لَا تُصْنَعُ مِنَ الذَّهَبِ…
بَلْ مِمَّا يَظَلُّ فِي ذَاكِرَةِ الأَطْفَالِ بَعْدَ خَمْسِينَ سَنَةً.’
هَلْ تَتَذَكَّرِينَ يَا آنا ماريا؟”
هَمَسَ دَانِيَالُ، صَوْتُهُ يَرْتَجِفُ قَلِيلًا، كَأَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ تَحْمِلُ نِصْفَ قَلْبِهِ:
“هَلْ شَعَرْتِ بِالفَرَحِ ذَاتِهِ الَّذِي شَعَرْتُ بِهِ أَنَا،
وَنَحْنُ نَسِيرُ تَحْتَ هَذَا القَوْسِ،
وَالشَّمْسُ تَتَسَلَّلُ بَيْنَ الأَوْرَاقِ،
وَصِغَارُ الصَّنُوبرِيَّاتِ عِنْدَ أَقْدَامِنَا،
وَالْأَصْوَاتُ الهَامْسَةُ مِنْ حَوْلِنَا؟
أَمْ كَانَ حُلْمًا حَمَلْنَاهُ مَعًا؟”
كَانَتْ عَيْنَاهُ تَتَقَصَّى وَجْهَهَا، تَجُوبُ مَلَامِحَهَا الشَّاحِبَةَ وَكَأَنَّهَا مَا زَالَتْ تَنْبِضُ بِالدّفءِ، كُلُّ خَفْقَةٍ مِنْ قَلْبِهِ، كُلُّ ميلَانٍ لِجَسَدِهِ، كَانَ مُحَاوَلَةً صَامِتَةً لِاحْتِوَاءِ مَا لَا يُقَالُ، ذَلِكَ الْعَالَمُ الْغَامِضُ بَيْنَ الذِّكْرَى وَالْفقْدَانِ، بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْخُلُودِ.
أَمْسَكَ دَانِيَالُ بِيدِهَا، شَعَرَ بِالْبُرُودَةِ النَّاعِمَةِ لِبَشَرَتِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ بَدَا وَكَأَنَّ جُزْءً مِنْهَا يُجِيبُ، يَهْمِسُ لَهُ بِصَمْتٍ خَفِيٍّ. تَابَعَ كَلَامَهُ، صَوْتُهُ خَافِتٌ، كَهَمْسٍ فِي صَمْتِ الغُرْفَةِ، بَيْنَ الضَّوْءِ وَالظِّلِّ:
“آنا ماريا، لَمْ تَمْسِكِي ذِرَاعِي لِأَتَّكئ، بَلْ لِتُعلِنِي، بِصَمْتٍ عَالٍ فِي آنٍ وَاحِدٍ، أَنَّنَا مِنَ الآنَ فَصَاعِدًا نَسِيرُ كَجَسَدٍ وَاحِدٍ، رُوحَانِ مُسْتَيْقِظَتَانِ لَا تَعْرِفَانِ النَّوْمَ. هَلْ تَشْعُرِينَ بِهَذِهِ القُرْبَى الآن، رَغْمَ أَنَّكِ رَحَلْتِ؟”
وَأَصَرَّ أَنْ يُتَابِعَ مَعَ أَنَّ دُمُوعَهُ انْهَارَتْ دُونَ تَوَقفٍ:
“لَمْ يَتَفَوَّهِ الْمُهَنِّئُونَ إِلَّا بِالْكَادِ بِكَلِمَةٍ. بَعْضُهُمْ رَفَعَ قُبَّعَتَهُ صَامِتًا، وَبَعْضُ النِّسَاءِ، الْمُلْتَفَاتِ بِأَثْقَالٍ مِنَ الأَوْشِحَةِ، كُنَّ يَقْذِفْنَ الصَّنُوبرِيَّاتِ الصَّغِيرَةَ عِنْدَ أَقْدَامِنَا، تَحْمِينا مِنَ الْحَسَدِ وَالْعُيُونِ الشِّرِيرَةِ مُنْذُ أَنْ عُرِفَتْ طُرُقُ الْجِبَالِ.”
“وَمَارْتَا، أَرْمَلَةُ الطَّحَّانِ الْقَدِيمِ، هَمَسَتْ لِجَارَتِهَا:
“إِنَّهَا نَفْسَهَا… أَرَاهَا أَمَامِي بَعْدَ، بِأَحْذِيَتِهَا الْكَبِيرَةِ جِدًّا، وَشَرِيطِهَا الأَحْمَرِ فِي شَعْرِهَا. مَنْ كَانَ يُصَدِّقُ؟”
أَجَابَتِ الْجَارَةُ، وَهِيَ تعدِلُ وَشَاحَهَا الْمُطَرَّزَ:
“لَا، مَنْ كَانَ يَجْرُؤُ عَلَى عَدَمِ التَّفْكِيرِ بِذَلِكَ؟”
أَغْمَضَ دَانِيَالُ عَيْنَيْهِ، وَتَرَكَ لِلذِّكْرَى أَنْ تَعُودَ، كَأَنَّهَا تَحْيَا أَمَامَهُ مَرَّةً أُخْرَى. تَحَدَّثَ بِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ، كَأَنَّ آنا ماريا مَا زَالَتْ بِجَانِبِهِ، مَسْمُوعَةً فَقَطْ لِرُوحِهِ:
“كَانَ عِنْدَ مَدْخَلِ الطَّاحُونَةِ، الطَّاوِلَةُ الْحَجَرِيَّةُ قَدْ أُعِدَّتْ بِالْفِعْلِ. قَهْوَةٌ يَتَصَاعَدُ بخَارهَا مِنْ أَبَارِيقِ النُّحَاسِ، وَخُبْزُ الْجَاوْدَارِ الطَّازِجُ جَاهِزٌ، وَفَطِيرَةُ الْجَوْزِ، عُجِنَتْ بِحَلِيبِ الْمَاعِزِ، وَمُرَبَّى الْبَرْقُوقِ، الَّذِي كَانَتْ جَدَّتِي الْرَّاحِلَةُ قَدْ أَعَدَّتْهُ قَبْلَ عَامٍ – كَأَنَّهَا عَلِمَتْ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ سَيَأْتِي.”
“رَفَعَتُ حِينَهَا كَأْسًا خَشَبِيًّا، وَقُلْتُ بِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ، يَرْتَعِشُ بَيْنَ الْفَرَحِ وَالْخُشُوعِ:
“لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ الْحُبَّ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَامِتًا هَكَذَا… حَتَّى سَمِعْتُ صَدَى خُطُوَاتِكِ يَقْتَرِبُ مِنِّي.””
“أَخَذتِ الْكَأْسَ، يَا آنا ماريا، شَرِبتِ نِصْفَهُ، وَمَسَحْتِ فَمَكِ عَلَى كُمِّكِ، وَهَمَسْتِ لِي بِصَوْتٍ خَافِتٍ، كَأَنَّ الْكَلِمَاتِ تَتَسَلَّلُ مِنْ بَيْنِ الذِّكْرَيَاتِ:
“وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّ الرُّجُولَةَ لَيْسَتْ فِيمَا يُقَالُ… بَلْ فِي الْيَدِ الَّتِي تَمْسِكُكِ حِينَ يَعْتَرِيكِ الْخَوْفُ.””
“كَانَ التَّصْفِيقُ بَيْنَ الْحُضُورِ لَيْسَ صَاخِبًا، بَلْ دَافِئًا، كَطُرُقِ الْمَطَرِ عَلَى زُجَاجِ النَّوَافِذِ فِي مَسَاءِ خَرِيفٍ مُرْهَقٍ، يَتْرُكُ أَثَرَهُ فِي الْقَلْبِ قَبْلَ السَّمَعِ.”
“وَمَعَ الْمَسَاءِ، خَلَتِ السَّاحَةُ، وَلَمْ يَبْقَ سِوَى ظِلَالِ الْكَرَاسِي الْمَقْلُوبَةِ، وَرَائِحَةِ الزُّهُورِ الْيَابِسَةِ، فِيمَا الرِّيحُ الَّتِي انْزَلَقَتْ بَيْنَ قُضْبَانِ النَّوَافِذِ لَمْ تَكُنْ بَرْدًا، بَلْ كَأَنَّهَا يَدٌ قَدِيمَةٌ تخفِضُ السَّتَائِرَ عَلَى يَوْمٍ طَالَ أَكْثَرَ مِنَ الْمُعْتَادِ، لِتَتْرُكَ الْمَكَانَ فِي صَمْتٍ مُتَمَدِّدٍ، مُتَشَبِّعٍ بِالْحَنِينِ.”
“جَلَسْنَا فِي الْغُرْفَةِ الْعُلْيَا، وَكَانَ عَبَقُ الْخَشَبِ يُذَكِّرُنَا أَنَّ هَذَا الْمَكَانَ لَمْ يُبْنَ وَفْقَ حِسَابَاتِ الْمُهَنْدِسِينَ، بَلْ بِأَيْدٍ مُرْهَقَةٍ وَشَوْقٍ لِلْحِكَايَاتِ.
“شَعَرتُ، وَكَأَنَّ قَلْبَي يَكَادُ يَنْزَلِقُ مِنْ صَدْرِي، وَهُوَ يَسْتَحْضِرُ الذِّكْرَى، انْعَكَسَتْ شَمْعَةُ الضَّوْءِ فِي عَيْنَيْكِ، يَا آنا ماريا، وَتَصَوَّرتُ أَنَّ ابْتِسَامَةَ طِفْلِنَا الْمُسْتَقْبَلِيِّ تَتَرَاءَى هُنَاكَ، عَلَى الْمِرْآةِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ تَتَرَاقَصُ بَيْنَ الْوَاقِعِ وَالْخَيَالِ.”
“كَانَ الصَّمْتُ بَيْنَنَا حَيًّا – لَيْسَ فَرَاغًا، بَلْ شَاهِدًا عَلَى مَا قِيلَ فِي صَبَاحِ ذَلِكَ الْيَوْمِ الْمُبَارَكِ، حِينَ تَقَدَّمْتِ نَحْوِي، وَرَفَعْتِ ذَيْلَ فُسْتَانِكِ عَنْ نَدَى الْحُقُولِ.”
“لَقَدْ عَبَّرْتِ عَنْ نَفْسِكِ بِالْحَرِيرِ وَالْهَوَاءِ، بَيْنَمَا كُنْتِ تَمْسَحِينَ عَلَى الزُّجَاجِ بِرِيحِكِ الصَّغِيرَةِ شَكْلَ طَاحُونَةِ هَوَاءٍ، لِتَخْتَفِيَ بَعْدَهَا، كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ. الْتَفَتُّ إِلَيْكِ، وَوَجَدْتِنِي وَاقِفًا، لَا أَكْتَفِي بِالنَّظَرِ فِي وَجْهِكِ، بَلْ أُحَاوِلُ قِرَاءَةَ شَيْءٍ فِي عُمْقِ بَصَرِي، شَيْءٍ لَمْ أَكُنْ أَعرِفُ كَيْفَ سيُكْتَبْ بَعْدُ.
هَمَسْتِ، وَصَوْتُكِ يَرْتَعِشُ قَلِيلًا، كَأَنَّ الشِّفَاهَ تَكَادُ تَكْسِرُ حَاجِزَ الزَّمَنِ:
“هَلْ تَعْتَقِدُ أَنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ سَتَبْقَى… كَمَا يَبْقَى عَبَقُ الْعِطْرِ فِي الثِّيَابِ؟”
أَجَبْتُكِ مِنْ دُونِ أَنْ أَقْتَرِبَ، بِصَوْتٍ يُلَامِسُ رُوحِي قَبْلَ الْأُذُنِ:
“سَتَبْقَى كَمَا تَبْقَى أَقْوَالُ الْجَدَّاتِ… لَا نَعْرِفُ مَتَى نُطَقَتْ، لَكِنَّهَا تَحْمِينَا.”
وَعِنْدَمَا مَدَدْتُ يَدِي نَحْوَكِ، لَمْ تَتَرَاجَعِي. لَمَسْتُكِ، وَانْدَفَعَ مِنْ جَسَدِكِ هُدُوءٌ كَاللَّبَنِ مِنْ إِنَاءٍ فَخَّارِيٍّ دَافِئٍ، وَامْتَدَّتِ الْقُرْبَى بَيْنَنَا، كَأَنَّ اللَّيْلَ كُلَّهُ يَحْرُسُ لَحْظَتَنَا، وَأَنَّ الْعَالَمَ بِأَسْرِهِ تَوَقَّفَ لِيَتَنَفَّسَ مَعَنَا.
في تِلْكَ اللَّحْظَةِ لَمْ نَكُنْ شَبَاباً، بَلْ ظِلَّانِ خَرَجَا مِنْ لَوْحَةٍ قَدِيمَةٍ، رَسَمَهَا فَنَّانٌ يَعْرِفُ كَيْفَ يَنْسُجُ دَفءَ الْحُبِّ فِي عَتْمَةِ الشِّتَاءِ.”
“أَغْلَقتُ النَّافِذَةَ بِبُطْءٍ، وَعَادَتِ اللَّيْلةُ مُطِيْعَةً، كَكَلْبٍ قَدِيمٍ يَجْلِسُ عَلَى عَتَبَةِ الْبَابِ، يُحْرِسُ عِنَاقَ الْعُشَّاقِ، وَتَسَلَّلَ الصَّمْتُ إِلَى الْغُرْفَةِ كَحُلْمٍ طَوِيلٍ لَمْ نَكُنْ نُريدُ أنْ نَصحُوَ مِنْهُ.
ابْتَسَمْتُ وَقُلْتُ، وأَصَابِعُ يَدِي تَرْتَجِفُ قَلِيلاً:
“وأنتِ، هَلْ تَظُنّينَ أَنَّنَا سَنَنْسُجُ مَعاً نَسِيجاً لا يَتَمَزَّقُ مَهْمَا هَبَّتِ الرِّيَاحُ؟”
رَفَعْتِ رَأْسَكِ، حَدَقْتِ فِي عَيْنَيَّ الزرقاوين الْعَمِيقَتَيْنِ، وَكَانَتْ كَلِمَاتُكِ هَمْساً حُرّاً، كَأَنَّهَا تَتَسَلَّلُ مِنْ قَلْبِكِ مُبَاشَرَةً إِلَى قَلْبِي:
“إِذَا لَمْ نُؤْمِنْ بِذَلِكَ، فَمَا مَعْنَى بدَايَةِ الرِّحْلَةِ؟”
“انْتَشَرَ الصَّمْتُ بَعْدَ ذَلِكَ – صَمْتٌ يَهْمِسُ بِالثِّقَةِ وَالْوُعُودِ غَيْرِ الْمَنْطُوقَةِ. وَفِي الْخَارِجِ، كَانَتِ الرِّيحُ تَلْعَبُ بِأَوْرَاقِ الْأَشْجَارِ مُجَدَّداً، كَأَنَّهَا تُغَنِّي أُغْنِيَةً قَدِيمَةً عَنْ الصَّبْرِ وَالْوَفَاءِ، تُذَكِّرُنَا بِأَنَّ الزَّمَانَ لا يَسْتَطِيعُ هَزِيمَةَ مَنْ يَعْرِفُونَ كَيْفَ يُحِبُّونَ.”
لَمْ يَعُدِ الطَّبِيبُ قَادِراً عَلَى الصَّبْرِ. كَانَتْ عَيْنَاهُ مُعَلَّقَةً بِقَلَقٍ عَلَى دَانِيَالَ، تَتَقَصَّى ارْتِعَاشَ يَدَيْهِ، وَالْحُزْنَ الصَّامِتَ الَّذِي يَطْفُو عَلَى مُحَيَّاهُ. خَفَقَ قَلْبُهُ بِسُرْعَةٍ، وَهُوَ يدْرِكُ أَنَّهُ يَجِبُ مُقَاطَعَتُهُ قَبْلَ أَنْ يَطْغَى عَلَيْهِ الْأَلَمُ وَيغْمِرَهُ.
وَضَعَ يَدَهُ بِرِفْقٍ عَلَى كَتِفِ دَانِيَالَ، وَكَانَ صَوْتُهُ نَاعِماً لَكِنَّهُ حَازِمٌ، يَحْمِلُ ثِقَلَ الْمَسْؤُولِيَّةِ:
“تَعَالَ، دَانِيَال… طِفْلُكَ يَحْتَاجُكَ الْآنَ.”
أَلْقَى دَانِيَالُ نَظْرَةً أَخِيرَةً عَلَى آنَا مَارِيَا، عَلَى وَجْهِهَا الشَّاحِبِ، وَعَلَى الصَّمْتِ الْهَادِئِ الَّذِي تَرَكَتْهُ خَلْفَهَا. تَنَفَّسَ بِعُمقٍ، كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَلْتَقِطَ كُلَّ لَحْظَةٍ، كُلَّ ذِكْرَى، وَكُلَّ هَمْسَةٍ لَمْ تُقَلْ بَعْدُ. وَمَعَ ذَلِكَ، بَقِيَتْ يَدُ الطَّبِيبِ ثَابِتَةً عَلَى يَدِهِ، كَمرْسَاةٍ صَامِتَةٍ فِي بَحْرِ الْمَشَاعِرِ الْمُتَلَاطِمَةِ.
نَهَضَ دَانِيَالُ بِبُطْءٍ، كُلُّ خُطْوَةٍ مِنْهُ تُشْبِهُ رِحْلَةً بَيْنَ الْخَسَارَةِ وَالْأَمَلِ، وَاتَّبَعَ الطَّبِيبَ خُطْوَةً بِخُطْوَةٍ خَارِجَ الْغُرْفَةِ.
كَانَتْ فَاطِمَةُ، الَّتِي تَحْمِلُ الطِّفْلَ بَيْنَ ذِرَاعَيْهَا، تُكَادُ لا تَمْلِكُ الْقُوَّةَ لِكَبْتِ دُمُوعِهَا. لَقَدْ أَثَّرَتْ فِيهَا الْمَأْسَاةُ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَمِلُ قَلْبُهَا؛ الْمُشَارَكَةُ الصَّامِتَةُ فِي لَحْظَةِ الْفِرَاقِ اسْتَنْزَفَتْهَا تَمَاماً، وَجَعَلَتْهَا عَلَى حَافَةِ الانْكِسَارِ.
هَمَسَ دَانِيَالُ بِلَا أَنْ يُضِيفَ كَلِمَةً أُخْرَى، كَأَنَّ صَوْتَهُ يَخْتَصِرُ كُلَّ مَا فِي قَلْبِهِ:
“شُكْراً لَكِ…”
وَقَادَ الطَّبِيبُ خُطُوَاتِهِ بِعِنَايَةٍ عَبْرَ الْبَابِ الَّذِي أُغْلِقَ خَلْفَهُمَا. بَقِيَتْ ذِكْرَى آنَا مَارِيَا، صُورَةً صَامِتَةً فِي الْغُرْفَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ شَعَرَ دَانِيَالُ بِأَنَّ وُجُودَ طِفْلِهِ يَسْتَدْعِيهِ الْآنَ – كَمَرْسَاةٍ ثَابِتَةٍ بَيْنَ الْخَسَارَةِ وَالْحَيَاةِ، بَيْنَ مَا فَقَدَ وَمَا بَدَأَ لِلتَّوِّ.
مَدَّ دَانِيَالُ يَدَهُ الْمُرْتَعِشَةَ نَحْوَ كَتِفِ الطَّبِيبِ، كَأَنَّهُ يَبْحَثُ عَنْ شُعَاعٍ مِنَ الْقُوَّةِ لِيُبْقِي نَفْسَهُ وَاقِفاً وَسْطَ انْهِيارٍ دَاخِلِيٍّ لا يُحْتَمَلُ. هَمَسَ لِنَفْسِهِ بِصَوْتٍ خَافِتٍ، كَمَا لَوْ كَانَ يُخَاطِبُ قَلْبَهُ وَحْدَهُ:
“مِنْ أَجْلِ طِفْلِي سَأَصْمُدُ… سَأَكُونُ الْقَلْعَةَ، الشَّاطِئَ الْآمِنَ الَّذِي يَعُودُ إِلَيْهِ دَوْماً، مَهْمَا أَوْقَعَنِي الْقَدَرُ فِي تَجَارِبِ الْحَيَاةِ.”
فِي قَلْبِ الْحُزْنِ وَالْوَحْدَةِ، أَغْلَقَ عَيْنَيْهِ لِلَحْظَةٍ، اسْتَنْشَقَ الصَّمْتَ، جَمَعَ قُوَاهُ، وَشَحَذَ رُوحَهُ الْمُرْهَقَةَ مِنَ الْأَلَمِ.
شَعَرَ بِوَمِيضٍ خَافِتٍ يَنْبَعِثُ مِنْ أَعْمَاقِ الظَّلَامِ، يُذَكِّرُهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ وَحِيداً تَمَاماً، بَلْ إِنْسَانٌ عَلَيْهِ أَنْ يَبْقَى – مِنْ أَجْلِ حُبٍّ لا يَمُوتُ، مِنْ أَجْلِ وَعْدٍ لَمْ يَنْتَهِ بَعْدُ.
خَرَجَ دَانِيَالُ مِنَ الْغُرْفَةِ، وَعَيْنَاهُ مُثْقَلَتَانِ بِالدُّمُوعِ، كُلُّ خُطْوَةٍ تَبْدُو كَأَنَّهَا مَعْرَكَةٌ مَعَ نَفْسِهِ. الْتَفَتَ بِبُطْءٍ، وَكَأَنَّهُ يَخْشَى أَنْ يَنْكَسِرَ، غَارِقاً فِي مَرَارَةِ الْفَقْدِ.
تَوَقَّفَ أَمَامَ مَقْعَدِ فَاطِمَةَ، الْمَرْأَةِ الرَّحِيمَةِ الَّتِي تَحْمِلُ طِفْلَهُ الصَّغِيرَ بَيْنَ ذِرَاعَيْهَا – سَاكِنَةً، دَافِئَةً، مُتَشَبِّثَةً بِالْأَمَلِ بِصَمْتٍ.
ثَبَّتَ بَصَرَهُ عَلَيْهَا، وَالْكَلِمَاتُ تَنْهَالُ مِنْ صَدْرِهِ كَأَمْوَاجٍ غَاضِبَةٍ لا يَسْتَطِيعُ ضَبْطَهَا:
“فَاطِمَةُ… كَلِمَاتُ الطَّبِيبِ تُثْقِلُ صَدْرِي كَأَحْمَالٍ ثَقِيلَةٍ… لا أَعْرِفُ كَيْفَ أَحْمِلُهَا بَعْدَ أَنْ فَقَدْتُهَا… وَفَقَدْتُ نَفْسِي مَعَهَا.”
تَنَفَّسَتْ فَاطِمَةُ بِبُطْءٍ، وَكَأَنَّهَا تَتَنَفَّسُ مَعَهُ الْأَلَمَ، وَضَعَتْ يَدَهَا عَلَى يَدِهِ بِحَذَرٍ، كُلُّ لَمْسَةٍ فِيهَا وَعْدٌ صَامِتٌ بِالْحِمَايَةِ وَالْوُقُوفِ إِلَى جَانِبِهِ:
“سَيِّدِي دَانِيَالُ، أَفْهَمُ أَلَمَكَ، وَأَرَى فِي عَيْنَيْكَ وَجَعَ حُبٍّ لَمْ يَكْتَمِلْ. وَلَكِنْ هُنَاكَ حَقِيقَةٌ لا يَجِبُ أَنْ تُنْسَى… آنَا مَارِيَا لا تَزَالُ حَيَّةً فِي قَلْبِكَ وَرُوحِكَ. إِنَّهَا تَنْتَظِرُكَ، لِتَكُونَ لَهَا بَاباً وَدِفْئاً، كَمَا قَالَ الطَّبِيبُ.”
أَغْلَقَ دَانِيَالُ عَيْنَيْهِ، وَشَعَرَ بِأَنَّ الْأَلَمَ يَفِيضُ مِنْ دَاخِلِهِ كَشَلَّالٍ لا تُوقَفُهُ، دُمُوعُهُ تَتَدَفَّقُ بِلَا حَسِيبٍ:
“وَكَيْفَ أَفْعَلُ ذَلِكَ، فَاطِمَةُ؟ كَيْفَ أَكُونُ لَهَا دِفْئاً وَصَوْتاً، وَهِيَ قَدْ رَحَلَتْ؟! أَشْعُرُ أَنَّنِي أَغْرَقُ فِي صَمْتٍ ثَقِيلٍ، حَيْثُ لا أَسْمَعُ سِوَى صَدَى غِيَابِهَا.”
رَفَعَتْ فَاطِمَةُ يَدَهُ بِرِقَّةٍ، وَثَبَّتَتْ يَدَهَا عَلَى قَلْبِهِ بِرزَانَةٍ، وَعَيْنَاهَا شُعَاعَانِ يَمْتَدَّانِ كَجِسْرٍ مِنَ الْأَمَلِ فَوْقَ بُحَيْرَةِ الْحُزْنِ:
“دَانِيَالُ، الْحُبُّ لَيْسَ جَنَازَةً وَلَا فُقْدَاناً نِهَائِيّاً… الْحُبُّ ذِكْرَى تَتَنَفَّسُ، وَصَوْتٌ يَهْمِسُ، وَيَدٌ تَحْمِلُ الْأَلَمَ وَتشْفِيهِ. آنَا مَارِيَا لَمْ تَرْحَلْ فِعْلِيّاً، بَلْ تَحَوَّلَتْ إِلَى ظِلٍّ، يَنْقُلُ قُوَّةَ الْحَيَاةِ فِي كُلِّ لَمْسَةٍ وَنَظْرَةٍ – خُصُوصاً إِلَى ابْنِكَ.”
دَانِيَالُ اسْتَنْشَقَ الْهَوَاءَ، شَعَرَ بِثِقَلِ قَلْبِهِ يَخِفُّ قَلِيلاً، وَبَدَأَ يدْرِكُ أَنَّ الْحُبَّ الْحَقِيقِيَّ لَا يَمُوتُ، بَلْ يَتَحَوَّلُ إِلَى دَفْءٍ يَلْتَفُّ حَوْلَ الرُّوحِ، يَرْبِطُ الْمَاضِيَ بِالْحَاضِرِ، وَيَزْرَعُ الْأَمَلَ فِي أَعْمَاقِ الْقَلْبِ الْمَوْجُوعِ.
اخْتَلَطَتْ دُمُوعُهُ بِصَوْتِ كَلِمَاتِهِ، وَانْسَابَ الْارْتِجَافُ فِي صَدْرِهِ كَتَيَّارٍ لَا يُكْبَحُ، بَيْنَمَا تَرَدَّدَتْ فِي أُذُنِهِ كَلِمَاتُ الطَّبِيبِ، تَمْنَحُهُ الْأَلَمَ وَالْرَّاحَةَ فِي آنٍ وَاحِدٍ:
“إِنَّهُ يَسْمَعُكَ، حَتَّى وَإِنْ لَمْ يَرُدْ. كُنْ لَهُ بَاباً يَعُودُ مِنْهُ، وَلَا تَكُنْ شَاهِداً صَامِتاً عَلَى رَحِيلِ أُمِّهِ.”
أَخَذَ دَانِيَالُ نَفَساً عَمِيقاً، شَعَرَ بِبُرُودَةِ الْهَوَاءِ تَلْتَصِقُ بِجِلْدِهِ، لَكِنَّهُ كَانَ يَحْتَضِنُ فِي صَدْرِهِ وَهجَ الْحُزْنِ وَالْحَنِينِ مَعاً. ثِقَلُ الْعَالَمِ بَدَأَ يَتَلَاشَى شَيْئاً فَشَيْئاً مَعَ كُلِّ شَهِيقٍ مِنَ الصَّبْرِ وَالْإِيمَانِ، وَكَأَنَّ كُلَّ ذَرَّةٍ فِي الْمَكَانِ تُشَارِكُهُ الْمَهَمَّةَ الْجَدِيدَةَ: أَنْ يَكُونَ مِرْسَاةً لِطِفْلِهِ.
نَظَرَ إِلَى فَاطِمَةَ، فَارْتَسَمَتْ عَلَى وَجْهِهَا خُيُوطُ الْأَمَلِ الْأُولَى، تِلْكَ الَّتِي تَقُولُ إِنَّ الْحَيَاةَ مُمْكِنَةٌ بَعْدَ الْفَقْدِ:
“سَأُحَاوِلُ أَنْ أَكُونَ لَهُ ذَلِكَ الْبَابَ، أَنْ أَمْنَحَهُ الدّفْءَ وَالصَّوْتَ، مَا دَامَتْ أَنْفَاسِي مُوجُودَةً، وَالشَّمْسُ لَا تَزَالُ تشْرقُ.”
أَمْسَكَتْ فَاطِمَةُ بِيَدِهِ بِإِحْكَامٍ، رَفَعَتْهُ نَحْوَ عَيْنَيْهَا، فَالتَقَتْ أَنْظَارُهُمَا، وَتَلَأْلَأَ بَرِيقُ الْأَمَلِ بَيْنَهُمَا، كَأَنَّهُ وَعْدٌ خَفِيٌّ:
“وَسَيَكُونُ، دَانِيَالُ، سَيَكُونُ… مِنْ أَجْلِ آنَا، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْحُبِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَمِنْ أَجْلِ ابْنِكَ، الَّذِي يَحْمِلُ صُورَةَ أُمِّهِ فِي قَلْبِهِ.”
الفصل الرابع:
كَانَ الْمَكَانُ دَافِئاً، رَغْمَ النَّسِيمِ الْبَارِدِ الَّذِي تَسَلَّلَ مِنَ الْأَرْصِفَةِ، رَائِحَةُ الْخَشَبِ وَالْقِطْرَانِ اِمْتَزَجَتْ فِي الْجَوِّ، وَصُدُورُ حَفِيفِ الْحِبَالِ الْمَعْدَنِيَّةِ عَلَى هَيَاكِلِ السُّفُنِ تَتَرَدَّدُ فِي الْبَعِيدِ، كَأَنَّهَا مُوسِيقَى بَعِيدَةٌ تَحْمِلُ صَدَى الْبَحْرِ، صَدَى الذِّكْرَيَاتِ، صَدَى الْحَنِينِ إِلَى أَوْقَاتٍ لَا تَزَالُ مُوجُودَةً إِلَّا فِي الْقَلْبِ.
جَلَسَ دَانِيَالُ عَلَى الطَّاوِلَةِ الطَّوِيلَةِ، مُحَاطاً بِأَصْدِقَائِهِ الْقُدَمَاء: يُوهَان شْمِيت، إِمِيل مَايِر، فْرِيتْز بُومَان، مَارْتِن فِيشِر، أُوتُو لِيهْمَان وَبِيتِر شْتَاين. لَاحِقاً انْضَمَّ إِلَيْهِمْ هَايِنْرِيش وُولْف بَعْدَ عَوْدَتِهِ مِنْ نَابُولِي، حَامِلاً مَعَهُ دَفءَ الصَّحْبَةِ وَذِكْرَيَاتِ الْبِحَارِ، كَمَا لَوْ أَنَّ الْمَاضِي وَالْحَاضِرَ قَدِ اخْتَلَطَا فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ التَّأَمُّلِ وَالِاشْتِيَاقِ.
دَارَ دَانِيَالُ بِكُوبِ الْخَشَبِ فِي يَدَيْهِ، دُونَ أَنْ يَشْرَبَ، وَشُعُورُ الْفَقْدِ مَا زَالَ مُشْتَعِلاً فِي قَلْبِهِ، لَكِنْ كُلُّ تَرَدُّدٍ فِيهِ تَحَوَّلَ إِلَى حِكَايَةٍ صَامِتَةٍ:
“أَتَدْرُون… لَمْ تُحِبِ الشَّايَ إِلَّا إِذَا غلىَ مَرَّتَيْنِ. كَانَتْ تَقُولُ: الْغَلِيُ الْأَوَّلُ يُوقِظُ الْأَعْشَابَ، وَالْغَلِيُ الثَّانِي يُوقِظُ الْقَلْبَ.”
ابْتَسَمَ دَاخِلِيّاً، كَمَا لَوْ كَانَ يَسْمَعُ صَوْتَهَا يَتَسَلَّلُ بَيْنَ جُدْرَانِ الْمَكَانِ، يَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَطْرَافِهِ، يَرْبِطُ الْمَاضِي بِالْحَاضِرِ، وَيَمْنَحُهُ قُوَّةً لِيُوَاجِهَ غِيَابَهَا بِرُوحٍ مَلِيئَةٍ بِالْحُبِّ وَالْوَفَاءِ، قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ الْكُوبَ بِبُطْءٍ، وَكَأَنَّهُ يَرْفَعُ عَهْداً إِلَى السَّمَاءِ، عَهْدَ الْوَفَاءِ لِآنَا مَارِيَا، وَلِطِفْلِهِمَا، وَلِلْحُبِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ.
مَسَحَ فْرِيتْز عَيْنَيْهِ بِكُمِّهِ، وَصَوْتُهُ خَشِنٌ مِنْ كِتْمَانِ الدُّمُوعِ، كَمَا لَوْ كَانَ يُحَاوِلُ مَنْعَ قَلْبِهِ مِنَ الانْهِيارِ:
“قَالَتْ لِي ذَلِكَ مَرَّةً، وَنَحْنُ نَحْمِلُ الْحَطَبَ إِلَى الطَّاحُونَةِ: حَتَّى الشَّجَرَةُ الْمَقْطُوعَةُ، إِنْ أَحَبَّتْ أَحَداً، تُرْسِلُ عَبِيرَهَا مَعَ كُلِّ نَشِيجِ الْمِنْشَارِ.”
وَضَعَ إِمِيل يَدَيْهِ عَلَى الطَّاوِلَةِ، وَارْتَعَشَتْ كَلِمَاتُهُ كَمَا لَوْ كَانَتْ تُحَاوِلُ الْعُثُورَ عَلَى طَرِيقِهَا إِلَى الْهَوَاءِ:
“هَلْ تَتَذَكَّرُونَ يَوْمَ زفَافِكُمْ؟ تُورْتَةُ الْجَوْزِ؟! مَا زِلْتُ أَظُنُّ أَنَّهَا خَبَزَتْ نِصْفَهَا بِدُمُوعِ أُمِّهَا.”
نَظَرَ يُوهَان شْمِيت إِلَى دَانِيَالُ، صَوْتُهُ يُوقِظُ مَنْ فِي سبَاتِهِمْ، يَحْمِلُ مَعَهُ ذِكْرَيَاتٍ لَا تَمُوتُ:
“لَقَدْ كُنْتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مُخْتَلِفاً، كَمَا لَوْ وُلِدْتَ مِنْ جَدِيدٍ… أَمَّا الْآنَ، فَكَمَا لَوْ عُدْتَ قَبْلَ أَنْ تُولَدَ.”
ارْتَجَفَ دَانِيَالُ، صَوْتُهُ أَجْهَشَ بِالْخَشُونَةِ، وَرَغْمَ ذَلِكَ حَاوَلَ أَنْ يُمْسِكَ بِمَا تَبَقَّى لَهُ مِنْ كَرَامَةٍ:
“لَمْ أُغَادِرِ الْبَيْتَ يُوماً دُونَ أَنْ أَتْرُكَ الشَّمْعَةَ مُضَاءَةً فِي النَّافِذَةِ… قَالَتْ لِي مَرَّةً: دَعْهَا تُضِيء. سَوَاءٌ عُدْتَ أَمْ لَمْ تَعُدْ، فَالْبُيُوتُ لَا تَنْتَظِرُ لِتُحَبَّ.”
حَدَّقَ مَارْتِن فِي الْبَعِيدِ، كَأَنَّهُ يُخَاطِبُ الْبَحْرَ نَفْسَهُ، وَكَأَنَّ أَمْوَاجَهُ تُحَاكِي صَدَى قَلْبِهِ:
“أَقُولُ لَكُمْ: لَا اِمْرَأَةَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ تَعْرِفُ كَيْفَ تُزِيلُ الْخَوْفَ عَنْ كَاهِلِ رَجُلٍ مِثْلَكُمْ، كَمَا فَعَلَتْ آنَا مَارِيَا.”
تَنَهَّدَ أُوتُو لِيهْمَان، ثُمَّ ضَحِكَ ضَحِكَةً قَصِيرَةً وَحَزِينَةً، كَأَنَّهَا اِنْعِكَاسٌ لِلرِّيحِ الَّتِي تَمُرُّ بَيْنَ الْأَشْجَارِ:
“وَهِيَ أَحَبَّتِ الرِّيحَ! يَا إِلَهِي، كَيْفَ كَانَتْ تَفْتَحُ النَّوَافِذَ، حَتَّى فِي مُنْتَصَفِ الشِّتَاءِ! كَانَتْ تَقُولُ: دَعُوا الرِّيحَ تَدْخُلْ، الْحُزْنُ لَا يَطِيقُ الْغُرَفَ الْمُغْلَقَةَ.”
حَكَّ بِيتِر شْتَاين رَأْسَهُ، وَأَلْقَى نَظْرَةً عَمِيقَةً إِلَى دَانِيَالُ، كَأَنَّهُ يَقْرَأُ كُلَّ ثِقَلِ الْقَلْبِ الصَّامِتِ:
“أَيُّ الْأَلَمِ أَعْظَمُ؟ فُقْدَانُهَا؟ أَمِ الذِّكْرَيَاتُ الَّتِي لَا تَزُولُ؟”
حَدَّقَ دَانِيَالُ فِي ظُلْمَةِ كُوبِ الْخَشَبِ بَيْنَ يَدَيْهِ، صَوْتُهُ خَافِتٌ لَكِنَّهُ حَادٌّ، وَكَأَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ تَتَسَلَّلُ مِنْ أَعْمَاقِ رُوحِهِ:
“آَلمَنِي، لأَنِّي اِعْتَقَدْتُ أَنَّنِي رَجُلٌ يَعْرِفُ كَيْفَ يُحِبُّ… ثُمَّ اكْتَشَفْتُ أَنَّنِي لَمْ أَفْهَمْ مَعْنَى الْحُبِّ، حَتَّى اخْتَفَتْ خُطُوَاتُهَا عَلَى الدَّرَجِ الْخَشَبِيِّ.”
أَخْرَجَ هَايِنْرِيش وُولْف دَفْتَرَ مُلَاحَظَاتِهِ مِنْ مِعْطَفِهِ، وَفَتَحَهُ بِبُطْءٍ، كَأَنَّ كُلَّ صَفْحَةٍ تَحْمِلُ عَبَقَ الْمَاضِي. وَقَرَأَ بِصَوْتٍ يَمْلَؤُهُ الْحَنِينُ وَالِارْتِجَافُ:
“كَتَبْتُ مَرَّةً عَنْهَا، بَعْدَ زِيَارَتِنَا لَكُمْ فِي الصَّيْفِ الْمَاضِي. دَوَّنْتُ عِبَارَةً: إِنَّهَا امْرَأَةٌ، حَتَّى وَإِنْ جَلَسَتْ عَلَى كُرْسِيٍّ بَسِيطٍ، تَجْعَلُ مِنْهُ عَرْشاً.”
دَخَلَ يُوهَان كْرَاوْس مُتَأَخِّراً، وَمَسَحَ لِحْيَتَهُ الْمبْتَلَةَ بِالْمَطَرِ، كَأَنَّ كُلَّ قَطْرَةِ مَطَرٍ تَحْمِلُ مَعَهُ حِكَايَةً حَزِينَةً:
“كَأَنَّ كُلَّ وَهرَانٍ حَزِينَةٌ… حَتَّى السُّفُنُ تَرْفُضُ هَذَا الْأُسْبُوعَ الإِبْحَارَ.”
وَقَفَ دَانِيَالُ، وَضَعَ يَدَهُ عَلَى الْكُرْسِيِّ الْفَارِغِ بِجَانِبِهِ، وَتَحَدَّثَ بِبُطْءٍ، كَأَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ ثَقِيلَةٌ كَحَجَرٍ فِي قَلْبِهِ:
“هُنَا جَلَسْتْ… هُنَا ضَحَكَتْ بِصَوْتٍ لَمْ يَسْمَعْهُ أَحَدٌ، وَبَكَتْ بِيدٍ لَمْ تَرْتَجِفْ… مِنَ الْآنَ فَصَاعِداً سَأَتْرُكُ هَذَا الْكُرْسِيَّ خَالِياً… لَهَا، وَلِمَا لَنْ يَعُودَ أَبَداً.”
تَنَهَّدَ مَارْتِن، صَوْتُهُ مُثْقَلٌ بِالْحُزْنِ، كَأَنَّ الْكَلِمَاتِ نَفْسَهَا تَنْهَارُ تَحْتَ وَطْأَةِ الْفَقْدِ:
“وَلَنَا نَحْنُ أَيْضاً… فِي كُلِّ مَرَّةٍ نُحَاوِلُ أَنْ نُصَدِّقَ أَنَّ شَيْئاً جَمِيلَاً مَرَّ هُنَا.”
دَقَّتِ السَّاعَةُ الثَّامِنَةَ. هَزَّتِ الرِّيحُ النَّوَافِذَ، كَأَنَّهَا تُذَكِّرُ الْجَمِيعَ بِأَنَّ الْعَالَمَ لَا يَتَوَقَّفُ، حَتَّى عِنْدَمَا يَقِفُ الْقَلْبُ صَامِتاً.
فِي الْخَلْفِيَّةِ، تَرَدَّدَتْ كَلِمَاتُ آنَا مَارِيَا مِنْ زَمَنٍ بَعِيدٍ، كَهَمْسٍ مِنَ الْذَّاكِرَةِ، يُلَامِسُ الرُّوحَ:
“مَا يَتَذَكَّرُهُ الْأَطْفَالُ بَعْدَ خَمْسِينَ سَنَةً… هُوَ السَّعَادَةُ الْحَقِيقِيَّةُ.”
نَظَرَ دَانِيَالُ إِلَى أَصْدِقَائِهِ، ثُمَّ إِلَى الْكُرْسِيِّ الْفَارِغِ، وَهَمَسَ بِصَوْتٍ ضَعِيفٍ لَكِنَّهُ ثَابِتٌ:
“سَأُحَاوِلُ أَنْ أبْقِيَ الذِّكْرَى دَافِئَةً… إِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِي، فَلِيَكُنْ عَلَى الْأَقَلِّ لِمَنْ لَمْ يَعْرِفْهَا… وَيَجِبُ أَنْ يَعْرِفُوهَا.”
وَفِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي، فِي غُرْفَةٍ كَبِيرَةٍ أَعَدَّهَا دَانِيَالُ لِلضُّيُوفِ وَالزُّوَّارِ وَالْأَصْدِقَاءِ، بِجِوَارِ مَخْزَنٍ مَلِيءٍ بِكُلِّ مَا قَدْ يَحْتَاجُهُ زَائِرٌ فِي الْبَيْتِ، امْتَزَجَ عَبِيرُ الْقَهْوَةِ السّودَاءِ بِرَائِحَةِ التُّبْغِ وَنَسِيمِ الْبَحْرِ، وَالْغِطَاءُ الْخَشَبِيُّ الْمُنْخَفِضُ عَلَى الْمَكَانِ كَانَ يَهْمِسُ بِالْحَنِينِ.
اسْتَفَاقَ الْأَصْدِقَاءُ مِنْ لَيْلَةٍ لَمْ يَغِبْ فِيهَا عَنْهُمْ سِوَى سَاعَةٍ أَوْ أَقَلَّ مِنَ النَّوْمِ: دَانِيَالُ، يُوهَان شْمِيت، إِمِيل مَايِر، فْرِيتْز بُومَان، مَارْتِن فِيشِر، أُوتُو لِيهْمَان، بِيتِر شْتَاين، هَانْس بْرُودَر، يُوهَان كْرَاوْس، هَايِنْرِيش وُولْف، فْرِيدْرِيش لَانْغِه، كَارْل شْتْرَاوْس.
دَقَّتْ سَاعَةُ الْحَائِطِ السَّابِعَةَ… لَمْ تُعْلِنِ الْوَقْتَ، بَلِ اعْتَذَرَتْ عَنْ ثِقْلِهَا عَلَى قُلُوبِ الْحَاضِرِينَ.
جَلَسَ دَانِيَالُ بَيْنَهُمْ، كَتِفَاهُ مُنْحَنِيَةٌ قَلِيلاً إِلَى الْأَمَامِ، كَأَنَّهُمَا مَا زَالَتْ تَحْمِلَانِ ظِلَّ ذِرَاعٍ كَانَ يَمْنَحُهُ الْأَمَانَ، ظِلَّ الْحُبِّ الَّذِي لَمْ يَعُدْ مُوجُوداً، لَكِنَّهُ بَاقٍ فِي كُلِّ نَفَسٍ وَكُلِّ صَمْتٍ.
قَالَ يُوهَان شْمِيت، وَكَأَنَّهُ يُعِيدُ رَسْمَ الْمَاضِي عَلَى وَجْهِ دَانِيَالُ وَهُوَ يُدِيرُ الْكُوبَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ:
“كُنْتُ أَرَاهَا فِي أَمْسِيَاتِ الْبَرْدِ، تَنْتَظِرُكَ عَلَى الدَّرَجِ الْخَشَبِيِّ، وَاقِفَةً بِلَا حَرَاكٍ، حَتَّى يَلْمَعَ مِعْطَفُكَ فِي ضَوْءِ الْغسقِ… هَلْ تَذْكُر؟”
أَوْمَأَ دَانِيَالُ بِرَأْسِهِ، وَعَيْنَاهُ كَأَنَّهُمَا تَبْحَثَانِ فِي فَرَاغٍ لَا يَنْتَهِي، ثُمَّ قَالَ بِصَوْتٍ خَافِتٍ، كَمَا يُخَاطِبُ صَدَى ذِكْرَى:
“قَالَتْ: الْبَحْرُ لَيْسَ عَدُوّاً… إِنْ عُدْتَ مِنْهُ، فَأَنْتَ سَالِمٌ.”
نَقَرَ إِمِيل مَايِر، صَانِعُ الْبَرَامِيلِ، بِرِفْقٍ عَلَى الطَّاوِلَةِ وَقَالَ، وَعَيْنَاهُ تَائِهَتَانِ فِي خَاطِرِهِ:
“فِي عِيدِ الْمِيلَادِ، جَاءَتْ إِلَيَّ لِتَأْخُذَ بَرْمِيلاً صَغِيراً مِنْ خَشَبِ الْجَوْزِ… قَالَتْ إِنَّهَا تُرِيدُ حِفْظَ شَيْءٍ يَدُومُ طَوِيلاً.”
ثُمَّ تَنَهَّدَ قَائِلاً، وَكَأَنَّ الزَّمَنَ كُلَّهُ يَنْهَارُ أَمَامَهُ:
“مَاذَا يُخْفِي الْقَلْبُ فِي خَشَبٍ لَا يُقَاومُ الزَّمَنَ؟”
تَحَدَّثَ فْرِيتْز بُومَان، بِنَبْرَةٍ تَتَأَرْجَحُ بَيْنَ الْأَلَمِ وَالْدَّهْشَةِ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى الْمِصْبَاحِ الْمُعَلَّقِ:
“كَانَتْ تدَافَعُ عَنِ الْمَطْحَنَةِ كَمَا لَوْ كَانَتْ كَنِيسَةً قَدِيمَةً… قَالَتْ لِي مَرَّةً: الْحِجَارَةُ هُنَاكَ تَعْرِفُ وقعَ خُطُوَاتِكُمْ.”
ضَحِكَ مَارْتِن فِيشِر، الْبَحَّارُ، ضَحْكَةً قَصِيرَةً مُرَّةً، كَأَنَّهَا ارْتِجَافُ الْبَحْرِ فِي لَيْلَةٍ عَاصِفَةٍ:
“كُلَّمَا رَأَيْتُكُمْ تَمْشُونَ عَلَى ضِفَافِ النَّهْرِ، شَعَرْتُ أَنَّكُمْ لَا تَلمسُونَ الْأَرْضَ… لَسْتُ بِشَاعِراً، لَكِنْ هَذِهِ الصُّورَةُ أَرْبَكْتْنِي.”
قَالَ أُوتُو لِيهْمَان، الْمُلَّاحُ، بِبُطْءٍ، وَهُوَ يُشْعِلُ غَلِيُونَهُ، وَدُخَانُ النَّارِ يَتَصَاعَدُ كَمَا لَوْ كَانَ يَحْمِلُ ذِكْرَيَاتِ الْبَحْرِ:
“وُجُودُهَا كَانَ مِثْلَ إِشَارَاتِ الضَّوْءِ لِلْسُّفُنِ فِي الضَّبَابِ… مِنْ بَعِيدٍ لَا تُرَى، لَكِنَّهَا تُنْقِذُ.”
ظَلَّ دَانِيَالُ صَامِتاً لَحْظَةً، كَأَنَّ قَلْبَهُ يُتَرْجِمُ كَلِمَاتٍ لَمْ تُقَلْ بَعْدُ، ثُمَّ هَمَسَ، صَوْتُهُ خَافِتٌ كَهَمْسِ الرِّيحِ عَلَى حَافَّةِ اللَّيْلِ، مُتَوَجِّهاً إِلَى صُورَةٍ غَائِبَةٍ، إِلَى ظِلٍّ رَحَلَ:
“لَمْ تَكُنْ تَتَحَدَّثُ كَثِيراً، لَكِنْ صَمْتَهَا كَانَ يَضَعُ يَدَهَا عَلَى كَتِفِي، حِينَمَا يَنْكَسِرُ شَيْءٌ دَاخِلِي.”
هَمَسَ بِيتِر شْتَاين، حَامِلُ الْأَثْقَالِ، وَكَأَنَّ صَوْتَهُ يُلَامِسُ خُيُوطاً خَفِيَّةً فِي الْهَوَاءِ، يَخْتَزِنُ رَائِحَةَ السُّوقِ وَدفءَ الْلِقَاءَاتِ:
“كَانَ صَوْتُهَا أَمَامَكَ دَائِماً فِي السُّوقِ… دفْءٌ بَيْنَ الْبَرْدِ.”
قَالَ هَانْز بْرُودَر، التَّاجِرُ، وَهُوَ يحدِّقُ فِي الْخَارِجِ عَبْرَ النَّافِذَةِ، كَأَنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ أَصْبَحَ مُرَايَا لِلْغِيَابِ:
“مُنْذُ رَحِيلِهَا، أَصْبَحَ الْغِيَابُ أَكْثَرَ وَضُوحاً مِنَ الْحُضُورِ… نَسْمَعُهَا حِينَ يَصْمُتُ أَحَدُنَا فَجْأَةً.”
هَزَّ يُوهَان كْرَاوْس، الْبَحَّارُ الْآخَرُ، رَأْسَهُ بِبُطْءٍ، وَكَأَنَّ ذِكْرَيَاتِهِ تَطُوفُ عَلَى مِيَاهٍ صَامِتَةٍ:
“كَانَتْ مُحِبَّتُكُمْ مِثْلَ تِلْكَ الْقَوَارِبِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي يَضَعُهَا الْأَطْفَالُ فِي الْمَاءِ بَعْدَ الْمَطَرِ… لَا يَعْرِفُونَ إِنْ كَانَتْ سَتَعُودُ، لَكِنَّهُمْ يَبْتَسِمُونَ أَثْنَاءَ إِرْسَالِهَا.”
تَحَدَّثَ هَايِنْرِيش وُولْف، الْعَائِدُ مِنْ نَابُولِي، بِصَوْتٍ عَمِيقٍ، كَمَا لَوْ الْبَحْرَ يَحْمِلُ الْكَلِمَاتِ مَعَهُ:
“قُلْتُ لَهَا مَرَّةً فِي الْمِينَاءِ: لَا تَخَافِي الْبُعْدَ، الْبَحْرُ لَا يَبْتَلِعُ مَنْ يُحِبُّ. ابْتَسَمَتْ وَقَالَتْ: أَخْشَى الْقُرْبَ، إِذَا كَانَ قَصِيراً فَقَطْ.”
قَالَ فْرِيدْرِيك لَانْغ، التَّاجِرُ الْقَادِمُ مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، بِهُدُوءٍ، كَأَنَّ كُلَّ حَرْفٍ يَزِنُ شَيْئاً مِنَ الْحَنِينِ:
“قَبْلَ عَامَيْنِ أَرْسَلْتْ لِي رِسَالَةً… سَأَلْتْ عَنْ نَوْعٍ قَدِيمٍ مِنَ التَّوَابِلِ. أَرَادَتْ أَنْ تَطْبُخَ لِدَانِيَال طَبَقاً يَحْمِلُ ذِكْرَيَاتِ جَدَّتِهِ. هَلْ ذُقْتَهُ؟”
ابْتَسَمَ دَانِيَالُ بِبُطْءٍ، وَكَأَنَّ ابْتِسَامَتَهُ تَلْتَقِطُ انْعِكاسَ الْمَاضِي بَيْنَ أَصَابِعِ الزَّمَنِ، وَهَمَسَ:
“ظَلَّ طَعْمُهُ فِي فَمِي أَيَّاماً… لَيْسَ الطَّعَامُ، بَلْ مُحَاوَلَتُهَا أَنْ تُعِيدَنِي إِلَى الْبِدَايَاتِ.”
قَالَ كَارْل شْتْرَاوْس، التَّاجِرُ الْقَادِمُ مِنْ مَرْسِيليا، بِنَبْرَةٍ هَادِئَةٍ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْجُدْرَانِ كَصَدًى قَدِيمٍ:
“قَالَتْ لِي ذَاتَ مَرَّةٍ: الْإِنْسَانُ لَا يَمُوتُ حِينَ يَرْحَلُ… يَمُوتُ حِينَ يُنْسَى.”
ثُمَّ نَظَرَ إِلَى دَانِيَالُ بِعَيْنَيْنِ تَحْمِلَانِ فَخَامَةَ الْحُزْنِ، وَأَضَافَ:
“وَتَتَذَكَّرُهَا كَمَا نَتَذَكَّرُ الضَّوْءَ فِي لَيْلَةٍ طَوِيلَةٍ.”
عَمَّ الصَّمْتُ الْمَكَانَ… ثُمَّ رَفَعَ دَانِيَالُ كُوبَهُ الْخَشَبِيَّ، كَمَا فِي يَوْمِ الزِّفَافِ، وَقَالَ بِصَوْتٍ مَبْحُوحٍ، يَخْتَلِطُ فِيهِ الْأَلَمُ بِالْحَنِينِ:
“لَمْ أَعُدْ أَرَاهَا… وَلَكِنِّي أَسِيرُ دَائِماً بِجَانِبِ ظِلِّهَا.”
تَابَعَ بِصَوْتٍ يَخْتَنِقُ أَحْياناً، كَأَنَّهُ يَمْسَحُ عَبْرَ أَرْوِقَةِ الزَّمَنِ:
“لَمْ أَعُدْ أَلْمِسُ يَدَهَا… وَلَكِنْ كُلَّمَا اجْتَاحَنِي الْخَوْفُ، أَشْعُرُ بِيَدٍ تمْسَكُنِي.”
ثُمَّ أَضَافَ، وَكَأَنَّ الْكَلِمَاتِ تُحَاوِلُ أَنْ تُرَتِّبَ فَوْضَى الْقَلْبِ:
“مَا ظَنَنْتُهُ وَدَاعاً، تَحَوَّلَ إِلَى حَيَاةٍ تُعِيدُ تَرْتِيبَ أَيَّامِي.”
وَضَعَ الْكُوبَ عَلَى الطَّاوِلَةِ، نَظَرَ إِلَى أَصْدِقَائِهِ بِعَيْنَيْنِ تَقْطُرَانِ حَنِيناً، وَقَالَ:
“شُكْراً لَكُمْ… أَنْتُمْ الْآنَ مِرْآةٌ لِمَنْ رَحَلَتْ… فَلَا تَدَعُوا نُورَهَا يَنْطَفِئُ.”
حَلَّ الصَّمْتُ دَافِئَاً، مُمتَدَّاً، كَوَقْعِ الْأَحْذِيَةِ الْقَدِيمَةِ عَلَى خَشَبِ الطَّاحُونَةِ.
أَمَّا فِي الْخَارِجِ، فَكَانَتِ الْأَوْرَاقُ تَتَرَاقَصُ فِي الْمَمَرَّاتِ، كَأَنَّهَا رَسَائِلُ مِنْ يَدٍ رَحَلَتْ إِلَى أَيدٍ مَا زَالَتْ تَكْتُبُ.
Leave a Reply